جامع البيان
إبن جرير الطبري ج 1
[ 1 ]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه قدم له الشيخ خليل الميس ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار الجزء الاول دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
[ 2 ]
جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر 1415 ه / 1995 م
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر هذا التفسير من أجل التفاسير بالمأثور وأعظمها قدرا على ما ذكر فيه وما روي في التفسير عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن أصحابه والتابعين وتابعيهم وقد جمع ابن جرير في تفسيره هذا بين الرواية والدراية. وهو إذ يتبع طريقة الاسناد في سلاسل الروايات لا ينقد هذه الروايات ويبدو أن ابن جرير من المؤلفين والمصنفين الذين يرون أن ذكر السند يخلي المؤلف من التبعة المؤاخذة وقد جاء تفسيره موسوعة في علوم اللغة وأساليب استعمالها واستخدام الاعراب لتبيان حقيقة المراد، وتوضيح وكشف للبيان القرآني فيما يحمله من الصور البلاغية والكنايات، واستشهاد بالشعر والتاريخ وعرض لوجوه القراءات وترجيح الاوجه منها، ثم مناقشة الآراء الفقهية واستنباط الاحكام مما يجعل هذا التفسير ثروة موسوعية في التراث الاسلامي يندر منها ودار الفكر تقدم هذا التفسير الموسوعة من التراث الاسلامي في حلة عصرية راعينا فيها ما يلي: 1 - إثبات الآيات القرآنية من المصحف الشريف. 2 - عزو الآيات الشواهد. 3 - تشكيل الاحاديث المستدل بها. 4 - تخريج الاحاديث الشواهد على الكتب الستة ومسند الامام أحمد وموطأ الامام مالك وترقيم هذه الاحاديث أرقاما مسلسلة. 5 - أعداد فهارس فنية للكتاب شملت كل ما يساعد الفقيه والباحث والدارس للوصول إلى مبتغاه من كنوز هذا الكتاب بيسر وسهولة ومنها: أ - فهرس الموضوعات في كل جزء من أجزاء الكتاب مع العناوين البارزة. ب - فهرس الموضوعات الفقهية وفهرس لآيات الاحكام. ج - فهرس للاحاديث والاعلام، وفهرس الشعر والاماكن والقبائل والشعوب والملل والنحل. ه - فهرس النباتات والحيوانات والمعادن والفلزات والظواهر الفلكية التي وردت في الكتاب. وأخيرا نسأل الله التوفيق لاقوم الطريق. بيروت 1 محرم 1416 ه - 30 أيار (مايو) 1995 صدقي العطار عفر الله له
[ 4 ]
بسم الله الرحمن الرحيم ابن جرير الطبري وتفسيره جامع البيان عن تأويل آي القرآن مولده وحياته: هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، وقيل: يزيد بن كثير بن غالب: مؤرخ، مفسر، محدث، مقرئ، فقيه، أصولي، من أكابر الائمة المجتهدين. ولد في آمل عاصمة أقليم طبرستان فنسب إليها، وطبرستان تقع جنوبي بحر قزوين في أواخر سنة 224 أو أول سنة 225 ه. ذكر أحمد بن كامل الشجري (1) أنه سأل الطبري: كيف وقع الشك في ذلك ؟ فقال: لان أهل بلدنا يؤرخون بالاحداث دون السنين، فأرخ مولدي بحدث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث، فاختلف المخبرون لي فقال بعضهم: كان ذلك في آخر سنة أربع، وقال آخرون: بل كان في أول سنة خمس وعشرين ومائتين. تباشير علمه وفضله: حفظ القرآن وكتب الحديث وهو صغير. وروى الشجري عنه أنه حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع سنين. وقال: رأى لي أبي في النوم أني بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة، وأنا أرمي بين يديه فقال له المعبر: إنه إن كبر نصح في دينه وذب عن شريعته، فحوص أبي على معونتي في طلب العلم، وأنا حينئذ صبي صغير. رحلاته العلمية: أول ما كتب ابن جرير الحديث بآمل، ثم رحل إلى " الري " (2) وما جاورها، فأخذ عن (1) قاض، كان عالما بالاحكام والقرآن والادب والتاريخ، ولي قضاء الكوفة، وهو من أهل بغداد. توفي سنة 350 ه. (2) مدينة قديمة في شمال إيران. فيها ولد هارون الرشيد. (*)
[ 5 ]
محمد بن حميد الرازي (1) واختص به وأخذ مغازي ابن إسحاق عن سلمة بن المفضل وعليه بنى تاريخه، وكتب عن أحمد بن حماد الدولابي (2) كتاب " المبتدأ ". قال أبو جعفر: " كنا نكتب عن محمد بن حميد الرازي، فيخرج إلينا في الليل مرات ويسألنا عما كتبناه ويقرؤه علينا، وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي، وكان في قرية من قرى الري، بينها وبين الري قطعة، ثم نعود كالمجانين حتى نصير إلى محمد بن حميد، فنلحق مجلسه. ثم رحل إلى بغداد، وكان في نفسه ان يسمع من الامام أحمد بن حنبل، ولكنه لم يكد يصل إليها، حتى علم بوفاته (سنة 241 ه) قبل دخوله بقليل، فأقام بها مدة، وكتب عن شيوخها، ثم انتقل إلى البصرة، فسمع من كان بقي من شيوخها في وقته، كأبي بكر محمد بن بشار المعروف ببندار (3) ومحمد بن عبد الاعلى الصنعاني وبشر بن معاذ وغيرهم. ثم رحل إلى الكوفة فكتب فيها عن إسماعيل بن موسى الفزاري (4) وهناد بن السري الدارمي الكوفي (5)، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمذاني (6) وأخذ عن سليمان بن خلاد السامري (7) القراءات. وكان أبو كريب شرس الخلق، ومحدث البصرة في عصره، قال أبو جعفر الطبري: " حضرت باب داره مع أصحاب الحديث، فاطلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الحديث ويضجون، فقال: أيكم يحفظ ما كتب عني ؟ فالتفت بعضهم إلى بعض، ثم نظروا إلي وقالوا: أنت تحفظ ما كتبت عنه ؟ فقلت: نعم ! فقالوا: هذا، فسله، فقلت: حدثتنا يوم كذا بكذا، وفي يوم كذا بكذا ". قال الشجري: وأخذ أبو كريب في مسألته إلى أن عظم في نفسه، فقال له: ادخل إلي، فدخل إليه، وعرف قدره على حداثته، ومكنه من حديثه، وكان الناس يسمعون منه، فيقال: إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث ". (1) حافظ للحديث، أخذ عنه كثير من الائمة كابن حنبل وابن ماجة والترمذي، وكذبه آخرون. (2) من الرواة، ذكره الطبري في تاريخه في أخبار السنة 11 ه. (3) من حفاظ الحديث الثقات، توفي سنة 252 ه. (4) محدث، خر له أبو داود والترمذي، توفي سنة 245 ه. (5) حافظ للحديث، روى أصحاب الكتب الستة إلا البخاري. توفي سنة 243 ه. (6) محدث ثقة توفي سنة 248 ه. (7) نحوي، مقرئ، مات سنة 261 ه. (*)
[ 6 ]
ثم عاد الطبري إلى بغداد ودرس بها فقه الشافعي وعلوم القرآن. ومنها رحل إلى مصر سنة 253 ه، فلم تطل إقامته فيها، وعاد إلى الشام، ثم دخل مصر سنة 256 ه، وأخذ في الرحلتين عن جماعة من شيوخها منهم، يونس بن عبد الاعلى (1) والربيع بن سليمان (2) وإسماعيل بن يحيى المزني (3) وغيرهم. واتفق أن جمعت الرحلة إلى مصر بين محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (4) ومحمد بن نصر المروزي (5) ومحمد بن هارون الروياني (6)، قال الخطيب البغدادي: " فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه سأل لاصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لاصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة. واندفع في الصلاة فإذا هم بالشموع، وخصي من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا، فنزل عن دابته، وقال: أيكم محمد بن نصر ؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير ؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون ؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة ؟ فقالوا: هو ذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه الصرة وفيها خمسون دينارا، ثم قال: إن الامير كان قائلا بالامس، فرأى في المنام خيالا، قال: إن المحامد طووا كشحهم جياعا، فأنفذ إليكم هذه الصرار، وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إلي أمدكم ". وعاد أبو جعفر إلى بغداد بعد رحلة طويلة، ومنها توجه إلى طبرستان، ثم رجع إلى بغداد وانقطع للدرس والتأليف إلى أن مات يوم السبت بالعشي، ودفن يوم الاحد بالغداة، في داره لاربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة. وقيل: توفي في المغرب من عشية (1) محدث، مقرئ، من أكابر فقهاء الشافعية، توفي سنة 264 ه. (2) كان إماما ثقة صاحب حلقة بمصر، وهو صاحب الشافعي وآخر من روى عنه بمصر. مات سنة 270 ه. (3) صاحب الامام الشافعي، وهو إمام الشافعيين، توفي سنة 264 ه. (4) عالم بالحديث، كان إمام نيسابور في عصره، مات سنة 311 ه. (5) إمام أهل الحديث في عصره وأحد أئمة الاسلام مات سنة 294 ه. (6) من حفاظ الحديث الثقات، توفي سنة 307 ه. (*)
[ 7 ]
الاحد ليومين بقيا من شوال، ودفن وقد أضحى النهار من يوم الاثنين في جوار داره برحبة يعقوب. قال الخطيب: واجتمع عليه من لا يحصيهم عددا إلا الله، وصلى على قبره عدة شهور ليلا ونهارا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والادب. مرتبته العلمية: قال مواطنه وكاتب سيرته عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطا وافر يدل عليه كلامه في الوصايا... وكان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لايعرف إلا الفقه، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب وكان عالما بالعبادات، جامعا للعلوم، إذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلا على غيرها (1). قال الخطيب البغدادي: " كان أحد الائمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه بمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا فأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المخالفين في الاحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الامم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله ". وقال أبو حامد الاسفراييني: " لو سافر رجل إلى الصين، حتى يحصل له كتاب تفسير ابن جرير، لم يكن ذلك كثيرا ". وقال أبو علي الاهوازي: " كان الطبري عالما بالفقه والحديث والتفسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها سائر المصنفين... ". وهذه الشهادة بين كثير مثلها كلها تجمع على فضله وتبريزه، والاعجاب به، وكتبه تغنيه عن شهادات الشهود وما بقي فيها يدل على أنه كان أفذاذ الموسوعيين في العالم وحسبنا من تواليفه تاريخه وتفسيره وقصة تأليفهما أدل منهما على عظمة فضله فقد أراد أن يخرج كل منهما في عشر أضعافه. (1) تاريخ بغداد ح 2 / 163. (*)
[ 8 ]
الطبري المفسر علوم ثلاثة لا يذكر الطبري إلا مقرونا بها كلها: التفسير، والتاريخ، والفقه. وكتابه: (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) كما سماه، ألفه في أواخر القرن الثالث، وذكر أنه أملاه على تلاميذه من سنة 283 - 290 ه. وقد حوى ابن جرير جميع تراث التفسير الذي تفرق قبله في كتب صغيرة منذ عصر عبد الله بن عباس - وهو أبو التفسير بالمأثور كما يلقب - وإلى النصف الاول من القرن الثالث الهجري. وروى الخطيب البغدادي أن الطبري قال لاصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن ؟ قالوا: كم يكون قدره ؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما ينفي الاعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة ؟ وكتاب التفسير هذا لم يصنف أحد مثله. قال أبو حامد الاسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا. وقال ابن خزيمة، وقد نظر في تفسير الطبري: قد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الارض أعلم من محمد بن جرير (1). مصادر: الطابع المميز لتفسير الطبري اعتماده على المأثور عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى آراء الصحابة والتابعين. ثم أضاف إلى التفسير بالمأثور ما عرف في عصره من نحو ولغة وشعر، كما رجع إلى القراءات وتخير منها، ورجح ما تخيره، استعان بكتب الفقه فعرض كثيرا من آراء الفقهاء في مناسباتها، واستعان بكتب التاريخ... فنقل عن ابن إسحاق وغيره (2). (1) التاريخ 1 / 45. (2) تاريخ بغداد ح 2 / 163. (*)
[ 9 ]
عرض بعض آراء المتكلمين وبخاصة المعتزلة... ولم يكثر لانه سلفي الصبغة تحري جهده أن تكون مصادره في التفسير موثوقا بها لذلك لم يدخل في كتابه شيئا عن الكلبي، ولا مقاتل، ولا الواقدي لانهم في نظره متهمون... منهجه: لما كان اعتماده على التفسير بالمأثور هو الطابع المميز لتفسيره لذلك: 1 - اتبع طريقة الاسناد في سلاسل الروايات، لذا كان تفسيره سجلا لما اثر من آثر من آراء، وغالبا ما يلخص الفكرة العامة... ويعقب عليها بذكر الروايات التي قد تختلف في التفصيل والايجاز. 2 - وتجنب التفسير بالرأي: وعقد فصلا في كتابه، ذكر فيه بعض الاخبار التي رويت بالنهي عن القول بالتفسير بالرأي، والتزم هذا الاسلوب في كتابه... حيث أنحى باللائمة على القول بالرأي ومما يزيد ذلك ما جاء في تفسيره: فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يدرك علمه إلا ببيان من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي جعل إليه بيانه، قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله ما أراد الله به من معناه، لان القائل فيه بغير علم، قائل على الله ما لا علم له (1) 3 - دقة الاسناد: كان رحمه الله أمينا دقيقا في ذكر السند وفي تسجيل اسماء الرواة، لانه اتصل بكثير من العلماء وسمع منهم، فإذا كان قد سمع هو وغيره قال: حدثنا... وإذا كان قد سمع وحده قال: حدثني... وإذا نسي واحدا من سلسلة الرواية صرح بنسيان اسمه (2) 4 - الاستعانة بعلم اللغة: هذا وقد مكنه علمه باللغة وأساليب استعمالها أن يفضل معنى للكلمة على معنى آخر تحتمله، ومن ذلك قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) يعني بالبروج القصور... وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هي قصور في السماء، لان ذلك كلام العرب. منه (ولو كنتم في بروج مشيدة) ومنها قول الاخطل: (1) تفسير الطبري 1 / 27. (2) الطبري للدكتور الخوفي 1 / 27، من سلسلة اعلام العرب رقم 13. هكذا هو الاسم العلمي لتفسير الطبري كما سماه مؤلفه. (*)
[ 10 ]
كأنها برج رومي يشيده * بان بجص وآجر وأحجار (1) 5 - الاكثار من الاحاديث النبوية: وكان يكثر من الاحاديث النبوية، لانه درس الحديث على كبار المحدثين في عصره، وفي مقدمتهم علماء طبرستان. 6 - الاستشهاد بالشعر: وكثيرا ما اعتمد على الشعر في بيان المراد من الكلمة، تارة يذكر اسم الشاعر وأخرى يغفله مكتفيا بالشعر. 7 - تسجيل القراءات: عرض وجوه القراءات ورجح ما ارتضاه لانه كان عالما بالقراءات ومؤلفها فيها.. وله أيضا عناية بتفصيل مذاهب النحاة في كثير من المواضع ليجلو المعنى... 8 - مناقشة الآراء الفقهية: للطبري كتاب اختلاف الفقهاء... فهو فقهي دارس للمذاهب كلها، بل مجتهد صاحب مذهب اختاره لنفسه... ومن البداهة أن يعرض للآراء الفقهية ويناقشها في مناسباتها من آيات الاحكام... وينتهي في مناقشة كل منها إلى ما يستصوبه... وكان يعرض لآراء المتكلمين ويسميهم أهل الجدل ويناقشها ويصوب الرأي السلفي الذي يدين به. والادلاء برأيه بعد المناقشة سمة ظاهرة في تفسيره... فكان يرفض ويعلل لرفضه وكان يرجح ويدلل على ترجيحه... وكان يؤيد ويبرهن على تأييده. 9 - وإذا كان تفسير ابن جرير من أجل التفاسير، بالمأثور وأعظمها قدرا، فلم سمى كتابه جامع البيان عن تأويل أي القرآن ؟ ! ولم يستعمل كلمة تفسير بدل تأويل ؟ ! والجواب أن التأويل الذي يريده الطبري هو التفسير كما يتضح من خصائص تفسيره، فاللفظان التفسير والتأويل مترادفين عنده، وهما بمعنى الكشف عن ألفاظ القرآن والتوضيح لمعانيه ومراميه. فالتفسير لغة: كشف المراد عن اللفظ المشكل وأصله من الفسر، وقيل هو مقلوب: السفر، تقول: أسفر الصبح، إذا أضاء. والتأويل من الايالة، وهي السياسة، كأن المؤول للكلام، ساس الكلام، ووضع (1) التفسير 19 / 19. (*)
[ 11 ]
وقيل: التفسير أعم من التأويل. فالتفسير بيان العبارة القرآنية من مفردات وجمل بيانا كاشفا لحقيقة المعنى على حسب المتعارف عليه من أساليب العرب في كلامهم وخطابهم إما حقيقة وإما مجازا، سواء كان المعنى متبادرا بالاستعمال، كالتفسير الصراط، أو غير متبادر كتفسير (اخفهيما) في قوله: (اكاد اخفيها) بمعنى اظهرها. والتأويل اجتهاد المفسر في ترجيح المقصود من المعاني المختلفة التي يحتملها اللفظ فكأن التأويل: اخبار عن حقيقة المراد كقوله تعالى: (إن ربك لبالمرصاد)، إن تأويله التحذير من التهاون بأمر الله أو الوعيد (لمن يخالف أمر الله) بينما تفسير: (لبالمرصاد) أنه من ارصد، يقال: أرصدته أي رقبته، والمرصاد مفعال... 10 - بالجملة: فالطبري رأس المفسرين على الاطلاق، وانه جمع في تفسيره بين الرواية والدراية ولم يشاركه في ذلك أحد قبله ولا بعده (1). وإذا كان يؤخذ عليه أنه يذكر سلاسل الروايات من غير بيان وتمييز لصحيح هذه الروايات من ضعيفها فلانه على ما يظهر أنه من المؤلفين الذي يرون أن ذكر السند يخلي المؤلف من المؤاخذة والتبعة ولو لم ينص على درجة الرواية. وفاته: توفي سنة عشر وثلاث مائة وووري في قبره يوم الاحد وقت الظهر لسبع بقين من شوال رحمه الله (2) كثرة تآليفه: قال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني صاحب ابن جرير: إن قوما من تلامذة ابن جرير حسبوا له منذ بلغ الحلم إلى أن مات ثم قسموا على تلك المدة أورق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة (3). ليس غريبا على إمام جليل، مثل الامام الطبري أن يغرز انتاجه، وان تكون وفرة هذا الانتاج، على الاخص، في العلوم الاسلامية. وفيما يلي أسماء بعض مصنفاته: ومؤلفاته: كما وردت في مصادر ترجمته: 1 - آداب المناسك (ابن عساكر 8: 352). 2 - آداب النفوس (ياقوت 17: 18). (1) طبقات المفسرين 30. (2) طبقات القراء ح 2 / 108. (3) امير ما وراء النهر، وكان مقر الامارة السامانية في بخارى، ولي الحكم سنة 350 وتوفي سنة 366 ه. (*)
[ 12 ]
3 - اختلاف علماء الامصار (طبع). 4 - أحاديث غدير خم (ياقوت 18). 5 - البصير (أو التبصير) في علوم الدين. 6 - تهذيب الآثار وتفصيل الثابت من الاخبار. 7 - تاريخ الامم والملوك. 8 - الجامع في القراءات. 9 - ذيل المذيل. 10 - صريح السنة. 11 - كتاب العدد والتنزيل. 12 - كتاب الفضائل. 13 - مختصر الفرائض. المسند المجرد. 15 - لطيف القول في أحكام شرائع الاسلام. 16 - عبارة الرؤيا - لم يتمه. 17 - وهذا الكتاب الذي نقدم له جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
[ 13 ]
خطبة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه اعتمادي رب يسر. قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، في سنة ست وثلاثمائة قال: الحمد لله الذي حجبت الالباب بدائع حكمه، وخصت العقول لطائف حججه، وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه، وهتف في أسماع العالمين ألسن أداته، شاهدة أنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا عدل (1) له معادل، ولا مثل له مماثل، ولا شريك له مظاهر، ولا ولد له ولا والد، ولم يكن له صاحبة ولا كفوا أحد. وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة، والعزيز الذي ذلت لعرته الملوك الاعزة، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة، طوعا وكرها، كما قال الله عز وجل: (ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) (2). فكل موجود إلى وحدانيته داع، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد، بما وسمهم به من آثار الصنعة، من نقص وزيادة، وعجز وحاجة، وتصرف في عاهات عارضة، ومقارنة أحداث لازمة، لتكون له الحجة البالغة. ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته، برسل ابتعثهم إلى من يشاء من عباده، دعاة إلى ما اتضحت لديهم صحته، وثبتت في العقول حجته (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (3) ليذكر أولو النهى والحلم، فأمدهم بعونه، وأبانهم من سائر خلقه، بما دل به على صدقهم من الادلة، وأيدهم به من الحجج البالغة، والآي المعجزة، لئلا يقول القائل فيهم (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) (4). (1) العدل (بكسر العين وفتحها وسكون الدال): النظير والمثيل. (2) سورة الرعد، الآية: 15. (3) سورة النساء، الآية: 165. (4) سورة المؤمنون، الآيتان: 33 و 34. (*)
[ 14 ]
فجعلهم سفراء بينه وبين خلقه، وأمناء على وحيه، واختصهم بفضله، واصطفاهم برسالته. ثم جلعهم فيما خصهم به من مواهبه، ومن به عليهم من كراماتة، مراتب مختلفة، ومنازل مفترقة، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، متفاضلات متباينات، فكرم بعضهم بالتكليم (1) والنجوى، وأيد بعضهم بروح القدس، وخصه بإحياء الموتى، وإبراء أولي العاهة والعمى (2). وفضل نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) من الدرجات بالعليا، ومن المراتب بالعظمى، فحباه من أقسام (3) كرامته بالقسم الافضل، وخصة من درجات النبوة بالحظ الاجزل، ومن الاتباع والاصحاب بالنصيب الافر. وابتعثه بالدعوة التامة، والرسالة العامة، وحاطه وحيدا، وعصمه فريدا، من كل جبار عاند (4)، وكل شيطان مارد (5)، حتى أظهر به الدين، وأوضح به السبيل، وأنهج به معالم الحق، ومحق به منار الشرك، وزهق به الباطل، واضمحل به الضلال وخدع الشيطان، وعبادة الاصنام، والاثان. مؤيدا بدلالة على الايام باقية، وعلى الدهور والازمان ثابتة، وعلى ممر الشهور والسنين دائمة، ويزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقا، وعلى مر الليالي والايام ائتلاقا، تخصيصا من الله له بها، دون سائر رسله، الذين قهرتهم الجبابرة، واستذلتهم (8) الامم الفاجرة، فعفت بعدهم منهم الآثار، وأخملت ذكرهم الليالي والايام، ودون من كان منهم مرسلا إلى أمة دون أمة، وخاصة دون عامة، وجماعة دون كافة. فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه، وشرفنا باتباعه، وجعلنا من أهل الاقرار والايمان به وبما دعا إليه وجاء به، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أزكى صلواته، وأفضل سلامه، وأتم تحياته. أما بعد، فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) من الفضيلة، وشرفهم به (1) يعني كليم الله موسى عليه السلام. (2) يعني المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام. (3) الاقسام: جمع قسم، وهو الحظ والنصيب من الخير. (4) الجبار العنيد والعاند: الجائر والمائل عن طريق الحق المجاوز حده. (5) المارد: الذي مرن على الشر حتى بلغ الغاية. (6) في نسخة وأبهج بدل وأنهج. (7) في نسخة قهر بهم بدل قهرتم. (8) في نسخة استذل بهم بدل استذلهم. (*)
[ 15 ]
على سائر الامم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظه ما حفظ جل ذكره وتقدست أسماؤه عليهم من وحيه وتنزيله، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم (صلى الله عليه وسلم) دلالة، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة وحجة بالغة، أبانه به من كل كاذب ومفتر، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك، الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها، من جنها وإنسها، وصغيرها وكبيرها، على أن يأتوا بسورة من مثله، لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (1). فجعله لهم في دجى الظلم نورا ساطعا، وفي سدف (2) الشبه شهابا لامعا، وفي معضلة المسالك دليلا هاديا، وإلى سبل النجاة والحق حاديا (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) (3). حرسه بعين منه لا تنام، وحاطه بركن منه لا يضام، لاتهي (4) على الايام دعائمه، ولا تبيد على طول الازمان معالمه، ولا يجور عن قصد المحجة (5) تابعة، ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه. من اتبعه فاز وهدى، ومن حاد عنه ضل وغوى. فهو موئلهم الذي عند الاختلاف يئلون (6)، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعتقلون (7)، وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون، وعن الرضا به يصدرون، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون. اللهم فوفقنا لاصابة صواب القول، في محكمه ومتشابهه، وحلاله وحرامه، وعامه وخاصه، ومجمله ومفسره، وناسخه ومنسوخه، وظاهره وباطنه، وتأويل آيه، وتفسير مشكله. وألهمنا التمسك به، والاعتصام بمحكمه، والثبات على التسليم لمتشابهه، وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا، من حفظه والعلم بحدوده، إنك سميع الدعاء، قريب الاجابة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليما كثيرا. (1) تضمين لمعنى لما ورد في سورة البقرة الآية 23، ويونس الآية 38، والاسراء الآية 88. (2) السدف: الظلمة. (3) سورة المائدة، الآية: 16. (4) يقال: وهى الحائط وغيره يهي وهيا ووهيا: تشقق وهم بالسقوط (المعجم الوسيط 1016). (5) المحجة: الطريق. (6) وأل يئل وألا ووؤولا: لجأ طلبا للنجاة. الموئل: الملجأ والمنجى. (7) لم أجد هذا الاشتقاق " يعتقلون ". ولعلها تصحيف: " يعقلون " من عقل إليه عقلا وعقولا: لجأ إليه وامتنع به. (*)
[ 16 ]
اعلموا عباد الله، رحمكم الله، أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضا، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وأن أجمع ذلك لباغيه، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ونحن - في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه - منشؤون - إن شاء الله ذلك - كتابا مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيا، ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة، فيما اتفقت عليه الامة، واختلافها فيما اختلفت فيه منه، مبينو (1) علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الايجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه. والله نسأل عونه وتوفيقه، لما يقرب من محابه، ويبعد من مساخطه، وصلى الله على صفوته من خلقه، وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا. وإن أول ما نبدأ به من القيل في ذلك، الابانة عن الاسباب التي البداية بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحرى، وذلك البيان عما في آي القرآن من المعاني، التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الالسن السليقية الطبيعية. القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن ومعاني منطق من نزل بلسانه من وجه البيان. والدلالة على أن ذلك من الله عز وجل وهو الحكمة البالغة، مع الابانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله: إن من عظيم نعم الله عباده، وجسيم مننه على خلقه، ما منحهم من فضل البيان، الذي به عن ضمائر صدروهم يبينون، وبه على عزائم نفوسهم يدلون، فذلل (2) به منهم (1) في نسخة ومثبتو بدل ومبينو. (2) ذلل الشئ: لينه وسهله. (*)
[ 17 ]
الالسن، وسهل به عليهم المستصعب. فيه إياه يوحدون، وإياه به يسبحون ويقدسون، وإلى حاجاتهم به يتوصلون، وبه بينهم يتحاورون، فيتعارفون ويتعاملون. ثم جعلهم - جل ذكره - فيما منحهم نم ذلك طبقات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فبين خطيب مسهب، وذلق اللسان مهذب (1)، ومفحم عن نفسه لا يبين، وعي عن ضمير قلبه لا يعبر، وجعل أعلاهم فيه رتبة، وأرفعهم فيه درجة، أبلغهم فيما أراد به بلاغا، وأبينهم عن نفسه به بيانا. ثم عرفهم في تنزيله ومحكم آي كتابه فضل ما حباهم به من البيان، على من فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم (2) اللسان، فقال تعالى ذكره: (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) (3). فقد وضح إذا لذوي الافهام، وتبين لاولي الالباب، أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته، فإذا كن ذلك كذلك، وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك، فصار به فاضلا والآخر مفضولا، وهو ما وصفناه به من فضل إبانة ذي البيان عما قصر عنه المستعجم اللسان، وكان ذلك مختلف الاقدار، متفاوت الغايات والنهايات، ولا شك أن أعلى منازل البيان درجة، وأسنى مراتبه مرتبة، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه. فإن تجاوز ذلك المقدار، ارتفع عن وسع الانام، وعجز عن يأتي بمثله جميع العباد، وكان حجة وعلما لرسل الواحد القهار، وكما كان حجة وعلما لها إحياء الموتى وإبراء الابرص وذوي العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير (4) أعلى منازل طب المتطببين، وأرف مراتب علاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين. وكالذي كان لها حجة وعلما قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة، بارتفاع ذلك عن وسع الانام، وتعذر مثله على جميع العباد، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين، ولليسير منه فاعلين. (1) الاسهاب: الاكثار في الكلام. وقوله " مهذب ": من أهذب الطائر في طيرانه والفرس في عدوه والمتكلم في كلامه: أسرع وتابع. (2) المستعجم والاعجم: الذي لا يقدر على الكلام. (3) سورة الزخرف، الآية: 18 (4) المقادير: جمع مقدار، وهو القوة. (*)
[ 18 ]
فإذا كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا، فبين أن لا بيان أبين، ولا حكمة أبلغ، ولا منطق أعلى، ولا كلام أشرف من بيان ومنطق تحدى به امرؤ قوما في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة وقيل الشعر والفصاحة والسجع والكهانة (على) (1) كل خطيب منهم وبليغ وشاعر منهم وفصيح وكل ذي سجع وكهانة فسفه أحلامهم وقصر معقولهم (2) وتبرأ من دينهم ودعا إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به والاقرار بأنه رسول إليهم من ربهم. وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته وحجته على معانيه معاني منطقهم. ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة ومن القدرة عليه نقصة. فأقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق وشهدوا على أنفسهم بالنقص إلا من تجاهل منهم وتعامى واستكبر وتعاشى فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر. فأبدى من ضعف عقله ما كان مستورا ومن عي لسانه ما كان مصونا فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الاخرق والجاهل الاحمق فقال: " والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا فاخابزات خبزا والثاردات ثردا واللاقمات لقما ! ! " (3) ونحو ذلك من الحماقات الشبهة دعواه الكاذبة. فإن كان ذلك كذلك وكان غير مبين منا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب كان معلوما أنه غير جائز أن يخاطب - جل ذكره - أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه لان المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجئ الرسالة إليه وبعده سواء إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا. والله - جل ذكره - يتعالى عن أن يخاطب خطابا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن (1) ما بين مربعين زيادة لايضاح المراد ليستقيم المعنى. (2) في نسخة: بعقولهم. ومعقولهم مصدر بمعنى عقل. (3) ينسب إلى مسيلمة الكذاب. وذكر ذلك الطبري وغيره في تواريخهم. (*)
[ 19 ]
خوطب أو أرسلت إليه لان ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث والله تعالى عن ذلك متعال لذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) (1) وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (2). فغير جائز أن يكون به مهتديا من كان بها يهدي إليه جاهلا. فقد تبين إذا بما عليه دللنا من الدلالة أن يكون رسول الله جل ثناؤه أرسله إلى قوم فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه وكل كتاب أنزله على نبي ورسالة أرسلها إلى أمة فإنمام أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه. واتضح بما قلنا ووصفنا أن كتاب الله الذي أنزله إلى نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) بلسان محمد (صلى الله عليه وسلم). وإذ كان لسان محمد (صلى الله عليه وسلم) عربيا فبين أن القرآن عربي وبذلك أيضا نطق محكم تنزيل ربنا فقال جل ذكره: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) (3) وقال: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (4). وإذا كانت واضحة صحة ما قلنا بما عليه استشهدنا من الشواهد ودللنا عليه من الدلائل فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) لمعاني كلام العرب موافقة وظاهره لظاهر كلامها ملائما وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان بما قد تقدم وصفنا. فإذا كان ذلك كذلك فبين - إذ كان موجودا في كلام العرب والايجاز والاختصار والاجتزاء بالاختفاء من الاظهار وبالقلة من الاكثار في بعض الاحوال واستعمال الاطالة والاكثار والترداد والتكرار وإظهار المعاني بالاسماء دون الكناية عنها والاسرار في بعض الاوقات والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر وعن العدم في المراد بالخاص الظاهر وعن الكناية والمراد منه المصرح وعن الصفة والمراد الموصوف وعن الموصوف والمراد الصفة وتقديم ما هو في المعنى مؤخر وتأخير ما هو في المعنى مقدم والاكتفاء ببعض من بعض وبما يظهر عما يحذف وإظهار ما حظه الحذف - أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) من ذلك في كل ذلك له نظيرا وله مثلا وشبيها ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه إن شاء الله (1) سورة إبراهيم، الآية: 4 (2) سورة النحل، الآية: 64. (3) سورة يوسف، الآية: 2. (4) سورة الشعراء، الآيات: 192 - 195. (*)
[ 20 ]
القول في بيان عن الاحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الامم قال أبو جعفر: إن سألنا سائل فقال: إنك ذكرت أنه غير جائز أن يخاطب الله أحدا من خلقه إلا بما يفهمه وأن يرسل إليه رساله إلا بللسان الذي يفقهه فما أنت قائل فيما: 1 - حدثكم به محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا حكام بن سلم قال: حدثنا عنبسة عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن أبي موسى: (يؤتكم كفلين من رحمته) (1) قال: الكفلان: الضعفان من الاجر بلسان الحبشة. وفيما: 2 - حدثكم به ابن حميد قال: حكام عن عنبسة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (إن ناشئة الليل) (2) قال: بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا: نشأ. وفيما: 3 - حدثكم به ابن حميد قال: حدثنا حكام قال: حدثنا عنبسة عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة: (يا جبال أوبي معه) (3) قال: سبحي بلسان الحبشة. قال أبو جعفر: وكل ما قلنا في هذا الكتاب " حدثكم " فقد حدثونا به وفيما: 4 - حدثكم به محمد بن خالد بن خداش الازدي قال: حدثنا سلم بن قتادة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله: (فرت من فسورة). (4) قال: هو بالعربية: الاسد وبالفارسية: شار وبالنبطية: أريا وبالحبشية: قسورة. وفيما: 5 - حدثكم به ابن حميد، قال حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا ! فأنزل الله تعالى وذكره: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا قالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) (5) فانزل الله بعد هذه في القران بكل لسان فيه: (حجارة من (1) سورة الحديد، الآية: 28. (2) سورة المزمل، الآية: (3) سورة سبأ، الآية: 10 (4) سروة المدثر الآية: 51 (5) سورة فصلت آية: 44 (*)
[ 21 ]
سجيل) (1) قال: فارسية أعربت " سنك وكل ". وفيما: 6 - حدثكم به محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: في القرآن من كل لسان. وفيما أشبه ذلك من الاخبار التي يطول بذكرها الكتاب مما يدل على أن فيه من غير لسان ؟ ؟ قيل له: إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا من أجل أنهم لم يقولوا هذه الاحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاما، ولا كان ذاك لها منطقا قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجئ الفرقان فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا (2). وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا وحرف كذا بلسان العجم معنا كذا ولم يستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الامم الختلفة الالسن بمعنى واحد فكيف بجنسين منها. كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الالسن المختلفة وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس وغير ذلك مما يتعب إحصاؤه ويمل تعداده كرهنا إطالة الكتاب بذكره مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى. ولعل ذلك كذلك في سائر الالسن التي يجهل منطقها ولا يعرف كلامها. فلو أن قائلا قال فيما ذكرنا من الاشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية وما أشبه ذلك مما سكتنا عن ذكره ذلك كله فارسي لا عربي أو ذلك كله عربي لا فارسي أو قال: بعضه عربي وبعضه فارسي أو قال: كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به أو قال: كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته كان مستجهلا (3) لان العرب ليست بأولى أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم ولا العجم بأحق أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب إذ كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا في الجنسين وإن كان ذلك موجودا على ما وصفنا في الجنسين فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس الآخر والمدعي أن مخرج أصل ذلك إنما كان من أحد الجنسين إلى الآخر مدع أمر لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم ويزيل الشك ويقطع العذر صحته. (1) سورة هود، الآية: 82، وسورة الحجر، الآية: 74. (2) أي مخالفا. (3) قوله: " كان مستجهلا " جواب قوله: " فلو أن قائلا قال... الخ ". (*)
[ 22 ]
بل الصواب في ذلك عندنا أن يسمى عربيا أعجميا أو حبشيا عربيا إذ كانت الامتان له مستعملتين في بيانها ومنطقها وبيانها فليس غير ذلك من كلام كل أمة منهما بأولى أن يكون إليها منسوبا منه. فكذلك سبيل كل كلمة واسم اتفقت ألفاظ أجناس أمم فيها معناها، ووجد ذلك مستعملا في كل جنس منها استعمال سائر منطقهم، فسبيل إضافته إلى كل جنس منها سبيل ما وصفناه من الدرهم والدينار والدواة والقلم، التي اتفقت ألسن الفرس والعرب فيها بالالفاظ الواحدة والمعنى الواحد في أنه مستحق إضافته إلى كل جنس من تلك الاجناس باجتماع وافتراق. وذلك هو معنى من روينا عنه القول في الاحرف التي مضت في صدر هذا الباب من نسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الحبشه ونسبة بعضهم ذلك إلى لسان الفرس، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الروم، لان من نسب شيئا من ذلك إلى ما نسبه إليهم لم ينف بنسبته إياه ما نسبه إليه أن يكون عربيا، ولا من قال منهم هو عربي نفى ذلك أن يكون مستحقا النسبة إلى من هو من كلامه من سائر أجناس الامم غيرها. وإنما يكون الاثبات دليلا على النفي فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني كقول القائل: فلان قائم فيكون بذلك من قوله دالا على أنه غير قاعد ونحو ذلك مما يمتنع اجتماعه لتنافيهما. فأما ما جاز اجتماعه فهو خارج من هذا المعنى وذلك كقول القائل: فلان قائم مكلم فلانا، فليس في تثبيت القيام له مادل على نفي كلام آخر لجواز اجتماع ذلك في حال واحد من شخص واحد فقائل ذلك صادق إذا كان صاحبه على ما وصفه به. فكذلك ما قلنا - في الاحرف التي ذكرنا وما أشبهها - غير مستحيل أن يكون عربيا بعضها أعجميا وحبشيا بعضها عربيا إذ كان موجودا استعمال ذلك في كلتا الامتين فناسب ما نسب من ذلك إلى إحدى الامتين أو كلتيهما محق غير مبطل. فإن ظن ذو غباء أن اجتماع ذلك في كلام مستحيل كما هو مستحيل في أنساب بني آدم فقد ظن جهلا وذلك أن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين دون الآخر، لقوله الله تعالى ذكره: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) (1) وليس ذلك كذلك في المنطق والبيان لان المنطق إنما هو منسوب إلى من كان به معروفا استعماله. فلو عرف استعمال بعض الكلام في أجناس من الامم - جنسين أو أكثر - بلفظ واحد، (1) سورة الاحزاب، الآية: 5. (*)
[ 23 ]
ومعنى واحد كان ذلك منسوبا إلى كل جنس من تلك الاجناس لا يستحق جنس منها أن يكون به أولى من سائر الاجناس غيره. كما لو أن أرضا بين سهل وجبل لها هواء السهل وهواء الجبل أو بين بر وبحر لها هواء البر وهواء البحر لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سهلية جبلية أو بأنها برية بحرية إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافية حقها من النسبة إلى الاخرى. ولو أفرد لها مفرد إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الاخرى كان صادقا محقا، وكذلك القول في الاحرف التي تقدم ذكرنا لها أول الباب. وهذا المعنى الذي قلنا في ذلك هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان عندنا. بمعنى - والله أعلم - أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الامم التي تنطق به نظير ما وصفنا من القول فيما مضى، وذلك أنه غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة مقر بكتاب الله، ممن قد قرأ القرآن وعرف حدود الله أن يعتقد أن بعض القرآن فارسي لا عربي وبعضه نبطي لا عربي وبعضه عربي لا فارسي وبعضه حبشي لا عربي بعد ما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنه جعله قرآنا عربيا لان ذلك إن كان كذلك فليس قول القائل القرآن حبشي أو فارسي ولا نسبة من نسبه إلى بعض ألسن الامم التي بعضه بلسانه دون العرب بأولى بالتطول من قول القائل هو عربي ولا قول القائل هو عربي بأولى بالصحة والصواب من قول ناسبه إلى بعض الاجناس التي ذكرناها إذ كان الذي بلسان غير العرب من سائر ألسن أجناس الامم فيه نظير الذي فيه من لسان العرب. وإذا كان ذلك كذلك إذا خطأ قول من زعم أن القائل من السلف: في القرآن من كل لسان إنما عنى بقيله ذلك أن فيه من البيان ما ليس بعربي ولا جائزة نسبته إلى لسان العرب ويقال لمن أبى ما قلنا ممن زعم أن الاحرف التي قدمنا ذكرها في أول الباب وما أشبهها إنما هي كلام أجناس الامم سوى العرب وقعت إلى العرب فعربته: وما برهانك على صحة ما قلت في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له ؟ فقد علمت من خالفك في ذلك فقال فيه خلاف قولك وما الفرق بينك وبين من عارضك في ذلك فقال: هذه الاحرف وما إشبهها من الاحرف غيرها أصلها عربي غير أنها وقعت إلى سائر أجناس الامم غيرها فنطقت كل أمة منها ببعض ذلك بألسنتها من الوجه الذي يجب التسليم له ؟ فلن يقول في شئ من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
[ 24 ]
فان اعتل في ذلك بأقوال السلف التي ذكرنا بعضها وما أشبهها طولب - مطالبتنا من تأول عليهم في ذلك تأويله - بالذي قد تقدم في بياننا. وقيل له: ما أنكرت أن يكون من نسب شيئا من ذلك منهم إلى من نسبه من أجناس الامم سوى العرب إنما نسبه إلى إحدى نسبتيه التي هو لها مستحق من غير نفي منه عنه النسبة الاخرى ؟ ثم يقال له: أرأيت من قال لارض سهلية جبلية هي سهلية ولم ينكر أن تكون جبلية أو قال: هي جبيلة ولم يدفع أن تكون سهلية أناف عنها أن تكون لها الصفة الاخرى بقيله ذلك ؟ فإن قال: نعم كابر عقله وإن قال: لا قيل له: فما أنكرت أن يكون قول من قال في سجيل هي فارسية وفي القسطاس هي رومية نظير ذلك ؟ وسئل الفرق بين ذلك فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب قال أبو جعفر: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه على إن الله (1) - جل ثناؤه - أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الامم وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغتها. فنقول الآن: إذا كان ذلك صحيحا في الدلالة عليه بأي ألسن العرب أنزل ؟ أبألسن جميعها أم بألسن باليان متباينو المنطق والكلام. وإن كان ذلك كذلك وكان الله - جل ذكر - قد أخبر عباده أنه جعل القرآن عربيا وأنه أنزل بلسان عربي مبين ثم كان ظاهره محتملا خصوصا وعموما لم يكن لنا السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن وهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فإذا كان ذلك كذلك وكانت الاخبار قد تظاهرت عنه (صلى الله عليه وسلم)، بما: 7 - حدثنا به خلاد بن أسلم قال: حدثنا أنس بن عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أنزل القرآن على سبعة (1) كذا في جميع الاصول: " على أن الله " والاصوب أن تكون: " بأن الله ". (*)
[ 25 ]
أحرف فالمراء في القرآن كفر - ثلاث مرات - فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه " (1). 8 - وحدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال: حدثنا أبي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف عليم حكيم غفور رحيم " (2). * - وحدثنا أبو كريب قال: حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مثله. 9 - وحدثنا محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن مغيرة عن واصل بن حيان عمن ذكره عن أبي الاحوص عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع " (4). * - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران قال: حدثنا سفيان عن إبراهيم الهجري عن أبي الاحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مثله. 10 - حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو بكر بن عياش قال: حدثنا عاصم عن زر عن عبد الله قال: اختلف رجلان في سورة فقال هذا: أقرأني النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال هذا: أقرأني النبي (صلى الله عليه وسلم). فأتي النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبر بذلك قال: فتغير وجهه وعنده رجل فقال: " اقرءوا كما علمتم " - فلا أدري أبشئ أمر أم بشئ ابتدعه من قبل نفسه - " فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم " (5). وقال: فقال م كل رجل منا وهو لا يقرأ على قراءة صاحبه. نحو هذا ومعناه. (1) رواه الامام أحمد في المسند (ج 3 حديث 799 - طبعة دار الفكر). (2) رواه الامام أحمد في المسند (ج 3 حديث 8398). (3) في نسخة جهير. (4) مطلع الحديث " أنزل القرآن على سبعة أحرف " دون الزيادة التالية له هنا، رواه البخاري في الخصومات وبدء الخلق وفضائل القرآن والاستتابة والتوحيد. ومسلم في المسافرين. وأبو داود في الوتر. والترمذي في القرآن. والنسائي في الافتتاح. ومالك في القرآن. وأحمد في مسنده في غير موضع. والحديث المذكور هنا رواه بتمامه السيوطي في الجامع الصغير (حديث رقم 2727) وعزاه للطبراني في المعجم الكبير. (5) رواه من حديث عبد الله بن عمرو: الامام أحمد في المسند (ج 2 حديث رقم 6815) ومسلم في صحيحه، = (*)
[ 26 ]
11 - حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الاعمش. وحدثني أحمد بن منيع قال: حدثنا يحيى بن سعيد الاموي عن الاعمش عن عاصم عن زر بن حبيش، قال: قال عبد الله بن مسعود: تمارينا في سورة من القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون، أوست وثلاثون آية، قال: فانطلقنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فوجدنا عليا يناجيه، قال: فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة، قال: فاحمر وجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقال: " إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم بينهم " (1). قال: ثم أسر إلى علي شيئا، فقال لنا علي: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمركم أن تقرؤوا كما علمتم. 12 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبيدالله بن موسى، عن عيسى بن قرطاس، عن زيد القصار، عن زيد بن أرقم، قال: كنا معه في المسجد فحدثنا ساعة، ثم قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد، وأقرأنيها أبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ ؟ قال: فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - قال: وعلي إلى جنبه - فقال علي: ليقرأ كل إنسان كما علم، كل حسن جميل. 13 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب. قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القارئ أخبراه أنهما سمعا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الدخان في حياة رسول الله (على الله عليه وسلم)، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكدت أساوره (2) في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلما سلم لببته (3) بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعت تقرؤها ؟ قال: أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ! فانطلقت به أقوده إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أرسله يا عمر ! اقرأ يا هشام ". فقرأ القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال = كتاب العلم، حديث رقم 2، ولفظه فيه: عن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوما، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعرف في وجهه الغضب، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب ". (1) رواية أخرى للحديث الذي سبقه. راجع الحاشية السابقة. (2) كدت أساوره: أي كدت أواثبه وأبطش به. (3) أي أخذت بمجامع ردائه في عنقه وجررته به. مأخوذا من اللبة، لانه يقبض عليها. (*)
[ 27 ]
رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " هكذا أنزلت ". ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أقرأ يا عمر ! " فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله (صلى عليه وسلم)، فقال رسول (صلى الله عليه وسلم): " هكذا أنزلت ". ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم: " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منها " (1). 14 - حدثني أحمد بن منصور، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا حرب بن أبي ثابت من بني سليم، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن جده، قال: قرأ رجل عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فغير عليه، فقال: لقد قرأت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلم يغير علي. قال: فاختصما عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: يا رسول الله: ألم تقرئني آية كذا وكذا ؟ قال: " بلى ! " قال: فوقع في صدر عمر شئ، فعرف النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك في وجهه، قال: فضرب صدره، وقال: " ابعد شيطانا " قالها ثلاثا، ثم قال: " يا عمر، إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابا، أو عذابا رحمة " (2). 15 - حدثنا عبيدالله بن محمد الفريابي، قال حدثنا عبد الله بن ميمون، قال: حدثنا عبيدالله، يعني ابن عمر (3)، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رجلا يقرأ القرآن، فسمع آية على غير ما سمع من النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأتى به عمر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: يا رسول الله، إن هذا قرأ آية كذا وكذا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف ". 16 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن علي بن أبي علي، عن زبيد (4)، عن علقمة النخعي، قال: لما خرج عبد الله بن مسعود من الكوفة، اجتمع إليه أصحابه فودعهم، ثم قال: لا تنازعوا في القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى (5) ولا يتغير لكثرة الرد، وإن شريعة الاسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شئ من الحرفين ينهى عن شئ يأمر بن الآخر، كان ذلك الاختلاف، (1) رواه البخاري في الخصومات باب 4، واستتابة المرتدن باب 9. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث رقم 270. وأبو داود في أبواب الوتر باب 22. والترمذي في القراءات باب 9. والنسائي في الافتتاح باب 37. ومالك في الموطأ، كتاب القرآن حديث رقم 5. واحمد في المسند (ج 1) حديث رقم 277، وحديث رقم 296). (2) رواه الامام أحمد في المسند (ج 5 رقم 16366). (3) هو عبيدالله بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وليس هو ابن عمر بن الخطاب. (4) في نسخة زيد. والصواب ما أثبتناه. (5) قوله: " ولا يتلاشى " قال أهل اللغة: إنه مولد من " لا شئ " كأنه اضمحل حتى صار إلى لا شئ. (*)
[ 28 ]
ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شئ من شرائع الاسلام، ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخبرنا أنا كلنا محسن، ولو أعلم أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته حتى أزداد علمه إلى علمي. ولقد قرأت من لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سبعين مرة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض، فعرض عليه مرتين. فكان إذا فرغ أقرأ عليه، فيخبرني أني محسن. فمن قرأ قرأتي فلا يدعنها رغبة عنها، ومن قرأ على شئ من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه، فإنه من جحد بآية جحد به كله (1). 17 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا رشدين بن سعد، عن عقيل بن خالد، جميعا عن ابن شهاب. قال: حدثني عبيدالله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس حدثه: أن رسول الله، (صلى الله عليه وسلم)، قال: " أقرأني جبرئيل على حرف، فراجعته، فلم أستزيده فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف " (2). قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الاحرف إنما هي في الامر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام. 18 - حدثني محمد بن عبد الله ابن أبي مخلد الواسطي، ويونس بن عبد الاعلى الصدفي، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيدالله، أخبره أبوه، أن أم أيوب أخبرته، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف، أيها قرأت أصبت " (3). 19 - حدثنا إسماعيل بن موسى السدي. قال: أنبأنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، يرفعه، قال: " أتاني ملكان فقال أحدهما: اقرأ قال: على كم ؟ قال: على حرف، قال: زده ! " حتى انتهى إلى سبعة أحرف (4). (1) رواه الامام أحمد في المسند مطولا، وفيه: " إن القرآن لا يختلف ولا يستشن ولا يتفه لكثرة الرد " (انظر المسند ج 2 حديث 3845). (2) رواه البخاري في فضائل القرآن باب 5، وبدء الخلق باب 6. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث رقو 272. والنسائي في الافتتاح باب 37. وأحمد في المسند (ج 1 حديث 2375 و 2717 و 2860). (3) رواه الامام أحمد في المسند (ج 10 حديث رقم 27513 و 27694) وفيه " أيها قرأت أجزأك " بدل " أصبت ". (4) رواه الامام أحمد مطولا من رواية سليمان بن صرد عن أبي بن كعب. وسيأتي في رواية الطبري مثل رواية أحمد في الحديث رقم 21 في الصفحة التالية. (*)
[ 29 ]
20 - حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا نافع بن يزيد، قال: حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عبيدالله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أقرني جبرئيل القرآن على حرف، فاستزدته، فزادني، ثم استزدته فزادني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف " (1). * - حدثني الربيع بن سليمان، قال حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا سفيان، عن عبيدالله بن أبي يزيد، عن أبيه، أنه سمع أم أيوب تحدث عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، فذكر نحوه، يعني نحو حديث ابن أبي مخلد. * - حدثنا الربيع، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا أبو الربيع السمان، قال: حدثني عبيدالله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن أم أيوب، أنها سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: " نزل القرآن على سبعة أحرف، فما قرأت أصبت " (2). 21 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثني يحيى بن آدم، قال: حدثني إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فلان العبدي - قال أبو جعفر: ذهب عني اسمه - عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب، قال: رحت إلى المسجد فسمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك ؟ فقال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فانطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: استقرئ هذا ! قال: فقرأ. فقال: " أحسنت ! ". قال: فقلت: قد أحسنت، قد أحسنت ! ! قال: فضرب بيده على صدري ثم قال: " اللهم أذهب عن أبي الشك ! ". قال: ففضت عرقا، وامتلا جوفي فرقا، ثم قال: " إن الملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف، وقال الآخر: زده. قال: فقلت زدني. قال: اقرأه على حرفين، حتى بلغ سبعة أحرف، فقال اقرأ على سبعة أحرف " (3). 22 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن ميمون الزعفراني، جميعا عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: ما حاك في صدري شئ منذ أسلمت إلا أني قرأت آية فقرأها رجل غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال الرجل: أقرأنيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: أقرأتني آية كذا وكذا ؟ قال: " بلى ! " قال (1) سبق تخرجيه في الحاشية رقم 2 من الصفحة السابقة. (2) الحديث مر برقم 18. انظر تخريجه هناك. (3) رواه الامام أحمد مختصرا قليلا في المسند (ج 8 حديث رقم 21210). (*)
[ 30 ]
الرجل: ألم تقرأني آية كذا وكذا ؟ قال: " بلى ! إن جبرئيل وميكائيل، عليهما السلام، أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف واحد، وقال ميكائيل: استزده. قال جبريل: اقرأ القرآن على حرفين. فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ ستة أو سبعة ". والشك من أبي كريب. وقال بشار، في حديثه: " حتى بلغ سبعة أحرف " ولم يشك فيه، " وكل شاف كاف " (1)، ولفظ الحديث لابي كريب. * - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن أبي بن كعب، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، بنحوه. وقال في حديثه: " حتى بلغ ستة أحرف، قال: اقرأه على سبعة أحرف، كل شاف كاف " (2). 23 - حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد بن سلمه، عن حميد، عن أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف " (3). 24 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا حسين بن علي، وأبو أسامة، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن أبي، قال: لقي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جبريل عند أحجار المراء (4)، فقال: " إني بعثت إلى أمة الاميين، منهم الغلام والخادم والشيخ الفاني والعجوز ". فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف (5). ولفظ الحديث لابي أسامة. 25 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد. وحدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن إسماعيل، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده، عن أبي بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل رجل آخر، فقرأ (1) رواه الامام أحمد في المسند (ج 8 حديث رقم 21150 و 21190). (2) هذا الحديث مكرر الحديث قبله، وقد أشرنا إلى تخريجه في الحاشية السابقة. (3) رواه الامام أحمد في المسند (ج 8 حديث رقم 21149) هكذا مختصرا. (4) أحجار المراء: موضع بقباء خارج المدينة. وذكر ابن الاثير في النهاية والفيروز أبادي في القاموس عن مجاهد أنها هي قباء. أما البكري في " معجم ما استعجم " فقد ذكر أنه موضع بمكة. (5) رواه الترمذي في القرآن باب 9. وأحمد في المسند (8 حديث 21262). (*)
[ 31 ]
قراءة غير قراءة صاحبه، فدخلنا جميعا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: فقلت: يا رسول الله: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقرآ، فحسن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شأنهما. فوقع في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ما غشيني، ضرب على صدري، ففضت عرقا كأنما أنظر إلى الله فرقا، فقال لي: " يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هون على أمتي ! فرد علي في الثانية أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هون على أمتي ! فرد علي في الثالثة: أن اقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لامتي الله أغفر لامتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق كلهم، حتى إبراهيم " (1). إلا أن ابن بيان قال في حديثه 7 فقال لهم النبي، (صلى الله عليه وسلم): " قد أصبتم وأحسنتم " وقال أيضا: " فارفضضت (2) عرقا ". 26 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، نحوه، وقال: " قال لي: أعيذك بالله من الشك والتكذيب "، وقال أيضا: " إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف، فقلت: اللهم رب خفف عن أمتي ! قال: اقرأه على حرفين، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف، من سبعة أبواب من الجنة كلها شاف كاف " (3). 27 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى - (و) وعن ابن أبي ليلى عن الحكم - عن ابن أبي ليلى، عن أبي، قال: دخلت المسجد، فصليت فقرأت النحل، ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي، ثم دخل رجل آخر فقرأ بخلاف قراءتنا، فدخل في نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية، فأخذت بأيديهما، فأتيت بهما النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: يا رسول الله، استقرئ هذين ! فقرأ أحدهما: فقال " أصبت "، ثم استقرأ الآخر، فقال: " أصبت " ! فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب، فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، صدري، وقال: " أعاذك الله من الشك، وأخسأ عنك الشيطان " قال إسماعيل: ففضت عرقا ولم يقله (1) رواه مسلم في صلاة المسافرين حديث رقم 273. وأحمد في المسند (ج 8 حديث 21229 و 21237). (2) ارفضاض العرق: تتابع سيلانه. (3) هذا مكرر الحديث الذي سبقه مع اختلاف في اللفظ. (*)
[ 32 ]
ابن أبي ليلى. قال: فقال: " أتاني جبريل، فقال: اقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: إن أمتي لا تستطيع ذلك، حتى قال سبع مرات، فقال لي: اقرأ على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألة (1)، قال: فاحتاج إلي فيها الخلائق، حتى إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) ". * - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الله، عن ابن أبي ليلى (2)، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، بنحوه. 28 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن جحادة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: أتى جبريل النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو عند أضاة بني غفار، فقال: إن الله تبارك وتعالى، يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منها حرفا فهو كما قرأ (3). 29 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أضاة بني غفار، قال: فأتاه جبريل، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. قال: " أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك ". قال: ثم أتاه ثانية: فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، قال: " أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك ". ثم جاءه الثالثة، فقال: إن يأمرك أن تقرئ أمتك على ثلاثة أحرف. قال: " أسأل الله معافاته ومغفرته، إن أمتي لا تطيق ذلك ". ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا (4). * - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، قال: أتى حبيريل النبي (صلى الله عليه وسلم) عند أضاة بني غفار، فذكر نحوه. * - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا موسى بن داود، قال: حدثنا شعبة، وحدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، بنحوه. (1) هكذا بالاصل، ولعل هنا سقطا يعلم من الرواية السابقة. (2) هكذا في الاصول، ويظهر أنه قد سقط من السند راويان أو ثلاثة. (3) هذا الحديث مختصر، وسيرويه الطبري في الحديث التالي مطولا. (4) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث 274. وأحمد في المسند (ج 8 حديث 21230). (*)
[ 33 ]
30 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن عبيدالله بن عمر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، أنه قال: سمعت رجلا يقرأ في سورة النحل قراءة تخالف قراءتي، ثم سمعت آخر يقرؤها قراءة تخالف ذلك، فانطلقت بهما إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل، فسألتهما من أقرأهما ؟ فقالا: رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقلت: لاذهبن بكما إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إذا خالفتما ما أقرأني رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لاحدهما: " أقرأ "، فقرأ، فقال: " أحسنت ! "، ثم قال للآخر: " اقرأ ! " فقرأ، فقال: " أحسنت " قال أبي: فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان، حتى احمر وجهي، فعرف ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في وجهي، فضرب بيده في صدري، ثم قال: " اللهم أخسئ الشيطان عنه ! أتاني آت من ربي، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب، خفف عني ! ثم أتاني الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي ! ثم أتاني الثالثة، فقال مثل ذلك، وقلت مثله. ثم أتاني الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف ولك بكل ردة مسألة، فقلت: يا رب اغفر لامتي، يا رب اغفر لامتي، واختبأت الثالثة شفاعتي لامتي يوم القيامة ". 31 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى الصنعاني، قال: حدثنا، المعتمر بن سليمان، قال سمعت عبيدالله بن عمر، عن سيار أبي الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، ذكر: أن رجلين اختصما في آية من القرآن، وكل يزعم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أقرأه، فتقارآ إلى أبي، فخالفهما أبي، فتقارءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: يا نبي الله، اختلفا في آية من القرآن وكلنا يزعم أنك أقرأته. فقال لاحدهما: " أقرأ ! ". قال: فقرأ. فقال: " أصبت ! ". وقال للآخر: " أقرأ ! ". فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه. فقال: " أصبت ! ". وقال لابي " أقرأ ! ". فقرأ فخالفهما، فقال: " أصبت ! ". قال أبي فخدلني من الشك في أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما دخل في من أمر الجاهلية قال: فعرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: " استعذ بالله من الشيطان الرجيم ". قال: ففضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله فرقا، وقال: " إنه أتاني آت من ربي، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي ". قال: " ثم جاء، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي ". قال: " ثم جاء الثالثة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت رب خفف عن أمتي ". قال: " ثم جائني الرابعة، فقال:
[ 34 ]
إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة ". قال: " قلت: رب اغفر لامتي، رب اغفر لامتي، واختبأت الثالثة شفاعة لامتي، حتى إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) خليل الرحمن ليرغب فيها ". 32 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن حماد بن سملة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " قال جبريل: اقرءوا القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، كقولك هلم وتعال " (1). 33 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، عن بشر بن سعيد، أن أبا جهم (2) الانصاري، أخبره: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقال اللآخر: تلقيتها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسالا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فان المراء فيه كفر " (3). 34 - حدثنا يونس قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار (4)، قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ". 35 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن أبي عيسى بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن جده عبد الله بن مسعود، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف، كل كاف شاف " (5). 36 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا أبو خلدة، (1) رواه الامام أحمد في المسند (ج 7 حديث 20447) بشئ من الاختصار. ورواه أيضا (ج 7 حديث 20537) بنحوه وفيه زيادة: " نحو قولك تعال وأقبل وهلم واذهب وأسرع وأعجل ". (2) صوابه أبو جهيم الانصاري، وهو أبو جهيم بن الحارث بن الصمة رضي الله عنه، كما ذكره أحمد في المسند. (3) رواه الامام أحمد في المسند (ج 6 حديث 17550). (4) عمرو بن دينار تابعي، فهذا الحديث مرسل. (5) وردت أسماء هذا الحديث في " م " على هذا النحو: وحدثني يونس قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن أبي عيسى، عن عبد الله بن مسعود. (*)
[ 35 ]
قال: حدثني أبو العالية (1)، قال: قرأ على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، من كل خمس رجل، فاختلفوا في اللغة فرضي قراءتهم كلهم، فكان بنو تميم أعرب القوم. 37 - عمرو بن عثمان العثماني، قال حدثنا ابن أبي أويس، قال حدثنا أخي، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة ". 38 - حدثنا محمد بن مرزوق (2) قال: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، قال: حدثنا عبد الوارث،: قال حدثنا محمد بن جحادة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: أتى النبي (صلى الله عليه وسلم)، جبريل، وهو بأضاة بن غفار، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد. قال: فقال: " أسأل الله مغفرته ومعافاته " - أو قال: " معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك، فسل الله لهم التخفيف ! ". فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين. قال: " أسأل الله مغفرته ومعافاته " - أو قال: " معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك، فسل الله لهم التخفيف ! ". فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: " أسأل الله مغفرته ومعافاته " - أو قال: " معافاته ومغفرته - إنهم لا يطيقون ذلك، سل الله لهم التخفيف ! ". فانطلق ثم رجع، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منها بحرف فهو كما قرأ " (3). قال أبو جعفر: صح وثبت، أن الذي نزل به القرآن من ألسن العرب البعض منها دون الجميع، إذ كان معلوما أن ألسنتها ولغاتها أكثر من سبعة، بما يعجز عن إحصائه. فإن قال: وما برهانك على أن معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " نزل القرآن على سبعة أحرف " وقوله: " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " هو ما ادعيته، من أنه نزل بسبع لغات وأمر بقراءته على سبعة ألسن، دون أن يكون معناه ما قاله مخالفوك من أنه نزل بأمر وزجر وترغيب وترهيب (1) أبو العالية تابعي يروي عن الصحابة، فهذا الحديث مرسل. (2) وردت أسماء رواة هذا الحديث في بعض النسخ على هذا النحو: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، عن أبي الحجاج قال: حدثنا عبد الوارث - يعني ابن جحادة - عن الحكم... (3) مضى الحديث مختصرا (برقم 28) وقد أشرنا إلى تخريجه هناك. (*)
[ 36 ]
وقصص ومثل ونحو ذلك الاقوال ؟ فقد علمت قائلي ذلك من سلف الامة وخيار الائمة. قيل له: إن الذين قالوا ذلك، لم يدعوا أن تأويل الاخبار التي تقدم ذكرنا لها هو ما زعمت أنهم قالوه في الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن دون غيره فيكون ذلك لقولنا مخالفا، وإنما أخبروا أن القرآن نزل على سبعة أحرف، يعنون بذلك أنه نزل على سبعة أوجه، والذي قالوه من ذلك كما قالوا. وقد روينا بمثل الذي قالوا من ذلك، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعن جماعة من أصحابه، أخبارا قد تقدم ذكرنا بعضها، وسنستقصي ذكر باقيها ببيانه إذا انتهينا إليه إن شاء الله. فأما الذي تقدم ذكرناه من ذلك، فخبر أبي بن كعب من رواية أبي كريب، عن ابن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، الذي ذكر فيه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف، من سبعة أبواب الجنة " (1). والسبعة الاحرف هو ما قلنا من أنه الالسن السبعة، والابواب السبعة من الجنة هي المعاني التي فيها من الامر، والنهي، والترغيب، والترهيب، والقصص، والمثل، التي إذا عمل بها العامل وانتهى إلى حدودها المنتهي، استوجب به الجنة. وليس والحمد لله في قول من قال ذلك من المتقدمين، خلاف لشئ مما قلناه، والدلالة على صحة ما قلناه، من أن معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " نزل القرآن على سبعة أحرف " إنما هو أنه نزل بسبع لغات، كما تقدم ذكرناه من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وسائر من قدمنا الرواية عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) في أول هذا الباب، أنهم تماروا في القرآن، فخالف بعضهم بعضا في نفس التلاوة دون ما في ذلك من المعاني، وأنهم احتكموا فيه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فاستقرأ كل رجل منهم، ثم صوب جميعهم في قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم: " إن أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف ". ومعلوم أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك، لو كان تماريا واختلافا فيما دلت عليه تلاواتهم، من التحليل، والحريم، والوعد، والوعيد، وما أشبه ذلك، لكان مستحيلا أن يصوب جميعهم (صلى الله عليه وسلم)، ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه، لان ذلك لو جاز أن يكون الله - جل ثناؤه - قد أمر بفعل (1) أخرج الامام أحمد في المسند نحوه في مسند ابن مسعود الحديث رقم 4252 ج 2 ولفظه: " إن القرآن نزل = (*)
[ 37 ]
شئ وفرضه، في تلاوة من دلت تلاوته على فرضه، ونهى عن فعل ذلك الشئ بعينه وزجر عنه في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه، وأباح وأطلق فعل ذلك الشئ بعينه وجعل (1) لمن شاء من عباده أن يفعله فعله، ولمن شاء منهم أن يتركه تركه، في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير. وذلك من قائله إن قاله إثبات ما قد نفى الله - جل ثناؤه - عن تنزيله وحكم كتابه، فقال: (ألا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (2) وفي نفي الله - جل ثناؤه - ذلك عن حكم كتابه أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد (صلى الله عليه وسلم)، إلا بحكم واحد متفق في جميع خلقه، لا بأحكام فيهم مختلفة. وفي صحة كون ذلك كذلك، ما يبطل دعوى من ادعى خلاف قولنا في تأويل قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف " للذين تخاصموا إليه عند اختلافهم في قراءتهم، لانه (صلى الله عليه وسلم) قد أمر جميعهم بالثبوت على قراءته، ورضي قراءة كل منهم، على خلافها قراءة خصومه ومنازعيه فيها وصوبها. ولو كان ذلك منه تصويبا فيما اختلفت فيه المعاني، وكان قوله (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف "، إعلاما منه لهم أنه نزل بسبعة أوجه مختلفة وسبعة معان مفترقة، كان ذلك إثباتا لما قد نفى الله عن كتابه من الاختلاف، ونفيا لما قد أوجب له من الائتلاف. مع أن في قيام الحجة بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقض في شئ واحد في وقت واحد بحكمين مختلفين، ولا أذن بذلك لامته، ما يغني عن الاكثار في الدلالة على أن ذلك منفي عن كتاب الله. وفي انتفاء ذلك عن كتاب الله، وجوب صحة القول الذي قلناه في معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف " عند اختصام المختصمين إليه فيما اختلفوا فيه من تلاوة ما تلوه من القرآن، وفساد تأويل قول من خالف قولنا في ذلك. وأحرى أن الذين تماروا فيما تماروا فيه من قراءتهم، فاحتكموا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولم يكن منكرا عند أحد منهم أن يأمر الله عباده - جل ثناؤه - في كتابه وتنزيله بما شاء، وينهى عما شاء، ويعد فيما أحب من طاعته، ويوعد على معاصيه، ويحتج لنبيه ويعظه فيه، ويضرب فيه لعباده الامثال، فيخاصم غيره على إنكاره = على نبيكم من سبعة أبواب، على سبعة أحرف، أو قال: حروف " الحديث: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، وأعملوا بمحكمه وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا. (1) " جعل " هنا بمعنى أباح، يعني أباح له فعله، وأباح له تركه. (2) سورة النساء، الآية: 82. (*)
[ 38 ]
سماع ذلك من قارئه، بل على الاقرار بذلك كله كان إسلام من أسلم منهم. فما الوجه الذي أوجب له إنكار ما أنكر، إن لم يكن كان ذلك اختلافا منهم في الالفاظ واللغات ؟ وبعد، فقد، أبان صحة ما قلنا الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نصا، وذلك الخبر الذي ذكرنا أن أبا كريب: * - حدثنا، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن حماد بن سملة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " قال جبريل: اقرأ القرآن على حرف ! قال ميكائيل عليه السلام: استزده ! فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب كقولك هلم وتعال " (1). فقد أوضح نص هذا الخبر، أن الاحرف السبعة إنما هو اختلاف ألفاظ، كقولك " هلم وتعال "، باتفاق المعاني لا باختلاف معان موجبة اختلاف أحكام. وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الاخبار عن جماعة من السلف والخلف: 39 - حدثني أبو السائب سالم بن جنادة السوائي، قال: حدثنا أبو معاوية، وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، جميعا عن الاعمش، عن شقيق، قلا: قال عبد الله: إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين. فاقرؤوا كما علمتم وإياكم والتنطع (2) فإنما هو كقول أحدكم " هلم وتعال ". 40 - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عمن سمع ابن مسعود، يقول: من قرأ منكم على حرف فلا يتحولن، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله لاتيته (3). 41 - وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن عباس، عن رجل من أصحاب عبد الله، عن عبد الله بن مسعود، قال: من قرأ القرآن على حرف، فلا يتحولن منه إلى غيره (4). (1) الحديث مضى بنفس الاسناد برقم 32. راجع تخريجه هناك. (2) التنطع: المغالاة والتكلف، يقال: تنطع في كلامه: تفصح فيه وتعمق، وتنطع في شهواته: تأنق فيها وتشبع منها. (المعجم الوسيط: ص 930). (3) مر معنى هذا الحديث بأطول من هذا. راجع رقم 16. (4) رواه أحمد في المسند (ج 2 حديث 3845) بأطول من هذا. (*)
[ 39 ]
فمعلوم أن عبد الله لم يعن بقوله هذا: من قرأ ما في القرآن من الامر والنهي فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من الوعد والوعيد، ومن قرأ ما فيه من الوعد والوعيد فلا يتحولن منه إلى قراءة ما فيه من القصص والمثل، وإنما عنى رحمة الله عليه أن من قرأ بحرفه، وحرفه: قراءته. وكذلك تقول العرب لقراءة رجل: حرف فلان، وتقول للحرف من حروف الهجاء المقطعة: حرف. كما تقول لقصيدة من قصائد الشاعر: كلمة فلان. فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه. ومن قرأ بحرف أبي، أو بحرف زيد، أو بحرف بعض من قرأ من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ببعض الاحرف السبعة، فلا يتحولن عنه إلى غيره رغبة عنه، فإن الكفر ببعضه كفر بجميعه، والكفر بحرف من ذلك كفر بجميعه. يعني بالحرف ما وصفناه من قراءة بعض من قرأ ببعض الاحرف السبعة. وقد: 42 - حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الاعمش، قال: قرأ أنس هذه الآية: (إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا) (1). فقال القوم: يا أبا حمزة، إنما هي وأقوم. فقال: أقوم وأصوب وأهدى واحد. 43 - وحدثني محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد أنه كان يقرأ القرآن على خمسة أحرف. 44 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم: أن سعيد بن جبير كان يقرأ القرآن على حرفين. 45 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: كان يزيد بن الوليد يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف (2). (1) سورة الزمر، الآية: 6. (2) جاءت هذه الفقرة في بعض النسخ هكذا: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن مغيرة قال: حدثنا يزيد بن الوليد أنه كان يقرأ القرآن على ثلاثة أحرف. ومنها يفهم أن المتحدث عنه، وهو سعيد بن جبير المذكور في الفقرة السابقة، هو الذي كان يقرأ على ثلاثة أحرف. وهذا هو الاقرب إلى الصواب، ويعكس ما يفهم مما هنا، والفقرة الآتية تؤيد رأينا. (راجع تراجم سعيد بن جبير ويزيد بن القعقاع ويزيد بن رومان في كتاب طبقات القراء). (*)
[ 40 ]
أفترى الزاعم أن تأويل قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف " إنما هو أنه نزل على الاوجه السبعة التي ذكرنا: من الامر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، والقصص، والمثل، كان يرى أن مجاهدا وسعيدا بن جبير لم يقرءا من القرآن إلا ما كان من وجهيه، أو وجوهه الخمسة، دون سائر معانيه ؟ لئن كان ظن ذلك بهما لقد ظن بهما غير الذي يعرفان به من منازلهما من القرآن ومعرفتهما بآي الفرقان. 46 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن محمد، قال: نبئت أن جبرائيل وميكائيل أتيا النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال له جبرائيل: اقرأ القرآن على حرفين ! فقال له ميكائيل: استزده ! فقال: اقرأ القرآن على ثلاثة أحرف ! فقال له ميكائيل: استزده ! قال: حتى بلغ سبعة أحرف. قال محمد: لا تختلف في حلال، ولا حرام، ولا أمر، ولا نهي، هو كقولك تعال، وهلم، وأقبل. قال: وفي قراءتنا: (إن كانت إلا صيحة واحدة) (1) وفي قراءة ابن مسعود: " إن كانت إلا زقية واحدة ". 47 - وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا شعيب - يعني ابن الحبحاب - قال: كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل " ليس كما يقرأ " وإنما يقول: " أما أنا فأقرأ كذا وكذا ". قال: فذكرت ذلك لابراهيم النخعي، فقال: أرى صاحبك قد سمع أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله. 48 - حدثنا يونس بن عبد الاعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر الله تعالى ذكره: (إنما يعلمه بشر) (2) إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " سميع عليم "، أو " عزيز حكيم "، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم، أو عزيز عليم ؟ فيقول له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أي ذلك كتبت، فهو كذلك ". ففتنه ذلك، فقال: إن محمدا وكل ذلك إلي، فأكتب ما شئت. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة. 49 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: من كفر بحرف من القرآن أو بآية منه فقد كفر به كله (3). (1) سورة يس، الآيتان: 29 و 53. (2) سورة النحل، الآية: 103. (3) مر مثله في رقم 41. ورواه أحمد بأطول من هذا في المسند (ج 2 حديث 3845). (*)
[ 41 ]
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإذا كان تأويل قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف " عندك ما وصفت بما عليه استشهدت، فأوجدنا حرفا في كتاب الله مقروءا بسبع لغات، فنحقق بذلك قولك ! وإلا فإن لم تجد ذلك كذلك، كان معلوما بعد مكة (1) صحة قول من زعم أن تأويل ذلك أنه نزل بسبعة معان، وهو: الامر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، والقصص، والمثل، وفساد قولك. أو تقول في ذلك: إن الاحرف السبعة لغات في القرآن سبع متفرقة في جميعه من لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة الالسن، كما كان يقوله بعض من لم يمعن النظر في ذلك، فيصير بذلك إلى القول بما لا يجهل فساده ذو عقل ولا يلتبس خطؤه على ذي لب. وذلك، أن الاخبار التي بها احتججت لتصحيح مقالتك في تأويل قول النبي (صلى الله عليه سلم): " نزل القرآن على سبعة أحرف "، هي الاخبار التي رويتها عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، رحمة الله عليهم، وعمن رويت ذلك عنه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بأنهم تماروا في تلاوة بعض القرآن، فاختلفوا في قراءته دون تأويله، وأنكر بعض قراءة بعض، مع دعوى كل قارئ منهم قراءة منها: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقرأه ما قرأ بالصفة التي قرأ. ثم احتكموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان من حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنيهم أن صوب قراءة كل قارئ منهم على خلافها قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها، وأمر كل امرئ منهم أن يقرأ كما علم، حتى خالط قلب بعضهم الشك في الاسلام لما رأى من تصويب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قراءة كل قارئ منهم على اختلافها. ثم جلاه الله عنه ببيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) له: أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فإن كانت الاحرف السبعة التي نزل بها القرآن عندك - كما قال هذا القائل - متفرقة في القرآن، مثبتة اليوم في مصاحف أهل الاسلام، فقد بطلت معاني الاخبار التي رويتها عمن رويتها عنه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم اختلفوا في قراءة سورة من القرآن، فاختصموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأمر كلا أن يقرأ كما علم، لان الاحرف السبعة إذا كانت لغات متفرقة في جميع القرآن، فغير موجب حرف من ذلك اختلافا بين تالية (2)، لان كل تال فإنما يتلو ذلك الحرف تلاوة واحدة على ما هو به في مصحف، وعلى ما أنزل. وإذا كان ذلك كذلك بطل وجه اختلاف الذين روي منهم أنهم اختلفوا في قراءة سورة، وفسد معنى أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) كل قارئ منهم أن يقرأه على ما علم، إذ كان لا معنى هنالك يوجب اختلافا في لفظ ولا افتراقا في معنى. (1) يعني فقدانك له. والعدم: فقدان الشئ وذهابه. (2) يعني التالين له. وهي " تالين " أضيفت إلى الضمير فحذفت النون. (*)
[ 42 ]
وكيف يجوز أن يكون هنالك اختلاف بين القوم والمعلم واحد والعلم واحد غير ذي أوجه ؟ وفي صحة الخبر عن الذين روي عنهم الاختلاف في حروف القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإنهم اختلفوا وتحاكموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك، على ما تقدم وصفناه، أبين الدلالة على فساد القول بأن الاحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سورة القرآن، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني. مع أن المتدبر إذا تدبر قول هذا القائل في تأويله قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن على سبعة أحرف " وادعائه أن معنى ذلك أنها سبع لغات متفرقة في جميع القرآن، ثم جميع بين قيله ذلك واعتلاله لقيله ذلك بالاخبار التي رويت عمن روي ذلك عنه من الصحابة والتابعين أنه قال: " هو بمنزلة قولك تعال، وهلم، وأقبل "، وأن بعضهم قال: " هو بمنزلة قراءة عبد الله: إلا زقية، وهي في قرائتنا: إلا صيحة "، وما أشبه ذلك من حججه، علم أن حججه مفسدة في ذلك مقالته، وأن مقالته فيه مضادة حججه، لان الذي نزل به القرآن عنده إحدى القراءتين، إما صحيحة وإما زقية، وإما تعال،، أو أقبل، أو هلم، لا جميع ذلك، لان كل لغة من اللغات السبع عنده في كلمة أو حرف من القرآن غير الكلمة أو الحرف الذي فيه اللغة الاخرى. وإذا كان ذلك كذلك بطل اعتلاله لقوله بقول من قال: " ذلك بمنزلة: هلم، وتعال، وأقبل "، لان هذه الكلمات هي ألفاظ مختلفة يجمعها في التأويل معنى واحد. وقد أبطل قائل هذا القول الذي حكينا قوله اجتماع اللغات السبع في حرف واحد من القرآن، فقد تبين بذلك إفساد حجته لقوله بقوله، وإفساده قوله بحجته. فقيل له: القول في ذلك بواحد من الوجهين اللذين وصفت، بل الاحرف السبعة التي أنزل الله بها القرآن هن لغات سبع في حرف واحد، وكلمة واحدة، باختلاف الالفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلم، وأقبل، وتعال، وإلي، وقصدي، ونحوي، وقربي، ونحو ذلك مما تختلف فيه الالفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني وإن اختلفت بالبيان به الالسن، كالذي روينا آنفا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعمن روينا ذلك عنه من الصحابة، أن ذلك بمنزلة قولك: هلم، وتعال، وأقبل، وقوله: ما ينظرون إلا زقية، وإلا صيحة. فإن قال: ففي أي كتاب الله نجد حرفا واحدا مقروءا بلغات سبع مختلفات الالفاظ متفقات المعنى، فنسلم لك صحة ما ادعيت من التأويل في ذلك ؟ قيل: إنا لم ندع أن ندع أن ذلك موجود اليوم، وإنما أخبرنا أن معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أنزل
[ 43 ]
القرآن على سبعة أحرف "، على نحو ما جاءت به الاخبار التي تقدم ذكرناها، هو ما وصفنا دون ما ادعاه مخالفونا في ذلك للعلل التي قد بينا. فإن قال: فما بال الاحرف الاخر الستة غير موجودة إن كان الامر في ذلك على ما وصفت، وقد أقرهن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن الله من عنده على نبيه (صلى الله عليه وسلم) ؟ أنسخت فرفعت، فما الدلالة على نسخها ورفعها ؟ أم نسيتهن الامة، فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه ؟ أم ما القصة في ذلك ؟ قيل له: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الامة وهي مأمورة بحفظها، ولكن الامة أمرت بحفظ القرآن وخيرت في قراءته وحفظه بأي الكفارات الثلاث شاءت، كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة. فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر، كانت مصيبة (1) حكم الله، مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله. فكذلك الامة أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيرت في قراءته بأي الاحرف السبعة شاءت، فرأت لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالاحرف الستة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به. فإن قيل:. كت العلة التي أوجبت عليها الثبات على حرف واحد دون سائر الاحرف لستة الباقية ؟ قيل: 50 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية (2) عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه زيد قال: لما قتل أصحاب رسول الله، (صلى الله عليه وسلم) باليمامة، دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باليمامة تهافتوا تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وينسى، فلو جمعته وكتبته ! فنفر منها أبو بكر، وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ فتراجعا في ذلك. ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت. قال زيد: فدخلت عليه، وعمر محزئل (3). فقال (1) في نسخة: " مظنة "، بدل " مصيبة ". (2) في نسخة: " خزيمة ". والصواب ما هنا. (3) أي منضم بعضه إلى بعض جالس كهيئة المستوفز. وفي بعض النسخ: " مسربل " بدل " محزئل ". (*)
[ 44 ]
أبو بكر: إن هذا دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه ابتعتكما، وإن توافقني لا أفعل. قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل (1) ما لم يفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك ؟ قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شئ، والله ما علينا في ذلك شئ ! قال زيد: فأمرني أبو بكر، فكتبته في قطع الادم وكسر الاكتاف والعسب (2). فلما هلك أبو بكر، وكان عمر (3)، كتب ذلك في صحيفة واحدة، فكانت عنده. فلما هلك، كانت الصحيفة عند حفصة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم). ثم إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها في فرج (4) أرمينية، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان، فقال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس ! فقال عثمان: وما ذاك ؟ قال: غزوت فرج (4) أرمينية، فحصرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق فتكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فتكفرهم أهل الشام. قال زيد: فأمرني عثمان بن عفان أكتب له مصحفا، وقال: إني مدخل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي ! فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص. قال: فلما بلغنا: (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) (5) قال زيد: فقلت: التابوه. وقال أبان بن سعيد: التابوت. فرفعنا ذلك إلى عثمان، فكتب " التابوت ". قال: فلما فرغت عرضته عرضة، فلم أجد فيه هذه الآية: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) إلى قوله: (وما بدولوا تبديلا) (6) قال: فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم. ثم استعرضت الانصار أسألهم عنها، (1) في نسخة: يفعل. والصواب ما هنا. (2) الادم جمع أديم، وهو الجلد المدبوغ. والكسر: جمع كسرة، وهي القطعة المكسورة من الشئ. والاكتاف: جمع كتف، وهو عظم عريض في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه. والعسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل إذا نحي عنه خوصه. (3) " كان " هنا فعل تام، أي تولى الامر بعد أبي بكر. (4) كذا في الاصل، والصواب " مرج " كما طبعة دار المعارف. (5) سورة البقرة، الآية: 248. (6) سورة الاحزاب، الآية: 23. (*)
[ 45 ]
فلم أجدها عند أحد منهم. حتى وجدتها عند خزيمة بن ثابت، فكتبتها. ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه هاتين الآيتين: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم) (1) إلى آخر السورة. فاستعرضت المهاجرين، فلم أجدها عند أحد منهم. ثم استعرضت الانصار أسألهم عنها، فلم أجدها عند أحد منهم. حتى وجدتها مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا، فأثبتها في آخر براءة. ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة. ثم عرضته عرضة أخرى لم أجد فيه شيئا. ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها. فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها فلم يختلفا في شئ، فردها إليها، وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف. فلما ماتت حفصة أرسل إلى عبد الله بن عمر في الصحيفة بعزمة، فأعطاهم إياها فغسلت غسلا (2). * - وحدثني أيضا يونس بن عبد الاعلى، قال حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية (3)، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد، عن أبيه زيد بن ثابت. بنحوه سواء. 51 - وحدثني يعقوب ابن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: لما كان في خلافة عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين. قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض. فبلغ ذلك عثمان، فقال خطيبا فقال: أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الامصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما !. قال أبو قلابة: فحدثني أنس بن مالك، قال: كنت فيمن يملي عليهم. قال: فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولعله أن يكون غائبا أو في (1) سورة التوبة، الآية: 128. (2) رواه البخاري في القرآن باب 3، والاحكام باب 37، تفسير سورة 9 باب 20. والترمذي في تفسير سورة 9 باب 18. (3) في نسخة: خزيمة. والصواب ما هنا. (*)
[ 46 ]
بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ويدعون موضعها، حتى يجئ أو يرسل إليه. فلما فرغ من المصحف، كتب عثمان إلى أهل الامصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم. 52 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس قال: قال ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك الانصاري، أنه اجتمع في غزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن واختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة. فركب حذيفة بن اليمان لما رأى اختلافهم في القرآن إلى عثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن، حتى إني لاخشى أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف ! قال: ففزع لذلك فزعا شديدا، فأرسل إلى حفصة، فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق. 53 - حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: قبض النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يكن القرآن جمع، وإنما كان في الكرانيف (1) والعسب (2). 54 - حدثنا سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، عن صعصعة: أن أبا بكر أول من ورث الكلالة (3)، وجمع المصحف. قال أبو جعفر: وما أشبه ذلك من الاخبار التي يطول باستيعاب جميعها الكتاب والآثار الدالة على أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه، جمع المسلمين نظرا منه لهم وإشفاقا منه عليهم ورأفة منه بهم، حذار الردة من بعضهم بعد الاسلام، والدخول في الكفر بعد الايمان، إذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره التكذيب ببعض الاحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) النهي عن التكذيب بشئ منها، وإخباره إياهم أن المراء فيها كفر. فحملهم - رحمة الله عليه - إذ رأى ذلك ظاهرا بينهم في عصره، وبحداثة عهدهم بنزول القرآن، وفراق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إياهم، بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين من تلاوة القرآن على حرف واحد (4). وجمعهم على مصحف واحد وحرف واحد، وحرق ما عدا (1) الكرانيف: أصول السعف الغلاظ العراض التي إذا يبست صارت مثل الاكتاف جمع كرنافة. (2) في نسخة: " السعف " بدل " العسب ". (3) سيأتي تفسير الطبري للكلالة في تفسير الآية 12 من سورة النساء. (4) قوله: " على واحد " متعلق بقوله: " فحملهم رحمة الله عليه ". (*)
[ 47 ]
المصحف الذي جمعهم عليه. وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه. فأستوثقت له الامة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالاحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له ونظرا منها لانفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها. حتى درست من الامة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل لاحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها ما غير حجود منها صحتها وصحة شئ منها، ولكن نظرا منها لانفسها ولسائر أهل دينها. فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الاحرف الستة الباقية. فإن قال بعض من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمرهم بقراءتها ؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك، لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لان القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الاحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة ويقطع خبره (1) العذر ويزيل الشك من قراءة الامة. وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخبرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الامة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الاحرف السبعة. فإذا كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا، إذ كان الذي فعلوا من ذلك كان النظر للاسلام وأهله، فكان القيام بفعل الواجب عليهم بهم أولى من فعل ما لو فعلوه كانوا إلى الجناية على الاسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة من ذلك. فأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " بمعزل (2)، لانه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلف القراءة في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الامة. وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر، من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه وتظاهرت عنه بذلك الرواية، على ما قد قدمنا ذكرها في أول هذا الباب. (1) في نسخة: " حبرة " بدل " خبره ". (2) يعني بمعزل عن قول النبي (صلى الله عليه وسلم). (*)
[ 48 ]
فإن قال لنا قائل: فهل لك علم بالالسن السبعة التي نزل بها القرآن، وأي الالسن هي من ألسن العرب ؟ قلنا: أما الالسن الستة قد نزلت القراءة بها، فلا حاجة بنا إلى معرفتها، لانا لو عرفناها لم نقرأ اليوم بها، مع الاسباب التي قدمنا ذكرها. وقد قيل: إن خمسة منها لعجز هوازن (1)، واثنين منها لقريش وخزاعة. وروي جميع ذلك ابن عباس، ليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك روى عنه أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن: الكلبي عن أبي صالح، وأن الذي عنه أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة: قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه. 55 - حدثني بذلك أصحابنا، قال: حدثنا صالح بن نصر الخزاعي، قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلسان قريش، ولسان خزاعة، وذلك أن الدار واحدة. 56 - وحدثني بعض أصحابنا، قال: حدثنا صالح بن نصر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الاسود الدؤلي، قال: نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لؤي. فقال خالد بن سملة لسعد بن إبراهيم: ألا تعجب نم هذا الاعمى يزعم أن القرآن نزل بلسان الكعبين، وإنما نزل بلسان قريش !. قال أبو جعفر: والعجز من هوازن: سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. وأما معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم)، إذ ذكر نزول القرآن على سبعة أحرف: " إن كلها شاف كاف "، فإنه كما قال جل ثناؤه في وصفه القرآن: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) (2) جعله الله للمؤمنين شفاء يستشفون بمواعظه من الادواء العارضة لصدورهم من وساوس الشيطان وخطراته فيكفيهم ويغنيهم عن كل ما عداه من المواعظ ببيان آياته. (1) سيذكرهم بعد أسطر. (2) سورة يونس، الآية: 57. (*)
[ 49 ]
القول في البيان عن معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة " وذكر الاخبار المروية بذلك قال أبو جعفر اختلف النقلة في ألفاظ الخبر بذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فروي عن ابن مسعود، عن النبي، (صلى الله عليه وسلم)، أنه قال: " كان الكتاب الاول نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا " (1). 57 - حدثني بذلك يونس بن عبد الاعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني حيوة بن شريح، عن عقيل بن خالد، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي (صلى الله عليه وسلم). وروي عن أبي قلابة، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، مرسلا غير ذلك. 58 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عباد بن زكريا، عن عوف، عن أبي قلابة، قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، ومثل ". وروي عن أبي، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، في ذلك ما: 59 - حدثني به أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبيدالله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن جده، عن أبي بن كعب، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف على أمتي ! قال: اقرأ على حرفين، فقلت: رب خفف عن أمتي ! فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة كلها شاف كاف " (2). (1) رواه الامام أحمد في المسند (ج 2 حديث 4252) عن عثمان بن حسان عن فلفلة الجعفي عن ابن مسعود بلفظ: " إن القرآن نزل على نبيكم (صلى الله عليه وسلم) من سبعة أبواب على سبعة أحرف - أو قال: حروف - وإن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد ". (2) مر نحو هذا الحديث برقم 25. انظر تخريجه هناك. (*)
[ 50 ]
وروي عن ابن مسعود من قيله، خلاف ذلك كله، وهو ما: 60 - حدثنا به، أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن الاحوص بن حكيم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله أنزل القرآن على خمسة، أحرف: حلال، وحرام، ومحكم، متشابه، وأمثال. فأحل الحلال وحرم الحرام، واعمل بالمحكم، وآمن بالمتشابه، واعتبر بالامثال. وكل هذه الاخبار التي ذكرناها عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متقاربة المعاني، لان قول القائل: فلان مقيم على باب من أبواب هذا الامر، وفلان مقيم على وجه من وجوه هذا الامر، وفلان مقيم على حرف من هذا الامر سواء. ألا ترى أن الله - جل ثناؤه - وصف قوما عبدوه على وجه من وجوه العبادات فأخبر عنهم أنهم عبدوه على حرف، فقال: (ومن الناس يعبد الله على حرف) (1) يعني أنهم بعدوه على وجه الشك لا على اليقين والتسليم لامره. فكذلك رواية من روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: " نزل القرآن من سبعة أبواب "، و " نزل على سبعة أحرف " سواء معناهما مؤتلف وتأويلهما غير مختلف في هذا الوجه. ومعنى ذلك كله الخبر منه (صلى الله عليه وسلم) عما خصه الله به وأمته من الفضيلة والكرامة التي لم يؤتها أحدا في تنزيله. وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء الله صلوات الله عليهم فإنما نزل بلسان واحد، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به كان ذلك له ترجمة وتفسيرا، ولا تلاوة له على ما أنزله الله. وأنزل كتابنا بألسن سبعة، بأي تلك الالسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ إذا أصاب معناه مترجما له، كما كان التالي لبعض الكتب التي أنزلها الله بلسان واحد واحد إذا تلاه بغير اللسان الذي نزل به له مترجما لا تاليا على ما أنزله الله به. فذلك معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " كان الكتاب الاول نزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف ". وأما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم): " إن الكتاب الاول نزل من باب واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب " فإنه (صلى الله عليه وسلم) عنى بقوله: " نزل الكتاب الاول من باب واحد " والله أعلم: ما نزل من كتب الله على من أنزله من أنبيائه، خاليا من الحدود والاحكام والحلال والحرام، كزبور داود (1) سورة الحج، الآية: 11. (*)
[ 51 ]
الذي إنما هو تذكير ومواعظ، وإنجيل عيسى الذي هو تمجيد ومحامد، وحض على الصفح والاعراض، دون غيرها من الاحكام والشرائع، وما أشبه ذلك من الكتب التي نزلت ببعض المعاني السبعة التي يحوي جميعها كتابنا الذي خص الله به نبينا (صلى الله عليه وسلم) أمته. فلم يكن المتعبدون بإقامته يجدون لرضا الله تعالى ذكره مطلبا ينالون به الجنة، ويستوجبون منه القربة، إلا من الوجه الواحد الذي نزل به كتابهم، كذلك هو الباب الواحد من أبواب الجنة الذي نزل منه ذلك الكتاب. وخص الله نبينا محمدا (صلى الله عليه وسلم) وأمته، بأن أنزل بالجنة إذا أقاموها. فلكل وجه من أوجهه السبعة باب من أبواب الجنة الدي نزل منه القرآن، لان العامل بكل وجه من أوجهه السبعة عامل في باب من أبواب الجنة، وترك ما نهى الله عنه فيه باب آخر ثان من أبوابها، وتحليل ما أحل الله فيه باب ثالث من أبوابها، وتحريم ما حرم الله فيه باب رابع من أبوابها، والايمان، بمحكمه المبين باب خامس من أبوابها، والتسليم لمتشابهة الذي استأثر الله بعلمه وحجب علمه عن خلقه والاقرار بأن كل ذلك من عند ربه باب سادس من أبوابها، والاعتبارات بأمثاله، والاتعاظ بعظاته باب سابع من أبوابها. فجميع ما في القرآن من حروفه السبع وأبوابه السبعة التي نزل منها، جعله الله لعباده إلى رضوانه هاديا، ولهم إلى الجنة قائدا. فذلك معنى قوله (صلى الله عليه وسلم): " نزل القرآن من سبعة أبواب الجنة ". وأما قوله (صلى الله عليه وسلم): " وإن لكل حرف منه حدا ": يعني لكل وجه من أوجهه السبعة حدا حده الله جل ثناؤه، لا يجوز لاحد أن يتجاوزه. وقوله (صلى الله عليه وسلم): " وإن لكل حرف منها ظهرا وبطنا " (1) فإنه يعني أن لكل حد من حدود الله التي حدها فيه من حلال وحرام وسائر شرائعه مقدار من ثواب الله وعقابه، يعانيه في الآخرة ويطلع عليه، ويلاقيه في القيامة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لو أن لي ما في (1) مطلع: أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه، وبكسر اللام: القوي العالي القاهر. (انظر القاموس المحيط). (*)
[ 52 ]
الارض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع " يعني بذلك ما يطلع عليه ويهجم عليه من أمر الله بعد وفاته. القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن قال أبو جعفر: قد قلنا في الدلالة على أن القرآن كله عربي، أنه نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن المسلمين اليوم، ومصاحفهم التي هي بين أظرهم، ببعض الالسن التي نزل بها القرآن دون جميعها، وقلنا في البيان عما يحويه القرآن من النور والبرهان والحكمة والبيان، التي أودعها الله إياه: من أمره، ونهيه، وحلاله، وحرامه، ووعده، وعيده، ومحكمه، ومتشابهه، ولطائف حكمه، فما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله. قال الله، جل ذكره وتقدست اسماؤه، لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم): " وأنزل إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (2). وقال: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الالباب) (3). فقد تبين ببيان الله، جل ذكره، أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره - واجبه (4)، وندبه، وإرشاده - وصنوف نهيه، ووظائق حقوقه، وحدوده، ومبالغ فرائضه، ومقاديير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آية التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لامته. وهذا وجه لا يجوز لاحد القول فيه إلا ببيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بتأويله، بنص منه عليه، أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله. (1) سورة النحل، الآية: 44. (2) سورة النحل، الآية: 64. (3) سورة آل عمران، الآية: 7. (4) في نسخة: " ونهيه " بدل " واجبه ". (*)
[ 53 ]
وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، أوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى ابن مريم، وما أشبه ذلك، فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها، لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه. وكذلك أنزل ربنا في محكم كتابه، فقال: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والارض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (1). وكان نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) إذا ذكر شيئا من ذلك لم يدل عليه إلا بأشراطه دون تحديده بوقت، كالذي روي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لاصحابه إذ ذكر الدجال: " إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن يخرج بعدي فالله خليفتي عليكم " (2). وأما أشبه ذلك من الاخبار التي يطول باستيعابها الكتاب، الدالة على أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن عنده علم أوقات شئ منه، بمقادير السنين والايام، وأن الله جل ثناؤه إنما كان عرفه مجيئه بأشراطه ووقته بأدلته. وأن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك إقامة إعرابه، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم. وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) (3) لم يجهل أن معنى الافساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الاصلاح هو ما ينبغي فعله مما منفعة، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا والمعاني التي جعلها الله إصلاحا. فالذي يعلمه ذو اللسان الذي بلسانه نزل القرآن من تأويل القرآن، هو ما وصفت من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون الواجب من أحكامها وصفاته وهيئاتها التي خص الله بعلمها (1) سورة الاعراف، الآية: 187. (2) جزء من حديث طويل، رواه من حديث النواس بن سمعان الكلابي: مسلم في الفتن حديث 110. وأبو داود في الملاحم باب 14. والترمذي في الفتن باب 59. وابن ماجة في الفتن باب 33. وأحمد في المسند (ج 6 حديث 17646). (3) سورة البقرة، الآيتان: 11 و 12. (*)
[ 54 ]
نبيه (صلى الله عليه وسلم). فلا يدرك إلا ببيانه، دون ما استأثر الله بعلمه دون خلقه. وبمثل ما قلنا من ذلك روي الخبر عن ابن عباس. 61 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. قال أبو جعفر: وهذا الوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس: من أن أحدا لا يعذر بجهالته، معنى غير الابانة عن وجوه مطالب تأويله. وإنما هو خبر عن أن من تأويله ما لا يجوز لاحد الجهل به. وقد روي بنحو ما قلنا في بعض ذلك أيضا، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، خبر في إسناده نظر. 62 - حدثني يونس بن عبد الاعلى الصدفي، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت عمرو بن الحارث، يحدث عن الكلبي، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب ". ذكر بعض الاخبار التي رويت بالنهي عن القول في تأويل القرآن بالرأي 63 - حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا شريك، عن عبد الاعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " (1). * - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عبد الاعلى - هو ابن عامر الثعلبي - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، قال: " من قال القرآن برأيه، أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار ". * - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا محمد بن بشر، وقبيصة، عن سفيان، عن (1) رواه الترمذي في تفسير القرآن باب 1 وصححه. ورواه الامام أحمد في المسند (ج 1 حديث 2069 و 2429 و 2976 و 3025). (*)
[ 55 ]
عبد الاعلى، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ". * - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عبد الاعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ". * - حدثنا ابن حميد، قال جرير، عن ليث، عن بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: " من تكلم في القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار " (1). 64 - وحدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي، قال: حدثنا حفص بن غياث، عن الحسن بن عبيدالله، عن إبراهيم، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني (2)، وأي سماء تظلني، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم ؟ * - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلني، أي سماء تظلني، إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم ؟ قال أبو جعفر: وهذه الاخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا: من أن ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلا بنص رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أو بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لاحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه وإن أصاب الحق فيه فمخطئ فيما كان من فعله بقيله فيه برأيه، لان إصاتبه ليست إصابة موقن أنه محق، وإنما هو إصابة خارص وظان، والقائل في دين الله بالظن قائل على الله ما لم يعلم. وقد حرم الله جل ثناؤه ذلك في كتابه على عباده، فقال: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (3) فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي جعل الله إليه بيانه، قائل بما لا يعلم، وإن وافق قيله ذلك في تأويله ما أراد الله به من معناه، لان القائل فيه بغير علم، قائل على الله ما لا علم له به. (1) هذا الحديث مكرر الاحاديث الاربعة التي سبقته، ولكنه هنا موقوف على ابن عباس، وكذلك الحديث الذي قبله. (2) تقلني: تحملني. (3) سورة الاعراف، الآية: 33. (*)
[ 56 ]
وهذا هو معنى الخبر، الذي: 65 - حدثنا بن العباس بن عبد العظيم العنبري، قال: حدثنا حبان بن هلال، قال: حدثنا سهيل بن أبي حازم، قال: حدثنا أبو عمران الجوني (1)، عن جندب، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ " (2). يعني (صلى الله عليه وسلم): أنه أخطأ في فعله، بقيله فيه برأيه، وإن وافق قيله ذلك عين الصواب عند الله، لان قيله فيه برأيه ليس بقيل عالم أن الذي قال فيه من قول حق وصواب. فهو قائل على الله ما لا يعلم، آثم بفعله ما قد نهي عنه وحظر عليه. ذكر بعض الاخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة 66 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي، قال: سمعت أبي يعقوب يقول: حدثنا الحسين بن واقد، قال: حدثنا الاعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود، قال: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ". 67 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن، قال: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا. 68 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: حدثنا الاعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية في كتاب الله، إلا وأنا أعلم فيم نزلت، وأين نزلت، وأين أنزلت ! ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لاتيته (3). 69 - وحدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، (1) في الاصل: " الجويني " والتصحيح من الترمذي. (2) رواه أبو داود في العلم باب 5، والترمذي في تفسير القرآن باب 1. (3) رواه البخاري في فضائل القرآن باب 8. ومسلم في فضائل الصحابة حديث 115. واللفظ عندهما: " ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله تبلغه الابل لركبت إليه ". (*)
[ 57 ]
عن الاعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: كان عبد الله يقرأ علينا السورة، ثم يحدثنا فيها، ويفسرها عامة النهار. 70 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن شقيق، قال: استعمل علي ابن عباس على الحج، قال: فخطب الناس خطبة، لو سمعها الترك والروم لاسلموا، ثم قرأ عليهم سورة النور، فجعل يفسرها. 71 - وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: قرأ ابن عباس سورة البقرة، فجعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لاسلمت. 72 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، قال: من قرأ القرآن، ثم لم يفسره، كان كالاعمى، أو كالاعرابي. 73 - وحدثنا أبو كريب، قال: ذكر أبو بكر بن عياش الاعمش، قال: قال أبو وائل: ولي ابن عباس الموسم، فخطبهم، فقرأ على المنبر سورة النور، والله لو سمعها الترك لاسملوا، فقيل له: حدثنا به عاصم ! فسكت. * - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت الاعمش، عن شقيق، قال: شهدت ابن عباس وولي الموسم، فقرأ سورة النور على المنبر، وفسرها، لو سمعت الروم لاسلمت. قال أبو جعفر: وفي حث الله عز وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والتبيان، بقوله جل ذكره، لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ولتذكر أولوا الالباب) (1) وقوله: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون) (2) وما أشبه ذلك من آي القرآن التي أمر الله عباده وحثهم فيها على الاعتبار بأمثال آي القرآن والاتعاظ بمواعظه، ما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله من آيات، لانه محال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له، ولا يعقل تأويله: اعتبر بما لا فهم لك به ولا معرفة من القيل والبيان ! إلا على معنى الامر بأن يفهمه ويفقهه، ثم يتدبره ويعتبر به. (1) سورة ص، الآية: 29. (2) سورة الزمر، الآيتان: 27 و 28. (*)
[ 58 ]
فأما قبل ذلك، فمستحيل أمره بتدبره، وهو بمعناه جاهل. كما محال أن يقال لبعض أصناف الامم الذين لا يعقلون كلام العرب ولا يفهمونه، لو أنشدت قصيدة شعر من أشعار بعض العرب، ذات أمثال مواعظ وحكم: اعتبر بما فيها من الامثال وادكر بما فيها من المواعظ ! إلا بمعنى الامر لها يفهم كلام العرب ومعرفته، ثم الاعتبار بما نبهها عليه ما فيها من الحكم، فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق، فمحال أمرها بما دلت عليه معاني ما حوته من الامثال والعبر. وسواء أمرها بذلك، وأمر بعض البهائم به، إلا بعد العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها. فكذلك ما في آي كتاب الله، من العبر والحكم والامثال والمواعظ، ولا يجوز أن يقال اعتبر بها، إلا لمن كان بمعاني بيانه عالما، وبكلام العرب عارفا، وإلا بمعنى الامر - لمن كان بذلك منه جاهلا - أن يعلم معاني كلام العرب، ثم يتدبره بعد، ويتعظ بحكمه وصنوف عبره. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد أمر عباده بتدبره وحثهم على الاعتبار بأمثاله، كان معلوما أنه لم يأمر بذلك من كان بما يدل عليه آية (1) جاهلا. وأذا لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون، صح أنهم بتأويل ما لم يحجب عنهم علمه من آيه الذي استأثر الله بعلمه منه دون خلقه، الذي قد قدمنا صفته آنفا، عارفون. وإذا صح ذلك، فسد قول من أنكر تفسير المفسرين - من كتاب الله وتنزيله - ما لم يحجب عن خلقه تأويله. ذكر بعض الاخبار التي غلط في تأويلها منكروا القول في تأويل القرآن فإن قال لنا قائل: فما أنت قائل، فيما: 74 - حدثكم به العباس بن عبد العظيم، قال: حدثنا محمد بن خالد بن عثمة، قال: حدثني جعفر بن محمد الزبيري، قال: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يفسر شيئا من القرآن إلا آيا تعد، علمهن إياه جبريل. * - حدثنا محمد بن يزيد الطرسوسي، قال: أخبرنا معن، عن جعفر (2) بن خالد، (1) في الاصل: " اية " والصواب ما أثبتناه. (2) في نسخة: جبريل بدل جعفر. والصواب ما أثبتناه. (*)
[ 59 ]
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يفسر القرآن إلا آيا تعد، علمهن إياه جبريل عليه السلام. 75 - وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا عبيدالله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع. 76 - وحدثنا يونس، قال: حدثنا بن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئا. * - حدثنا يونس، قال: حدثنا بن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئت. * - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سعمت الليث، يحدث عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن. 77 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة السلماني عن آية، قال: عليك بالسداد، فقد ذهب الذين علموا فيم نزل القرآن. * - حدثني يعقوب قال: حدثنا، ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد، قال: سألت عبيدة، عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن، اتق الله وعليك بالسداد. 78 - وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم فيها، فأبى أن يقول فيها. 79 - حدثني يعقوب، قال: حديثنا ابن علية، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله، فسأله عن آية من القرآن، فقال له: أحرج عليك إن كنت مسلما، لما قمت عني، أو قال أن تجالسني. 80 - حدثني عباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن شوذب، قال: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان
[ 60 ]
أعلم الناس، وإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع. 81 - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة، عن عمروا بن مرة، قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن آية من القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه شئ منه، يعني عكرمة. 82 - وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله. 83 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن صالح - يعني ابن مسلم - قال: حدثني رجل، عن الشعبي، قال: ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي. وما أشبه ذلك بالاخبار (1). وقيل له: أما الخبر الذي روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيا تعد، فإن ذلك مصحح ما قلنا من القول في الباب الماضي قبل، وهو أن من تأويل القرآن ما لا يدرك علمه إلا ببيان الرسول (صلى الله عليه وسلم). وذكر يفصل جمل ما في آية من أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمل في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة، لا يدرك علم تأويله إلا ببيان من عند الله، على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما أشبه فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما أشبه ذلك مما تحويه آي القرآن من سائر حكمه الذي جعل الله بيانه لخلقه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بتعليم الله إياه ذلك بوحيه إليه، إما جبريل، أو مع من شاء من رسله إليه. فذلك هو الآي التي كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يفسرها لاصحابه بتعليم جبريل إياه، وهن لا شك آي ذوات عدد. ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثر بعلم تأويله، فلم يطلع على علمه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده وأنه لا يعلم تأويله إلا الله. فأما ما لا بد للعباد من علم تأويله، فقد بين لهم نبيهم (صلى الله عليه وسلم) ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل، وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم، فقال له جل ذكره: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (2). ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - أنه كان لا يفسر من القرآن شيئا إلا آيا تعد - (1) هذا آخر السؤال الذي بدأ قوله في الصفحة السابقة: " فإن قال لنا قائل: فما أنت قائل فيما... ". (2) سورة النحل، الآية: 44. (*)
[ 61 ]
هو ما يسبق إليه أوهام أهل الغباء، من أنه لم يكن يفسر من القرآن إلا القليل من آيه، واليسير من حروفه، كان إنما أنزل إليه (صلى الله عليه وسلم) الذكر ليترك للناس بيان ما أنزل إليهم لا ليبين لهم ما أنزل إليهم. وفي أمر الله جل ثناؤه نبيه (صلى الله عليه وسلم) ببلاغ ما أنزل إليه، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم، وقيام الحجة على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد بلغ فأدى ما أمره الله ببلاغه وأدائه على ما أمر به، وصحة الخبر عن عبد الله بن مسعود لقيله: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن " ما ينبئ عن جهل من ظن أو توهم أن معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آيا تعد، هو أنه لم يكن يبين لامته من تأويله إلا اليسير القليل منه. هذا مع ما في الخبر الذي روي عن عائشة من العلة التي في إسناده، التي لا يجوز معها الاحتجاج به لاحد ممن علم صحيح سند الآثار وفاسدها في الدين، لان راويه ممن لا يعرف في أهل الآثار، وهو جعفر بن محمد الزبيدي. وأما الاخبار التي ذكرناها عنه من التابعيه بإحجامه عن التأويل، فإن فعل من فعل ذلك منهم كفعل من أحجم منهم عن الفتيا في النوازل وعلمه بأن الله في كل نازلة وحادثة حكما موجودا، بنص أو دلالة. فلم يكن إحجامه عن خائف أن لا يبلغ في اجتهاده ما كلف الله العلماء من عباده فيه. فكذلك معنى إحجام من أحجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من العلماء السلف، إنما كان إحجامه عنه حذار أن لا يبلغ أداء ما كلف من إصابة صواب القول فيه، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء الامة غير موجود بين أظهرهم. ذكر الاخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير ومن كان منهم مذموما علمه بذلك 84 - حدثنا محد بن بشار، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سليمان، عن مسلم، قال: قال عبد الله: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. * - وحدثني يحيى بن داود الواسطي، قال: حدثنا إسحاق الازرق، عن سفيان،
[ 62 ]
عن الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. * - وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: حدثنا الاعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بنحوه. 85 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا طلق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مليكة، قال: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه (1)، فيقول له ابن عباس: اكتب ! قال: حتى سأله عن التفسير كله. 86 - وحدثنا أبو كريب، قل: حدثنا المحاربي، ويونس بن بكير، قالا: حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. 87 - وحدثني عببدالله بن يوسف الجبيري، عن أبي بكر الحنفي، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبك به. 88 - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا سليمان بن أبو داود، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: لم يلق الضحاك ابن عباس، إنما لقي سعيد بن جبير بالري وأخذت عنه التفسير. 89 - وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن مشاش، قال: قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس شيئا ؟ قال: لا. 90 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا زكريا: قال: كان الشعبي يمر بأبي صالح باذان، فيأخذ بأذنه فيعركها، ويقول: تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن !. 91 - وحدثني عبيدالله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الاعمش، قال: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (والله يقضي بالحق) (2) قال: قادر على أن يجزي بالحسنة، وبالسيئة السيئة (وإن الله هو السميع البصير) (3). قال الحسين: فقلت للاعمش: حدثني بن الكلبي، إلا أنه (1) في الاصل " ومعه الواحد "، ولا معنى لها. والتصحيح من تفسير ابن كثير في تفسيره للآية. (2) سورة غافر، الآية: 20. (*)
[ 63 ]
قال: إن الله قادر أن يجزي بالسيئة السيئة وبالحسنة عشرا. فقال الاعمش: لو أن الذي عند الكلبي عندي ما خرج مني بحقير (1) ! ! 92 - وحدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا علي بن حكيم الاودي، قال: حدثنا عبد الله بن بكير، عن صالح بن مسلم، قال: مر الشعبي على السدي وهو يفسر، فقال: لان يضرب على استك بالطبل، خير لك من مجلسك هذا. 93 - وحدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثني علي بن حكيم، قال: حدثنا شريك، عن مسلم بن عبد الرحمن النخعي: قال: كنت مع إبراهيم، فرأى السدي: فقال: أما أنه يفسر تفسير القوم. 94 - حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت سعيد بن بشير، يقول عن قتادة، قال: ما أرى أحدا يجري مع الكلبي في التفسير في عنان (2). قال أبو جعفر: قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه تأويل القرآن، وأن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة: أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه: وهو الذي استأثر الله بعلمه وحجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقات ما كان من آجال الامور الحادثة التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك. والوجه الثاني: ما خص الله بعلم تأويله نبيه (صلى الله عليه وسلم) دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم تأويله. والثالث منها: ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، لا يوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم. فإذا كان ذلك كذلك، فأحق المفسرين بإصابة الحق في تأويل القرآن الذي علم تأويله للعباد السبيل، أوضحهم حجة فيما تأول وفسر، مما كان تأويله إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دون سائر أمته من أخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الثابة عنه، إما من وجه النقل المستفيض فيما وجد فيه من ذلك عنه النقل (1) سيأتي هذا الاثر في تفسير الآية 20 من سورة غافر، وفيه: " ما خرج مني إلا بحقير ". (2) أي لا يجاريه أحد. والعنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابة، وهو طاقان مستويان. ويقال: هما يجريان في عنان: إذا استويا في فضل أو غيره. (*)
[ 64 ]
المستفيض، إما من وجه نقل العدول الاثبات فيما لم يكن فيه عنه النقل المستفيض، أو من وجه الدلالة المنصوبة على صحته، وأوضحهم برهانا (1) فيما ترجم وبين من ذلك، مما كان مدركا علمه من وجهة اللسان: إما بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائنا من كان ذلك المتأول والمفسر، بعد أن لا يكون خارجا تأويله وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك عن أقوال السلف من الصحابة والائمة والخلف من التابعين وعلماء الامة. القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره سمى تنزيله الذي أنزله على نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) أسماء أربعة: منهن القرآن، فقال في تسميته إياه بذلك في تنزيله: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) (2) وقال: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) (3). ومنهن الفرقان، قال جل ثناؤه في وحيه إلى نبيه (صلى الله عليه وسلم) يسميه بذلك: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (4). ومنهن الكتاب، قال تبارك اسمه في تسميته إياه به: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) (5). ومنهن الكتاب، قال تعالى ذكره في تسميته إياه به: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (6). ولكل اسم من اسمائه الاربعة في كلام العرب معنى ووجه غير معنى الآخر ووجهه. فأما " القرآن "، فإن المفسرين اختلفوا في تأويله، الواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس: من التلاوة والقراءة، وأن يكون مصدرا، من قول القائل: قرأت القرآن، كقولك " الخسران " من " خسرت "، و " الغفران " من " غفر الله لك "، و " الكفران " من " كفرتك "، و " الفرقان " من " فرق الله بين الحق والباطل ". وذلك أن: (1) قول: " أوضحهم برهانا " معطوف على قوله: " وأوضحهم حجة ". (2) سورة يوسف، الآية: 3. (3) سورة النمل، الآية: 76. (4) سورة الفرقان، الآية: 1. (5) سورة الكهف، الآيتان: 1 و 2. (6) سورة الحجر، الآية: 9. (*)
[ 65 ]
95 - يحيى بن عثمان بن صالح السهمي. حدثني، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: (فإذا قرأناه) (1) يقول: بيناه، (فاتبع قرآنه) (1)، يقول: اعمل به. ومعنى قول ابن عباس هذا: فإذا بيناه بالقراءة، فاعمل بما بيناه لك بالقراءة. ومما يوضح صحة ما قلنا، في تأويل حديث ابن عباس هذا، ما: 96 - حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي: قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس: (إن علينا جمعه وقرآنه) (2) قال: أن نقرئك فلا تنسى، (فإذا قرأناه) (1) عليك (فاتبع قرآنه) (1) يقول: إذا تلي عليك فاتبع ما فيه. قال أبو جعفر: فقد صرح هذا الخبر عن ابن عباس أن معنى القرآن عنده القراءة، فإنه مصدر من قول القائل: قرأت، على ما قلناه. وأما على قول قتادة، فإن الواجب أن يكون مصدرا، من قول القائل: قرأت الشئ، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، كقولك: " ما قرأت هذه الناقة سلى (3) قط "، تريد بذلك أنها لم تضم رحما على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم التغلبي: تريك إذا دخلت على خلاء * وقد أمنت عيون الكاشحينا (9) ذراعي عيطل أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا (5) يعني بقوله: لم تقرأ جنينا: لم تضمم رحما على ولد. وذلك أن: 97 - بشر بن معاذ العقدي حدثنا، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، في قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه) (2) يقول: حفظه وتأليفه، (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (1) يقول: اتبع حلاله واجتنب حرامه. * - حدثنا محمد بن عبد الاعلى الصنعاني، قال حدثنا محمد بن ثور، قال: حدثنا معمر، عن قتادة، بمثله. فرأى قتادة أن تأويل القرآن: التأليف. (1) سورة القيامة، الآية: 18. (2) سورة القيامة، الآية: 17. (3) السلى: غشاء رقيق يحيط بالجنين ويخرج معه من بطن أمه. (4) الكاشح: العدو المضمر العداوة المعرض عنك بكشحه. على خلاء على غرة وهي خالية متبذلة. (5) العيطل: الطويل العنق، يقال امرأة عيطل: طويلة العنق في حسن منظر وسمن. والادماء: البيضاء مع سواد المقلتين. هجان اللون: بيضاء كريمة. (*)
[ 66 ]
قال أبو جعفر: ولكلا القولين، أعني قول ابن عباس وقول قتادة اللذين حكيناهما، وجه صحيح في كلام العرب. غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (1) قول ابن عباس، لان الله جل ثناؤه أمر نبيه في غير آية من تنزيله باتباع ما أوحى إليه، ولم يرخص له في ترك ابتاع شئ من أمره إلى وقت تأليفه القرآن. فكذلك قوله: في تنزيله. ولو وجب أن يكون معنى قوله: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (2): فإذا ألفناه فاتبع ما ألفنا لك فيه، لوجب أن لا يكون كان لزمه فرض: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (3) ولا فرض: (يا أيها المدثر قم فأنذر) (4) قبل أن يؤلف إلى ذلك غيره من القرآن. وذلك إن قاله قائل خروج من قول أهل الملة. وإذا صح أن حكم كل آية من آي القرآن كان لازما النبي (صلى الله عليه وسلم) اتباعه والعمل به، مؤلفة كانت إلى غيرها أو غير مؤلفة، صح ما قال ابن عباس في تأويل قوله: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) (2) أنه يعني به: فإذا بيناه لك بقراءتنا، فاتبع ما بيناه لك بقراءتنا. دون قول من قال معناه: فإذا ألفناه فاتبع ما ألفناه. وقد قيل: إن قول الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآن ا (5) يعني به قائله: تسبيحا وقراءة. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يسمى قرآنا بمعنى القراءة وإنما هو مقروء ؟ قيل كما جاز أن يسمى المكتوب كتابا، بمعنى كتاب الكاتب، كما قال الشاعر في صفته كتاب طلاق كتبه لامرأته: تؤمل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء (1) سورة القيامة، الآيتان: 17 و 18. (2) سورة القيامة، الآية: 18. (3) سورة القلم، الآية: 1. (4) سورة المدثر، الآيتان: 1 و 2. (5) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه (ص 244) من قصيدة يرثي بها عثمان بن عفان رضي الله عنه، أولها: من سره الموت صرفا لا مزاج له * فليأت مأسدة في دار عثمانا وقوله: " العنوان " هو الاثر الذي يظهر فتستدل به على الشي. (*)
[ 67 ]
يريد طلاقا مكتوبا، فجعل المكتوب كتابا. وأما تأويل اسمه الذي هو " فرقان " فإن تفسير أهل التفسير جاء في ذلك بألفاظ مختلفة، هي في المعاني مؤتلفة. فقال عكرمة، فيما: 98 - حدثنا به ابن حميد، قال حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن جابر، عن عكرمة أنه كان يقول: هو النجاة. وكذلك كان السدي يتأوله. 99 - حدثنا بذلك محمد بن الحسين، قال حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي. وهو قول جماعة غيرهما. وكان ابن عباس، يقول: " الفرقان ": المخرج. 100 - حدثني بذلك يحيى بن عثمان (1) بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وكذلك كان مجاهد يقول في تأويله. 101 - حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد. وكان مجاهد يقول في قول الله عز وجل: (يوم الفرقان) (2) يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل. 102 - حدثني بذلك محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثني أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن نجيح، عن مجاهد. فكل هذه التأويلات، في معنى " الفرقان " - على اختلاف ألفاظها - متقاربات المعاني، وذلك أن من جعل له مخرج من أمر كان فيه فقد جعل له ذلك المخرج منه نجاة، وكذلك إذا نجي منه، فقد نصر على من بغاه فيه سوءا، وفرق بينه وبين باغيه السوء. فجميع ما روينا عمن روينا عنه في معنى " الفرقان " قول صحيح المعنى، لاتفاق معاني ألفاظهم في ذلك. وأصل الفرقان عندنا: الفرق بين الشيئين والفصل بينهما، وقد يكون ذلك بقضاء واستنقاذ وإظهار حجة، ونصر، وغير ذلك من المعاني المفرقة بين المحق والمبطل. فقد (1) في نسخة: عمر بدل عثمان. (2) سورة الانفال، الآية: 41. (*)
[ 68 ]
تبين بذلك أن القرآن سمي فرقانا لفصله بحجته وأدلته وحدوده وفرائضه وسائر معاني حكمه، بين المحق والمبطل. وفرقانه بينهما: بنصره المحق وتخذيله المبطل، حكما وقضاء. وأما تأويل اسمه الذي هو " الكتاب "، فهو مصدر من قولك: كتبت كتابا، كما تقول: قمت قياما، وحسبت الشئ حسابا. والكتاب هو خط الكتاب حروف المعجم مجموعة ومتفرقة، وسمي كتاب، وإنما هو مكتوب، كما قال الشاعر في البيت الذي استشهدنا به:.......... وفيها * كتاب مثل ما لصق الغراء يعني مكتوبا. وأما تأويل اسمه الذي هو " الذكر "، فإنه محتمل معنيين: أحدهما أنه ذكر من الله جل ذكره، ذكر بن عباده، فعرفهم فيه حدوده وفرائضه وسائر ما أودعه من حكمه. والآخر: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدق بما فيه، كما قال جل ثناؤه: (وإنه لذكر لك ولقومك) (1) يعني به أنه شرف له ولقومه. ثم لسور القرآن أسماء سماها بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): 103 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا أبو العوام، وحدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: حدثنا داود بن الجراح، قال: حدثنا سعيد بن بشر جميعا عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الاسقع، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الانجيل المثاني وفضلت بالمفصل " (2). 104 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وأعطيت المئين مكان الانجيل، وفصلت بالمفصل " (3). (1) سورة الزخرف، الآية: 44. (2) رواه الامام أحمد في المسند (ج 6 حديث رقم 16979). (3) هذا الحديث مرسل. (*)
[ 69 ]
قال خالد: كانوا يسمون المفصل: العربي: قال خالد: قال بعضهم: ليس في العربي سجدة. 105 - وحدثنا محمد بن حميد، قال: حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن المسيب عن ابن مسعود، قال: الطول كالتوراة، والمئون (1) كالانجيل، والمثاني كالزبور، وسائر القرآن بعد فضل على الكتب. * - حدثني أبو عبيد الوصابي، قال: حدثنا محمد بن حفص، قال: أنبأنا أبو حميد، حدثنا الفزاري عن ليث بن أبي سليم، عن أبي بردة، عن أبي الميلح، عن واثلة بن الاسقع، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول، ومكان الانجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلني بالمفصل " (2). قال أبو جعفر: فالسبع الطول (3): البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والانعام، والاعراف، ويونس، وفي قول سعيد بن جبير. 106 - حدثني بذلك يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير. وقد روي عن ابن عباس، قول يدل على موافقته قول سعيد هذا، وذلك ما: 107 - حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، ويحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، وسهل بن يوسف، قالوا: حدثنا عوف، قال: حدثني يزيد الفارسي، قال: حدثني ابن عباس، قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الانفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولمن تكتبوا سطرا بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطول ؟ ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا ببعض من كان يكتب، فيقول: " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "، وكانت الانفال من أوئل ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم (1) كانت في الاصل: " والمئين " وهو مجاف للغة. والمئون: دون الطول وفوق المفصل والمثاني أقل من المئين. (ص). (2) انظر تخريجه في الحديث (104). (3) الطول: جمع الطولى. (*)
[ 70 ]
يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بيهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتهما في السبع الطول (1). فهذا الخبر ينبئ عن عثمان بن عفان رحمة الله عليه، أنه لم يكن تبين له أن الانفال وبراءة من السبع الطوال، ويصرح عن ابن عباس أنه لم يكن يرى ذلك منها. وإنما سميت هذه السور السبع الطول، لطولها على سائر سور القرآن. وإما " المئون "، فهي ما كان من سور القرآن عدد آية مائة آية، أو تزيد عليها شيئا أؤ تنقص منها يسيرا. وأما " المثاني ": فإنها ما ثنى المئين فتلاها، وكان المئون لها أوئل، وكان المثاني لها ثواني، وقد قيل: إن المثاني سميت مثاني، لتثنية (2) الله جل ذكره فيها الامثال والخبر والعبر، وهو قول ابن عباس. 108 - حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وروي عن سعيد بن جبير، أنه كان يقول: إنما سميت مثاني لانها ثنيت فيها الفرائض والحدود. 109 - حدثنا بذلك محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير. وقد قال جماعة يكثر تعدادهم: القرآن كله مثان. وقال جماعة أخرى: بل المثاني فاتحة الكتاب، لانها تثنى قراءتها في كل صلاة. وسنذكر أسماء قائلي ذلك وعللهم، والصواب من القول فيما اختلفوا فيه من ذلك إذا انتهينا إلى تأويل قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) (3) إن شاء الله ذلك. وبمثل ما جاءت به الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أسماء سور القرآن التي ذكرت، جاء شعر شعراء، فقال بعضهم: (1) رواه أبو داود في الصلاة، باب من جهر بها (أي البسملة). والترمذي في تفسير القرآن (تفسير سورة التوبة، باب 1). وأحمد في المسند (ج 1 حديث 399 و 499). (2) في نسخة لتبيين. (3) سورة الحجر، الآية: 87. (*)
[ 71 ]
حلفت بالسبع اللواتي طولت * وبمئين بعدها قد أمئيت (1) وبمثان ثنيت فكررت * وبالطواسين قد ثلثت (2) وبالحواميم اللواتي سبعت * وبالمفصل اللواتي فصلت (3) قال أبو جعفر رحمة الله عليه: وهذه الابيات تدل على صحة التأويل الذي تأولناه في هذه الاسماء. وأما " المفصل ": فإنها سميت مفصلا لكثرة الفصول التي بين سورها ب " بسم الله الرحمن الرحيم ". قال أبو جعفر: ثم تسمى كل سورة من القرآن سورة، وتجمع سورا، على تقدير خطبة وخطب، وغرفة وغرف. والسورة بغير همز: المنزلة من منزال الارتفاع. ومن ذلك سور المدينة، سمي بذلك الحائط الذي يحويها لارتفاعها على ما يحويه. غير أن السورة من سور المدينة لم يسمع في جميعها " سور "، كما في جمع سورة من القرآن " سور ". قال العجاج في جمع السورة من البناء: فرب ذي سرادق محجور * سرت إليه في أعالي السور (4) فخرج بتقدير جيمعها على تقدير جمع برة وبسرة، لان جمع ذلك " بر " و " بسر ". وكذلك لم يسمع في جميع سورة من القرآن سور، ولو جمعت كذلك لم يكن خطأ في القياس، إدا أريد به جميع القرآن. وإنما تركوا فيما يرى جمعه كذلك لان كل جمع كان بلفظ الواحد المذكور، مثل بر وشعير وقصب وما أشبه ذلك، فإن جماعه كالواحد من الاشياء غيره، ثم جعلت الواحدة منه كالقطعة من جميعه، فقيل " برة " و " شعيرة " و " قصبة "، يراد به قطعة منه. ولم تكن سور القرآن موجودة مجتمعة اجتماع البر والشعير وسور المدينة، بل كل سورة موجودة منفردة بنفسها انفراد كل غرفة من الغرف، وخطبة من الخطب، فجعل جميعها جمع الغرف والخطب، المبني جميعها من واحدها. ومن الدلالة على أن معنى السورة المنزلة من الارتفاع، قول نابغة بني ذبيان: (1) أمئيت: أكملت عدته حتى بلغت المئة. (2) يعني بالطواسين التي ثلثت: طلسم الشعراء، وطس النمل، وطسم القصص. (3) الحواميم التي سبعت: غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والاحقاف. (4) السرادق: ما يحيط بالشئ. ويشتمل عليه من مضرب أو خباء أو بناء. والمحجور: المحرم الممنوع وسرت (بضم السين): من قولهم: سار الحائط: إذا علاه وتسلقه. (*)
[ 72 ]
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب (1) يعنى بذلك: أن الله أعطاه منزلة من منازل الشرف التي قصرت عنها منازل الملوك. وقد همز بعضهم السورة من القرآن وتأويلها في لغة من همزها: القطعة التي قد أفضلت من القرآن عما سواها وأبقيت، وذلك أن سؤر كل شئ البقية منه تبقى بعد الذي يؤخذ منه، ولذلك سميت الفضلة من شراب الرجل يشربه ثم يفضلها فيبقيها في الاناء " سؤرا ". ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة يصف امرأة فارقته فأبقت في قلبه من وجدها بقية: فبانت وقد أسأرت في الفؤا * د صدعا على نأيها مستطيرا (2) وقال الاعشى في مثل ذلك: بانت وقد أسارت في النفس حاجتها * بعد ائتلاف وخير الود ما نفعا (3) وأما الآية من القرآن فإنها تحتمل وجهين في كلام العرب: أحدهما: أن تكون سميت آية لانها علامة يعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالة على الشئ يستدل بها عليه، كقول الشاعر: ألكني إليها عمرك الله يا فتى * بآية ما جاءت إلينا تهاديا (4) يعني بعلامة ذلك. ومنه قوله جل ذكره: (رنبا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك) (5) أي علامة منك لاجاتك دعاءنا وإعطائك إيانا سؤلنا. والآخر منهما: القصة، كما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى: ألا بلغا هذا المعرض آية * أيقظان قال القول إذ قال أم حلم يعني بقولخ آية: رسالة مني وخبرا عني. فيكون معنى الآيات: القصص، قصة تتلو قصة بفصول ووصول. (1) يتذبذب: يضطرب ويحتار. (2) استطار الشق أو الصدع في الحائط أو الزجاجة: ظهر وامتد. (3) الائتلاف: الالفة والاجتماع. (4) البيت سيأتي في هذا الجزء، ونسبه هناك لعبد بني الحسحاس. وقوله: " ألكني إليها " أي أبلغها رسالة مني، من الالوك والمألكة: وهي الرسالة. التهادي: المشي بتمايل. (5) سورة المائدة، الآية: 114. (*)
[ 73 ]
القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب قال أبو جعفر: صح الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بما: 110 - حدثني به يونس بن عبد الاعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي دئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني " (1). فهذه أسماء فاتحة الكتاب. وسميت فاتحة الكتاب، لانها يفتتح بكتابتها المصاحف ويقرأ بها في الصلوات، فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة. وسميت " أم القرآن "، لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخر ما سواها خلفها في القراءة والكتابة، وذلك من معناها شبيه بمعنى فاتحة الكتاب. وإنما قيل لها لكونها كذلك " أم القرآن " لتسمية العرب كل جامع أمرا، أو مقدما لامر، إذا كانت له توابع تتبعه، هو لها إمام جامع: " أما "، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ " أم الرأس "، وتسمى لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش: " أما ". ومن ذلك قول ذي الرمة يصف راية معقودة على قناة يجتمع تحتها هو وصحبه: وأسمر قوام إذا نام صحبتي * خفيف الثياب لا تواري له أزرا (2) على رأسه أم لنا نقتدي بها * جماع أمور لا نعاصي لها أمرا (3) إذا نزلت قيل انزلوا وإذا غدت * غدت ذات برزيق ننال بها فخرا (4) يعني بقوله " على رأسه أم لنا " أي على رأس الرمح راية يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدو. وقد قيل: إن مكة سميت " أم القرى " لتقدمها أماما جميعها، وجميعها ما سواها، وقيل (1) رواه أحمد في المسند (ج 3 حديث 9787) بلفظ: " قال في أم القرآن 6 هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم ". (2) أسمر: يعني رمحا أسمر القناة. قوام: يظل الليل قائما ساهرا. خفيف الثياب: يعني اللواء. الازر: الظهر. (3) أم: يعني اللواء، ويقال اللواء وما لف على الرمح منه: أم الرمح. جماع أمور: تجمعها فتجتمع عليها. (4) البرزيق: المركب الضخم فيه جماعات الناس. (*)
[ 74 ]
إنما سمت بذلك لان الارض دحيت منها، فصارت لجميعها أما. ومن ذلك قول حميد بن ثور الهلالي: إذا كانت الخمسون أمك لم يكن * لدائك إلا أن تموت طبيب لان الخمسين جامعة ما دونها من العدد، فسماها أما للذي قد بلغها. وأما تأويل اسمها أنها السبع، فإنها سبع آيات، لا خلاف بين الجميع من القرء والعلماء في ذلك. وإنما اختلفوا في الآي التي صارت بها سبع آيات. فقال أعظم أهل الكوفة: صارت سبع آيات ب " بسم الله الرحمن الرحيم "، وروي ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتابعين. وقال آخرون: هي سبع آيات، وليس منهن " بسم الله الرحمن الرحيم "، ولكن السابعة: (أنعمت عليهم). وذلك قول أعظم قراء أهل المدينة ومتفقهيهم. قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القول عندنا في ذلك في كتابنا: " اللطيف في أحكام شرائع الاسلام "، بوجيز من القول. وسنستقصي بيان ذلك بحكاية أقوال المختلفين فيه، من الصحابة والتابعين والمتقدمين والمتأخرين، في كتابنا الاكبر: " في أحكام شرائع الاسلام "، إن شاء الله ذلك. وأما وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) آياتها السبع بأنهن مثان، فلانها تثنى قراءتها في كل صلاة تطوع ومكتوبة، وكذلك كان الحسن البصري يتأول ذلك. 111 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن عن قوله: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (1) قال: هي فاتحة الكتاب. ثم سئل عنها وأنا أسمع، فقرأها: (الحمد لله رب العالمين) حتى أتى على آخرها، فقال: تثنى في كل قراءة، أو قال: في كل صلاة، الشك من أبي جعفر. والمعنى الذي قلنا في ذلك قصد أبو النجم العجلي بقوله: الحمد لله الذي عافاني * وكل خير بعده أعطاني (2) من القرآن والمثاني (1) سورة الحجر، الآية: 87. (2) رواية لسان العرب (مادة ثنى): " وكل خير صالح أعطاني ". (*)
[ 75 ]
وكذلك قول الراجز الآخر: نشدتكم بمنزل الفرقان * أم الكتاب السبع من مثاني تبين من آي من القرآن * والسبع سبع الطول الدواني (1) وليس في وجود اسم السبع المثاني لفاتحة الكتاب ما يدفع صحة وجود اسم المثاني للقرآن كله، ولما يثني من السور، لان لكل ذلك وجها ومعنى مفهوما لا يفسد بتسمية بعض ذلك بالمثاني تسمية غيره فيها. فأما وجه تسمية ما ثنى المئين من سور القرآن بالمثاني، فقد بينا صحته، وسندل على صحة وجه تسمية جميع القرآن به عند انتهائنا إليه في سورة الزمر إن شاء الله. القول في تأويل الاستعاذة تأويل قوله (أعوذ). قال أبو جعفر: والاستعاذة: الاستجارة، وتأويل قول القائل " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ": أستجير بالله غيره من سائر خلقه من الشيطان، أن يضرني في ديني، أو يصدني عن حق يلزمني لربي. تأويل قوله: (من الشيطان). قال أبو جعفر: والشيطان في كلام العرب، كل متمرد من الجن والانس والدواب وكل شئ. وكذلك قال ربنا جل ثناؤه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن) (2) فجعل من الانس شياطين مثل الذي جعل من الجن. وقال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه، وركب برذونا، فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا، فنزل عنه، وقال: " ما حملتموني إلا على شيطان ! ما نزلت عنه أنكرت نفسي ! ". 112 - حدثنا بذلك يونس بن عبد الاعلى قال: أنبأنا ابن وهب، قال: خبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر. قال أبو جعفر: وإنما سمي المتمرد من كل شئ شيطانا، لمفارقة أخلاقه وأفعاله (1) قوله: " تبين " كذا في الاصل، ولا معنى لها، ولعلها: " ثنين ". (2) سورة الانعام، الآية: 112.
[ 76 ]
أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده من الخير. وقد قيل إنه أخذ من قول القائل: شنطت داري من دارك، يريد بذلك بعدت. ومن ذلك قول النابغة بني ذبيان: نأت بسعاد عنك نوى شطون * فبانت والفؤاد بها رهين والنوى: الوجه الذي نوته وقصدته، والشطون: البعد. فكأن الشيطان على هذا التأويل: فيعال من " شطن ". ومما يدل على أن ذلك كذلك قول أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عكاه * ثم يلقى في السجن والاكبال (1) ولو كان " فعلان "، من شاط يشيط، لقال: أيما شائط، ولكنه قال: أيما شاطن، لانه من شطن يشطن فهو شاطن. تأويل قوله: (الرجيم). وأما الرجيم فهو فعيل بمعنى مفعول، كقول القائل: كف خضيب، لحية دهين، ورجل لعين، يريد بذلك: مخضوبة، ومدهونة، وملعون. وتأويل الرجيم: الملعون المشتوم. وكل مشتوم بقول ردئ أو سب فهو مرجوم. وأصل الرجم: الرمي بقول كان أو بفعل. ومن الرجم بالقول قول أبي إبراهيم لابراهيم صلوات الله عليه: (لئن لم تنته لارجمنك) (2). وقد يجوز أن يكون قيل الشيطان رجيم، لان الله جل ثناؤه طرده من سمواته ورجمه بالشهب الثواقب (3). وقد روي عن ابن عباس، أن أول ما نزل جبريل على النبي (صلى الله عليه وسلم)، علمه الاستعاذة. 113 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أول ما نزل جبريل على محمد، قال: يا محمد ! قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) (4) قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها الله على محمد بلسان جبريل. فأمره أن يتعوذ بالله دون خلقه. (1) عكا الشئ عكوا: شده، ويقال: عكا فلانا في الحديد. والاكبال: جيمع كبل، وهو القيد من حديد. (2) سورة مريم، الآية: 46. (3) الشهب الثواقب: المضيئة المشتعلة. (4) سورة العلق، الآية: 1. (*)
[ 77 ]
سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع * (بسم الله الرحمن الرحيم) * أ القول في تأويل بسم. قال أبو جعفر: إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدب نبيه محمدا (ص) بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدبه به من ذلك وعلمه إياه منه لجميع خلقه سنة يستنون بها، وسبيلا يتبعونه عليها، في افتتاح أوائل منطقهم وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل بسم الله، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء من بسم الله مقتضية فعلا يكون لها جالبا، ولا فعل معها ظاهر، فأغنت سامع القائل بسم الله معرفته بمراد قائله من إظهار قائل ذلك مراده قولا، إذ كان كل ناطق به عند افتتاحه أمرا قد أحضر منطقه به، إما معه وإما قبله بلا فصل، ما قد أغنى سامعه من دلالة شاهدة على الذي من أجله افتتح قيله به. فصار استغناء سامع ذلك منه عن إظهار ما حذف منه، نظير استغنائه إذا سمع قائلا قيل له: ما أكلت اليوم ؟ فقال: طعاما، عن أن يكرر المسؤول مع قوله طعاما أكلت لما قد ظهر لديه من الدلالة على أن ذلك معناه بتقدم مسألة السائل إياه عما أكل. فمعقول إذا أن قول القائل إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم افتتح تاليا سورة، أن إتباعه بسم الله الرحمن الرحيم تلاوة السورة، ينبئ عن معنى قوله: بسم الله الرحمن الرحيم ومفهوم به أنه مريد بذلك أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكذلك قوله: بسم الله عند نهوضه للقيام أو عند قعوده وسائر أفعاله، ينبئ عن معنى مراده بقوله بسم الله، وأنه أراد بقيله بسم الله: أقوم بسم الله، وأقعد بسم الله وكذلك سائر الافعال.
[ 78 ]
وهذا الذي قلنا في تأويل ذلك، هو معنى قول ابن عباس، الذي: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: إن أول ما نزل به جبريل على محمد، قال: يا محمد، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم قال: قال له جبريل: قل بسم الله يا محمد. يقول: اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإن كان تأويل قوله بسم الله ما وصفت، والجالب الباء في بسم الله ما ذكرت، فكيف قيل بسم الله، بمعنى اقرأ بسم الله، أو أقوم أو أقعد بسم الله ؟ وقد علمت أن كل قارئ كتاب الله، فبعون الله وتوفيقه قراءته، وأن كل قائم أو قاعد أو فاعل فعلا، فبالله قيامه وقعوده وفعله ؟ وهلا إذا كان ذلك كذلك، قيل: بالله الرحمن الرحيم، ولم يقل بسم الله فإن قول القائل: أقوم وأقعد بالله الرحمن الرحيم، أو أقرأ بالله، أوضح معنى لسامعه من قوله بسم الله، إذ كان قوله أقوم وأقعد بسم الله، يوهم سامعه أن قيامه وقعوده بمعنى غير الله. قيل له: إن المقصود إليه من معنى ذلك، غير ما توهمته في نفسك. وإنما معنى قوله بسم الله: أبدأ بتسمية الله وذكره قبل كل شئ، أو أقرأ بتسمية الله، أو أقوم وأقعد بتسمية الله وذكره لا أنه يعني بقيله بسم الله: أقوم بالله، أو أقرأ بالله فيكون قول القائل: أقرأ بالله، أو أقوم وأقعد بالله، أولى بوجه الصواب في ذلك من قوله بسم الله. فإن قال: فإن كان الامر في ذلك على ما وصفت، فكيف قيل بسم الله وقد علمت أن الاسم اسم، وأن التسمية مصدر من قولك سميت ؟. قيل: إن العرب قد تخرج المصادر مبهمة على أسماء مختلفة، كقولهم: أكرمت فلانا كرامة، وإنما بناء مصدر أفعلت إذا أخرج على فعله: الافعال، وكقولهم: أهنت فلانا هوانا، وكلمته كلاما. وبناء مصدر فعلت التفعيل، ومن ذلك قول الشاعر: أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا يريد: إعطائك. ومنه قول الآخر: وإن كان هذا البخل منك سجية لقد كنت في طولي رجاءك أشعبا
[ 79 ]
يريد: في إطالتي رجاءك. ومنه قول الآخر: أظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم يريد إصابتكم. والشواهد في هذا المعنى تكثر، وفيما ذكرنا كفاية، لمن وفق لفهمه. فإذا كان الامر على ما وصفنا من إخراج العرب مصادر الافعال على غير بناء أفعالها كثيرا، وكان تصديرها إياها على مخارج الاسماء موجودا فاشيا، تبين بذلك صواب ما قلنا من التأويل في قول القائل: بسم الله، أن معناه في ذلك عند ابتدائه في فعل أو قول: أبدأ بتسمية الله، قبل فعلي، أو قبل قولي. وكذلك معنى قول القائل عند ابتدائه بتلاوة القرآن: بسم الله الرحمن الرحيم إنما معناه: أقرأ مبتدئا بتسمية الله، أو أبتدئ قراءتي بتسمية الله فجعل الاسم مكان التسمية، كما جعل الكلام مكان التكليم، والعطاء مكان الاعطاء. وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك، روي الخبر عن عبد الله بن عباس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: أول ما نزل جبريل على محمد (ص)، قال: يا محمد، قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن عباس: بسم الله، يقول له جبريل: يا محمد اقرأ بذكر الله ربك، وقم واقعد بذكر الله. وهذا التأويل من ابن عباس ينبئ عن صحة ما قلنا من أنه يراد بقول القائل مفتتحا قراءته: بسم الله الرحمن الرحيم: أقرأ بتسمية الله وذكره، وافتتح القراءة بتسمية الله، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى وفساد قول من زعم أن معنى ذلك من قائله: بالله الرحمن الرحيم في كل شئ، مع أن العباد إنما أمروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورهم بتسمية الله لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمروا به من التسمية على الذبائح والصيد، وعند المطعم والمشرب، وسائر أفعالهم، وكذلك الذي أمروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله وصدور رسائلهم وكتبهم.
[ 80 ]
ولا خلاف بين الجميع من علماء الامة، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الانعام: بالله، ولم يقل بسم الله، أنه مخالف بتركه قيل بسم الله ما سن له عند التذكية من القول. وقد علم بذلك أنه لم يرد بقوله بسم الله، بالله كما قال الزاعم أن اسم الله في قول الله: بسم الله الرحمن الرحيم، هو الله لان ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحته بالله قائلا ما سن له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أن قائل ذلك تارك ما سن له من القول على ذبيحته، إذا لم يقل بسم الله، دليل واضح على فساد ما ادعى من التأويل في قول القائل بسم الله أنه مراد به بالله، وأن اسم الله هو الله. وليس هذا الموضع من مواضع الاكثار في الابانة عن الاسم، أهو المسمى أم غيره أم هو صفة له ؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الابانة عن الاسم المضاف إلى الله، أهو اسم أم مصدر بمعنى التسمية ؟ فإن قال قائل: فما أنت قائل في بيت لبيد بن ربيعة: إلى الحول ثم اسم السلام عليكماومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر فقد تأوله مقدم في العلم بلغة العرب، أنه معني به: ثم السلام عليكما، وأن اسم السلام هو السلام. قيل له: لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأول، لجاز أن يقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم الطعام، وشربت اسم الشراب. وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأول قول لبيد: ثم اسم السلام عليكما، أنه أراد: ثم السلام عليكما، وادعائه أن ادخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز، إذ كان اسم المسمى هو المسمى بعينه. ويسأل القائلون قول من حكينا قوله هذا، فيقال لهم: أتستجيزون في العربية أن يقال أكلت اسم العسل، يعني بذلك أكلت العسل، كما جاز عندكم اسم السلام عليك، وأنتم تريدون السلام عليك ؟ فإن قالوا: نعم خرجوا من لسان العرب، وأجازوا في لغتها ما تخطئه جميع العرب في لغتها. وإن قالوا لا سئلوا الفرق بينهما، فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
[ 81 ]
فإن قال لنا قائل: فما معنى قول لبيد هذا عندك ؟ قيل له: يحتمل ذلك وجهين، كلاهما غير الذي قاله من حكينا قوله. أحدهما: أن السلام اسم من أسماء الله فجائز أن يكون لبيد عنى بقوله: ثم اسم السلام عليكما: ثم الزما اسم الله وذكره بعد ذلك، ودعا ذكري والبكاء علي على وجه الاغراء. فرفع الاسم، إذا وأخر الحرف الذي يأتي بمعنى الاغراء. وقد تفعل العرب ذلك إذا أخرت الاغراء وقدمت المغرى به، وإن كانت قد تنصب به وهو مؤخر. ومن ذلك قول الشاعر: يا أيها المائح دلوي دونكاإني رأيت الناس يحمدونكا فأغرى ب دونك وهي مؤخرة وإنما معناه: دونك دلوي. فكذلك قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما يعني: عليكما اسم السلام، أي: الزما ذكر الله، ودعا ذكري والوجد بي لان من بكى حولا على امرئ ميت فقد اعتذر. فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر منهما: ثم تسميتي الله عليكما، كما يقول القائل للشئ يراه فيعجبه: اسم الله عليك يعوذه بذلك من السوء، فكأنه قال: ثم اسم الله عليكما من السوء. وكأن الوجه الاول أشبه المعنيين بقول لبيد. ويقال لمن وجه بيت لبيد هذا إلى أن معناه: ثم السلام عليكما: أترى ما قلنا من هذين الوجهين جائزا، أو أحدهما، أو غير ما قلت فيه ؟ فإن قال: لا أبان مقداره من العلم بتصاريف وجوه كلام العرب، وأغنى خصمه عن مناظرته. وإن قال: بلى قيل له: فما برهانك على صحة ما ادعيت من التأويل أنه الصواب دون الذي ذكرت أنه محتمله من الوجه الذي يلزمنا تسليمه لك ؟ ولا سبيل إلى ذلك. وأما الخبر الذي: حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء بن الضحاك، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب بسم فقال له عيسى:
[ 82 ]
وما بسم ؟ فقال له المعلم: ما أدري فقال عيسى: الباء: بهاء الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته. فأخشى أن يكون غلطا من المحدث، وأن يكون أراد: ب س م، على سبيل ما يعلم المبتدى من الصبيان في الكتاب حروف أبي جاد. فغلط بذلك، فوصله فقال: بسم لانه لا معنى لهذا التأويل إذا تلي بسم الله الرحمن الرحيم على ما يتلوه القارئ في كتاب الله، لاستحالة معناه عن المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها، إذا حمل تأويله على ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * * (الله) *. قال أبو جعفر: وأما تأويل قول الله: الله، فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس: هو الذي يألهه كل شئ، ويعبده كل خلق. وذلك أن أبا كريب: حدثنا قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الله ذو الالوهية والمعبودية على خلقه أجمعين. فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في فعل ويفعل أصل كان منه بناء هذا الاسم ؟ قيل: أما سماعا من العرب فلا، ولكن استدلالا. فإن قال: وما دل على أن الالوهية هي العبادة، وأن الاله هو المعبود، وأن له أصلا في فعل ويفعل ؟ قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلا بعبادة ويطلب مما عند الله جل ذكره: تأله فلان بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المدة سبحن واسترجعن من تألهي يعني من تعبدي وطلبي الله بعمل. ولا شك أن التأله التفعل من: أله يأله، وأن معنى أله إذا نطق به: عبد الله. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه ب فعل يفعل بغير زيادة. وذلك ما:
[ 83 ]
حدثنا به سفيان بن وكيع، قال حدثنا أبي، عن نافع بن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قرأ: ويذرك وإلاهتك قال: عبادتك، ويقال: إنه كان يعبد ولا يعبد. وحدثنا سفيان، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: ويذرك وإلاهتك قال: إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد. وكذلك كان عبد الله يقرؤها ومجاهد. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (ويذرك وإلاهتك) قال: وعبادتك. ولا شك أن الالاهة على ما فسره ابن عباس ومجاهد، مصدر من قول القائل أله الله فلان إلاهة، كما يقال: عبد الله فلان عبادة، وعبر الرؤيا عبارة. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا أن أله: عبد، وأن الالاهة مصدره. فإن قال: فإن كان جائزا أن يقال لمن عبد الله: ألهه، على تأويل قول ابن عباس ومجاهد، فكيف الواجب في ذلك أن يقال، إذا أراد المخبر الخبر عن استحباب الله ذلك على عبده ؟ قيل: أما الرواية فلا رواية عندنا، ولكن الواجب على قياس ما جاء به الخبر عن رسول الله (ص)، الذي: حدثنا به إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (ص): إن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب الله، فقال له عيسى: أتدري ما الله ؟ الله إله الآلهة. أن يقال: الله جل جلاله أله العبد، والعبد ألهه. وأن يكون قول القائل الله من كلام العرب أصله الاله. فإن قال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك مع اختلاف لفظيهما ؟ قيل: كما جاز أن
[ 84 ]
يكون قوله: لكن هو الله ربي أصله: لكن أنا هو الله ربي كما قال الشاعر: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي يريد: لكن أنا إياك لا أقلي فحذف الهمزة من أنا، فالتقت نون أنا ونون لكن وهي ساكنة، فأدغمت في نون أنا، فصارتا نونا مشددة، فكذلك الله، أصله الاله، أسقطت الهمزة، التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة التي دخلت مع الالف الزائدة، وهي ساكنة، فأدغمت في الاخرى التي هي عين الاسم، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة، كما وصفنا من قول الله: لكن هو الله ربي. القول في تأويل قوله تعالى: الرحمن الرحيم. قال أبو جعفر: أما الرحمن، فهو فعلان، من رحم، والرحيم فعيل منه. والعرب كثيرا ما تبنى الاسماء من فعل يفعل على فعلان، كقولهم من غضب غضبان، ومن سكر سكران، ومن عطش عطشان، فكذلك قولهم رحمن من رحم، لان فعل منه: رحم يرحم. وقيل رحيم وإن كانت عين فعل منها مكسورة، لانه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الاسماء إذا كان فيها مدح أو ذم على فعيل، وإن كانت عين فعل منها مكسورة أو مفتوحة، كما قالوا من علم: عالم وعليم، ومن قدر: قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها لان البناء من فعل يفعل وفعل يفعل فاعل. فلو كان الرحمن والرحيم خارجين على بناء أفعالهما لكانت صورتهما الراحم. فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجه تكرير ذلك وأحدهما مؤد عن معنى الآخر ؟ قيل له: ليس الامر في ذلك على ما ظننت، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الاخرى منهما عنها. فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الاخرى ؟ قيل: أما من جهة العربية، فلا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب أن قول القائل الرحمن عن أبنية الاسماء من فعل يفعل أشد عدولا من قوله الرحيم. ولا خلاف مع ذلك بينهم أن كل اسم كان له أصل في فعل ويفعل، ثم كان عن أصله من فعل ويفعل أشد عدولا، أن الموصوف به مفضل على
[ 85 ]
الموصوف بالاسم المبني على أصله من فعل ويفعل إذا كانت التسمية به مدحا أو ذما. فهذا ما في قول القائل الرحمن من زيادة المعنى على قوله: الرحيم في اللغة. وأما من جهة الاثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف. فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: الرحمن الرحيم قال: الرحمن بجميع الخلق. الرحيم قال: بالمؤمنين. وحدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، ومسعر بن كدام، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد يعني الخدري قال: قال رسول الله (ص): إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم: رحيم الآخرة. فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو رحمن، وتسميته باسمه الذي هو رحيم. واختلاف معنى الكلمتين، وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدل أحدهما على أن ذلك في الدنيا، ودل الآخر على أنه في الآخرة. فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة ؟ قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيهما أولى بالصحة. وذلك أن المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميع خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعض خلقه، إما في كل الاحوال، وإما في بعض الاحوال. فلا شك إذا كان ذلك كذلك، أن ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعا. فإذا كان صحيحا ما قلنا من ذلك وكان الله جل ثناؤه قد خص عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم في توفيقه إياهم لطاعته، والايمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه مما خذل عنه من أشرك به فكفر، وخالف ما أمره به وركب معاصيه، وكان مع ذلك قد جعل جل ثناؤه ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين لمن آمن به وصدق رسله وعمل بطاعته خالصا دون من أشرك وكفر به كان بينا
[ 86 ]
أن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمهم به والكفار في الدنيا، من الافضال والاحسان إلى جميعهم، في البسط في الرزق، وتسخير السحاب بالغيث، وإخراج النبات من الارض، وصحة الاجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون. فربنا جل ثناؤه رحمن جميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيم المؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة. فأما الذي عم جميعهم به في الدنيا من رحمته، فكان رحمانا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لاحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *. وأما في الآخرة، فالذي عم جميعهم به فيها من رحمته. فكان لهم رحمانا. تسويته بين جميعهم جل ذكره في عدله وقضائه، فلا يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، وتوفى كل نفس ما كسبت. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعهم برحمته الذي كان به رحمانا في الآخرة. وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال جل ذكره: وكان بالمؤمنين رحيما فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصهم به دون من خذله من أهل الكفر به. وأما ما خصهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين. فما وصفنا آنفا مما أعد لهم دون غيرهم من النعيم والكرامة التي تقصر عنها الاماني. وأما القول الآخر في تأويله، فهو ما: حدثنا به أبو كريب. قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب. قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه. وكذلك أسماؤه كلها. وهذا التأويل من ابن عباس، يدل على أن الذي به ربنا رحمن هو الذي به رحيم، وإن كان لقوله الرحمن من المعنى ما ليس لقوله الرحيم لانه جعل معنى الرحمن بمعنى الرقيق على من رق عليه، ومعنى الرحيم بمعنى الرفيق بمن رفق به. والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي (ص) وذكرناه عن العرزمي، أشبه بتأويله
[ 87 ]
من هذا القول الذي روينا عن ابن عباس وإن كان هذا القول موافقا معناه معنى ذلك، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم، وأن للرحيم تأويلا غير تأويل الرحمن. والقول الثالث في تأويل ذلك، ما: حدثني به عمران بن بكار الكلاعي، قال: حدثنا يحيى بن صالح، قال: حدثنا أبو الازهر نصر بن عمرو اللخمي من أهل فلسطين، قال: سمعت عطاء الخراساني، يقول: كان الرحمن، فلما اختزل الرحمن من اسمه كان الرحمن الرحيم. والذي أراد إن شاء الله عطاء بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمى بها أحد من خلقه، فلما تسمى به الكذاب مسيلمة وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه أخبر الله جل ثناؤه أن اسمه الرحمن الرحيم، ليفصل بذلك لعباده اسمه من اسم من قد تسمى بأسمائه، إذ كان لا يسمى أحد الرحمن الرحيم فيجمع له هذان الاسمان غيره جل ذكره وإنما تسمى بعض خلقه إما رحيما، أو يتسمى رحمن، فأما رحمن رحيم، فلم يجتمعا قط لاحد سواه، ولا يجمعان لاحد غيره. فكأن معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فصل بتكرير الرحيم على الرحمن بين اسمه واسم غيره من خلقه، اختلف معناهما أو اتفقا. والذي قال عطاء من ذلك غير فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جل ثناؤه خص نفسه بالتسمية بهما معا مجتمعين إبانة لها من خلقه، ليعرف عباده بذكرهما مجموعين أنه المقصود بذكرهما دون من سواه من خلقه، مع ما في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما. وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي (ص): وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا إنكارا منهم لهذا الاسم. كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قول الله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه يعني محمدا كما يعرفون أبناءهم وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبوته جاحدون. فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
[ 88 ]
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها وقال سلامة بن جندل الطهوي: عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشاء الرحمن يعقد ويطلق وقد زعم أيضا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لاقوال السلف من أهل التفسير، أن الرحمن مجازه ذو الرحمة، والرحيم مجازه الراحم. ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظ والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك، فقالوا: ندمان ونديم. ثم استشهد بقول برج بن مسهر الطائي: وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت وقد تغورت النجوم واستشهد بأبيات نظائر له في النديم والندمان. ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل، لقوله: الرحمن ذو الرحمة، والرحيم: الراحم. وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيهما على صحته. ثم مثل ذلك باللفظين يأتيان بمعنى واحد، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الالفاظ. ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثبت أن له الرحمة وصح أنها له صفة، وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم، أو قد رحم فانقضى ذلك منه، أو هو فيه. ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة، كالدلالة على أنها له صفة إذا وصفه بأنه ذو الرحمة. فأين معنى الرحمن الرحيم على تأويله من معنى الكلمتين يأتيان مقدرتين من لفظ واحد باختلاف الالفاظ واتفاق المعاني ؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه كان واضح عواره. وإن قال لنا قائل: ولم قدم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن، واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم ؟ قيل: لان من شأن العرب إذا أرادوا الخبر عن مخبر عنه أن يقدموا اسمه، ثم يتبعوه صفاته ونعوته. وهذا هو الواجب في الحكم: أن يكون الاسم مقدما قبل نعته وصفته، ليعلم السامع الخبر عمن الخبر فإذا كان ذلك كذلك، وكان لله جل ذكره أسماء قد حرم على خلقه أن يتسموا بها خص بها نفسه دونهم، ذلك مثل الله، والرحمن والخالق
[ 89 ]
وأسماء أباح لهم أن يسمي بعضهم بعضا بها، وذلك كالرحيم، والسميع، والبصير، والكريم، وما أشبه ذلك من الاسماء كان الواجب أن يقدم أسماءه التي هي له خاصة دون جميع خلقه، ليعرف السامع ذلك من توجه إليه الحمد والتمجيد ثم يتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره، بعد علم المخاطب أو السامع من توجه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو الله لان الالوهية ليست لغيره جل ثناؤه بوجه من الوجوه، لا من جهة التسمي به، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينا أن معنى الله هو المعبود، ولا معبود غيره جل جلاله، وأن التسمي به قد حرمه الله جل ثناؤه، وإن قصد المتسمي به ما يقصد المتسمي بسعيد وهو شقي، وبحسن وهو قبيح. أو لا ترى أن الله جل جلاله قال في غير آية من كتابه: (أإله مع الله) فاستكبر ذلك من المقر به، وقال تعالى في خصوصية نفسه بالله وبالرحمن: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الاسماء الحسنى) * ثم ثنى باسمه، الذي هو الرحمن، إذ كان قد منع أيضا خلقه التسمي به، وإن كان من خلقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه وذلك أنه قد يجوز وصف كثير ممن هو دون الله من خلقه ببعض صفات الرحمة، وغير جائز أن يستحق بعض الالوهية أحد دونه فلذلك جاء الرحمن ثانيا لاسمه الذي هو الله. وأما اسمه الذي هو الرحيم فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره، فكان إذ كان الامر على ما وصفنا، واقعا مواقع نعوت الاسماء اللواتي هن توابعها بعد تقدم الاسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو الله على اسمه الذي هو الرحمن، واسمه الذي هو الرحمن على اسمه الذي هو الرحيم. وقد كان الحسن البصري يقول في الرحمن مثل ما قلنا، أنه من أسماء الله التي منع التسمي بها لعباده. حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن عوف، عن الحسن، قال: الرحمن اسم ممنوع. مع أن في إجماع الامة من منع التسمي به جميع الناس ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.
[ 90 ]
القول في تأويل فاتحة الكتاب: * (الحمد لله رب العالمين) * قال أبو جعفر: معنى: الحمد لله: الشكر خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لاداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الاسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا. وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه: الحمد لله جاء الخبر عن ابن عباس وغيره: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد: الحمد لله. قال ابن عباس: الحمد لله: هو الشكر، والاستخذاء لله، والاقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك. وحدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيب، عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال النبي (ص): إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله فزادك. قال: وقد قيل إن قول القائل: الحمد لله ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحسنى، وقوله: الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه. وقد روي عن كعب الاحبار أنه قال: الحمد لله ثناء على الله. ولم يبين في الرواية عنه من أي معنى الثناء الذي ذكرنا ذلك. حدثنا يونس بن عبد الاعلى الصدفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثني
[ 91 ]
عمر بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أخبرني السلولي، عن كعب قال: من قال: الحمد لله فذلك ثناء على الله. وحدثني علي بن الحسن الخراز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القرقساني، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الاسود بن سريع، أن النبي (ص) قال: ليس شئ أحب إليه الحمد من الله تعالى، ولذلك أثنى على نفسه فقال: الحمد لله. قال أبو جعفر: ولا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل: الحمد لله شكرا بالصحة. فقد تبين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا، أن الحمد لله قد ينطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد، لان ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال الحمد لله شكرا، فيخرج من قول القائل الحمد لله مصدر أشكر، لان الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد، كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه. فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الالف واللام في الحمد ؟ وهلا قيل: حمدا لله رب العالمين قيل: إن لدخول الالف واللام في الحمد معنى لا يؤديه قول القائل حمدا، بإسقاط الالف واللام وذلك أن دخولهما في الحمد منبئ على أن معناه: جميع المحامد والشكر الكامل لله. ولو أسقطتا منه لما دل إلا على أن حمد قائل ذلك لله، دون المحامد كلها. إذ كان معنى قول القائل: حمدا لله أو حمد الله: أحمد الله حمدا، وليس التأويل في قول القائل: الحمد لله رب العالمين تاليا سورة أم القرآن أحمد الله، بل التأويل في ذلك ما وصفنا قبل من أن جميع المحامد لله بألوهيته وإنعامه على خلقه، بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كف ء لها في الدين والدنيا والعاجل والآجل. ولذلك من المعنى، تتابعت قراءة القراء وعلماء الامة على رفع الحمد من: الحمد لله رب العالمين دون نصبها، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك: أحمد الله حمدا. ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب، لكان عندي محيلا معناه ومستحقا العقوبة على قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك وهو عالم بخطئه وفساد تأويله.
[ 92 ]
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: الحمد لله ؟ أحمد الله نفسه جل ثناؤه فأثنى عليها، ثم علمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه ؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا: إياك نعبد وإياك نستعين وهو عز ذكره معبود لا عابد ؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمد رسول الله (ص) ؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما. قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل، ثم علم ذلك عباده وفرض عليهم تلاوته، اختبارا منه لهم وابتلاء، فقال لهم: قولوا الحمد لله رب العالمين وقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين فقوله: إياك نعبد، مما علمهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه. وذلك موصول بقوله الحمد لله رب العالمين، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا. فإن قال: وأين قوله: قولوا فيكون تأويل ذلك ما ادعيت ؟ قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة ولم تشك أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت، حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت قولا أو تأويل قول، كما قال الشاعر: واعلم أنني سأكون رمساإذا سار النواعج لا يسير فقال السائلون لمن حفرتم فقال المخبرون لهم وزير قال أبو جعفر: يريد بذلك: فقال المخبرون لهم: الميت وزير، فأسقط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما يدل على ذلك. وكذلك قول الآخر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا وقد علم أن الرمح لا يتقلد، وأنه إنما أراد: وحاملا رمحا. ولكن لما كان معلوما معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودعوه: مصاحبا معافى، يحذفون سرواخرج إذ كان معلوما معناه وإن أسقط ذكره. فكذلك ما حذف من قول الله تعالى ذكره: الحمد لله رب العالمين لما علم بقوله عز وجل: إياك نعبد ما أراد بقوله: الحمد لله رب العالمين من معنى أمره عباده، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حذف.
[ 93 ]
وقد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تنزيل قول الله: الحمد لله رب العالمين عن ابن عباس، وأنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: الحمد لله رب العالمين. وبينا أن جبريل إنما علم محمدا (ص) ما أمر بتعليمه إياه. وهذا الخبر ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (رب) *. قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو الله في بسم الله، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع. وأما تأويل قوله رب، فإن الرب في كلام العرب متصرف على معان: فالسيد المطاع فيها يدعى ربا، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة: وأهلكن يوما رب كندة وابنه ورب معبين خبت وعرعر يعني رب كندة: سيد كندة. ومنه قول نابغة بني ذبيان: تخب إلى النعمان حتى تناله فدى لك من رب طريفي وتالدي والرجل المصلح للشئ يدعى ربا. ومنه قول الفرزدق بن غالب: كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت سلاها في أديم غير مربوب يعني بذلك في أديم غير مصلح. ومن ذلك قيل: إن فلانا يرب صنيعته عند فلان، إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها. ومن ذلك قول علقمة بن عبدة: فكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني فضعت ربوب يعني بقوله أفضت إليك: أي وصلت إليك ربابتي، فصرت أنت الذي ترب أمري
[ 94 ]
فتصلحه لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك علي، فضيعوا أمري وتركوا تفقده. وهم الربوب واحدهم رب والمالك للشئ يدعى ربه. وقد يتصرف أيضا معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة. فربنا جل ثناؤه، السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والامر. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه رب العالمين جاءت الرواية عن ابن عباس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: يا محمد قل الحمد لله رب العالمين. قال ابن عباس: يقول قل الحمد لله الذي له الخلق كله، السموات كلهن ومن فيهن، والارضون كلهن ومن فيهن وما بينهن، مما يعلم ومما لا يعلم. يقول: اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شئ. القول في تأويل قوله تعالى: * (العالمين) *. قاله أبو جعفر: والعالمون جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه، كالانام والرهط والجيش ونحو ذلك من الاسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه. والعالم اسم لاصناف الامم، وكل صنف منها عالم، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان، فالانس عالم وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان. والجن عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منها عالم زمانه. ولذلك جمع فقيل عالمون، وواحده جمع لكون عالم كل زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج: فخندف هامة هذا العالم فجعلهم عالم زمانه. وهذا القول الذي قلناه قول ابن عباس وسعيبن جبير، وهو معنى قول عامة المفسرين. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة،
[ 95 ]
قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس: * (الحمد لله رب العالمين) * الحمد لله الذي له الخلق كله، السموات والارض ومن فيهن وما بينهن، مما يعلم ولا يعلم. وحدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: رب العالمين: الجن والانس. وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قول الله عز وجل: رب العالمين: قال: رب الجن والانس. وحدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قوله: * (رب العالمين) * قال: الجن والانس. وحدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثني ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قوله: رب العالمين قال: ابن آدم، والجن والانس كل أمة منهم عالم على حدته. وحدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: الحمد لله رب العالمين قال: الانس والجن. وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: بمثله. وحدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: رب العالمين قال: كل صنف: عالم. وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: * (رب العالمين) * قال: الانس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعة عشر ألف عالم هو يشك من الملائكة على الارض، وللارض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم، خلقهم لعبادته. وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا
[ 96 ]
حجاح، عن ابن جريج، في قوله: رب العالمين قال: الجن والانس. القول في تأويل قوله تعالى: * (الرحمن الرحيم) * قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل قوله الرحمن الرحيم، في تأويل بسم الله الرحمن الرحيم، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. ولم يحتج إلى الابانة عن وجه تكرير الله ذلك في هذا الموضع، إذ كنا لا نرى أن بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب آية، فيكون علينا لسائل مسألة بأن يقول: ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع، وقد مضى وصف الله عز وجل به نفسه في قوله بسم الله الرحمن الرحيم، مع قرب مكان إحدى الآيتين من الآخرى ومجاورتها لصاحبتها ؟ بل ذلك لنا حجة على خطأ دعوى من ادعى أن بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب آية، إذ لو كان ذلك كذلك لكان ذلك إعادة آية بمعنى واحد ولفظ واحد مرتين من غير فصل يفصل بينهما. وغير موجود في شئ من كتاب الله آيتان متجاورتان مكررتان بلفظ واحد ومعنى واحد، لا فصل بينهما من كلام يخالف معناه معناهما، وإنما يأتي بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة، مع فصول تفصل بين ذلك، وكلام يعترض به بغير معنى الآيات المكررات أو غير ألفاظها، ولا فاصل بين قول الله تبارك وتعالى اسمه الرحمن الرحيم من بسم الله الرحمن الرحيم، وقول الله: الرحمن الرحيم، من الحمد لله رب العالمين. فإن قال قائل: فإن الحمد لله رب العالمين فاصل بين ذلك. قيل: قد أنكر ذلك جماعة من أهل التأويل، وقالوا: إن ذلك من الموخر الذي معناه التقديم، وإنما هو: الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين ملك يوم الدين. واستشهدوا على صحة ما ادعوا من ذلك بقوله: ملك يوم الدين فقالوا: إن قوله: ملك يوم الدين تعليم من الله عبده أن يصفه بالملك في قراءة من قرأ ملك، وبالملك في قراءة من قرأ مالك. قالوا: فالذي هو أولى أن يكون محاور وصفه بالملك أو الملك ما كان نظير ذلك من الوصف، وذلك هو قوله رب العالمين، الذي هو خبر عن ملكه جميع أجناس الخلق، وأن يكون مجاور وصفه بالعظمة والالوهة ما كان له نظيرا في المعنى من الثناء عليه، وذلك قوله: الرحمن الرحيم. فزعموا أن ذلك لهم دليل على أن قوله الرحمن الرحيم بمعنى التقديم قبل رب العالمين، وإن كان في الظاهر مؤخرا. وقالوا: في نظائر ذلك من التقديم
[ 97 ]
الذي هو بمعنى التأخير والمؤخر الذي هو بمعنى التقديم في كلام العرب أفشى وفي منطقها أكثر من أن يحصى، من ذلك قول جرير بن عطية: طاف الخيال وأين منك لماما فارجع لزورك بالسلام سلاما بمعنى طاف الخيال لماما وأين هو منك. وكما قال جل ثناؤه في كتابه: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) * المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم قيما يجعل له عوجا، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهد على صحة قول من أنكر أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب آية. القول في تأويل قوله تعالى: * (ملك يوم الدين) * قال أبو جعفر: القراء مختلفون في تلاوة ملك يوم الدين، فبعضهم يتلوه: ملك يوم الدين، وبعضهم يتلوه: مالك يوم الدين وبعضهم يتلوه: مالك يوم الدين بنصف الكاف. وقد استقصينا حكاية الرواية عمن روي عنه في ذلك قراءة في كتاب القراءات، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه، والعلة الموجبة صحة ما اخترنا من القراءة فيه، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع، إذ كان الذي قصدنا له في كتابنا هذا البيان عن وجوه تأويل آي القرآن دون وجوه قراءتها. ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب، أن الملك من الملك مشتق، وأن المالك من الملك مأخوذ. فتأويل قراءة من قرأ ذلك: مالك يوم الدين أن لله الملك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكا جبابرة ينازعونه الملك ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية. فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الاذلة، وأن له دونهم ودون غيرهم الملك والكبرياء والعزة والبهاء، كما قال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله: يوم هم بارزون لا يخفى
[ 98 ]
على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار فأخبر تعالى أنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار، ومن دنياهم في المعاد إلى خسار. وأما تأويل قراءة من قرأ: مالك يوم الدين، فما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: مالك يوم الدين يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا. ثم قال: لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، وقال: وخشعت الاصوات للرحمن، وقال: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية وأصح القراءتين في التلاوة عندي التأويل الاول وهي قراءة من قرأ ملك بمعنى الملك لان في الاقرار له بالانفراد بالملك إيجابا لانفراده بالملك وفضيلة زيادة الملك على المالك، إذ كان معلوما أن لا ملك إلا وهو مالك، وقد يكون المالك لا ملكا. وبعد: فإن الله جل ذكره قد أخبر عباده في الآية التي قبل قوله: ملك يوم الدين أنه مالك جميع العالمين وسيدهم، ومصلحهم والناظر لهم، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة بقوله: * (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) *. فإذا كان جل ذكره قد أنبأهم عن ملكه إياهم كذلك بقوله: * (رب العالمين) * فأولى الصفات من صفاته جل ذكره، أن يتبع ذلك ما لم يحوه قوله: رب العالمين الرحمن الرحيم مع قرب ما بين الآيتين من المواصلة والمجاورة، إذ كانت حكمته الحكمة التي لا تشبهها حكمة. وكان في إعادة وصفه جل ذكره بأنه مالك يوم الدين، إعادة ما قد مضى من وصفه به في قوله: رب العالمين مع تقارب الآيتين وتجاور الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرار ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كرر منه فائد به إليها حاجة. والذي لم يحوه من صفاته جل ذكره ما قبل قوله: مالك يوم الدين المعنى الذي في قوله: ملك يوم
[ 99 ]
الدين، وهو وصفه بأنه الملك. فبين إذا أن أولى القراءتين بالصواب وأحق التأويلين بالكتاب: قراءة من قرأه: ملك يوم الدين، بمعنى إخلاص الملك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ: مالك يوم الدين بمعنى: أنه يملك الحكم بينهم وفصل القضاء متفردا به دون سائر خلقه. فإن ظن ظان أن قوله: رب العالمين نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة يوجب وصله بالنبأ عن نفسه أنه قد ملكهم في الآخرة على نحو ملكه إياهم في الدنيا بقوله: مالك يوم الدين، فقد أغفل وظن خطأ وذلك أنه لو جاز لظان أن يظن أن قوله: رب العالمين محصور معناه على الخبر عن ربوبية عالم الدنيا دون عالم الآخرة مع عدم الدلالة على أن معنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل، أو في خبر عن الرسول (ص) به منقول، أو بحجة موجودة في المعقول، لجاز لآخر أن يظن أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله: رب العالمين دون سائر ما يحدث بعده في الازمنة الحادثة من العالمين، إذ كان صحيحا بما قد قدمنا من البيان أن عالم كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده. فإن غبي عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا ذو غباء، فإن في قول الله جل ثناؤه: * (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين) * دلالة واضحة على أن عالم كل زمان غير عالم الزمان الذي كان قبله وعالم الزمان الذي بعده. إذ كان الله جل ثناؤه قد فضل أمة نبينا محمد (ص) على سائر الامم الخالية، وأخبرهم بذلك في قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية. فمعلوم بذلك أن بني إسرائيل في عصر نبينا، لم يكونوا مع تكذيبهم به (ص) أفضل العالمين، بل كان أفضل العالمين في ذلك العصر وبعده إلى قيام الساعة، المؤمنون به المتبعون منهاجه، دون من سواهم من الامم المكذبة الضالة عن منهاجه. فإذ كان بينا فساد تأويل متأول لو تأول قوله: رب العالمين أنه معني به: أن الله رب عالمي زمن نبينا محمد (ص) دون عالمي سائر الازمنة غيره، كان واضحا فساد قول من زعم أن تأويله: رب عالم الدنيا دون عالم الآخرة، وأن مالك يوم الدين استحق الوصل به ليعلم أنه في الآخرة من ملكهم وربوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا. ويسأل زاعم ذلك الفرق بينه وبين متحكم مثله في تأويل قوله: رب العالمين تحكم، فقال:
[ 100 ]
إنه إنما عني بذلك أنه رب عالمي زمان محمد دون عالمي غيره من الازمان الماضية قبله والحادثة بعده، كالذي زعم قائل هذا القول إنه عنى به عالم الدنيا دون عالم الآخرة من دلالة. فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. وأما الزاعم أن تأويل قوله: مالك يوم الدين أنه الذي يملك إقامة يوم الدين، فإن الذي ألزمنا قائل هذا القول الذي قبله له لازم، إذ كانت إقامة القيامة إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك في الدار التي أعد الله لهم فيها ما أعد. وهم العالمون الذين قد أخبر جل ذكره عنهم أنه ربهم في قوله: رب العالمين. وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ: مالك يوم الدين فإنه أراد: يا مالك يوم الدين، فنصبه بنية النداء والدعاء، كما قال جل ثناؤه: * (يوسف أعرض عن هذا) * بتأويل: يا يوسف أعرض عن هذا. وكما قال الشاعر من بني أسد، وهو شعر فيما يقال جاهلي: إن كنت أزننتني بها كذباجزء، فلاقيت مثلها عجلا يريد: يا جزء. وكما قال الآخر: كذبتم وبيت الله لا تنكحونها بني شاب قرناها تصر وتحلب يريد: يا بني شاب قرناها. وإنما أورطه في قراءة ذلك بنصب الكاف من مالك على المعنى الذي وصفت حيرته في توجيه قوله: إياك نعبد وإياك نستعين وجهته مع جره: مالك يوم الدين وخفضه، فظن أنه لا يصح معنى ذلك بعد جره: مالك يوم الدين فنصب: مالك يوم الدين ليكون إياك نعبد له خطابا، كأنه أراد: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين. ولو كان علم تأويل أول السورة وأن الحمد لله رب العالمين، أمر من الله عبده بقيل ذلك كما ذكرنا قبل من الخبر عن ابن عباس: أن جبريل قال للنبي (ص)، عن الله: قل
[ 101 ]
يا محمد: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وقل أيضا يا محمد: إياك نعبد وإياك نستعين وكان عقل عن العرب أن من شأنها إذا حكت أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب، كقولهم للرجل: قد قلت لاخيك: لو قمت لقمت، وقد قلت لاخيك: لو قام لقمت لسهل عليه مخرج ما استصعب عليه وجهته من جر: مالك يوم الدين ومن نظير مالك يوم الدين مجرورا، ثم عوده إلى الخطاب ب إياك نعبد لما ذكرنا قبل، البيت السائر من شعر أبي كبير الهذلي: يا لهف نفسي كان جلدة خالد وبياض وجهك للتراب الاعفر فرجع إلى الخطاب بقوله: وبياض وجهك، بعد ما قد قضى الخبر عن خالد على معنى الخبر عن الغائب. ومنه قول لبيد بن ربيعة: باتت تشكي إلي النفس مجهشة وقد حملتك سبعا بعد سبعينا فرجع إلى مخاطبة نفسه، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب. ومنه قول الله وهو أصدق قيل وأثبت حجة: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) * فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب، ولم يقل: وجرين بكم. والشواهد من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه. فقراءة: مالك يوم الدين محظورة غير جائزة، لاجماع جميع الحجة من القراء وعلماء الامة على رفض القراءة بها. القول في تأويل قوله تعالى: * (يوم الدين) *. قال أبو جعفر: والدين في هذا الموضع بتأويل الحساب والمجازاة بالاعمال، كما قال كعب بن جعيل: إذا ما رمونا رميناهم ودناهم مثل ما يقرضونا
[ 102 ]
وكما قال الآخر: واعلم وأيقن أن ملكك زائل واعلم بأنك ما تدين تدان يعني ما تجزي تجازى. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: * (كلا بل تكذبون بالدين) * يعني بالجزاء وإن عليكم لحافظين يحصون ما تعملون من الاعمال.) * وقوله تعالى: * (فلولا إن كنتم غير مدينين) * يعني غير مجزيين بأعمالكم ولا محاسبين. وللدين معان في كلام العرب غير معنى الحساب والجزاء سنذكرها في أماكنها إن شاء الله. وبما قلنا في تأويل قوله: يوم الدين جاءت الآثار عن السلف من المفسرين، مع تصحيح الشواهد لتأويلهم الذي تأولوه في ذلك. حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: يوم الدين قال: يوم حساب الخلائق هو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، إلا من عفا عنه، فالامر أمره. ثم قال: ألا له الخلق والامر. وحدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، قال: حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): ملك يوم الدين: هو يوم الحساب.
[ 103 ]
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: مالك يوم الدين قال: يوم يدين الله العباد بأعمالهم. وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: مالك يوم الدين قال: يوم يدان الناس بالحساب. القول في تأويل قوله تعالى: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * قال أبو جعفر: وتأويل قوله: إياك نعبد: لك اللهم نخشع، ونذل، ونستكين، إقرارا لك يا ربنا بالربوبية لا لغيرك. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد (ص): قل يا محمد: إياك نعبد، إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك. وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا، وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نخشع، ونذل، ونستكين، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونخاف، وإن كان الرجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة لان العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمي الطريق المذلل الذي قد وطئته الاقدام وذللته السابلة: معبدا. ومن ذلك قول طرفة بن العبد: تباري عتاقا ناجيات وأتبعت وظيفا وظيفا فوق مور معبد يعني بالمور: الطريق، وبالمعبد: المذلل الموطوء. ومن ذلك قيل للبعير المذلل بالركوب في الحوائج: معبد، ومنه سمي العبد عبدا لذلته لمولاه. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على ذلك أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى: وإياك نستعين.
[ 104 ]
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: وإياك نستعين وإياك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها لا أحدا سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين في أموره معبوده الذي يعبده من الاوثان دونك، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة. كالذي: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثني بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس: وإياك نستعين قال: إياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها. فإن قال قائل: وما معنى أمر الله عباده بأن يسألوه المعونة على طاعته ؟ أو جائز وقد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم عليها ؟ أم هل يقول قائل لربه: إياك نستعين على طاعتك، إلا وهو على قوله ذلك معان، وذلك هو الطاعة، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه ؟ قيل: إن تأويل ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه وإنما الداعي ربه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه، داع أن يعينه فيما بقي من عمره على ما كلفه من طاعته، دون ما قد تقضى ومضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره. وجازت مسألة العبد ربه ذلك لان إعطاء الله عبده ذلك مع تمكينه جوارحه لاداء ما كلفه من طاعته وافترض عليه من فرائضه، فضل منه جل ثناؤه تفضل به عليه، ولطف منه لطف له فيه وليس في تركه التفضل على بعض عبيده بالتوفيق مع اشتغال عبده بمعصيته وانصرافه عن محبته، ولا في بسطه فضله على بعضهم مع إجهاد العبد نفسه في محبته ومسارعته إلى طاعته، فساد في تدبير ولا جور في حكم، فيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله، وأمره عبده بمسألته عونه على طاعته. وفي أمر الله جل ثناؤه عباده أن يقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين بمعنى مسألتهم إياه المعونة على العبادة أدل الدليل على فساد قول القائلين بالتفويض من أهل القدر، الذين أحلوا أن يأمر الله أحدا من عبيده بأمر أو يكلفه فرض عمل إلا بعد إعطائه المعونة على فعله وعلى تركه. ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا لبطلت الرغبة إلى الله في المعونة على طاعته، إذ كان على قولهم مع وجود الامر والنهي والتكليف حقا واجبا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه، سأله عبده ذلك أو ترك مسألة ذلك بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور. ولو كان الامر في ذلك على ما قالوا، لكن القائل: إياك نعبد وإياك نستعين إنما
[ 105 ]
يسأل ربه أن لا يجور. وفي إجماع أهل الاسلام جميعا على تصويب قول القائل: اللهم إنا نستعينك وتخطئتهم قول القائل: اللهم لا تجر علينا، دليل واضح على خطأ ما قال الذين وصفت قولهم، إذ كان تأويل قول القائل عندهم: اللهم إنا نستعينك، اللهم لا تترك معونتنا التي تركها جور منك. فإن قال قائل: وكيف قيل: إياك نعبد وإياك نستعين فقدم الخبر عن العبادة، وأخرت مسألة المعونة عليها بعدها ؟ وإنما تكون العبادة بالمعونة، فمسألة المعونة كانت أحق بالتقديم قبل المعان عليه من العمل والعبادة بها. قيل: لما كان معلوما أن العبادة لا سبيل للعبد إليها إلا بمعونة من الله جل ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبد عابدا إلا وهو على العبادة معان، وأن يكون معانا عليها إلا وهو لها فاعل كان سواء تقديم ما قدم منهما على صاحبه، كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إليك في قضائها: قضيت حاجتي فأحسنت إلي، فقدمت ذكر قضائه حاجتك. أو قلت: أحسنت إلي فقضيت حاجتي، فقدمت ذكر الاحسان على ذكر قضاء الحاجة لانه لا يكون قاضيا حاجتك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنا إليك إلا وهو لحاجتك قاض. فكذلك سواء قول القائل: اللهم إنا إياك نعبد فأعنا على عبادتك، وقوله: اللهم أعنا على عبادتك فإنا إياك نعبد. قال أبو جعفر: وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، كما قال امرؤ القيس: ولو أن ما أسعى لادنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال يريد بذلك: كفاني قليل من المال ولم أطلب كثيرا. وذلك من معنى التقديم والتأخير، ومن مشابهة بيت امرئ القيس بمعزل من أجل أنه قد يكفيه القليل من المال ويطلب الكثير، فليس وجود ما يكفيه منه بموجب له ترك طلب الكثير. فيكون نظير العبادة التي بوجودها وجود المعونة عليها، وبوجود المعونة عليها وجودها، ويكون ذكر أحدهما دالا على الآخر، فيعتدل في صحة الكلام تقديم ما قدم منهما قبل صاحبه أن يكون موضوعا في درجته ومرتبا في مرتبته. فإن قال: فما وجه تكراره: إياك مع قوله: نستعين وقد تقدم ذلك قبل نعبد ؟ وهلا قيل: إياك نعبد ونستعين، إذ كان المخبر عنه أنه المعبود هو المخبر عنه أنه المستعان ؟ قيل له: إن الكاف التي مع إيا، هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل، أعني بقوله: نعبد لو كانت مؤخرة بعد الفعل. وهي كناية اسم المخاطب المنصوب بالفعل، فكثرت ب إيا متقدمة، إذ كانت الاسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون في
[ 106 ]
كلام العرب على حرف واحد، فلما كانت الكاف من إياك هي كناية اسم المخاطب التي كانت تكون كافا وحدها متصلة بالفعل إذا كانت بعد الفعل، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به، فيقال: اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونحمدك ونشكرك وكان ذلك أفصح في كلام العرب من أن يقال: اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد كان كذلك إذا قدمت كناية اسم المخاطب قبل الفعل موصولة ب إيا، كان الافصح إعادتها مع كل فعل. كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع كل فعل، إذا كانت بعد الفعل متصلة به، وإن كان ترك إعادتها جائزا. وقد ظن بعض من لم يمعن النظر أن إعادة إياك مع نستعين بعد تقدمها في قوله: إياك نعبد بمعنى قول عدي بن زيد العبادي: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا وكقول أعشى همدان: بين الاشج وبين قيس باذخ بخ بخ لوالده وللمولود وذلك جهل من قائله من أجل أن حظ إياك أن تكون مكررة مع كل فعل لما وصفنا آنفا من العلة، وليس ذلك حكم بين لانها لا تكون إذا اقتضت اثنين إلا تكريرا إذا أعيدت، إذ كانت لا تنفرد بالواحد. وأنها لو أفردت بأحد الاسمين في حال اقتضائها اثنين كان الكلام كالمستحيل وذلك أن قائلا لو قال: الشمس قد فصلت بين النهار، لكان من الكلام خلفا لنقصان الكلام عما به الحاجة إليه من تمامه الذي يقتضيه بين. ولو قال القائل: اللهم إياك نعبد لكان ذلك كلاما تاما. فكان معلوما بذلك أن حاجة كل كلمة كانت نظيرة إياك نعبد إلى إياك كحاجة نعبد إليها، وأن الصواب أن تكرر معها إياك، إذ كانت كل كلمة منها جملة خبر مبتدأ، وبينا حكم مخالفة ذلك حكم بين فيما وفق بينهما الذي وصفنا قوله. القول في تأويل قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) *
[ 107 ]
قال أبو جعفر: ومعنى قوله: اهدنا الصراط المستقيم في هذا الموضع عندنا: وفقنا للثبات عليه، كما روي ذلك عن ابن عباس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبوروق، عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم، يقول: ألهمنا الطريق الهادي. وإلهامه إياه ذلك هو توفيقه له كالذي قلنا في تأويله. ومعناه نظير معنى قوله: إياك نستعين في أنه مسألة العبد ربه التوفيق للثبات على العمل بطاعته، وإصابة الحق والصواب فيما أمره به، ونهاه عنه فيما يستقبل من عمره دون ما قد مضى من أعماله وتقضى فيما سلف من عمره، كما في قوله: إياك نستعين مسألة منه ربه المعونة على أداء ما قد كلفه من طاعته فيما بقي من عمره. فكان معنى الكلام: اللهم إياك نعبد وحدك لا شريك لك، مخلصين لك العبادة دون ما سواك من الآلهة والاوثان، فأعنا على عبادتك، ووفقنا لما وفقت له من أنعمت عليه من أنبيائك وأهل طاعتك من السبيل والمنهاج. فإن قال قائل: وأني وجدت الهداية في كلام العرب بمعنى التوفيق ؟ قيل له: ذلك في كلامها أكثر وأظهر من أن يحصى عدد ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد، فمن ذلك قول الشاعر: لا تحرمني هداك الله مسألتي ولا أكونن كمن أودى به السفر يعني به: وفقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر: ولا تعجلني هداك المليك فإن لكل مقام مقالا فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لاصابة الحق في أمري. ومنه قول الله جل ثناؤه: والله لا يهدي القوم الظالمين في غير آية من تنزيله. وقد علم بذلك أنه لم يعن أنه لا يبين للظالمين الواجب عليهم من فرائضه. وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه، وقد عم بالبيان جميع المكلفين من خلقه ؟ ولكنه عنى عزوجل، أنه لا يوفقهم، ولا يشرح للحق والايمان صدورهم. وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله: اهدنا زدنا هداية. وليس يخلو هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكون قائله قد ظن أن النبي (ص) أمر بمسألة ربه الزيادة في البيان، أو الزيادة في المعونة والتوفيق. فإن كان ظن أنه أمر بمسألة الزيادة في البيان فذلك ما لا وجه
[ 108 ]
له لان الله جل ثناؤه لا يكلف عبدا فرضا من فرائضه إلا بعد تبيينه له وإقامة الحجة عليه به. ولو كان معنى ذلك معنى مسألته البيان، لكان قد أمر أن يدعو ربه أن يبين له ما فرض عليه، وذلك من الدعاء خلف لانه لا يفرض فرضا إلا مبينا لمن فرضه عليه، أو يكون أمر أن يدعو ربه أن يفرض عليه الفرائض التي لم يفرضها. وفي فساد وجه مسألة العبد ربه ذلك ما يوضح عن أن معنى: اهدنا الصراط المستقيم غير معنى بين لنا فرائضك وحدودك، أو يكون ظن أنه أمر بمسألة ربه الزيادة في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك، فلن تخلو مسألته تلك الزيادة من أن تكون مسألة للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله، أو على ما يحدث. وفي ارتفاع حاجة العبد إلى المعونة على ما قد تقضى من عمله ما يعلم أن معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألته الزيادة لما يحدث من عمله. وإذا كان ذلك كذلك صار الامر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك من أنه مسألة العبد ربه التوفيق لاداء ما كلف من فرائضه فيما يستقبل من عمره. وفي صحة ذلك فساد قول أهل القدر الزاعمين أن كل مأمور بأمر أو مكلف فرضا، فقد أعطي من المعونة عليه ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجته إلى ربه لانه لو كان الامر على ما قالوا في ذلك لبطل معنى قول الله جل ثناؤه: إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم وفي صحة معنى ذلك على ما بينا فساد قولهم. وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: اهدنا الصراط المستقيم: أسلكنا طريق الجنة في المعاد، أي قدمنا له وامض بنا إليه، كما قال جل ثناؤه: فاهدوهم إلى صراط الجحيم أي أدخلوهم النار كما تهدى المرأة إلى زوجها، يعني بذلك أنها تدخل إليه، وكما تهدى الهدية إلى الرجل، وكما تهدي الساق القدم نظير قول طرفة بن العبد: لعبت بعدي السيول به وجرى في رونق رهمه
[ 109 ]
لفتى عقل يعيش به حيث تهدي ساقه قدمه أي ترد به الموارد. وفي قول الله جل ثناؤه: إياك نعبد وإياك نستعين ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل مع شهادة الحجة من المفسرين على تخطئته وذلك أن جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمعون على أن معنى الصراط في هذا الموضع غير المعنى الذي تأوله قائل هذا القول، وأن قوله: إياك نستعين مسألة العبد ربه المعونة على عبادته، فكذلك قوله اهدنا، إنما هو مسألة الثبات على الهدى فيما بقي من عمره. والعرب تقول: هديت فلانا الطريق، وهديته للطريق، وهديته إلى الطريق: إذا أرشدته إليه وسددته له. وبكل ذلك جاء القرآن، قال الله جل ثناؤه: وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وقال في موضع آخر: اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وقال: اهدنا الصراط المستقيم وكل ذلك فاش في منطقها موجود في كلامها، من ذلك قول الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل يريد: أستغفر الله لذنب، كما قال جل ثناؤه: واستغفر لذنبك ومنه قول نابغة بني ذبيان: فيصيدنا العير المدل بحضره قبل الونى والاشعب النباحا يريد: فيصيد لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم، وفيما ذكرنا منه كفاية. القول في تأويل قوله تعالى: الصراط المستقيم. قال أبو جعفر: أجمعت الامة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:
[ 110 ]
أمير المؤمنين على صراطإذا اعوج الموارد مستقيم يريد على طريق الحق. ومنه قول الهذلي أبي ذؤيب: صبحنا أرضهم بالخيل حتى تركناها أدق من الصراط ومنه قول الراجز: فصد عن نهج الصراط القاصد والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا غنى عما تركنا. ثم تستعير العرب الصراط فتستعلمه في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوج باعوجاجه. والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي، أعني: اهدنا الصراط المستقيم أن يكونا معنيا به: وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قول وعمل. وذلك هو الصراط المستقيم، لان من وفق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء، فقد وفق للاسلام، وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمر الله به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهج النبي (ص)، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وكل عبد لله صالح. وكل ذلك من الصراط المستقيم. وقد اختلفت تراجمة القرآن في المعنى بالصراط المستقيم، يشمل معاني جميعهم في ذلك ما اخترنا من التأويل فيه. ومما قالته في ذلك، ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي (ص) أنه قال وذكر القرآن فقال: هو الصراط المستقيم. حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا حسين الجعفي،
[ 111 ]
عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث، عن الحار ث، عن علي، عن النبي (ص). وحدثنا عن إسماعيل بن أبي كريمة، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي سنان عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن الحارث، عن علي، عن النبي (ص) مثله. وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الاعور، عن الحارث، عن علي، قال: الصراط المستقيم كتاب الله تعالى. حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان ح. وحدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن منصور عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: الصراط المستقيم كتاب الله. حدثني محمود بن خداش الطالقاني، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، قال: حدثنا علي والحسن ابنا صالح جميعا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله. اهدنا الصراط المستقيم قال: الاسلام، قال: هو أوسع مما بين السماء والارض. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبوروق عن الضحاك، عن عبد الله بن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: قل يا محمد: اهدنا الصراط المستقيم، يقول ألهمنا الطريق الهادي وهو دين الله الذي لا عوج له. وحدثنا موسى بن سهل الرازي، قال: حدثنا يحيى بن عوف، عن الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قوله: اهدنا الصراط المستقيم قال: ذلك الاسلام.
[ 112 ]
وحدثني محمود بن خداش، قال: حدثنا محمد بن ربيعة الكلابي، عن إسماعيل الازرق، عن أبي عمر البزار، عن ابن الحنفية في قوله: اهدنا الصراط المستقيم قال: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره. وحدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة القناد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي (ص): اهدنا الصراط المستقيم قال: هو الاسلام. وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس في قوله: اهدنا الصراط المستقيم قال: الطريق. حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآملي، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا حمزة بن أبي المغيرة، عن عاصم، عن أبي العالية في قوله: اهدنا الصراط المستقيم قال: هو رسول الله (ص) وصاحباه من بعده: أبو بكر وعمر. قال: فذكرت ذلك للحسن، فقال: صدق أبو العالية ونصح. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم: اهدنا الصراط المستقيم قال: الاسلام. حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، أن عبد الرحمن بن جبير، حدثه عن أبيه، عن نواس بن سمعان الانصاري، عن رسول الله (ص) قال: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما. والصراط: الاسلام. حدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا الليث عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه عن نواس بن سمعان الانصاري، عن النبي (ص) بمثله. قال أبو جعفر: وإنما وصفه الله بالاستقامة، لانه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء أنه سماه مستقيما لاستقامته بأهله إلى الجنة، وذلك تأويل لتأويل جميع أهل
[ 113 ]
التفسير خلاف، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه. القول في تأويل قوله تعالى: (صرط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)). وقوله: (صراط الذين أنعمت عليهم) إبانة عن الصراط المستقيم أي الصراط هو، إذ كان كل طريق من طرق الحق صراطا مستقيما، فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، بطاعتك وعبادتك من ملائكتك، وأنبيائك، والصديقين، والشهداء، والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا جل ثناؤه في تنزيله: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لاتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراط مستقيما ومن يطع الله والرسول فأولئك بمع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (1). قال أبو جعفر: فالذي أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته أن يسألوه ربهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته. وذلك الطريق هو طريق الذي وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سلكه فاستقام فيه طائعا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد. وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس وغيره. 158 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (صراط الذين أنعمت عليهم) يقول: طريق من أنعمت عليم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك. 159 - وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عن ربيع: (صراط الذين أنعمت عليهم) قال: النبيون. 160 - وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (أنعمت عليهم) قال: المؤمنين. (1) سورة النساء، الايات: 66 - 69. (*)
[ 114 ]
161 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع (أنعمت عليهم): المسلمين. 162 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله: (صراط الذين أنعمت عليهم) قال: النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. قال أبو جعفر: وفي هذه الاية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم وتوفيقه إياهم لها. أولا يسمعونه يقول: (صراط الذين أنعمت عليهم) فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم ؟ فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر، وقد علمت أن قول القائل لاخر: أنعمت عليك، مقتضى الخبر عما أنعم به عليه، فأين ذلك الخبر في قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم) وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم ؟ قيل له: قد قدمنا البيان فيما مضى من كتابنا هذا عن اجتزاء العرب في منقطها ببعض من بعض إذا كان البعض الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيا منه، فقوله: (صراط الذين أنعمت عليهم) من ذلك، لان أمر الله جل ثناؤه عباده بمسألته المعونة وطلبهم منه الهداية للصراط المستقيم لما كان متقدما قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم) الذي هو إبانة عن الصراط المستقيم، وإبدال منه، كان معلوما أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمرنا بمسألته الهداية لطريقهم هو المنهاج القويم والصراط المستقيم الذي قد قدمنا البيان عن تأويله آنفا، فكان ظاهر ما ظهر من ذلك مع قرب تجاور الكلمتين مغنيا عن تكراره كما قال نابغة بني ذبيان: كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن (1) يريد كأنك من جمال بني أقيس جمل يقعقع خلف رجليه بشن، فاكتفى بما ظهر من ذكر الجمال الدال على المحذوف من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب: ترى أرباقهم متقلديها إذا صدئ الحديد على الكماة (2) يريد: متقلديها هم، فحذف " هم " إذ كان الظاهر من قوله: " أرباقهم " دالا عليها. (1) أقيش: حي من اليمن في إبلهم نفار، ويقال هم حي من الجن. والقعقعة: أن يحرك الشئ نيتقعقع فيسمع له صوت. والشن: الجلد اليابس. (2) سيأتي في تفسير الاية 4 من سورة الشعراء. الارباق: جمع ربق، والربق جمع ربقة: وهو الحبل تشد به الغنم الصغار لئلا ترضع. الكماة: جمع كمي، وهو البطل الشديد البأس.
[ 115 ]
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى، فكذلك ذلك في قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم). القول في تأويل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم). قال أبو جعفر: والقراء مجمعة على قراءة " غير " بجر الراء منها. والخفض يأتيها بمن وجهين: أحدهما أن يكون غير صفة للذين ونعتا لهم فتخفضها، إذ كان " الذين " خفضا وهي لهم نعمت وصفة، وإنما جاز أن يكون " غير " نعتا ل " الذين "، و " الذين " معرفة وغير نكرة، لان " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالاسماء التي هي أمارات بين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك، وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك، فما كان " الذين " في أنه معرفة غير مؤقتة كما " الذين " معرفة غير مؤقتة، جاز من أجل ذلك أن يكون: (غير المغضوب عليهم) نعتا ل (الذين أنعمت عليهم) كما يقال: لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل، يراد: لا أجحلس إلا إلى من يعلم، لا إلى من جيهل. ولو كان (الذين أنعمت عليهم) معرفة مؤقتة كان غير جائز أن يكون (غير المغضوب عليهم) لها نعتا، وذلك أنه خطأ في كلام العرب إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعت بها. خطأ في كلامهم أن يقال: مررت بعد الله غير العالم، فتخفض " غير " إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله، فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مررت بعبد الله، مررت بغير العالم. فهذا أحد وجهي الخفض في: (غير المغضوب عليهم). والوجه الاخر من وجهي الخفض فيها أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وجه إلى ذلك، كانت غير مخفوضة بنية تكرير الصراط الذي خفض الذين عليها، فكأنك قلت: صراط الذين أنعمت عليهم صراط غير المغضوب عليهم. وهذان التأويلان في غير المغضوب عليهم، وإن اختلفا باختلاف معربيهما، فإنهما يتقلب معناهما، من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق فقد سلم من غضب ربه ونجا من الضلال في دينه، إذ كان سامع قوله: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) غير جائز أن يرتاب مع سماعه من تاليه في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط، غير غاضب ربهم عليهم مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم، ولا أن يكونوا ضلالا وقد هداهم للحق ربهم، إذ كان مستحيلا في فطرهم
[ 116 ]
احتماع الرضا من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة واجتماع الهدى والضلال له في وقت واحد - أوصف (1) القوم مع وصف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم وإنعامه عليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم بأنهم غير مغضوب عليهم ولا هم ضالون، أم لم يوصفوا بذلك، لان الصفة الظاهرة التي وصفوا بها قد أنبأت عنهم أنهم كذلك وإن لم يصرح وصفهم به. هذا إذا وجهنا " غير " إلى أنها مخفوضة على نية تكرير الصراط الخافض الذين، ولم نجعل (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) من صفة (الذين أنعمت عليهم) بل إذا جعلناهم غيرهم، وإن كان الفريقان لا شك منعما عليهما في أديانهم. فأما إذا وجهنا: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) إلى أنها من نعت (الذين أنعمت عليهم) فلا حاجة بسامعه إلا الاستدلال، إذ كان الصريح من معناه قد أغنى عن ادليل، وقد يجوز نصب " غير " في (غير المغضوب عليهم) وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء. وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الامة نقلا ظاهرا مستفيضا، فرأي للحق مخالف وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسببيل المسلمين متجانف (2)، وإن كان له - لو كانت القراءة جائزة به - في الصواب مخرج. وتأويل وجه صوابه إذا نصبت: أن يوجه إلى أن يكون صفة للهاء والميم اللتين في " عليهم " العائدة على " الذين "، لانها وإن كانت مخفوظة ب " على "، فهي في محل نصب بقوله: " أنعمت ". فكأن تأويل الكلام إذا نصبت " غير " ا لتي مع " المغضوب عليهم ": صراط الذين هديتهم إنعاما منك عليهم غير منغضوب عليهم، أي لا مغضوبا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ كالنصب في " غير " في قولك: مررت بعبد الله غير الكريم ولا الرشيد، فتقطع غير الكريم من عبد الله، إذ كان عبد الله معرفة مؤقتة وغير الكريم نكرة مجهولة. وقد كان بعض نحويي البصريين يزعم أن قراءة من نصب " ! غير " في (غير المغصوب عليهم) على وجه استثناء (غير المغضوب عليهم) من معاني صفة (الذين أنعمت عليهم)، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرءوا ذلك نصبا: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلا المغضوب عليهم الذين لم تنعم عليهم في أديانهم ولم تهدهم للحق، فلا تجعلنا منهم، كما قال نابغة بني ذبيان: (1) قوله " أوصف " مرتبط بقوله قبل عدة أسطر: " فسواء ". (2) متجانف: مائل. (*)
[ 117 ]
وقفت فيها أصيلالا أسائلها أعيت جوابا وما بالربع من أحد (1) إلا أواري لايا ما أبيها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (2) والاواري معلوم أنها ليست من عداد أحد في شئ. فكذلك عنده استثنى (غير المغضوب عليهم) من (الذين أنعمت عليهم)، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شئ. وأما نحويو الكوفيين فأنكروا هذا التأويل واستخطئوه، وزعموا بأن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة لكان خطأ أن يقال: (ولا الضالين) لان " لا " نفي وجحد، ولا يعطف بجحد إلا على جحد، وقالوا: لم نجد في شئ من كلام العرب استثناء يعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء، وبالجحد على الجحد فيقولون في الاستثناء: قام القوم إلا أخاك وإلا أباك، وفي الجحد: ما قام أخوك، ولا أبوك، وأما قام القوم إلا أباك ولا أخاك، فلم نجده في كلام العرب، قالوا: فلما كان ذلك معدوما في كلام العرب وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله، علمنا أذ كان قوله: (ولا الضالين) معطوفا على قوله: (غير المغضوب عليهم) أن " غير " بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجهها إلى الاستثناء خطأ. فهذه أوجه تأويل (غير المغضوب عليهم). باختلاف أوجه إعراب ذلك. وإنما اعترضنا بما اعترضنا في ذلك من بيان وجوه إعرابه، وإن كان قدصنا في هذا ا لكتاب الكشف عن تأويل آي القرآن، لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله، فاضطرتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته. والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا القول الاول، وهو قراءة: (غير المغضوب عليهم) بخفض الراء من " غير " بتأويل أنها صفة ل (الذين أنعمت عليهم) (1) سيأتي في غير موضع من هذا التفسير، منها في تفسير الاية 35 من سورة البقرة، والاية 114 من سورة النساء. وقوله أصيلانا: تصغير أصلان، وهو جمع أصل جمع أصيل: وهو العشي. (2) الاواري: جمع آري، وهو مربط الدابة ومحبسها. واللاي: الجهد والمشقة. والنؤي: حفرة حول الخباء تعمل جوانبها بالتراب فتحجز الماء عن دخول الخباء. والمظلومة: يعني أرضا مروا بها في برية فتحوضوا حوضا سقوا فيه إبلهم، وليس بموضع تحويض لبعدها عن مواطئ السابلة، فلذلك سماها مظلومة. والجلد: الارض الصلبة. (*)
[ 118 ]
ونعت لهم، لما قد قدمنا من البيان إن شئت، وإن شئت فبتأويل تكرار " صراط " كل ذلك صواب حسن. فإن قال لنا قائل: فمن هؤلاء المغضوب عليهم الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟ قيل: هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل) (1) فأعلمنا جل ذكره بمنه ما أحل بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه، ثم علمنا، منة منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة، من أن يحل بنا مثل الذي حل بهم من المثلات (2)، ورأفة منه منا. فإن قيل: وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت ؟ قيل: 163 - حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المغضوب عليهم: اليهود " (3). * - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن سماك ببن حرب، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المغضوب عليهم: اليهود " (4). * - وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ك، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعز: (غير المغضوب عليهم) قال: " هم اليهود ". (1) سورة المائدة، الاية: 60. (2) المثلات: جمع مثلة، وهي العقوبة والتنكيل. (3) هذا جزء من حديث طويل رواه الترمذي في تفسير سورة الفاتحة باب 1، وفيه "... فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضلال ". ورواه الامام أحمد في المسند (ج 7 حديث 19398) وفيه: "... إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى ". وسيأتي في الطبري جزء من هذا الحديث، وهو قوله: " ولا الضالين هم النصارى " في الحديث 173. (4) ههذا الحديث والحديث الذي يليه مكرر الحديث االسابق. (*)
[ 119 ]
164 - وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى فقال: من هؤلاء الذين تحاصر يا رسول الله ؟ قال: " هؤلاء المغضوب عليهم: اليهود " (1). * - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن عروة، عن عبد الله بن شقيق، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ونحوه. 165 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين، فقال: يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال: " المغضوب عليهم " وأشار إلى اليهود (2). * - وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، أن ر جلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. 166 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس: (غير المغضوب عليهم) يعني اليهود الذين غضب الله عليهم. 167 - وحدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (غير المغضوب عليهم) هم اليهود. 168 - وحدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال: (غير المغضوب عليهم) قال: هم اليهود. 169 - حثدنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر، عن ربيع: (غير المغضوب عليهم) قال: اليهود. (1) هذا الحديث مرسل لانه من رواية عبد الله بن شقيق العقيلي تابعي كبير. وسيأتي موصولا في الحديث 165 حيث يقول فيه " أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم ". (2) هذه رواية موصولة للحديث، وهي بنفس الاناد عند الامام أحمد بفي المسند (ج 7 حديث 20372) وفيه زيادة: " قال: فمن هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الضالين. يعني النصارى. قال: وجاءه رجل فقال: استشهد مولاك، أو قال: غلامك فلان. قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها ". (*)
[ 120 ]
170 - وحدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس (غير المغضوب عليهم) قال: اليهود. 171 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب. قال: قال ابن زيد: (غير المغضوب عليهم) اليهود. 172 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد، عن أبيه، قال: (المغضوب عليهم) اليهود. قال أبو جعفر: واختل في صفة الغضب من الله جل ذكره، فقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من خلقه إحلال عقوبته بمن غضب عليه، إما في دنياه، وإما في آخرته، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) (1)، وكما قال: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) (2). وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده ذم منه لهم ولافعالهم، وشتم منه لهم بالقول. وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب. غير أنه وإن كان كذلك من جهة الاثبات، فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الادميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم، لان الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الافات، ولكنه له صفة كما العلم له صفة، والقدرة له صفة عليه ما يعقل من جهة الاثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد التي هي معارف القلوب وقواهم التي توجد مع وجود الافعال وتعدم مع عدمها. القول في تأويل قوله تعالى: (ولا الضالين). قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن " لا " مع الضالين " أدخلت تتميما للكلام والمعنى إلغاؤها، ويستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج: في بئر لاحور سرى وما شعر ويتأوله بمعنى: في بئر حور سرى، أفي في بئر هلكة، وأن " لا " بمعنى الالغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم: (1) سورة الزخرف، الاية: 55. (2) سورة المائدة، الاية: 60. (*)
[ 121 ]
فما ألوم البيض أن لا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا (1) وهو يريد: فما ألوم البيض أن تسخر. وبقول الاحوص: ويلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل (2) يريد: ويلحينني في اللهو أن أحبه. وبقوله تعالى: (ما منعك أن لا تسجد) (3) يريد أن تسجد. وحكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول " غير " التي " مع المغضوب عليهم " أنها بمعنى " سوى "، فكأن معنى الكلام كان عنده: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم الذين هم سوى المغضوب عليهم ولا الضالين. وكان بعض نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله، ويزعم أن " غير " التي " مع المغضوب عليهم " لو كانت بمعنى " سوى " لكان خطأ أن يعطف عليها ب " لا "، إذ كانت " لا " لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها، كما كان خطأ قول القائل: عندي سوى أخيك، ولا أبيك، لان " سوى " ليست من حروف النفي والجحود، كان معلوما أن الذي زعمه القائل أن " غير من المغضوب " عليهم بمعنى: " سوى المغضوب عليهم " خطأ، إذ كان قد كر عليه الكلام ب " لا " وكان يزعم أن " غير " هنالك إنما هي بمعنى الجحد، إذ كان صحيحا في كلام العرب وفاشيا ظاهرا في منطقها توجيه " غير " إلى معنى النفي ومستعملا فيهم: أخوك غير محسن ولا مجمل، يراد بذلك أخوك لا محسن، ولا مجمل، ويستنكر أن تأتي " لا " بمعنى الحذف في الكلام مبتدأ ولما يتقدمها جحد، ويقول: لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مبتدأ قبل دلالة تدل على ذلك من جحد سابق، لصح قول قائل قال: أردت أن لا أكرم أخاك، بمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئه قائل ذلك دلالة واضحة على أن " لا " لا تأتي مبتدأة بمعنى الحذف، ولما يتقدمها جحد. وكان يتأول في " لا " التي في بيت العجاج الذي ذكرنا أن البصري استشهد به بقوله (1) البيت ف ي اللسان (مادة قفندر) بنفس الرواية، وكذلك أيضا في الصحاح. ونقل شارح القاموس عن الصاغاني أن الرواية: " إذا رأت ذا الشيبة القفندرا ". وقيل: القفندر: الصغير الرأس، وقيل: الابيض. والقفندر أيضا: الضخم الرجل، وقيل: القصير الحادر. وقيل: القفندر: الضخم من الابل، وقيل: الضخم الرأس. (انظر اللسان: مادة قفندر). (2) يلحينني: يعذلنني ويلمنني. (3) سورة الاعراف، الاية: 12. (*)
[ 122 ]
إنها جحد صحيح، وأن معنى البيت: سوى في بئر لا تحير عليه خيرا، ولا يتبين له فيها أثر عمل، وهو لا يشعر بذلك ولا يدري به. من قولهم: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا، أي لم يتبين لها أثر عمل. ويقول في سائر الابيات الاخر، أعني مثل بيت أبي النجم: فما ألوم البيض أن لا تسخرا إنما جاز أن تكون " لا " بمعنى الحذف، بلان الجحد قد تقدمها في أول الكلام، فكان الكلام الاخر مواصلا للاول، كما قال الشاعر (1): ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر (2) فجاز ذلك، إذ كان قد تقدم الجحد في أول الكلام. قال أبو جعفر: وهذا القول الاخر أولى بالصواب من الاول، إذ كان غير موجود في كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه ب " لا " التي معناها الحذف، ولا جائز العطف بها على " سوى "، ولا على حرف الاستثناء. وإنما ل " غير " في كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والاخر الجحد، والثالث سوى، فإذا ثبت خطأ " لا " أن يكون بمعنى الالغاء مبتدأ وفسد أن يكون عطفا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم " لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء، ولم يجز أيضا أن يكون عطفا عليها لو كانت بمعنى " سوى "، وكانت " لا " موجودة عطفا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قبلها، صح وثبت أن لا وجه ل " غير " التي مع " المغضوب عليهم " يجوز توجيهها إليه على صحة إلا بمعنى الجحد والنفي، وأن لا وجه لقوله: " ولا الضالين "، إلا العطف على " غير المغضوب عليهم ". فتأويل الكلام إذا إذ كان صحيحا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم ولا الضالين. فإن قال لنا قائل: ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم، أو نضل ضلالهم ؟ قيل: هم الذين وصفهم الله في تنزيله، فقال: (يا أهل الكتاب (1) هو جرير، من قصيدة يهجو فيها الاخطل، أولها: قل للديار سقى أطلالك المطر قد هجت شوقا ماذا تنفع الذكر (ديوانه: ص 191). (2) سيأتي في تفسير الاية 158 من سورة البقرة ص 51 من الجزء الثاني. ورواية الديوان " دينهم " بدل " فعلهم " وقوله هنا " فعلهم " يشير إلى بني تغلب قوم الاخطل. (*)
[ 123 ]
لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) (1) فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء ؟ قيل: 173 - حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عدي بن أبي حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا الضالين) قال: " النصارى " (2). * - حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة عن سمالك، قال: سمعت عباد بن حبيش يحد عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الضالين: النصارى ". * - وحدثني علي بن الحسين، قال حدثنا مسلم وعبد الرحمن، قالا: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله (ولا الضالين) قال: " النصارى هم الضالون ". 174 - وحدثنا حميد بن مسعدة الشامي، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى قال: قلت: من هؤلاء ؟ قال: " هؤلاء الضالون: النصارى " (3). * - وحدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن عروة، يعني ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر بن بديل العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق،، أنه أخبره مع سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين فقال: يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال: " هؤلاء الضالون " يعني النصارى (4). * - وحدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد (1) سورة المائدة، الاية: 77. (2) راجع تخريجه في حاشية الحديث 163. (3) راجع تخريجه في حاشية الحديث 165. (4) هذا مكرر الحديث 174. وهو مخرج في حاشية الحديث 165. (*)
[ 124 ]
الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محاصر وادي القرى وهو على فرس من هؤلاء ؟ قال: " الضالون " يعني النصارى (1). 175 - وحدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: (ولا الضالين) قال: النصارى. 176 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولا الضالين) قال: وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بفريتهم عليه. قال: يقول: فألهمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود ولا تضلنا كما أضللت النصارى فتعذبنا بما تعذبهم به. يقول: امنعنا من ذلك برفقنا ورحمتك وقدرتك. 177 - وحدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس الضالين: النصارى. 178 - وحدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ولا الضالين: هم النصارى. 179 - وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع: ولا الضالين: النصارى. 180 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: (ولا الضالين) النصارى. 181 - وحدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه. قال: (ولا الضالين) النصارى. قال أبو جعفر: وكل حائد عن قصد السبيل وسالك غير المنهج القويم فضال عند العرب لاضلاله وجه الطريق، فلذلك سمى الله جل ذكره النصارى ضلالا لخطئهم في الحق منهج السبيل، وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم. (1) هذا مكرر الحديث 174. وهو مخرج في حاشية الحديث 165. (*)
[ 125 ]
فإن قال قائل: أو ليس ذلك أيضا من صفة اليهود ؟ قيل: بلى. فإن قال: كيف خص النصارى بهذه الصفة، وخص اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم ؟ قيل: إن كان الفريقين ضلال مغضوب عليهم، غير أن الله جل ثناؤه وسم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به إذا ذكره لهم، أو أخبرهم عنه، ولم يسم واحدا من الفريقين إلا بما هو له صفة على حقيقته، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه. وقد ظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال بقوله: (ولا الضالين) وإضافته الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضللون كالذي وصف به اليهود أنهم المغضوب عليهم، دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية جهلا منه بسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الامر على ما ظنه الغبي الذي وصفنا شأنه لوجب أن يكون شأن كل موصوف بصفة أو مضاف إليه فعل لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره، وأن يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب فالحق فيه أن يكون مضافا إلى مسببه، ولو وجب ذلك لوجب أن يكون خطأ قول القائل: " تحركت الشجرة " إذا حركتها الرياح، و " اضطربت الارض " إذا حركتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكتاب. وفي قول الله جل ثناؤه: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) (1) بإضافته الجري إلى الفلك وإن كان جريها غيرها إياها، ما يدل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: (ولا الضالين)، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى تحصيحا لما ادعى المنكرون أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجله وجدت أفعالهم، مع إبانة الله عز ذكره نصا في آي كثيرة من تنزيله أنه المضل الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) (2) فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره. ولكن القرآن نزل بلسان العرب، على ما قد قدمنا البيان عنه في أول الكتاب. ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه، وإن كان مسببه غير الذي وجد منه أحيانا، وأحيانا إلى مسببه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيره. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد (1) سورة يونس، الاية: 22. (2) سورة الجاثية، الاية: 23. (*)
[ 126 ]
كسبا ويوجده الله جل ثناؤه عينا منشأة ؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه كسبا له بالقوة منه عليه والاختيار منه له، وإلى الله جل ثناؤه بإيجاد عينه وإنشائها تدبيرا. مسألة يسأل عنها أهل الالحاد الطاعنون في القران إن سألنا منهم سائل فقال: إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة، أبلغه في الابانة عن حاجة المبين به عن نفسه وأبينه عن مراد قائله وأقربه من فهم سامعه، وقلت مع ذلك إن أولى البيان بأن يكون كذلك كلام الله جل ثناؤه بفضله على سائر الكلام وبارتفاع درجته على أعلى درجات البيان. فما الوجه إذ كان الامر على ما وصفت في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات ؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله: (مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين) إذ كان لا شك أن من عرف: (ملك يوم الدين) فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى. وأن من كان لله مطيعا، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع، وعن سبيل من غضب عليه وضل منعدل، فما في زيادة الايات الخمس الباقية من الحكمة التي لم تحوها الايتان اللتان ذكرنا ؟ قيل له: إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولامته بما أنزل إليه من كتابه معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله ولا لامة من الامم قبلهم. وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره على نبي من أنبيائه قبله، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعها كتابه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزبور الذي هو تحميد وتمجيد، والانجيل الذي هو مواعظ وتذكير، لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرا من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خال، وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب. ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله: نظمه العجيب، ورصفه (1) الغريب، وتأليفه البديع، الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت قصورا عن أن تأتي بمثله لديه أفهام الفهماء. فلم يجدوا له إلا ا لتسليم، والاقرار بأنه من عند الواحد القهار، مع ما يحوي مع ذلك من المعاني التي هي ترغيب، وترهيب، وأمر، وزجر، (1) رصف الشئ: ضم بعضه إلى بعض ونظمه حتى يكون مستويا محكما منضدا. (*)
[ 127 ]
وقصص، وجدل، ومثل، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الارض من السماء. فمهما يكن فيه من إطالة على نحو ما في أم القرآن، فلما وصفت قبل من أن الله جل ذكره أراد أن يجمع - برصفه العجيب، ونظمه الغريب، المنعدل عن أوزان الاشعار، وسجع الكهان، وخطب الخطباء، ورسائل البلغاء، العاجر عن وصف مثله جميع الانام، وعن نظم كل العباد - الدلالة (1) على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه، تنبيه (2) للعباد على عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مملكته، ليذكروه بالائه ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيد ويستوجبوا عليه الثواب الجزيل. وبما فيه من نعت من أنعم عليه بمعرفته، وتفضل عليه بتوفيقيه لطاعته، تعريف (3) عباده أن كل ما بهم من نعمة في دينهم ودنياهم فمنه، ليصرفوا رغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده بمن خالف أمره من عقوباته، ترهيب (4) عباده عن ركوب معاصيه، والتعرض لما لا قبل لهم به من سخطه، فيسلك بهم في النكال والنقمات سبيل من ركب ذلك من الهلاك. فذلك وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيرا لها من سائر سور الفرقان، وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة. 182 - حدثنا أبو كريب، قال: ححدثنا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي السائب مولى زهرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، فهذا لي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين - إلى أن يختم السورة - قال: فذاك له " (5). (1) قوله: " الدلالة " مفعول " أن يجمع ". (2) قوله: " تنبيه " معطوف على قوله: " الدلالة ". (3) قوله: " تعريف " معطوف أيضا على قوله: " الدلالة ". (4) وهذه أيضا معطوفة على قوله: " الدلالة ". جزء من حديث أطول مما هنا، رواه - مع اختلاف في بعض الالفاظ -: مسلم في الصلاة حديث 38 وأبو داود في الصلاة باب 132. والترمذي في تفسير الفاتحة باب 1. والنسائي في الافتتاح باب 23. وابن ماجة في الادب باب 52. ومالك في النداء حديث رقم 39. وأحمد في المسند (ج 3 حديث 7295 و 7841 و 9939). (*)
[ 128 ]
* - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: إذا قال العبد: الحمد لله، فذكر نحوه، ولم يرفعه. * - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة، عن أبي السائب، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. 183 - حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا عنبسة بن سعيد، عن مطرف بن طريف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن جابر بن عبد الله الانصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأله، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، قال: هذا لي وله ما بقي " (1). آخر تفسير سورة فاتحة الكتاب. (1) لم أجده من حديث جابر. ولكن نفس معناه مروي من حديث أبي هريرة كما أشرنا إليه تخريجه في الحاشية السابقة. (*)
[ 129 ]
سورة البقرة وآياتها ست وثمانون ومائتان القول في تأويل السورة التي يذكر فيها البقرة القول في تأويل قوله تعالى: (الم (1)) قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة (1) القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره: (الم) فقال بعضهم: هو اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك: 184 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (الم) قال: اسم من أسماء القرآن. 185 - حدثني المثنى بن إبراهيم الاملي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: (الم) اسم من أسماء القرآن. 186 - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: (لم) اسم من أسماء القرآن. وقال بعضهم: هو فواتح يفتح الله بها القرآن. ذكر من قال ذلك: 187 - حدثني هارون بن إدريس الاصم الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: (الم) فواتح يفتح الله بها القرآن. * - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، قال: (الم) فواتح. (1) تراجمة القرآن: مفسروه. (*)
[ 130 ]
* - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن يحيى بن ادم، عن سفيان، عن ابن نجيح عن مجاهد، قال: (الم) و (حم) و (المص) و (ص) فواتح افتتح الله بها. * - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثل حديث هارون بن إدريس. وقال بعضهم: هو اسم للسورة. ذكر من قال ذلك: 188 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أنبأنا عبد الله بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن قول الله: (الم ذلك الكتاب) و (الم تنزيل) و (المر تلك) فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السور. وقال بعضهم: هو اسم الله الاعظم. ذكر من قال ذلك: 189 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت السدي عن (حم) و (طسم) و (الم) فقال: قال ابن عباس: هو اسم الله الاعظم. * - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي، عن مرة الهمداني، قال: قال عبد الله فذكر نحوه. 190 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: فواتح السور من أسماء الله. وقال بعضهم: هو قسم أقسم الله به وهي من أسمائه. ذكر من قال ذلك: 191 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله. 192 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: (الم) قسم. وقال بعضهم: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الاخر. ذكر من قال ذلك:
[ 131 ]
193 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن أبي شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس: (الم) قال: أنا الله أعلم. 194 - وحدثت عن أبي عبيد قال: حدثنا أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال قوله: (الم) قال أنا الله أعلم. 195 - حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (الم) قال: أما: (الم) فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه. 196 - حدثنا محمد بن معمر، قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (الم) و (حم) و (ن) قال: اسم مقطع. وقال بعضهم: هي حروف هجاء موضوع. ذكر من قال ذلك: 197 - حدثت عن منصور بن أبي نويرة، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب، عن خصيف، عن مجاهد، قال: فواتح السور كلها (ق) و (ص) و (حم) و (طسم) و (الر) وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة. ذكر من قال ذلك: 198 - حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي قال: حدثي أبي، عن الربيع بن أنس في قول الله تعالى ذكره: (الم) قال: هذه الاحرف من التسعة والعشرين حرفا، دارت فيها الالسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم. وقال عيسى بن مريم: " وعجيب ينطقون في أسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون " ؟ قال: الانف: مفتاح اسمه " الله "، واللام: مفتاح اسمه " لطيف "، والميم: مفتاح اسمه " مجيد "، والالف: آلاء الله، واللام: لطفه، والميم: مجده، الالف: سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم: أربعون سنة.
[ 132 ]
* - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن أبي جعفر، عن الربيع بنحوه (1). وقال بعضهم: هي حروف من حساب الجمل، كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله، وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس. وقال بعضهم: لكل كاتب سر، وسر القرآن فواتحه. وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى ذلك، فقال بعضهم: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا، كما استغنى المخبر عمن أخبر عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين بذكر " أ ب ت ث " عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين، قال: ولذلك رفع (ذلك الكتاب) لان معنى الكلام: الالف واللام والميم من الحروف المقطعة (ذلك الكتاب) الذي أنزلته إليك مجموعا (لا ريب فيه..). فإن قال قائل: فإن " أ ب ت ث " قد صارت كالاسم في حروف الهجاء كما صارت الحمد اسما لفاتحة الكتاب. قيل له: لما كان جائزا أن يقول القائل: ابني في " ط ظ "، وكان معلوما بقيله ذلك لو قاله أنه يريد الخبر عن ابنه أنه في الحروف المقطعة، علم بذلك أن " أ ب ت ث " ليسلها باسم، وإن كان ذلك آثر (2) في الذكر من سائرها. قال: وإنما خولف بين ذكر حروف المعجم في فواتح السور، فذكرت في أوائلها مختلفة، وذكرها إذا ذكرت بأوائلها التي هي " أ ب ت ث " مؤتلفة ليفصل بين الخبر عنها، إذا أريد بذكر ما ذكر منها الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - الاجازة قول القائل: ابني في " ط ظ "، وما أشبه ذلك من الخبر عنه أنه في حروف المعجم، وأن ذلك من قيله في البيان يقوم مقام قوله: " ابني في أ ب ت ث " - برجز بعض الرجاز من بني أسد: لما رأيت أمرها في حطي وفنكت في كذب ولط أخذت منها بقرون شمط فلم يزل ضربي بها ومعطي حتى علا الرأس دم يغطي (3) (1) يشير إلى الرواية السابقة عنه. (2) كانت في الاصل " يؤثر " والصواب ما أثبتناه. وقوله: " آثر " أي يؤثره الناس ويقدمونه. (3) في اللسان (مادة فنك) الاشطر الثلاثة الاولى. فنك في الكذب: مضى ولج فيه، وقال أبو طالب: فانك في = (*)
[ 133 ]
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في " أبي جاد " (1)، فأقام قوله: " لما رأيت أمرها في حطي " مقام خبره عنها أنها في " أبي جاد "، إذ كان ذلك من قوله يدل على سامعه على ما يدله عليه قوله: لما رأيت أمرها في أبي جاد. وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين، إذ تواصوا بالاعراض عن القرآن، حتى إذا استمعوا له تلي عليهم المؤلف منه. فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟ فإن معنى هذا (2) أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما، وذلك في كلام العرب ينشد الرجل منهم الشعر فيقول: بل.. وبلدة ما الانس من آهالها ويقول: لا بل... ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا (3) و " بل " ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلاما ويستأنف الاخر. قال أبو جعفر: ولكل قول من الاقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك وجه معروف. فأما الذين قالوا: (الم) اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان: أحدهما أن يكون أرادوا أن: (الم) اسم للقرآن كما الفرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويل قوله: (الم): ذلك الكتاب على معنى القسم، كأنه قال: والقرآن هذا الكتاب لا ريب فيه. والاخر منهما أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التي تعرف به كما تعرف سائر الاشياء بأسمائها التي هي لها أمارات (4) تعرف بها، فيفهم السامع من القائل = الكذب والشر وفنك وفنك، ولا يقال في الخير، ومعناه: لج فيه ومحك. ولط الق: جحده ومنعه وخاصم فأحمى الخصومة. والقرون: جمع قرن، وهو الضفيرة، وشمط: جمع أشمط، وهو الاشيب. والمعط: المد والجذب. (1) يعني: أبجد هوز حطي.. الخ. (2) كذا في الاصل. ولعل سياق العبارة: " فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟ قيل: معنى هذا... الخ ". (3) سيأتي في الصفحة التالية. وهو للعجاج. (4) الامارات: جمع أمارة، وهي العلامة (*)
[ 134 ]
يقول: قرأت اليوم (المص) و (ن) أي السورة التي قرأها من سور القرآن، كما يفهم عنه إذا قال: لقيت اليوم عمرا وزيدا، وهما بزيد وعمر وعارفان من الذي لقي من الناس. وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ونظائر الم المر في القرآن جماعة من السور ؟ وإنما تكون الاسماء أمارات، إذا كانت مميزة بين الاشخاص، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات. قيل: إن الاسماء وإن كانت قد صارت لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها غير مميزة إلا بمعان أخر معها من ضم نسبة المسمى بها إليها أو نعته أو صفته بما يفرق بينه وبين غيره من أشكالها، فإنها وضعت ابتداء للتمييز لا شك ثم احتيج عند الاشتراك إلى المعاني المفرقة بين المسمى بها. فكذلك ذلك في أسماء السور، جعل كل اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارة للمسمى به من السور. فلما شارك المسمى به فيه غيره من سور القرآن احتاج المخبر عن سورة منه أن يضم إلى اسمها المسمى به من ذلك ما يفرق به للسامع بين الخبر عنها وعن غيرها من نعت وصفة أو غير ذلك، فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة إذا سماها باسمها الذي هو (الم): قرأت (الم) البقرة: وفي آل عمران: قرأت (الم) آل عمران، و (الم ذلك الكتا) و (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم). كما لو أراد الخبر عن رجلين اسم كل واحد منهما عمرو، غير أن أحدهما تميمي والاخر أزدي، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرا التميمي وعمرا الازدي، إذ كان لا فرق بينهما وبين غيرهما ممن يشاركهما في أسمائهما إلا بنسبتهما كذلك، فكذلك ذلك في قول من تأول في الحروف المقطعة أنها أسماء للسور. وأما الذين قالوا: ذلك فواتح يفتتح الله عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربية أنه قال: ذلك أدلة على انقضاء سورة وابتداء في أخرى وعلامة لانقطاع ما بينهما، كما جعلت " بل " في ابتداء قصيدة دلالة على ابتداء فيها وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء في إنشاد قصيدة، قالوا: بل... ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا (1) و " بل " ليست من البيت ولا داخلة في وزنه، ولكن يدل به على قطع كلام وابتداء آخر. وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عز وجل، وبعضها من (1) تقدم في الصفحة السابقة. (*)
[ 135 ]
صفاته، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الحرف الاخر. فإنهم نحوا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر: قلنا لها قفي لنا قالت قاف لا تحسبني أنا نسينا الايجاف (1) يعني بقوله: قالت قاف: قالت قد وقفت. فدلت بإظهار القاف من " وقفت " على مرادها من تمام الكلمة التي هي " وقفت "، فصرفوا قوله (الم) وما أشبه ذلك إلى نحو هذا المعنى، فقال بعضهم: الالف ألف " أنا " واللام لام " الله "، والميم ميم " أعلم "، وكل حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تمام حروف الكلمة " أنا الله أعلم ". قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سور القرآن من ذلك، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا: ومستفيض ظاهر في كلام العرب أن ينقص المتكلم منهم من الكلمة الاحرف إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها، ويزيد فيها ما ليس منها إذا لم تكن الزيادة ملبسة معناها على سامعها كحذفهم في النقص في الترخيم من " حارث " الثاء " فيقولون: يا حار، ومن " مالك " " الكاف " فيقولون: يا مال، وأما أشبه ذلك. وكقول راجزهم: ما للظليم عال كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا يا (2) كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من " يفعل ". وكما قال آخر منهم: بالخير خيرات وإن شرا فا يرد فشرا. ولا أريد الشر إلا أن تا (3) يريد إلا أن تشاء. فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جميعا من سائر حروفهما، وما أشبه ذلك من الشواهد التي يطول الكتاب باستيعابه. وكما: 199 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون عن (1) الايجاف: من قولهم: أوجف فلان دابته: حثها على سرعة المسير. (2) الظليم: ذكر النعام. عال: دعاء عليه، من قولهم " عال عوله " أي ثكلته أمه. ينقد: ينشق. (3) من شواهد سيبويه في الكتاب (ج 3 ص 321) وشرح شواهد الشافية (ص 262) ونسبه للقيم بن أوس. (*)
[ 136 ]
محمد، قال: لما مات يزيد بن معاوية، قال لي عبدة: إني لا أراها إلا كائنة فتنة فافزع من ضيعتك والحق بأهلك ! قلت: فما تأمرني ؟ قال: أحب إلي لك أن تا - قال أيوب وابن عون بيده (1) تحت خده الايمن يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تعرفه. قال أبو جعفر: يعني - ب " تا " تضطجع، فاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الاخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت: أقول إذ خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال (2) يريد الكلكل. وكما قال الاخر: إن شكلي وإن شكلت شتى فالزمي الخص واخفضي تبيضضي (3) فزاد ضادا وليست في ا لكلمة. قالوا: فكذلك ما نقص من تمام حروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذكرنا أنها تتمة حروف (الم) ونظائرها، نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب في أشعارها وكلامها. وأما الذين قالوا: كل حرف من (الم) ونظائرها على معان شتى نحو الذين ذكرنا عن الربيع بن أنس (4)، فإنهم وجهوا ذلك إلى مثل الذي وجهه إليه من قال هو بتأويل: " أنا الله أعلم " في أن كل حرف منه بعض حروف كلمة تامة استغني بدلالته على تمامه عن ذكر تمانه، وإن كانوا له مخالفين في كل حرف من ذلك، أهو من الكلمة التي ادعى أنه منها قائلو القول الاول أم من غيرها ؟ فقالوا: بل الالف من (الم) من كلمات شتى هي دالة على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرد كل حرف من ذلك وقصر به عن تمام حروف الكلمة أن جمبيع حروف الكلمة لو أظهرت لم تدل الكلمة التي تظهر بعض هذه الحروف المقطعة بعض لها، إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذا كان لا دلالة في ذلك لو أظهر جميعها إلا على معناها الذي هو معنى واحد، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة لشئ واحد، لم يجز إلا أن يفرد (1) قال فلان بيده: أشار. (2) الكلكل: الصدر من البعير وغيره. (3) الخص: البيت من قصب. اخفضي: من الخفض، وهو الدعة ولين العيش (4) انظر الخبر رقم 198. (*)
[ 137 ]
الحرف الدال على تلك المعاني، ليعلم المخاطبون به أن الله عز وجل لم يقصد قصد معنى واحد ودلالة على شئ واحد بما خاطبهم به، وأنه إنما قصد الدلالة (به) على أشياء كثيرة. قالوا: فالالف من (الم) مقتضية معاني كثيرة، منها: إتمام اسم الرب الذي هو الله، وتمام اسم نعماء ا لله التي هي آلاء الله، والدلالة على أجل قوم أنه سنة، إذا كانت الالف في حساب الجمل واحدا. واللام مقتضية تمام اسم الله الذي هو لطيف، وتمام اسم فضله الذي هو لطف، والدلالة على أجل قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضية تمام اسم الله الذي هو مجيد، وتمام اسم عظمته التي هي مجد، والدلالة على أجل قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام في تأويل قائل القول الاول: أن الله جل ثناؤه افتت كلامه بوصف نفسه بأنه العالم الذي لا يخفى عليه شئ،، وجعل ذلك لعباده منهجا يسلكونه في مفتتح خطبهم ورسائلهم ومهم أمورهم، وابتلاء منه لهم ليستوجبوا به عظيم الثواب في دار الجزاء، كما افتتح بالحمد لله رب العالمين، و (الحمد لله الذي خلق السموات والارض) (1) وما أشبه ذلك من السور التي جعل مفاتحها الحمد لنفسه. وكما جعل مفاتح بعضها تعظيم نفسه وإجلالها بالتسبيح كما قال جل ثناؤه: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) (2) وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن التي جعل مفاتح بعضها تحميد نفسه، ومفاتح بعضها تمجيدها، ومفاتح بعضها تعظيمها وتنزيهها. فكذلك جعل مفاتح السور الاخرى التي أوائلها بعض حروف المعجم مدائح نفسه أحيانا بالعلم، وأحيانا بالعدل والانصاف، وأحيانا بالافضال والاحسان بإيجاز واختصار، ثم اقتصاص الامور بعد ذلك. وعلى هذا التأويل يجب أن يكون الالف واللام والميم في أماكن الرفع مرفوعا بعضها ببعض دون قوله: (ذلك الكتاب) ويكون ذلك الكتاب خبر مبتدأ منقطعا عن معنى (الم)، وكذلك " ذلك " في تأويل قول قائل هذا القول مرفوع بعضه ببعض، وإن كان مخالفا معناه معنى قول قائل القول الاول. وأما الذين قالوا: هن حروف من حروف حساب الجمل دون ما خالف ذلك من المعاني، فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطعة معنى يفهم سوى حساب الجمل وسوى تهجي قول القائل: (الم). وقالوا: غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عباده إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله: (الم) لا يعقل لها وجه توجه إليه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مرادا بها تهجي (1) سورة الانعام، الاية: 1. (2) سورة الاسراء، الاية: 1. (*)
[ 138 ]
(الم) - صح (1) وثبت أنه مراد به الوجه الثاني وهو حساب الجمل، لان قول القائل: (الم) لا يجوز أن يليه من الكلام ذلك الكتاب لاستحالة معنى الكلام وخروجه عن المعقول إذا ولي (الم) ذلك الكتاب. واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما: 200 - حدثنا به محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل. قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه: (الم ذلك الكتاب) فقالوا: أنت سمعته ؟ قال: نعم. فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك: (الم ذلك الكتاب) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى " ! فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله ؟ قال: " نعم " ! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك ! فقال حيي بن أخطب: وأقبل على من كان معه، فقال لهم: الالف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ قال: ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد هل مع هذا غيره ؟ قال: " نعم " ! قال: ماذا ؟ قال: " المص " قال: هذه أثقل وأطول: الالف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون. فهذه مائة وإحدى وستون سنة، هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال: " نعم " ! قال: ماذا ؟ قال: " الر " قال: هذه أثقل وأطول الالف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال: " نعم المر "، قال: فهذه أثقل وأطول: الالف واحدة واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا ممد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ! ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لاخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الاحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد: إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون، فقالو: لقد تشابه (1) هكذا في الاصل:، وتقدير الكلام: فلما كان ذلك كذلك صح... (ص). (*)
[ 139 ]
علينا أمره. ويزعمون أن هؤلاء الايات نزلت فيهم: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (1). فقالوا: قد صرح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل وفساد ما قاله مخالفونا فيه. والصواب من القول عندي في تأويل مفاتح السور التي هي حروف المعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفا مقطعة ولم يصل بعضها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتصل الحروف، لانه عن ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه على معان كثيرة لا على معنى واحد، كما قال الربيع بين أنس، وإن كان الربيع قد اقتصر به على معان ثلاثة دون ما زاد عليها. والصواب في تأويل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربيع وما قاله سائر المفسرين غيره فيه، سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربية أنه كان يوجه تأويل ذلك إلى أنه حروف هجاء استغني بذكر ما ذكر منه في مفاتح السور عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفا من حروف المعجم بتأويل: أن هذه الحروف، ذلك الكتاب، مجموعة لا ريب فيه، فإنه قول خطأ فاسد لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين (2) من أهل التفسير والتأويل، فكفى دلالة على خطئه شهادة الحجة شهادة الحجة عليه بالخطأ مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه، إذ صار إلى البيان عن رفع ذلك الكتاب بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ومرة أخرى أنه مرفوع بالراجع من ذكره في قوله: (لا ريب فيه) ومرة بقوله: (هدى للمتقين) وذلك ترك منه لقوله إن (الم) رافعة (ذلك الكتاب) وخروج من القول الذي ادعاه في تأويل (الم ذلك الكتاب) وأن تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب. فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملا الدلالة على معان كثيرة مختلفة ؟ قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدة تشتمل على معان كثيرة مختلفة كقولهم للجماعة من الناس: أمة، وللحين من الزمان: أمة، وللرجل المتعبد المطيع لله: أمة، وللدين والملة: أمة: وكقولهم للجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللحساب: دين، في أشباه لذلك كثيرة يطول الكتاب بإحصائها، مما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: (1) سورة آل عمران، الاية: 7. (2) الخالفون: الذين يجيئون بعد قوم ويتبعوهم على آثارهم. جمع خالف. (*)
[ 140 ]
" الم والمر " و " المص " وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور، كل حرف منها دال على معان شتى، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسرون من الاقوال التي ذكرناها عنهم، وهن مع ذلك فواتح السور كما قاله من قال ذلك. وليس كون ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته بمانعها أن تكون للسور فواتح، لان الله جل ثناؤه قد افتتح كثيرا من سور القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها، وكثيرا منها بتمجيدها وتعظيمها، فغير مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها. فالتي ابتدئ أوائلها بحروف المعجم أحد معاني أوائلها أنهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن، وهن مما أقسم بهن، لان أحد معانيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالى ذكره وصفاته على ما قدمنا البيان عنها، ولا شك في صحة معنى القسم بالله وأسمائه وصفاته، وهن من حروف حساب الجمل، وهن للسور التي افتتحت بهن شعار وأسماء. فذلك يحوي معاني جميع ما وصفنا مما بينا من وجوهه، لان الل جل ثناؤه لو أراد بذلك أو بشئ منه الدلالة على معنى واحد مما يحتمله (1) ذلك دون سائر المعاني غيره، لابان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبانة غير مشكلة، إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه وسلم إبانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويله البعض دون البعض أوضح الدليل على أنه مراد به جميع وجوهه التي هو لها محتمل، إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجه منها أن يكون من تأويله ومعناه كما كان غير مستحيل اجتماع المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة باللفظ الواحد في كلام واحد. ومن أبى ما قلناه في ذلك سئل الفرق بين ذلك وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة كالام والدين وما أشبه ذلك من الاسماء والافعال. فلن يقول في أحد ذلك قولا إلا ألزم في الاخر مثله. وكذلك يسأل كل من تأول شيئا من ذلك على وجه دون الاوجه الاخر التي وصفنا عن البرهان يسأل كل من تأول شيئا من ذلك على وجه دون الاوجه الاخر التي وصفنا عن البرهان على دعواه من الوجه الذي يجب التسليم له ثم يعارض بقوله يخالفه في ذلك، ويسأل الفرق بينه وبينه: من أصل، أو مما يدل عليه أصل، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الاخر مثله. وأما الذي زعم من النحويين أن ذلك نظير " بل " في قول المنشد شعرا: بل... ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا (2) (1) كانت في الاصل " لا يحتمله " و. وحذف " لا " ضرورية ليستقيم المعنى. (2) تقدم قبل صفحات. (*)
[ 141 ]
وأنه لا معنى له، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطرح، فإنه أخطأ من وجوه شتى: أحدها: أنه وصف الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها وغير ما هو في لغة أحد من الادميين، إذ كانت العرب وإن كانت قد كانت تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب " بل "، فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئ شيئا من الكلام ب " الم " و " الر " و " المص " بمعنى ابتدائها ذلك ب (بل ". وإذ كان ذلك ليس من ابتدائها، وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خطابهم من القران بما يعرفون من لغاتهم ويستعملون بينهم من منطقهم في جميع آيه، فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم التي افتتحت بها أوائل السور التي هن لها فواتح سبيل سائر القرآن في أنه لم يعدل بها عن لغاتهم التي كانوا بها عارفين لها بينهم في منطقهم مستعملين، لان ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتهم ومنقطهم كان خارجا عن معنى الابانة التي وصف الله عز وجل بها القرآن، فقال تعالى ذكره: (نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (1). وأنى يكون مبينا مالا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين في قول قائل هذه المقالة، ولا يعرف في منطق أحد من المخلوقين في قوله ؟ وفي إخبار الله جل ثناؤه عنه أنه عربي مبين ما يكذب هذه المقالة، وينبئ عنه أن العرب كانوا به عالمين وهو لها مستبين. فذلك أحد أوجه خطئه. والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جل ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له من الكلام الذي سواء الخطاب به وترك الخطاب به، وذلك إضافة العبث الذي هو منفي في قول جميع الموحدين عن الله، إلى الله تعالى ذكره. والوجه الثالث من خطئه: أن " بل " في كلام العرب مفهوم تأويلها ومعناها، وأنها تدخلها في كلامها رجوعا عن كلام قد تقضى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك، وما رأيت عمرا بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بني ثعلبة: ولاشربن ثمانيا وثمانيا وثلاث عشرة واثنتين وأربعا ومضى في كلمته حتى بلغ قوله: بالجلسان وطيب أراد أنه بالون يضرب لي يكرالاصبعا (2) (1) سورة الشعراء، الايات: 193 - 195. (2) الجلسان: قبة أو بيت ينثر فيه الورد والريحان للشرب. والاردان: جمع ردن، وهو مقدم كم القميص. والون: صنج يضرب بالاصابع. ويكر: أي يرد أصبعه مرة بعد مرة في ضربه بالصنج. (*)
[ 142 ]
ثم قال: بل عدا هذا في قريض غيره واذكر فتى سمح الخليقة أروعا فكأنه قال: دع هذا وخذ في قريض غيره. ف " بل " إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام. فأما افتتاحا لكلامها مبتدأ بمعنى التطويل والحذف من غير أن يدل على معنى، فذلك مما لا نعلم أحدا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرت قوله، فيكون ذلك أصلا يشبه به حروف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها لو كان له مشبهة، فكيف وهي من الشبه به بعيدة ؟ القول في تأويل قوله تعالى: (ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)). قال عامة المفسرين: تأويل قول الله تعالى: (ذلك الكتاب): هذا الكتاب. ذكر من قال ذلك: 201 - حدثني هارون بن إدريس الاصم الكوفي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن جريج عن مجاهد: (ذلك الكتاب)، قال: هو هذا الكتاب. 202 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا خالد الحذاء، عن عكرمة، قال: (ذلك الكتاب): هذا الكتاب. 203 - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيدي، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي في قوله: (ذلك الكتاب) قال: هذا الكتاب. 204 - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ذلك الكتاب): هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس: (ذلك الكتاب): هذا الكتاب. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون " ذلك " بمعنى " هذا " ؟ و " هذا " لا شك إشارة إلى حاضر معاين، و " ذلك " إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟ قيل: جاز ذلك لان كل ما تقضى وقرب تقضيه من الاخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر، فكالحاضر عند المخاطب، وذلك كالرجل يحدث الرجل الحديث، فيقول السامع: إن ذلك والله لكما قلت، وهذا والله كما قلت، وهو والله كما ذكرت. فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضى ومضى، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقض، فكذلك
[ 143 ]
ذلك في قوله: ذلك الكتاب لانه جل ذكره لما قدم قبل ذالك الكتاب الم التي ذكرنا تصرفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه (ص): يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك الكتاب. ولذلك حسن وضع ذلك في مكان هذا، لانه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله: الم من المعاني بعد تقضي الخبر عنه بألم، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه كالحاضر المشار إليه، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب. وترجمه المفسرون أنه بمعنى هذا لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم، وكما قال جل ذكره: واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار هذا ذكر فهذا ما في ذلك إذا عنى بها هذا. وقد يحتمل قوله جل ذكره: ذلك الكتاب أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): يا محمد اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الذي لا ريب فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى ذلك: هذا الكتاب، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد (ص). وكان التأويل الاول أولى بما قاله المفسرون لان ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في ذلك. وقد وجه معنى ذلك بعضهم إلى نظير معنى بيت خفاف بن ندبة السلمي: فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عين تيممت مالكا أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فرأى أن ذلك الكتاب بمعنى هذا نظير ما أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو مخبر عن نفسه، فلذلك أظهر ذلك بمعنى الخبر عن الغائب، والمعنى فيه الاشارة إلى الحاضر المشاهد. والقول الاول أولى بتأويل الكتاب لما ذكرنا من العلل.
[ 144 ]
وقد قال بعضهم: ذلك الكتاب: يعني به التوراة والانجيل، وإذا وجه تأويل ذلك إلى هذا الوجه فلا مؤنة فيه على متأوله كذلك لان ذلك يكون حينئذ إخبارا عن غائب على صحة. القول في تأويل قوله تعالى: لا ريب فيه. وتأويل قوله: لا ريب فيه: لا شك فيه، كما: حدثني هارون بن إدريس الاصم، قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي، عن ابن جريج، عن مجاهد لا ريب فيه، قال: لا شك فيه. حدثني سلام بن سالم الخزاعي، قال: حدثنا خلف بن ياسين الكوفي، عن عبد العزيز بن أبي رواد عن عطاء: لا ريب فيه قال: لا شك فيه. حدثني أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، قال: لا ريب فيه: لا شك فيه. حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): لا ريب فيه: لا شك فيه. حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لا ريب فيه قال: لا شك فيه. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: لا ريب فيه يقول لا شك فيه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة: لا ريب فيه يقول: لا شك فيه. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع بن أنس قوله: لا ريب فيه يقول: لا شك فيه.
[ 145 ]
وهو مصدر من قولك: رابني الشئ يريبني ريبا. ومن ذلك قول ساعدة بن جؤية الهذلي: فقالوا تركنا الحي قد حصروا به فلا ريب أن قد كان ثم لحيم ويروى: حصروا، وحصروا، والفتح أكثر، والكسر جائز. يعني بقوله: حصروا به: أطافوا به، ويعني بقوله: لا ريب فيه لا شك فيه، وبقوله: أن قد كان ثم لحيم، يعني قتيلا، يقال: قد لحم إذا قتل. والهاء التي في فيه عائدة على الكتاب، كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للمتقين. القول في تأويل قوله تعالى: هدى. حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي: هدى قال: هدى من الضلالة. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): هدى للمتقين يقول: نور للمتقين. والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك: هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه، ودللته عليه، وبينته له أهديه هدى وهداية. فإن قال لنا قائل: أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ولا رشادا إلا للمؤمنين ؟ قيل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل، ولو كان نورا لغير المتقين، ورشادا لغير المؤمنين لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هدى للمتقين، وشفاء لما في صدور المؤمنين، ووقر في آذان المكذبين، وعمي لابصار الجاحدين، وحجة لله بالغة على الكافرين فالمؤمن به مهتد، والكافر به محجوج.
[ 146 ]
وقوله: هدى يحتمل أوجها من المعاني أحدها: أن يكون نصبا لمعنى القطع من الكتاب لانه نكرة والكتاب معرفة، فيكون التأويل حينئذ: الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين. وذلك مرفوع ب الم، والم به، والكتاب نعت ل ذلك. وقد يحتمل أن يكون نصبا على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في فيه، فيكون معنى ذلك حينئذ: الم الذي لا ريب فيه هاديا. وقد يحتمل أن يكون أيضا نصبا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء التي في فيه، ومن الكتاب على أن الم كلام تام، كما قال ابن عباس. إن معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون ذلك الكتاب خبرا مستأنفا، ويرفع حينئذ الكتاب ب ذلك وذلك بالكتاب، ويكون هدى قطعا من الكتاب، وعلى أن يرفع ذلك بالهاء العائدة عليه التي في فيه، والكتاب نعت له، والهدى قطع من الهاء التي في فيه. وإن جعل الهدى في موضع رفع لم يجز أن يكون ذلك الكتاب إلا خبرا مستأنفا والم كلاما تاما مكتفيا بنفسه إلا من وجه واحد وهو أن يرفع حينئذ هدى بمعنى المدح كما قال الله عز وجل: * (الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين) * في قراءة من قرأ رحمة بالرفع على المدح للآيات. والرفع في هدى حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف. والآخر: على أن يجعل الرافع ذلك، والكتاب نعت ل - ذلك. والثالث: أن يجعل تابعا لموضع لا ريب فيه، ويكون ذلك الكتاب مرفوعا بالعائد في فيه، فيكون كما قال تعالى ذكره: وهذا كتاب أنزلناه مبارك. وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين أن الم رافع ذلك الكتاب بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك. ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضه، وهدم ما بنى فأسرع هدمه، فزعم أن الرفع في هدى من وجهين والنصب من وجهين، وأن أحد وجهي الرفع أن يكون الكتاب نعتا ل ذلك، والهدى في موضع رفع خبر ل ذلك كأنك قلت: ذلك لا شك فيه. قال: وإن جعلت لا ريب فيه خبره رفعت أيضا هدى بجعله تابعا لموضع لا ريب فيه كما قال الله جل ثناؤه: * (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) * كأنه قال: وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحد وجهي النصب، فأن تجعل الكتاب خبرا ل ذلك وتنصب
[ 147 ]
هدى على القطع لان هدى نكرة اتصلت بمعرفة وقد تم خبرها فتنصبها، لان النكرة لا تكون دليلا على معرفة، وإن شئت نصبت هدى على القطع من الهاء التي في فيه كأنك قلت: لا شك فيه هاديا. قال أبو جعفر: فترك الاصل الذي أصله في الم وأنها مرفوعة ب ذلك الكتاب ونبذه وراء ظهره. واللازم له على الاصل الذي كان أصله أن لا يجيز الرفع في هدى بحال إلا من وجه واحد، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحا. فأما على وجه الخبر لذلك، أو على وجه الاتباع لموضع لا ريب فيه، فكان اللازم له على قوله إن يكون خطأ، وذلك أن الم إذا رفعت ذلك الكتاب فلا شك أن هدى غير جائز حينئذ أن يكون خبرا ل ذلك بمعنى الرافع له، أو تابعا لموضع لا ريب فيه، لان موضعه حينئذ نصب لتمام الخبر قبله وانقطاعه بمخالفته إياه عنه. القول في تأويل قوله تعالى: للمتقين. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قوله: للمتقين قال: اتقوا ما حرم عليهم وأدوا ما افترض عليهم. حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: للمتقين أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به. حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): هدى للمتقين قال: هم المؤمنون. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: سألني الاعمش عن المتقين، قال: فأجبته، فقال لي: سل عنها الكلبي فسألته فقال: الذين يجتنبون كبائر الاثم. قال: فرجعت إلى الاعمش، فقال: نرى أنه كذلك ولم ينكره. حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج عن
[ 148 ]
عبد الرحمن بن عبد الله، قال: حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: هدى للمتقين من هم نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: للمتقين قال: المؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي. وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه: هدى للمتقين تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنبوا معاصيه واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها. وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم بالتقوى فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض. فليس لاحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشئ من تقوى الله عز وجل دون شئ إلا بحجة يجب التسليم لها، لان ذلك من صفة القوم لو كان محصورا على خاص من معاني التقوى دون العام منها لم يدع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله (ص) إذ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى. فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق لانه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين. إلا أن يكون عند قائل هذا القومعنى النفاق ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه وتضييع فرائضه التي فرضها عليه، فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا، فيكون وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبا تأويل قول الله عز وجل للمتقين. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن
[ 149 ]
إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: الذين يؤمنون قال: يصدقون. حدثني يحيى بن عثما بن صالح السهمي، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي إبن أبي طلحة، عن ابن عباس: يؤمنون يصدقون. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: يؤمنون يخشون. حدثنا محمد بن عبد الاعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر، قال: قال الزهري: الايمان: العمل. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن العلاء بن المسيب بن رافع، عن أبي إسحاق، عن أبي الاحوص عن عبد الله، قال: الايمان: التصديق. ومعنى الايمان عند العرب: التصديق، فيدعى المصدق بالشئ قولا مؤمنا به، ويدعى المصدق قوله بفعله مؤمنا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين يعني: وما أنت بمصدق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الايمان الذي هو تصديق القول بالعمل. والايمان كلمة جامعة للاقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الاقرار بالفعل. وإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب، قولا، واعتقادا، وعملا، إذ كان جل ثناؤه لم يحصرهم من معنى الايمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شئ من معانية أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل. القول في تأويل قوله تعالى: بالغيب. حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: بالغيب قال: بما جاء به، يعني من الله جل ثناؤه. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط
[ 150 ]
عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): بالغيب أما الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك يعني المؤمنين من العرب من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان عن عاصم، عن زر، قال: الغيب: القرآن. حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: الذين يؤمنون بالغيب قال: آمنوا بالجنة والنار والبعث بعد الموت وبيوم القيامة، وكل هذا غيب. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: الذين يؤمنون بالغيب: آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا كله غيب. وأصل الغيب: كل ما غاب عنك من شئ، وهو من قولك: غاب فلان يغيب غيبا. وقد اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم، وفي نعتهم وصفتهم التي وصفهم بها من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره. فقال بعضهم: هم مؤمنوا العرب خاصة، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب. واستدلوا على صحة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم بالآية التي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول الله عز وجل: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) *. قالوا: فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على محمد (ص) تدين بتصديقه والاقرار والعمل به، وإنما كان الكتاب لاهل الكتابين غيرها. قالوا: فلما قص الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب، علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الآخر، وأن المؤمنين بالغيب نوع غير النوع المصدق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد (ص)، والآخر منهما على من قبله من رسل الله تعالى ذكره. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب) * إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار والثواب والعقاب والبعث، والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها، بما أوجب الله جل ثناؤه على عباده الدينونة به دون غيرهم. ذكر من قال ذلك:
[ 151 ]
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص) أما: الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب، * (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) * أما الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) * هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب. وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الاربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة، لايمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه (ص) على ذلك منهم في تنزيله أنه من عند الله عز وجل، فآمنوا بالنبي (ص) وصدقوا بالقرآن وما فيه من الاخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها لما استقر عندهم بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الاخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم أن جميع ذلك من عند الله. وقال بعضهم: بل الآيات الاربع من أول هذه السورة أنزلت على محمد (ص) بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتابين وسواهم، وإنما هذه صفة صنف من الناس، والمؤمن بما أنزل الله على محمد (ص) وما أنزل من قبله هو المؤمن بالغيب. قالوا: وإنما وصفهم الله بالايمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله بعد تقضي وصفه إياهم بالايما بالغيب لان وصفه إياهم بما وصفهم به من الايمان بالغيب كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث، وسائر الامور التي كلفهم الله جل ثناؤه بالايمان بها مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت، دون الاخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد (ص) ومن قبله من الرسل والكتب. قالوا: فلما كان معنى قوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * غير موجود في قوله: الذين يؤمنون بالغيب كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب ليعلموا ما يرضي الله من أفعال عباده، ويحبه من صفاتهم، فيكونوا به إن وفقهم له ربهم. مؤمنين. ذكر من قال ذلك:
[ 152 ]
حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال حدثنا موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله إبن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع بن أنس، قال: أربع آيات من فاتحة هذه السورة يعني سورة البقرة في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الاحزاب. وأولى القولين عندي بالصواب وأشبههما بتأويل الكتاب، القول الاول، وهو: أن الذين وصفهم الله تعالى ذكره بالايمان بالغيب، وما وصفهم به جل ثناؤه في الآيتين الاولتين غير الذين وصفهم بالايمان بالذي أنزل على محمد والذي أنزل إلى من قبله من الرسل لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك، ومما يدل أيضا مع ذلك على صحة هذا القول إنه جنس بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنف الكفار جنسين، فجعل أحدهما مطبوعا على قلبه مختوما عليه مأيوسا من إيمانه، والآخر منافقا يرائي بإظهار الايمان في الظاهر، ويستسر النفاق في الباطن، فصير الكفار جنسين كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين. ثم عرف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم وما أعد لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب، وذم أهل الذم منهم، وشكر سعي أهل الطاعة منهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ويقيمون) *. إقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها على ما فرضت عليه، كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لم يعطلوها من البيع والشراء فيها، وكما قال الشاعر:
[ 153 ]
أقمنا لاهل العراقين سوق الضراب فحاسوا وولوا جميعا وكما حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ويقيمون الصلاة قال: الذين يقيمون الصلاة بفروضها. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ويقيمون الصلاة قال: إقامة الصلاة: تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والاقبال عليها فيها. القول في تأويل قوله تعالى: * (الصلاة) *. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر عن الضحاك في قوله: الذين يقيمون الصلاة يعني الصلاة المفروضة. وأما الصلاة في كلام العرب فإنها الدعاء كما قال الاعشى: لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما يعني بذلك: دعا لها، وكقول الآخر أيضا: وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة لان المصلي متعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته تعرض الداعي بدعائه ربه استنجاح حاجاته وسؤله.
[ 154 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) *. اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ومما رزقناهم ينفقون قال: يؤتون الزكاة احتسابا بها. حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ومما رزقناهم ينفقون قال: زكاة أموالهم. حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر عن الضحاك: ومما رزقناهم ينفقون قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن المثبتات الناسخات. وقال بعضهم بما: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): ومما رزقناهم ينفقون هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وأولى التأويلات بالآية وأحقها بصفة القوم أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم، مؤدين زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل وعيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لان الله جل ثناؤه عم وصفهم، إذ وصفهم بالانفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم، فكان معلوما أنه إذ لم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبها دون نوع بخبر ولا غيره أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمود عليها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلال منه الذي لم يشبه حرام. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
[ 155 ]
) * قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت، وأي أجناس الناس هم. غير أنا نذكر ما روي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قول: فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * أي يصدقونك بما جئت به من الله جل وعزه، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من عند ربهم. حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله (ص): والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب. القول في تأويل قوله تعالى: وبالآخرة هم يوقنون. قال أبو جعفر: أما الآخرة، فإنها صفة للدار، كما قال جل ثناؤه: وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخرة لاولى كانت قبلها كما تقول للرجل: أنعمت عليك مرة بعد أخرى فلم تشكر لي الاولى ولا الآخرة. وإنما صارت الآخرة آخرة للاولى، لتقدم الاولى أمامها، فكذلك الدار الآخرة سميت آخرة لتقدم الدار الاولى أمامها، فصارت التالية لها آخرة. وقد يجوز أن تكون سميت آخرة لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق. وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين بما أنزل إلى نبيه محمد (ص)، وما أنزل إلى من قبله من المرسلين من إيقانهم به من أمر الآخرة، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين، من البعث والنشر والثواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما: حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وبالآخرة هم يوقنون أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، أي
[ 156 ]
لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك. وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين تعريض من الله عز وجل بذم الكفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه مصدقون وهم بمحمد عليه الصلاة والسلام مكذبون، ولما جاء به من التنزيل جاحدون، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: * (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بها أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) *. وأخبر جل ثناؤه عباده أن هذا الكتاب هدى لاهل الايمان بمحمد (ص)، وبما جاء به المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى خاصة، دون من كذب بمحمد (ص) وبما جاء به، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل بقوله: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله: أولئك على هدى من ربهم فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين بما أنزل إلى محمد (ص) وإلى من قبله من الرسل، وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منهم وأنهم هم المفلحون. ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك: المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون.
[ 157 ]
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل. وقال آخرون: بل عنى بذلك الذي يؤمنون بما أنزل إلى محمد (ص)،)، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنوا أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد (ص) وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الانبياء والكتب. وعلى هذا التأويل الآخر، يحتمل أن يكون: الذين يؤمنون بما أنزل إليك في محل خفض، ومحل رفع فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما من قبل العطف على ما في يؤمنون بالغيب من ذكر الذين. والثاني: أن يكون خبر مبتدأ، ويكون: أولئك على هدى من ربهم مرافعها. وأما الخفض فعلى العطف على المتقين. وإذا كانت معطوفة على الذين اتجه لها وجهان من المعنى، أحدهما: أن تكون هي والذين الاولى من صفة المتقين، وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الاربع بعد الم نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون الذين الثانية معطوفة في الاعراب على المتقين بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنف غير الصنف الاول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الاولتان من المؤمنين بعد قوله الم غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الاولتين. وقد يحتمل أن تكون الذين الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الاستئناف، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الاستئناف إذ كانت في مبتدأ آية وإن كانت من صفة المتقين. فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه، والخفض من وجهين. وأولى التأويلات عندي بقوله: أولئك على هدى من ربهم ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس، وأن تكون أولئك إشارة إلى الفريقين، أعني المتقين والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وتكون أولئك مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله: على هدى من ربهم وأن تكون الذين الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام على ما قد بيناه. وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية، لان الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ثم أثنى عليهم فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات، كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يتسحقان به الجزاء من
[ 158 ]
الاعمال فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر ويحرم الآخر جزاء عمله، فكذلك سبيل الثناء بالاعمال لان الثناء أحد أقسام الجزاء. وأما معنى قوله: أولئك على هدى من ربهم فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم كما: حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أولئك على هدى من ربهم أي على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم. القول في تأويل قوله تعالى: وأولئك هم المفلحون. وتأويل قوله: وأولئك هم المفلحون أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لاعدائه من العقاب. كما: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة. قال: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وأولئك هم المفلحون أي الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا. ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح إدراك الطلبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة: اعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا. ومنه قول الراجز: عدمت أما ولدت رباحا جاءت به مفركحا فركاحا تحسب أن قد ولدت نجاحا أشهد لا يزيدها فلاحا يعني خيرا وقربا من حاجتها. والفلاح: مصدر من قولك: أفلح فلان يفلح إفلاحا، وفلاحا، وفلحا. والفلاح أيضا البقاء، ومنه قول لبيد: نحل بلادا كلها حل قبلنا ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير
[ 159 ]
يريد البقاء. ومنه أيضا قول عبيد: أفلح بما شئت فقد يبلع بالضعف وقد يخدع ألاريب يريد: عش وابق بما شئت. وكذلك قول نابغة بني ذبيان: وكل فتى ستشعبه شعوب وإن أثرى وإن لاقى فلاحا أي نجاحا بحاجته وبقاء. القول في تأويل قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت، فكان ابن عباس يقول، كما: حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إن الذين كفروا أي بما أنزل إليك من ربك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك. وكان ابن عباس يرى أن هذه الآية، نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول الله (ص) توبيخا لهم في جحودهم نبوة محمد (ص)، وتكذيبهم به، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله (ص) إليهم وإلى الناس كافة. حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن اسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان صدر سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الاوس والخزرج كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وقد روى عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو ما: حدثنا به المثنى بن ابراهيم قال حدثنا عبد الله ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون قال كان رسول الله (ص) يحرص على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على
[ 160 ]
الهدى فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللهعادة في الذكر الاول ولا يضل الا من سبق له من الله في الذكر الاول وقال آخرون بما: حدثت به عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد الله بن ابى جعفر عن ابيه، عن الربيع بن انس، قال: آيتان في قاده الاحزاب: * (ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * إلى قوله: * (ولهم عذاب عظيم) * قال وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار قال فهم الذين قتلوا يوم بدر. وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عنه وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب من تأول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون وأن الانذار غير نافعهم ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي (ص) اياه لايمانه بالله وبالنبي (ص) وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك وكانت قادة الاحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي (ص) اياه حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدر علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك فهي أن قول الله جل ثناؤه ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله فأولى الامور بحكمة ا أن يتلى ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم وذم أسبابهم وأحوالهم، واظهار شتمهم والبراءة منهم لان مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحواله باختلاف أديانهم فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو اسرائيل. وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه (ص) على مشركي اليهود من أحبار بني اسرائيل الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته بإظهار نبيه (ص) على ما كانت تسره
[ 161 ]
الاحبار منهم وتكتمه فيجهله عظم اليهود وتعلمه الاحبار منهم ليعلموا ان الذي أطلعه على علم ذلك هو الذي أنزل الكتاب على موسى إذ كان ذلك من الامور التي لم يكن محمد (ص) ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد (ص) فيمكنهم ادعاء البس في أمره عليه السلام أنه نبي وأن ما جاء به من عند الله وأنى يمكنهم ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجم وانبعث على أحبار قراء كتبه قد درسوا الكتب ورأسوا الامم يخبرهم عن مستور عيوبهم ومصون علومهم ومكتوم أخبارهم وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم ان أم رمن كان كذلك لغير مشكل وأن صدقه والحمد لله لبين. ومما ينبئ عن صحة ما قلنا من ان الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون هم أحبار اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه اقتصاص الله تعالى ذكره نباهم وتذكيره اياهم ما اخذ عليهم من العهود والموائيق في امر محمد عليه الصلاة والسلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن ابليس وآدم في قوله يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم الآيات واحتجاجه لنبيه عليهم بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته فإذا كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب وآخر عن مشركيهم فأولى أن يكون وسطا عنهم إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع الا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدئ به من معانيه فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه. وأما معنى الكفر في قوله ان الذين كفروا فإنه الجحود وذلك ان الاحبار من يهود المدينة جحدوا نبوة محمد (ص) وستروه عن الناس وكتموا أمره وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأصل الكفر عند العرب تغطية الشئ ولذلك سمو الليل كافر التغطية ظلمته ما لبسته كما قال الشاعر: فتذكر ثقلارثيدا بعد ما ألقت ذكاء يمينها في كافر
[ 162 ]
وقال لبيد بن ربيعة: في ليلة كفر النجوم غمامها يعني عطاها فكذلك الاحبار من اليهود غطوا أمر محمد (ص) وكتموه الناس مع علمهم بنبوته ووجودهم صفته في كتبهم فقال الله جل ثناؤه فيهم ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: * (ان الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *. القول في تأويل قوله جل ثناؤه (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) وتأويل سواء معتدل مأخوذ من التساوي كقولك متساو هذان الامران عندي وهما عندي سواء أي هما متعادلان عندي ومنه قول الله جل ثناؤه فانبذ إليهم على سواء يعني أعلمهم وآذنهم بالحرب حتى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كل فريق منهم للفريق الآخر فكذلك قوله سواء عليهم معتدل عندهم أي الامرين كان منك إليهم ألا نذار رأم ترك الانذار لانهم كانوا لا يؤمنون وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات. تغذبي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها يعني بذلك معتدل عندها في السير الليل والنهار لانه لا فتور فيه ومنه قول الآخر وليل يقول المرء من ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها لان الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرا ضعيفا من ظلمته وأما قوله أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فإنه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام
[ 163 ]
وهو خبر لانه وقع موقع أي كما تقول لا نبالي أقمت أم قعدت وأنت مخبر لا مستفهم لوقوع ذلك موقع أي وذلك أن معناه إذا قلت ذلك ما نبالي أي هذين كان منك فكذلك ذلك في قوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لما كان معنى الكلام: سواء عليهم أي هذين كان منك إليهم حسن في موضعه مع سواء أفعلت أم لم تفعل. وقد كان بعض نحوبي البصرة يزعم أن حرف الاستفهام إنما دخل مع سواه وليس باستفهام لان المستفهم إذا استفهم غيره فقال أزيد عندك أم عمرو ومستثبت صاحبه أيهما عنده فليس أحدهما أحق بالاستفهام من الاخر فلما كان قوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم بمعنى التسوية أشبه ذلك الاستفهام إذ وشبهه في التسوية وقد بينا الصواب في ذلك فتأويل الكلام إذا معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها وتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك وأن يبينوه للناس ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم فأنهم لا يؤمنون ولا يرجعون إلى الحق ولا يصدقون بك وبما جئتهم به لما: حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون أي إنهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكر وجحدوا ما أخذ عليهم من اليثاق لك فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذار وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ القول في تأويل قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم) وأصل الختم الطبع والخاتم هو الطابع يقال منه ختمت الكتاب إذا طبعته. فإن قال لنا قائل وكيف يختم على القلوب وإنما الختم طبع على الاوعية
[ 164 ]
والظروف والغلف قيل فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم وظروف لما جعل فيها من المعارف بالامور فمعنى الختم عليها وعلى الاسماع التي بها تدرك المسموعات ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الانباء عن المغيبات نظير معنى الختم على سائر الاوعية والظروف فإن قال فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للابصار أم هي بخلاف ذلك قيل قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم. فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال حدثنا يحيى بن عيسى عن الاعمش قال أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال باصبع أخرى هكذا حتى ضم اصابعه كلها قال ثم يطبع عليه بطابع قال مجاهد وكانوا يرون أن ذلك الرين. حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع عن الاعمش عن مجاهد قال القلب مثل الكف فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها وكان أصحابنا يرون أنه الران. حدثنا القاسم بن الحسن قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج قال حدثنا ابن جريج قال قال مجاهد نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم قال ابن جريج الختم ختم على القل والسمع. حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج قال حدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول الران أيسر من الطبع والطبع أيسر من الاقفال والاقفال أشد ذلك كله وقال بعضهم إنما معنى قوله ختم الله على قلوبهم اخبار من الله جل ثناؤه عن تكبرهم واعراضهم عن الاستماع لما دوا إليه من الحق كما يقال إن فلانا الاصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا
[ 165 ]
والحق في ذلك عندي ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله (ص) وهو ما. حدثنا به محمد بن يسار قال حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى يغلف قلبه فذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فأخبر (ص) أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع فلا يكون للايمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم نظير الطبع والختم على ما تدركه الابصار من الاوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك لا يصل الايمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضة خاتمه وحله رباطه عنها ويقال لقائلي القول الثاني الزاعمين أن معنى قوله جل ثناؤه ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم هو وصفهم بالاستكبار والاعراض عن الذي دعوا إليه من الاقرار بالحق تكبرا أخبرونا عن استكبار الذين وصفهم الله جل ثناؤ بهذه الصفة واعراضهم عن الاقرار بما دعوا إليه من الايمان وسائر المعاني اللواحق به أفعل منهم أم فعل من الله تعالى ذكره بهم فإن زعموا أن ذلك فعل منهم وذلك قولهم قيل لهم فإن الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وسمعهم وكيف يجوز أن يكو اعراض الكافر عن الايمان وتكبره عن الاقرار به وهو فعله عندكم ختما من الله على قلبه وسمعه وختمه على قلبه وسمعه فعل الله عز وجل دون فعل الكافر فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك لان تكبره واعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه فلما كان الختم سببا لذلك جاز أن يسمى مسببه به تركوا قولهم وأوجبوا أن الخت من الله على قلوب الكفار وأسماعهم معنى غير كفر الكافر وغير تكبره وإعراضه عن قبول الايمان والاقرار به وذلك دخول فيما أنكره وهذه الآية من أوضح الادلة على فساد قول المنكريه تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله لان الله جل ثناؤه أخبر أنه ختم على قلوب صنف من كفار عباده وأسماعهم ثم لم يسقط التكليف عنهم ولم يضع عن ى حد منهم فرائضه ولم يعذر في شئ مما كان منه من
[ 166 ]
خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه بل أخبر أن لجميعهم منه عذابا عظيما على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتمه القضاء عليهم مع ذلك بأنهم لا يؤمنون. القول في تأويل قوله جل ثناؤه (وعلى أبصارهم غشاوة) وقوله وعلى أبصارهم غشاوة خبر مبتدأ بعد تمام الخبر عما ختم الله جل ثناؤه عيه من جوارح الكفار الذين مضت قصصهم وذلك أن غشاوة مرفوعة بقوله وعلى أبصارهم فذلك دليل على أنه خبر مبتدأ وأن قوله ختم الله على قلوبهم قد تناهى عند قوله وعلى سمعهم وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين أحدهما اتفاق الحجة من القراء والعلماء على الشهادة بتصحيحها وانفراد المخالف لهم في ذلك وشذوذه عما هم على تخطئته مجمعون وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدا على خطئها والثاني أن الختم غير موصوفة به العيون في شئ من كتاب الله ولا في خبر عن رسول الله (ص) ولا موجود في لغة أحد من العرب وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى وختم على سمعه وقلبه ثم قال وجعل على بصره غشاوة فلم يدخل البصر في معنى الختم وذلك هو المعروف في كلام العرب فلم يجز لنا ولا لاحد من الناس القراءة بنصب لغشاوة لما وصفت من العلتين اللتين ذكرت وإن كان لنصبها مخرج معروف في العربية وبما قلنا في ذلك من القول والتأويل روى الخبر عن ابن عباس. حدثنا محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. فإن قال قائل: وما وجه مخرج النصب فيها ؟ قيل له: إن نصبها بإضمار جعل كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوة ثم أسقط جعل إذ كان في أول الكلام ما يدل عليه. وقد يحتمل نصبها على إتباعها موضع السمع إذ كان موضعه نصبا، وإن لم يكن حسنا إعادة العامل فيه على غشاوة ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضا، كؤما قال تعالى ذكره: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق ثم قال: وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين فخفض اللحم والحور على العطف به على الفاكهة إتباعا
[ 167 ]
لآخر الكلام أوله. ومعلوم أن اللحم لا يطاف به ولا بالحور، ولكن ذلك كما قال الشاعر يصف فرسه: علفتها تبنا وماء بارداحتى شتت همالة عيناها ومعلوم أن الماء يشرب ولا يعلف به، ولكنه نصب ذلك على ما وصفت قبل. وكما قال الآخر: ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا وكان ابن جريج يقول في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله: وعلى سمعهم وابتداء الخبر بعده بمثل الذي قلنا فيه، ويتأول فيه من كتاب الله: فإن يشأ الله يختم على قلبك. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: حدثنا ابن جريج، قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى ذكره: فإن يشأ الله يختم على قلبك وقال: وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة والغشاوة في كلام العرب: الغطاء، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص: تبعتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها ومنه يقال: تغشاه الهم: إذا تجلله وركبه. ومنه قول نابغة بني ذبيان: هلا سألت بني ذبيان ما حسبي إذا الدخان تغشى الاشمط البرما يعني بذلك: إذا تجلله وخالطه.
[ 168 ]
وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدا (ص) عن الذين كفروا به من أحبار اليهود، أنه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظة وعظهم بها فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه، وفيما حدد في كتابه الذي أوحاه وأنزله إلى نبيه محمد (ص)، وعلى سمعهم فلا يسمعون من محمد (ص) نبي الله تحذيرا ولا تذكيرا ولا حجة أقامها عليهم بنبوته، فيتذكروا ويحذروا عقاب الله عز وجل في تكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه وصحة أمره وأعلمه مع ذلك أن على أبصارهم غشاوة عن أن يبصروا سبيل الهدى فيعلموا قبح ما هم عليه من الضلالة والردي. وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن جماعة من أهل التأويل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك، حتى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك. حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله (ص): ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم يقول فلا يعقلون، ولا يسمعون. ويقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون. وأما آخرون فإنهم كانوا يتأولون أن الذين أخبر الله عنهم من الكفار أنه فعل ذلك بهم هم قادة الاحزاب الذين قتلوا يوم بدر. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هاتان الآيتان إلي: ولهم عذاب عظيم هم: الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار وهم الذين قتلوا يوم بدر فلم يدخل من القادة أحد في الاسلام إلا رجلان: أبو سفيان ابن حرب، والحكم بن أبي العاص. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
[ 169 ]
الربيع بن أنس، عن الحسن، قال: أما القادة فليس فيهم مجيب، ولا ناج، ولا مهتد، وقد دللنا فيما مضى على أولى هذين التأويلين بالصواب كرهنا إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: ولهم عذاب عظيم. وتأويل ذلك عندي كما قاله ابن عباس وتأوله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم، قال: فهذا في الاحبار من يهود فيما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك بعد معرفتهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) * قال أبو جعفر: أما قوله: ومن الناس فإن في الناس وجهين: أحدهما أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه، وإنما واحده إنسان وواحدته إنسانة. والوجه الآخر: أن يكون أصله أناس أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثم دخلتها الالف واللام المعرفتان، فأدغمت اللام التي دخلت مع الالف فيها للتعريف في النون، كما قيل في: لكن هو الله ربي على ما قد بينا في اسم الله الذي هو الله. وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس، وأنه سمع العرب تصغره نويس من الناس، وأن الاصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أنيس، فرد إلى أصله. وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة صفتهم. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يعني المنافقين من الاوس والخزرج، ومن كان على أمرهم. وقد سمي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبي بن كعب، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم.
[ 170 ]
حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين حتى بلغ: فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين قال: هذه في المنافقين. حدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين هم المنافقون. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر إلى: فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم قال: هؤلاء أهل النفاق. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين قال: هذا المنافق يخالف قوله فعله وسره علانيته ومدخله مخرجه ومشهده مغيبه. وتأويل ذلك أن الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد (ص) أمره في دار هجرته واستقر بها قراره وأظهر الله بها كلمته، وفشا في دور أهلها الاسلام، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الاوثان، وذل بها من فيها من أهل الكتاب أظهر أحبار يهودها لرسول الله (ص) الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم، هداهم الله للاسلام فأسلموا، كما قال الله جل ثناؤه: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد
[ 171 ]
إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وطابقهم سرا على معاداة النبي (ص) وأصحابه وبغيهم الغوائل قوم من أراهط الانصار الذين آووا رسول الله (ص) ونصروه وكانوا قد عتوا في شركهم وجاهليتهم قد سموا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم. وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار حذار القتل على أنفسهم والسباء من رسول الله (ص) وأصحابه، وركونا إلى اليهود، لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالاسلام. فكانوا إذا لقوا رسول الله (ص) وأهل الايمان به من أصحابه، قالوا لهم حذارا على أنفسهم: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم، وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد (ص) وبما جاء به فخلوا بهم، قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزءون فإياهم عنى جل ذكره بقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يعني بقوله تعالى خبرا عنهم آمنا بالله: صدقنا بالله. وقد دللنا على أن معنى التصديق فيما مضى قبل من كتابنا هذا. وقوله: وباليوم الآخر يعني بالبعث يوم القيامة. وإنما سمي يوم القيامة اليوم الآخر: لانه آخر يوم، لا يوم بعده سواه. فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم، ولا انقطاع للآخرة، ولا فناء، ولا زوال ؟. قيل: إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسم يوما، فيوم القيامة يوم لا ليل له بعده سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الايام، ولذلك سماه الله جل ثناؤه: اليوم الآخر، ونعته بالعقيم، ووصفه بأنه يوم عقيم لانه لا ليل بعده. وأما تأويل قوله:: وما هم بمؤمنين ونفيه عنهم جل ذكره اسم الايمان، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنا بالله وباليوم الآخر فإن ذلك من الله عز وجل تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الايمان والاقرار بالبعث، وإعلام منه نبيه (ص) أن الذي
[ 172 ]
يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم، وضد ما في عزائم نفوسهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية من أن الايمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق أنهم قالوا بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك. وقوله: وما هم بمؤمنين يعني بمصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون. القول في تأويل قوله تعالى. * (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) * قال أبو جعفر: وخداع المنافق ربه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والاقرار من القتل والسباء، فذلك خداعه ربه وأهل الايمان بالله. فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين باظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لانه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه: وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون.
[ 173 ]
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك كان ابن زيد يقول. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: سألت عبد الرحمن بن زيد، عن قول الله جل ذكره: يخادعون الله والذين آمنوا إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، أنهم مؤمنون بما أظهروا. وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين: إن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عنادا، بعد علمه بوحدانيته، وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والاقرار بكتبه ورسله عنده لان الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون، وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الايمان به مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذابا أليما بتكذيبهم بما كانوا يكذبونه من نبوة نبيه واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنهم مؤمنون، وهم على الكفر مصرون. فإن قال لنا قائل: قد علمت أن المفاعلة لا تكون إلا من فاعلين، كقولك: ضاربت أخاك، وجالست أباك إذا كان كل واحد مجالس صاحبه ومضاربه. فأما إذا كان الفعل من أحدهما فإنما يقال: ضربت أخاك وجلست إلى أبيك، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه: خادع الله والمؤمنين. قيل: قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب: إن ذلك حرف جاء بهذه الصورة، أعني يخادع بصورة يفاعل وهو بمعنى يفعل في حروف أمثالها شاذة من منطق العرب، نظير قولهم: قاتلك الله، بمعنى قتلك الله. وليس القول في ذلك عندي كالذي قال، بل ذلك من التفاعل الذي لا يكون إلا من اثنين كسائر ما يعرف من معنى يفاعل ومفاعل في كل كلام العرب، وذلك أن المنافق يخادع الله جل ثناؤه بكذبه بلسانه على ما قد تقدم وصفه، والله تبارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده، كالذي أخبر في قوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * وبالمعنى الذي أخبر أنه فاعل به في الآخرة بقوله: * (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) * الآية، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام بيفاعل ومفاعل.
[ 174 ]
وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل: يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضهم: وما يخدعون يقول: يخدعون أنفسهم بالتخلية بها. وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة. القول في تأويل قوله تعالى: وما يخدعون إلا أنفسهم. إن قال لنا قائل: أو ليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟ قيل: خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين لانا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعة جاءت لهم على المؤمنين، كما أنا لو قلنا: قتل فلان فلانا، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادع المنافقون ربهم والمؤمنين، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه: قاتل فلان فلانا ولم يقتل إلا نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: خادع المنافق ربه والمؤمنين، ولم يخدع إلا نفسه، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه لان الخادع هو الذي قد صحت له الخديعة ووقع منه فعلها. فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم، لان ما كان لهم من مال وأهل فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة، والله بما يخفون من أمورهم عالم. وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه. فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها. والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارف
[ 175 ]
باطلاعه على ضميره، وأن إمهال مستدرجه وتركه إياه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إياه وكثرة صفح المستدرج وطول عفوه عنه أقصى غاية، فإنما هو خادع نفسه لا شك دون من حدثته نفسه أنه له مخادع. ولذلك نفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه، إذ كانت الصفة التي وصفنا صفته. وإذ كان الامر على ما وصفنا من خداع المنافق ربه وأهل الايمان به، وأنه غير سائر بخداعه ذلك إلى خديعة صحيحة إلا لنفسه دون غيرها لما يورطها بفعله من الهلاك والعطب، فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة: وما يخدعون إلا أنفسهم دون: وما يخادعون، لان لفظ المخادع غير موجب تثبيت خديعة على صحة، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله عز وجل لنفسه بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه، فلذلك وجبت الصحة لقراءة من قرأ: وما يخدعون إلا أنفسهم. ومن الدلالة أيضا على أن قراءة من قرأ: وما يخدعون أولى بالصحة من قراءة من قرأ: وما يخادعون أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه، لان ذلك تضاد في المعنى، وذلك غير جائز من الله عز وجل. القول في تأويل قوله تعالى: وما يشعرون. يعني بقوله جل ثناؤه: وما يشعرون: وما يدرون، يقال: ما شعر فلان بهذا الامر، وهو لا يشعر به إذا لم يدر ولم يعلم شعرا وشعورا، كما قال الشاعر: عقوا بسهم ولم يشعر به أحدثم استفاءوا وقالوا حبذا الوضح يعني بقوله: لم يشعر به: لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين، أنهم لا يشعرون بأن الله خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إياهم الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغ إليهم في الحجة والمعذرة، ومنهم لانفسهم خديعة، ولها في الآجل مضرة. كالذي: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون قال: ما يشعرون أنهم ضروا أنفسهم بما
[ 176 ]
أسروا من الكفر والنفاق. وقرأ قول الله: يوم يبعثهم الله جميعا قال: هم المنافقون، حتى بلغ ويحسبون أنهم على شئ قد كان الايمان ينفعهم عندكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * وأصل المرض: السقم، ثم يقال ذلك في الاجساد والاديان فأخبر الله جل ثناؤه أن في قلوب المنافقين مرضا. وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لما كان معلوما بالخبر عن مرض القلب أنه معنى به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بالخبر عن القلب بذلك والكناية عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عمر بن لجأ: وسبحت المدينة لا تلمها رأت قمرا بسوقهم نهارا يريد وسبح أهل المدينة. فاستغنى بمعرفة السامعين خبره بالخبر عن المدينة عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي يريد: هلا سألت أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم: يا خيل الله اركبي، يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها كتاب، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه. فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: في قلوبهم مرض إنما يعني في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد (ص)، وبما جاء به من عند الله مرض وسقم. فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم. والمرض الذي ذكر الله
[ 177 ]
جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هوشكهم في أمر محمد، وما جاء به من عند الله وتحيرهم فيه، فلا هم به موقنون إيقا إيمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يقال: فلان يمرض في هذا الامر، أي يضعف العزم ولا يصحح الروية فيه. وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك تظاهر القول في تفسيره من المفسرين ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: في قلوبهم مرض أي شك. وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: المرض: النفاق. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): في قلوبهم مرض يقول: في قلوبهم شك. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قوله: في قلوبهم مرض قال: هذا مرض في الدين وليس مرضا في الاجساد. قال: هم المنافقون. حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة في قوله: في قلوبهم مرض قال: في قلوبهم ريبة وشك في أمر الله جل ثناؤه. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: في قلوبهم مرض قال: هؤلاء أهل النفاق، والمرض الذي في قلوبهم الشك في أمر الله تعالى ذكره. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر حتى بلغ: في قلوبهم مرض قال المرض: الشك الذي دخلهم في الاسلام.
[ 178 ]
القول في تأويل قوله تعالى: فزادهم الله مرضا. قد دللنا آنفا على أن تأويل المرض الذي وصف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين: هو الشك في اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم عليه في أمر محمد رسول الله (ص) وأمر نبوته وما جاء به مقيمون. فالمرض الذي أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنه زادهم على مرضهم هو نظير ما كان في قلوبهم من الشك والحيرة قبل الزيادة، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضه التي لم يكن فرضها قبل الزيادة التي زادها المنافقين من الشك والحيرة إذ شكوا وارتابوا في الذي أحدث لهم من ذلك إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السالف من حدوده وفرائضه التي كان فرضها قبل ذلك، كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حدوده وفرائضه إيمانا. كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله: * (وإذا أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) * فالزيادة التي زيدها المنافقون من الرجاسة إلى رجاستهم هو ما وصفنا، والزيادة التي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم هو ما بينا، وذلك هو التأويل المجمع عليه. ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت. عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فزادهم الله مرضا قال: شكا. حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): فزادهم الله مرضا يقول: فزادهم الله ريبة وشكا.
[ 179 ]
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد عن قتادة: فزادهم الله مرضا يقول: فزادهم الله ريبة وشكا في أمر الله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا قال: زادهم رجسا. وقرأ قول الله عز وجل: * (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * قال: شرا إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: فزادهم الله مرضا قال زادهم الله شكا. القول في تأويل قوله تعالى: ولهم عذاب أليم. قال أبو جعفر: والاليم: هو الموجع، ومعناه: ولهم عذاب مؤلم، فصرف مؤلم إلى أليم، كما يقال: ضرب وجيع بمعنى موجع، والله بديع السموات والارض بمعنى مبدع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع بمعنى المسمع. ومنه قول ذي الرمة: ويرفع من صدور شمردلات يصد وجوهها وهج أليم ويروى يصك، وإنما الاليم صفة للعذاب، كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الالم، والالم: الوجع. كما: حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع، قال: الاليم: الموجع.
[ 180 ]
حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الاليم، الموجع. وحدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله أليم قال: هو العذاب الموجع، وكل شئ في القرآن من الاليم فهو الموجع. القول في تأويل قوله تعالى: بما كانوا يكذبون. اختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: بما كانوا يكذبون مخففة الذال مفتوحة الياء، وهي قراءة معظم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: يكذبون بضم الياء وتشديد الذال، وهي قراءة معظم أهل المدينة والحجاز والبصرة. وكأن الذين قرءوا ذلك بتشديد الذال وضم الياء رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذاب الاليم بتكذيبهم نبيهم محمدا (ص) وبما جاء به، وأن الكذب لولا التكذيب لا يوجب لاحد اليسير من العذاب، فكيف بالاليم منه ؟ وليس الامر في ذلك عندي كالذي قالوا وذلك أن الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة بأنهم يكذبون بدعواهم الايمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعا لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين، فقال: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا) * بذلك من قيلهم مع استسرارهم الشك والريبة، وما يخدعون بصنيعهم ذلك إلا أنفسهم دون رسول الله (ص) والمؤمنين، وما يشعرون بموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عز وجل إياهم بإملائه لهم في قلوبهم شك أي نفاق وريبة، والله زائدهم شكا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وهم في قيلهم ذلك كذبة لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم. في أمر الله وأمر رسوله (ص)، فأولى في حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يجز له ذكر من أفعالهم إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل. وهو أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم. فكذلك الصحيح من القول في الآيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم، فهذا مع دلالة الآية
[ 181 ]
الاخرى على صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأن الصواب من التأويل ما تأولنا من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الاليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب، وذلك قول الله تبارك وتعالى: * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) * والآية الاخرى في المجادلة: * (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين) * فأخبر جل ثناؤه أن المنافقين بقيلهم ما قالوا لرسول الله (ص)، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون، كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة: ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون لكانت القراءة في السورة الاخرى: * (والله يشهد إن المنافقين لمكذبون) *، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب، لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون بمعنى الكذب، وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الاليم على ذلك من كذبهم، أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة: بما كانوا يكذبون بمعنى الكذب، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب حق، لا على التكذيب الذي لم يجز له ذكر نظير الذي في سورة المنافقين سواء. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن ما من قول الله تبارك اسمه: بما كانوا يكذبون اسم للمصدر، كما أن أن والفعل اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تأتيني، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم. قال: وأدخل كان ليخبر أنه كان فيما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبد الله. فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه. وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ويقول: إنما ألغيت كان في التعجب لان الفعل قد تقدمها، فكأنه قال: حسنا كان زيد، وحسن كان زيد يبطل كان، ويعمل مع الاسماء والصفات التي بألفاظ الاسماء إذا جاءت قبل كان ووقعت كان بينها وبين الاسماء. وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال فشبه الصفات والاسماء بفعل ويفعل اللتين لا يظهر عمل كان فيهما، ألا ترى أنك تقول: يقوم كان زيد، ولا يظهر عمل كان
[ 182 ]
في يقوم، وكذلك قام كان زيد. فلذلك أبطل عملها مع فاعل تمثيلا بفعل ويفعل، وأعملت مع فاعل أحيانا لانه اسم كما تعمل في الاسماء. فأما إذا تقدمت كان الاسماء والافعال وكان الاسم والفعل بعدها، فخطأ عنده أن تكون كان مبطلة فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه، وتأول قوله الله عز وجل: بما كانوا يكذبون أنه بمعنى: الذي يكذبونه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون) * اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية، فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعد. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علي، قال: حدثنا الاعمش، قال: سمعت المنهال بن عمرو يحدث عن عباد بن عبد الله، عن سلمان، قال: ما جاء هؤلاء بعد، الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون. حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثني أبي، قال: حدثني الاعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلمان أنه قال في هذه الآية: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون قال ما جاء هؤلاء بعد. وقال آخرون بما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون هم المنافقون. أما لا تفسدوا في الارض فإن الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض يقول: لا تعصوا في الارض. قال: فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله جل ثناؤه، لان من عصى الله في الارض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الارض، لان إصلاح الارض والسماء بالطاعة. وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قول الله تبارك اسمه: وإذا قيل لهم لا
[ 183 ]
تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله (ص)، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة. وقد يحتمل قول سلمان عند تلاوة هذه الآية: ما جاء هؤلاء بعد أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصفة على عهد رسول الله (ص) خبرا منه عمن جاء منهم بعدهم ولما يجئ بعد، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن هذه صفته أحد. وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا، لاجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله (ص) على عهد رسول الله (ص) من المنافقين، وأن هذه الآيات فيهم نزلت. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير. والافساد في الارض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه. فذلك جملة الافساد، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته: * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * يعنون بذلك: أتجعل في الارض من يعصيك ويخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق مفسدون في الارض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به والايقان بحقيته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لاهل معصيته بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون، بل أوجب لهم الدرك الاسفل من ناره والاليم من عذابه والعار العاجل بسب الله إياهم وشتمه لهم، فقال تعالى: ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم أدل الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين: إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه. القول في تأويل قوله تعالى: قالوا إنما نحن مصلحون.
[ 184 ]
وتأويل ذلك كالذي قاله ابن عباس، الذي: حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: إنما نحن مصلحون أي قالوا: إنما نريد الاصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وخالفه في ذلك غيره. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قال: إذا ركبوا معصية الله، فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون. قال أبو جعفر: وأي الامرين كان منهم في ذلك أعنى في دعواهم أنهم مصلحون فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواء بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الاصلاح أو في أديانهم، وفيما ركبوا من معصية الله، وكذبهم المؤمنين فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهروا مستبطنون، لانهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين، وهم عند الله مسيئون، ولامر الله مخالفون لان الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوة اليهود وحربهم مع المسلمين، وألزمهم التصديق برسول الله (ص) وبما جاء به من عند الله كالذي ألزم من ذلك المؤمنين، فكان لقاؤهم اليهود على وجه الولاية منهم لهم، وشكهم في نبوة رسول الله (ص) وفيما جاء به أنه من عند الله أعظم الفساد، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحا وهدى: في أديانهم، أو فيما بين المؤمنين واليهود، فقال جل ثناؤه فيهم: ألا إنهم هم المفسدون دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الافساد في الارض ولكن لا يشعرون. ] القول في تأويل قوله تعالى: * (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) * وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به، ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه. قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رشد وهدى فيما أنكرتموه علينا دونكم لا ضالون. فكذبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم، فقال: ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حدوده الراكبون معصيته، التاركون فروضه وهم لا يشعرون ولا يدرون أنهم كذلك، لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين. ] القول في تأويل قوله تعالى:
[ 185 ]
* (وإذا قيل لهم آمنوا كمآ آمن الناس قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء ألا إنهم هم السفهآء ولكن لا يعلمون) * قال أبو جعفر: وتأويل قوله: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وصفهم الله ونعتهم بأنهم يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين: صدقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله كما صدق به الناس. ويعني بالناس المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس يقول: وإذا قيل لهم صدقوا كما صدق أصحاب محمد، قولوا: إنه نبي ورسول، وإن ما أنزل عليه حق. وصدقوا بالآخرة، وأنكم مبعوثون من بعد الموت. وإنما أدخلت الالف واللام في الناس وهم بعض الناس لا جميعهم لانهم كانوا معروفين عند الذين خوطبوا بهذه الآية بأعيانهم. وإنما معناه: آمنوا كما آمن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد (ص)، وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر، فلذلك أدخلت الالف واللام فيه كما أدخلتا في قوله: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) * لانه أشير بدخولها إلى ناس معروفين عند من خوطب بذلك. القول في تأويل قوله تعالى: قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء. قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سفيه، كالعلماء جمع عليم، والحكماء جمع حكيم. والسفيه: الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار ولذلك سمى الله عز وجل النساء والصبيان سفهاء، فقال تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم) * قياما فقال عامة أهل التأويل: هم النساء والصبيان لضعف آرائهم، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضار التي تصرف إليها الاموال. وإنما عنى المنافقون بقيلهم
[ 186 ]
أنؤمن كما آمن السفهاء، إذ دعوا إلى التصديق بمحمد (ص)، وبما جاء به من عند الله، والاقرار بالبعث، فقال لهم: آمنوا كما آمن أصحاب محمد وأتباعه من المؤمنين المصدقين به أهل الايمان واليقين والتصديق بالله وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد (ص) وفي كتابه وباليوم الآخر، فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمن أهل الجهل ونصدق بمحمد (ص) كما صدق به هؤلاء الذين لا عقول لهم ولا أفهام كالذي: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص)، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء يعنون أصحاب النبي (ص). حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع بن أنس: قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء يعنون أصحاب محمد (ص). حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء قال: هذا قول المنافقين، يريدون أصحاب النبي (ص). حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء يقولون: أنقول كما تقول السفهاء ؟ يعنون أصحاب محمد (ص)، لخلافهم لدينهم. القول في تأويل قوله تعالى: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعته لهم ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب، أنهم هم الجهال في أديانهم، الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لانفسهم من الشك والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته، وفيما جاء به من عند الله، وأمر البعث، لاساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك، وهم يحسبون أنهم إليها يحسنون. وذلك هو عين السفه، لان السفيه إنما يفسد من حيث يرى أنه يصلح ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ. فكذلك المنافق يعصي ربه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسئ إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها، كما وصفهم به ربنا جل ذكره فقال: * (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا
[ 187 ]
يشعرون) * وقال: ألا إنهم هم السفهاء دون المؤمنين المصدقين بالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه، ولكن لا يعلمون. وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه: ألا إنهم هم السفهاء يقول الجهال، ولكن لا يعلمون يقول: ولكن لا يعقلون. وأما وجه دخول الالف واللام في السفهاء فشبيه بوجه دخولهما في الناس في قوله: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس وقد بينا العلة في دخولهما هنالك، والعلة في دخولهما في السفهاء نظيرتها في دخولهما في الناس هنالك سواء. والدلالة التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبة من الله لا يستحقها إلا المعاند ربه مع علمه بصحة ما عانده فيه نظير دلالة الآيات الاخر التي قد تقدم ذكرنا تأويلها في قوله: ولكن لا يشعرون ونظائر ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) * قال أبو جعفر: وهذه الآية نظير الآية الاخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين، فقال: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله: وما هم بمؤمنين وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله بألسنتهم: آمنا وصدقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءا لهم عنها، وأنهم إذا خلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شئ مردته قالوا لهم: إنا معكم أي إنا معكم على دينكم، وظهراؤكم على من خالفكم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد (ص)، إنما نحن مستهزئون بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه. كالذي:
[ 188 ]
حدثنا محمد بن العلاء: قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال حدثنا بشر بن عمار عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي (ص) أو بعضهم، قالوا: إنا على دينكم، وإذا خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإذا لقوا اللذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب، وخلاف ما جاء به الرسول قالوا إنا معكم أي إنا على مثل ما أنتم عليه إنما نحن مستهزءون. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله (ص): وإذا خلوا إلى شياطينهم أما شياطينهم، فهم رؤوسهم في الكفر. حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: وإذا خلوا إلى شياطينهم أي رؤسائهم وقادتهم في الشر، قالوا إنما نحن مستهزءون. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: وإذا خلوا إلى شياطينهم قال: المشركون. حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: وإذا خلوا إلى شياطينهم قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، عن شبل بن عباد، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد: وإذا خلوا إلى شياطينهم قال أصحابهم: من المنافقين والمشركين. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر،
[ 189 ]
عن أبيه، عن الربيع بن أنس: وإذا خلوا إلى شياطينهم قال إخوانهم من المشركين، قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا قال: إذا أصاب المؤمنين رخاء، قالوا: إنا نحن معكم إنما نحن إخوانكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: شياطينهم: أصحابهم من المنافقين والمشركين. فإن قال لنا قائل: أرأيت قوله: وإذا خلوا إلى شياطينهم فكيف قيل خلوا إلى شياطينهم ولم يقل خلوا بشياطينهم ؟ فقد علمت أن الجاري بين الناس في كلامهم خلوت بفلان أكثر وأفشى من خلوت إلى فلان، ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان ! قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب، فكان بعض نحويي البصرة يقول: يقال خلوت إلى فلان، إذا أريد به: خلوت إليه في حاجة خاصة لا يحتمل إذا قيل كذلك إلا الخلاء إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل: خلوت به احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة، والآخر: في السخرية به، فعلى هذا القول وإذا خلوا إلى شياطينهم لا شك أفصح منه لو قيل: وإذا خلوا بشياطينهم لما في قول القائل: إذا خلوا بشياطينهم من التباس المعنى على سامعيه الذي هو منتف عن قوله: وإذا خلوا إلى شياطينهم فهذا أحد الاقوال. والقول الآخر أن توجيه معنى قوله: وإذا خلوا إلى شياطينهم أي إذا خلوا مع شياطينهم، إذ كانت حروف الصفات يعاقب بعضها بعضا كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: من أنصاري إلى الله يريد مع الله، وكما توضع على في موضع من وفي وعن والباء، كما قال الشاعر: إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
[ 190 ]
بمعنى عني. وأما بعض نحويي أهل الكوفة فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم فيزعم أن الجالب إلى المعنى الذي دل عليه الكلام: من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم، لا قوله خلوا. وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع إلى غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها. وهذا القول عندي أولى بالصواب، لان لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره، فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ول إلى في كل موضع دخلت من الكلام حكم وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها. القول في تأويل قوله تعالى: إنما نحن مستهزءون. أجمع أهل التأويل جميعا لا خلاف بينهم، على أن معنى قوله: إنما نحن مستهزءون: إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مردتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم على ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد (ص)، وبما جاء به ومعاداته ومعاداة أتباعه، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد (ص) في قيلنا لهم إذا لقيناهم آمنا بالله وباليوم الآخر. كما: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قالوا: إنما نحن مستهزءون ساخرون بأصحاب محمد (ص). حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: إنما نحن مستهزءون: أي إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: إنما نحن مستهزءون: إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونسخر بهم. حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر،
[ 191 ]
عن أبيه، عن الربيع: إنما نحن مستهزءون أي نستهزئ بأصحاب محمد (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) * قال أبو جعفر: اختلف في صفة استهزاء الله جل جلاله الذي ذكر أنه فاعله بالمنافقين الذين وصف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعل بهم يوم القيامة في قوله تعالى: * (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) * قيل * (ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى) * الآية، وكالذي أخبرنا أنه فعل بالكفار بقوله: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) *. فهذا وما أشبهه من استهزاء الله عز وجل وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به، عند قائلي هذا القول ومتأولي هذا التأويل. وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم: توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصي الله والكفر به، كما يقال: إن فلانا ليهزأ منه اليوم ويسخر منه يراد به توبيخ الناس إياه ولومهم له، أو إهلاكه إياهم وتدميره بهم، كما قال عبيد بن الابرص: سائل بنا حجر ابن أم قطام إذ ظلت به السمر النواهل تلعب فزعموا أن السمر وهي القنا لا لعب منها، ولكنها لما قتلتهم وشردتهم جعل ذلك من فعلها لعبا بمن فعلت ذلك به قالوا: فكذلك استهزاء الله جل ثناؤه بمن استهزأ به من أهل النفاق والكفر به، إما إهلاكه إياهم وتدميره بهم، وإما إملاؤه لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتة، أو توبيخه لهم ولائمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسخرية. وقال آخرون: قوله: * (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) * على
[ 192 ]
الجواب، كقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الامر إليه. قالوا: وكذلك قوله: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * والله يستهزئ بهم على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء. والمعنى: أن المكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون: قوله: * (إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم) * وقوله: * (يخادعون الله وهو خادعهم) * وقوله: * (فيسخرون منهم سخر الله منهم ونسوا الله فنسيهم) * وما أشبه ذلك، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع. فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان، كما قال جل ثناؤه: وجزاء سيئة سيئة مثلها ومعلوم أن الاولى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الاخرى عدل لانها من الله جزاء للعاصي على المعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفا المعنى. وكذلك قوله: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) *. فالعدوان الاول ظلم، والثاني جزاء لا ظلم، بل هو عدل لانه عقوبة للظالم على ظلمه وإن وافق لفظه لفظ الاول. وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك مما هو خبر عن مكر الله عز وجل بقوم، وما أشبه ذلك. وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله عز وجل أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد (ص) وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم صدقنا بمحمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به مستهزءون. يعنون: إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء.
[ 193 ]
فأخبر الله أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، كما أظهروا للنبي (ص) والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم. والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا، أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزئ للمستهزأ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرا، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنا، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل لاهل النفاق في الدنيا من الاحكام بما أظهروا بألسنتهم من الاقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله المدخل لهم في عداد من يشمله اسم الاسلام وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين من أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم، مع علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعه على خبث اعتقادهم وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا أنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم، والله جل جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الاحكام لملحقهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه وتفريقه بينهم وبينهم معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ما أعد منه لاعدى أعدائه وأشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الاسفل. كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم، وإن كان جزاء لهم على أفعالهم وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بما أظهر لهم من الامور التي أظهرها لهم من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين إلى أن ميز بينهم وبينهم، مستهزئا وساخرا ولهم خادعا وبهم ماكرا. إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره. وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار،
[ 194 ]
عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: الله يستهزئ بهم قال: يسخر بهم للنقمة منهم. وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يستهزئ بهم إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الامم، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شئ منه، فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكر به أخبر أنه قد مكر به ؟ ثم نعكس القول عليه في ذلك فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن لجأ إلى أن يقول إن الاستهزاء عبث ولعب، وذلك عن الله عز وجل منفي. قيل له: إن كان الامر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول: الله يستهزئ بهم وسخر الله منهم مكر الله بهم، وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية ؟ فإن قال: لا كذب بالقرآن وخرج عن ملة الاسلام، وإن قال: بلى، قيل له: أفتقول من الوجه الذي قلت: الله يستهزئ بهم وسخر الله منهم يلعب الله بهم ويعبث، ولا لعب من الله ولا عبث ؟ فإن قال: نعم، وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه. وإن قال: لا أقول يلعب الله به ولا يعبث، وقد أقول يستهزئ بهم ويسخر منهم قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب، والعبث، والهزء، والسخرية، والمكر، والخديعة. ومن الوجه الذي جاز قيل هذا ولم يجز قيل هذا افترق معنياهما، فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر. وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه. القول في تأويل قوله تعالى: ويمدهم. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ويمدهم فقال بعضهم بما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
[ 195 ]
السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): يمدهم: يملي لهم. وقال آخرون بما: حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، قراءة عن مجاهد: يمدهم قال: يزيدهم. وكان بعض نحويي البصرة يتأول ذلك أنه بمعنى: يمد لهم، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب: الغلام يلعب الكعاب، يراد به يلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون قد مددت له وأمددت له في غير هذا المعنى، وهو قول الله: وأمددناهم وهذا من أمددناهم، قال: ويقال قد مد البحر فهو ماد، وأمد الجرح فهو ممد. وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو مددت، وما كان من الخير فهو أمددت. ثم قال: وهو كما فسرت لك إذا أردت أنك تركته فهو مددت له، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: أمددت. وأما بعض نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشئ من نفسه فهو مددت بغير ألف، كما تقول: مد النهر، ومده نهر آخر غيره: إذا اتصل به فصار منه. وكل زيادة أحدثت في الشئ من غيره فهو بألف، كقولك: أمد الجرح، لان المدة من غير الجرح، وأمددت الجيش بمدد. وأولى هذه الاقوال بالصواب في قوله: ويمدهم أن يكون بمعنى يزيدهم، على وجه الاملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون يعني نذرهم ونتركهم فيه ونملي لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم. ولا وجه لقول من قال ذلك بمعنى يمد لهم لانه لا تدافع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل: مد النهر نهر آخر، بمعنى: اتصل به فصار زائدا ماء المتصل به بماء المتصل من غير تأول
[ 196 ]
منهم، ذلك أن معناه مد النهر نهر آخر، فكذلك ذلك في قول الله: ويمدهم في طغيانهم يعمهون. القول في تأويل قوله تعالى: في طغيانهم. قال أبو جعفر: والطغيان الفعلان، من قولك: طغى فلان يطغى طغيانا إذا تجاوز في الامر حده فبغى. ومنه قوله الله: كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى: أي يتجاوز حده. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: ودعا الله دعوة لات هنا بعد طغيانه فظل مشيرا وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله: ويمدهم في طغيانهم أنه يملي لهم ويذرهم يبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما: حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: في طغيانهم يعمهون قال: في كفرهم يترددون. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): في طغيانهم: في كفرهم. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: في طغيانهم يعمهون أي في ضلالتهم يعمهون. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: في طغيانهم في ضلالتهم. وحدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: في طغيانهم قال: طغيانهم، كفرهم وصلالتهم. القول في تأويل قوله تعالى: يعمهون. قال أبو جعفر: والعمه نفسه: الضلال، يقال منه: عمه فلان يعمه عمهانا وعموها: إذا ضل. ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مضلة من المهامة:
[ 197 ]
ومخفق من لهله ولهله من مهمه يجتبنه في مهمه أعمى الهدى بالجاهلين العمه والعمه: جمع عامه، وهم الذين يضلون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله جل ثناؤه: ويمدهم في طغيانهم يعمهون في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسه، وعلاهم رجسه، يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لان الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا. وبنحو ما قلنا في العمه جاء تأويل المتأولين. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): يعمهون: يتمادون في كفرهم. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعمهون قال: يتمادون. وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله يعمهون قال: يترددون. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: يعمهون: المتلدد. وحدثنا محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: في طغيانهم يعمهون قال: يترددون. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
[ 198 ]
وحدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر عن ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة عن مجاهد مثله. وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: يعمهون قال: يترددون. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) * قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم اعتياض شئ ببذل شئ مكانه عوضا منه، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فنذكر ما قالوا فيه، ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله. حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى أي الكفر بالايمان. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى يقول أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى: استحبوا الضلالة على الهدى. وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى آمنوا ثم كفروا. وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
[ 199 ]
قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشتري مكان الثمن المشترى به، فقالوا: كذلك المنافق والكافر قد أخذا مكان الايمان الكفر، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها. وأما الذين تأولوا أن معنى قوله: اشتروا: استحبوا، فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى، فقال: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى صرفوا قوله: اشتروا الضلالة بالهدى إلى ذلك وقالوا: قد تدخل الباء مكان على، وعلى مكان الباء، كما يقال: مررت بفلان ومررت على فلان بمعنى واحد، وكقول الله جل ثناؤه: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك أي: على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى. وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه: اشتروا إلى معنى اختاروا، لان العرب تقول: اشتريت كذا على كذا، واشتريته يعنون اخترته عليه. ومن الاشتراء قول أعشى بني ثعلبة: فقد أخرج الكاعب المشتراة من خدرها وأشيع القمارا يعني بالمشتراة: المختارة. وقال ذو الرمة في الاشتراء بمعنى الاختيار: يذب القصايا عن شراة كأنها جماهير تحت المدجنات الهواضب
[ 200 ]
يعني بالشراة: المختارة. وقال آخر في مثل ذلك: إن الشراة روقة الاموال وحزرة القلب خيار المال قال أبو جعفر: وهذا وإن كان وجها من التأويل فلست له بمختار، لان الله جل ثناؤه قال فما ربحت تجارتهم فدل بذلك على أن معنى قوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شئ مكان شئ وأخذ عوض على عوض. وأما الذين قالوا: إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا، فإنه لا مؤنة عليهم لو كان الامر على ما وصفوا به القوم لان الامر إذا كان كذلك فقد تركوا الايمان، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع، ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الايمان ولا دخلوا في ملة الاسلام، أو ما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم إلى أن أتى على صفتهم إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبينا محمد (ص) وبما جاء به، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون، لقول الله جل جلاله: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) * ثم اقتص قصصهم إلى قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟. فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الايمان فانتقلوا عنه إلى الكفر، فلذلك قيل لهم: اشتروا فإن ذلك تأويل غير مسلم له، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شئ بترك آخر غيره، وقد يكون بمعنى الاختيار وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوها لم يكن لاحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها. قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: اشتروا الضلالة بالهدى أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك
[ 201 ]
أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالايمان كفرا باكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلا من الايمان الذي أمر به. أو ما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الايمان به وبرسوله: ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل وذلك هو معنى الشراء، لان كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلا منه، فكذلك المنافق والكافر استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق، فأضلهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون. القول في تأويل قوله تعالى: فما ربحت تجارتهم. قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين بشرائهم الضلالة بالهدى خسروا ولم يربحوا، لان الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته لا شك. فكذلك الكافر والمنافق لانهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى والخوف والرعب على الحفظ والامن، فاستبدلا في العاجل بالرشاد الحيرة، وبالهدى الضلالة، وبالحفظ الخوف، وبالامن الرعب مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب، فخابا وخسرا، ذلك هو الخسران المبين. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الامن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: فما ربحت تجارتهم وهل التجارة مما تربح أو تنقص فيقال ربحت أو وضعت ؟ قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننت وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم لا فيما اشتروا ولا فيما شروا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبيانهم المستعمل بينهم. فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيك، ونام ليلك، وخسر بيعك، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله خاطبهم
[ 202 ]
بالذي هو في منطقهم من الكلام فقال: فما ربحت تجارتهم إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة كما النوم في الليل، فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم، وإن كان ذلك معناه، كما قال الشاعر: وشر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره يعني بذلك: وشر المنايا منية ميت وسط أهله فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره. وكما قال رؤبة بن العجاج: حارث قد فرجت عني همي فنام ليلي وتجلى غمي فوصف بالنوم الليل، ومعناه أنه هو الذي نام. وكما قال جرير بن الخطفي: وأعور من نبهان أما نهاره فأعمى وأما ليله فبصير فأضاف العمى والابصار إلى الليل والنهار، ومراده وصف النبهاني بذلك. القول في تأويل قوله تعالى: وما كانوا مهتدين. يعني بقوله جل ثناؤه: وما كانوا مهتدين ما كانوا رشداء في اختيارهم الضلالة على الهدى، واستبدالهم الكفر بالايمان، واشترائهم النفاق بالتصديق والاقرار. ] القول في تأويل قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)). قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) وقد (1) هو الحطيئة، كما في طبقات الشعراء لابن سلام (ص 49) والكتاب لسيبويه (ج 1 ص 215). (2) ذكره ابن سلام في الطبقات (ص 49، 50) ضمن أبيات، هي: أبى لك آباء أبى لك مجدهم * سوى المجد فانظر صاغرا من تنافره قبور أصابتها السيوف ثلاثة * نجوم هوت في كل نجم مرائره فقبر بأجبال وقبر بحاجر * وقبر القليب أسعر الحرب ساعره وشر المنايا هالك وسط أهله * كهلك الفتاة أيقظ الحي حاضره (3) من قصيدة له في ديوانه (ص 197) يهجو بها الاعور النهباني، أولها: عفا ذو حمام بعدنا وحفير * وبالسر مبدى منهم وحضور وسيأتي هذا البيت في موضع آخر من هذا الجزء. (*)
[ 203 ]
علمت أن الهاء والميم من قوله: (مثلهم) كناية جماعة من الرجال أو الرجال والنساء. " والذي " دلالة على واحد من الذكور ؟ فكيف جعل الخبر عن واحد مثلا لجماعة ؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا ! وإن جاز عندك أن تمثل الجماعة بالواحد فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم أن يقول: كأن هؤلاء، أو كان أجسام هؤلاء، نخلة ! !. قيل: أما في المواضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين بالواحد الذي جعله لافعالهم مثلا فجائز حسن، وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) (1) يعني كدوران عين الذي يعشي عليه من الموت، وكقوله: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) (2) بمعنى إلا كبعث نفس واحدة. وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال في طول وتمام الخلق بالواحدة من النخيل، فغير جائز ولا في نظائره لفرق بينهما. فاما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد، فانما جاز لان المراد من الخبر عن مثل المنافقين الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الاقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الردئية، وخلطهم نفاقهم الباطن بالاقرار بالايمان الظاهر. والاستضاءة وان اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد لا معان مختلفة. فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد من الاشياء المختلفة الاشخاص. وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الاقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به قولا وهم به مكذبون اعتقادا، كمثل استضاءة الموقد نارا، ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف المثل إليهم، كما قال نابغة بني جعدة: وكيف تواصل من أصبحت * خلالته كابي مرحب (3). يريد كخلالة أبي مرحب، فاسقط " خلالة "، إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالاقرار (1) سورة الاحزاب، الاية: 19. (2) سورة لقمان، الاية: 28. (3) الخلالة: الصداقة التي ليس فيها خلل، وأبو مرحب: كنية الظل. (*)
[ 204 ]
دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا، فلما وصفنا جاز وحسن قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى، وأما إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم أو أعيان ذوي الصور والاجسام بشئ، فالصواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة والواحد بالواحد، لان عين كل واحد منهم غير أعيان الاخرين. ولذلك من المعنى افترق القول في تشبيه الافعال والاسماء، فجاز تشبيه أفعال الجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بمعنى واحد بفعل واحد، ثم حذف أسماء الافعال، وإضافة المثل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل، فيقال: ما أفعالكم إلا كفعل الكلب، ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكب أو كالكلاب، وأنت تعني: إلا كفعل الكلب، وإلا كفعل الكلاب. ولم يجز أن تقول: ما هم إلا نخلة، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطول والتمام. وأما قوله: (استوقد نارا) فإنه في تأويل أوقد، كما قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذلك مجيب (1) يريد: فلم يجبه، فكان معنى الكلام إذا مثل استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم من قولهم: (آمنا بالله واليوم الاخر) وصدقنا بمحمد، وبما جاء به، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم، مثل استضاءة موقد نار بناره حتى أضاءت له النار ما حوله، يعني ما حول المستوقد. وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن " الذي " في قوله: (كمثل الذي استوقد نارا) بمعنى " الذين " كما قال جل ثناؤه: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) (2). وكما قال الشاعر (3): (1) سيأتي البيت في الجزء الثاني، وأشار هناك إلى أنه لكعب بن سعد الغنوي. وسيأتي أيضا في الجزء الرابع. والبيت من مرثية لكعب بن سعد الغنوي رواها القالي في أماليه رثى بها أخاه. والداعي هنا: السائل. ويجيب: أي يريد الجواب. وقوله: " فلم يستجبه " أورده ابن قتيبة في " أدب الكاتب " في الافعال التي تتعدي تارة بنفسها وتارة باللام، قال: يقال استجبتك واستجبت لك. وقال شارحه ابن السيد، كذلك يعقوب ومن كتابه نقل ابن قتيبة: وقد يمكن أن يزيد: فلم يجبه، ويدل عليه أنه قال " مجيب " ولم يقل " مستجيب " فيكون الشاعر أجرى استفعل مجرى أفعل، مثل استوقد بمعنى أوقد، وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم) على أن الاستجابة تتعدى بنفسها كما في البيت، وباللام كما في الاية، واستحباب له أكثر شيوعا. (عن خزانة الادب للبغدادي: 4 / 375). (2) سورة الزمر، الاية: 33. (3) هو أشهب بن رميلة. (انظر الكتاب لسيبويه: ج 1 ص 186). (*)
[ 205 ]
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد (1) قال أبو جعفر: والقول الاول هو القول لما وصفنا من العلة، وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بين الذي في الايتين وفي البيت، لان " الذي " في قوله: (والذي جاء بالصدق) قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع، وهو قوله: (أولئك هم المتقون) وكذلك الذي في البيت، وهو قوله: دماؤهم. وليست هذه الدلالة في قوله: (كمثل الذي استوقد نارا). فذلك فرق ما بين (الذي) في قوله: (كمثل الذي استوقد نارا) وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى " الذي " في قوله: (كمثل الذي استوقد نارا) بمعنى الجماعة، وغير جائز لاحد نقل الكلمة التي هي الاغلب في استعمال العرب على معنى إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فروي عن ابن عباس فيه أقوال: أحدها ما: 326 - حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال ضرب الله للمنافقين مثلا فقال: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والاخر ما. 327 - حدثنا به المثنى به إبراهيم، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) إلى آخر الاية. هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالاسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفئ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات، يقول في عذاب. والثالث ما: 328 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن (1) فلج: واد بين البصرة وحمى ضرية. حانت دماؤهم: لم يؤخذ لهم بدية ولا قصاص. هم القوم كل القوم: أي القوم الكاملون في قوميتهم. (*)
[ 206 ]
مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون): زعم أن أناسا دخلوا في الاسلام مقدم (1) النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فاضاءت له ما حوله من قذى أو أذى، فابصره حتى عرف ما يتقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فاقبل لا يدري ما يتقي من أذي، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فاسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر. فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر. وأما النور فالايمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت الظلمة نفاقهم. والاخر ما: 329 - حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد، قال: حدثني عمي عن أبيه عن جده ابن عباس قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) إلى: (فهم لا يرجعون) ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله: (ذهب الله بنورهم) قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم، يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال آخرون بما: 330 - حدثني به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) وإن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فاضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازي (2) بها المسلمين ووارث بها المسلمين وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت سلبها المنافق لانه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في علمه. * - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) هي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. 331 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) (1) مقدم النبي: حين قدومه. (2) كانت في الاصل: " وعاد ". والصواب ما أثبتناه من الدر المنثور للسيوطي وتفسير ابن كثير. (*)
[ 207 ]
قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم. وقال آخرون بما: 332 - حدثني به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثني أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) قال: أما إضاءة النار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضلالة. * - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله): أما إضاءة النار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضلالة. * - حدثني القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريح عن مجاهد مثله. 333 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ضرب مثل أهل النفاق فقال: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) قال: إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الاخلاص أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة. 334 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله: (كميل الذي استوقد نارا) إلى آخر الاية. قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الايمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا، فذهب الله بنورهم، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون. وأولى التأويلات بالاية ما قاله قتادة والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين الذين وصف صفتهم وقص قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: (من الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين) لا المعلنين بالكفر المجاهدين بالشرك. ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله
[ 208 ]
بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) أن ضوء النار مثل لايمانهم الذي كان منهم عنده على صحة، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة، لم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق، وأني يكون خداع ونفاق ممن لم يبدلك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها ؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ومن الخداع برئ، فان كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان: حال إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر، فقد سقط عن القوم اسم النفاق، لانهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقيه. وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ما ينبئ عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم أن القوم كانوا مؤمنين ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه إلى الكفر الذي هو نفاق، وذلك قول إن قاله لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أو ببعض المعاني الموجبة صحته. فأما في ظاهر الكتاب، فلا دلالة على صحته لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه. فإذا كان الامر على ما وصفنا في ذلك، فاولى تأويلات الاية بالاية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بالسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الاقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الاخر، حتى حكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين في حقن الدماء والاموال والامن على الذرية من السباء، وفي المناكحة والموارثة، كمثل استضاءه الموقد النار بالنار، حتى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة، خمدت النار وانطفات، فذهب نوره، وعاد المستضئ به في ظلمة وحيرة. وذلك أن المنافق لم يزيل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه، تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادع، حتى سولت له نفسه، إذ ورد على ربه في الاخرة، أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أو ما تسم الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم عليه: (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلقون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون) (1) ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الاخرة في مثل الذي كان به نجاتهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا (1) سورة المجادلة، الاية: 18. (*)
[ 209 ]
من الكذب والافك، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا. حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا واصلوا سعيرا. فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفات نار المستوقد النار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائها، يقول الله جل ثناؤه: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير) (1). فان قال لنا قائل: إنك ذكرت ان معنى قول الله تعالى ذكره: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضائت ما حوله): خمدت وانطفات، وليس ذلك بموجود في القران، فما دلالتك على أن ذلك معناه ؟ قيل قد قلنا إن من شان العرب الايجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت، كما قال أبو ذؤيب الهذلي: عصيت إليها القلب إني لامرها * سميع فما أدري أرشد طلابها (2) يعني بذلك: فما أدري أرشد طلابها أم غي، فحذف ذكر " أم غي "، إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها. وكما قال ذو الرمة في نعت حمير: (1) سورة الحديد، الايات: 13 - 15. (2) سيأتي في تفسير الاية 113 من سورة آل عمران. ورواية ابن هشام في المغني (1 / 10): دعاني إليها القلب إني لامره * سميع فما أدري أرشد طلابها ورواية النيسابوري في تفسيره: دعاني إليها القلب إني لامره * مطيع فما أدري أرشد طلابها وفي تفسير القرطبي (4 / 176) كانت رواية الاصل: " عصيت إليها القلب إني لامرها " وجعله مصححوه تبعا للديوان: " عصاني إليها القلب إني لامره... مطيع ". وشرحوه بقولهم: يقول: عصاني القلب وذهب إليها، فانا أتبع ما يامرني به. وفي ديوان الهذليين (القسم الاول ص 71): " عصاني إليها القلب إني لامره... سميع "، عصاني إليها: أي خطر إليها قلبي وذهب إليها، فما أدري أرشد الذي وقعت فيه أم غي. وفي الهامش 7: عبارة الاصمعي في تفسير قوله: " عصاني إليها القلب ": جعل لا يقبل مني، أي ذهب إليها قلبي سفها. (*)
[ 210 ]
* (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) * قال أبو جعفر: وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه: ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون، وفي حنادسها لا يبصرون فبين أن قوله جل ثناؤه: صم بكم عمي فهم لا يرجعون من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، صم بكم عمي فهم لا يرجعون مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، أو كمثل صيب من السماء. وإذ كان
[ 211 ]
ذلك معنى الكلام، فمعلوم أن قوله: صم بكم عمي يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين. فأما أحد وجهي الرفع، فعلى الاستئناف لما فيه من الذم، وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم، فتنصب وترفع وإن كان خبرا عن معرفة، كما قال الشاعر: لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك والطيبين معاقد الأزر فيروي: النازلون والنازلين وكذلك الطيبون والطيبين، على ما وصفت من المدح. والوجه الآخر على نية التكرير من أولئك، فيكون المعنى حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين أولئك صم بكم عمي فهم لا يرجعون. وأما أحد وجهي النصب، فأن يكون قطعا مما في مهتدين، من ذكر أولئك، لان الذي فيه من ذكرهم معرفة، والصم نكرة. والآخر أن يكون قطعا من الذين، لان الذين معرفة والصم نكرة. وقد يجوز النصب فيه أيضا على وجه الذم فيكون ذلك وجها
[ 212 ]
من النصب ثالثا. فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية علي بن أبي طلحة عنه، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد وهو الاستئناف. وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما الذم، والآخر القطع من الهاء والميم اللتين في تركهم، أو من ذكرهم في لا يبصرون. وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءة التي هي قراءة الرفع دون النصب، لانه ليس لاحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين، وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين، أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى، لم يكونوا للهدى والحق مهتدين، بل هم صم عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان الله عليهم، بكم عن القيل بهما، فلا ينطقون بهما والبكم: الخرس، وهو جمع أبكم عمي عن أن يبصروهما فيعقلوهما لان الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون. وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل. حدثنا عبد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: صم بكم عمي عن الخير. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: صم بكم عمي يقول: لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): بكم: هم الخرس. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد ابن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: صم بكم عمي: صم عن الحق فلا يسمعونه، عمي عن الحق فلا يبصرونه، بكم عن الحق فلا ينطقون به. القول في تأويل قوله تعالى: فهم لا يرجعون.
[ 213 ]
قال أبو جعفر: وقوله: (فهم لا يرجعون) إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى، وصممهم عن سماع الخير والحق، وبكمهم عن القيل بهما، وعماهم عن إبصارهما، أنهم لا يرجعون إلى الاقلاع عن ضلالاتهم، ولا يتوبون إلى الانابة من نفاقهم، فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدا، ويقولوا حقا، أو يسمعوا داعيا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشى على أبصارهم. وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. 339 - حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (فهم لا يرجعون) أي لا يتوبون ولا يذكرون. 340 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة بن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فهم لا يرجعون) إلى الاسلام. وقد روي عن ابن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر وهو ما: 341 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بين جبير، عن ابن عباس: (فهم لا يرجعون): أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه. وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم إلى وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، ينبئ عن أن ذلك من صفتهم محصور على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأن لهم السبيل إلى الرجوع عنه. وذلك من التأويل دعوى باطلة لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها. القول في تأويل قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمت ورعد وبرق يجعلون أصبعهم فئ اذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكفرين (19) يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم
[ 214 ]
مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير (20)). قال أبو جعفر: والصيب الفيعل، من قولك: صاب المطر يصوب صوبا: إذا انحدر ونزل، كما قال الشاعر: فلست لانسي ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب (1) وكما قال علقمة بن عبدة: كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب (2) فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقيت روايا المزن حين تصوب (3) يعني: حين تنحدر. وهو في الاصل: صيوب، ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعا ياء مشددة، كما قيل: سيد من ساد يسود، وجيد من جاد يجود. وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرهما جميعا ياء مشددة. وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل. 342 - حدثني محمد بن إسماعيل الاحمسي، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (أو كصيب من السماء) قال: القطر. 343 - وحدثني عباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، قال لي عطاء: الصيب: المطر. 344 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي عن ابن عباس، قال: الصيب: المطر. (1) سيأتي في تفسير الاية 30 من سورة البقرة، في هذا الجزء. والبيت ينسب لعلقمة بن عبدة وليس في ديوانه. وهو مذكور في اللسان (مادة ألك) والكتاب لسيبويه، غير منسوب. والملاك: الملاك. (2) صاب المطر: انحدر وانصب. والضمير في قوله: " لطيرهن " للصواعق، أي لطير الصواعق، وأراد الطير التي أفزعتها الصواعق ولبدها المطر. (3) المغمر: الجاهل الذي بلم يجرب الامور. والروايا: جمع رواية، وهي الدابة التي تحمل مزاد الماء. والمزن: السحاب الابيض. (*)
[ 215 ]
345 - وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الصيب: المطر. * - وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي سعيد، قال: حدثني عمي الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس مثله. 346 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (أو كصيب) قال: المطر. * - وحدثنا الحسن (1) بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة مثله. 347 - وحدثني محمد بن عمرو الباهلي، وعمرو بن علي، قالا: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الصيب: المطر. * - وحدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الصيب: المطر. 348 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن ابي جعفر، عن ابيه عن الربيع بن أنس: الصيب: المطر. * - وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الصيب: المطر. 349 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: (أو كصيب من السماء) قال: أو كغيب من السماء. 350 - وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: قال سفيان: الصيب: الذي فيه المطر. * - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: (أو كصيب من السماء) قال: المطر. قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالاسلام مع (1) في نسخة الحسين بدل الحسن. (*)
[ 216 ]
استسرارهم الكفر، مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره على ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مطر مظلم ودقه (1) تحدر من السماء تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة، وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه. فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثلين، أهما مثلان للمنافقين أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين فكيف قيل: (أو كصيب)، و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام، ولم يقل: وكصيب، بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الاول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الاخر ب " أو "، وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه، كقول القائل: لقيني أخوك أو أبوك، وإنما لقيه أحدهما، ولكنه جهل عنين الذي لقيه منهما، مع علمه أن أحدهما قد لقيه، وغير جائز في الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شئ أو عزوب علم شئ عنه فيما أخبر أو ترك الخبر عنه، قيل له: إن الامر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه، و " أو " وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك، فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو إما بسابق من الكلام قبلها، وإما بما يأتي بعدها كقول توبة بن الحمير: وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال. ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه الواو لو كانت مكانها، وضعها موضعها. وكذلك قول جرير: جاء الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى به موسى على قدر (2) وكما قال الاخر: فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على جبير أو عناق على المرأين إذ مضيا جميعا لشأنهما بحزن واشتياق (3) (1) الودق: المطر الذي يخرج مسترخيا من خلل السحاب. (2) رواية الديوان (ص 205): " نال الخلافة " بدل " جاء " و " إذ كانت " بدل " أو كانت ". من قصيدة في مدح عمر بن عبد العزيز، أولها: لجت أمامة في لومي وما علمت عرض السماوة روحاتي ولا بكري (3) البيتان ذكرهما في اللسان (مادة عفق) وروايته: فلو كان البكاء يرد شيئا بكيت على يزيد أو عفاق = (*)
[ 217 ]
فقد دل بقول: " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الاخر، بل أراد أن يبكيهما جميعا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه: (أو كصيب من السماء) لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه الواو، ولو كانت مكانها كان سواء نطق فيه ب " أو " أو بالواو. وكذلك وجه حذف المثل من قوله: (أو كصيب) لما كان قوله: (كمثل الذين استوقد نارا) دالا على أن معناه: كمثل صيب، حذف المثل واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: (كمثل الذي استوقد نارا) على أن معناه: أو كمثل صيب، من إعادة ذكر المثل طلب الايجاز والاختصار. القول في تأويل قوله تعالى: (فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا). قال أبو جعفر: فأما الظلمات فجمع، واحدها ظلمة، وأما الرعد فإن أهل العلم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو ملك يزجر السحاب. ذكر من قال ذلك: 351 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة بن الحكم، عن مجاهد، قال: الرعد ملك يزجر السحاب بصوته. * - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة عن الحكم عن مجاهد مثله. * - وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد مثله. 352 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم عن أبي صالح، قال: الرعد ملك من الملائكة يسبح. = هما المرءان إذ ذهبا جميعا لشأنهما بحزن واحتراق قال ابن بري: البيتان لمتمم بن نويرة، وصوابه " بكيت على بحير " وهو أخو عفاق، ويقال: غفاق - بغين معجمة - وهو ابن مليك - ويقال ابن أبي مليك - وهو عبد الله بن الحارث بن عاصم. وكان بسطام بن قيس أغار على بني يربوع عفاقا وقتل بجيرا أخاه بعد قتله عفاقا في العام الاول وأسر أباهما أبا مليك ثم أعتقه وشرط عليه أن لا يغير عليه. (*)
[ 218 ]
353 - وحدثني نصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: حدثنا محمد بن يعلى، عن أبي الخطاب البصري، عن شهر بن حوشب، قال: الرعد: ملك موكل بالسحاب، يسوقه كما يسوق الحادي الابل، يسبح كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه، فهي الصواعق التي رأيتم. 354 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرعد: ملك من الملائكة اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته. 355 - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن حسين عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: الرعد: ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير. 356 - وحدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: الرعد: اسم ملك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك فتخرج الصواعق من بينه. 357 - حدثنا الحسن، قال: حدثنا عفان، قال: حدثنا أبو عوانة، عن موسى البزار، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، قال: الرعد: ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الابل بحدائه. * - حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا يحيى بن عباد وشبابة قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: الرعد: ملك يزجر السحاب. 358 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عتاب بن زياد، عن عكرمة، قال: الرعد: ملك في السحاب يجمع السحاب كما يجمع الراعي الابل. 359 - وحدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: الرعد: خلق من خلق الله جل وعز سامع مطيق لله جل وعز. 360 - حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه، فذلك الصوت تسبيحه.
[ 219 ]
361 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريح، عن مجاهد، قال: الرعد: ملك. 362 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: ملك. 363 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد (1) يسأله عن الرعد ؟ فقال: الرعد: ملك. 364 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حخادثنا عمر بن الوليد السني، عن عكرمة، قال: الرعد: ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الابل. 365 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد، قال: سبحان الذي سبحت له، قال: وكان يقول: إن الرعد ملك ينعق بالغيب كما ينعقل الراعي بغنمه. وقال آخرون: إن الرعد: ريح تختنق تحت السحاب، فتصاعد فيكون منه ذلك الصوت. ذكر من قال ذلك: 366 - حدثنا أحمد بن إسحاق، بقال: حدثنا أبو أحمد الزبيدي، قال: حدثنا بشر بن إسماعيل، عن أبي كثير، قال: كنت عند أبي الجلد، إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه: كتبت تسألني عن الرعد، فالرعد: الريح. 367 - حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثن ابن إدريس عن الحسن بن الفرات، عن أبيه: قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد، فقال: الرعد: ريح. قال أبو جعفر: فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد، فمعنى الاية: أو كصيب من السماء فيه ظلمات وصوت ورعد، لان الرعد إن كان ملكا يسوق السحاب، فغير كائن في الصيب، لان الصيب إنما هو ما تحدر من صوب السحاب، والرعد: إنما هو في جو السماء (1) كانت هنا وفي الروايات التالية " أبو الخلد " بالخاء المعجمة. والصواب ما أثبتناه. وهو أبو الجلد جيلان بن أبي فروة - ويقال ابن فروة الاسدي - كما ذكره البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم وغيرهما. (*)
[ 220 ]
يسوق السحاب، على أنه لو كان فيه يمر لم يكن له صوت مسموع، فلم يكن هنالك رعب يرعب به أحد، لانه قد قيل: إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكا، فلا يعدو الملك الذي اسمه الرعد لو كان مع الصيب إذا لم يكن مسموعا صوته أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الارض في أن لا رعب على أحد بكونه فيه. فقد علم إذ كان الامر على ما وصفنا من قول ابن عباس إن معنى الاية: أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت ورعد، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجلد فلا شئ في قوله: " فيه ظلمات ورعد " متروك، لان معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعد الذي هو وما وصفنا صفته. وأما البرق، فإن أهل العلم اختلفوا فيه، فقال بعضهم بما: 368 - حدثنا مطر بن محمد الضبي، قال: حدثنا أبو عاصم ح وحدثني محمد بن بشار بقال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي ح وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي: قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قالوا جميعا: حدثنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن أشوع، عن ربيعة بن الابيض، عن علي قال: البرق: مخاريق (1) الملائكة. 369 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين، عن السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس: البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السحاب. * - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن المغيرة بن سالم، عن أبيه أو غيره أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: الملك، والبرق: ضربه السحاب بمخراق من حديد. وقال آخرون: هو سوط من نور يزجر به الملك السحاب. 370 - حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس بذلك. وقال آخرون: هو ماء. ذكر من قال ذلك: (1) المخاريق: جمع مخراق، وهو منديل أو نحوه يلوى فيضرب به، ويلف فيفزع به. وهو من لعب الصبيان، ومنه سمي السيف مخراقا. (*)
[ 221 ]
371 - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا بشر بن إسماعيل، عن أبي كثير، قال: كنت عند أبي الجلد إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه، فكتب إليه: تسألني عن البرق، فالبرق: الماء. 372 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق، فقال: البرق: ماء. * - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن رجل من أهل البصرة من قرائهم، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد من أهل مجر يسأله عن البرق، فكتب إليه: كتبت إلي تسألني عن البرق: وإنه من الماء. وقال آخرون: هو مصع (1) ملك. 373 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان بن عثمان بن الاسود، عن مجاهد، قال: البرق: مصع ملك. 374 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام، عن محمد بن مسلم الطائفي، قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق. 375 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن وهب بن سليمان، عن شعيبب الجبائي، قال: في كتاب الله الملائكة حملة العرش، لكل ملك منهم وجه إنسان، وثور، وأسد، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق. وقال أمية بن أبي الصلت: رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للاخرى وليث مرصد (2) 376 - حدثنا الحسين بن محمد، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس: البرق: ملك. (1) مصع البرق: أومض. ومصع فلانا: ضربه بالسيف أو السوط. (2) سيأتي في تفسير الاية 35 من سورة الرعد. والبيت في ديوانه برواية: ".. تحت يمنى رجله والنسر لليسرى ". والضمير في " يمينه " لاسرافيل الذي ذكره في شعره قبل. (*)
[ 222 ]
377 - وقد حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق (1) يصيب منه من يشاء. قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد، وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق هي السياط التي هي من نور التي يزجي بها الملك السحاب، كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك السحاب: مصعه إياه بها، وذاك أن المصاع عند العرب أصله المجالدة بالسويف، ثم تستعمله في كل شئ جولد (2) به في حرب وغير حر ب، كما قال أعشى بني ثعلبة وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به: إذا هن نازلن أقرانهن وكان المصاع بما في الجون (3) يقال منه: ما صعه مصاعا. وكأن مجاهدا إنما قال: " مصع ملك "، إذ كان السحاب لا يماصع الملك، ب وإنما الرعد هو المماصع له، فجعله مصدرا من مصعه يمصعه مصعا، وقد ذكرنا ما في معنى الصاعقة ما قال شهر بن حوشب فيما مضى. وأما تأويل الاية، فإن أهل التأويل مختلفون فيه. فروي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها ما: 378 - حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق ك، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواغعق حذر الموت) أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف، والتخوف منكم - على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت (يكاد البرق يخطف أبصارهم) أي لشدة ضوء الحق، (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) أي يعرفون الحق (1) راجع الحاشية 1 صفحة 220. (2) المجالدة: المضاربة بالسيوف وغيرها. (3) البيوت في ديوانه (ص 191) من قصيدة يمدح بها قيس بن معد يكرب، أولها: لعمرك ما طول هذا الزمن على المرء إلى عناء معن والاقران: جمع قرين، وهو المثيل. والجون: جمع جونة، وهي سلة صغيرة مغشاة بالادم تكون للعطارين. (*)
[ 223 ]
ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا (1) منه إلى الكفر قاموا متحيرين. والاخر ما: 379 - حدثني بن موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي بفي خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) إلى: (إن الله على كل شئ قدير): أما الصيب والمطر (2). كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هريا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذ لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمح لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ! فأصبحا فأتياهب فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شئ أو يذكروا بشئ فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما وإذ ا أضاء لهم مشوا فيه. وفإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه، وقالوا،: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق، فاستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البر مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا. فكانوا إذا هلكت أموالهم، وولد لهم الجواري، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفارا كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما. والثالث ما: 380 - حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: (أو كصيب من السماء) كمطر (فيه ظلمات ورعد وبرق) إلى آخر الاية، هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل، مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات فالضلالة، وأما البرق فالايمان، وهم أهل الكتاب. وإذا أظلم عليهم، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه. والرابع ما: (1) ارتكسوا: انتكسوا. (2) كذا في الاصل، ولعله: " أما الصيب فالمطر ". (*)
[ 224 ]
381 - حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (أو كصيب من السماء) وهو المطر، ضرب مثله في القرآن يقول: " فيه ظلمات "، يقول: ابتلاء. " ورعد " يقول: فيه تخويف، وبرق (يكاد البرق يخطف أبصارهم) يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، (كلما أضاء لهم مشوا فيه) يقول: كلما أصاب المنافقون من الاسلام عزا اطمأنوا، وإن أصابوا الاسلام نكبة، قالوا: ارجعوا إلى الكفر. يقول: (وإذا أظلم عليهم قاموا) كقوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة) (1) إلى آخر الاية. ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد ذلك في نظير ما روي عن ابن عباس من الاختلاف. 382 - فحدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل. * - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. 383 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة في قول الله: (فيه ظلمات ورعد وبرق) إلى قوله: (وإذا أظلم عليهم قاموا)، فالمنافق إذا رأى في الاسلام رخاء أو طمأنينة أو سلوة من عيش، قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شدة حقحق (2) والله عندها فانقطع (3) به فلم يصبر على بلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها. 384 - وحدثنا الحسن بن يحى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (فيه ظلمات ورعد وبرق) يقول: أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت، والله محيط بالكافرين. ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال: (يكاد (1) سورة الحج، الاية: 11. (2) الحقحقة: أرفع السير وأتعبه للظهر. (3) انقطع به: عجز فلم ينهض، وأتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه، وانقطع رجاؤه. (*)
[ 225 ]
البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه) يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال: لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير، (وإذا أظلم عليهم قاموا) يقول: إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين. 385 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (فيه ظلمات ورعد وبرق) قال: مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ولها مطر ورعد وبرق على جادة (3)، فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها، وإنما ذهب البرق تحيروا. وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الاخلاص أضاء له، فإذا شك تحير ووقع في الظلمة فكذلك قوله: (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) قال أبو جعفر: 386 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان الباهلي، عن الضحاك بن مزاحم: (فيه ظلمات) قال: أما الظلمات فالضلالة، والبرق: الايمان. 387 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله: (فيه ظلمات ورعد وبرق) فقرأ حتى بلغ: (إن الله على كل شئ قدير) قال: هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا قد استناروا بالاسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق. 388 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، ليس شئ في الارض سمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به وأنه الموت كراهية له، والمنافق أكره خلق الله للموت، كما إذا كانوا بالبراز (2) في المطر فروا من الصواعق. 389 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) قال: مثل ضرب للكفار. وهذه الاقوال التي ذكرها عمن رويناها عنه، فإنها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني، لانها جميعها تنبئ عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلا، (1) الجادة: وسط الطريق. والطريق الاعظم الذي يجمع الطرق. (2) البراز: القضاء من الارض الواسع ليس به شئ يستتر به. (*)
[ 226 ]
ومثل ما فيه من ظلمات بضلالته، وما فيه من ضياء برق بنور إيمانه، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه بضعف جنانه ونخب (1) فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته، ومشبه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه، وقيامه في الظلام بحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه. فتأويل الاية إذا إذا كان الامر على ما وصفنا: أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الاخر وبمحمد وما جاء به، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين، وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله وباليوم الاخر، مكذبون، ولخلاف ما يظهرون بالالسن في قلوبهم معتقدون، على عمى منهم وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أي الامرين اللذين قد شرعا لهم (فيه) (2) الهداية في الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وجلون، وهم من وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. كمثل غيث سرى ليلا من مزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها (3) رعد ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه كثير خطرانه (4)، يكاد سنا برقه يذهب بالابصار، ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها تارات صواعق تكاد تدع النفوس من شدة أهولها زواهق. فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الاقرار والتصديق، والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون (5) من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعد والصواعق فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه، إما في العاجل وإما في الاجل، أي يحل بهم مع شكهم في ذلك: هل هو كائن، أم غير كائن، وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل ؟ مثل. فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقا يتقونه بالاقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم مخافة على أنفسهم من ا لهلاك ونزول النقمات (6). وذلك تأويل قوله جل ثناؤة: (يجعلون أصابعهم (1) رجل نخب الفؤاد: جبان كأنه منتزع الفؤاد فلا فؤاد له. (2) الزيادة لاستقامة المعنى. (3) جعل صوت الرعد حداء للسحاب. من حداء السائق بإبله: وهو غناؤه لها وزجره إياها وهو يسوقها. (4) الخطران: من قولهم: خطر بسيفه أو سوطه: إذا رفعه مرة ووضعه أخرى. (5) كانت في الاصل: " مستنبطون " وهو خطأ واضح. (6) النقمات: العقوبات. (*)
[ 227 ]
في آذانهم من الصواعق حذر الموت) يعني بذلك يتقون وعيد الله الذي أنزله بفي كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الاقرار، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها حذرا على نفسه منها. وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شئ، أو يذكروا بشئ فيقتلوا. فإن كان ذلك صحيحا، ولست أعلمه صحيحا، إذ كنت بإسناده مرتابا، فإن القول الذي روي عنهما هو القول. وإن يكن غير صحيح، فأولى بتأويل الاية ما قلنا، لان الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنا بالله وباليوم الاخر، مع شك قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنا بالله وباليوم الاخر، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم، وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الاية. وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقون به كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق، وكذلك قوله: (حذر الموت) جعله جل ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلك الذي توعده بساحتهم، كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أن تزهق من شدتها. وإنما نصب قوله: (حذر الموت) على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك: زرتك تكرمة لك، تريد بذلك: من أجل تكرمتك، وكما قال جل ثناؤه: (ويدعوننا رغبا ورهبا) (1) على التفسير للفعل (2). وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: (حذر الموت): حذرا من الموت. 390 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر عنه. وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لان القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت فيكون معناه ما قال إنه مراد به حذرا من الموت، وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم. (1) سورة الانبياء، الاية: 90. (2) أي مفعول لاجله. (*)
[ 228 ]
وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع، وضعف القلوب، وكراهة الموت، ويتأولان في ذلك قوله: (يحسبون كل صيحة عليهم) (1). وليس الامر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين بأحد أو دونه. وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم معاونته على أعدائه، لانهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلا بالتخذيل (2) عنه. ولكن ذلك وصف من الله جل ثنائهم لهم بالاشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم، إما عاجلا، وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أن المنافقين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الامثال التي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه، غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم (3) وحلوله بساحتهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الاخرة، للذي في قلوبهم من مرضها والشك في اعتقادها، فقال: (والله محيط بالكافرين) بمعنى جامعهم فمحل بهم عقوبته. وكان مجاهد يتأول ذلك كما: 391 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (والله محيط بالكافرين) قال: جامعهم في جهنم. وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما: 392 - حدثني به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (والله محيط بالكافرين) يقول: الله منزل ذلك بهم من النقمة. * - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج ابن جريج، عن (1) سورة المنافقون، الاية: 4. (2) التخذيل: حمل الرجل على خذلان صاحبه وتثبيطه عن نصرته. (3) كانت في الاصل " بعقوبتهم ". والعقوة: ساحة الدار وما كان حولها وقريبا منها. (*)
[ 229 ]
مجاهد في قوله: (والله محيط بالكافرين) قال: جامعهم. ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربه لهم ولشكهم ومرض قلوبهم، فقال: (يكاد البرق) يعني بالبرق: ا لاقرار الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم، فجعل البرق له مثلا على ما قدمنا صفته. (يخطف أبصارهم) يعني: يذهب بها ويستلبها ويلتمعها من شدة ضيائه ونور شعاعه. كما: 393 - حدثت عن المنجاب بن الحارث، قال حدثنا بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) قال: يلتمع أبصارهم (1) ولما يفعل. قال أبو جعفر: والخطف: السلب (2)، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن الخطفة " (3) يعني بها النهبة (4)، ومنه قيل للخطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خطاف لاختطافه واستلابه ما علق به. ومنه قول نابغة بني ذبيان: خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بها أيد إليك نوازع (5) فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره كضوء إقرارهم بألسنتهم وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الاخر وشعاع نوره، مثلا. ثم قال تعالى ذكره (كلما أضاء لهم) يعني أن البرق كلما أضاء لهم، وجعل البرق (1) يلتمع أبصارهم: يذهب بها. (2) الذي ذكره ابن الاثير في النهاية: أن الخطفة: ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية. والخطفة: المرة الواحدة من الخطف، فسمي بها العضو المختطف. (3) رواه الامام أحمد في المسند (ج 8 حديث 21765) عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه نهى عن كل ذي نهبة وكل ذي خطفة وكل ذي ناب من السباع ". (4) النهبة: اسم لما ينهب. (5) ديوانه (56). من قصيدة يمدح بها النعمان ويعتذر إليه ويهجو مرة بن ربيع بن قريع. أولها: عفا ذو حسى من فرتنى فالفوارع فجنبا أريك فالتلاع الدوافع وهي القصيدة التي يقول فيها فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع والخطاطيف: جمع خطاف، وهو حديدة ملتوية توضع في جانبي البكرة. والحجن: المعوجة، ونوازع: جواذب. (*)
[ 230 ]
لايمانهم مثلا. وإنما أراد بذلك أنهم كلما أضاء لهم الايمان وإضاءتهم لهم أن يروا فليه ما يعجبهم في عاجل دنياهم من النصرة على الاعداء، وإصابة الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، ومنافعها، والثراء في الاموال، والسلامة في الابدان والاهل والاولاد، فذلك إضاءته لهم، لانهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الاقرار ابتغاء ذلك، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وهم كما وصفهم الله جل ثناؤه بقوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) (1). ويعني بقوله: (مشوا فيه) مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مثل لاقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الايمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السائر في ظلمة الليل وظلمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه، إذا برقت فيها بارقة أبصر طريقه فيها، (وإذا أظلم) يعني ذهب ضوء البرق عنهم. ويعني بقوله: " عليهم ": على السائرين في الصيب الذي وصف جل ذكره، وذلك للمنافقين مثل. ومعنى إظلام ذلك: أن المنافقين كلما لم يروا في الاسلام ما يعجبهم في دنياهم عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضراء وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء من إخفاقهم في مغزاهم وإنالة عدوهم منهم، أو إدبار من دنياهم عنهم، أقاموا على نفاقهم وثبتوا على ضلالتهم كما قام السائر (2) في الصيب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وخفت ضوء البرق، فحار في طريقه فلم يعرف منهجه. القول في تأويل قوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم). قال أبو جعفر: وإنما خص جل ذكره السمع والابصار بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها في الايتين، أعني قوله: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) وقوله: (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه) فجرى ذكرها في الايتين على وجه المثل. ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم، وعيدا من الله لهم، كما توعدهم في الاية التي قبلها بقوله: (والله محيط بالكافرين) واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم، لاحلال سخطه بهم، وإنزال نقمته عليهم، ومحذورهم بذلك سطوته، ومخوفهم به عقوبته، ليتقوا بأسمه، ويسارعوا إليه بالتوبة. كما: (1) سورة الحج، الاية: 11. (2) في الاصل " السائرون ". وما أثبتناه أنسب. (*) أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها في الآيتين، أعني قوله: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق وقوله: يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم، وعيدا من الله لهم، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله: والله محيط بالكافرين واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم، لاحلال سخطه بهم، وإنزال نقمته عليهم، ومحذرهم بذلك سطوته، ومخوفهم به عقوبته، ليتقوا بأسه، ويسارعوا إليه بالتوبة. كما:
[ 231 ]
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ثم قال يعني قال الله في أسماعهم يعني أسماع المنافقين وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس: ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم. قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: لذهب بسمعهم وأبصارهم لاذهب سمعهم وأبصارهم، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبت ببصره، وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبت بصره، كما قال جل ثناؤه: آتنا غداءنا ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدائنا. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: لذهب بسمعهم فوحد، وقال: وأبصارهم فجمع ؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة، كما الخبر في الابصار خبر عن أبصار جماعة ؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعض نحويي الكوفي: وحد لسمع لانه عنى به المصدر وقصد به الخرق، وجمع الابصار لانه عنى به الاعين. وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن السمع وإن كان في لفظ واحد فإنه بمعنى جماعة، ويحتج في ذلك بقول الله: لا يرتد إليهم طرفهم يريد لا ترتد إليهم أطرافهم، وبقوله: ويولون الدبر يراد به أدبارهم. وإنما جاز ذلك عندي لان في الكلام ما يدل على أنه مراد به الجمع، فكان فيه دلالة على المراد منه، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة مغنيا عن جماعه، ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالابصار من الجمع والتوحيد، كان فصيحا صحيحا لما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر: كلوا في بعض بطنكم وتعفوا فإن زماننا زمن خميص
[ 232 ]
فوحد البطن، والمراد منه البطون لما وصفنا من العلة. القول في تأويل قوله تعالى: إن الله على كل شئ قدير. قال أبو جعفر: وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شئ في هذا الموضع، لانه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ثم قال: فاتقوني أيها المنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الايمان بي لا أحل بكم نقمتي فإني على ذلك وعلى غيره من الاشياء قدير. ومعنى قدير: قادر، كما معنى عليم: عالم، على ما وصفت فيما تقدم من نظائره من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * قال أبو جعفر: فأمر جل ثناؤه الفريقين اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء عليهم أأنذروا أم لم ينذروا أنهم لا يؤمنون، لطبعه على قلوبهم، وعلى سمعهم وأبصارهم، وعن الآخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنا بالله واليوم الآخر، مع استبطانه خلاف ذلك، ومرض قلبه، وشكه في حقيقة ما يبدي من ذلك وغيرهم من سائر خلقه المكلفين، بالاستكانة والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية له، والعبادة دون الاوثان والاصنام والآلهة لانه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم وسائر الخلق غيركم وهو يقدر على ضركم ونفعكم أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر. وكان ابن عباس فيما روي لنا عنه يقول في ذلك نظير ما قلنا فيه، غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول في معنى: اعبدوا ربكم وحدوا ربكم. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة والتذلل له بالاستكانة. والذي أراد ابن عباس إن شاء الله بقوله في تأويل قوله: اعبدوا ربكم وحدوه: أي أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه. حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن
[ 233 ]
أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال الله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم يقول: خلقكم وخلق الذين من قبلكم. قال أبو جعفر: وهذه الآية من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه. وذلك أن الله أمر من وصفنا بعبادته والتوبة من كفره، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. القول في تأويل قوله تعالى: لعلكم تتقون. قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذي خلقكم، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، وإفرادكم له العبادة، لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم. وكان مجاهد يقول في تأويل قوله: لعلكم تتقون: تطيعون. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي عن سفيان، عن ابن نجيح عن مجاهد في قوله: لعلكم تتقون قال: لعلكم تطيعون. قال أبو جعفر: والذي أظن أن مجاهدا أراد بقوله هذا: لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه وإقلاعكم عن ضلالتكم. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: لعلكم تتقون ؟ أو لم يكن عالما بما يصير إليه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه، حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشك ؟ قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهمت، وإنما معنى ذلك: اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لتتقوه
[ 234 ]
بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة، كما قال الشاعر: وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمح سراب في الفلا متألق يريد بذلك: قلتم لنا كفوا لنكف. وذلك أن لعل في هذا الموضع لو كان شكا لم يكونوا وثقوا لهم كل موثق القول في تأويل قوله تعالى: * (الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * وقوله: الذي جعل لكم الارض فراشا مردود على الذي الاولى في قوله: اعبدوا ربكم الذي خلقكم وهما جميعا من نعت ربكم، فكأنه قال: اعبدوا ربكم الخالقكم، والخالق الذي من قبلكم، الجاعل لكم الارض فراشا. يعني بذلك أنه جعل لكم الارض مهادا وموطئا وقرارا يستقر عليها. يذكر ربنا جل ذكره بذلك من قيله زيادة نعمه عندهم وآلائه لديهم، ليذكروا أياديه عندهم فينيبوا إلى طاعته، تعطفا منه بذلك عليهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم، ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): الذي جعل لكم الأرض وحدثنا بشر بن معاذ، قال: فراشا فهي فراش يمشى عليها، وهي المهاد والقرار. حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: الذي جعل لكم الأرض فراشا قال: مهادا لكم. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: الذي جعل لكم الارض فراشا: أي مهادا. القول في تأويل قوله تعالى: والسماء بناء.
[ 235 ]
قال أبو جعفر: وإنما سميت السماء سماء لعلوها على الارض وعلى سكانها من خلقه، وكل شئ كان فوق شئ آخر فهو لما تحته سماء. ولذلك قيل لسقف البيت سماؤه، لانه فوقه مرتفع عليه، ولذلك قيل: سما فلان لفلان: إذا أشرف له وقصد نحوه عاليا عليه، كما قال الفرزدق: سمونا لنجران اليماني وأهله ونجران أرض لم تديث مقاوله وكما قال نابغة بني ذبيان: سمت لي نظرة فرأيت منها تحيت الخدر واضعة القرام يريد بذلك: أشرفت لي نظرة وبدت، فكذلك السماء: سميت للارض سماء، لعلوها وإشرافها عليها. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): والسماء بناء، فبناء السماء على الارض كهيئة القبة، وهي سقف على الارض. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة في قول الله والسماء بناء قال: جعل السماء سقفا لك. وإنما ذكر السماء والارض جل ثناؤه فيما عدد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لان منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوام دنياهم، فأعلمهم أن الذي خلقهما
[ 236 ]
وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم هو المستحق عليهم الطاعة، والمستوجب منهم الشكر والعبادة دون الاصنام والاوثان التي لا تضر ولا تنفع. القول في تأويل قوله تعالى: وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم. يعني بذلك أنه أنزل من السماء مطرا، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الارض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم غذاء وأقواتا. فنبههم بذلك على قدرته وسلطانه، وذكرهم به آلاءه لديهم، وأنه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم ويكفلهم دون من جعلوه له ندا وعدلا من الاوثان والآلهة، ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم، وأنه لا ند له ولا عدل، ولا لهم نافع ولا ضار ولا خالق ولا رازق سواه. القول في تأويل قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا. قال أبو جعفر: والانداد، جمع ند، والند: العدل والمثل، كما قال حسان بن ثابت: أتهجوه ولست له بندفشركما لخيركما الفداء يعني بقوله: ولست له بند: لست له بمثل ولا عدل. وكل شئ كان نظيرا لشئ وشبيها فهو له ند. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: فلا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء. وحدثني المثنى، قال: حدثني أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فلا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي عن خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): فلا تجعلو لله أندادا قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله.
[ 237 ]
وحدثني يونس بن عبد الاعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله: فلا تجعلوا لله أندادا قال: الانداد: الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: فلا تجعلوا لله أندادا قال: أشباها. حدثني محمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم عن شبيب عن عكرمة: فلا تجعلوا لله أندادا أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاح في الدار ونحو ذلك. فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندا وعدلا في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكا وندا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم مني. القول في تأويل قوله تعالى: وأنتم تعلمون. اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها جميع المشركين، من مشركي العرب وأهل الكتاب. وقال بعضهم: عني بذلك أهل الكتابين: التوراة، والانجيل. ذكر من قال: عني بها جميع عبدة الاوثان من العرب وكفار أهل الكتابين: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: نزل ذلك في الفريقين جميعا من الكفار والمنافقين. وإنما عنى بقوله: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون أي لا تشركوا بالله غيره من الانداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة في قوله: وأنتم
[ 238 ]
تعلمون أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السموات والارض، ثم تجعلون له أندادا. ذكر من قال: عنى بذلك أهل الكتابين: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون أنه إله واحد في التوراة والانجيل. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان عن مجاهد مثله. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأنتم تعلمون يقول: وأنتم تعلمون أنه لا ند له في التوراة والانجيل. قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي دعا مجاهدا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لاهل التوراة والانجيل دون غيرهم، الظن منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانية ربها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإن ذلك لقول ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقر بوحدانيته، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، وقال: قل من يرزقكم من السماء والارض أم من يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فالذي هو أولى بتأويل قوله: وأنتم تعلمون إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين. ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: وأنتم تعلمون أحد الحزبين، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لانه تحدى الناس كلهم بقوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس، عربيا كان أو أعجميا، كاتبا أو أميا، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله (ص)، وأهل النفاق منهم وممن بين
[ 239 ]
ظهرانيهم ممن كان مشركا فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) * قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد (ص) على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم وإياهم يخاطب بهذه الآيات، ضربإهم يعنى بها، قال الله جل ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شك وهو الريب مما نزلنا على عبدنا محمد (ص) من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي، وأني الذي أنزلته إليه، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حجته لانكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق، ومن حجة محمد (ص) على صدقه وبرهانه على نبوته، وأن ما جاء به من عندي، عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتم عن ذلك، وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوته من الآيات ما يعجز عن الاتيان بمثله جميع خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوله ولم يختلقه، لان ذلك لو كان منه اختلافا وتقولا لم يعجزوا وجميع خلقه عن الاتيان بمثله، لان محمدا (ص) لم يعد أن يكون بشرا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فأتوا بسورة من مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: فأتوا بسورة من مثله يعني من مثل هذا القرآن حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب.
[ 240 ]
وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فأتوا بسورة من مثله يقول: بسورة مثل هذا القرآن. وحدثني محمد ابن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد: فأتوا بسورة من مثله مثل القرآن. وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فأتوا بسورة من مثله قال: مثله، مثل القرآن. فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما، أن الله جل ذكره قال لمن حاجه في نبيه (ص) من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم. وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: فأتوا بسورة من مثله: من مثل محمد من البشر، لانه محمدا بشر مثلكم. قال أبو جعفر: والتأويل الاول الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح لان الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله. ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه، فيجوز أن يقال: فأتوا بسورة مثل محمد. فإن قال قائل: إنك ذكرت أن الله عنى بقوله: فأتوا بسورة من مثله من مثل هذا القرآن، فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله ؟ قيل: إنه لم يعن به: ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره، وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان لان القرآن أنزله الله بلسان عربي، فكلام العرب لا شك له مثل في معنى العربية فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه. وإنما احتج الله جل ثناؤه عليهم لنبيه (ص) بما احتج به له عليهم من القرآن، إذ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان، إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم، وكلاما نزل بلسانهم، فقال لهم جل ثناؤه: وإن كنتم في ريب من أن ما أنزلت على
[ 241 ]
عبدي من القرآن من عندي، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية، إذ كنتم عربا، وهو بيان نظير بيانكم، وكلام شبيه كلامكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن، فيقدروا أن يقولوا: كلفتنا ما لو أحسناه أتينا به، وإنا لا نقدر على الاتيان به، لانا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الاتيان به، فليس لك علينا حجة بهذا لانا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لانا لسنا بأهله، ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الاتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله، لان مثله من الالسن ألسنتكم، وأنتم إن كان محمد اختلقه وافتراه، إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الاتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم أقدر على اختلاقه ووضعه وتأليفه من محمد (ص)، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه فلن تعجزوا وأنتم جميع عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحده، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فقال ابن عباس بما: حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس: وادعوا شهداءكم من دون الله يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، إن كنتم صادقين. وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن ابي نجيح، عن مجاهد: وادعوا شهداءكم ناس يشهدون. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قال: قوم يشهدون لكم. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاح، عن ابن جريج، عن مجاهد: وادعوا شهداءكم قال: ناس يشهدون. قال ابن جريج: شهداءكم عليها إذا أتيتم بها أنها مثله مثل القرآن. وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد (ص). وقوله: فادعوا يعني
[ 242 ]
استنصروا واستعينوا، كما قال الشاعر: فلما التقت فرساننا ورجالهم دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر يعني بقوله: دعوا يالكعب: استنصروا كعبا واستعانوا بهم. وأما الشهداء فإنها جمع شهيد، كالشركاء جمع شريك، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهد على الشئ لغيره بما يحقق دعواه، وقد يسمى به المشاهد للشئ كما يقال فلان جليس فلان، يعني به مجالسه، ونديمه يعني به منادمه، وكذلك يقال: شهيده يعني به مشاهده. فإذ كانت الشهداء محتملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانكم وشهداءكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد (ص) اختلاق وافتراء، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا ؟ وأما ما قاله مجاهد وابن جريج في تأويل ذلك فلا وجه له لان القوم كانوا على عهد رسول الله (ص) أصنافا ثلاثة: أهل إيمان صحيح، وأهل كفر صحيح، وأهل نفاق بين ذلك. فأهل الايمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين، فكان من المحال أن يدعي الكفار أن لهم شهداء على حقيقة ما كانوا يأتون به لو أتوا باختلاق من الرسالة، ثم ادعوا أنه للقرآن نظير من المؤمنين. فأما أهل النفاق والكفر فلا شك أنهم لو دعوا إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم، فمن أي الفريقين كانت تكون شهداؤهم لو ادعوا أنهم قد أتوا بسورة من مثل القرآن ؟ ولكن ذلك كما قال جل ثناؤه: قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والانس ولو تظاهروا وتعاونوا على الاتيان به وتحداهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة، فقال تعالى: وإن كنتم في ريب مما
[ 243 ]
نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين يعني بذلك: إن كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة من مثله، وليستنصر بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم حتى تعلموا أنكم إذا عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد (ص) ولا من البشر أحد، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) * قال أبو جعفر: يعني تعالى بقوله: فإن لم تفعلوا: إن لم تأتوا بسورة من مثله، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم. فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعجز جميع خلقي عنه، وعلمتم أنه من عندي، ثم أقمتم على التكذيب به. وقوله: ولن تفعلوا أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدا. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فقد بين لكم الحق. القول في تأويل قوله تعالى: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة. قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: فاتقوا النار يقول: فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي، بعد تبينكم أنه كتابي ومن عندي، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله. ثم وصف جل ثناؤه النار التي حذرهم صليها، فأخبرهم أن الناس وقودها، وأن الحجارة وقودها، فقال: التي وقودها الناس والحجارة يعني بقوله وقودها: حطبها، والعرب تجعله مصدرا، وهو اسم إذا فتحت الواو بمنزلة الحطب، فإذا ضمت الواو من
[ 244 ]
الوقود كان مصدرا من قول القائل: وقدت النار فهي تقد وقودا وقدة ووقدانا ووقدا، يراد بذلك أنها التهبت. فإن قال قائل: وكيف خصت الحجارة فقرنت بالناس حتى جعلت لنار جهنم حطبا ؟ قيل: إنها حجارة الكبريت، وهي أشد الحجارة فيما بلغنا حرا إذا أحميت. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله في قوله: وقودها الناس والحجارة قال: هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والارض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن عيينة، عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود في قوله: وقودها الناس والحجارة قال: حجارة الكبريت جعلها الله كما شاء. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: وقودها الناس والحجارة قال: حجارة من كبريت أسود في النار. قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارة أصلب من هذه وأعظم. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود، قال: حجارة من الكبريت خلقها الله عنده كيف شاء وكما شاء. القول في تأويل قوله تعالى: أعدت للكافرين.
[ 245 ]
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الكافر في كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا لجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نعماءه قبله فمعنى قوله إذا (أعدت للكافرين): أعدت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخلق الذين من قبلهم، الذي جعل لهم الارض فراشا، والسماء بناء، وأنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، المشركين معه في عبادته الانداد والالهة، وهو المتفرد لهم بالانشاء والمتوحد بالاقوات والارزاق. كما: 424 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس: (أعدت للكافرين) أي لمن كان على على مثل ما أنتم عليه من الكفر. القول في تأويل قوله تعالى: (وبشر الذين ءامنوا وعملوا الصلحت أن لهم جنت تجرى من تحتها الانهر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذى رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيها أزوج مطهرة وهم فيها خلدون (25)). أما قوله تعالى: (وبشر) فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبر بما يسر المخبر به، إذا كان سابقا في كل مخبر سواه. وهذا أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبماء جاء به من عند ربه، وصدقوا إيمانه ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة، فقال له: يا محمد ببشر من صدقك أنك رسولي وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي، وحقق تصديقه ذلك قولا بأداء الصالح من الاعمال التي افترضتها عليه وأوجبتها في كتابي على لسانك عليه، أن له جنات تجري من تحتها الانهار خاصة، دون من كذب بك وأنكر ما جئت به من الهدى من عندي وعاندك، ودون من أظهر تصديقك وأقر بأن ما جئته به فمن عندي قولا، وجحده اعتقادا ولم يحققه عملا. فإن لاولئك النار التي وقودها الناس والحجارة معدة عندي. والجنات جمع جنة، والجنة: البستان. وإنما عنى جل ذكر بذكر الجنة ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها دون أرضها، فلذلك قال عز ذكره: (تجري من تحتها الانهار) لانه معلوم أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبر عن ماء أنهارها أنه جار تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جار تحت أرضها، لان الماء إذا كان جاريا تحت الارض، فلاحظ فيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه.
[ 246 ]
على أن الذي توصف به أنهار الجنة أنها جارية في غير أخاديد (1). كما: 425 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا الاشجعي، عن سفيان، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، قال نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال (2)، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وماؤها يجري في غير أخدود. * - وحدثنا مجاهد، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا مسعر بن كدام، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بنحوه. * - وحدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عمرو بن مرة يحدث عن أبي عبيدة، فذكر مثله. قال: فقلت لابي عبيدة: من حدثك، فغضب وقال: مسروق. فإذا كان الامر كذلك في أن أنهارها جارية في غير أخاديد، فلا شك أن الذي أريد بالجنات أشجار الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها، إذ كانت أنهارها تجري فوق أرضها وتحت غروسها وأشجارها، على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جارية تحت أرضها. وإنما رغب الله جل ثناؤه بهذه الاية عباده في الايمان وحضهم على عبادته، بما أخبرهم أنه أعده لاهل طاعته والايمان به عنده، كما حذرهم في الاية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعد لاهل الكفر به الجاعلين معه الالهة والانداد من عقابه عن إشراك غيره معه، والتعرض لعقوبته بركوب معصيته وترك طاعته. القول في تأويل قوله تعالى: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها). قال أبو جعفر: يعني بقوله: (كلما رزقوا منها) من الجنات، والهاء راجعة على " الجنات "، وإنما المعني أشجارها، فكأنه قال: كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (هذا الذي رزقنا من قبل) فقال بعضهم: (1) الاخاديد: جمع أخدود، وهو الشق المستطيل في الارض. (2) القلال: خشب ترفع بها الكروم من الارض. والقلال أيضا: جمع قلة، وهو إناء من الفخار يشرب منها. (*)
[ 247 ]
تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من قب هذا في الدنيا. ذكر من قال ذلك: 426 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (هذا الذي رزقنا من قبل) قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. 427 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل: أي في الدنيا. 428 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم بن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قالوا: (هذا الذي رزقنا من قبل) يقولون: ما أشبهه به. * - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. 429 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قالوا: (هذا الذي رزقنا من قبل) في الدنيا، قال: (وأتوا به متشابها) يعرفونه. قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضا. ومن علة قائل هذا القول أن ثمار الجنة كلما نزع منها شئ عاد مكانه آخر مثله. كما: 430 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، قال: سمعت عمرو بن مرة يحدث عن أبي عبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها مثل القلال (1)، كلما نزعت منها ثمرة عادة مكانها أخرى. قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة، لان التي عادت نظيره التي نزعت فأكلت في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: (وأتوا به متشابها) لاشتباه جميعه في كل معانيه. وقال بعضهم: بل قالوا: (هذا الذي رزقنا من قبل) لمشابهته الذي قبله في اللون وإن خالفه في الطعم. ذكر من قال ذلك: 431 - حدثنا القاسم بن الحسين، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا شيخ (1) انظر الحاشية 2 في الصفحة السابقة. (*)
[ 248 ]
من المصيصة (1) عن الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، قال: يؤتى أحدهم بالصفة فيأكل منها، ثم يؤتي بأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف. وهذا التأويل مذهب من تأول الاية. غير أنه يدفع صحته ظاهر التلاوة. والذي يدل على صته ظاهر الاية ويحقق صحته قول القائلين إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) فأخبر جل ثناؤه أن من قيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقا أن يقولوا: هذا الذي رزقنا من قبل. ولم يخصص بأن ذلك من قيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذ كان قد أخبر جل ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها، فلا شك أن ذلك من قيلهم في أول رزق رزقوه من ثمارها أتوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها، الذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذ كان لا شك أن ذك من قيلهم في أوله، كما هو من قيلهم في وسطه وما يتلوه، فمعلوم أنه محال أن يكون من قيلهم لاول رزق رزقوه من ثمار الجنة: (هذا الذي رزقنا من قبل) هذا من ثمار الجنة. وكيف يجوز أن يقولوا لاول رزق رزقوه من ثمارها ولما يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رزقناه من قبل، إلا أن ينسبهم ذو غرة وضلال إلى قيل الكذب الذي ي قد طهرهم الله منه، أو يدفع دافع أن يكون ذلك من قيلهم لاول رزق رزقوه منها من ثمارها، فيدفع صة ما أوجب الله صحته بقوله: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) من غير نصب دلالة على أنه معني به حال من أحوال دون حال. فقد تبين بما بينا أن معنى الاية: كلما رزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقا، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا. فإن سألنا سائل فقال: وكيف قال القوم: (هذا الذي رزقنا من قبل) والذي رزقوه من قبل قد عدم بأكلهم إياه ؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له ؟ قيل: إن الامر على غير ما ذهبت إليه في ذلك، وإنما معناه: هذا من النوع الذي رزقناه من قبل هذا من الثمار والرزق، كالرجل يقول لاخر: قد أعد لك فلان من الطعام كذا وكذا من ألوان (9 1 المصيصة: ضبطها في معجم البلدان بالفتح ثم الكسر والتشديد وياء ساكنة. قال: كذا ضبطه الازهري وغيره من اللغويين بتشديد الصاد الاولى... وتفرد الجوهري وخالد الفارابي بأن قالا " المصيصة " بتخفيف الصادين. قال ياقوت: وهي مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس. (انظر معجم البلدان: ج 5 ص 144). (*)
[ 249 ]
الطبيخ والشواء والحلوى، فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منزلي. يعني ذلك أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعده له من الطعام هو طعامه، لان أعيان ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له هو طعامه. بل ذلك مما لا يجوز لسامع سمعه يقول ذلك أن يتوهم أنه أراده أو قصده، لان ذلك خلاف مخرج كلام المتكلم، وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) إذ كان ما كاونوا رزقوه من قبل قد فني وعدم، فمعلوم أنهم عنوا بذلك هذا من النوع الذي رزقناه من قبل، ومن جنسه في السمات (1) والالوان على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا (2). القول في تأول قوله: (وأتوا به متشابها). قال أبو جعفر: والهاء في قوله: (وأتوا به متشابها) عائدة على الرزق، فتأويله: وأتوا بالذي رزقوا من ثمارها متشابها. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل المتشابه في ذلك، فقال بعضهم: تشابهه أن كله خيار لا رذل فيه. ذكر من قال ذلك: 432 - حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا أبو عامر عن الحسن في قوله: (متشابها) قال: خيارا كلها لا رذل فيها. 433 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء: قرأ الحسن آيات من البقرة، فأتى على هذه الاية: (وأتوا به متشابها) قال: ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه ؟ وإن ذلك ليس فيه رذل ! ! 434 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن: (وأتوا به متشابها) قال: يشبه بعضه بعضا ليس فيه من رذل. 435 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (وأتوا به متشابها) أي خيارا لا رذل فيه، وأن ثمار الدنيا ينقى منها ويرذل منها، وثمار الجنة كله لا يرذل منه شئ. (1) كانت في الاصل: " التسميات ". وهو خطأ. والسمات: جمع سمة، وهي العلامة. (2) كان في الاصل في هذا الموضع يبدأ بقوله: " وقد زعم بعض أهل العربية " وينتهي بقوله: " دلالة على خطئه ". ومن الواضح أن هذا ليس موضعه المناسب، فنقلناه إلى الصفحة 252 قبل قوله: " القول في تأويل قوله تعالى: ولهم فيها أزواج مطهرة ". (*)
[ 250 ]
436 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: ثمر الدنيا منه ما يرذل ومنه نقاوة (1)، وثمر الجنة نقاوة كله يشبه بعضه بعضا في الطيب ليس منه مرذول. وقال بعضهم: تشابهه في اللون وهو مختلف في الطعم. ذكر من قال ذلك: 437 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتوا به متشابها) في اللون والمرأى، وليس يشبه الطعم. 438 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتوا به متشابها) مثل الخيار. * - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتوا به متشابها) لونه، مختلفا طعمه، مثل الخيار من القثاء. 439 - وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: (وأتوا به متشابها) يشبه بعضه بعضا ويختلف الطعم. 440 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (متشابها) قال: مشتبها في اللون ومختلفا في الطعم. * - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد: (وأتوا به متشابها) مثل الخيار. وقال بعضهم: تشابه في اللون والطعم. ذكر من قال ذلك: 441 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد قوله: (متشابها) قال: اللون والطعم. 442 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ويحيى بن سعيد: (متشابها) قالا: في اللون والطعم. (1) النقاوة من الشئ: خياره وخلاصته. جمعه نقا ونقاء. (المعجم الوسيط: ص 950). (*)
[ 251 ]
وقال بعضهم: تشابهه تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون وإن اختلف طعومهما. ذكر من قال ذلك: 443 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (وأتوا به متشابها) قال: يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب. 444 - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: قال حفص بن عمر، قال: حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله: (وأتوا به متشابها) قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب. وقال بعضهم: لا يشبه شئ مما في الجنة ما في الدنيا إلا الاسماء. ذكر من قال ذلك: 445 - حدثني أبو كريب، قال: حدثنا الاشجعي ح، وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قالا جميعا: حدثنا سفيان عن الاعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس - قال أبو كريم في حديثه عن الاشجعي -: لا يشبه شئ مما في الجنة ما في الدنيا إلا الاسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الاسماء. * - حدثنا عباس بن محمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد عن الاعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: ليس في الدنيا من الجنة شئ إلا الاسماء. 446 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قوله: (وأتوا به متشابها) قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا، التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: (هذا الذي رزقنا من قبل) في الدنيا، (وأتوا به متشابها) يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم. قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الاية، تأويل من قال: (وأتوا به متشابها) في اللون والمنظر، والطعم مختلف. يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفا في الطعم والذوق، لما قدمنا من العلة في تأويل قوله: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) وأن معناه: كلما رزقوا من الجنان من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك من أجل أنهم أتوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابها، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه والذي كانوا رزقوه في الدنيا في اللون والمرأى والمنظر وإن
[ 252 ]
اختلفا في الطعم والذوق فتباينا، فلم يكن لشئ مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا. وقد دللنا على فساد قول من زعم أن معنى قوله: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثمرات الجنة ببعض، وتلك الدلالة على فساد ذلك القول هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: (وأتوا به متشابها) لان الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم: (هذا الذي رزقنا من قبل) بقوله: (وأتوا به متشابها). ويسأل من أنكر ذلك فيزعم أنه غير جائز أن يكون شئ مما في الجنة نظير الشئ مما في الدنيا بوجه من الوجوه، فيقال له: أيجوز أن يكون أسماء ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائر أسماء ما في الدنيا منها ؟ فإن أنكر ذلك خالف نص كتاب الله، لان الله جل ثناؤه إنما عرف عباده في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالاسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك. وإن قال: ذلك جائز، بل هو كذلك قيل: فما أنكرت أن يكون ألوان ما فيها من ذلك نظائر ألوان ما في الدنيا منه بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الالوان وإن تباينت فتفاضلت بفضل سن المرآة والمنظر، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المرآة والمنظر خلاف الذي لما في الدنيا منه كما كان جائزا ذلك في الاسماء مع اختلاف المسميات بالفضل في أجسامها ؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الاخر مثله. وكان أبو موسى الاشعري يقول في ذلك بما: 447 - حدثني به ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب، ومحمد بن جعفر، عن عوف عن قسامة عن الاشعري، قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوده من ثمار الجنة، وعلمه صنعة كل شئ، فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تغير وتلك لا تغير (1). وقد ؟ ؟ ؟ ؟ أهل العربية أن معنى قوله: (وأتوا به متشابها) أنه متشابه في الفضل: أي ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ منه له من الفضل في نحوه مثل الذي للاخر في نحوه. قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغل بالدلالة على فساده لخروجه عن (1) رواه الحاكم في المستدرك (ج 2 ص 592) وقال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه. (*)
[ 253 ]
قول جميع علماء أهل التأويل، وحسب قول بخروجه عن قول أهل العلم دلالة على خطئه (1). القول في تأويل قوله تعالى: (ولهم فيها أزواج مطهرة). قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في " لهم " عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والالف اللتان في " فيها " عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات فيها أزواج مطهرة. والازواج جمع زوج، وهي امرأة الرجل، يقال: فلانة زوج فلان وزوجته. وأما قوله (مطهرة) فإن تأويله أنهن طهرن من كل أذى وقذى وريبة، مما يكون في نساء أهل الدنيا من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبصاق والمني، وما أشبه ذلك من الاذى والادناس والريب والمكاره. كما: 448 - حدثنا به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما (أزواج مطهرة) فإنهن لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن (2). 449 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (أزواج مطهرة) يقول: مطهرة من القذر والاذى. 450 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى القطان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يمذين (3). 451 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه، إلا أنه زاد فيه: ولا يمنين (4) ولا يحضن. (1) هذا المقطع من قوله: " وقد زعم... " إلى قوله: " دلالة على خطئه " كان موضعه خطئا ص 172. ونقلناه إلى هنا. وقد أشرنا إلى ذلك في حاشية 2 من ص 172. (2) تنخم: رمى نخامته، وهي ما يلفظه الانسان من البلغم. (3) أمذي الرجل ومذى: خرج منه المذي عند الملاعبة والتقبيل. (4) أمنى الرجل: أنزل المني. (*)
[ 254 ]
452 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد. * - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سويد بن نضر، قال: حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. 453 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لا يبلن ولا يتغوطن، ولا يحضن، ولا يلدن، ولا يمنين، ولا يبزقن. * - أخبرنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم. 454 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: (ولهم فيها أزواج مطهرة) إي والله من الاثم والاذى. 455 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: طهرن الله من كل بول وغائط وقذر، ومن كل مأثم. 456 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: مطهرة من الحيض، والحيل، والاذى. 457 - وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثني ابن أبي جعفر عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد، قال: المطهرة من الحيض والحبل. 458 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد: (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: المطهرة: التي لا تحيض، قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة، ألا تراهن يدمين ويتركن الصلاة والصيام ؟ قال ابن زيد: وكذلك خلقت حواء حتى عصت، فلما عصت قال الله: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (1). 459 - وحدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن الربيع عن (1) يعني بذلك دم الحيض. (*)
[ 255 ]
الحسن في قوله (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: يقول: مطهرة من الحيض. * - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا خالد بن يزيد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن في قوله: (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: من الحيض. 460 - وحدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء قوله: (لهم فيها أزواج مطهرة) قال: من الولد والحيض والغائط والبول، وذكر أشياء من هذا النحو. القول في تأويل قوله تعالى: (وهم فيها خالدون). قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون، فالهاء والميم من قوله (وهم) عائدة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والهاء والالف في " فيها " على الجنات، وخلودهم فيها: دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الحيرة (1) والنعيم المقيم. القول في تأويل قوله تعالى: (* إن الله لا يستحئ أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضلل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26)). قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جثل ثناؤه فيه هذه الاية وفي تأويلها. فقال بعضهم بما: 461 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما ضرب الله هذين المثلين (1) الحبرة: السرور والنعيم، قال تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون). (*)
[ 256 ]
للمنافقين، يعني قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا وقوله: أو كصيب من السماء الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الامثال. فأنزل الله إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة إلى قوله: أولئك هم الخاسرون. وقال آخرون بما: حدثني به أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا قراد عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، في قوله تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ الآية. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس بنحوه، إلا أنه قال: فإذا خلى آجالهم، وانقطعت مدتهم، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت وتموت إذا رويت فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله فأهلكهم، فذلك قوله: حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. وقال آخرون بما: حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر. إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت، قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها. وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن
[ 257 ]
قتادة، قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها. وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية وفي المعنى الذي نزلت فيه مذهبا، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحق ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس. وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ضربها للمنافقين دون الامثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلان يكون هذا القول، أعني قوله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الامثال في هذه السورة أحق وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الامثال في غيرها من السور. فإن قال قائل: إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الامثال في سائر السور لان الامثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى، لما أخبر عنه أنه لا يستحي أن يضربه مثلا، إذا كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب، وليس ذكر شئ من ذلك بموجود في هذه السورة فيجوز أن يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن قول الله جل ثناؤه: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحق من الامثال صغيرها وكبيرها ابتلاء بذلك عباده واختبارا منه لهم ليميز به أهل الايمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به، إضلالا منه به لقوم وهداية منه به لآخرين كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: مثلا ما بعوضة يعني الامثال صغيرها وكبيرها، يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها، ويضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به. وحدثني المثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله. وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
[ 258 ]
قال أبو جعفر: لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق كما: حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: البعوضة أضعف ما خلق الله. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج بنحوه. خصها الله بالذكر في القلة، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقل الامثال في الحق وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيب من السماء على ما نعتهما به من نعتهما. فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الامثال التي وصفت الذي هذا الخبر جوابه، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟ قيل: الدلالة على ذلك بينها جل ذكره في قوله: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا وأن القوم الذين ضرب لهم الامثال في الآيتين المقدمتين، اللتين مثل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بموقد النار وبالصيب من السماء على ما وصف من ذلك قبل قوله: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا، فأوضح خطأ قيلهم ذلك، وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه، وأنه ضلال وفسوق، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه. وأما تأويل قوله: إن الله لا يستحيي فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى: إن الله لا يستحيي إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا، ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى: وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية، والخشية بمعنى الاستحياء. وأما معنى قوله: أن يضرب مثلا فهو أن يبين ويصف، كما قال جل ثناؤه: ضرب لكم مثلا من أنفسكم بمعنى وصف لكم، وكما قال الكميت:
[ 259 ]
وذلك ضرب أخماس أريدت لاسداس عسى أن لا تكونا بمعنى وصف أخماس. والمثل: الشبه، يقال: هذا مثل هذا ومثله، كما يقال: شبهه وشبهه، ومنه قول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيدها إلا الاباطيل يعني شبها. فمعنى قوله إذا: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا: إن الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به وأما ما التي مع مثل فإنها بمعنى الذي، لان معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها مثلا. فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك كما قلت فما وجه نصب البعوضة، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأولت: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة، فالبعوضة على قولك في محل الرفع، فأنى أتاها النصب ؟ قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدهما أن ما لما كانت في محل نصب بقوله: يضرب وكانت البعوضة لها صلة أعربت بتعريبها فألزمت إعرابها كما قال حسان بن ثابت: وكفى بنا فضلا على من غيرناحب النبي محمد إيانا فعربت غير بإعراب من، فالعرب تفعل ذلك خاصة في من وما تعرب صلاتهما بإعرابهما لانهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا.
[ 260 ]
وأما الوجه الآخر، فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، ثم حذف ذكر بين وإلى، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في ما الثانية دلالة عليهما، كما قالت العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها، وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول ما بين كذا إلى كذا، ينصبون الاول والثاني ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام. فكذلك ذلك في قوله: ما بعوضة فما فوقها. وقد زعم بعض أهل العربية أن ما التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول، وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب يضرب، وأن تكون ما الثانية التي في فما فوقها معطوفة على البعوضة لا على ما. وأما تأويل قوله: فما فوقها: فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الاشياء لا يكون إلا أقوى منه، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة. وقيل في تأويل قوله: فما فوقها في الصغر والقلة، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وفوق ذاك، يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم. وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضي معرفتهم بتأويل القرآن، فقد تبين إذا بما وصفنا أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة. فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز في ما إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول. القول في تأويل قوله تعالى: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا. قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: فأما الذين آمنوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله. وقوله: فيعلمون أنه الحق من ربهم يعني فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل. كما.
[ 261 ]
حدثني به المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم أن هذا المثل الحق من ربهم أنه كلام الله ومن عنده. وكما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم: أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه الحق من الله. وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا قال أبو جعفر: وقوله: وأما الذين كفروا يعني الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علموا أنه حق. وذلك صفة المنافقين، وإياهم عنى الله عز وجل ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية، فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا، كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي: حدثنا به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية، قال: يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها ويضل بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به. وتأويل قوله: ماذا أراد الله بهذا مثلا ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا، ف ذا الذي مع ما في معنى الذي وأراد صلته، وهذا إشارة إلى المثل. القول في تأويل قوله تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا. قال أبو جعفر: يعني بقوله عز وجل: يضل به كثيرا يضل الله به كثيرا من خلقه، والهاء في به من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ، ومعنى الكلام: أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): يضل به كثيرا يعني المنافقين، ويهدي به كثيرا يعني المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به.
[ 262 ]
ويهدي به يعني بالمثل كثيرا من أهل الايمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به. وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين، كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله: وما يضل به إلا الفاسقين وفيما في سورة المدثر من قول الله: وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ، أعني قوله: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا. القول في تأويل قوله تعالى: وما يضل به إلا الفاسقين. وتأويل ذلك ما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): وما يضل به إلا الفاسقين: هم المنافقون. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: وما يضل به إلا الفاسقين فسقوا فأضلهم الله على فسقهم. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: وما يضل به إلا الفاسقين: هم أهل النفاق. قال أبو جعفر: وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشئ، يقال منه: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة، لخروجها عن جحرها. فكذلك المنافق والكافر سميا فاسقين لخروجهما عن طاعة ربهما، ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه يعني به: خرج عن طاعته واتباع أمره. كما: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن داود بن
[ 263 ]
الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس في قوله: بما كانوا يفسقون أي بما بعدوا عن أمري. فمعنى قوله: وما يضل به إلا الفاسقين: وما يضل الله بالمثل الذي يضربه لاهل الضلال والنفاق إلا الخارجين عن طاعته والتاركين اتباع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفاق. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون) * قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يضل بالمثل الذي ضربه لاهل النفاق غيرهم، فقال: وما يضل الله بالمثل الذي يضربه على ما وصف قبل في الآيات المتقدمة إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسوله (ص)، ونقضهم ذلك تركهم العمل به. وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم وبقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر فكل ما في هذه الآيات فعذل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قصصهم. قالوا: فعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه: هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد (ص) إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس، بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا. وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الادلة الدالژ على ربوبيته وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة
[ 264 ]
لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الاقرار بما قد تبينت لهم صحته بالادلة، وتكذيبهم الرسل والكتب، مع علمهم أن ما أتوا به حق. وقال آخرون: العهد الذي ذكره الله جل ذكره، هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصفه في قوله: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الآيتين، ونقضهم ذلك، تركهم الوفاء به. وأولى الاقوال عندي بالصواب في ذلك، قول من قال: إن هذه الآيات نزلت في كفار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص)، وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل، ومن كان على شركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصصهم فيما مضى من كتابنا هذا. وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه: إن الذين كفروا سواء عليهم وقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر فيهم أنزلت، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غير أن هذه الآيات عندي وإن كانت فيهم نزلت، فإنه معني بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال، ومعني بما وافق منها صفة المنافقين خاصة جميع المنافقين، وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود جميع من كان لهم نظيرا في كفرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه يعم أحيانا جميعهم بالصفة لتقديمه ذكر جميعها في أول الآيات التي ذكرت قصصهم، ويخص أحيانا بالصفة بعضهم لتفصيله في أول الآيات بين فريقيهم، أعني فريق المنافقين من عبدة الاوثان وأهل الشرك بالله، وفريق كفار أحبار اليهود، فالذين ينقضون عهد الله: هم التاركون ما عهد الله إليهم من الاقرار بمحمد (ص) وبما جاء به وتبيين نبوته للناس الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك، كما قال الله جل ذكره: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم ونبذهم ذلك وراء ظهورهم: هو نقضهم العهد الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه، وتركهم العمل به. وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلت إنه عنى بها، لان الآيات من ابتداء الآيات الخمس والست من سورة البقرة فيهم نزلت إلى تمام قصصهم، وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وابنائه في قوله: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا
[ 265 ]
بعهدي أوف بعهدكم وخطابه إياهم جل ذكره بالوفاء في ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدل على أن قوله: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه مقصود به كفارهم ومنافقوهم، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الاوثان على ضلالهم. غير أن الخطاب وإن كان لمن وصفت من الفريقين فداخل في أحكامهم وفيما أوجب الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الامم المخاطبين بالامر والنهي. فمعنى الآية إذا: وما يضل به إلا التاركين طاعة الله، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه باتباع أمر رسوله محمد (ص) وما جاء به، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته وترك كتمان ذلك لهم. ونكثهم ذلك ونقضهم إياه، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم فيما وصفت أنه عهد إليهم بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك كما وصفهم به جل ذكره بقوله: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق. وأما قوله: من بعد ميثاقه فإنه يعني من بعد توثق الله فيه بأخذ عهوده بالوفاء له بما عهد إليهم في ذلك، غير أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان توثقا، والميثاق اسم منه، والهاء في الميثاق عائدة على اسم الله. وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار في نقض العهد وقطع الرحم والافساد في الارض. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه فإياكم ونقض هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليف به لله. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،
[ 266 ]
عن الربيع في قوله: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون فهي ست خلال في أهل النفاق إذا كانت لهم الظهرة أظهروا هذه الخلال الست جميعا: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الارض. وإذا كانت عليهم الظهرة أظهروا الخلال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا. القول في تأويل قوله تعالى: ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل. قال أبو جعفر: والذي رغب الله في وصله وذم على قطعه في هذه الآية: الرحم، وقد بين ذلك في كتابه فقال تعالى: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم وإنما عنى بالرحم: أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة، وقطع ذلك ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها وأوجب من برها ووصلها أداء الواجب لها إليها: من حقوق الله التي أوجب لها، والتعطف عليها بما يحق التعطف به عليها. وأن التي مع يوصل في محل خفض بمعنى ردها على موضع الهاء التي في به فكان معنى الكلام: ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل. والهاء التي في به هي كناية عن ذكر أن يوصل. وبما قلنا في تأويل قوله: ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل وأنه الرحم كان قتادة يقول: حدثنا بشر بن معاذ. قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة. وقد تأول بعضهم ذلك أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله (ص) والمؤمنين به وأرحامهم، واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية، وأن لا دلالة على أنه معني بها: بعض ما أمر الله بوصله دون بعض. قال أبو جعفر: وهذا مذهب من تأويل الآية غير بعيد من الصواب، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه، فوصفهم بقطع الارحام. فهذه نظيرة تلك، غير
[ 267 ]
أنها وإن كانت كذلك فهي دالة على ذم الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله رحما كانت أو غيرها. القول في تأويل قوله تعالى: ويفسدون في الارض. قال أبو جعفر: وفسادهم في الارض هو ما تقدم وصفناه قبل من معصيتهم ربهم وكفرهم به، وتكذيبهم رسوله، وجحدهم نبوته، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده. القول في تأويل قوله تعالى: أولئك هم الخاسرون. قال أبو جعفر: والخاسرون جمع الخاسر، والخاسرون: الناقصون أنفسهم حظوظها بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه. فكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كان إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا، كما قال جرير بن عطية: إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنه يعني بقوله في الخسار: أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى أولئك هم الخاسرون: أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويل الكلام على معناه دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه. وقال بعضهم في ذلك بما: حدثت به عن المنجاب. قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كل شئ نسبه الله إلى غير أهل الاسلام من اسم مثل
[ 268 ]
خاسر، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الاسلام فإنما يعني به الذنب. القول في تأويل قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم يقول: لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة. وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الاحوص، عن عبد الله في قوله: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال: هي كالتي في البقرة: كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم. وحدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا عبثر، قال: حدثنا حصين عن أبي مالك في قوله: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال: خلقتنا ولم نكن شيئا، ثم أمتنا، ثم أحييتنا. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال: كانوا أمواتا فأحياهم الله، ثم أماتهم، ثم أحياهم. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم
[ 269 ]
يحييكم قال: لم تكونوا شيئا حين خلقكم، ثم يميتكم الموتة الحق، ثم يحييكم. وقوله: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين مثلها. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج قال: حدثني عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: هو قوله: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية في قول الله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا يقول: حين لم يكونوا شيئا، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رجعوا إليه بعد الحياة. وحدثت عن المنجاب قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه إحياءة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه إحياءة فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون. وقال آخرون بما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن أبي صالح: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون قال: يحييكم في القبر، ثم يميتكم. وقال آخرون بما: حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية. قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان. وقال بعضهم بما:
[ 270 ]
حدثني به يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق. وقرأ: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حتى بلغ: أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيري، فخلق منه حواء، ذكره عن النبي (ص). قال: وذلك قول الله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء قال: وبث منهما بعد ذلك في الارحام خلقا كثيرا، وقرأ: يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ثم خلقهم في الارحام، ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا. وقرأ قول الله: وأخذنا منهم ميثاقا غليظا. قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا. قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الاقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل. فأما وجه تأويل من تأول قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم أي لم تكونوا شيئا، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشئ الدارس والامر الخامل الذكر: هذا شئ ميت، وهذا أمر ميت يراد بوصفه بالموت خمول ذكره ودروس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حي، وذكر حي يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس كما قال أبو نخيلة السعدي:
[ 271 ]
فأحييت لي ذكري وما كنت خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض يريد بقوله: فأحييت لي ذكري: أي رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا بعد أن كان خاملا ميتا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: وكنتم أمواتا لم تكونوا شيئا: أي كنتم خمولا لا ذكر لكم، وذلك كان موتكم، فأحياكم فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم من دروس ذكركم، وتعفي آثاركم، وخمول أموركم ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ونفخ الروح فيها وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الاماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم. وأما وجه تأويل من تأول ذلك أنه الاماتة التي هي خروج الروح من الجسد، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله: وكنتم أمواتا إلى أنه خطاب لاهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد، لان التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم لا استعتاب واسترجاع. وقوله جل ذكره: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا توبيخ مستعتب عباده، وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الانابة، ولا إنابة في القبور بعد الممات ولا توبة فيها بعد الوفاة. وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الاشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره: نفخه الارواح فيها وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم، وإحياؤه إياهم بعد ذلك: نفخ الارواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود. وأما ابن زيد فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك، وأن الاماتة الاولى عند إعادة الله جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم، وأن الاحياء
[ 272 ]
الآخر: هو نفخ الارواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الاماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث، وأن الاحياء الثالث: هو نفخ الارواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة. وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول الله الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وزعم ابن زيد في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات، وأماتهم ثلاث إماتات. والامر عندنا وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين، أعني قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية، وقوله: ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين في شئ لان أحدا لم يدع أن الله أمات من ذرأ يومئذ غير الاماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث، فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد. وقال بعضهم: الموتة الاولى: مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها، ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها، ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه. فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور فيرد في جسده روحه، فيعود حيا سويا لبعث القيامة فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول لانهم قالوا: موت ذي الروح مفارقة الروح إياه، فزعموا أن كل شئ من ابن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح فارقته الحياة فصار ميتا، كالعضو من أعضائه مثل اليد من يديه، والرجل من رجليه لو قطعت وأبينت، والمقطوع ذلك منه حي، كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة، نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه، وهذا قول ووجه من التأويل لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم. وأولى ما ذكرنا من الاقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود، وعن ابن عباس، من أن
[ 273 ]
معنى قوله: وكنتم أمواتا: أموات الذكر خمولا في أصلاب آبائكم نطفا لا تعرفون ولا تذكرون، فأحياكم بانشائكم بشرا سويا، حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الارواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك، كما قال: ثم إليه ترجعون لان الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال جل ذكره: يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون وقال: ونفخ في الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدمنا ذكره للقائلين به وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل. وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمنا بالله وباليوم الآخر الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم غير مؤمنين به، وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين. فعذلهم الله بقوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك، وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم. ثم عدد ربنا عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون: نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم التي عظمت منهم مواقعها، ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها بما ركبوا من الآثام واجترموا من الاجرام وخالفوا من الطاعة إلى المعصية، يحذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم كالتي عجلها للاسلاف والافراط قبلهم، ويخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم، ويعرفهم مالهم من النجاة في سرعة الاوبة إليه، وتعجيل التوبة من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب. فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر، صلوات الله عليه، وما سلف منه من كرامته إليه وآلائه لديه، وما أحل به وبعدوه إبليس من
[ 274 ]
عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به، وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه، وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل، وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل إذا استكبر وأبى التوبة إليه والانابة، منبها لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة، وقضائه في المستكبرين عن الانابة، إعذارا من الله بذلك إليهم وإنذارا لهم، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الالباب. وخاصا أهل الكتاب بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها مما علمه أهل الكتاب وجهلته الامة الامية من مشركي عبدة الاوثان، بالاحتجاج عليهم دون غيرهم من سائر أصناف الامم الذين لا علم عندهم بذلك لنبيه محمد (ص)، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك، أنه لله رسول مبعوث، وأن ما جاءهم به فمن عنده، إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص من مكنون علومهم، ومصون ما في كتبهم، وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم. وكان معلوما من محمد (ص) أنه لم يكن قط كاتبا ولا لاسفارهم تاليا، ولا لاحد منهم مصاحبا ولا مجالسا، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم، فقال جل ذكره في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه مع كفرهم به، وتركهم شكره عليها مما يجب له عليهم من طاعته تأويل قوله تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم) * فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الارض جميعا، لان الارض وجميع ما فيها لبني آدم منافع. أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره: هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا. وقوله: هو مكنى من اسم الله جل ذكره، عائد على اسمه في قوله: كيف تكفرون بالله. ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه: إنشاؤه عينه، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. وما بمعنى الذي. فمعنى الكلام إذا: كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم بشرا أحياء، ثم يميتكم، ثم هو محييكم بعد ذلك، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الارض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم. وكيف بمعنى التعجب والتوبيخ لا بمعنى الاستفهام، كأنه قال: ويحكم كيف تكفرون بالله، كما قال: فأين تذهبون. وحل قوله: وكنتم أمواتا فأحياكم
[ 275 ]
محل الحال، وفيه إضمار قد، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن فعل إذا حلت محل الحال كان معلوما أنها مقتضية قد، كما قال جل ثناؤه: أو جاءوكم حصرت صدورهم بمعنى: قد حصرت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحت كثرت ماشيتك، تريد: قد كثرت ماشيتك. وبنحو الذي قلنا في قوله: هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا كان قتادة يقول: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا نعم والله سخر لكم ما في الارض. القول في تأويل قوله تعالى: ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات. قال أبو جعفر: اختلف في تأويل قوله: ثم استوى إلى السماء فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي يشاتمني واستوى إلي يشاتمني، بمعنى: أقبل علي وإلي يشاتمني. واستشهد على أن الاستواء بمعنى الاقبال بقول الشاعر: أقول وقد قطعن بنا شرورى سوامد واستوين من الضجوع فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضجوع، وكان ذلك عنده بمعنى أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله: واستوين من الضجوع عندي: استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه. وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحول، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحول إلى الشام، إنما يريد تحول فعله. وقال بعضهم: قوله ثم استوى إلى السماء يعني به: استوت، كما قال الشاعر: أقول له لما استوى في ترابه على أي دين قبل الرأس مصعب
[ 276 ]
وقال بعضهم: ثم استوى إلى السماء: عمد إليها. وقال: بل كل تارك عملا كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه. وقال بعضهم: الاستواء: هو العلو، والعلو: هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. حدثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع بن أنس: ثم استوى إلى السماء يقول: ارتفع إلى السماء. ثم اختلف متأولو الاستواء بمعنى العلو والارتفاع في الذي استوى إلى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها: هو خالقها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للارض سماء. قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل، ومنها استقامة ما كان فيه أود من الامور والاسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم: طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده يعني: استقام به. ومنها الاقبال على الشئ بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الاحسان إليه. ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها. ومنها العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه. وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: ثم استوى إلى السماء فسواهن علا عليهن وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سموات.
[ 277 ]
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: ثم استوى إلى السماء الذي هو بمعنى العلو والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفوهم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: استوى أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال. ثم لن يقول في شئ من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لانبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفا، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى. قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل: أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟ قيل: بعده، وقبل أن يسويهن سبع سموات، كما قال جل ثناؤه: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا، وقبل أن يسويها سبع سموات. وقال بعضهم: إنما قال استوى إلى السماء ولا سماء، كقول الرجل لآخر: اعمل هذا الثوب وإنما معه غزل. وأما قوله فسواهن فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبرهن وقومهن، والتسوية في كلام العرب: التقويم والاصلاح والتوطئة، كما يقال: سوى فلان لفلان هذا الامر: إذا قومه وأصلحه ووطأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته، وتدبيره لهن على إرادته، وتفتيقهن بعد ارتاقهن كما: حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: فسواهن سبع سموات يقول: سوى خلقهن وهو بكل شئ عليم. وقال جل ذكره: فسواهن فأخرج مكنيهن مخرج مكنى الجمع. وقد قال قبل: ثم استوى إلى السماء فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكني الجمع. لان السماء جمع واحدها سماوة، فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر،
[ 278 ]
ونخلة ونخل وما أشبه ذلك ولذلك أنث مرة، فقيل: هذه سماء، وذكرت أخرى فقيل: السماء منفطر به كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحدة غير دخول الهاء وخروجها، فيقال: هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل، وما أشبه ذلك. وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة، غير أنها تدل على السموات، فقيل: فسواهن يراد بذلك التي ذكرت، وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تذكر معها. قال: وإنما تذكر إذا ذكرت وهي مؤنثة، فيقال: السماء منفطر به كما يذكر المؤنث، وكما قال الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها وكما قال أعشى بني ثعلبة: فإما تري لمتي بدلت فإن الحوادث أزرى بها وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء، وأرضا فوق أرض، فهي في التأويل واحدة إن شئت، ثم تكون تلك الواحدة جماعا، كما يقال: ثوب أخلاق وأسمال، وبرمة أعشار للمتكسرة، وبرمة أكسار وأجبار، وأخلاق: أي أن نواحيه أخلاق. فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت: إن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء وهي دخان قبل
[ 279 ]
أن يسويها سبع سموات، ثم سواها سبعا بعد استوائه إليها، فكيف زعمت أنها جماع ؟ قيل: إنهن كن سبعا غير مستويات، فلذلك قال جل ذكره: فسواهن سبعا: كما: حدثني محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق: كان أول ما خلق الله تبارك وتعالى: النور والظلمة، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا، ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلم من دخان الماء حتى استقللن ولم يحبكهن، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها، فجرى فيها الليل والنهار، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم، ثم دحى الارض، وأرساها بالجبال، وقدر فيها الاقوات، وبث فيها ما أراد من الخلق، ففرغ من الارض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها، وأوحى في كل سماء أمرها، فأكمل خلقهن في يومين. ففرغ من خلق السموات والارض في ستة أيام، ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته، ثم قال للسموات والارض: ائتيا طوعا أو كرها لما أردت بكما، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها، قالتا: أتينا طائعين. فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء بعد خلقه الارض وما فيها وهن سبع من دخان، فسواهن كما وصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق لانه أوضح بيانا عن خبر السموات أنهن كن سبعا من دخان قبل استواء ربنا إليها بتسويتها من غيره، وأحسن شرحا لما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التي قال الله فيها: ثم استوى إلى السماء بمعنى الجمع على ما وصفنا، وأنه إنما قال جل ثناؤه: فسواهن إذ كانت السماء بمعنى الجمع على ما بينا. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله: فسواهن إذ كن قد خلقن سبعا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذكر خلقهن بعد ذكر خلق الارض، ألانها خلقت قبلها، أم بمعنى غير ذلك ؟ قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق، ونزيد ذلك توكيدا بما انضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم. فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم
[ 280 ]
استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين في الاحد والاثنين، فخلق الارض على حوت، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن والقلم والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الارض. فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزت الارض، فأرسى عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الارض، فذلك قوله: وجعل لها رواسي أن تميد بكم وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والاربعاء، وذلك حين يقول: أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها يقول: أنبت شجرها وقدر فيها أقواتها يقول أقواتها لاهلها في أربعة أيام سواء للسائلين يقول: قل لمن يسألك هكذا الامر ثم استوى إلى السماء وهي دخان وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لانه جمع فيه خلق السموات والارض وأوحى في كل سماء أمرها قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها، من البحار وجبال البرد وما لا يعلم. ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، فذلك حين يقول: خلق السموات والارض في ستة أيام يقول: كانتا رتقا ففتقناهما. وحدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: هو الهذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى
[ 281 ]
إلى السماء قال: خلق الارض قبل السماء، فلما خلق الارض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين بعضهن تحت بعض. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فسواهن سبع سموات قال: بعضهن فوق بعض، بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام. وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الارض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الارض، وذلك أن الله خلق الارض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الارض بعد ذلك، فذلك قوله: والارض بعد ذلك دحاها. وحدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الاحد، فخلق الارضين في الاحد والاثنين، وخلق الاقوات والرواسي في الثلاثاء والاربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذا: هو الذي أنعم عليكم، فخلق لكم ما في الارض جميعا وسخره لكم تفضلا منه بذلك عليكم، ليكون لكم بلاغا في دنياكم، ومتاعا إلى موافاة آجالكم، ودليلا لكم على وحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان، فسواهن وحبكهن، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: وهو بكل شئ عليم. يعني بقوله جل جلاله: وهو نفسه، وبقوله: بكل شئ عليم: أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الارض جميعا، وسوى السموات السبع بما فيهن، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل
[ 282 ]
الكتاب، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وهم على التكذيب به منطوون. وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوته المواثيق، وهم به عالمون بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم، وأمور غيركم، إني بكل شئ عليم. وقوله: عليم بمعنى عالم. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمل في علمه. حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، قال: حدثني علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمل في علمه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) * قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويل قوله: وإذ قال ربك وقال ربك، وأن إذ من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذف. واعتل لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الاسود بن يعفر: فإذا وذلك لامهاه لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره. وببيت عبد مناف بن ربع الهذلي: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا وقال: معناه: حتى أسلكوهم.
[ 283 ]
قال أبو جعفر: والامر في ذلك بخلاف ما قال وذلك أن إذ حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت، وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذ سواء قيل قائل هو بمعنى التطول، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم. وقيل آخر في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به وهو بمعنى التطول. وليس لمدعي الذي وصفنا قوله في بيت الاسود بن يعفر، أن إذا بمعنى التطول وجه مفهوم بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الاسود بن يعفر من قوله: فإذا وذلك لامهاه لذكره وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله ذلك إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه لامهاه لذكره، يعني لا طعم له ولا فضل، لاعقاب الدهر صالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا لو أسقط منه إذا بطل معنى الكلام لان معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا. فدل قوله: أسلكوهم شلا على معنى المحذوف، فاستغنى عن ذكره بدلالة إذا عليه، فحذف. كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل العرب في نظائر ذلك، وكما قال النمر بن تولب: فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب: أتيتك من قبل ومن بعد تريد: من قبل ذلك ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في إذا كما يقول القائل: إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الآخر: فإذا وذلك لا يضرك ضره في يوم أثل نائلا أو أنكدا نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الاسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: وإذ قال ربك للملائكة لو أبطلت إذ وحذفت من الكلام، لاستحال عن معناه الذي هو به وفيه إذ.
[ 284 ]
فإن قال قائل: فما معنى ذلك ؟ وما الجالب ل إذ، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه ؟ قيل له: قد ذكرنا فيما مضى أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم بهذه الآيات والتي بعدها موبخهم مقبحا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم، ومذكرهم بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصية الله، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته ومعرفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استعتابا منه لهم. فكان مما عدد من نعمه عليهم، أنه خلق لهم ما في الارض جميعا، وسخر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع، فكان في قوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئا، وخلقت لكم ما في الارض جميعا، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله: وإذ قال ربك للملائكة على المعنى المقتضى بقوله: كيف تكفرون بالله إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت، واذكروا فعلى بأبيكم آدم، إذ قلت للملائكة إني جاعل في الارض خليفة. فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل: نعم، أكثر من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر: أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيدان ناجية ذمولا ولا متدارك والشمس طفل ببعض نواشغ الوادي حمولا
[ 285 ]
فقال: ولا متدارك، ولم يتقدمه فعل بلفظه يعطف عليه، ولا حرف معرب إعرابه فيرد متدارك عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدمه فعل مجحود ب لن يدل على المعنى المطلوب في الكلام وعلى المحذوف، استغنى بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف، وعامل الكلام في المعنى والاعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرا. لان قوله: أجدك لن ترى بثعيلبات بمعنى: أجدك لست براء، فرد متداركا على موضع ترى كأن لست والباء موجودتان في الكلام، فكذلك قوله: وإذ قال ربك لما سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قبلهم وقبل آبائهم من أياديه وآلائه، وكان قوله: وإذ قال ربك للملائكة مع ما بعده من النعم التي عددها عليهم ونبههم على مواقعها، رد إذ على موضع: وكنتم أمواتا فأحياكم لان معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الاولى مقتضية إذ عطف وإذ على موضعها في الاولى كما وصفنا من قول الشاعر في ولا متدارك. القول في تأويل قوله تعالى: للملائكة. قال أبو جعفر: والملائكة جمع ملك، غير أن واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز، وذلك أنهم يقولون في واحدهم ملك من الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح، لانهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها، فإذا جمعوا واحدهم ردوا الجمع إلى الاصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة. وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة فيجري كلامهم بترك همزها في حال، وبهمزها في أخرى، كقولهم: رأيت فلانا، فجرى كلامهم بهمز رأيت، ثم قالوا: نرى وترى ويرى، فجرى كلامهم في يفعل ونظائرها بترك الهمز، حتى صار الهمز معها شاذا مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في ملك وملائكة، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزا كما قال الشاعر:
[ 286 ]
فلست لانسي ولكن لملاك تحدر من جو السماء يصوب وقد يقال في واحدهم: مألك، فيكون ذلك مثل قولهم: جبذ وجذب، وشأمل وشمأل، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك، أن يجمع إذ جمع على ذلك: مالك، ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا، ولكنهم قد يجمعون ملائك وملائكة، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثه، ومسمع: مسامع ومسامعة. قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك: وفيها من عباد الله قوم ملائك ذللوا وهم صعاب وأصل الملاك: الرسالة، كما قال عدي بن زيد العبادي: أبلغ النعمان عني ملاكا أنه قد طال حبسي وانتظاري وقد ينشد مألكا على اللغة الاخرى، فمن قال: ملاكا، فهو مفعل من لاك إليه يلاك: إذا أرسل إليه رسالة ملاكة. ومن قال: مألكا، فهو مفعل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألكة وألوكا، كما قال لبيد بن ربيعة: وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل فهذا من ألكت. ومنه قول نابغة بني ذبيان: ألكني يا عيين إليك قولا ستهديه الرواة إليك عني وقال عبد بني الحسحاس: ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لانها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده. القول في تأويل قوله تعالى: إني جاعل في الارض.
[ 287 ]
اختلف أهل التأويل في قوله: إني جاعل، فقال بعضهم: إني فاعل. ذكر من قال ذلك. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن، وأبي بكر، يعني الهذلي عن الحسن وقتادة، قالوا: قال الله للملائكة: إني جاعل في الارض خليفة قال لهم: إني فاعل. وقال آخرون: إني خالق. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المنجاب بن الحارث قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، قال: كل شئ في القرآن جعل فهو خلق. قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله: إني جاعل في الارض خليفة أي مستخلف في الارض خليفة ومصير فيها خلفا، وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة. وقيل إن الارض التي ذكرها الله في هذه الآية هي مكة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط أن النبي (ص) قال: دحيت الارض من مكة. وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أول من طاف به، وهي الارض التي قال الله: إني جاعل في الارض خليفة، وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا، فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. القول في تأويل قوله تعالى: خليفة. والخليفة الفعلية، من قولك: خلف فلان فلانا في هذا الامر إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال جل ثناؤه: ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون يعني بذلك: أنه أبدلكم في الارض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم ومن ذلك قيل للسلطان الاعظم: خليفة، لانه خلف الذي كان قبله، فقام بالامر مقامه، فكان منه خلفا، يقال منه: خلف الخليفة يخلف خلافة وخليفا، وكان ابن إسحاق يقول بما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إني جاعل في
[ 288 ]
الارض خليفة يقول: ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم. وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها، وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الارض خليفة يسكنها، ولكن معناها ما وصفت قبل. فإن قال لنا قائل: فما الذي كان في الارض قبل بني آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلا منه وفيها منه خلفا ؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك. فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الارض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: إني جاعل في الارض خليفة. فعلى هذا القول إني جاعل في الارض خليفة من الجن يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها. وحدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: إني جاعل في الارض خليفة الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الاربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الارض فتقاتلهم، فكانت الدماء وكان الفساد في الارض. وقال آخرون في تأويل قوله: إني جاعل في الارض خليفة أي خلفا يخلف بعضهم بعضا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري، ونظير له ما: حدثني به محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله: إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال: يعنون به بني آدم. وحدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الارض خلقا، وأجعل فيها خليفة، وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة والارض ليس فيها خلق.
[ 289 ]
وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الارض خليفة له، يحكم فيها بين خلقه بحكمه، نظير ما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): أن الله جل ثناؤه قال للملائكة: إني جاعل في الارض خليفة قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الارض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الافساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله لانهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه: ما ذاك الخليفة: إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فأضاف الافساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه وأخرج منه خليفته. وهذا التأويل وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه فصرف متأوليه إضافة الافساد في الارض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياها فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها، وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الافساد في الارض وسفك الدماء إلى الخليفة. والذي دعا المتأولين قوله: إني جاعل في الارض خليفة في التأويل الذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها إذ قال لهم ربهم: إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله في الارض لا غيره لان المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله قد برأ آدم من الافساد في الارض وسفك الدماء وطهره من ذلك، علم أن الذي عنى به غيره من ذريته، فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الارض ويسفك الدماء هو غير آدم، وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا. وأغفل قائلو هذه المقالة
[ 290 ]
ومتأولو الآية هذا التأويل سبيل التأويل، وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها: إني جاعل في الارض خليفة لم تضف الافساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه، بل قالت: أتجعل فيها من يفسد فيها، وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الافساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل. القول في تأويل قوله تعالى: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الارض خليفة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ولم يكن آدم بعد مخلوقا ولا ذريته، فيعلموا ما يفعلون عيانا ؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنا، فذلك شهادة منها بالظن وقول بما لا تعلم، وذلك ليس من صفتها، فما وجه قيلها ذلك لربها ؟ قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، قال: وكان اسمه الحرث. قال: وكان خازنا من خزان الجنة. قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي. قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذ ألهبت. قال: وخلق الانسان من طين، فأول من سكن الارض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذين يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت
[ 291 ]
شيئا لم يصنعه أحد. قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين معه: إني جاعل في الارض خليفة فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء ؟ وإنما بعثنا عليهم لذلك. فقال: إني أعلم ما لا تعلمون يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب واللازب: اللزج الصلب من حمأ مسنون منتن. قال: وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده. قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي فيصوت قال: فهو قول الله: من صلصال كالفخار يقول: كالشئ المنفوخ الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئا للصلصلة، ولشئ ما خلقت لئن سلطت عليك لاهلكنك، ولئن سلطت علي لاعصينك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شئ منها في جسده إلا صار لحما ودما. فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله: وكان الانسان عجولا قال: ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده، عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام من الله تعالى. فقال الله له: يرحمك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، وآيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الاسماء كلها، وهي هذه الاسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الامم وغيرها. ثم عرض هذه الاسماء على أولئك الملائكة، يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: أنبئوني بأسماء هولاء يقول: أخبروني بأسماء
[ 292 ]
هؤلاء إن كنتم صادقين إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الارض خليفة. قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك لا علم لنا إلا ما علمتنا تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم. فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم يقول: أخبرهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أيها الملائكة خاصة إني أعلم غيب السموات والارض ولا يعلمه غيري وأعلم ما تبدون يقول: ما تظهرون وما كنتم تكتمون يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. وهذه الرواية عن ابن عباس تنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة، الذين قاتلوا معه جن الارض قبل خلق آدم. وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانا منه لهم وابتلاء ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقا منهم من خلقه عليهم، وأن كرامته لا تنال بقوى الابدان وشدة الاجسام كما ظنه إبليس عدو الله. ويصرح بأن قيلهم لربهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كانت هفوة منهم ورجما بالغيب، وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقفهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظنون، وتبرءوا إليه أن يعلم الغيب غيره، وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويا عليه من الكبر الذي قد كان عنهم مستخفيا. وقد روي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية، وهو ما: حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): لما فرغ الله من خلق ما أحب، استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لانهم خزان الجنة. وكان إبليس مع ملكه خازنا، فوقع في صدره كبر
[ 293 ]
وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي هكذا قال موسى بن هارون، وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه، اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة: إني جاعل في الارض خليفة قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون يعني من شأن إبليس. فبعث جبريل إلى الارض ليأتيه بطين منها، فقالت الارض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث الله ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث ملك الموت، فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الارض وخلط، فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم ترك حين أنتن وتغير، وذلك حين يقول: من حمأ مسنون قال: منتن، ثم قال للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عليه ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه ؟ فخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة. فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر فيضربه، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: من صلصال كالفخار ويقول لامر ما خلقت ودخل فيه فخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لاهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح، فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه، نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: خلق الانسان من عجل فسجد الملائكة كلهم
[ 294 ]
أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين أي استكبر وكان من الكافرين قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي قال أنا خير منه لم أكن لاسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له: اخرج منها فما يكون لك يعني ما ينبغي لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين والصغار هو الذل. قال: وعلم آدم الاسماء كلها، ثم عرض الخلق على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هولاء إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الارض ويسفكون الدماء، فقالوا له: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال الله: يا آدم أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال: قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها فهذا الذي أبدوا، وأعلم ما كنتم تكتمون، يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر. قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل، وموافق معنى آخره معناها وذلك أنه ذكر في أوله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة ؟ حين قال لها: إني جاعل في الارض خليفة فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربها بعد إعلام الله إياها أن ذلك كائن من ذرية الخليفة الذي يجعله في الارض، فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه. وأما موافقته إياه في آخره، فهو قولهم في تأويل قوله: أنبئوني بأسماء هولاء إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الارض ويسفكون الدماء. وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك، تبريا من علم الغيب: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. وهذا إذا تدبره ذو الفهم، علم أن أوله يفسد آخره، وأن آخره يبطل معنى أوله وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرية الخليفة الذي يجعله في الارض تفسد فيها وتسفك الدماء، فقالت الملائكة لربها: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الارض ويسفك الدماء بمثل الذي أخبرها عنهم ربها، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الامور، فأخبرتم به، فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه. بل ذلك خلف من التأويل، ودعوى على الله ما لا يجوز أن يكون له صفة. وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا
[ 295 ]
الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العلم بخبري إياكم أن بني آدم يفسدون في الارض ويسفكون الدماء، حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فيكون التوبيخ حينئذ واقعا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم: إنه يكون له ذرية يفسدون في الارض ويسفكون الدماء، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خليفته في الارض ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء، فقد كان طوى عنهم الخبر عما يكون من كثير منهم ما يكون من طاعتهم ربهم وإصلاحهم في أرضه وحقن الدماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم عليه، فلم يخبرهم بذلك، فقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء على ظن منها على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرت، وظاهرهما أن جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الارض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء. فقال الله لهم إذ علم آدم الاسماء كلها: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أن جميع بني آدم يفسدون في الارض ويسفكون الدماء على ما ظننتم في أنفسكم، إنكارا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم، وهو من صفة خاص ذرية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفة منا لتأويل الخبر لا القول الذي نختاره في تأويل الآية. ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم، ما: حدثنا به أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، قوله: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال: يعنون الناس. وقال آخرون في ذلك بما: حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة فإستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقد علمت الملائكة من علم الله
[ 296 ]
أنه لا شئ أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الارض ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل، وقوم صالحون، وساكنوا الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم، وكل خالق مبتلى، كما ابتليت السموات والارض بالطاعة فقال الله: ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين. وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن ولكن على الرأي منها والظن، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها ورد عليها ما رأت بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الانبياء والرسل والمجتهد في طاعة الله. وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل، وهو ما: حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: أتجعل فيها من يفسد فيها قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الارض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله: أتجعل فيها من يفسد فيها. وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل، منهم الحسن البصري. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن، وأبي بكر عن الحسن، وقتادة قالا: قال الله لملائكته: إني جاعل في الارض خليفة قال لهم إني فاعل. فعرضوا برأيهم، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه لا يعلمونه. فقالوا بالعلم الذي علمهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون. فلما أخذ في خلق آدم، همست الملائكة فيما بينها، فقالوا: ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه، أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرا منه فنحن أعلم
[ 297 ]
منه، لانا كنا قبله، وخلقت الامم قبله، فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا فعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قال: ففزع القوم إلى التوبة پ وإليها يفزع كل مؤمن فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون لقولهم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا. قال: علمه اسم كل شئ، هذه الجبال، وهذه البغال، والابل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شئ باسمه، وعرضت عليه كل أمة فقال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال أما ما أبدوا فقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. وأما ما كتموا فقول بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع بن أنس في قوله: إني جاعل في الارض خليفة الآية. قال: إن الله خلق الملائكة يوم الاربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الارض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الارض. فمن ثم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... الآية. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله. ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هولاء إن كنتم صادقين إلى قوله: إنك أنت العليم الحكيم قال: وذلك حين قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الارض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدم، وعلم آدم الاسماء كلها، فقال للملائكة: أنبئوني بأسماء هولاء إن كنتم صادقين إلى قوله: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وكان الذي أبدوا حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم.
[ 298 ]
وقال ابن زيد بما: حدثني به يونس بن عبد الاعلى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا، وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار، ولاي شئ خلقتها ؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة والارض، ليس فيها خلق، إنما خلق آدم بعد ذلك. وقرأ قول الله: هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا. قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين. ثم قال: قالت الملائكة: يا رب أو يأتي علينا دهر نعصيك فيه لا يرون له خلقا غيرهم. قال: لا، إني أريد أن أخلق في الارض خلقا وأجعل فيها خليقة يسفكون الدماء ويفسدون في الارض. فقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقد اخترتنا ؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الارض من يعصيه. فقال: إني أعلم ما لا تعلمون، يا آدم أنبئهم بأسمائهم فقال: فلان، وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم، أقروا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيث إبليس أن يقر له، قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها. وقال ابن إسحاق بما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحب وما تكره للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا وأحاط به علم الله منهم جمع الملائكة من سكان السموات والارض، ثم قال: إني جاعل في الارض خليفة يقول: عامر أو ساكن يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم. ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الارض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي، فقالوا جميعا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك لا نعصي ولا نأتي شيئا كرهته ؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون قال: إني
[ 299 ]
أعلم فيكم ومنكم، ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم، مما يكون في الارض، مما ذكرت في بني آدم. قال الله لمحمد (ص): ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إلى قوله: فقعوا له ساجدين. فذكر لنبيه (ص) الذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون بيدي تكرمة له، وتعظيما لامره، وتشريفا له حفظت الملائكة عهده، ووعوا قوله، وأجمعوا الطاعة، إلا ما كان من عدو الله إبليس، فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدمة الارض، من طين لازب من حمأ مسنون، بيديه تكرمة له وتعظيما لامره وتشريفا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار، ولم تمسه نار. قال: فيقال والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس، فقال: الحمد لله فقال له ربه: يرحمك ربك ووقع الملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لامره الذي أمرهم به. وقام عدو الله إبليس من بينهم، فلم يسجد مكابرا متعظما بغيا وحسدا، فقال له: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إلى: لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته وأبى إلى المعصية، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم، وقد علمه الاسماء كلها، فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم أي إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمى آدم من شئ كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة. وقال ابن جريج بما: حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج،
[ 300 ]
قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لان الله أذن لها في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم فأجابهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم، ومن بعض من ترونه لي طائعا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه. وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها على غير وجه الانكار منهم على ربهم، وإنما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لانهم كرهوا أن يعصى الله، لان الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت. وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا مسألة استخبار منهم لله لا على وجه مسألة التوبيخ. قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه مخبرا عن ملائكته قيلها له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها بمعنى: أعلمنا يا ربنا، أجاعل أنت في الارض من هذه صفته وتارك أن تجعل خلفاءك منا، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك ؟ لا إنكار منها لما أعلمها ربها أنه فاعل، وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك أن يكون لله خلق يعصيه. وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر، وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة. وأما وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربها عنه بالفساد في الارض وسفك الدماء، فغير مستحيل فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدي ووافقهما عليه قتادة من التأويل. وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الارض خليفة
[ 301 ]
تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها على ما وصفت من الاستخبار. فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها والامر على ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن ؟ قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عند وقوع ذلك، وهل ذلك منهم ؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الارض حتى لا يعصوه. وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس وتابعه عليه الربيع بن أنس من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الارض قبل آدم من الجن، فقالت لربها: أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الايجاب أن ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيل الملائكة ما قالت من ذلك على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلق يعصي خالقه. وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع بن أنس وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك لانه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر ويلزم سامعه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئا يمتنع منه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل منه الكذب والخطأ والسهو. وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد. فأولى التأويلات إذ كان الامر كذلك بالآية، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالة مما يصح مخرجه في المفهوم. فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرت من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الارض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك ؟ قيل له: اكتفي بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر:
[ 302 ]
فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر فحذف قوله دعوني للتي يقال لها عند صيدها خامري أم عامر، إذ كان فيها أظهر من كلامه دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله: إني جاعل في الارض خليفة من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الارض اكتفى بدلالته وحذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. القول في تأويل قوله تعالى: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال أبو جعفر: أما قوله: ونحن نسبح بحمدك فإنه يعني: إنا نعظمك بالحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه: فسبح بحمد ربك وكما قال: والملائكة يسبحون بحمد ربهم وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة، يقول الرجل منهم: قضيت سبحتي من الذكر والصلاة. وقد قيل إن التسبيح صلاة الملائكة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغير، عن سعيد بن جبير قال: كان النبي (ص) يصلي، فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين، فقال له: النبي (ص) يصلي وأنت جالس فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل، فقال: ما أظن إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمر عليه عمر بن الخطاب، فقال له: يا فلان النبي (ص) يصلي وأنت جالس فقال له مثلها. فقال: هذا من عملي. فوثب عليه فضربه حتى انتهى. ثم دخل المسجد فصلى مع النبي (ص)، فلما انفتل النبي (ص) قام إليه عمر، فقال: يا نبي الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلي، فقلت له: النبي (ص) يصلي وأنت جالس فقال: سر إلى عملك إن كان لك عمل. فقال النبي (ص): فهلا ضربت عنقه فقام
[ 303 ]
عمر مسرعا. فقال: يا عمر ارجع فإن غضبك عز ورضاك حكم، إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله وما صلاتهم ؟ فلم يرد عليه شيئا. فأتاه جبريل، فقال: يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء ؟ قال: نعم، فقال: اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت. قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وسهل بن موسى الرازي، قالا: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي عبد الله الجسري، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر: أن رسول الله (ص) عاده أو أن أبا ذر عاد النبي (ص) فقال: يا رسول الله بأبي أنت، أي الكلام أحب إلى الله ؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته: سبحان ربي وبحمده، سبحان ربي وبحمده. في أشكال لما ذكرنا من الاخبار كرهنا إطالة الكتاب باستقصائها. وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه والتبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة: أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر يريد: سبحان الله من فخر علقمة أي تنزيها لله مما أتى علقمة من الافتخار على وجه النكير منه لذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع. فقال بعضهم: قولهم: نسبح بحمدك: نصلي لك. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط،
[ 304 ]
عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: يقولون: نصلي لك. وقال آخرون: نسبح لك التسبيح المعلوم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ونحن نسبح بحمدك قال التسبيح التسبيح. القول في تأويل قوله تعالى: ونقدس لك. قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم ومنه قولهم: سبوح قدوس، يعني بقولهم سبوح: تنزيه لله وبقولهم قدوس: طهارة له وتعظيم ولذلك قيل للارض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا: ونحن نسبح بحمدك ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، ونصلي لك. ونقدس لك: ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الادناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صلاتها له كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ونقدس لك قال: التقديس: الصلاة. وقال بعضهم: نقدس لك: نعظمك ونمجدك. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب، قال: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: نعظمك ونمجدك. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ونقدس لك قال: نعظمك ونكبرك. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه.
[ 305 ]
وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله: ونقدس لك قال: التقديس: التطهير. وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير من أجل أن صلاتها لربها تعظيم منها له وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكان: ونقدس لك: ونقدسك، كان فصيحا من الكلام، وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدسه، ويسبح لله ويقدس له بمعنى واحد، وقد جاء بذلك القرآن، قال الله جل ثناؤه: كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا وقال في موضع آخر: يسبح لله ما في السموات وما في الأرض. القول في تأويل قوله تعالى: قال إني أعلم ما لا تعلمون. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: يعني بقوله: أعلم ما لا تعلمون مما اطلع عليه من إبليس، وإضماره المعصية لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: إني أعلم ما لا تعلمون يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره. وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): إني أعلم ما لا تعلمون يعني من شأن إبليس. وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد. وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قالا جميعا: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إني أعلم ما لا تعلمون قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
[ 306 ]
وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مجاهد بمثله. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مجاهد، مثله. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله: إني أعلم ما لا تعلمون قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. وحدثني جعفر بن محمد البزوري، قال: حدثنا حسن بن بشر عن حمزة الزيات، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: إني أعلم ما لا تعلمون قال: علم من إبليس كتمانه الكبر أن لا يسجد لآدم. وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: إني أعلم ما لا تعلمون قال: علم من إبليس المعصية. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. وحدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: قال مجاهد في قوله: إني أعلم ما لا تعلمون قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. وقال مرة آدم. وحدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله: إني أعلم ما لا تعلمون قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه والثوري عن علي بن بذيمة، عن مجاهد في قوله: إني أعلم ما لا تعلمون قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: إني أعلم ما لا
[ 307 ]
تعلمون) أي فيكم ومنكم ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدماء. وقال آخرون: معنى ذلك أني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهل الطاعة والولاية لله. ذكر من قال ذلك: 533 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: (إني أعلم ما لا تعلمون) فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وهذا الخبر من الله جل ثناؤه، ينبئ عن أن الملائكة التي قالت: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) استفظعت أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبت منه إذ أخبرت أن ذلك كائن، فلذلك قال لهم ربهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) يعني بذلك والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفة أعلم خلافها من بعضكم وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته من الفساد وسفك الدماء قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الارض خليفة من غيرنا يكون من ذريته من يعصيك أم منا ؟ فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك ! ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كشحا إبليس من استكباره على ربه. فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورد عنهم من أمر إبليس وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قيلهم ذلك ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عوتبوا. القول في تأويل قوله تعالى: (وعلم ءادم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين (31)) قال أبو جعفر: 534 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بعث رب العزة ملك الموت، فأخذ من أديم الارض من عذبها ومالحها، فخلق منه آدم. ومن ثم سمي آدم لانه خلق من أديم الارض. 535 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا
[ 308 ]
عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: إن آدم خلق من أديم الارض فيه الطيب والصالح والردئ، فكل ذلك أنت راء في ولده الصال والردئ. 536 - وحدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: خلق آدم من أديم الارض فسمي آدم. * - وحدثنا ابن المثين، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: إنما سمي آدم لانه خلق من أديم الارض. 537 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن ملك الموت لما بعث ليأخذ من الارض تربة آدم، أخذ من وجه الارض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، ولذلك سمي آدم، لانه أخذ من إديم الارض. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يحقق ما قال من حكينا قوله في معنى آدم، وذلك ما: 538 - حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن عوف، وحدثنا محمد بن بشار وعمر بن شبة، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب الثقفي قالوا: حدثنا عوف، وحدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا عنبسة، عن عوف الاعرابي، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الاشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض، فجاء بنو آدم على قدر الارض جاء منهم الاحمر والاسود والابيض وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب " (1). فعلى التأويل الذي تأول آدم من تأوله بمعنى أنه خلق من إديم الارض، يجب أن يكون أصل آدم فعلا سمي به أبو البشر، كما سمي أحمد بالفعل من الا حماد، وأسعد من الاسعاد، فلذلك لم يجر، ويكون تأويله حينئذ: آدم الملك الارض، يعني به بلغ أدمتها، (1) رواه أبو داود في السنة باب 16. والترمذي في تفسير سورة البقرة باب 1. وأحمد في المسند (ج 7 حديث 19599 و 19661). (*)
[ 309 ]
وأدمتها وجهها الظاهر لرأي العين، كما أن جلدة كل ذي جلدة له أدمة، ومن ذلك سمي الادام إداما، لانه صار كالجلدة العليا مما هي منه، ثم نقل من الفعل فجعل اسما للشخص بعينه. القول في تأويل قوله تعالى: (الاسماء كلها). قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الاسماء التي علمها آدذم ثم عرضها على الملائكة. فقال ابن عباس ما: 539 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: علم الله آدم الاسماء كلها، وهي هذه الاسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الامم وغيرها. 540 - وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وعلم آدم الاسماء كلها) قال: علمه اسم كل شئ. * - وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: (وعلم آدم الاسماء كلها) قال: علمه اسم كل شئ. 541 - وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم الحرمي، عن محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن خصيف، عن مجاهد، قال: علمه اسم الغراب والحمامة، واسم كل شئ. 542 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الافطس، عن سعيد بن جبير، قال: علمه اسم كل شئ، حتى البعير والبقرة والشاة. 543 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي عن شريك، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عباس، قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفسية. * - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن عاصم بن كليب، عن السن بن سعد، عن ابن عباس: (وعلم آدم الاسماء كلها) قال: حتى الفسوة والفسية.
[ 310 ]
* - حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قس، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عباس في قول الله: (وعلم آدم الاسماء كلها) قال: علمه اسم كل شئ حتى الهنة والهنية والفسوة والضرطة. * - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم بن كليب، قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القصيعة، والفسوة من الفسية. 544 - ودثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: (وعلم آدم الاسماء كلها) حتى بلغ (إنك أنت العليم الحكيم) قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم ! فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه وألجأه إلى جنسه. 545 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة في قوله: (وعلم آدم الاسماء كلها) قال: علمه اسم كل شئ: هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، ثم عرض تلك الاشياء على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين). 546 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا السين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم ومبارك، عن الحسن، وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شئ: هذه الخيل، وهذه البغال، والابل، والجن، والوحش، وجعل يسمي كل شئ باسمه. 547 - وحدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شئ. وقال آخرون: علم آدم الاسماء كلها، أسماء الملائكة. ذكر من قال ذلك: 548 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (وعلم آدم الاسماء كلها) قال: أسماء الملائكة. وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها. ذكر من قال ذلك: 549 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وعلم آدم الاسماء كلها) قال: أسماء ذريته أجمعين. وأولى هذه الاقوال بالصواب وأشبهها بما دل على صحته ظاهر التلاوة قول من قال في قوله: (وعلم آدم الاسماء كلها) إنها أسماء ذريته وأسماء الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: (ثم عرضهم على الملائكة) يعني بذلك
[ 311 ]
أعيان المسلمين بالاسماء التي علمها آدم، ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق، سوى من وصفنا، فإنها تكنى عنها بالهاء والالف، أو بالهاء والنون، فقالت: عرضهن، أعر عرضها. وكذلك تفعل إذا كنت عن أصناف من الخلق، كالبهائم والطير وسائر أصناف الامم، وفيها أسماء بني آدم والملائكة، فإنها تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون، أو الهاء والالف. وربما كنت عنها إذ كان كذلك بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) (1) فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الادمي وغيره. وذلك وإن كان جائزا فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا من إخراجهم كناية أسماء أجناس الامم إذا اختلطت بالهاء والالف، أو الهاء والنون. فلذلك قلت: أولى بتأويل الاية أن تكون الاسماء التي علمها آدم أعيان بني آدم وأسماء الملائكة. وإن كان ما قال ابن عباس جائزا على مثال ما جاء من كتاب الله من قوله: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه) (1) الاية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود: " ثم عرضهن "، وأنها في حرف أبي: " تم عرضها ". ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شئ حتى الفسوة والفسية على قراءة أبي، فإنه فيما بلغنا كمان يقرأ قراءة أبي. وتأويل ابن عباس على ما حكي عن أبي من قراءته غير مستنكر، بل هو صحي مستفيض في كلام العرب على نحو ما تقدم وصفي ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة). قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالاية على قراءتنا ورسم مصحفنا، وأن قوله: (ثم عرضهم) بالدلالة على بني آدم والملائكة أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غير فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الامم للعلل التي وصفنا. ويعني جل ثناؤه بقوله: (ثم عرضهم) ثم عرض أهل الاسماء على الملائكة. وقد اختلفت المفسرون في تأويل قوله: (ثم عرضهم على الملائكة) نحو اختلافهم في قوله: (وعلم آدم الاسماء كلها) وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قول. (1) سورة النور، الاية: 45. (*)
[ 312 ]
550 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: (ثم عرضهم على الملائكة) ثم عرض هذه الاسماء، يعني أسماء جميع الاشياء التي علمها آدم من أصناف جميع الخلق. 551 - وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم عرضهم) ثم عرض الخلق على الملائكة. 552 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلها أخذهم من ظهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة. 553 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة: (ثم عرضهم) قال: علمه اسم كل شئ ثم عرض تلك الاسماء على الملائكة. 554 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ثم عرضهم) عرض أصحاب الاسماء على الملائكة. 555 - وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس عن خصيف عن مجاهد (ثم عرضهم على الملائكة) يعني عرض الاسماء الحمامة والغراب. 556 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن، وأبي بكر عن الحسن، وقتادة قالا: علمه اسم كل شئ هذه الخيل وهذه البغال وما أشبه ذلك، وجعل يسمي كل شئ باسمه، وعرضت عليه أمة أمة. القول في تأويل قوله تعالى: (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء). قال أبو جعفر: وتأويل قوله: (أنبئوني) أخبروني، كما: 557 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (أنبئوني) يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء. ومنه قول نابغة بني ذبيان: وأنبأه المنبئ أن حيا حلول من حرام أو جذام (1) (1) ديوانه ص 66. وروايته: " حلولا " بالنصب. (*)
[ 313 ]
يعني بقوله أنبأه: أخبره وأعلمه. القول في تأويل قوله تعالى: (بأسماء هؤلاء). قال أبو جعفر: 558 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (بأسماء هؤلاء) قال: بأسماء هذه التي حدثت بها آدم. * - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) يقول: بأسماء هؤلاء التي حدثت بها آدم. القول في تأويل قوله تعالى: (إن كنتم صادقين). قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك. 559 - فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (إن كنتم صادقين) إن كنتم تعلمون لم أجعل في الارض خليفة. 560 - وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنتم صادقين) أن بني آدم يفسدون في الارض ويسفكون الدماء. 561 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة قالا: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) أني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بتأويل الاية تأويل ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيتها الملائكة القائلون: (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) من غيرنا، أم منا ؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، إن كنتم صادقين في قيلكم أني جعلت خليفتي في الارض من غيركم عصاني
[ 314 ]
ذريته، وأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعلمه غيركم بتعليمي إياه، فأنتم بما هو غير موجود من الامور الكائنة التي لم توجد بعد، وبما هو مستتر من الامور التي هي موجودة عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي. وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته الذين قالوا له: (أتجعل فيها من يفسد فيها) من جهة عتابه جل ذكره إياهم، نظير قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه، إذ قال: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) (1): لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين. فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خلفاءه في الارض يسبحوه ويقدسوه فيها، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعله في الارض خليفة، يفسدون فيها، ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره: (إني أعلم ما لا تعلمون) يعني بذلك أني أعلم أن بعضكم فاتح المعاصي وخاتمها - وهو إبليس - منكرا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرفهم موضع هفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانا، فكيف بما لم يروه ولم يخبروا عنه بعرضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيركم عصاني ذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هفوة زلتهم أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الانابة من الزلة، كما قال نوح حين عوتب في مسألته، فقيل له: لا تسألن ما ليس لك به علم: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) (2) وكذلك فعل كل مسدد للحق موفق له، سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوبته. وقد زعم بعض نحويي أهل البصرة أن قوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) لم يكن ذلك لان الملائكة ادعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب (1) سورة هود، الاية: 45. (2) سورة هود، الاية: 47. (*)
[ 315 ]
وعلمه بذلك وفضله، فقال: أنبئوني إن كنتم صادقين، كما يقول الرجل للرجل: أنبئني بهذا إن كنت تعلم، وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل. وهذا قول إذا تدبره متدبر علم أن بعضه مفسد بعضا، وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة إذ عرض عليهم أهل الاسماء: (أنبئوني بأسماء هؤلاء) وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادعوا علم شئ يوجب أن يوبخوا بهذا القول. وزعم أن قوله: (إن كنتم صادقين) نظير قول الرجل للرجل: أنبئني بهذا إن كنت تعلم، وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل. ولا شك أن معنى قوله: (إن كنتم صادقين) إنما هو إن كنتم صادقين، إما في قولكم، وإما في فعلكم، لان الصدق في كلام العرب إنما هو صدق في الخبر لا في العلم، وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال صدق الرجل بمعنى علم. فإذا كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الاية: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) وهو يعلم أنهم غير صادقين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لانه زعم أن الملائكة لم تدع شيئا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتم صادقين فانبئوني بأسماء هؤلاء ؟ هذا مع خروج هذا القول الذي حكيناه عن صاحبه من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير. وقد حكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله: (إن كنتم صادقين) بمعنى: إذ كنتم صادقين. ولو كانت " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لان " إذ " إذا تقدمها فعل مستقبل صارت علة للفعل وسببا له، وذلك كقول القائل: أقوم إذ قمت، فمعناه: أقوم من أجل أنك قمت، والامر بمعنى الاستقبال. فمعنى الكلام لو كانت إن بمعنى إذ: أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وضعت " إن " مكان ذلك، قيل: " أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين " مفتوحة الالف، وفي إجماع جميع قراء أهل الاسلام على كسر الالف من " إن " دليل واضح على خطأ تأويل من تأول " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: (قالوا سبحنك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32)) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله ذكره عن ملائكته بالاوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبريهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئا إلا ما علمه تعالى ذكره. وفي هذه الايات الثلاث العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن ادكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عما أودع الله جل ثناؤه آي هذا القرآن من لطائف الحكم
[ 316 ]
التي تعجز عن أوصافها الالسن. وذلك أن الله جل ثناؤه احتج فيها لنبيه (ص) على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل باطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلا خاصا، ولم يكن مدركا علمه إلا بالانباء والاخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودل فيها على أن كل مخبر خبرا عما قد كان أو عما هو كائن مما لم يكن ولم يأته به خبر ولم يوضع له على صحته برهان فمتقول ما يستوجب به من ربه العقوبة. ألا ترى أن الله جل ذكره رد على ملائكته قيلهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعرفهم أن قيل ذلك لم يكن جائزا لهم بما عرفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الاسماء، فقال: أنبئوني بأسماء هولاء إن كنتم صادقين فلم يكن لهم مفزع إلا الاقرار بالعجز والتبري إليه أن يعلموا إلا ما علمهم بقولهم: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فكان في ذلك أوضح الدلالة وأبين الحجة على كذب مقالة كل من ادعى شيئا من علوم الغيب من الحزاة والكهنة والقافة والمنجمة. وذكر بها الذين وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه على آبائهم، وأياديه عند أسلافهم، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته مستعطفهم بذلك إلى الرشاد، ومستعتبهم به إلى النجاة، وحذرهم بالاصرار والتمادي في البغي والضلال، حلول العقاب بهم نظير ما أحل بعدوه إبليس، إذ تمادى في الغي والخسار. قال: وأما تأويل قوله: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فهو كما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قالوا: سبحانك تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا: تبرءوا منهم من علم
[ 317 ]
الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم. وسبحان مصدر لا تصرف له، ومعناه: نسبحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحا، وننزهك تنزيها، ونبرئك من أن نعلم شيئا غير ما علمتنا. القول في تأويل قوله تعالى: إنك أنت العليم الحكيم. قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما هو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم: لا علم لنا إلا ما علمتنا أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: إنك أنت العليم يعنون بذلك العالم من غير تعليم، إذ كان من سواك لا يعلم شيئا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما: حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، العليم: الذي قد كمل في علمه والحكيم: الذي قد كمل في حكمه. وقد قيل: إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أن العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال يا آدم أنبئهم بأسمآئهم فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) * قال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عرف ملائكته الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الارض ووصفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لامره دون غيرهم الذين يفسدون فيها ويسفكون الدماء، أنهم من الجهل بمواقع تدبيره ومحل قضائه، قبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عرضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علمهم إياه ربهم، وأنه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق ويمنعه منهم من شاء كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة ومنعهم من علمها إلا بعد تعليمه إياهم. فأما تأويل قوله: قال يا آدم أنبئهم يقول: أخبر الملائكة. والهاء والميم في قوله: أنبئهم عائدتان على الملائكة، وقوله: بأسمائهم يعني بأسماء الذين عرضهم على الملائكة. والهاء والميم اللتان في أسمائهم كناية عن ذكر هؤلاء التي في قوله: أنبئوني بأسماء هؤلاء. فلما أنباهم يقول: فلما أخبر آدم الملائكة بأسماء الذين عرضهم
[ 318 ]
عليهم، فلم يعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خطأ قيلهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وأنهم قد هفوا في ذلك وقالوا: ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك، لو وقع على ما نطقوا به، قال لهم ربهم: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه توبيخا من الله جل ثناؤه لهم بذلك على ما سلف من قيلهم وفرط منهم من خطأ مسألتهم، كما: حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم يقول: أخبرهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أيها الملائكة خاصة إني أعلم غيب السموات والارض ولا يعلمه غيري. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم، فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الاسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني. قال: وسبق من الله: لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا لآدم بالفضل. القول في تأويل قوله تعالى: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فروى عن ابن عباس في ذلك ما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: وأعلما تبدون يقول: ما تظهرون وما كنتم تكتمون يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية. يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن
[ 319 ]
مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها فهذا الذي أبدوا، وما كنتم تكتمون يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر. وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير قوله: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال: ما أسر إبليس في نفسه. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان في قوله: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر أن لا يسجد لآدم. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحجاج الانماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: سمعت الحسن بن دينار، قال للحسن ونحن جلوس عنده في منزله: يا أبا سعيد أرأيت قول الله للملائكة: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ما الذي كتمت الملائكة ؟ فقال الحسن: إن الله لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا، فكأنهم دخلهم من ذلك شئ، فأقبل بعضهم إلى بعض، وأسروا ذلك بينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا المخلوق إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال: أسروا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا ونحن أكرم عليه منه. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فكان الذي أبدوا حين قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الاقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى قوله: وأعلم ما تبدون وأعلم مع علمي غيب السموات والارض ما تظهرون بألسنتكم وما كنتم تكتمون وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى علي شئ سواء عندي سرائركم وعلانيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو
[ 320 ]
قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك والذي كانوا يكتمونه ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره والتكبر عن طاعته لانه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غير خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا. والآخر ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة. ومن قال: إن معنى ذلك كتمان الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت ثم كان أحدهما غير موجودة على صحته الدلالة من الوجه الذي يجب التسليم له صح الوجه الآخر. فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك غير موجودة الدلالة على صحته من الكتاب ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عباس يدل على صحته خبر الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه إذ دعاه إلى السجود لآدم، فأبى واستكبر، وإظهاره لسائر الملائكة من معصيته وكبره ما كان له كاتما قبل ذلك. فإن ظن ظان أن الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه لما كان خارجا مخرج الخبر عن الجميع كان غير جائز أن يكون ما روي في تأويل ذلك عن ابن عباس ومن قال بقوله من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبر والمعصية صحيحا، فقد ظن غير الصواب وذلك أن من شأن العرب إذا أخبرت خبرا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم: قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض، فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال جل ثناؤه: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ذكر أن الذي نادى رسول الله (ص)، فنزلت هذه الآية فيه، كان رجلا من جماعة بني تميم، كانوا قدموا على رسول الله (ص). فأخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن الجماعة، فكذلك قوله: وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون أخرج الخبر مخرج الخبر عن الجميع، والمراد به الواحد منهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) *
[ 321 ]
قال أبو جعفر: أما قوله: وإذ قلنا فمعطوف على قوله: وإذ قال ربك للملائكة كأنه قال جل ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) من بني إسرائيل معددا عليهم نعمه، ومذكرهم آلاءه على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل: اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم، فخلقت لكم ما في الارض جميعا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الارض خليفة، فكرمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدل باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمره من الملائكة بالسجود لآدم. ثم استثناءه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدم، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لامره ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم. ثم اختلف أهل التأويل فيه هل هو من الملائكة أم هو من غيرهم ؟ فقال بعضهم بما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازنا من خزان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي. قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الارض وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون حنا. وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا
[ 322 ]
أنه قال: كان ملكا من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الارض وعمارها، وكان سكان الارض فيهم يسمون الجن من بين الملائكة. وحدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): جعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لانهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا. وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الارض. قال: قال ابن عباس: وقوله: كان من الجن، إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها، كما يقال للرجل: مكي، ومدني، وكوفي، وبصري. قال ابن جريج: وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قبيلة، فكان اسم قبيلته الجن. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما، عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والارض. وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، يقول في قوله: فسجدوا إلا إبليس كان من الجن قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، ثم ذكر مثل حديث ابن جريج الاول سواء. وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال: حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن. وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر
[ 323 ]
بالسجود، وكان على خزانة سماء الدنيا. قال: وكان قتادة يقول: جن عن طاعة ربه. وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: إلا إبليس كان من الجن قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجن إلا كل من اجتن فلم يرى. وأما قوله: إلا إبليس كان من الجن أي كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنوا فلم يروا، وقد قال الله جل ثناؤه: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون وذلك لقول قريش: إن الملائكة بنات الله. فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبا. قال: وقد قال الاعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله: ولو كان شئ خالدا أو معمرالكان سليمان البري من الدهر براه إلهي واصطفاه عباده وملكه ما بين ثريا إلى مصر وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر قال: فأبت العرب في لغتها إلا أن الجن كل ما اجتن. يقول: ما سمي الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يروا، وما سمي بني آدم الانس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا، فما ظهر فهو إنس، وما اجتن فلم ير فهو جن. وقال آخرون بما: حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لاصل الجن كما أن آدم أصل الانس. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: إلا إبليس كان من الجن إلجاء إلى نسبه،
[ 324 ]
فقال الله: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الآية... وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد اليحمدي، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سوار بن الجعد اليحمدي، عن شهر بن حوشب قوله: من الجن قال: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء. وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس وكان صغيرا، فكان مع الملائكة فتعبد معها. فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس فلذلك قال الله: إلا إبليس كان من الجن. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الازهر، عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والارض فعصى، فمسخه الله شيطانا رجيما. قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الانس. وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أنه خلق إبليس من نار السموم ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خلقها من شئ من ذلك. وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجن. فقالوا: فغير جائز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولابليس نسل وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد. حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقا، فقال: اسجدوا لآدم فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارا تحرقهم. ثم خلق خلقا آخر، فقال: إني خالق بشرا من طين، اسجدوا لآدم فأبوا، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال:
[ 325 ]
اسجدوا لآدم فقالوا: نعم. وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم. قال أبو جعفر: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى، فخلق بعضا من نور، وبعضا من نار، وبعضا مما شاء من غير ذلك. وليس فيما نزل الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم، إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية لما ركب فيه من الشهوة واللذة التي نزعت من سائر الملائكة لما أراد الله به من المعصية. وأما خبر الله عن أنه من الجن، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الاشياء عن الابصار كلها جنا، كما قد ذكرنا قبل في شعر الاعشى، فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بني آدم. القول في معنى إبليس. قال أبو جعفر: وإبليس إفعيل من الابلاس: وهو الاياس من الخير والندم والحزن. كما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته. وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، قال: كان اسم إبليس الحارث، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيرا. قال ابو جعفر: كما قال الله جل ثناؤه: فإذا هم مبلسون يعني به أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنا، كما قال العجاج:
[ 326 ]
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلسا وقال رؤبة: وحضرت يوم الخميس الاخماس وفي الوجوه صفرة وإبلاس يعني به اكتئابا وكسوفا. فإن قال قائل: فإن كان إبليس كما قلت إفعيل من الابلاس، فهلا صرف وأجري ؟ قيل: ترك إجراؤه استثقالا إذ كان اسما لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب إذ كان كذلك بأسماء العجم التي لا تجري، وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يجروه، وهو من أسحقه الله إسحاقا، إذ كان وقع مبتدأ اسما لغير العرب ثم تسمت به العرب فجرى مجراه، وهو من أسماء العجم في الاعراب، فلم يصرف. وكذلك أيوب إنما هو فيعول من آب يئوب. وتأويل قوله: أبى يعني جل ثناؤه بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. واستكبر يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس، فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لامر الله والانقياد لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لامر الله والتذلل لطاعته والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص)، وأحبارهم الذين كانوا برسول الله (ص) وصفته عارفين وبأنه لله رسول عالمين، ثم استكبروا مع علمهم بذلك عن الاقرار بنبوته والاذعان لطاعته، بغيا منهم له وحسدا، فقرعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدا له وبغيا نظير فعلهم في التكبر عن الاذعان لمحمد نبي الله (ص) ونبوته، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدا وبغيا. ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمره الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه: وكان يعني إبليس من الكافرين من الجاحدين نعم الله عليه وأياديه عنده بخلافه عليه
[ 327 ]
فيما أمره به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعم ربها التي آتاها وآباءها قبل: من إطعام الله أسلافهم المن والسلوى، وإظلال الغمام عليهم وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصا ما خص الذين أدركوا محمدا (ص) بإدراكهم إياه ومشاهدتهم حجة الله عليهم فجحدت نبوته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوته حسدا وبغيا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى الكافرين، فجعله من عدادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة، كما جعل أهل النفاق بعضهم من بعض لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال، فكذلك قوله في إبليس: كان من الكافرين كان منهم في الكفر بالله ومخالفته أمره وإن كان مخالفا جنسه أجناسهم ونسبه نسبهم. ومعنى قوله: وكان من الكافرين أنه كان حين أبى عن السجود من الكافرين حينئذ. وقد روي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول في تأويل قوله: وكان من الكافرين في هذا الموضع وكان من العاصين. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: وكان من الكافرين يعني العاصين. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه. وكان سجود الملائكة لآدم تكرمة لآدم وطاعة لله، لا عبادة لآدم. كما: حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) * قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج
[ 328 ]
من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لادم، وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبليس إلى الارض، ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه). فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله، بعدأن لعن وأظهر التكبر، لان سجود الملائكة لادم كان بعد أن نفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك لت عليه اللعنة. كما: 593 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليغوين آدم وذريته وزوجه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الارض، وعلم الله آدم الاسماء كلها. 594 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية، وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدم وقد علمه الاسماء كلها، فقال: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) إلى قوله: (إنك أنت العليم الحكيم). ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خلقت لادم زوجته والوقت الذي جعلت له سكنا. فقال ابن عباس بما: 595 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرج إبليس من الجنة حين لعن، وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا (1) ليس له زوج يسكن إليها. فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت ؟ فقالت: امرأة، قال: ولم خلقت ؟ قالت: تسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ علمه: ما اسمها يا آدم ؟ قال: ححواء، قالوا: ولم سميت حواء ؟ قال: لانها خلقت من شئ حي. فقال الله له: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما). فهذا الخبر ينبئ عن أن حواء خلقت بعد أن سكن آدم الجنة فجعلت له سكنا.
[ 329 ]
وقال آخرون: بل خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة. ذكر من قال ذلك: 596 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الاسماء كلها، فقال: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) إلى قوله (إنك أنت العليم الحكيم). قال: ثم ألقى السنة (1) على آدم - ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الايسر ولام مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومته حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها. فلما كشف عنه السنة وهب من نومته رآها إلى جنبه، فقال فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي. فسكن إليها. فلما زوجه الله تبارك وتعالى وجعل له سكنا من نفسه، قال له، فتلا: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين). قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل زوجه وزوجته، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء، والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لازد شنوءة: فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب فهو زوج المرأة (2). القول في تأويل قوله تعالى: (وكلا منها رغدا حيث شئتما). قال أبو جعفر: أما الرغد، فإنه الواسع من العيش، الهنئ الذي لا يعني صاحبه، يقال: أرغد فلان: إذا أصاب واسعا من العيش الهنئ، كما قال امرؤ القيس بن حجر: بينما المرؤ تراه ناعما يأمن الاحداث في عيش رغد 597 - وحدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (وكلا منها رغدا) قال: الرغد: الهنئ.
[ 330 ]
وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: رغدا قال: لا حساب عليهم. وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: وكلا منها رغدا أي لا حساب عليهم. وحدثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: وكلا منها رغدا حيث شئتما قال: الرغد: سعة المعيشة. فمعنى الآية: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا من الجنة رزقا واسعا هنيئا من العيش حيث شئتما. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق كتب على آدم كما ابتلي الخلق قبله أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء غير شجرة واحدة نهي عنها. وقدم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نهي عنه. القول في تأويل قوله تعالى: ولا تقربا هذه الشجرة. قال أبو جعفر: والشجر في كلام العرب: كل ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: والنجم والشجر يسجدان يعني بالنجم: ما نجم من الارض من نبت. وبالشجر: ما استقل على ساق. ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم هي السنبلة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن إسماعيل الاحمسي. قال: حدثنا عبد الحميد الحماني،
[ 331 ]
عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عن أكل ثمرها آدم هي السنبلة. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عتيبة جميعا، عن حصين، عن أبي مالك في قوله: ولا تقربا هذه الشجرة قال: هي السنبلة. وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قالا جميعا: حدثنا سفيان عن حصين عن أبي مالك، مثله. وحدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي عن عطية في قوله: ولا تقربا هذه الشجرة قال: السنبلة. وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد عن سعيد، عن قتادة قال: الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم. قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الخلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها، فكتب إليه أبو الخلد: سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم، وهي السنبلة. وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة. وحدثنا ابن حميد. قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه كان يقول: الشجرة التي نهي عنها آدم: البر. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة. وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت الشجرة التي نهي الله عنها آدم وزوجته السنبلة. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة. عن ابن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: هي البر ولكن الحبة منها في الجنة ككلى
[ 332 ]
البقر ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البر. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حدث أنها الشجرة التي تحتك بها الملائكة للخلد. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يمان عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن محارب بن دثار قال: هي السنبلة. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: هي السنبلة التي جعلها الله رزقا لولده في الدنيا. قال أبو جعفر، وقال آخرون: هي الكرمة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: هي الكرمة. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): ولا تقربا هذه الشجرة قال: هي الكرمة. وتزعم اليهود أنها الحنطة. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: الشجرة هي الكرم. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هبيرة، قال: هو العنب في قوله: ولا تقربا هذه الشجرة. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن خلاد الصفار، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هبيرة: ولا تقربا هذه الشجرة قال: الكرم. وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة ابن هبيرة: ولا تقربا هذه الشجرة قال: الكرم. وحدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هبيرة، قال: الشجرة التي نهي عنها آدم: شجرة الخمر. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا
[ 333 ]
عباد بن العوام، قال: حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: ولا تقربا هذه الشجرة قال: الكرم. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، قال: العنب. وحدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: عنب. وقال آخرون: هي التينة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن بعض أصحاب النبي (ص) قال: تينة. قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجته أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الاكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التي نهاهما عن الاكل منها وأشار لهما إليها بقوله: ولا تقربا هذه الشجرة. ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن دلالة على أي أشجار الجنة كان نهيه آدم أن يقربها بنص عليها باسمها ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأي ذلك من أي رضا لم يخل عباده من نصب دلالة لهم عليها يصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضا. فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لان الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة، فأنى يأتي ذلك من أتى ؟ وقد قيل: كانت شجرة البر. وقيل: كانت شجرة العنب. وقيل: كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك إن علمه عالم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به.
[ 334 ]
القول في تأويل قوله تعالى: ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل قوله: ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فقال بعض نحويي الكوفيين: تأويل ذلك: ولا تقربا هذه الشجرة فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. فصار الثاني في موضع جواب الجزاء، وجواب الجزاء يعمل فيه أوله كقولك: إن تقم أقم، فتجزم الثاني بجزم الاول. فكذلك قوله: فتكونا لما وقعت الفاء في موضع شرط الاول نصب بها، وصيرت بمنزلة كي في نصبها الافعال المستقبلة وقال بعض نحويي أهل للزومها الاستقبال، إذ كان أصل الجزاء الاستقبال. وقال بعض نحويي اهل البصرة: تأويل ذلك: لا يكن منكما قرب هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين. غير أنه زعم أن أن غير جائز إظهارها مع لا، ولكنها مضمرة لا بد منها ليصح الكلام بعطف اسم وهي أن على الاسم، كما غير جائز في قولهم عسى أن يفعل. عسى الفعل، ولا في قولك: ما كان ليفعل. ما كان لان يفعل. وهذا القول الثاني يفسده إجماع جميعهم على تخطئة قول القائل: سرني تقوم يا هذا، وهو يريد: سرني قيامك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل: لا تقم، إذا كان المعنى: لا يكن منك قيام. وفي إجماع جميعهم على صحة قول القائل: لا تقم، وفساد قول القائل: سرني تقوم بمعنى سرني قيامك، الدليل الواضح على فساد دعوى المدعي أن مع لا التي في قوله: ولا تقربا هذه الشجرة ضمير أن، وصحة القول الآخر. وفي قوله: فتكونا من الظالمين وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون فتكونا في نية العطف على قوله: ولا تقربا فيكون تأويله حينئذ: ولا تقربا هذه الشجرة، ولا تكونا من الظالمين. فيكون فتكونا حينئذ في معنى الجزم مجزوم بما جزم به ولا تقربا، كما يقول القائل: لا تكلم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القيس: فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
[ 335 ]
فجزم فيذرك بما جزم به لا تجهدنه، كأنه كرر النهي. والثاني أن يكون: فتكونا من الظالمين بمعنى جواب النهي، فيكون تأويله حينئذ: لا تقربا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين كما تقول: لا تشتم عمرا فيشتمك مجازاة. فيكون فتكونا حينئذ في موضع نصب إذ كان حرفا عطف على غير شكله لما كان في ولا تقربا حرف عامل فيه، ولا يصلح إعادته في فتكونا، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة. وأما تأويل قوله: فتكونا من الظالمين فإنه يعني به فتكونا من المتعدين إلى غير ما أذن لهم وأبيح لهم فيه. وإنما عنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة كنتما على منهاج من تعدى حدودي وعصى أمري واستحل محارمي لان الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين. وأصل الظلم في كلام العرب وضع الشئ في غير موضعه ومنه قول نابغة بني ذبيان: إلا أواري لايا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد فجعل الارض مظلومة، لان الذي حفر فيها النوى حفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة لوضع الحفرة منها في غير موضعها. ومن ذلك قول ابن قميئة في صفة غيث: ظلم البطاح بها انهلال حريصة فصفا النطاف له بعيد المقلع وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبه. ومنه: ظلم الرجل جزوره، وهو نحره إياه لغير علة وذلك عند العرب: وضع النحر في غير موضعه. وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا
[ 336 ]
عليها إن شاء الله تعالى وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشئ في غير موضعه. القول في تأويل قوله تعالى: (فأزلهما الشيطن عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتع إلى حين (36)). قال أبو جعفر: اختلف القراء في قراءة ذلك فقرأته عامتهم: (فأزلهما) بتشديد اللام، بمعنى استزلهما، من قولك: زل الرجل، في دينه: إذا هاف فيه وأخطأ فأتى ما ليس له إتيانه فيه، وأزله غيره: إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه. ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليس خروج آدم وزوجته من الجنة فقال: (فأخرجهما) يعني إبليس (مما كانا فيه) لانه كان الذي سبب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة. وقرأة آخرون: " فأزالهما "، بمعنى إزالة الشئ عن الشئ، وذلك تنحيته عنه. وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله (فأزلهما) ما: 618 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان) قال: أغواهما. وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: (فأزلهما) لان الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه، وذلك هو معنى قوله فأزالهما، فلا وجه إذ كان معنى الازالة معنى التنحية والاخراج أن يقال: " فأزالهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه "، فيكون كقوله: " فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانتا فيه "، ولكن المعنى المفهوم أن يقال: فاستزلهما إبليس عن طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: (فأزلهما الشيطان) وقرأت به القراء، فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة. فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليس آدم وزوجته حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة ؟ قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها. فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما: 619 - حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وذريته، - أو زوجته، الشك من أبي جعفر، وهو في أصل كتابه: وذريته - ونهاه عن الشجرة، وكانت
[ 337 ]
شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بختية (1) من أحسن دابة خلقها الله. فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء، فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها ! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم، فقالت: انظر إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها ! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: يا آدم أين أنت ؟ قال: أنا هنا يا رب، قال: ألا تخرج ؟ قال: أستحيي منك يا رب، قال: ملعونة الارض التي خلقت منها لعنة يتحول ثمرها شكوكا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الارض شجرة كان أفضل من الطلح والسدر، ثم قال: يا حواء أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملا إلا حملته كرها، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك حيث لقيت أحدا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك. قال عمر: قيل لو وهب: وما كانت الملائكة تأكل ؟ قال: يفعل الله ما يشاء. وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة. 620 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله لادم: (اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة، فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير، وهي يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة، فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب، فكلمها أن دخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فمها، فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الامر، فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه، فخرج إليه فقال: (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) (2) (1) البختية: الواحدة من الابل الخراسانية، جمعها بخت. (2) سورة طه، الاية: 120.
[ 338 ]
يقول: هل أدلك على شجرة إن. كلت منها كانت ملكا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين فلا تموتان أبدا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما بهتك لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك، وكان لباسهما الظفر. فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كل ! فإني قد أكلت فلم يضرني. فلما أكل آدم (بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة). 621 - وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدث أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يرى أنه البعير. قال: فلعن فسقطت قوائمه، فصار حية. 622 - وحدثت بعن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، بعن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن من الابل ما كان أولها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة، وقيل لهما: (لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها فقال: أنهيتما عن شئ ؟ قالت: نعم، عن هذه الشجرة. فقال: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (1). قال فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال 6 وكانت شجرة من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث. قال: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) قال: فأخرج آدم من الجنة. 623 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خلدا كان ! فاغتنمها منه الشيطان لما سمعها منه، فأتاه من قبل الخلد. 624 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثت أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهماا حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك ؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: (يا آدم أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) (2) وقال: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من (1) سورة الاعراف، الاية: 20. (2) سورة طه، الاية: 120. (*)
[ 339 ]
الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (1) أي تكونا ملكين أو تخلدا إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة فلا تموتان، يقول الله جل ثناؤه: (فدلاهما بغرور) (2). 625 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا، إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة، قال: فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما. قال: وذهب آدم هاربا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمني تفر ؟ قال: لا يا رب، ولكن حياء منك. قال: يا آدم أني أتيت ؟ قال: من قبل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة كما أدميت هذه الشجرة، وأن أجعلها سفيهة، فقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها، فقد كنت جعلتها تحمل يسرا وتضع يسرا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء الدنيا لا يحضن، ولكن حليمات، وكن يحملن يسرا ويضعن يسرا. 626 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثني ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل. 627 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الارض أنها تحمله حتى يدخل الجنة معها، ويكلم آدم وزوجته، فكل الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني الجنة ! فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به. فكلمهما من فيها، وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله، وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، اخفروا (3) ذمة عدو الله فيها. 628 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرسون: إنما كلم آدم الحية، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس. (1) سورة الاعراف، الايتان: 20 و 21. (2) سورة الاعراف، الاية: 22. (3) اخفروا: انقضوا. (*)
[ 340 ]
629 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدم وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة ويأكلا نمها رغدا حيث شاءا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم، فقال: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (1) قال: فعضت حواء الشجرة، فدميت الشجرة وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليما (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) (2) لم أكلتها وقد نهيتك عنها ؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته ؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتها ؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعون مدحور ! أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين في كل هلال. وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريا على وجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر، اهبطوا بعضكم لبعض عدو،. قال أبو جعفر: وقد رويت هذه الاخبار عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم في صفة استزلال إبليس عدو الله آدم وزوجته حتى أخرجهما من الجنة. وأولى ذلك بالحق عندنا، ما كان لكتاب الله موافقا، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لادم وزوجته ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، وأنه قال لهما: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أؤ تكونا من الخالدين) (3) وأنه قاسمهما إني لكما لمن الناصحين مدليا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه عن عدو الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: (إني لكما لمن الناصحين) (4) الدليل الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرا لاعينهما، وإما مستجنا في غيره. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلان فلانا في كذا وكذا، إذا سبب له سببا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب، فكذلك قوله: فوسوس إليه الشيطان، لو كان ذلك كان منه إلى آدم على نحو الذي منه إلى ذريته من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة بغير مباشرة خطابه إياه بما أستزله به من القول والحيل، لما قال جل ثناؤه: (وقاسمهما إني لكم لمن الناصحين) (4) كما غير جائز أن يقول اليوم قائل ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصح فيما زين لي من المعصية التي أتيتها، فكذلك الذي (1) سورة الاعراف، الايتان: 20 و 21. (2) سورة الاعراف، الاية: 22. (3) سورة الاعراف، الاية: 20. (4) سورة الاعراف، الاية: 21. (*)
[ 341 ]
كان من آدم وزوجته لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليوم وذرية آدم لما قال جل ثناؤه: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) (2) ولكن ذلك كان إن شاء الله على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله. فأما سبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما روي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى جزو لذي فهم مدافعته، إذ كان ذلك قولا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه، وهو من الامور الممكنة. والقول في ذلك أنه قد وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه، وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك إن شاء الله كذلك لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك، وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما: 630 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: أنه خلص إلى آدم وزوجته بسلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نومته وفي يقظته، وفج كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه حتى يدعوه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه، وقد قال الله: فوسوس لهما الشيطان فأزلهما مما كانا فيه (2). وقال: (يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) (3) وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: (قل اعوذ برب الناس ملك الناس) إلى آخر السورة (4). ثم ذكر الاخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " (5) (1) سورة الاعراف، الاية: 21. (2) هذا ليس نص آية. ويريد آية البقرة: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه). (3) سورة الاعراف، الاية: 27. (4) سورة الناس. (5) رواه من حديث صفية: البخاري في الاحكام باب 21، وبدء الخلق باب 11، والاعتكاف باب 11 و 12، وأبو داود في الصوم باب 78. وابن ماجه في الصيام باب 65. وأحمد في المسند (ج 10 حديث 26927). ورواه من حديث أنس: مسلم في السلام حديث رقم 23. وأبو داود في السنة باب 17. وأحمد في المسند (ج 4 حديث 12593 و 14044). ورواه الامام أحمد في المسند (ج 5 حديث 14329) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: " لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم ". (*)
[ 342 ]
قال ابن اسحاق: وإنما أمر ابن ادم فيما يبنه وبين عدو الله، كأمره يما بنيه وبين آدم، فقال الله: (اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) (1). ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قص الله علينا من خبرهما، قال: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) (2) فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه، والله أعلم أي ذلك كان، فتابا إلى ربهما. قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحاق لو كان قد أيقن في نفسه أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به ما يجوز لذي فهم الاعتراض به على ما ورد من القول مستفيضا من أهل العلم مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم، فكيف بشكه ؟ والله نسأل التوفيق. القول في تأويل قوله تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه). قال أبو جعفر: وأما تأويل قوله: (فأخرجهما) فإنه يعني: فأخرج الشيطان آدم وزوجته مما كانا، يعني مما كان فيه آدم وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان، وإن كان الله هو المخرج لهما، لان خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان، وأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه كما يقول القائل لرجل وصل إليه منه أذى حتى تحول نم أجله عن موضع كان يسكنه: ما حولني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوله عن سبب منه جاز له إضافة تحويله إليه. القول في تأويل قوله تعالى: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو). قال أبو جعفر: يقال هبط فلان أرض كذا ووادي كذا: إذا حل ذلك، كما قال الشاعر (3): ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت أيدي الركاب بهم من راكس فلقا (4) * (هامش) (1) سورة الاعراف، الاية: 13. (2) سورة طه، الاية: 120. (3) هو زهير بن أبي سلمى (ديوانه: ص 73) من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان، أولها: إن الخليط أجد البين فانفرقا وعلق القلب من أسماء ما علقا (4) أرمقهم: ألحظهم وأنظر إليهم حزنا لفراقهم. الركاب: الابل التي يرحل عليها. راكس: موضع في ديار = (*)
[ 343 ]
وقد أبان هذا القول من الله جل ثناؤه عن صحة ما قلنا من أن المخرجي آدم من الجنة هو الله جثل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما كان على ما وصفنا، ودل بذلك أيضا على أن هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس كان في وقت واحد. بجمع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبب إبليس ذلك لهما، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم. وقد اختلف أهل التأويل في المعني بقوله: (اهبطوا) مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عني به. 631 - فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) قال: آدم، وحواء، وإبليس، والحية. 632 - حدثنا ابن وكيع وموسى بن هارون، قالا: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) قال: فلعن الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها وجعل رزقها من التراب، وأهبط إلى الارض آدم وحواء وإبليس والحية. 633 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) قال: آدم، وإبليس، والحية. * - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) آدم، وأبليس، والحية، ذرية بعضهم أعداء لبعض. * - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (بعضكم لبعض عدو) قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته. 634 - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الرببيع، عن أبي العالية في قوله: (بعضكم لبعض عدو) قال: يعني إبليس، وآدم. = بني سعد بن ثعلبة من بني أسد، ذكره البكري في معجم ما استعجم. وفلق فالق: المطمئن من الارض بين ربوتين أو جبلين أو هضبتين. (*)
[ 344 ]
635 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) قال بعضهم عدو آدم، وحواء، وإبليس، والحية. * - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحنم بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) قال: آدم، وحواء، وإبليس، والحية. 636 - وحدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) قال: لهما ولذريتهما. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدم وزوجته، وإبليس، والحية ؟ قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسده إياه، واستكباره عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: (أنا خير نمه خلقتني من نار وخلقته من طين) (1). وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوة المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربه في تكبره عليه ومخالفته أمره، ولك من آدم ومؤمني ذريته إيمان بالله. وأما عداوة إبليس آدم، فكفر بالله. وأما عداوة ما بين آدم وذريته، والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما سالمناهم منذ حاربناهم فمن تركهن خشية ثأرهن فليس منها " (2). 637 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثني حجاج بن رشد، قال: حدثنا حيوة بن شريح، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما سالمناهن منذ حاربناهن، فمن ترك شيئا منهن خليفة فليس منا " (3). قال أبو جعفر: وأحسب أن الحرب التي بيننا كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم في إدخالهم إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها حتى استزله عن طاعة ربه في أكله ما نهي عن أكله من الشجرة. 638 - وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام، وحدثني محمد بن خلف (1) سورة ص، الاية: 76. (2) انظر تخريجه في الحديث التالي (رقم 637). (3) رواه أبو داود في الادب باب 162. وأحمد في المسند (ج 3 حديث 9594). (*)
[ 345 ]
العسقلاني، قال: حدثني آدم جميعا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت هي والانسان كل واحد منهما عدو لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدغته أوجعته، فاقتلها حيث وجدتها " (1). القول في تأويل قوله تعالى: (ولكم في لاارض مستقر). قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما: 639 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ولكم في الارض مستقر) قال: هو قوله: (الذي جعل لكم الارض فراشا) (2). 640 - وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ولكم في الارض مستقر) قال: هو قوله: (جعل لكم الارض قرارا) (3). وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في الارض قرار في القبور. ذكر من قال ذلك: 641 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (ولكم في الارض مستقر) يعني القبور. 642 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال: (ولكم في الارض مستقر) قال: القبور. 643 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (ولكم في الارض مستقر) قال: مقامهم فيها. قال أبو جعفر: والمستقر في كلام العرب هو موضع الاستقرار. فإذا كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الارض موجودا حالا، فذلك المكان من الارض مستقره. (1) لم أجده في الصحاح. وهو في مجمع الزوائد (ج 4 ص 45) بلفظ آخر. (2) سورة البقرة، الاية: 22. (3) سورة غافر، الاية: 64. (*)
[ 346 ]
إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أن لهم في الارض مستقرا ومنزلا بأماكنهم ومستقرهم من الجنة والسماء، وكذلك قوله (ومتاع) يعني به أن لهم فيها متاعا بمتاعهم في الجنة. القول في تأويل قوله تعالى: (ومتاع إلى حين). قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك فقال بعضهم: ولكم فيها بلاغ إلى الموت. ذكر من قال ذلك: 644 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: (ومتاع إلى حين) قال يقول: بلاغ إلى الموت. 645 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل، عن إسماعيل السدي، قال: حدثني من سمع ابن عباس: (ومتاع إلى حين) قال: الحياة. وقال آخرون: يعني بقوله: (ومتاع إلى حين): إلى قيام الساعة. ذكر من قال ذلك: 646 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ومتاع إلى حين) قال: إلى يوم القيامة إلى انقطاع الدنيا. وقال آخرون إلى حين، قال: إلى أجل. ذكر من قال ذلك: 647 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ومتاع إلى حين) قال: إلى أجل. والمتاع في كلام العرب: كل ما استمتع به من شئ من معاش استمتع به أو رياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل حياة كل حي متاعا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الارض للانسان متاعا أيام حياته بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الاقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذ وجعلها من بعد وفاته لجثته كفاتا (1)، ولجسمه منزلا وقرارا، وكان اسم المتاع يشمل جميع ذلك، كان أولى التأويلات بالاية، إذ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالاة دالة على أنه قصد بقوله: (ومتاع إلى حين) بعضا دون بعض، وخاصا دون عام في عقل ولا خبر، أن يكون في معنى العام، وأن يكون الخبر أيضا كذلك إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، (1) الكفات: أرض كفات: جامعة للاحياء والاموات. وموضع كفات: يضم فيه الشئ ويجمع. (*)
[ 347 ]
وذلك إلى أن تبدل الارض غير الارض. فإذ كان ذلك أولى التأويلات بالاية لما وصفنا، فالواجب إذا أن يكون تأويل الاية: ولكن في الارض منازل ومساكن، تستقرون فيها استقراركم كان في السموات، وفي الجنات في منازلكم منها، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكمن فيها من المعاض والرياش والزنى والملاذ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتمك لارماسكم وأجداثكم (1)، تدفنون فيها وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها. القول في تأويل قوله تعالى. (فتلقئ ادم من ربه كلمت فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فنم تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)) قال أبو جعفر: أما تأويل قوله: (فتلقى آدم) فقيل إنه أخذ وقبل، وأصله التفعل من اللقاء كما يتلقى الرجل الرجل يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر، فكذلك ذلك في قوله: (فتلقى) كأنه استقبله فتلقاه بالقبول، حين أوحى إليه، أو أخبر به. فمعنى ذلك إذا: فلقى الله آدم كلمات توبة فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبا فتاب الله عليه بقيله إياها وقبوله إياها من ربه. كما: 648 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (فتلقى آدم من ربه كلمات) الاية، قال: لقاهما هذه الاية: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (2). وقد قرأ بعضهم: " فتلقى آدم من ربه كلمات " فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك وإن كان من وجهة العربية جائزا إذ كان كل ما تلقاه فهو له متلق وما لقيه فقد لقيه، فصار للمتكلم أن يوجه الفعل إلى أيهما شاء ويخرج من الفعل أيهما أحب، فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع " آدم " على أنه المتلقي الكلمات لاجماع الحجة من القراء وأهل التأويل من علماء السلف والخلف على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات، وغير جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة بقول من يجوز عليه السهو والخطأ. واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، فقال بعضهم بما: 649 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن (1) الارماس: جمع رمس، وهو القبر. والاجداث: جمع جدث، وهو أيضا بمعنى القبر. (2) سورة الاعراف، الاية: 23. (*)
[ 348 ]
المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال: أي رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك ؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك ؟ قال: بلى، أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال: نعم. قال: فهو قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات. وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوه. وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت ؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة. وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات ذكر لنا أنه قال: يا رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت ؟ قال: إني إذا راجعك إلى الجنة. قال: وقال الحسن إنهما قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة، قال: يا رب أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ فقال الله: إذا أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: رب ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له: بلى، قال: ونفخت في من روحك ؟ قيل له: بلى، قال: وسبقت رحمتك غصبك ؟ قيل له: بلى، قال: رب هل كنت كتبت هذا علي ؟ قيل له: نعم، قال: رب إن تبت وأصلحت هل
[ 349 ]
أنت راجعي إلى الجنة ؟ قيل له: نعم. قال الله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. وقال آخرون بما: حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: حدثني من سمع عبيد بن عمير، يقول: قال آدم: يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشئ كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شئ ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال: بلى شئ كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته علي فاغفره لي قال: فهو قول الله: فتلقى آدم من ربه كلمات. وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد بن عمير بمثله. وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز ابن رفيع، عمن سمع عبيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نحوه. وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد الله بن عمير بنحوه. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد العزيز، عن عبيد بن عمير بمثله. وقال آخرون بما: حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الاودي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حصين ابن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية أنه قال: قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب علي إنك أنت التواب الرحيم. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير، وحدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وقيس
[ 350 ]
جميعا عن خصيف، عن مجاهد في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال قوله: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا حتى فرغ منها. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثني شبل، عن ابن نجيح، عن مجاهد، كان يقول في قول الله: فتلقى آدم من ربه كلمات الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: هو قوله: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا الآية. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: أي رب أتتوب علي إن تبت ؟ قال: نعم فتاب آدم، فتاب عليه ربه. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: هو قوله: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو قوله: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. وهذه الاقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه وإن كانت مختلفة الالفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقى آدم كلمات، فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن وتاب بقيله إياهن وعمله بهن إلى الله من خطيئته، معترفا بذنبه، متنصلا إلى ربه من خطيئته، نادما على ما سلف منه من خلاف أمره. فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه وندمه على سالف الذنب منه. والذي يدل عليه كتاب الله أن الكلمات التي تلقاهن آدم من ربه هن الكلمات التي
[ 351 ]
أخبر الله عنه أنه قالها متنصلا بقيلها إلى ربه معترفا بذنبه، وهو قوله: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وليس ما قاله من خالف قولنا هذا من الاقوال التي حكيناها بمدفوع قوله، ولكنه قول لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربه عند إنابته إليه من ذنبه. وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم من قيله الذي لقاه إياه فقاله تائبا إليه من خطيئته، تعريف منه جل ذكره جميع المخاطبين بكتابه كيفية التوبة إليه من الذنوب، وتنبيه للمخاطبين بقوله: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأن خلاصهم مما هم عليه مقيمون من الضلالة نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته مع تذكيره إياهم به السالف إليهم من النعم التي خص بها أباهم آدم وغيره من آبائهم. القول في تأويل قوله تعالى: فتاب عليه. قال أبو جعفر: وقوله: فتاب عليه يعني على آدم، والهاء التي في عليه عائدة على آدم. وقوله: فتاب عليه يعني رزقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الانابة إلى الله والاوبة إلى طاعته مما يكره من معصيته. القول في تأويل قوله تعالى (إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا) قال أبو جعفر وتأويل قوله: إنه هو التواب الرحيم أن الله جل ثناؤه هو التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربه: إنابته إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يسخطه من الامور التي كان عليها مقيما مما يكرهه ربه، فكذلك توبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك، ويؤب من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه. وأما قوله: الرحيم فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة، ورحمته إياه إقالة عثرته وصفحه عن عقوبة جرمه.
[ 352 ]
وقد ذكرنا القول في تأويل قوله: * (قلنا اهبطوا منها جميعا) * فيما مضى فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذ كان معناه في هذا الموضع هو معناه في ذلك الموضع. وقد: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح في قوله: اهبطوا منها جميعا قال: آدم، وحواء، والحية، وإبليس. القول في تأويل قوله تعالى: فإما يأتينكم مني هدى. قال أبو جعفر: وتأويل قوله: فإما يأتينكم فإن يأتكم، وما التي مع إن توكيد للكلام، ولدخولها مع إن أدخلت النون المشددة في يأتينكم تفرقة بدخولها بين ما التي تأتي بمعنى توكيد الكلام التي تسميها أهل العربية صلة وحشوا، وبين ما التي تأتي بمعنى الذي، فتؤذن بدخولها في الفعل، أن ما التي مع إن التي بمعنى الجزاء توكيد، وليست ما التي بمعنى الذي. وقد قال بعض نحويي البصريين: إن إما إن زيدت معها ما، وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لما دخلته ما، لان ما نفي، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: بعين ما أرينك حين أدخلت فيها ما حسنت النون فيما ههنا. وقد أنكر جماعة من أهل العربية دعوى قائلي هذه المقالة أن ما التي مع بعين ما أرينك بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام. وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام: بعين أراك، وغير جائز أن يجعل مع الاختلاف فيه أصلا يقاس عليه غيره. القول في تأويل قوله تعالى: مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قال أبو جعفر: والهدى في هذا الموضع البيان والرشاد، كما: حدثنا المثنى ابن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: فإما يأتينكم مني هدى قال: الهدى: الانبياء والرسل والبيان.
[ 353 ]
فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله: اهبطوا وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادا به آدم وزوجته وذريتهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين. ونظير قوله في قراءة ابن مسعود: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم فجمع قبل أن تكون ذرية، وهو في قراءتنا: وأرنا مناسكنا وكما يقول القائل لآخر: كأنك قد تزوجت وولد لك وكثرتم وعززتم. ونحو ذلك من الكلام. وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية لان آدم كان هو النبي (ص) أيام حياته بعد أن أهبط إلى الارض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنيا وهو الرسول (ص) بقوله: فإما يأتينكم مني هدى خطابا له ولزوجته: فإما يأتينكم مني هدى أنبياء ورسل إلا على ما وصفت من التأويل. وقول أبي العالية في ذلك وإن كان وجها من التأويل تحتمله الآية، فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبه بظاهر التلاوة أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته إلى الارض من سمائي، وهو آدم وزوجته وإبليس، كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها: إما يأتينكم مني بيان من أمري وطاعتي ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إلي معصية وخلاف لامري وطاعتي. يعرفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائب على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيم لمن أناب إليه كما وصف نفسه بقوله: إنه هو التواب الرحيم. وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: اهبطوا منها جميعا والذين خوطبوا به هم من سمينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدمنا الرواية عنهم. وذلك وإن كان خطابا من الله جل ذكره لمن أهبط حينئذ من السماء إلى الارض، فهو سنة الله في جميع خلقه، وتعريف منه بذلك للذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وفي قوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين وأن حكمه فيهم إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله، على لسان رسوله محمد (ص)، أنهم
[ 354 ]
عنده في الآخرة، ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كفرهم وضلالتهم قبل الانابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلدين فيها. وقوله: فمن تبع هداي يعني فمن اتبع بياني الذي أبينه على ألسن رسلي أو مع رسلي، كما: حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: فمن تبع هداي يعني بياني. وقوله: فلا خوف عليهم يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمره وهداه وسبيله ولا هم يحزنون يومئذ على ما خالفوا بعد وفاتهم في الدنيا، كما: حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لا خوف عليهم يقول لا خوف عليكم أمامكم، وليس شئ أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم منه وسلاهم عن الدنيا، فقال: ولا هم يحزنون. وقوله: * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * يعني: والذين جحدوا آياتي وكذبوا رسلي، وآيات الله: حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته، وما جاءت به الرسل من الاعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأت عن ربها. وقد بينا أن معنى الكفر: التغطية على الشئ. أولئك أصحاب النار يعني أهلها الذين هم أهلها دون غيرهم المخلدون فيها أبدا إلى غير أمد ولا نهاية، كما: حدثنا به عقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غسان بن مضر، قال: حدثنا سعيد بن يزيد، وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد، وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا: حدثنا إسماعيل بن علية، عن سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (ص): أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم أو بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة.
[ 355 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) * قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: يا بني إسرائيل: يا ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يعقوب يدعى إسرائيل، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه وإيل هو الله وإسرا: هو العبد، كما قيل جبريل بمعنى عبد الله. وكما: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن الاعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: إن إسرائيل كقولك عبد الله. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الاعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: إيل: الله بالعبرانية. وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله: يا بني إسرائيل أحبار اليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص)، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وما أشبه ذلك. وإنما خصهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكرهم فيها نعمه، وإن كان قد تقدم ما أنزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم وأخبار أوائلهم، وقصص الامور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الامم ليس عند غيرهم من العلم بصحته، وحقيقته مثل الذي لهم من العلم به إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرفهم باطلاع محمد على علمها مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد (ص) دراسة الكتب التي فيها أنباء ذلك، أن محمدا (ص) لم يصل إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنزيل منه ذلك إليه لانهم من علم صحة ذلك بمحل ليس به من الامم غيرهم. فلذلك جل ثناؤه خص بقوله: يا بني إسرائيل خطابهم كما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله: يا بني إسرائيل قال: يا أهل الكتاب للاحبار من يهود.
[ 356 ]
القول في تأويل قوله تعالى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم. قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جل ذكره اصطفاؤه منهم الرسل، وإنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الارض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها وجحد صنائعه عنده. كما: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم أي آلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه. وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: اذكروا نعمتي قال: نعمته أن جعل منهم الانبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم يعني نعمته التي أنعم على بني إسرائيل فيما سمى وفيما سوى ذلك، فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأنجاهم عن عبودية آل فرعون. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: نعمتي التي أنعمت عليكم قال: نعمه عامة، ولا نعمة أفضل من الاسلام، والنعم بعد تبع لها. وقرأ قول الله يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم الآية. وتذكير الله الذين ذكرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد (ص)، نظير تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافهم على عهده الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم. وذلك قوله: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين.
[ 357 ]
القول في تأويل قوله تعالى: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم. قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا معنى العهد فيما مضى من كتابنا هذا واختلاف المختلفين في تأويله والصواب عندنا من القول فيه. وهو في هذا الموضع عهد الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن يبينوا للناس أمر محمد (ص) أنه رسول، وأنهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة أنه نبي الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله. أوف بعهدكم وعهده إياهم: أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا الآية، وكما قال: فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي ألامي الآية. وكما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وأوفوا بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي (ص) إذا جاءكم. أوف بعهدكم: أي أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الاصر والاغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم. وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: أوفوا بعهدي أوف بعهدكم قال: عهده إلى عباده: دين الاسلام أن يتبعوه. أوف بعهدكم يعني الجنة. وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أوفوا بعهدي أوف بعهدكم أما أوفوا بعهدي: فما عهدت إليكم في الكتاب، وأما أوف بعهدكم: فالجنة، عهدت إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة. وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا إلى آخر الآية. فهذا عهد الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفى الله له بعهده.
[ 358 ]
وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي (ص) وفي غيره أوف بعهدكم يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم قال: أوفوا بأمري، أوف بالذي وعدتكم، وقرأ: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم حتى بلغ: ومن أوفى بعهده من الله قال: هذا عهده الذي عهده لهم. القول في تأويل قوله تعالى: وإياي فارهبون . قال أبو جعفر: وتأويل قوله: وإياي فارهبون وإياي فاخشوا، واتقوا أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت من الكتب على أنبيائي أن تؤمنوا به وتتبعوه، أن أحل بكم من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إلي باتباعه والاقرار بما أنزلت إليه ما أحللت بمن خالف أمري وكذب رسلي من أسلافكم. كما: حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإياي فارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره. وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: وإياي فارهبون يقول: فاخشون. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: وإياي فارهبون بقول: وإياي فاخشون. القول في تأويل قوله تعالى: * (وآمنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون) *
[ 359 ]
قال أبو جعفر: يعني بقوله: آمنوا: صدقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. ويعني بقوله: بما أنزلت: ما أنزل على محمد (ص) من القرآن. ويعني بقوله: مصدقا لما معكم أن القرآن مصدق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة لان الذي في القرآن من الامر بالاقرار بنبوة محمد (ص) وتصديقه واتباعه نظير الذي من ذلك في الانجيل والتوراة. ففي تصديقهم بما أنزل على محمد تصديق منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة. وقوله: مصدقا قطع من الهاء المتروكة في أنزلته من ذكر ما. ومعنى الكلام: وآمنوا بالذي أنزلته مصدقا لما معكم أيها اليهود. والذي معهم هو التوراة والانجيل. كما: حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم يقول: إنما أنزلت القرآن مصدقا لما معكم التوراة والانجيل. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم. يقول: لانهم يجدون محمدا (ص) مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. القول في تأويل قوله تعالى: ولا تكونوا أول كافر به. قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قيل: ولا تكونوا أول كافر به والخطاب فيه لجمع وكافر واحد ؟ وهل نجيز إن كان ذلك جائزا أن يقول قائل: لا تكونوا أول رجل قام ؟ قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له أفعل، وهو خبر لجمع، إذا كان اسما مشتقا من فعل ويفعل لانه يؤدي عن المراد معه المحذوف من الكلام، وهو من، ويقوم مقامه في الاداء عن معنى ما كان يؤدي عنه من من الجمع والتأنيث وهو في لفظواحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أول من يكفر به، ف من بمعنى جمع وهو غير متصرف تصرف
[ 360 ]
الاسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسم المشتق من فعل ويفعل مقامه، جرى وهو موحد مجراه في الاداء عما كان يؤدي عنه من معنى الجمع والتأنيث، كقولك: الجيش ينهزم، والجند يقبل فتوحد الفعل لتوحيد لفظ الجيش والجند، وغير جائز أن يقال: الجيش رجل، والجند غلام، حتى تقول: الجند غلمان، والجيش رجال لان الواحد من عدد الاسماء التي هي غير مشتقة من فعل ويفعل لا يؤدي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر: وإذا هم طعموا فألام طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع فوحد مرة على ما وصفت من نية من، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من فعل ويفعل مقامه. وجمع أخرى على الاخراج على عدد أسماء المخبر عنهم. ولو وحد حيث جمع أو جمع حيث وحد كان صوابا جائزا. فأما تأويل ذلك فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب صدقوا بما أنزلت على رسولي محمد (ص) من القرآن المصدق كتابكم، والذي عندكم من التوراة والانجيل المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبي المبعوث بالحق، ولا تكونوا أول من كذب به وجحد أنه من عندي وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم. وكفرهم به: جحودهم أنه من عند الله، والهاء التي في به من ذكر ما التي مع قوله: وآمنوا بما أنزلت. كما: حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: ولا تكونوا أول كافر به بالقرآن. قال أبو جعفر: وروي عن أبي العالية في ذلك ما: حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ولا تكونوا أول كافر به يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد (ص). وقال بعضهم: ولا تكونوا أول كافر به يعني بكتابكم، ويتأول أن في تكذيبهم بمحمد (ص) تكذيبا منهم بكتابهم لان في كتابهم الامر باتباع محمد (ص). وهذان القولان من ظاهر ما تدل عليه التلاوة بعيدان. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالايمان بما أنزل على محمد (ص)، فقال جل ذكره: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد (ص) هو القرآن لا
[ 361 ]
محمد، لان محمدا صلوات الله عليه رسول مرسل لا تنزيل منزل، والمنزل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أول من يكفر بالذي أمرهم بالايمان به في أول الآية من أهل الكتاب. فذلك هو الظاهر المفهوم، ولم يجر لمحمد (ص) في هذه الآية ذكر ظاهر فيعاد عليه بذكره مكنيا في قوله: ولا تكونوا أول كافر به وإن كان غير محال في الكلام أن يذكر مكني اسم لم يجر له ذكر ظاهر في الكلام. وكذلك لا معنى لقول من زعم أن العائد من الذكر في به على ما التي في قوله: لما معكم لان ذلك وإن كان محتمل ظاهر الكلام فإنه بعيد مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالايمان به في أول الآية هو القرآن، فكذلك الواجب أن يكون المنهي عن الكفر به في آخرها هو القرآن. وأما أن يكون المأمور بالايمان به غير المنهي عن الكفر به في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الاشهر الاظهر في الكلام، هذا مع بعد معناه في التأويل. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم. القول في تأويل قوله تعالى: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: فحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا يقول: لا تأخذوا عليه أجرا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الاول: يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا. وقال آخرون بما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا يقول: لا تأخذوا طمعا قليلا وتكتموا اسم الله. فذلك الطمع هو الثمن. فتأويل الآية إذا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيس وعرض من الدنيا قليل. وبيعهم إياه تركهم إبانة ما في كتابهم من أمر محمد (ص) للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل بثمن قليل، وهو
[ 362 ]
رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الاجر ممن بينوا له ذلك على ما بينوا له منه. وإنما قلنا معنى ذلك: لا تبيعوا لان مشترى الثمن القليل بآيات الله بائع الآيات بالثمن، فكل واحد من الثمن والمثمن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري. وإنما معناه على ما تأوله أبو العالية: بينوا للناس أمر محمد (ص)، ولا تبتغوا عليه منهم أجرا. فيكون حينئذ نهيه عن أخذ الاجر على تبيينه هو النهي عن شراء الثمن القليل بآياته. القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وإياي فاتقون. قال أبو جعفر: يقول: فاتقون في بيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العرض، وكفركم بما أنزلت على رسولي، وجحودكم نبوة نبي أن أحل بكم ما أحللت بأخلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المثلات والنقمات. القو في تأويل قوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) * قال أبو جعفر: يعني بقوله: ولا تلبسوا: لا تخلطوا، واللبس: هو الخلط، يقال منه: لبست عليهم الامر ألبسه لبسا: إذا خلطته عليهم. كما: حدثت عن المنجا ب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وللبسنا عليهم ما يلبسون يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون. ومنه قول العجاج: لما لبسن الحق بالتجني غنين واستبدلن زيدا مني يعني بقوله: لبسن: خلطن. وأما اللبس فإنه يقال منه: لبسته ألبسه لبسا وملبسا، وذلك في الكسوة يكتسيها فيلبسها. ومن اللبس قول الاخطل: لقد لبست لهذا الدهر أعصره حتى تجلل رأسي الشيب واشتعلا
[ 363 ]
ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: وللبسنا عليهم ما يلبسون. إن قال لنا قائل: وكيف كانوا يلبسون الحق بالباطل وهم كفار، وأي حق كانوا عليه مع كفرهم بالله ؟ قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد (ص) ويستبطنون الكفر به، وكان أعظمهم يقولون: محمد نبي مبعوث إلا أنه مبعوث إلى غيرنا. فكان لبس المنافق منهم الحق بالباطل إظهاره الحق بلسانه وإقراره لمحمد (ص) وبما جاء به جهارا، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بالباطل الذي يستبطنه. وكان لبس المقر منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم الجاحد أنه مبعوث إليهم إقراره بأنه مبعوث إلى غيرهم وهو الحق، وجحوده أنه مبعوث إليهم وهو الباطل، وقد بعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولبسهم إياه به. كما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روح، عن الضحاك، عن ابن عباس قوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب. وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ولا تلبسوا الحق بالباطل يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد عليه الصلاة والسلام. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: ولا تلبسوا الحق بالباطل اليهودية والنصرانية بالاسلام. وحدثني يونس ابن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل قال: الحق: التوراة الذي أنزل الله على موسى، والباطل: الذي كتبوه بأيديهم. القول في تأويل قوله تعالى: وتكتموا الحق وأنتم تعلمون. قال أبو جعفر: وفي قوله: وتكتموا الحق وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل، ولا تكتموا الحق. ويكون قوله:
[ 364 ]
وتكتموا عند ذلك مجزوما بما جزم به تلبسوا عطفا عليه. والوجه الآخر منهما أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله: وتكتموا الحق خبرا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله: وتكتموا حينئذ منصوبا، لانصرافه عمعنى قوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل إذ كان قوله: ولا تلبسوا نهيا، وقوله: وتكتموا الحق خبرا معطوفا عليه غير جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله: تلبسوا من الحرف الجازم، وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صرفا. ونظير ذلك في المعنى والاعراب قول الشاعر: لاتنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم فنصب تأتي على التأويل الذي قلنا في قوله: وتكتموا الآية، لانه لم يرد: لا تنه عن خلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله. فكان الاول نهيا والثاني خبرا، فنصب الخبر إذ عطفه على غير شكله. فأما الوجه الاول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهو على مذهب ابن عباس الذي: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قوله: وتكتموا الحق يقول: ولا تكتموا الحوأنتم تعلمون. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وتكتموا الحق: أي ولا تكتموا الحق. وأما الوجه الثاني منهما فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وتكتموا الحق وأنتم تعلمون قال: كتموا بعث محمد (ص)
[ 365 ]
. وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما: حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وتكتموا الحق يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: وتكتموا الحق يقول: إنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله (ص) فنهاهم عن ذلك. وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وتكتموا الحق وأنتم تعلمون قال: يكتم أهل الكتاب محمدا، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي: وتكتموا الحق وأنتم تعلمون قال: الحق هو محمد (ص). وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وتكتموا الحق وأنتم تعلمون قال: كتموا بعث محمد (ص) وهم يجدونه مكتوبا عندهم. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتمون محمدا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والانجيل. فتأويل الآية إذا: ولا تخلطوا على الناس أيها الاحبار من أهل الكتاب في أمر محمد (ص) وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الامم دون بعض
[ 366 ]
أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم، وجميع الامم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الايمان به وبما جاء به والتصديق به. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) * قال أبو جعفر: ذكر أن أحبار اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا كما: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة قال: فريضتان واجبتان، فأدوهما إلى الله. وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته. أما إيتاء الزكاة: فهو أداء الصدقة المفروضة وأصل الزكاة: نماء المال وتثميره وزيادته. ومن ذلك قيل: زكا الزرع: إذا كثر ما أخرج الله منه وزكت النفقة: إذا كثرت. وقيل: زكا الفرد، إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفعا، كما قال الشاعر: كانوا خسا أو زكا من دون أربعة لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج وقال آخر: فلا خسا عديده ولا زكاكما شرار البقل أطراف السفا قال أبو جعفر: السفا: شوك البهمي، والبهمي: الذي يكون مدورا في السلاء.
[ 367 ]
يعني بقوله: ولا زكا لم يصيرهم شفعا من وتر بحدوثه فيهم. وإنما قيل للزكاة زكاة وهي مال يخرج من مال لتثمير الله بإخراجها مما أخرجت منه ما بقي عند رب المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سميت زكاة لانها تطهير لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مظلمة لاهل السهمان، كما قال جل ثناؤه مخبرا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: أقتلت نفسا زكية يعني بريئة من الذنوب طاهرة، وكما يقال للرجل: هو عدل زكى بذلك المعنى. وهذا الوجه أعجب إلي في تأويل زكاة المال من الوجه الاول، وإن كان الاول مقبولا في تأويلها. وإيتاؤها: إعطاؤها أهلها. وأما تأويل الركوع: فهو الخضوع لله بالطاعة، يقال منه: ركع فلان لكذا وكذا: إذا خضع له، ومنه قول الشاعر: بيعت بكسر لتيم واستغاث بهامن الهزال أبوها بعدما ركعا يعني: بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة. وهذا أمر من الله جل ثناؤه لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها بالانابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والدخول مع المسلمين في الاسلام، والخضوع له بالطاعة. ونهي منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد (ص) بعد تظاهر حججه عليهم بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الاعذار إليهم والانذار، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطفا منه بذلك عليهم وإبلاغا إليهم في المعذرة. القول في تأويل قوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) * قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم، بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى برا. فروي عن ابن عباس ما:
[ 368 ]
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم: أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: أتأمرون الناس بالبر يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد (ص)، وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم. وقال آخرون بما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فعيرهم الله. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا الحجاج، قال: قال ابن جريج: أتأمرون الناس بالبر أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة. وقال آخرون بما: حدثني به يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شئ، أمروه بالحق، فقال الله لهم: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون. وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم الحرمي، قال: حدثنا مخلد بن
[ 369 ]
الحسين، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة في قول الله: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا. قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى لانهم وإن اختلفوا في صفة البر الذي كان القوم يأمرون به غيرهم الذين وصفهم الله بما وصفهم به، فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل، ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم. فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم معيرهم بذلك ومقبحا إليهم ما أتوا به. ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: نسوا الله فنسيهم بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه. القول في تأويل قوله تعالى: وأنتم تتلون الكتاب. قال أبو جعفر: يعني بقوله: تتلون: تدرسون وتقرءون. كما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: وأنتم تتلون الكتاب يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني بالكتاب: التوراة. القول في تأويل قوله تعالى: أفلا تعقلون. قال أبو جعفر: يعني بقوله: أفلا تعقلون: أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته في اتباع محمد والايمان به وبما جاء به مثل الذي على من تأمرونه باتباعه. كما: حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: أفلا تعقلون يقول: أفلا تفهمون فنهاهم عن هذا الخلق القبيح.
[ 370 ]
وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد (ص)، وأنهم كانوا يقولون هو مبعوث إلى غيرنا كما ذكرنا قبل. القول في تأويل قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) * قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: واستعينوا بالصبر: استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري، وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لامري، واتباع رسولي محمد (ص) بالصبر عليه والصلاة. وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع: الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا. بل تأويل ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابها وكفها عن هواها ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر، لكفه نفسه عن الجزع وقيل لشهر رمضان: شهر الصبر، لصبر صائمه عن المطاعم والمشارب نهارا، وصبره إياهم عن ذلك: حبسه لهم، وكفه إياهم عنه، كما يصبر الرجل المسئ للقتل فيحبسه عليه حتى يقتله. ولذلك قيل: قتل فلان فلانا صبرا، يعني به حبسه عليه حتى قتله، فالمقتول مصبور، والقاتل صابر. وأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فيما مضى. فإن قال لنا قائل: قد علمنا معنى الامر بالاستعانة بالصبر على الوفاء بالعهد والمحافظة على الطاعة، فما معنى الامر بالاستعانة بالصلاة على طاعة الله، وترك معاصيه، والتعري عن الرياسة، وترك الدنيا ؟ قيل: إن الصلاة فيها تلاوة كتاب الله، الداعية آياته إلى رفض الدنيا وهجر نعيمها، المسلية النفوس عن زينتها وغرورها، المذكرة الآخرة وما أعد الله فيها لاهلها. ففي الاعتبار بها المعونة لاهل طاعة الله على الجد فيها، كما روي عن نبينا (ص) أنه كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة.
[ 371 ]
حدثني بذلك إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا الحسين بن رتاق الهمداني، عن ابن جريج، عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة، عن عبد العزيز بن اليمان، عن حذيفة قال: كان رسول الله (ص)، إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة. وحدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا خلف بن الوليد الازدي، قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدولي، قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال حذيفة: كان رسول الله (ص) إذا حز به أمر صلى. وكذلك روي عنه (ص) أنه رأى أبا هريرة منبطحا على بطنه فقال له: اشكنب درد ؟ قال: نعم، قال: قم فصل فان في الصلاة شفاء. فأمر الله جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبار بني إسرائيل أن يجعلوا مفزعهم في الوفاء بعهد الله الذي عاهدوه إلى الاستعانة بالصبر والصلاة كما أمر نبيه محمدا (ص) بذلك، فقال له: فاصبر يا محمد على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى فأمره جل ثناؤه في نوائبه بالفزع إلى الصبر والصلاة. وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. وأما أبو العالية فإنه كان يقول بما: حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: واستعينوا بالصبر والصلاة قال يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله.
[ 372 ]
وقال ابن جريج بما: حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة قال: إنهما معونتان على رحمة الله. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة الآية، قال: قال المشركون: والله يا محمد إنك لتدعونا إلى أمر كبير، قال: إلى الصلاة والايمان بالله. القول في تأويل قوله تعالى: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: وإنها وإن الصلاة، فالهاء والالف في وإنها عائدتان على الصلاة. وقد قال بعضهم: إن قوله: وإنها بمعنى: إن إجابة محمد (ص)، ولم يجر لذلك بلفظ الاجابة ذكر فتجعل الهاء والالف كناية عنه، وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته. ويعني بقوله: لكبيرة: لشديدة ثقيلة. كما: حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا ابن يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، في قوله: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين قال: إنها لثقيلة. ويعني بقوله: إلا على الخاشعين: إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطواته، المصدقين بوعده ووعيده. كما: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إلا على الخاشعين يعني المصدقين بما أنزل الله. وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: إلا على الخاشعين قال: يعني الخائفين. وحدثني محمد بن جعفر، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد: إلا على الخاشعين قال: المؤمنين حقا.
[ 373 ]
وحدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الخشوع: الخوف والخشية لله. وقرأ قول الله: خاشعين من الذل قال: قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم، وخشعوا له. وأصل الخشوع: التواضع والتذلل والاستكانة، ومنه قول الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع يعني والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده. فمعنى الآية: واستعينوا أيها الاحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله، وكفها عن معاصي الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقر به من مراضي الله، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون) * قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظن أنه ملاقيه، والظن: شك، والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر ؟ قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنا، نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخا، وما أشبه ذلك من الاسماء التي تسمي بها الشئ وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين قول دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بإلفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
[ 374 ]
يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق: بأن تعتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية. ومنه قول الله جل ثناؤه: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها. وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين. حدثني المثنى ابن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: يظنون أنهم ملاقوا ربهم قال: إن الظن ههنا يقين. وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين، إني ظننت وظنوا. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أما يظنون فيستيقنون. وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم علموا أنهم ملاقوا ربهم، هي كقوله: إني ظننت أني ملاق حسابيه يقول علمت. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم قال: لانهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينا، وليس ظنا في شك. وقرأ: إني ظننت أني ملاق حسابيه.
[ 375 ]
القول في تأويل قوله تعالى: أنهم ملاقوا ربهم. قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقوا ربهم فأضيف الملاقون إلى الرب جل ثناؤه وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم ؟ وإذا كان المعنى كذلك، فمن كلام العرب ترك الاضافة وإثبات النون، وإنما تسقط النون وتضيف في الاسماء المبنية من الافعال إذا كانت بمعنى فعل، فأما إذا كانت بمعنى يفعل وفاعل، فشأنها إثبات النون، وترك الاضافة قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من فعل ويفعل، وإسقاط النون وهو بمعنى يفعل وفاعل، أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض، فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك: لم قيل ؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون. فقال نحويو البصرة: أسقطت النون من: ملاقوا ربهم وما أشبهه من الافعال التي في لفظ الاسماء وهي في معنى يفعل وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: كل نفس ذائقة الموت وكما قال: إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم ولما يرسلها بعد وكما قال الشاعر: هل أنت باعث دينار لحاجتنا أو عبد رب أخا عون بن مخراق فأضاف باعثا إلى الدينار، ولما يبعث، ونصب عبد رب عطفا على موضع دينار لانه في موضع نصب وإن خفض. وكما قال الآخر: الحافظو عورة العشيرة لا يأتيهم من ورائهم نطف
[ 376 ]
بنصب العورة وخفضها. فالخفض على الاضافة، والنصب على حذف النون استثقالا، وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة. وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في ملاقوا الاضافة، وهي في معنى يلقون، وإسقاط النون منه لانه في لفظ الاسماء، فله في الاضافة إلى الاسماء حظ الاسماء، وكذلك حكم كل اسم له كان نظيرا. قالوا: وإذا أثبت في شئ من ذلك النون وتركت الاضافة، فإنما تفعل ذلك به لان له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالاضافة فيه للفظ، وترك الاضافة للمعنى. فتأويل الآية إذا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي، المتواضعين لامري، الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم. وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته لان من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب، فالصلاة عنده عناء وضلال، لانه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر، وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة، وإقامتها عليه ثقيلة، وله فادحة. وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله، الراجين عليها جزيل ثوابه، الخائفين بتضييعها أليم عقابه، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون وإياه في القيامة ملاقون. القول في تأويل قوله تعالى: وأنهم إليه راجعون. قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في قوله: وأنهم من ذكر الخاشعين، والهاء في إليه من ذكر الرب تعالى ذكره في قوله: ملاقوا ربهم فتأويل الكلمة: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون.
[ 377 ]
ثم اختلف في تأويل الرجوع الذي في قوله: وأنهم إليه راجعون. فقال بعضهم بما: حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: وأنهم إليه راجعون قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة. وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم. وأولى التأويلين بالآية القول الذي قاله أبو العالية لان الله تعالى ذكره، قال في الآية التي قبلها كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون فأخبر الله جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم، وذلك لا شك يوم القيامة، فكذلك تأويل قوله: وأنهم إليه راجعون. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * قال أبو جعفر: وتأويل ذلك في هذه الآية نظير تأويله في التي قبلها في قوله: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي وقد ذكرته هنالك. القول في تأويل قوله تعالى: وأني فضلتكم على العالمين. قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعني بقوله: وأني فضلتكم على العالمين: أني فضلت أسلافكم، فنسب نعمه على آبائهم وأسلافهم إلى أنها نعم منه عليهم، إذ كانت مآثر الآباء مآثر للابناء، والنعم عند الآباء نعما عند الابناء، لكون الابناء من الآباء، وأخرج جل ذكره قوله: وأني فضلتكم على العالمين مخرج العموم، وهو يريد به خصوصا لان المعنى: وإني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه. كالذي: حدثنا به محمد بن عبد الاعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وأني فضلتكم على العالمين قال: فضلهم على عالم ذلك الزمان.
[ 378 ]
حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وأني فضلتكم على العالمين قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالما. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد في قوله: وأني فضلتكم على العالمين قال: على من هم بين ظهرانيه. وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: على من هم بين ظهرانيه. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله: وأني فضلتكم على العالمين قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: ولقد اخترناهم على علم على العالمين قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره، وقد كان فيهم القردة وهم أبغض خلقه إليه، وقال لهذه الامة: كنتم خير أمة أخرجت للناس قال: هذه لمن أطاع الله واتبع أمره واجتنب محارمه. قال أبو جعفر: والدليل على صحة ما قلنا من أن تأويل ذلك على الخصوص الذي وصفنا ما: حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر جميعا، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: ألا إنكم وفيتم سبعين أمة قال يعقوب في دحديثه: أنتم آخرها. وقال الحسن: أنتم خيرها وأكرمها على الله. فقد أنبأ هذا الخبر عن النبي (ص) أن بني إسرائيل لم يكونوا مفضلين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن معنى قوله: وفضلناهم على العالمين وقوله: وأني فضلتكم على العالمين على ما بينا من تأويله. وقد أتينا على بيان تأويل قوله: العالمين بما فيه الكفاية في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 379 ]
* (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) * قال أبو جعفر: وتأويل قوله: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا: واتقوا يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله: واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا، كما قال الراجز: قد صبحت صبحها السلام بكبد خالطها سنام في ساعة يحبها الطعام وهو يعني: يحب فيها الطعام، فحذفت الهاء الراجعة على اليوم، إذ فيه اجتزاء بما ظهر من قوله: واتقوا يوما لا تجزي نفس الدال على المحذوف منه عما حذف، إذ كان معلوما معناه. وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا الهاء. وقال آخرون: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا فيه. وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه. وأما المعنى في قوله: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة، وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. وأما تأويل قوله: لا تجزي نفس فإنه يعني: لا تغني. كما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: واتقوا يوما لا تجزي نفس أما تجزي: فتغني. وأصل الجزاء في كلام العرب: القضاء والتعويض، يقال: جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء، بمعنى: قضيته دينه، ومن ذلك قيل: جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا، بمعنى: أثابه
[ 380 ]
عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب: يقال: أجزيت عنه كذا: إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته. وقال آخرون منهم: بل جزيت عنك: قضيت عنك، وأجزيت: كفيت. وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال: جزت عنك شاة وأجزت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن جزت عنك ولا تجزي عنك من لغة أهل الحجاز، وأن أجزأ وتجزئ من لغة غيرهم. وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول: أجزأت عنك شاة، وهي تجزئ عنك. وزعم آخرون أن جزى بلا همز: قضى، وأجزأ بالهمز: كافأ. فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى. فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى ؟ قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الاخبار عنها يسر الرجل أن يبرد له على ولده أو والده حق، وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما: حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الاودي، قال: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدولابي يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (ص): رحم الله عبدا كانت عنده لاخيه مظلمة في عرض قال أبو بكر في حديثه: أو مال أو جاه، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم. حدثنا أبو عثمان المقدمي، قال: حدثنا القروي، قال: حدثنا مالك، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) بنحوه. حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أبو همام الاهوازي، قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد، عن سعيد عن أبي هريرة، عن النبي (ص) بنحوه. حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا
[ 381 ]
عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص): لا يموتن أحدكم وعليه دين، فإنه ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات وأشار رسول الله (ص) بيده يمينا وشمالا. حدثني محمد بن إسحاق، قال: قال: حدثنا سالم بن قادم، قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى، قال: أخبرني الحارث بن مسلم، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله (ص) بنحو حديث أبي هريرة. قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: لا تجزي نفس عن نفس شيئا يعني أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها لان القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق، فيأخذه منه ولا يتجافى له عنه ؟. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله: لا تجزي نفس عن نفس شيئا: لا تجزي منها أن تكون مكانها. وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده، وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل: ما أغنيت عني شيئا، بمعنى: ما أغنيت مني أن تكون مكاني، بل إذا أرادوا الخبر عن شئ أنه لا يجزي من شئ، قالوا: لا يجزي هذا من هذا، ولا يستجيزون أن يقولوا: لا يجزي هذا من هذا شيئا. فلو كان تأويل قوله: لا تجزي نفس عن نفس شيئا ما قاله من حكينا قوله لقال: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس كما يقال: لا تجزي نفس من نفس، ولم يقل لا تجزي نفس عن نفس شيئا: وفي صحة التنزيل بقوله: لا تجزي نفس عن نفس شيئا أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: ولا تقبل منها شفاعة. قال أبو جعفر: والشفاعة مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة، وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع شفيع وشافع لانه ثنى المستشفع به، فصار له شفعا، فكان ذو الحاجة قبل استشفاعه به في حاجته فردا، فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الارض شفيعا لمصير البائع به شفعا.
[ 382 ]
فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع، فيترك لها ما لزمها من حق. وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها لانهم كانوا من يهود بني إسرائيل، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة، ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه. كما: حدثني عباس ابن أبي طالب، قال: حدثنا حجاج بن نصير، عن شعبة، عن العوام بن مزاحم رجل من قيس بن ثعلبة، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان: أن رسول الله (ص) قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة، كما قال الله عز وجل ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية... فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق وخلافهم أمر الله في اتباع محمد (ص) وما جاءهم به من عنده بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم، وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والانابة من ضلالهم، وجعل ما سن فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله. وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الاخبار عن رسول الله (ص) أنه قال: شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي وأنه قال: ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة، وإني إختبأت دعوتي شفاعة لامتي، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا. فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين بشفاعة نبينا محمد (ص) لهم عن كثير من عقوبة إجرامهم بينه وبينهم، وأن قوله: ولا يقبل منها شفاعة إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل. وليس هذا من
[ 383 ]
مواضع الاطالة في القول في الشفاعة والوعد والوعيد، فنستقصي الحجاج في ذلك، وسنأتي على ما فيه الكفاية في مواضعه إن شاء الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى: ولا يؤخذ منها عدل. قال أبو جعفر: والعدل في كلام العرب بفتح العين: الفدية. كما: حدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ولا يؤخذ منها عدل قال: يعني فداء. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: ولا يؤخذ منها عدل أما عدل فيعدلها من العدل، يقول: لو جاءت بمل ء الارض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ولا يؤخذ منها عدل قال: لو جاءت بكل شئ لم يقبل منها. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: ولا يؤخذ منها عدل قال: بدل، والبدل: الفدية. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ولا يؤخذ منها عدل قال: لو أن لها مل ء الارض ذهبا لم يقبل منها فداء قال: ولو جاءت بكل شئ لم يقبل منها. وحدثني نجيح بن إبراهيم، قال: حدثنا علي بن حكيم، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمرو بن قيس الملائي، عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء، قال: قيل يا رسول الله ما العدل ؟ قال: العدل: الفدية. وإنما قيل للفدية من الشئ والبدل منه عدل، لمعادلته إياه وهو من غير جنسه ومصيره له مثلا من وجه الجزاء، لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة، كما قال جل ثناؤه: وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها، يقال منه: هذا عدله وعديله. وأما العدل بكسر العين، فهو مثل الحمل المحمول على
[ 384 ]
الظهر، يقال في ذلك: عندي غلام عدل غلامك، وشاة عدل شاتك بكسر العين، إذا كان غلام يعدل غلاما، وشاة تعدل شاة، وكذلك ذلك في كل مثل للشئ من جنسه. فإذا أريد أن عنده قيمته من غير جنسه نصبت العين فقيل: عندي شاتك من الدراهم. وقد ذكر عن بعض العرب أنه يكسر العين من العدل الذي هو بمعنى الفدية لمعادلة ما عادله من جهة الجزاء، وذلك لتقارب معنى العدل والعدل عندهم، فأما واحد الاعدال فلم يسمع فيه إلا عدل بكسر العين. القول في تأويل قوله تعالى: (ولا هم ينصرون). وتأويل قوله: (ولا هم ينصرون) يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات، وارتفع بين القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى العدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: (وقفوهم إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون) (1). وكان ابن عباس يقول في معنى: (لا تناصرون) (2) ما: 743 - حدثت به عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ما لكم لا تناصرون) (2) ما لكم لا تمانعون منا ؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم ! وقد قال بعضهم في معنى قوله: (ولا هم ينصرون): وليس لهم من الله يومئذ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد قيل: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية. قال أبو جعفر: والقول الاول أولى بتأويل الاية لما وصفنا من أن الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الاية أن يوم القيامة يوم لا فدية لمن استحق من خلقه عقوبته، ولا شفاعة فيه، ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا، فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه. القول في تأويل قوله تعالى: (وإذ نجيكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49)). (1) سورة الصافات، الايات: 24 - 26. (2) سورة الصافات، الاية: 25. (*)
[ 385 ]
أما تأويل قوله: (وإذ نجيناكم) فإنه عطف على قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إنعامنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون بإنجائنا لكم منهم. وأما آل فرعون أهل دينه وقومه وأشياعه. وأصل " آل " أهل، أبدلت الهاء همزة، كما قالوا ماه، فأبدلوا الهاء همزة، فإذا صغروه قالوا مويه، فردوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله. وكذلك إذا صغروا آل، قالوا: أهيل. وقد حكي سماعا من العرب في تصغير آل: أويل. وقد يقال: فلان من آل النساء، يراد به أنه منهن خلق، ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهن ويهواهن، كما قال الشاعر: فإنك من آل النساء وإنما يكن لادنى لاوصال لغائب (1) وأحسن أماكن " آل " أن ينطق به مع الاسماء المشهورة، مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآل علي، وآل عباس، وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول، وفي أسماء الارضين وما أشبه ذلك، غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل، ورآني آل المرأة، ولا رأيت آل البصرة، وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: إنه اسم مكة وآل المدينة، وليس ذلك في كلامهم بالمستعمل الفاشي. وأما فرعون فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمى به، كما كانت ملوك الروم يسمي بعضهم قصير وبعضهم هرقل، وكما كانت ملوك فارس تسمى الاكاسرة واحدهم كسرى، وملوك اليمن تسمى التابعة واحدهم تبع. وأما فرعون موسى الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه. 744 - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: أن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان. وإنما جاز أن يقال: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجين منه، لان المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الاضافة، كما يقول القائل لاخر: فعلنا بكم كذا، وفعلنا بكم كذا، وقتلناكم وسبيناكم، والمخبر إما أن (1) يكن لادنى: يعني للداني القريب ا لحاضر يصلن حباله بالمودة. (*)
[ 386 ]
يكون يعني قومه وعشيرته بذلك أو أهل بلده ووطنه كان المقول له ذلك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه، كما قال الاخطل يهاجي جرير بن عطية: ولقد سما لكم الهذيل فنالكم بإراب حيث يقسم الانفالا (1) في فيلق يدعو الاراقم لم تكن فرسانه عزلا ولا أكفالا (2) ولم يلق جرير هذيلا ولا أدركه، ولا أدرك إراب ولا شهده. ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الاخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه، فكذلك خطاب الله عز وجل من خاطبه بقوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) لما كان فعله من ذلك بقوم من خاطبه بالاية وآبائهم، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالاية وقومهم. القول في تأويل قوله تعالى: (يسومونكم سوء العذاب). وفي قوله: (يسومونكم) وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل، فيكون معناه حينئذ: واذكروا نعمتي عليكم إذ نجيتكم من آل فرعون، وكانوا منق بل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويله كان موضع " يسومونكم " رفعا. والوجه الثاني: أن يكون " يسومونكم " حالا، فيكون تأويله حينئذ: وإذ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب، فيكون حالا من آل فرعون. وأما تأويل قوله: (يسومونكم) فإنه يوردونكم، ويذيقونكم، ويولونكم، يقال منه: سامه خطة ضيم: إذا أولاه ذلك وأذاقه. كما قال الشاعر: إن سيم خسفا وجه تربدا (3) فأما تأويل قوله: (سوء العذاب) فإنه يعني: ما ساءهم من العذاب. وقد قال (1) البيتان في ديوان الاخطل (ص 248) من قصيدة يهجو بها جريرا، أولها: كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا وهما كذلك في نقائض جرير والاخطل لابي تمام (ص 77، 78 - طبعة المطبعة الكاثوليكية). وقوله: " الهذيل ": الهذيل من بني حرقة جيران مطر، وهو الهذيل بن هبيرة التغلبي. وإراب: ماء لبني رياح. والانفال: الغنائم، الواحد نفل. (2) الاعزل: الذي لا سلاح معه. والاكفال: جمع كفل، وهو الذي لا يثبت على دابته ولا يحسن الركوب. والاراقم: جشم ومالك وعمرو وثعلبة ومعوية والحارث بنو بكر بن حبيب، مر كاهن بأمهم وهم في قطيفة لها فقالت: انظر إلى ولدي هؤلاء، فقال: والله لكأنما رموني بعيون الاراقم. (3) سام فلانا الخسف، وسامه خسفا: أولاه ذلا، وتربد وجهه: تلون من الغضب وتغير. (*)
[ 387 ]
بعضهم: أشد العذاب، ولو كان معناه لقيل: أسوأ العذاب. فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوءهم ؟ قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم). وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما: 745 - حدثنا به ابن ا حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: أخبرنا ابن إسحاق، قال: كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا، وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قال الله عز وجل: (سوء العذاب). وقال السدي: جعلهم في الاعمال القذرة، وجعل يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم. 746 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي. القول في تأويل قوله تعالى: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم). قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل - من سومهم إياهم سوء العذاب وذبحهم أبناءهم واستحيائهم نساءهم - إليهم (1) دون فرعون، وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون وعن أمره، لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه وإن كان عن أمر غيره، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه، وإن كان الامر قاهرا الفاعل المأمور بذلك سلطانا كان الامر أو لصا خاربا (2) أو متغلبا فاجرا، كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون، وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك فعلوا ما فعلوا مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما فهو المقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله. وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل، واستحيائهم نساءهم، فإنه كان فيما ذكر لهنا عن ابن عباس وغيره كالذي: (1) قوله: " إليهم دون فرعون " متعلق بقوله: " وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل ". (2) اللص الخارب: الشديد الفساد. (*)
[ 388 ]
747 - حدثنا به العباس بن الوليد الاملي وتميم بن المنتصر الواسطي، قالا: حدثنا يزيد بن هارون. قال: أخبرنا الاصبغ بن زيد، قال: حدثنا القاسم بن أيوب، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا وائتمروا، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار (1)، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجحدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الاعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم ودعوا عاما. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية أمه، حتى إذا كان القابل حملت بموسى. 748 - وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قالت الكهنة لفرعون. إنه يولد في هذه العام مولود يذهب بملكك. قال: فجعل فرعون على كل ألف أمرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة، وعلى كل عشرة رجلا، فقال: انظروا كل امرة حامل في المدينة، فإذا وضعت حملها فانظروا إليه، فإن كان ذكرا فاذبحوه، وإن كان أنثى فخلوا عنها. وذلك قوله (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربك عظيم). 749 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساء قوابل (2)، فإذا ولدت امرأة غلاما أتي به فرعون فقتله ويستحيي الجواري. 750 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) الاية، قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة، وإنه أتاه آت، فقال: إنه سينشأ في مصر غلام من بني (1) الشفار: جمع شفرة، وهي السكين العريضة العظيمة الحديدة. (2) قوابل: جمع قابلة، وهي المرأة التي تساعد الوالدة تتلقى الولد عند الولادة. (*)
[ 389 ]
إسرائيل فيظهر عليك ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو حديث آدم. 751 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر عن السدي، قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة (1) والعافة (2) والقافة (3) والحازة (4)، فسألهم عن رؤياه، فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس - رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه، ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الاعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلوا غلمانهم، فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: (إن فرعون علا في الارض) يقول: تجير في الارض، (وجعل أهلها شيعا)، يعني بني إسرائيل، حين جعلهم في الاعمال القذرة، (يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم) (5). فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت، فأسرع فيهم. فدخل رءوس القبط على فرعون، فلكموه، فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا بذبح أبنائهم فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار، فلو أنك كنت تبقي من أولادهم ! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون، فترك، فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى. 752 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته (4) إليه، فقالوا له: تعلم (6) أنا نجد في (1) الكهنة: جمع كاهن، وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان. (2) العافة: جمع عائف، وهو الذي يتعاطى العيافة، وهو نوع من كهانة الجاهلية تتمثل بزجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها. (3) القافة: جمع قائف، وهو الذي يتبع الاثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وابيه، وليست من السحر والكهانة. (4) الحازة: جمع حاز، والحازي هو الذي ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره. (5) سورة القصص، الاية: 4. (6) تعلم: اسم فعل أمر بمعنى اعلم. (*)
[ 390 ]
علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه * يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك، ويخرجك من أرضك، ويبدل دينك. فلما قالوا له ذلك، أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان، وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء مملكته، فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه. فكن يفعلن ذلك، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان، ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن. 753 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لقد ذكر أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار، ثم يصف بعضه إلى بعض، ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل، فيوقفن عليه فيحز أقدامهن، حتى إن المرأة منهن لتمصع (1) بولدها فيقع من بين رجليها، فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها لما بلغ من جهدها. حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت الناس وقطعت النسل، وإنهم خولك وعمالك. فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما. فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون. قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم، فتأويل قوله إذا على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم: (ويستحيون نساءكم): يستبقونهن فلا يقتلونهن. وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: (ويستحيون نساءكم): أنه تركهم الاناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزا أن تسمى الطفلة من الاناث في حال صباها وبعد ولادها امرأة، والصبايا الصغار وهن أطفال: نساء، لانهم تأولوا قول الله جل وعز: (ويستحيون نساءكم): يستبقون الاناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن. وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج، فقال بما: 754 - حدثنا بن القاسم بن الحين، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ويستحيون نساءكم) قال: يسترقون نساءكم. فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: (ويستحيون نساءكم) (1) مصعت المرأة بولدها: زحرت واحدة فرمته من بطنها وألقته. (*)
[ 391 ]
إنه استحياء الصبايا والاطفال، قال: إذ لم نجدهن يلزمهن اسم نساء. ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله " ويستحيون " يسترقون.، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا عجمية، وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعال من الحياء نظير الاستبقاء من البقاء والاستسقاء من السقي، وهو معنى من الاسترقاق بمعزل. وقد قال آخرون: قوله (يذبحون أبناءكم) بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم. وأنكروا أن يكون المذبوحون الاطفال، وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في أخبار الله جل ثناؤه إن المستحين هم النساء الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان، لان المذبحين لو كانوا هم الاطفال لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عز وجل أنهم النساء ما يبين أن المذبحين هم الرجال. وقد أغفل قائلوا هذه المقالة مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين موضع الصواب، وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى أنه أمرها أن ترضع موسى، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت في تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء لم يكن بأم موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليم، أو لو أن موسى كان رجلا لم تجعله أمه في التابونت، ولكن ذلك عندنا ما تأوله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا. وإنما قيل: (ويستحيون نساءكم) إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن، وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لانهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن، فقيل: (ويستحيون نساءكم) يعني بذلك الوالدات والمولدات كما يقال: قد أقبل الرجال وإن كان فيهم صبيان، فكذلك قوله: (ويستحيون نساءكم). وأما من الذكور فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون قيل: يذبحون أبناءكم، ولم يقل يذبحون رجالكم. القول في تأويل قوله تعالى: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم). أما قوله: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) فإنه يعني: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم على ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيم. ويعني بقوله بلاء: نعمة. كما: 755 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (بلاء من ربكم عظيم) قال: نعمة. 756 - وحدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
[ 392 ]
أسباط، عن السدي في قوله: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) أما البلاء: فالنعمة. 757 - وحدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) قال: نعمة من ربكم عظيمة. * - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثل حديث سفيان. 758 - حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) قال: نعمة عظيمة. وأصل البلاء في كلام العرب: الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخبر والشر، لان الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر، كما قال الله جل ثناؤه: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) (1) يقول: اختبرناهم، وكما قال جل ذكره: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (2). ثم تسمي العرب خير بلاء والشر بلاء، غير أن الاكثر في الشر أن يقال: بلوته أبوله بلاء، وفي الخير: أبليته أبليه وبلاء، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى: جزى الله بالاسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (3) فجمع بين اللغتين: لانه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده. القول في تأويل قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجينكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون (50)) أما تأويل قوله: (وإذ فرقنا بكم) فإنه عطف على: (وإذ نجيناكم) بمعنى: واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون، وإذ فرقنا بكم البحر. ومعنى قوله: (فرقنا بكم): فصلنا بكم البحر، لانهم كانوا اثني عشر سبطا، ففرق البحر (1) سورة الاعراف، الاية: 168. (2) سورة الانبياء، الاية: 35. (3) رواية الديوان (ص 86): " رأى الله... فأبلاهما ". وهذا البيت من قصيدة طويلة يمدح بها سنان بن حارثة المري، أولها: صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو وأقفر من سلمى التعانيق فالثفل (*)
[ 393 ]
اثني عشر طريقا، فسلك كل سبط منهم طريقا منها. فذلك فرق الله بهم جل ثناؤه البحر، وفصله بهم بتفريقهم في طرقه الاثني عشر. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما أتى موسى البحر كناه أبا خالد، وضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط. وقد قال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: وإذ فرقنا بكم البحر فرقنا بينكم وبين الماء: يريد بذلك: فصلنا بينكم وبينه وحجزناه حيث مررتم به. وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة لان الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم، ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر، فيكون التأويل ما قاله قائلوا هذه المقالة، وفرقه البحر بالقوم، إنما هو تفريقه البحر بهم على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم على ما جاءت به الآثار. القول في تأويل قوله تعالى: فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون. قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون، ونجى بني إسرائيل ؟ قيل له: كما: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دهم الخيل سوى ما في جنده من شهب الخيل وخرج موسى، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف، طلع فرعون في جنده من خلفهم، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال موسى: كلا إن معي ربي سيهدين أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: أوحى الله إلى البحر فيما ذكر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، قال: فبات البحر يضرب
[ 394 ]
بعضه بعضا فرقا من الله وانتظار أمره، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل على يبس. من الارض. يقول الله لموسى: اضرب لهم طريقا. في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فلما استقر له البحر على طريق قائمة يبس سلك فيه موسى ببني إسرائيل، وأتبعه فرعون بجنوده. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي، قال: حدثت أنه لما دخل بنو إسرائيل البحر، فلم يبق منهم أحد، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل حتى وقف على شفير البحر، وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن ينفذه فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق، فقربها منه فشمها الفحل، فلما شمها تبعها، فتقدم معها الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون فرعون قد دخل دخلوا معه وجبريل أمامه، وهم يتبعون فرعون وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم، يقول: الحقوا بصاحبكم. حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد، ووقف ميكائيل على ناحيته الاخرى وليس خلفه أحد، طبق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله عز وجل وقدرته ما رأى وعرف ذلته وخذلته نفسه: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عمرو بن ميمون الاودي في قوله: وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط. ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى ؟ قال: أمامك يشير إلى البحر. فأقحم يوشك فرسه في البحر حتى بلغ الغمر، فذهب به ثم
[ 395 ]
رجع، فقال: أين أمرك ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم يقول: مثل جبل. قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون فطريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم، فلذلك قال: وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون قال معمر: قال قتادة: كان مع موسى ستمائة ألف، وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان. وحدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون قال: فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الاناث وكان موسى في ستمائة ألف، فلما عاينهم فرعون قال: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حذرون. فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا: يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر: أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال: فثاب البحر له أفكل يعني له رعدة لا يدرى من أي جوانبه يضربه، قال: فقال يوشع لموسى: بماذا أمرت ؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فاضربه قال: فضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق، فكان فيه اثنا عشر طريقا، كل طريق كالطود العظيم، فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلما أخذوا في الطريق، قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا ؟ قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم ؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم قال سفيان، قال عمار الدهني: قال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا وأومأ
[ 396 ]
إبراهيم بيده يديرها على البحر قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا، فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض، قال سفيان: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر، فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان. فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق. فلما رآها الحصان تقحم خلفها، وقيل لموسى: اترك البحر رهوقال: طرقا على حاله قال: ودخل فرعون وقومه في البحر، فلما دخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا. حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، فقال: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون فخرج موسى وهارون في قومهما، وألقي على القبط الموت فمات كل بكر رجل. فأصبحوا يدفنونهم، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فأتبعوهم مشرقين فكان موسى على ساقة بني إسرائيل، وكان هارون أمامهم يقدمهم. فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمرت ؟ قال: البحر. فأراد أن يقتحم، فمنعه موسى. وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ما ذبانه، يعني الانثى وذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون يعني بني إسرائيل. فتقدم هارون، فضرب البحر، فأبى البحر أن ينفتح، وقال: من هذا الجبار الذي يضربني ؟ حتى أتاه موسى، فكناه أبا خالد وضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم يقول: كالجبل العظيم. فدخلت بنو
[ 397 ]
إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا، في كل طريق سبط، وكانت الطرق انفلقت بجدران، فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا: فلما رأى ذلك موسى، دعا الله، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان. فنظر آخرهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا، قال: ألا ترون البحر فرق مني قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ؟ فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وأزلفنا ثم الآخرين يقول: قربنا ثم الآخرين يعني آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذبانه، فشام الحصان ريح الماذبانه، فاقتحم في أثرها، حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لما أخذ عليهم فرعون الارض إلى البحر قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين. فلما رآهم أصحاب موسى، قالوا: إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فقال موسى للبحر: ألست تعلم أني رسول الله ؟ قال: بلى. قال: وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم ؟ قال: بلى. قال: أتعلم أن هذا عدو الله ؟ قال: بلى. قال: فانفرق لي طريقا ولمن معي. قال: يا موسى، إنما أنا عبد مملوك ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى. فأوحى الله عز وجل إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق، وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر، وقرأ قول الله تعالى: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى وقرأ قوله: واترك البحر رهوا سهلا ليس فيه تعد. فانفرق اثنتي عشرة فرقة، فسلك كل سبط في طريق. قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخلوا البحر. قال: ادخلوا عليهم، قال: وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم: ليلحق آخركم أولكم. وفي أول آل فرعون، يقول لهم: رويدا يلحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم: قد هلكوا. فلما دخل ذلك قلوبهم، أوحى الله عز وجل إلى البحر، فجعل لهم قناطر ينظر هؤلاء إلى هؤلاء، حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء.
[ 398 ]
ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون) أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه، وإلى عظيم سلطانه في الذي أراكم من طاعة البحر إياه من مصير ركاما فلقا (1) كهيئة الاطواد الشامخة غير زائل عن حده، انقيادا لامر الله وإذعانا لطاعته، وهو سائل ذائب قبل ذلك. يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليم، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم، ويحذرهم في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحل بهم ما حل بفرعون وآله في تكذيبهم موسى عليه صلى الله عليه وسلم. وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: (وأنتم تنظرون) كمعنى قول القائل: " ضربت وأهلك ينظرون، فما أتوك ولا أعانوك " بمعنى: وهم قريب بمرأى ومسمع، وكقول الله تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) (2) وليس هناك رؤية، إنما هو علم. والذي دعاه إلى هذا التأويل أنه وجه قوله: (وأنتم تنظرون): أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون. فقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا مما اكتنفهم من البحر إلى فرعون وغرقه. وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام، إنما التأويل: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم على ما قد وصفنا آنفا، والتطام أمواج البحر بآل فرعون في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا، وذلك لا شك نظر عيان لا نظر علم كما ظنه قائل هذا القول الذي حكينا قوله. القول في تأويل قوله تعالى: (وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون (51)) اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأ بعضهم: (واعدنا) بمعنى أن الله تعالى واعد موسى ملاقاة الطور لمناجاته، فكانت المواعدة من الله لموسى، ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة (واعدا) على " وعدنا " أن قالوا: كل إيعاد كان بين اثنين للالتقاء أو الاجتماع، فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك، فلذلك زعمون أنه وجب أن يقضى لقراءة من قرأ: (واعدنا) بالاختيار على قراءة من قرأ " وعدنا ". وقرأ بعضهم: " وعدنا " بمعنى أن الله الواعد موسى، والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك، أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر، فأما الله جل ثناؤه فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشر. قالوا: وبذلك جاء التنزيل في القرآن كله، (1) الركام: المجتمع بعضه فوق بعض. والفلق جمع فلقة، وهي الشق. (2) سورة الفرقان، الاية: 45. (*)
[ 399 ]
فقال جل ثناؤه: (إن الله وعدكم وعد الحق) (1) وقال: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) (2) قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله: " وإذ وعدنا موسى ". والصواب عندنا في ذلك من القول، أنهما قراءتان قد جاءت بهما الامة وقرأت بهما القراء، وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الاخرى، وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الاخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان، وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع، فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان، مثل الذي وعده من ذلك صاحبه إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك من اتفاق منهما عليه. ومعلوم أن موسى صلوات ا لله عليه لم يعده ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك، إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا، وإلى محبته فيه مسارعا. ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك إلا وموسى إليه مستجيب. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الله عز ذكره قد كان وعد موسى الطور، ووعده موسى اللقاء، وكان الله عز ذكره لموسى واعدا ومواعدا له المنجاة على الطور، وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأي القراءتين من " وعد " واعد " قرأ القارئ، فهو الحق في ذلك من جهة التأويل واللغة، مصيب لما وصفنا من العلل قبل. ولا معنى لقول القائل: إنما تكون المواعدة بين البشر، وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشر، وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب والخير والشر والنفع والضر الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه، لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه ولا يغيره عن معانيه. والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا من أن كل إيعاد كان بين اثنين فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه ومواعدة بينهما، وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد، وأن الوعد الذي يكون به الانفراد من الواعد دون الموعود إنما هو ما كان بمعنى الوعد الذي هو خلاف الوعيد. القول في تأويل قوله تعالى: (موسى). وموسى فيما بلغنا بالقبطية كلمتان، يعني بهما: ماء وشجر، فمو: هو الماء، وسا: هو الشجر. وإنما سمي بذلك فيما بلغنا، لان أمه لما جعلته في التابوت حين خافت عليه (1) سورة إبراهيم، الاية: 22. (2) سورة الانفال، الاية: 7. (*)
[ 400 ]
من فرعون وألقته في اليم كما أوحى الله إليها - وقيل: إن اليم الذي ألقته فيه هو النيل - دفعته أمواج اليم، حتى إدخلته بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن، فوجدن ا لتابوت، فأخذنه، فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه. وكان ذلك المكان فيه ماء وشجر، فقيل: موسى ماء وشجر. كذلك: 767 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط بن نصر، عن السدي. وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فيما زعم ابن إسحاق. 768 - حدثني بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل عنه. القول في تأويل قوله تعالى: (أربعين ليلة). ومعنى ذلك (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) بتمامها، فالاربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة أي رأس الاربعين، ومثل ذلك بقوله: (واسأل القرية) (1) وبقولهم اليوم أربعون منذ خرج فلان، واليوم يومان، أي اليوم تمام يومين وتمام أربعين. وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل وخلاف ظاهر التلاوة، فأما ظاهر التلاوة، فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين ليلة، فليس لاحد إحالة ظاهر خبره إلى باطن بغير برهان دال على صحته. وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره، وهو ما: 769 - حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: ح دثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) قال: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وذلك حين خلف موسى أصحابه، واستخلف عليهم هارون، فمكث على الطور أربعين ليلة، وأنزل عليه التوراة في الالواح، وكانت الالواح من زبرجد. فقربه الرب إليه نجيا، وكلمه، وسمع صريف القلم (2). وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الاربعين ليلة حتى هبط من الطور. (1) سورة يوسف، الاية: 82. (2) صرف القلم: صوته وصريره وهو يجري بما تكتبه الملائكة. (*)
[ 401 ]
* - وحدثت عن عمار بن الحسن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه. 770 - حدثنا ابن حميد، قال: دثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه، ونجاه وقومه ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، تلقاه ربه فيها بما شاء. واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل، وقال: إني متعجل إلى ربي فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين ! فخرج موسى إلى ربه متعجلا للقائه شوقا إليه، وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. 771 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، قال: انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة وأتمها الله بعشر. القول في تأويل قوله تعالى: (ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون). وتأويل قوله (ثم اتخذتم العجل من بعده) ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. والهاء في قوله " من بعده " عائدة على ذكر موسى. فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل المكذبين به المخاطبين بهذه الاية، عن فعل آبائهم وأسلافهم وتكذيبهم رسلهم وخلافهم أنبياءهم، مع تتابع نعمه عليهم وسبوغ آلائه لديهم، معرفهم بذلك أنهم من خلافهم محمدا صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وجحودهم لرسالته، مع علمهم بصدقه على مثل منهاج آبائه وأسلافهم، ومحذرهم من نزول سطوته بهم بمقامهم على ذلك من تكذيبهم ما نزل بأوائلهم المكذبين بالرسل من المسخ واللعن وأنواع النقمات. وكان سببت اتخاذهم العجل ما: 772 - حدثني به عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان (1)، فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر، فتمثل له جبريل على فرس أنثى (1) ا نظر الحاشية 1 ص 396. (*)
[ 402 ]
وديق (1)، فلما رآها الحصان تقحم خلفها. قال: وعرف السامري جبريل لان أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصبعه، فيجد في بعض أصابعه لبنا، وفي الاخرى عسلا، وفي الاخرى سمنا. فلم يزل يغذوه حتى نشأ، فلما عاينه في البحر عرفه، فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ من تحت الحافر قبضة. قال سفيان: فكان ابن مسعود يقرؤها " فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول ". قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس: وألقي في روع (2) السامري أنك لا تلقيها على شئ فتقول كن كذا وكذا إلا كان، فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر. فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وأغرق الله آل فرعون، قال موسى لاخيه هارون: (اخلفني في قومي وأصلح) (3) ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بني إسرائيل حلي من حلي آل فرعون قد تعوروه (4)، فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله، فلما جمعوه، قال السامري بالقبضة (5) التي كانت في يده هكذا، فقذفها فيه - وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا - وقال: كن عجلا جسدا له خوار ! فصار عجلا جسدا له خوار. وكان يدخل الريح في دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه، فقال هارون: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) (6). 773 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل - يعني من أرض مصر - أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر، وغرق آل فرعون، أتى جبريل إلى موسى يذهب به إلى الله، فأقبل على فرس فرآن السامري، فأنكره، وقال: إنه فرس الحياة. فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الحافر حافر الفرس. فانطلق موسى، واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل ! إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعا، واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها، وإلا (1) انظر الحاشية 2 ص 396. (2) الروع: القلب والعقل. (3) سورة الاعراف، الاية: 143. (4) تعوروه: أخذوه عارية. (5) قال بالقبضة: أي أشار. (6) سورة طه، الايتان: 90 و 91. (*)
[ 403 ]
كان شيئا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة، وجاء السامري بتلك القبضة، فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار. وعدت بنو إسرائيل موعد موسى، فعدوا الليلة يوما واليوم يوما، فلما كان تمام العشرين خرج لهم العجل، فلما رأوه قال لهم السامري: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) (1) يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه. وكان يخور ويمشي، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل (إنما فتنتم به) (2) يقول: إنما ابتليتم به - يقول: بالعجل - وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم. وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه، فلما كلمه قال له: (وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) (3) فأخبره خبرهم. قال موسى: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، أرأيت الروح من نفخها فيه ؟ قال الرب: أنا. قال: رب أنت إذا أضللتهم. 774 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، قال: كان فيما ذكر لي أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عز وجل به: استعيروا منهم - يعني من آل فروعون - الامتعة والحلي والثياب، فإني منفلكم (4) أموالهم مع هلاكهم. فملما أذن فرعون في الناس، كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قال: حين سار ولم يرضوا أن يخرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم. 775 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان السامري رجلا من أهل الاسلام في بني إسرائيل. فلما فضل هارون في بني إسرائيل وفصل موسى إلى ربه، قال لهم هارون: أنتم قد حملتهم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون - وأمتعة وحليا فتطهروا منها، فإنها نجس. وأوقد لهم نارا، فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها ! قالوا: نعم. فجعلوا (1) سورة طه، الاية: 88. (2) سورة طه، الاية: 90. (3) سورة طه، الاية 84. (4) نفله الشئ: جعله نفلا، أي غنيمة مستباحة. (5) ضبطها ياقوت في معجم البلدان (مادة باجرما) بفتح الجيم وسكون الراء وميم وألف مقصورة. وقال: قرية من أعمال البليح قرب الرقة من أرض الجزيرة. (*)
[ 404 ]
يأتون بما كان معهم من تلك الامتعة وذلك الحلي، فيقذفون به فيها، حتى إذا تكسر الحلي فيها ورأى السامري أثر فرس جبريل أخذ تراب من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: يا نبي الله ألقي ما في يدي ؟ قال: نعم. ولا يظن هارونن إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والامتعة. فقذفه فيها فقال: كن عجلا جسدا له خوار ! فكان للبلاء والفتنة، فقال (هذا إلهكم وإله موسى) (1) فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط. يقول الله عز وجل: (فنسي) (1) أي ترك ما كان عليه من الاسلام، يعني السامري، (أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) (2) وكان اسم السامري موسى بن ظفر، وقع في أرض مصر، فدخل في بني إسرائيل. فلما رأى هارون ما وقعوا فيه: (قال يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) (3) فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل. وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: (فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) (4) وكان لها هائبا مطيعا. 776 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لما أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من فرعون، وأغرق فرعون ومن معه، قال موسى لاخيه هارون: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (5) قال: لما خرج موسى وأمر هارون با أمره به، وخرج موسى متعجلا مسرورا إلى الله. قد عرف موسى أن المرء إذا نجح في حاجة سيده كان يسره أن يتعجل إليه. قال: وكان حين خرجوا استعاروا حليا وثيابا من آل فرعون، فقال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم، فاجمعو نارا، فألقوه فيها فأحرقوه ! قال: فجمعوا نارا. قال: وكان السامري قد نظر إلى أثر دابة جبريل، وكان جبريل على فرس أنثى، وكان السامري في قوم موسى. قال: فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة، فيبست عليها يده، فلما ألقى قوم موسى الحلي في النار، وألقى السامري معهم القبضة، صور الله جل وعز ذلك لهم عجلا ذهبا، فدخلته الريح فكان له خوار، فقالوا: ما هذا ؟ فقال: السامري الخبيث: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي).. الاية، إلى قوله: (حتى يرجع إلينا موسى) (6) قال: حتى إذا أتى موسى الموعد، قال الله: (ما أعجلك عن (1) سورة طه، الاية: 88. (2) سورة طه، الاية: 89. (3) سورة طه، الايتان: 90 و 91. (4) سورة طه، الاية: 94. (5) سورة الاعراف، الاية: 142. (6) سورة طه، الايات: 88 - 91. (*)
[ 405 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون) * وتأويل قوله: ثم عفونا عنكم من بعد ذلك يقول: تركنا معاجلتكم بالعقوبة من بعد ذلك، أي من بعد اتخاذكم العجل إلها. كما: حدثني به المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ثم عفونا عنكم من بعد ذلك يعني من بعد ما اتخذتم العجل. وأما تأويل قوله: لعلكم تشكرون فإنه يعني به: لتشكروا. ومعنى لعل في هذا
[ 406 ]
الموضع معنى كي، وقد بينت فيما مضى قبل أن أحد معاني لعل كي بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع. فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها لتشكروني على عفوي عنكم، إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللب والعقل. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) * يعني بقوله: وإذ آتينا موسى الكتاب واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان. ويعني بالكتاب: التوراة، وبالفرقان: الفصل بين الحق والباطل. كما: حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان قال: فرق به بين الحق والباطل. حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان قال: الكتاب: هو الفرقان، فرقان بين الحق والباطل. حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وحدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان قال: الكتاب: هو الفرقان، فرق بين الحق والباطل. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: وقال ابن عباس: الفرقان: جماع اسم التوراة والانجيل والزبور والفرقان. وقال ابن زيد في ذلك بما: حدثني به يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته، يعني ابن زيد، عن قول الله عز وجل: وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان فقال: أما الفرقان الذي قال الله عز وجل: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فذلك يوم بدر، يوم فرق الله
[ 407 ]
بين الحق والباطل، والقضاء الذي فرق به بين الحق والباطل. قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان، فرق الله بينهم، وسلمه الله وأنجاه فرق بينهم بالنصر، فكما جعل الله ذلك بين محمد والمشركين، فكذلك جعله بين موسى وفرعون. قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد، من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها. فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الالواح، وفرقنا بها بين الحق والباطل. فيكون الكتاب نعتا للتوراة أقيم مقامها استغناء به عن ذكر التوراة، ثم عطف عليه بالفرقان، إذ كان من نعتها. وقد بينا معنى الكتاب فيما مضى من كتابنا هذا، وأنه بمعنى المكتوب. وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية وإن كان محتملا غيره من التأويل، لان الذي قبله ذكر الكتاب، وأن معنى الفرقان الفصل، وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا، فإلحاقه إذ كان كذلك بصفة ما وليه أولى من إلحاقه بصفة ما بعد منه. وأما تأويل قوله: لعلكم تهتدون فنظير تأويل قوله تعالى: لعلكم تشكرون ومعناه لتهتدوا. وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها وتتبعوا الحق الذي فيها لاني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) * وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم. وظلمهم إياها كان فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى، وكذلك كل فاعل فعلا يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم، هو ما أخبر الله عنهم من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم، ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم والانابة إلى الله من ردتهم بالتوبة إليه، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم. وقد دللنا فيما مضى على أن
[ 408 ]
معنى التوبة: الاوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته. فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم على ما أمرهم به. كما: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن، أنه قال في هذه الآية: فاقتلوا أنفسكم قال: عمدوا إلى الخناجر، فجعل يطعن بعضهم بعضا. حدثني عباس بن محمد، قال: حدثنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج، أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى بثوبه، فطرحوا ما بأيديهم، فتكشف عن سبعين ألف قتيل، وإن الله أوحى إلى موسى أن حسبي قد اكتفيت، فذلك حين ألوى بثوبه. حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال موسى لقومه: توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: فاختبأ الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل وأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضا. فانجلت الظلمة عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما رجع موسى إلى قومه قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا إلى قوله: فكذلك ألقى السامري فألقى موسى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين
[ 409 ]
بني إسرائيل ولم ترقب قولي فترك هارون ومال إلى السامري، فقال ما خطبك يا سامري إلى قوله: ثم لننسفنه في اليم نسفا. ثم أخذه فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يجر يومئذ إلا وقع فيه شئ منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى، ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم قال: فصفوا صفين ثم اجتلدوا بالسيوف. فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيدا، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا هلكت بنو إسرائيل، ربنا البقية البقية فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدا، ومن بقي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم. حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: باتخاذكم العجل قال: كان موسى أمر قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر، فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده، فتاب الله عليهم. حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم الآية. قال: فصاروا صفين، فجعل يقتل بعضهم بعضا، فبلغ القتلى ما شاء الله، ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول. حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى، فتضاربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه. حتى إذا فتر أتاه بعضهم
[ 410 ]
قالوا: يا نبي الله ادع الله لنا وأخذوا بعضديه يشدون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: لا يحزنك، أما من قتل منكم فحي عندي يرزق، وأما من بقي فقد قبلت توبته. فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة في قوله: فاقتلوا أنفسكم قال: قاموا صفين فقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم كفوا. قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلى بعض يقتل بعضهم بعضا، ما يتوقى الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نزلت التوبة. قال ابن جريج، وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفا، ثم رفع الله عز وجل عنهم القتل، وتاب عليهم. قال ابن جريج: قاموا صفين، فاقتتلوا بينهم، فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة، وكانت توبة لمن بقي. وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه، وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة، ثم بعثوا. سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لامر الله، فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بالافنية وسلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
[ 411 ]
لما رجع موسى إلى قومه، وكانوا سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه. فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موپ سى أما من توبة ؟ قال: بلى فاقتلوا أنفسكم ذلكم حير لكم عند بارئكم فتاب عليكم الآية.... فاخترطوا السيوف والجرزة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالايدي، ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري، ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر حتى يبلغ الله رضاه. وقرأ قول الله جل ثناؤه: وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين. قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم. وقرأ: فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم. فالذي ذكرنا عمن روينا عنه الاخبار التي رويناها كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك. وأما معنى قوله: فتوبوا إلى بارئكم فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم وإلى ما يرضيه عنكم. كما: حدثني به المثنى بن إبراهيم قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: فتوبوا إلى بارئكم أي إلى خالقكم. وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ. والبرية: الخلق، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، غير أنها لا تهمز كما لا يهمز ملك، وهو من لاك، لكنه جرى بترك الهمزة، كذلك قال نابغة بني ذبيان: إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند وقد قيل: إن البرية إنما لم تهمز لانها فعيلة من البرى، والبرى: التراب. فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب. وقال بعضهم: إنما أخذت البرية من قولك بريت العود، فلذلك لم يهمز.
[ 412 ]
قال أبو جعفر: وترك الهمز من بارئكم جائز، والابدال منها جائز، فإذ كان ذلك جائزا في باريكم فغير مستنكر أن تكون البرية من برى الله الخلق بترك الهمزة. وأما قوله: ذلكم خير لكم عند بارئكم فإنه يعني بذلك توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند بارئكم لانكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منه. وقوله: فتاب عليكم أي بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك، لان معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم فتاب عليكم. فترك ذكر قوله فتبتم إذ كان في قوله: فتاب عليكم دلالة بينة على اقتضاء الكلام فتبتم. ويعني بقوله: فتاب عليكم رجع لكم ربكم إلى ما أحببتم من العفو عن ذنوبكم، وعظيم ما ركبتم، والصفح عن جرمكم إنه هو التواب الرحيم يعني الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه. ويعني بالرحيم: العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) * وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به حتى نرى الله جهرة عيانا، برفع الساتر بيننا وبينه، وكشف الغطاء دوننا ودونه حتى ننظر إليه بأبصارنا، كما تجهر الركية، وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنفى ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا، يقال منه: قد جهرت الركية أجهرها جهرا وجهرة ولذلك قيل: قد جهر فلان بهذا الامر مجاهرة وجهارا: إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب: من اللائي يضل الالف منه مسحا من مخافته جهارا
[ 413 ]
وكما حدثنا به القاسم بن الحسن، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: حتى نرى الله جهرة قال: علانية. وحدثت، عن عمارة بن الحسن قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: حتى نرى الله جهرة يقول: عيانا. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حتى نرى الله جهرة: حتى يطلع إلينا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: حتى نرى الله جهرة: أي عيانا. فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم وسوء استقامة أسلافهم لانبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله عز وجل وعبره ما تثلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس وذلك مع تتابع الحجج عليه، وسبوغ النعم من الله لديهم. وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله ومرة يعبدون العجل من دون الله، ومرة يقولون لا نصدقك حتى نرى الله جهرة، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم فيقولون: حنطة في شعيرة، ويدخلون الباب من قبل أستاههم، مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام التي يكثر إحصاؤها. فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) أنهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا (ص)، وجحودهم نبوته، وتركهم الاقرار به وبما جاء به، مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم وآبائهم الذين فصل عليهم قصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى، مع عظيم بلاء الله عز وجل عندهم وسبوغ آلائه عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم. فقال بعضهم بما:
[ 414 ]
حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فأخذتكم الصاعقة قال: ماتوا. وحدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: فأخذتكم الصاعقة قال: سمعوا صوتا فصعقوا. يقول: فماتوا. وقال آخرون: بما: حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فأخذتكم الصاعقة والصاعقة: نار. وقال آخرون بما: حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وأصل الصاعقة: كل أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم، أو فقد بعض آلات الجسم، صوتا كان ذلك، أو نارا، أو زلزلة، أو رجفا. ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت، قول الله عز وجل: وخر موسى صعقا يعني مغشيا عليه. ومنه قول جرير بن عطية: وهل كان الفرزذق غير قرد أصابته الصواعق فاستدارا فقد علم أن موسى لم يكن حين غشي عليه وصعق ميتا لان الله عز وجل أخبر عنه أنه لما أفاق قال: تبت إليك ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا، ولكن معنى ذلك ما وصفنا. ويعني بقوله: وأنتم تنظرون: وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم، يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 415 ]
* (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) * يعني بقوله: ثم بعثناكم ثم أحييناكم. وأصل البعث: إثارة الشئ من محله، ومنه قيل: بعث فلان راحلته: إذا أثارها من مبركها للسير، كما قال الشاعر: فأبعثها وهي صنيع حول كركن الرعن ذعلبة وقاحا والرعن: منقطع أنف الجبل، والذعلبة: الخفيفة، والوقاح، الشديدة الحافر أو الخف. ومن ذلك قيل: بعثت فلانا لحاجتي: إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها. ومن ذلك قيل ليوم القيامة: يوم البعث، لانه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب. ويعني بقوله: من بعد موتكم من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم. وقوله: لعلكم تشكرون يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم بإحيائي إياكم استبقاء مني لكم لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم. وهذا القول على تأويل من تأول قوله ثم بعثناكم ثم أحييناكم. وقال آخرون: معنى قوله: ثم بعثناكم أي بعثناكم أنبياء. حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي. قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم، وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم، ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشركون. وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم. حدثنا بذلك موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي. وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه مع إجماع أهل التأويل على تخطئته. والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه أن يكون معنى قوله: لعلكم تشكرون تشكروني على تصييري إياكم أنبياء.
[ 416 ]
وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا له من قولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ما: حدثنا به محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه، ورأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لاخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا للقاء الله: يا موسى اطلب لنا إلى ربك لنسمع كلام ربنا فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا ؟ أي أن هذا لهم هلاك، اخترت منهم سبعين رجلا، الخير فالخير ارجع إليهم، وليس معي منهم رجل واحد، فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا ؟ إنا هدنا إليك. فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه، حتى رد إليهم أرواحهم، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فإنك قد
[ 417 ]
كلمته فأرناه. فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي، ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا. فأوحى الله إلى موسى إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء... إنا هدنا إليك وذلك قوله: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة. ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم، فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك، فادعه يجعلنا أنبياء فدعا الله تعالى، فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالالواح، قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الالواح فيها كتاب الله فيه أمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه فماله لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى ؟ فيقول: هذا كتابي فخذوه ؟ وقرأ قول الله تعالى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة قال: فجاءت غضبة من الله عز وجل، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله تعالى: ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله فقالوا لا، فقال: أي شئ أصابكم ؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله قالوا لا. فبعث الله تعالى ملائكة، فنتقت الجبل فوقهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم قال: أخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: فأخذتكم الصاعقة قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى
[ 418 ]
فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة قال: فسمعوا صوتا فصعقوا. يقول: ماتوا. فذلك قوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم فبعثوا من بعد موتهم لان موتهم ذاك كان عقوبة لهم، فبعثوا لبقية آجالهم. فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ولا خبر عندنا بصحة شئ مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى تقوم به حجة فتسلم لهم. وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه، فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة، فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كما أخبر عنهم أنهم قالوه. وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات توبيخا لهم في كفرهم بمحمد (ص)، وقد قامت حجته على من احتج به عليه، ولا حاجة لمن انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك. وقد قال الذين أخبرنا عنهم الاقوال التي ذكرناها، وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال. القول في تأويل قوله تعالى: * (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) * وظللنا عليكم عطف على قوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام، وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم لعلكم تشكرون. والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة، والغمام هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين، وكل مغطى فإن العرب تسميه مغموما. وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا. حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: وظللنا عليكم الغمام قال: ليس بالسحاب. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: وظللنا عليكم الغمام قال: ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة لم يكن إلا لهم. وحدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى،
[ 419 ]
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: وظللنا عليكم الغمام قال: هو بمنزلة السحاب. وحدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: وظللنا عليك الغمام قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: في ظلل من الغمام، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه. وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا مما غم السماء من شئ فغطى وجهها عن الناظر إليها، فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل فوصفه بأنه كان غماما بأولى بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شئ، وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب. القول في تأويل قوله تعالى: وأنزلنا عليكم المن. اختلف أهل التأويل في صفة المن. فقال بعضهم بما: حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: وأنزلنا عليكم المن قال: المن: صمغة. حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن قتادة في قوله: وأنزلنا عليكم المن والسلوى يقول: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج. وقال آخرون: هو شراب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: المن: شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه. وقال آخرون: المن: عسل. ذكر من قال ذلك:
[ 420 ]
حدثنا يونس بن عبد الاعلى، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: المن: عسل كان ينزل لهم من السماء. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن. وقال آخرون: المن: خبز الرقاق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد، قال: سمعت وهبا وسئل ما المن، قال: خبز الرقاق، مثل الذرة، ومثل النقي. وقال آخرون: المن: الترنجبين. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: المن كان يسقط على شجر الترنجبين. وقال آخرون: المن هو الذي يسقط على الشجر الذي تأكله الناس. ذكر من قال ذلك: حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان المن ينزل على شجرهم فيغدون عليه فيأكلون منه ما شاءوا. وحدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن مجالد. عن عامر في قوله: وأنزلنا عليكم المن قال: المن: الذي يقع على الشجر. وحدثت عن المنجاب بن الحرث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: المن قال: المن: الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر، قال: المن: هذا الذي يقع على الشجر. وقد قيل إن المن: هو الترنجبين.
[ 421 ]
وقال بعضهم: المن: هو الذي يسقط على الثمام والعشر، وهو حلو كالعسل، وإياه عنى الاعشى ميمون بن قيس بقوله: لو أطعموا المن والسلوى مكانهم ما أبصر الناس طعما فيهم نجعا وتظاهرت الاخبار عن رسول الله (ص) أنه قال: الكمأة من المن، ومأوها شفاء للعين. وقال بعضهم: المن: شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه. وأما أمية بن أبي الصلت فإنه جعله في شعره عسلا، فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه: فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا فعناها عليهم غاديات ومرى مزنهم خلايا وخورا عسلا ناطفا وماء فراتا وحليبا ذا بهجة ممرورا الممرور: الصافي من اللبن، فجعل المن الذي كان ينزل عليهم عسلا ناطفا، والناطف: هو القاطر.
[ 422 ]
القول في تأويل قوله تعالى: والسلوى والسلوى: اسم طائر يشبه السماني، واحده وجماعه بلفظ واحد، كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي (ص): السلوى: طير يشبه السماني. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: كان طيرا أكبر من السماني. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السلوى: طائر. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السلوى: طير. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد، قال: سمعت وهبا وسئل: ما السلوى ؟ فقال: طير سمين مثل الحمام. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: السلوى: طير. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: السلوى: كان طيرا يأتيهم مثل السماني. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن مجالد، عن عامر، قال: السلوى: السماني. حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: السلوى: هو السماني.
[ 423 ]
حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن مجالد، عن عامر، قال: السلوى: السماني. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن الضحاك، قال: السمانى هو السلوى. فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام وإنزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم ؟ قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك، ونحن ذاكرون ما حضرنا منه. فحدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالمسير إلى أريحا، وهي أرض بيت المقدس. فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا. وكان من أمرهم وأمر الجبارين، وأمر قوم موسى ما قد قص الله في كتابه، فقال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فغضب موسى، فدعا عليهم فقال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين فكانت عجلة من موسى عجلها فقال الله تعالى: إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض. فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه، فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى ؟ فلما ندم أوحى الله إليه أن لا تأس على القوم الفاسقين أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين. فلم يحزن. فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجر الترنجبين، والسلوى: وهو طير يشبه السماني، فكان يأتي أحدهم، فينظر إلى الطير إن كان سمينا ذبحه، وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى وقوله: وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما تاب الله عز
[ 424 ]
وجل على بني إسرائيل وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلى الارض المقدسة، وقال: إنني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم فسار بهم موسى إلى الارض المقدسة بأمر الله عز وجل، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام وهي أرض ليس فيها خمر ولا ظل، دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام، ودعا حدثني المثنى بن إبراهيم، لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المن والسلوى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس. وحدثت عن عمار بن الحسن، ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: وظللنا عليكم الغمام قال: ظلل عليهم الغمام في التيه: تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة، كلما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه، فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة. قال: وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى ولا تبلى ثيابهم، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد، قال: سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الارض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الارض شكوا إلى موسى، فقالوا: ما نأكل ؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا إلا أن يمطر علينا خبزا ؟ قال: إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل عليهم المن. سئل وهب: ما المن ؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي قالوا: وما نأتدم، وهل بد لنا من لحم ؟ قال: فإن الله يأتيكم به. فقالوا: من أين لنا إلا أن تأتينا به الريح ؟ قال: فإن الريح تأتيكم به، وكانت الريح تأتيهم بالسلوى فسئل وهب: ما السلوى ؟ قال: طير سمين مثل الحمام كانت تأتيهم فيأخذون منه من السبت إلى السبت قالوا: فما نلبس ؟ قال: لا يخلق لاحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نحتذي ؟ قال: لا ينقطع لاحدكم شسع أربعين سنة، قالوا: فإن فينا أولادا فما نكسوهم ؟ قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا
[ 425 ]
الماء ؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: فمن أين ؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر. فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فبم نبصر ؟ تغشانا الظلمة. فضرب لهم عمود من نور في وسط عسكرهم أضاء عسكرهم كله، قالوا: فبم نستظل ؟ فإن الشمس علينا شديدة قال: يظلكم الله بالغمام. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فذكر نحو حديث موسى بن هارون عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي. حدثني القاسم بن الحسن، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال: عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن. قال: وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا. القول في تأويل قوله تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم. وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه، وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله: وقلنا لكم... لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: كلوا من طيبات ما رزقناكم كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه. وقد قيل عنى بقوله: من طيبات ما رزقناكم من حلاله الذي أبحناه لكم، فجعلناه لكم رزقا. والاول من القولين أولى بالتأويل لانه وصف ما كان القوم فيه من هنئ العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك بالطيب الذي هو بمعنى اللذة أحرى من وصفه بأنه حلال مباح. وما التي مع رزقناكم بمعنى الذي كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه. القول في تأويل قوله تعالى: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم، فخالفوا ما أمرناهم به، وعصوا ربهم ثم رسولنا إليهم، وما ظلمونا. فاكتفى بما ظهر عما ترك. وقوله: وما ظلمونا يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ويعني بقوله: وما ظلمونا: وما وضعوا
[ 426 ]
فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. كما: حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون قال: يضرون. وقد دللنا فيما مضى على أن أصل الظلم وضع الشئ في غير موضعه بما فيه الكفاية، فأغنى ذلك عن إعادته. وكذلك ربنا جل ذكره لا تضره معصية عاص، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل بل نفسه يظلم الظالم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) * والقرية التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فيما ذكر لنا: بيت المقدس. ذكر الرواية بذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: ادخلوا هذه القرية قال: بيت المقدس. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذ قلنا ادخلوا هذذ القرية أما القرية فقرية بيت المقدس. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية يعني بيت المقدس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته يعني ابن زيد عن قوله: ادخلوا هذه القرية فكلوا منها قال: هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس. القول في تأويل قوله تعالى: فكلوا منها حيث شئتم رغدا. يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب. وقد بينا معنى الرغد فيما مضى من كتابنا، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه. القول في تأويل قوله تعالى: وادخلوا الباب سجدا.
[ 427 ]
أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه، فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ادخلوا الباب سجدا قال: باب الحطة من باب إيلياء من بيت المقدس. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وادخلوا الباب سجدا أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وادخلوا الباب سجدا أنه أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: سجدا فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع. حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ادخلوا الباب سجدا قال: ركعا من باب صغير. حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي، قال: ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: ادخلوا الباب سجدا قال: أمروا أن يدخلوا ركعا. وأصل السجود: الانحناء لمن سجد له معظما بذلك، فكل منحن لشئ تعظيما له فهو ساجد، ومنه قول الشاعر: بجمع تضل البلق في حجراته ترى ألاكم فيه سجدا للحوافر يعني بقوله: سجدا: خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
[ 428 ]
يراوح من صلوات الملي ك طورا سجودا وطورا جؤارا فذلك تأويل ابن عباس قوله: سجدا ركعا، لان الراكع منحن، وإن كان الساجد أشد انحناء منه. القول في تأويل قوله تعالى: وقولوا حطة. وتأويل قوله: حطة: فعلة، من قول القائل: حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة، بمنزلة الردة والحدة والمدة من حددت ومددت. واختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك منهم: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال أنبأنا معمر: وقولوا حطة قال الحسن وقتادة: أي احطط عنا خطايانا. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وقولوا حطة: يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطاياكم. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: قولوا حطة قال: يحط عنكم خطاياكم. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: حطة: مغفرة. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: حطة قال: يحط عنكم خطاياكم. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: أخبرني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء في قوله: وقولوا حطة قال: سمعنا أنه يحط عنهم خطاياهم. وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا لا إله إلا الله. كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول لا إله إلا الله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قالا: أخبرنا
[ 429 ]
حفص بن عمر، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة: وقولوا حطة قال: قولوا لا إله إلا الله. وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله الاستغفار. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي، ثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وقولوا حطة قال: أمروا أن يستغفروا. وقال آخرون نظير قول عكرمة، إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولوه هو أن يقولوا هذا الامر حق كما قيل لكم. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وقولوا حطة قال: قولوا هذا الامر حق كما قيل لكم. واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت الحطة، فقال بعض نحويي البصرة: رفعت الحطة بمعنى قولوا ليكن منكم حطة لذنوبنا، كما تقول للرجل سمعك. وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة، وفرض عليهم قيلها كذلك. وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت الحطة بضمير هذه، كأنه قال: وقولوا هذه حطة. وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة، فتكون حطة حينئذ خبرا ل ما. والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب، أن يكون رفع حطة بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا الباب سجدا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله: وادخلوا الباب سجدا كما قال جل ثناؤه: وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم يعني موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. فكذلك عندي تأويل
[ 430 ]
قوله: وقولوا حطة يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية... وادخلوا الباب سجدا وقولوا دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا، وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفا. وأما على تأويل قول عكرمة، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في حطة، لان القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: لا إله إلا الله، أو أن يقولوا: نستغفر الله، فقد قيل لهم: قولوا هذا القول، ف قولوا واقع حينئذ على الحطة، لان الحطة على قول عكرمة هي قول لا إله إلا الله، وإذ كانت هي قول لا إله إلا الله، فالقول عليها واقع، كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير، فقال له: قل خيرا نصبا، ولم يكون صوابا أن يقول له قل خير إلا على استكراه شديد. وفي إجماع القراء على رفع الحطة بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: وقولوا حطة. وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: وقولوا حطة أن تكون القراءة في حطة نصبا، لان من شأن العرب إذا وضعوا المصادر مواضع الافعال وحذفوا الافعال أن ينصبوا المصادر، كما قال الشاعر: أبيدوا بأيدي عصبة وسيوفهم على أمهات الهام ضربا شاميا وكقول القائل للرجل: سمعا وطاعة، بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة، وكما قال جل ثناؤه: معاذ الله بمعنى: نعوذ بالله. القول في تأويل قوله تعالى: نغفر لكم. يعني بقوله: نغفر لكم نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليه. وأصل الغفر: التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنة للرأس مغفر، لانها تغطي الرأس وتجنه،
[ 431 ]
ومنه غمد السيف، وهو ما يغمده فيواريه ولذلك قيل لزئبر الثوب غفر، لتغطيته العورة، وحوله بين الناظر والنظر إليها. ومنه قول أوس بن حجر: فلا أعتب ابن العم إن كان جاهلا وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه. القول في تأويل قوله تعالى: خطاياكم والخطايا جمع خطية بغير همز كما المطايا جمع مطية، والحشايا جمع حشية. وإنما ترك جمع الخطايا بالهمز، لان ترك الهمز في خطيئة أكثر من الهمز، فجمع على خطايا، على أن واحدتها غير مهموزة. ولو كانت الخطايا مجموعة على خطيئة بالهمز لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل، وصحيفة وصحائف. وقد تجمع خطيئة بالتاء فيهمز فيقال خطيئات، والخطيئة فعلية من خطئ الرجل يخطا خطأ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر: وإن مهاجرين تكنفاه لعمر الله قد خطئا وخابا
[ 432 ]
يعني أضلا الحق وأثما. القول في تأويل قوله تعالى: وسنزيد المحسنين. وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس، وهو ما: حدثنا به القاسم بن الحسن، قال: ثنا الحسين قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: وسنزيد المحسنين: من كان منكم محسنا زيد في إحسانه، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته. فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعا عليكم بغير حساب، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم، فنسترها عليه، ونحط أوزاره عنه، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لانبيائهم واستهزائهم برسله، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، ومعلمهم أنهم إن تعدوا في تكذيبهم محمدا (ص) وجحودهم نبوته مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم، أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم. وقص علينا أنباءهم في هذه الآيات، فقال جل ثناؤه: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء الآية. القول في تأويل قوله تعالى: * (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) * وتأويل قوله: فبدل فغير. ويعني بقوله: الذين ظلموا الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله. ويعني بقوله: قولا غير الذي قيل لهم بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه فقالوا خلافه، وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم. وكان تبديلهم بالقول الذي أمروا أن يقولوه قولا غيره، ما: حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن
[ 433 ]
همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله (ص): قال الله لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم، فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعيرة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد، قالا: حدثنا محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، عن النبي (ص). قال: وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي (ص) قال: دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا يزحفون على أستاههم يقولون حنطة في شعيرة. وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي (ص) في قوله: حطة قال: بدلوا فقالوا: حبة. حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي سعيد عن أبي الكنود، عن عبد الله: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ادخلوا الباب سجدا قال: ركوعا من باب صغير. فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم. ويقولون حنطة فذلك قوله: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا، ويقولوا
[ 434 ]
حطة قال: أمروا أن يستغفروا قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون حنطة يستهزئون، فذلك قوله: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة والحسن: ادخلوا الباب سجدا قالا: دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها، فدخلوها متزحفين على أوراكهم، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، فقالوا: حبة في شعيرة. حدثني محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة، وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم وقالوا حنطة. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا حطة، وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلم يسجدو ودخلوا على أستاههم إلى الجبل، وهو الجبل الذي تجلى له ربه وقالوا: حنطة. فذلك التبديل الذي قال الله عز وجل: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. حدثني موسى بن هارون الهمداني عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: هطى سمقا يا ازبة هزبا، وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء. فذلك قوله: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وادخلوا الباب سجدا قال: فدخلوا على أستاههم مقنعي رؤوسهم. حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي النضر بن عدي، عن عكرمة: وادخلوا الباب سجدا فدخلوا مقنعي رؤوسهم، وقولوا حطة فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قوله: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم.
[ 435 ]
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة قال: فكان سجود أحدهم على خده، وقولوا حطة نحط عنكم خطاياكم، فقالوا: حنطة، وقال بعضهم: حبة في شعيرة. فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم. قال: فاستهزءوا به يعني بموسى وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شئ حطة ؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة. حدثني محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد بن الحسن، قال: أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما دخلوا الباب قالوا حبة في شعيرة، فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم. القول في تأويل قوله تعالى: فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء. يعني بقوله: فأنزلنا على الذين ظلموا على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من تبديلهم القول الذي أمرهم الله عز وجل أن يقولوه قولا غيره، ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه رجزا من السماء بما كانوا يفسقون. والرجز في لغة العرب: العذاب، وهو غير الرجز، وذلك أن الرجز: البثر، ومنه الخبر الذي روي عن النبي (ص) في الطاعون أنه قال: إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله (ص) قال: إن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم.
[ 436 ]
وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي عن الشيباني عن رباح بن عبيدة، عند عامر بن سعد، قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله (ص): إن الطاعون رجز أنزل على من كان قبلكم أو على بني إسرائيل. وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله: رجزا قال: عذابا. حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء قال: الرجز: الغضب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم بعث الله عز وجل عليهم الطاعون، فلم يبق منهم أحدا. وقرأ: فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون. قال: وبقي الابناء، ففيهم الفضل والعبادة التي توصف في بني إسرائيل والخير، وهلك الآباء كلهم، أهلكهم الطاعون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرجز: العذاب، وكل شئ في القرآن رجز فهو عذاب. حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: رجزا قال: كل شئ في كتاب الله من الرجز، يعني به العذاب. وقد دللنا على أن تأويل الرجز: العذاب. وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء، وجائز أن يكون ذلك طاعونا، وجائز أن يكون غيره، ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت أي أصناف ذلك كان. فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنزلنا عليهم رجزا من
[ 437 ]
السماء بفسقهم. غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد للخبر الذي ذكرت عن رسول الله (ص) في إخباره عن الطاعون أنه رجز، وأنه عذب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا لان الخبر عن رسول الله (ص) لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا بكانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم. القول في تأويل قوله تعالى ذكره: بما كانوا يفسقون. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى الفسق: الخروج من الشئ. فتأويل قوله: بما كانوا يفسقون إذا بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل، فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره. القول في تأويل قوله تعالى: (* وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدون اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين) * يعني بقوله: وإذ استسقى موسى لقومه: وإذ استسقانا موسى لقومه: أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسؤول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، إذ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك. وكذلك قوله: فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر، فضربه فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه. وكذلك قوله: قد علم كل أناس مشربهم إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم، فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه. وقد دللنا فيما مضى على أن الناس جمع لا واحد له من لفظه، وأن الانسان لو جمع على لفظه لقيل: أناسي وأناسية. وقوم موسى هم بنو إسرائيل الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات، وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه، كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة،
[ 438 ]
عن قتادة قوله: وإذ استسقى موسى لقومه الآية قال: كان هذا إذ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ، فأمروا بحجر طوري أي من الطور أن يضربه موسى بعصاه، فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم. حدثني تميم بن المنتصر قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ذلك في التيه ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون، لكل سبط عين، ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الاول. حدثني عبد الكريم، قال: أخبرنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: ذلك في التيه، ضرب لهم موسى الحجر، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها. وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط منهم عين، كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا. حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: وإذ استسقى موسى لقومه قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ضربه موسى. قال ابن جريج، قال ابن عباس: الاسباط: بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا أمة من الناس. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة. قال: يلقونه في جوانب الجوالق إذا ارتحلوا، ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين. فكان بنو إسرائيل يشربون منه، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون،
[ 439 ]
وقيل به فألقي في جانب الجوالق، فإذا نزل رمي به. فقرعه بالعصا، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثني أسباط، عن السدي، قال: كان ذلك في التيه. وأما قوله: قد علم كل أناس مشربهم فإنما أخبر الله عنهم بذلك، لان معناهم في الذي أخرج الله عز وجل لهم من الحجر الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والارضين التي لا مالك لها سوى الله عز وجل وذلك أن الله كان جعل لكل سبط من الاسباط الاثنى عشر عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية يشرب منها دون سائر الاسباط غيره لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم أن كل أناس منهم كانوا علمين بمشربهم دون غيرهم من الناس إذ كان غيرهم في الماء الذي لا يملكه أحد شركاء في منابعه ومسايله وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر دون سائر منابعه خاص لهم دون ساء الاسباط غيرهم فلذلك خصوا بالخبر عنهم أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم. القول في تأويل قوله تعالى (كلوا واشربوا من رزق الله) وهذا أيضا مما استغنى بذكر ما هو ظاهر منه. عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور الذي لا قرار له في الارض ولا سبيل إليه لمالكيه يتدفق بعيون الماء ويزخر بينابيع العذب الفرات بقدرة ذي الجلال والاكرام ثم تقدم جل ذكره إليهم مع إباحتهم ما أباح وإنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من العيش الهنئ بالنهي عن السعي في الارض فسادا والعثا
[ 440 ]
فيها استكبارا فقال جل ثناؤه: لهم ولا تعثوا في الارض مفسدين القول في تأويل قوله تعالى: * (ولا تعثوا في الارض مفسدين) * يعني بقوله لا تعثوا لا تطغوا ولا تسعوا في الارض مفسدين كما: حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ولا تعثوا في الارض مفسدين يقول: لا تسعوا في الارض فسادا. حدثنى يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله ولا تعثوا في الارض مفسدين لا تعث لا تطع. حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة ولا تعثوا في الارض مفسدين أي لا تسيروا في الارض مفسدين حدثت عن المنجاب قال حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس ولا تعثوا في الارض مفسدين لا تسعوا في الارض وأصل العثا شدة الافساد بل هو أشد الافساد يقال منه عثى فلان في الارض إذا تجاوز في الافساد إلى غايته يعثى عثا مقصور وللجماعة هم يعثون وفيه لغتان أخريان أحدهما عثا يعثوا عثوا ومن قرأها بهذه اللغة فأنه ينبغي له أن يضم الثاء من يعثوا ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال: عثوت أعثو ومن نطق باللغة الاولى قال عثيت أعثى والاخرى منهما عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا كل ذلك بمعنى واحد ومن العيث قول رؤبة بن العجاج: وعاث فينا مستحل عائث مصدق أو تاجر مقاعث يعني بقوله عاث فينا أفسد فينا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)
[ 441 ]
قد دللنا فيما مضى قبل على معنى الصبر وأنه كف النفس وحبسها عن الشئ فإذا كان ذلك كذلك فمعنى الآية إذا واذكروا إذ قلتم يا معشر بني إسرائيل. لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم وهو السلوى في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو الخبز النقي مع اللحم فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من البقل والقثاء. وما سمى الله مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى. وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا، ما: حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فسألوه موسى، فقال الله تعالى: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لن نصبر على طعام واحد قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك، قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها... الآية. حدثني المثنى ابن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد قال: كان طعامهم السلوى، وشرابهم المن، فسألوا ما ذكر، فقيل لهم: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. قال أبو جعفر، وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشأم فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها، فقالوا: ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها وكانوا قد ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، قال:
[ 442 ]
سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: لن نصبر على طعام واحد المن والسلوى، فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله سواء. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بمثله. حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أعطوا في التيه ما أعطوا، فملوا ذلك. ] تأويل قوله تعالى: * (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها) * حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أنبأنا ابن زيد، قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا، وشرابهم واحدا، كان شرابهم عسلا ينزل لهم من السماء يقال له المن، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره. فقالوا: يا موسى إنا لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها فقرأ حتى بلغ: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. وإنما قال جل ذكره: يخرج لنا مما تنبت الارض ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الارض، فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الارض من بقلها وقثائها، لان من تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها، فاكتفي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام يريد شيئا منه. وقد قال بعضهم: من ههنا بمعنى الالغاء والاسقاط، كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الارض من بقلها. واستشهد على ذلك بقول العرب: ما رأيت من أحد، بمعنى: ما رأيت أحدا، وبقول الله: ويكفر عنكم من سيئاتكم وبقولهم: قد كان من حديث، فخل عني حتى أذهب، يريدون: قد كان حديث.
[ 443 ]
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون من بمعنى الالغاء في شئ من الكلام، وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه، وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم. فتأويل الكلام إذا على ما وصفنا من أمر من ذكرنا: فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الارض من بقلها وقثائها. والبقل والقثاء والعدس والبصل، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الارض وحبها. وأما الفوم، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز. ذكر من قال ذلك. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد ومؤمل، قالا: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: الفوم: الخبز. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد قوله: وفومها قالا: خبزها. حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو، قالا: ثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وفومها قال: الخبز. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: الفوم: هو الحب الذي تختبزه الناس. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن بمثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: وفومها قال: الحنطة. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط بن نصر عن السدي: وفومها الحنطة. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن وحصين، عن أبي مالك في قوله: وفومها: الحنطة. حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم: الحب الذي يختبز الناس منه. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال:
[ 444 ]
قال لي عطاء بن أبي رباح قوله: وفومها قال: خبزها. قالها مجاهد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال لي ابن زيد: الفوم: الخبز. حدثني يحيى بن عثمان السهمي، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: وفومها يقول: الحنطة والخبز. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وفومها قال: هو البر بعينه الحنطة. حدثنا علي بن الحسن، قال: ثنا مسلم الجرمي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: وفومها قال: الفوم: الحنطة بلسان بني هاشم. حدثني عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم، قال: ثنا عبد العزيز بن منصور، عن نافع بن أبي نعيم أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: وفومها قال: الحنطة، أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول: قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ورد المدينة عن زراعة فوم وقال آخرون: هو الثوم. ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، قال: هو هذا الثوم. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الفوم: الثوم. وهو في بعض القراءات وثومها. وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا فوما من اللغة القديمة، حكي سماعا من أهل هذه اللغة: فوموا لنا، بمعنى اختبزوا لنا وذكر أن
[ 445 ]
ذلك قراءة عبد الله بن مسعود وثومها بالثاء. فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة، كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وكقولهم للاثافي أثاثي، وللمغافير مغاثير، وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. والمغافير شبيه بالشئ الحلو يشبه بالعسل ينزل من السماء حلوا يقع على الشجر ونحوها. القول في تأويل قوله تعالى: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. يعني بقوله: قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير قال لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا وذلك كان استبدالهم. وأصل الاستبدال: هو ترك شئ لآخر غيره مكان المتروك. ومعنى قوله: أدنى أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا، وأصله من قولهم: هذا رجل دني بين الدناءة، وإنه ليدني في الامور بغير همز إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك سماعا منهم، يقولون: ما كنت دنيا ولقد دنأت. وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الاعشى: باسلة الوقع سرابيلها بيض إلى دانئها الظاهر بهمز الدانئ، وأنه سمعهم يقولون: إنه لدانئ خبيث، بالهمز. فإن كان ذلك عنهم صحيحا، فالهمز فيه لغة وتركه أخرى. ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه. وقد تأول بعضهم قوله: الذي هو أدنى بمعنى الذي هو أقرب، ووجه قوله: أدنى إلى أنه أفعل من الدنو الذي هو بمعنى القرب. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: الذي هو أدنى قاله عدد من أهل التأويل في تأويله. ذكر من قال ذلك:
[ 446 ]
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه ؟. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: الذي هو أدنى قال: أردأ. القول في تأويل قوله تعالى: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. وتأويل ذلك: فدعا موسى فاستجبنا له، فقلنا لهم: اهبطوا مصر. وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الهبوط إلى المكان إنما هو النزول إليه والحلول به. فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش بالذي هو خير منه ؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم. ثم اختلف القراء في قراءة قوله: مصرا فقرأه عامة القراء: مصرا بتنوين المصر و إجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الالف منه. فأما الذين نونوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الامصار لا مصرا بعينه، فتأويله على قراءتهم: اهبطوا مصرا من الامصار، لانكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والامصار، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالاجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده: اهبطوا مصرا البلدة التي تعرف بهذا الاسم وهي مصر التي خرجوا عنها، غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف، لان في المصحف ألفا ثابتة في مصر، فيكون سبيل قراءته ذلك بالاجراء والتنوين سبيل من قرأ: قواريرا قواريرا من فضة منونة اتباعا منه خط المصحف. وأما الذي لم ينون مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها. وقد اختلف أهل التأويل في ذلك نظير اختلاف القراء في قراءته.
[ 447 ]
فحدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: اهبطوا مصرا أي مصرا من الامصار فإن لكم ما سألتم. وحدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط عن السدي: اهبطوا مصرا من الامصار، فإن لكم ما سألتم فلما خرجوا من التيه رفع المن والسلوى وأكلوا البقول. وحدثني المثنى، قال: حدثني آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: اهبطوا مصرا قال: يعني مصرا من الامصار. وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: اهبطوا مصرا قال: مصرا من الامصار، زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: اهبطوا مصرا قال: مصرا من الامصار. ومصر لا تجري في الكلام، فقيل: أي مصر ؟ فقال: الارض المقدسة التي كتب الله لهم. وقرأ قول الله جل ثناؤه: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم. وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: اهبطوا مصرا قال: يعني به مصر فرعون. حدثت عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. ومن حجة من قال: إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: اهبطوا مصرا مصرا من الامصار دون مصر فرعون بعينها، أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر، وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة إذ قال لهم: يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين إلى قوله: إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. فحرم الله عز وجل على قائلي ذلك فيما ذكر
[ 448 ]
لنا دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الارض أربعين سنة، ثم أهبط ذريتهم الشام، فأسكنهم الارض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله عز وجل قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الارض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر، ونتأوله أنه ردهم إليها. قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل. قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك وأما الذين قالوا: إن فملكهم إياها ولم يردهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم الله إنما عنى بقوله عز وجل: اهبطوا مصر مصر، فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل وقوله: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين. قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو يصر بعضهم إليها. قالوا: وأخرى أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: اهبطوا مصر بغير ألف، قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها. والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول (ص) يقطع مجيئه العذر، وأهل التأويل متنازعون تأويله. فأولى الاقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الارض على ما بينه الله عز وجل في كتابه وهم في الارض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الارض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والامصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بالالف والتنوين: اهبطوا مصرا وهي القرائة التي لا يجوز عندي غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه
[ 449 ]
وإسقاط الالف منه إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينها. القول في تأويل قوله تعالى: وضربت عليهم الذلة والمسكنة. قال أبو جعفر: يعني بقوله: وضربت أي فرضت، ووضعت عليهم الذلة وألزموها من قول القائل: ضرب الامام الجزية على أهل الذمة، وضرب الرجل على عبده الخراج يعني بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الامير على الجيش البعث، يراد به ألزمهموه. وأما الذلة، فهي الفعلة من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة، كالصغرة من صغر الامر، والقعدة من قعد، والذلة: هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ماهم عليه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال عز وجل: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. كما: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: وضربت عليهم الذلة قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأما المسكنة، فإنها مصدر المسكين، يقال: ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول: تمسكن تمسكنا. والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما: حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: والمسكنة قال: الفاقة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قوله: وضربت عليهم الذلة والمسكنة قال: الفقر. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:
[ 450 ]
وضربت عليهم الذلة والمسكنة قال هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر، قال: وما لقبط مصر وهذا ؟ لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود يهود بني إسرائيل. فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا، وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته وقتلهم أنبياءه ورسله اعتداء وظلما منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافا عليه. القول في تأويل قوله تعالى: وباءوا بغضب من الله. قال أبو جعفر: يعني بقوله: وباءوا بغضب من الله انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاوبواء. ومنه قول الله عز وجل إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط. كما: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: وباءوا بغضب من الله فحدث عليهم غضب من الله. حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: وباءوا بغضب من الله قال: استحقوا الغضب من الله. وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق. قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ذلك ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله: ذلك وهو يعني به ما وصفنا على أن قول القائل ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
[ 451 ]
ويعني بقوله: بأنهم كانوا يكفرون: من أجل أنهم كانوا يكفرون، يقول: فعلنا بهم من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، كما قال أعشى بني ثعلبة: مليكية جاورت بالحجاز قوما عداة وأرضا شطيرا بما قد تربع روض القطا وروض التناضب حتى تصيرا يعني بذلك: جاورت بهذا المكان هذه المرأة قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله بمكان قربها كان منه ومن قومه وبدلا من تربعها روض القطا وروض التناضب. فكذلك قوله: وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا. وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشئ وستره، وأن آيات الله: حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله. فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده، وتصديق رسله ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها. ويعني بقوله: ويقتلون النبيين بغير الحق: ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لانباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه. وهم جماع واحدهم نبي غير مهموز، وأصله الهمز، لانه من أنبأ عن الله، فهو ينبئ عنه إنباء، وإنما الاسم منه منبئ ولكنه صرف وهو مفعل إلى فعيل، كما صرف سميع إلى فعيل من مفعل، وبصير من مبصر، وأشباه ذلك، وأبدل مكان الهمزة من النبئ الياء، فقيل نبي هذا. ويجمع النبي أيضا على أنبياء، وإنما
[ 452 ]
جمعوه كذلك لالحاقهم النبئ بإبدال الهمزة منه ياء بالنعوت التي تأتي على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو، وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو جمعوه على أفعلاء، كقولهم ولي وأولياء، ووصي وأوصياء، ودعي وأدعياء، ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله، وعلى أن الواحد نبئ مهموز لجمعوه على فعلاء، فقيل لهم النبآء، على مثال النبغاء، لان ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء، والعليم علماء، والحكيم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب في جمع النبي النبآء، وذلك من لغة الذين يهمزون النبئ، ثم يجمعونه على النبآء على ما قد بينت، ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي (ص): يا خاتم النبآء إنك مرسل بالخير كل هدى السبيل هداكا فقال: يا خاتم النبآء، على أن واحدهم نبئ مهموز. وقد قال بعضهم: النبي والنبوة غير مهموز، لانهما مأخوذان من النبوة، وهي مثل النجوة، وهو المكان المرتفع. وكان يقول: إن أصل النبي الطريق، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي: لما وردن نبيا واستتب بها مسحنفر كخطوط السيح منسحل يقول: إنما سمي الطريق نبيا، لانه ظاهر مستبين من النبوة. ويقول: لم أسمع أحدا يهمز النبي. قال: وقد ذكرنا ما في ذلك وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.
[ 453 ]
ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق): أنهم كانوا يقتلوون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوتهم. القول في تأيل قوله تعالى: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). وقوله: (ذلك) رد على " ذلك " الاولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، من أجل كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحق، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه: (ذلك بما عصوا) والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء: تجاوز الحد الذي ده الله لعباده إلى غيره، وكل متجاوز حد شئ إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه. القول في تأويل قوله تعالى: (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصرى والصبئين من ءامن بالله واليوم الاخر وعمل صلحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)). قال أبو جعفر: أما الذين آمنوا فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله، وأيمانهم بذلك: تصديقهم به على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا. وأما الذين هادوا، فهم اليهود، ومعنى هادوا: تابوا، يقال منه: هاد القوم يهودون هودا وهادة. وقيل: إنما سميت اليهود يهود من أجل قولهم: (إن هدنا إليك) (1). 914 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاح، عن ابن جريج، قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: (إن هدنا إليك) (1). القول في تأويل قوله تعالى: (والنصارى). قال أبو جعفر: والنصارى جمع، واحدهم نصران، كما واحد سكارى سكران، وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واده على فلان، فإن جمعه على فعالى، إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد النصارى نصراني. وقد حكي عنهم سماعا " نصران " بطرح الياء، ومنه قول الشاعر: (1) سورة الاعراف، الاية: 156. (*)
[ 454 ]
تراه إذا زار العشي محنفا ويضحي لديه وهو نصران شامس (1) وسمع منهم في الانثى نصرانة، قال الشاعر: فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف (2) يقال: أسجد: إذا مال. وقد سمع في جمعهم أنصار بمعنى النصارى، قال الشاعر: لما رأيت نبطا أنصارا شمرت عن ركبتي الازارا كنت لهم من النصارى جارا وهذه الابيات التي ذكرتها تدل على أنهم سموا نصارى لنصرة بعضهم بعضا وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها " ناصرة ". 915 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال حدثني حجاج، عن ابن جريج: النصارى إنما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة. ويقول آخرون: لقوله: (من أنصاري إلى الله) (3). وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضى أنه كان يقول: إنما سميت الناصري نصارى، لان قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى: الناصري. 916 - حدثت بذلك عن هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس. 917 - حدثنا بشر، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: إنما سموا نصارى لانهم كانوا بقرية يقال لهم ناصرة ينزلها عيسى ابن مريم، فهو اسم تسموا به ولم يؤمروا به. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن (1) محنفا: صار إلى الحنيفية. ولديه: أي لدى العشي. وشامس: مستقبل الشمس. (2) البيت لابي خزر الحماني. ذكره سيبويه في الكتاب (3 / 256 و 411) وابن منظور في اللسان (مادة حنف). يصف ناقتين خرتا من الاعياء أو نحرتا فطأطأتا رؤوسهما، فشبه إسجادهما بسجود النصرانة. والاسجاد: طأطأة الرأس. والسجود: وضع الجبهة على الارض، أوو هما بمعنى طأطأة خ الرأس. والتحنف: اعتناق الحنيفية، أي الاسلام. (3) سورة الصف، الاية 14. (*)
[ 455 ]
قتادة في قوله: (الذين قالوا إنا نصارى) قال: تسموا بقرية يقال لها ناصرة، كان عيسى ابن مريم ينزلها. القول في تأويل قوله تعالى: (والصابئين) قال أبو جعفر: والصابئون جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الاسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب صابئا، يقال منه: صبأ فلان يصبأ صبأ، ويقال: صبأت النجوم: إذا طلعت، وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا يعني به طلع. واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم. ذكر من قال ذلك: 918 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: (الصابئون) ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم. * - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الحجاج بن أرطأة، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، مثله. 919 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن مجاهد، قال: الصابئون بين المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. 920 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن حجاج، عن قتادة، عن الحسن مثل ذلك. 921 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح: الصابئين اليهود والمجوس لا دين لهم. * - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: الصابئين بين المجوس واليهود، لا دين لهم.
[ 456 ]
قال ابن جريج: قلت لعطاء: " الصابئين " زعموا أنها قبيلة من نحو السواد (1) ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك، وقد قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: قد صبأ. 922 - وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (الصابئون) قال: الصابئون: دين من الاديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: " لا إله إلا الله "، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون. يشبهونهم بهم. وقال آخرون: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة. ذكر من قال ذلك: 923 - حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: حدثني زياد: أن الصابئين يصولن إلى القبلة ويصولن الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة. 924 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والصابئين) قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة، ويقرءون الزبور. 925 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور، ويصلون إلى القبلة. وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: 926 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي عن سفيان، قال: سئل السدي عن الصابئين فقال: هم طائفة من أهل الكتاب. القول في تأويل قوله تعالى: (من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم) (1) يعني سواد العراق. (*)
[ 457 ]
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (من آمن بالله واليوم الاخر): من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم، يعني بقوله: (فلهم أجرهم عند ربهم) فلهم ثواب علمهم الصال عند ربهم. فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) ؟ قيل: تمامه جملة قوله: (من آمن بالله واليوم الاخر) لان معناه: من آمن منهم بالله واليوم الاخر فترك ذكر منهم لدلالة الكلام عليه استغناء بما ذكر عما ترك ذكره. فإن قال: وما معنى هذا الكلام ؟ قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من يؤمن بالله واليوم الاخر فلهم أجرهم عند ربهم. فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن ؟ قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته من انتقال من دين إلى دين كانتقال اليهودي والنصراني إلى الايمان، وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى، وبما جاء به، حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فآمن به وصدقه، فقيل لاولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به، ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وربما جاء به فمن يؤمن منهم بمحمد، وبما جاء به واليوم الاخر، ويعمل صالا، فلم يبدل ولم يغير، حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه. فإن قال قائل: وكيف قال: فلهم أجرهم عند ربهم، وإنما لفظه من لفظ واحد، والفعل معه موحد ؟ قيل: " من " وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا، فإن له معنى الواحد والاثنين والجمع والتذكير والتأنيث، لانه في كل هذه الاحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير، فالعرب توحد معه الفعل وإن كان في معنى جمع للفظه، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه، كما قال جل ثناؤه: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) (1) فجمع مرة مع من الفعل لمعناه، ووحد أخرى معه الفعل، لانه في لفظ الواحد، كما قال الشاعر: (1) سورة يونس، الايتان: 42 و 43. (*)
[ 458 ]
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما وقولا لها عوجي على من تخلفوا (1) فقال: تخلوفا، وجعل " من " بمنزلة الذين. وقال الفرزدق: تعالى فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (2) فثنى يصطحبان لمعنى " من ". فكذلك قوله (من آمن بالله واليوم الاخر فلهم أجرهم عند ربهم) وحد آمن وعمل صالحا للفظ من، وجمع ذكرهم في قوله: (فلهم أجرهم) لمعناه، لانه في معنى جمع. وأما قوله: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنن) فإنه يعني به جل ذكره، ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده. ذكر من قال عني بقوله: (من آمن بالله): مؤمنوا أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: 927 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط بن نصر، عن السدي: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الاية، قال: نزلت هذه الاية في أصحاب سلمان الفارسي، وكان سلمان من جنديسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الملك صديقا له مواخيا، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد إذ رفع لهما بيت من عباء (3)، فأتياه هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي، فسألاه ما هذا، فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما، فنزلا إليه، فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله، أمر يه بطاعته، ونهى عن معصيته، فيه: أن لا تزني، ولا تسرق، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه، وهو الانجيل الذي أنزله الله على عيسى. فوقع في (1) عرضتما: من قولهم: عرض الرجل، إذا أتى العروض، وهي مكة والمدينة وما حولهما. (2) في الديوان: " تعش فإن واثقتني " والرواية المشهورة: " تعش فإن عاهدتني ". وكان الفرزدق قد اجتزر شاة ثم أعجله المسير فسار بها، فجاء الذئب فحركها وهي مربوطة على بعير، فأبصر الفرزدق الذئب وهو ينهشها، فقطع رجل الشاة فرمى بها إليه. فأخذها وتنحى ثم عاد. فقطع له اليد فرمى بها إليه. فلما أصبح القوم خبرهم الفرزدق. والبيت في كتاب سيبويه (ج ص ص 416). (3) العباء: ضرب من الاكسية فيه خطوط سود كبار. (*)
[ 459 ]
قلوبهما وتابعاه فأسلما، وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام، فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه حتى كان عيد للملك، فجعل طعاما، ثم جمع الناس والاشراف، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكلمع الناس، فأبى الفتى وقلا: إني عنك مشغول، فكل أنت وأصحابك، فلما أكث عليه من الرسل، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم، فبعث الملك إلى ابنه، فدعاه وقال: ما أمرك هذا ؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم، إنكم كفار ليس تحل ذبائحكم، فقال له الملك: من أمرك بهذا ؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك، فدعا الراهب فقال: ما ذا يقول ابني ؟ قال: صدق ابنك، قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا ! فأجله أجلا. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقين، فإنا في بيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها، فأتونا فيها. فخرج الواهب، وبقي سلمان وابن الملك، فجعلي قول لابن الملك: انطلق بنا، وابن الملك يقول: نعم، وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان، خرج سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه وهو رب البيعة، وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان، فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة، ويتعب نفسه، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة معهم يجتهد في العبادة، ويتعب نفسه، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق، وأنا خائف أن تفتر وتعجز، فارفق بنفسك وخفف عليها ! فقال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل، أو الذي أصنع ؟ قال: بل الذي تصنع ؟ قال: فخل عني. ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي، وأا أحق الناس بها، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت ؟ ولكني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق، قال له سلمان،: أي البيعتين أفضل أهلا ؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صابح البيعة عالم البيعة بسلمان، فكان سلمان يتعبد معهم، ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس، فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق، وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل أنطلق معك أم أقيم ؟ قال: لا بل تنطلق معي. فانطلق معه فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى، فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله، فلم يكلمه، ولم ينظر إليه، وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس، فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الارض. فخرج سلمان يسمع منهم، فرجع يوما حزينا، فقال له الشيخ: مالك يا سلمان ؟ قلا: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الانبياء وأتباعهم، فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن، فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه وهذا زمانه الذي
[ 460 ]
يخرج فيه، ولا أراني أدركه، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه، وهو يخرج في أرض العرب، فإن أدركته فآمن به واتبعه ! فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشئ. قال: نعم، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد، فناداهما فقال: يا سيد الرهبان ارحمني يرحمك الله، فعطف إليه حماره، فأخذ بيده فرفعه، فضرب به الارض ودعا له، وقال: قم بإذن الله، فقام صحيحا يشتد (1)، فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان ولا يعلم سلمان. ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب، فلقيه رجلان من العرب من كلب فسألهما: هل رأيتما الراهب ؟ فأناخ أحدهما راحلته، قال: نعم راعي الصرمة (2) هذا، فمله فانطلق به إلى المدينة. قال سلمان: فأصابني من الحزن شئ لم يصبني مثله قط، فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها وهو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يوما يرعى، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه (3)، فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي ؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك. فهبط سلمان إلى المدينة، فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد، فأرسل ثوبه، حتى خرج خاتمه، فلما رآه أتاه وكلمه، ثم انطلق، فاشترى بدينار ببعضه شاة وببعضه خبزا، ثم أتاه به، فقال: " ما هذا ؟ " قال سلمان: هذه صدقة قال: " لا حاجة لي بها فأخرجها فليأكلها المسلمون ". ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ما هذا ؟ " قال: هذه هدية، قال: " فاقعد "، فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: " يا سلمان هم من أهل النار ". فاشتد ذلك على سلمان، وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك، فأنزل الله هذه الاية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الاخر) (4). فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى حتى جاء عيسى، فلما جاء (1) يشتد: يعدو ويسرع. (9 2 الصرمة: القطيع من الابل والغنم. (3) أي الذي يأتي بعده في نوبته. (4) هذا الحديث عن السدي، فهو منقطع. ورواه بطوله من حديث سلمان الفارسي: الامام أحمد في المسند (ج 9 حديث رقم 23798). (*)
[ 461 ]
عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا. وإيمان النصارى أنه من تمسك بالانجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه، حتى جاء محمدا صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والانجيل كان هالكا. 928 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) الاية. قال: سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لم يموتوا على الاسلام. قال سلمان: فأظلمت علي الارض. وذكر اجتهادهم، فنزلت هذه الاية، فدعا سلمان فقال: " نزلت هذه الاية في أصحابك ". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات على دين عيسى ومات على الاسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك " (1). وقال ابن عباس بما: 929 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صال، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) إلى قوله: (ولا هم يحزنون). فأنزل الله تعالى بعد هذا: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين) (2). وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين على عمله في الاخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) (2). فتأويل الاية إذا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الامة، والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن من اليهود والصابئين بالله واليوم الاخر، (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). والذي قلنا من التأويل أشبه بظاهر التنزيل، لان الله جل ثناؤه لم يخصص بالاجر على العمل الصالح مع الايمان بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: (من آمن بالله واليوم الاخر) عن جميع ما ذكر في أول الاية. قول في تأويل قوله: (1) وهذا الحديث أيضا متقطع. وهو إسناد آخر للحديث السابق. (2) سورة آل عمران، الاية: 85. (*)
[ 462 ]
* (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) * قال أبو جعفر: الميثاق: المفعال من الوثيقة إما بيمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. ويعني بقوله: وأذ أخذنا ميثاقكم الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم فيما ذكره ابن زيد ما: حدثني به يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالالواح قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الالواح فيها كتاب الله، وأمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت ؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى فيقول: هذا كتابي فخذوه ؟ قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله فقالوا: لا، قال: أي شئ أصابكم ؟ قالوا: متنا ثم حيينا، قال: خذوا كتاب الله قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا ؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم قال: فأخذوه بالميثاق. وقرأ قول الله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا حتى بلغ: وما الله بغافل عما تعملون قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة لاخذوه بغير ميثاق. القول في تأويل قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور. قال أبو جعفر: وأما الطور فإنه الجبل في كلام العرب، ومنه قول العجاج: دانى جناحيه من الطور فمرتقضي البازي إذا البازي كسر
[ 463 ]
وقيل إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت. ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان: حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم، وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل يقول: أخرج أصل الجبل من الارض فرفعه فوقهم كالظلة، والطور بالسريانية: الجبل تخويفا أو خوفا، شك أبو عاصم فدخلوا سجدا على خوف وأعينهم إلى الجبل، وهو الجبل الذي تجلى له ربه. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة، فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم، فآمنوا. والجبل بالسريانية: الطور. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور قال: الطور: الجبل، كانوا بأصله فرفع عليهم فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذن أمري أو لارمينكم به. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: ورفعنا فوقكم الطور قال: الطور: الجبل اقتلعه الله فرفعه فوقهم، فقال: خذوا ما آتيناكم بقوة فأقروا بذلك. وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر عن الربيع، عن أبي العالية: ورفعنا فوقكم الطور قال: رفع فوقهم الجبل يخوفهم به. حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة، قال: الطور: الجبل. وحدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن
[ 464 ]
السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فأبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر. فرحمهم الله، فكشفه عنهم. فذلك قوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وقوله: ورفعنا فوقكم الطور. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الجبل بالسريانية: الطور. وقال آخرون: الطور: اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس الطور: الجبل الذي أنزلت عليه التوراة، يعني على موسى، وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم، فذلك قوله: كأنه ظلة. وقال آخرون: الطور من الجبال: ما أنبت خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: الطور قال: الطور من الجبال: ما أنبت، وما لم ينبت فليس بطور. القول في تأويل قوله تعالى: خذوا ما آتيناكم بقوة. قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك، فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له، وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بقوة، وإلا قذفناه عليكم. وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه، فيكون من كلامين غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بمعنى القول أن يكون معه أن كما قال الله جل ثناؤه: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك قال: ويجوز أن تحذف أن.
[ 465 ]
والصواب في ذلك عندنا أن كل كلام نطق به مفهوم به معنى ما أريد ففيه الكفاية من غيره، ويعني بقوله: خذوا ما آتيناكم: ما أمرناكم به في التوراة، وأصل الايتاء: الاعطاء. ويعني بقوله: بقوة بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم. كما: حدثت عن إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا ابن عيينة، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: خذوا ما آتيناكم بقوة قال: تعملوا بما فيه. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: خذوا ما آتيناكم بقوة قال: بطاعة. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: خذوا ما آتيناكم بقوة قال: القوة: الجد، وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: بقوة: يعني بجد واجتهاد. وحدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد وسألته عن قول الله: خذوا ما آتيناكم بقوة قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق وبحق. فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض فاقبلوه واعملوا باجتهاد منكم في أدائه من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة بجد. القول في تأويل قوله تعالى: واذكروا ما فيه لعلكم تتقون. قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد وترغيب وترهيب، فاتلوه واعتبروا به وتدبروه إذا فعلتم ذلك كي تتقوا وتخافوا عقابي بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس: لعلكم تتقون قال: تنزعون عما أنتم عليه.
[ 466 ]
والذي آتاهم الله هو التوراة. كما: حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: واذكروا ما فيه يقول: اذكروا ما في التوراة. كما حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: اذكروا ما فيه يقول: أمروا بما في التوراة. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله: وذكروا ما فيه قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق، قال: وقال اذكروا ما فيه لا تنسوه ولا تغفلوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) * قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ثم توليتم ثم أعرضتم. وإنما هو تفعلتم من قولهم: ولاني فلان دبره: إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره، ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها عز وجل معرض بوجهه، يقال: قد تولى فلان عن طاعة فلان، وتولى عن مواصلته. ومنه قول الله جل ثناؤه: فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ونبذوا ذلك وراء ظهورهم، ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها، كما قال أبو ذؤيب الهذلي: فليس لعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى الحق شيئا واستراح العواذل يعني بقوله: أحاطت بالرقاب السلاسل أن الاسلام صار في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية مما حرمه الله علينا في الاسلام بمنزلة السلاسل المحيطة برقابنا التي تحول بين
[ 467 ]
من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده وبين ما حاول أن يتناوله. ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى، فكذلك قوله: ثم توليتم من بعد ذلك يعني بذلك أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به والقيام بما أمركم به في كتابكم فنبذتموه وراء ظهوركم. وكني بقوله جل ذكره: ذلك عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة، أعني قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور. القول في تأويل قوله تعالى: فلولا فضل الله عليكم ورحمته. قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: فلولا فضل الله عليكم فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه، إذ رفع فوقكم الطور، بأنكم تجتهدون في طاعته، وأداء فرائضه، والقيام بما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم، فأنعم عليكم بالاسلام ورحمته التي رحمكم بها، وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها بمراجعتكم طاعة ربكم لكنتم من الخاسرين. وهذا وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) من أهل الكتاب أيام رسول الله (ص)، فإنما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم على نحو ما قد بينا فيما مضى من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره بما مضى من فعل أسلاف المخاطب بأسلاف المخاطب، فتضيف فعل أسلاف المخاطب إلى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى. وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به والفعل لغيرهم لان المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم. وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك، لان سامعيه كانوا عالمين، وإن كان الخطاب خرج خطابا للاحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب إذ المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم، فاستغنى بعلم السامعين بذلك عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك بقول الشاعر: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري به بدا
[ 468 ]
فقال: " إذا ما انتسبنا "، و " إذا " تقتضي من الفعل مستقبلا. ثم قال: " لم تلدني لئيمة "، فأخبر عن ماض من الفعل، وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت، وإنما فعل ذلك عند المحتج به لا ن السامع قد فهم عناه، فجعل ما ذكرنا من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإضافة أفعال أسلافهم إليهم نظير ذلك. والاول الذي قلنا هو المستفيض من كلام العرب وخطابها. وكان أبو العالية يقول في قوله: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) فيما ذكر لنا نحو القول الذي قلناه. 948 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو النضر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) قال: فضل الله: الاسلام، ورحمته: القرآن. 949 - وحدثت عن عمار، ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. القول في تأويل قوله تعالى: (لكنتم من الخاسرين). قال أبو جعفر: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) إياكم بانقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم، لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم وخلافكم أمره وطاعته. وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد عن معنى الخسار بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خسئين (65)) يعني بقوله (ولقد علمتم) ولقد عرفتم، كقولك: قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه، يعني عرفته ولم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) (1) يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم. وقوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت) أي الذي تجاوزوا حدي وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت وعصوا أمري. وقد دللت فيما مضى على أن الاعتداء أصله تجاوز الحد في كل شئ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. = الامير على مغني اللبيب (1 / 25). وهذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (ص 61 - طبعة دار الكتب المصرية)، وقبله: رمتني عن قوس العدو وباعدت عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا وقوله " بها " أي بهذه الخصلة. ويروى " به " أي بما ذكرت لك. (1) سورة الانفال، الاية: 60. (*)
[ 469 ]
وهذه الاية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل الذين كانوا بين خلال دور الانصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود. وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم بإصرارهم على كفرهم ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه مثل الذين بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي: 950 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السب) يقول: ولقد عرفتم وهذا تحذير لهم من المعصية، يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصوني، (اعتدوا) يقول اجترءوا في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجمعة وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها، فمن اتبع الانبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا قبل الجمعة وسمع وأطاع وعرف فضلها وثبت عليها بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم، ومن لم يفعل ذلك كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه، فقال: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). وذلك أن اليهود قالت لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: يا موسى كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الايمام كلها، والسبت أفضل الايام كلها لان الله خلق السموات والارض والاقوات في ستة أيام وسبت (1) له كل شئ مطيعا يوم السبت، وكان آخر الستة ؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم حين أمرهم بالجمعة، قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة، وأول الايام أفضلها وسيدها، والاول أفضل، والله واحد، والواحد الاول أفضل ؟ فأوحى الله إلى عيسى أن دعهم والاحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت: أن دعهم والسبت فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره، ولا يعملون شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء فهو قوله: (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) (2) يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى. وإذا كان غير يوم السبت صارت صيدا كسائر الايام، فهو قوله: (1) سبت: سكن. (2) سورة الاعراف، الاية: 163. (*)
[ 470 ]
(ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) (1). ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله، فلما رأوها كذلك طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذر القعوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم عادوا وأخبروا بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شئ، فكثروا في ذلك وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا، وهو قول الله جل ثناؤه: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) يقول لهؤلاء الذين صادوا السمك، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم، يقول: إذا لم يحيوا في الارض إلا ثلاثة أيام، ولم تأكل، ولم تشرب، ولم تنسل، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الايام التي ذكر الله في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء. 951 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة، فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به، فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها " مدين "، فحرم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها، وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الامد وقرموا (2) إلى الحيتان، عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت فخزمه (3) بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدا في الساحل، فأوثقه ثم تركه. حتى إذا كان الغد جاء فأخذه، أي إني لم آخذه في يوم السبت، ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الاخر عاد لمثل ذلك. ووجد الناس ريح الحيتان. فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان. ثم عثروا على (4) ما صنع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة حتى صادوها علانية وباعوها بالاسواق، وقالت طائفة منهم نمن أهل البقية (5): ويحكم اتقوا الله ! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى شديدا قالوا معذرة إلى ربكم) لسخطنا أعمالهم (ولعلهم يتقون) (6). (1) سورة الاعراف، الاية: 163. (2) القرم: شدة الشهوة إلى اللحم. (3) خزمه: شكه وثقبه. (4) عثروا عليه: اطلعوا عليه. (5) أهل البقية: أهل التمييز والفهم. (6) سورة الاعراف، الاية: 164. (*)
[ 471 ]
قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يرونهم، فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا فانظروا ما هو ! فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم كما تغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، إنهم ليعرفون بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) (1) الاية. 952 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عنه المعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد (2) على المعصية، فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم: (كونوا قردة خاسئين) فصاروا قردة لها أذناب، تعاوى، بعد ما كانوا رجالا ونساء. 953 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن قتادة في قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت فكانت تشرع إليهم يوم السبت، وبلوا بذلك فاعتدوا فاصطادوها، فجعلهم الله قردة خاسئين. 954 - حدثني موسى قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال: فهم أهل أيلة، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر. فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد رم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبقفي البحر حوت إلا خرج حتى يخرج خراطيمهن من الماء، فإذا كان يوم الاحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شئ حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) (3). فاشتهى بعضهم السمك، فجعل (1) سورة الاعراف، الاية: 163. (2) مرد: طغا وجاوز حده. (3) سورة الاعراف، الاية: 163. (*)
[ 472 ]
الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة، ويريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث، فإذا كان يوم الاحد فجاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السمك، فيجد جاره ريحه، فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك قال لهم علماؤهم: ويحكم إنما تصطادون السمك يوم السبت، وهو لا يحل لكم ! فقالوا: إنما صدناه يوم الاحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، فقالوا: لا. وعتوا أن ينتهوا، فقال بعض الذين نهوهم لبعض: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) (1) يقول: لم تعظونهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال بعضهم: (معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) (1). فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة ! فقسموا القرية بجدار، ففت المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا، ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم، فلما أبطئوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم فذهبوا في الارض. فذلك قول الله عز وجل: (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) (2) فذلك حين يقول: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) (3) فهم القردة. 955 - حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال لم: يمسخوا إنما هو مثل ضربه الله لهم مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا (4). * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا. وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف، وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر عنهم أنهم قالوا (1) سورة الاعراف، الاية: 164. (2) سورة الاعراف، الاية: 166. (3) سورة المائدة، الاية: 78. (4) منضمين للاية 5 من سورة الجمعة. (*)
[ 473 ]
لنبيم: (أرنا الله جهرة) (1) وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الارض المقدسة، فقالوا لنبيهم: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (2) فابتلاهم بالتيه. فسواء قال قائل: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شئ مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والعقوبات والانكال التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله وعورض فيما أنكر من ذلك. بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح. هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلا على فساد قول إجماعها على تخطئته. القول في تأويل قوله تعالى: (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). يعني بقوله: (فقلنا لهم) أي فقلنا للذين اعتدوا في السبت، يعني في السبت. وأصل السبت الهدو السكون في راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم مسبوت لهدوه وسكون جسده واستراحته، كما قال جل ثناؤه: (وجعلنا نومكم سباتا) (3) أي راحة لاجسادكم، وهو مصدر من قول القائل: سبت فلان يسبت سبتا. وقد قيل إنه سمي سبتالان الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة، وهو اليوم الذي قبله، من خلق جميع خلقه. وقوله: (كونوا قردة خاسئين) أي صيروا كذلك. والخاسئ: المبعد المطرود كما يخطأ الكلب، يقال منه: خسأته أخسؤه خسأ وخسوءا، وهو يخسأ خسوءا، قال: ويقال خسأته فخسأ، وانخسأ، ومنه قول الراجز: كالكلب إن قلت له اخسأ انخسأ (4) يعني إن طردته انطرد ذليلا صاغرا. فكذلك معنى قوله: (كونوا قردة خاسئين) أي مبعدين من الخير أذلاء صغراء. كما: 956 - حدثنا بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كونوا قردة خاسئين) قال: صاغرين. (1) سورة النساء، الاية: 153. (2) سورة المائدة، الاية: 24. (3) سورة النبأ، الاية: 9. (4) روايته في اللسان (مادة خسأ): " إن قيل له ". (*)
[ 474 ]
* - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. * - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 957 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: (خاسئين) قال: صاغرين. 958 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (كونوا قردة خاسئين) أي أذلة صاغرين. 959 - وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: خاسئا: يعني ذليلا. القول في تأويل قوله تعالى: (فجعلنها نكلا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)) اختلف أهل التأويل في تأويل الهاء والالف في قوله: (فجعلناها) وعلام هي عائدة، فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما: 960 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك، عن ابن عباس: (فجعلناها) فجعلنا تلك العقوبة وهي المسخة نكالا. فالهاء والالف من قوله: (فجعلناها) على قول ابن عباس هذا كناية عن المسخة، وهي " فعلية " من مسهم الله مسخة. فمعنى الكلام على هذا التأيول: (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) فصاروا قردة ممسوخين (فجعلناها) فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم (نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين). والقول الاخر من قولي ابن عباس ما: 961 - حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فجعلناها) يعني الحيتان. والهاء والالف على هذا القول من ذكر الحيتان، ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة كني عن ذكرها، والدلالة على ذلك قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت). وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فالهاء والالف في قول هؤلاء كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.
[ 475 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: فجعلنا القردة الذين مسخوا نكالا لما بين يديها وما خلفها، فجعلوا الهاء والالف كناية عن القردة. وقال آخرون: (فجعلناها) يعني به: فجعلنا الامة التي اعتدت في السبت نكالا. القول في تأويل قوله تعالى: (نكالا). والنكال مصدر من قول القائل: نكل فلان بفلان تنكيلا ونكالا، وأصل النكال: العقوبة، كما قال عدي بن زيد العبادي: لا يحط الضليل ما صنع العبد ولا في نكاله تنكير وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس: 962 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (نكالا) يقول: عقوبة. 963 - حدثني المثنى، قال: حدثني إسحاق، قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فجعلناها نكالا) أي عقوبة. القول في تأويل قوله تعالى: (لما بين يديها وما خلفها). اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما: 964 - حدثنا به أبو كريم، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لما بين يديها) يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي، (وما خلفها) يقول: الذين كانوا بقوا معهم. 965 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لما بين يديها وما خلفها) لما خلا (1) لهم من الذنوب، (وما خلفها): أي عبرة لمن بقي من الناس. وقال آخرون بما: 966 - حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: قال ابن عباس: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) أي من القرآن. وقال آخرون بما: 967 - حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، (1) خلا: مضى وذهب. (*)
[ 476 ]
قال الله: (فجعلناها نكالا لما بين يديها) من ذنوب القوم، (وما خلفها) أي للحيتان التي أصابوا. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (لما بين يديها) من ذنوبها (وما خلفها) من الحيتان. 968 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (لما بين يديها) ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به. * - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (نكالا لما بين يديها وما خلفها) يقول: بين يديها ما مضى من خطاياهم، (وما خلفها): خطاياهم التي هلكوا بها. * - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدسني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قلا: (وما خلفها) خطيئتهم التي هلكوا بها. وقال آخرون بما: 969 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) قال: أما ما بين يديها: فما سلف من عملهم، (وما خلفها): فمن كان بعدهم من الامم أن يعصوا الله بهم مثل ذلك. وقال آخرون بما: 970 - حدثني به ابن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قوله: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) يعني الحيتان جعلها نكالا لما بين يديها (وما خلفها) من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان، فذلك قوله: (ما بين يديها وما خلفها). وأولى هذه التأويلات بتأويل ا لاية ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وذلك لما وصفنا من أن الهاء والالف في قوله: (فجعلناها نكالا) بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم أولى بأن تكون من ذكر غيرها، من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، وبذلك يخوفهم. وفي إبانته عز ذكره بقوله: (نكالا) أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم ما يعلم أنه عنى بقوله: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها): فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها، دون غيره من المعاني. وإذا كانت الهاء والالف بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة أولى منها بأن تكون من ذكر
[ 477 ]
غيرها، فكذلك العائد في قوله: (لما بين يديها وما خلفها) من الهاء والالف أن يكون نم ذكر الهاء والالف اللتين في قوله: (فجعلناها) أولى من أن يكون من غيره. فتأويل الكلام إذا كان الامر على ما وصفنا: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم مسخنا إياهم وعقوبتنا لهم، ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم، أن يعمل بها عامل، فيمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون فيعاقبوا عقوبتهم. وأما الذين قال في تأويل ذلك: (فجعلناها) يعني الحيتان عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم، فإنه أبعد في الانتزاع، وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: (فجعلناها) فإن ظن أن ذلك جائز وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر، لان العرب العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر، فإن ذلك وإن كان كذلك، فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنزيل إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض. وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها، فينظر إلى تأول من تأول ذلك بما بين يدي الحيتان وما خلفها. القول في تأويل قوله تعالى: (وموعظة). والموعظة مصدر من قول القائل: وعظت الرجل أعظه وعظا وموعظة: إذا ذكرته. فتأويل الاية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها، وتذكرة للمتقين، ليتعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكروا بها، كما: 971 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة) يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين. القول في تأويل قوله تعالى (للمتقين). وأما المتقون فهم الذين اتقوا باداء فرائضه واجتناب معاصيه كما: 972 - حدثنا أبو كريب قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، قال: ثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (وموعظة للمتقين) يقول: للمؤمنين الذين
[ 478 ]
يتقون الشرك، ويعملون بطاعتي. فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته موعظة للمتقين خاصة وعبرة للمؤمنين دون الكافرين به إلى يوم القيامة. 973 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس في قوله: (وموعظة للمتقين) إلى يوم القيامة. 974 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (وموعظة للمتقين): أي بعدهم. * - حدثنا الحسن بن يحى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. 975 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما موعظة للمتقين، فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 976 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وموعظة للمتقين) قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة. 977 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: (وموعظة للمتقين): أي لمن بعدهم. القول في تأويل قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ باله أن أكون من الجهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68)) وهذه الاية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لانبيائه، فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي، إذ قال موسى لقومه، وقومه بنو إسرائيل، إذ ادراءوا في القتيل قتل فيهم إليه: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) والهزو: اللعب والسخرية، كما قال الراجز: قد هزئت مني أم طيسله قالت أراه معدما لا شئ له (1) * (نسبه القالي في أماليه (ج 2 ص 284) لاعرابي. وفي الحاشية: في كتاب مجموع أشعار العرب المشتمل على الاصمعيات أن القصيدة لصخير بن عمير التميمي. ورواية القالي: (*)
[ 479 ]
يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت. ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي هزو أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه أنه هازئ لاعب، ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة، وحذفت الفاء من قوله: أتتخذنا هزوا وهو جواب، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه، وحسن السكوت على قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فجاز لذلك إسقاط الفاء من قوله: أتتخذنا هزوا كما جاز وحسن إسقاط من قوله تعالى: قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا، ولو قيل: فقالوا، كان حسنا أيضا جائزا، ولو كان ذلك على كلمة واحدة لم تسقط منه الفاء وذلك أنك إذا قلت قمت وفعلت كذا وكذا ولم تقل: قمت فعلت كذا وكذا، لانها عطف لا استفهام يوقف عليه، فأخبرهم موسى إذ قالوا له ما قالوا إن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية من الجاهلين وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك، فقال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل. وكان سبب قيل موسى لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ما: حدثنا به محمد بن عبد الاعلى قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم أو عاقر، قال: فقتله وليه، ثم احتمله، فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر، حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله (ص) ؟ قال: فأتوا نبي الله، فقال: اذبحوا بقرة فقالوا: أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين
[ 480 ]
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة إلى قوله: فذبحوها وما كادوا يفعلون قال: فضرب فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا. قال: ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لاجزأت عنهم، فلم يورث قاتل بعد ذلك. وحدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: حدثني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قول الله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى، فقال له: إن قريبي قتل، وأتى إلي أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا فلم يكن عندهم علمه، فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا فسأل ربه فأوحى الله إليه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فعجبوا وقالوا: أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض يعني هرمة ولا بكر يعني ولا صغيرة عوان بين ذلك أي نصف بين البكر والهرمة، قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها أي صاف لونها تسر الناظرين أي تعجب الناظرين. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال أنه يقول أنها بقرة لا ذلول أي لم يذللها العمل تثير الارض يعني ليست بذلول فتثير الارض ولا تسقي الحرث يقول ولا تعمل في الحرث مسلمة يعني مسلمة من العيوب لاشية فيها. يقول لا بياض فيها. قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون. قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا إنا إن شاء الله لمهتدون لما هدوا إليها أبدا فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى وهي القيمة عليهم فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألتهم أضعاف ثمنها فقال لهم موسى أن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها ففعلوا واشتروها فذبحوها فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان
[ 481 ]
فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه فقتله الله على أسوء عمله. حدثني موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قال كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال، وكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لاقتلن عمي ولآخذن ماله ولانكحن ابنته ولآكلن ديته فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أصيب منها، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو فلم يجده، فانطلق نحوه فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه. فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالواله: يا رسول الله: ادع لنا حتى يتبين له من صاحبه فيؤخذ صاحب الجريمة، فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة، أتهزأ بنا ؟ قال موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. قال: قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لاجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى، فشدد الله عليهم فقالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك والفارض: الهرمة التي لا تلد، والبكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا، والعوان: النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها فافعلوا ما تؤمرون. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قال: تعجب الناظرين: قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة. قالوا الآن جئت بالحق فطلبوها فلم يقدروا عليها. وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه. وأن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا ؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فاخذه بثمانين ألفا.
[ 482 ]
فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا، وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله لا أشتريه منك بشئ أبدا، وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى، فأعطوه ثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا فأبى، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى، فقالوا: يا نبي الله إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبى أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك فقال: يا رسول الله أنا أحق بمالي. فقال: صدقت، وقال للقوم: أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فأبى، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها حتى أعطوه وزنها عشر مرات، فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها فذبحوها، فقال: اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فأسلوه: من قتلك ؟ فقال لهم: ابن أخي قال: أقتله وآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، عن مجاهد. وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل، عن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يذكر. وحدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس. وحدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: أخبرني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس. فذكر جميعهم: أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي. غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى كان أخا المقتول. وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه. وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذا احتكموا إليه عن أمر الله إياهم بذلك، فقالوا له: وما ذبح البقرة يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل فادعى على بعضنا أنه القاتل أتهزأ بنا ؟ كما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل، فطرح في سبط من الاسباط. فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط، فقالوا: أنتم
[ 483 ]
والله قتلتم صاحبنا قالوا: لا والله. فأتوا موسى، فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبي الله طرح علينا. فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فقالوا: أتستهزئ بنا ؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: أتتخذنا هزوا قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه فتستهزئ بنا ؟ فقال موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم موسى وقصوا قصتهم عليه، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا: وما البقرة والقتيل ؟ قال: أقول لكم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، وتقولون: أتتخذنا هزوا ! قال أبو جعفر: فقال الذين قيل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة بعد أن علموا واستقر عندهم أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة جد وحق: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم: اذبحوا بقرة لانه جل ثناءه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف، فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم وسوء أفهامهم، وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤنته، تعنتا منهم رسول الله (ص). كما: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني، أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما قال لهم موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين قالوا له يتعنتونه: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها تعنتا منهم بنبيهم موسى صلوات الله عليه بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه بقولهم: أتتخذنا هزوا عاقبهم عز وجل بأن خص بذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر على نوع منها دون نوع، فقال لهم جل ثناؤه إذ سألوه فقالوا: ما هي صفتها وما حليتها ؟ حلها لنا لنعرفها قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر يعني بقوله جل ثناؤه: لا
[ 484 ]
فارض: لا مسنة هرمة، يقال منه: فرضت البقرة تفرض فروضا، يعني بذلك أسنت، ومن ذلك قول الشاعر: يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض يعني بقوله فارض: قديم يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر: له زجاج ولهاة فارض هدلاء كالوطب تجاه الماخض وبمثل الذي قلنا في تأويل فارض قال المتأولون. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سعيد الكندي، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: لا فارض قال: لا كبيرة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أو عن عكرمة، شك شريك لا فارض قال: الكبيرة. حدثني محمد بن سعد، قال: أخبرني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لا فارض الفارض: الهرمة. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: لا فارض يقول: ليست بكبيرة هرمة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: لا فارض الهرمة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الفارض: الكبيرة.
[ 485 ]
حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد قوله: لا فارض قال: الكبيرة. حدثنا المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: لا فارض يعني لا هرمة. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: الفارض: الهرمة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر، قال قتادة: الفارض: الهرمة يقول: ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: الفارض: الهرمة التي لا تلد. وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الفارض: الكبيرة. القول في تأويل قوله تعالى: ولا بكر. والبكر من إناث البهائم وبني آدم ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء لم يسمع منه فعل ولا يفعل. وأما البكر بفتح الباء فهو الفتى من الابل. وإنما عنى جل ثناؤه بقوله ولا بكر ولا صغيرة لم تلد. كما: حدثني علي بن سعيد الكندي، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: ولا بكر صغيرة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: البكر: الصغيرة. حدثنا أبو كريب قال: ثنا الحسن بن عطية، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد، عن ابن عباس أو عكرمة شك: ولا بكر قال: الصغيرة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ولا بكر الصغيرة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: ولا بكر ولا صغيرة.
[ 486 ]
حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ولا بكر ولا صغيرة ضعيفة. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع: عن أبي العالية: ولا بكر يعني ولا صغيرة. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. وحدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: في البكر لم تلد إلا ولدا واحدا. القول في تأويل قوله تعالى: عوان. قال أبو جعفر: العوان: النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن، وليست بنعت للبكر، يقال منه: قد عونت إذا صارت كذلك. وإنما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان بين ذلك. ولا يجوز أن يكون عوان إلا مبتدأ، لان قوله: بين ذلك كناية عن الفارض والبكر، فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما. ومنه قول الاخطل: وما بمكة من شمط محفلة وما بيثرب من عون وأبكار وجمعها عون يقال: امرأة عوان من نسوة عون. ومنه قول تميم بن مقبل: ومأتم كالدمى حور مدامعها لم تيأس العيش أبكارا ولا عونا وبقرة عوان وبقر عون. قال: وربما قالت العرب: بقر عون، مثل رسل يطلبون بذلك
[ 487 ]
الفرق بين جمع عوان من البقر، وجمع عانة من الحمر. ويقال: هذه حرب عوان: إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة، يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال: حاجة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن ابن زيد أنشده: قعود لدى الابواب طلاب حاجة عوان من الحاجات أو حاجة بكرا قال أبو جعفر: والبيت للفرزدق. وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا علي بن سعد الكندي، ثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد: عوان بين ذلك: وسط قد ولدت بطنا أو بطنين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: عوان قال: العوان: العانس النصف. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: العوان: النصف. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أو عكرمة، شك شريك: عوان قال: بين ذلك. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: عوان قال بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما تكون من البقر والدواب وأحسن ما تكون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: عوان قال: النصف. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: عوان نصف. وحدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
[ 488 ]
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: العوان: نصف بين ذلك. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد: عوان التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: العوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: العوان: بين ذلك ليست ببكر ولا كبيرة. القول في تأويل قوله تعالى: بين ذلك. يعني بقوله: بين ذلك: بين البكر والهرمة. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بين ذلك: أي بين البكر والهرمة. فإن قال قائل: قد علمت أن بين لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين فصاعدا، فكيف قيل بين ذلك وذلك واحد في اللفظ ؟ قيل: إنما صلحت مع كونها واحدة، لان ذلك بمعنى اثنين، والعرب تجمع في ذلك وذاك شيئين ومعنيين من الافعال، كما يقول القائل: أظن أخاك قائما، وكان عمرو أباك، ثم يقول: قد كان ذاك، وأظن ذلك. فيجمع بذلك وذاك الاسم والخبر الذي كان لا بد ل ظن وكان منهما. فمعنى الكلام: قال: إنه يقول أنها بقرة لا مسنة هرمة ولا صغيرة لم تلد، ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن بين الهرم والشباب. فجمع ذلك معنى الهرم والشباب لما وصفنا، ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين لم يجمع مع بين ذلك، وذلك أن ذلك لا يؤدي عن اسم شخصين، وغير جائز لمن قال: كنت بين زيد وعمر، أن يقول: كنت بين ذلك، وإنما يكون ذلك مع أسماء الافعال دون أسماء الاشخاص. القول في تأويل قوله تعالى: فافعلوا ما تؤمرون. يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي،
[ 489 ]
واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها، تصلوا بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها إلى العلم بقاتل قتيلكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) * ومعنى ذلك: قال قوم موسى لموسى: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها: أي لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنت آخر منهم بعد الاول، وتكلف طلب ما قد كانوا كفوه في المرة الثانية والمسألة الآخرة وذلك أنهم لم يكونوا حصروا في المرة الثانية، إذ قيل لهم بعد مسألتهم عن حلية البقرة التي كانوا أمروا بذبحها فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من المسألة عن صفتها فحصروا على نوع دون سائر الانواع عقوبة من الله لهم على مسألتهم التي سألوها نبيهم (ص) تعنتا منهم له، ثم لم يحصرهم على لون منها دون لون، فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنياء، فقالوا تعنتا منهم لنبيهم (ص) كما ذكر ابن عباس: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها فقيل لهم عقوبة لهم: إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين فحصروا على لون منها دون لون، ومعنى ذلك أن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها. قال: ومعنى قوله: يبين لنا ما لونها أي شئ لونها، فلذلك كان اللون مرفوعا، لانه مرافع ما وإنما لم ينصب ما بقوله يبين لنا، لان أصل أي وما جمع متفرق الاستفهام. يقول القائل: بين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء ؟ فلما لم يكن كقوله بين لنا ارتفع على الاستفهام منصرفا لم يكن له ارتفع على أي لانه جمع ذلك المتفرق، وكذلك كل ما كان من نظائره، فالعمل فيه واحد في ما وأي. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: صفراء فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد. ذكر من قال ذلك منهم: حدثني أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري، قال: ثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن الحسن: صفراء فاقع لونها قال: سوداء شديدة السواد. حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، والمثنى بن إبراهيم قالا: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
[ 490 ]
وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف. ذكر من قال ذلك: حدثني هشام بن يونس النهشلي، قال: ثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن في قوله: صفراء فاقع لونها قال: صفراء القرن والظلف. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في قوله: صفراء فاقع لونها قال: كانت وحشية. حدثني يعقوب، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن إبراهيم، عن أبي حفص، عن مغراء، أو عن رجل، عن سعيد بن جبير: بقرة صفراء فاقع لونها قال: صفراء القرن والظلف. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هي صفراء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا الضحاك بن مخلد، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنها بقرة صفراء فاقع لونها قال: لو أخذوا بقرة صفراء لاجزأت عنهم. قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: صفراء يعني به سوداء، ذهب إلى قوله في نعت الابل السود: هذه إبل صفر، وهذه ناقة صفراء يعني بها سوداء. وإنما قيل ذلك في الابل لان سوادها يضرب إلى الصفرة، ومنه قول الشاعر: تلك خيلي منها وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب يعني بقوله: هن صفر: هن سود، وذلك إن وصفت الابل به فليس مما توصف به البقر، مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع، وإنما تصف السواد إذا وصفته بالشدة بالحلوكة ونحوها، فتقول: هو أسود حالك وحانك وحلكوك وأسود غربيب ودجوجي ولا تقول هو أسود فاقع وإنما تقول هو أصفر فاقع فوصفه إياه بالفقوع من الدليل البين على خلاف التأويل الذي تأول قوله إنها بقرة صفراء فاقع المتأول بأن معناه سوداء شديدة السواد.
[ 491 ]
القول في تأويل قوله تعالى (فاقع لونها) يعني خالص لونها والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض وهو شدته وصفاؤه كما. حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال قال قتادة فاقع لونها هي الصافي لونها. حدثنى المثنى قال ثنا آدم قال ثنا أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية فاقع لونها أي صاف لونها. حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع بمثله. حدثنا موسى قال ثنا عمرو قال ثنا أسباط عن السدى فاقع قال نقى لونها. حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال: حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس فاقع لونها شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض. قال أبو جعفر أراه أبيض. حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله فاقع لونها قال شديدة صفرتها يقال منه فقع لونه يفقع ويفقع فقعا وفقوعا فهو فاقع كما قال الشاعر: حملت عليه الورد حتى تركته ذليلا يسف الترب واللون فاقع القول في تأويل قوله تعالى: تسر الناظرين. يعني بقوله: تسر الناظرين تعجب هذه البقرة في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها الناظر إليها. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: تسر الناظرين أي تعجب الناظرين. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل ابن عبد الكريم، قال:
[ 492 ]
حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا: تسر الناظرين إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: تسر الناظرين قال: تعجب الناظرين. القول في تأويل قوله تعالى: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون) * قال أبو جعفر: يعني بقوله: قالوا قال قوم موسى الذين أمروا بذبح البقرة لموسى. فترك ذكر موسى وذكر عائد ذكره اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: ادع ربك، فلم يذكر له لما وصفنا. وقوله: يبين لنا ما هي خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة، وذلك أنهم لو كانوا إذ أمروا بذبح البقرة ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة كانت عنهم مجزئة، ولم يكن عليهم غيرها، لانهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة، فلما سألوا بيانها بأي صفة هي، فبين لهم أنها بسن من الاسنان دون سن سائر الاسنان، فقيل لهم: هي عوان بين الفارض والبكر الضرع. فكانوا إذا بينت لهم سنها لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم كانت عنهم مجزئة، لانهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم، ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون. فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الارض فشددوا على أنفسهم شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه ولذلك قال نبينا (ص) لامته: ذروني ما تركتكم فانما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوه، وإذا نهيتكم عن شئ فانتهوا عنه ما استطعتم. قال أبو جعفر: ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى (ص) أذى وتعنتا، زادهم الله عقوبة وتشديدا، كما:
[ 493 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام بن علي، عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها لكنهم شددوا فشدد الله عليهم. حدثنا عمر بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لاجزأت عنهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن أيوب، وحدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان جميعا، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سألوا وشددوا فشدد الله عليهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة لاجزأت عنهم، ولولا قولهم: وإنا إن شاء الله لمهتدون لما وجدوها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة لو أخذوا بقرة ما كانت لاجزأت عنهم. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لاجزأت عنهم. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قال: لو أخذوا بقرة صفراء لاجزأت عنهم. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث الآية. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه، وزاد فيه، ولكنهم شددوا فشدد عليهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: لو أخذوا بقرة ما كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج: قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج: قال رسول الله (ص): إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الابد. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي
[ 494 ]
العالية، قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون لما هدوا إليها أبدا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله (ص) كان يقول: إنما أمر القوم بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم، والذي نفس محمد بيده لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الابد. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لاجزأت عنهم ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم. حدثنا أبو كريب قال: قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عباس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة، يعني بني إسرائيل لاجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد عليهم، فاشتروها بمل ء جلدها دنانير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك، ولكن البلاء في هذه المسائل، فقالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي فشدد عليهم، فقال: إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قال: وشدد عليهم أشد من الاول فقرأ حتى بلغ: مسلمة لا شية فيها فأبوا أيضا. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون فشدد عليهم فقال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها. قال: فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها، وهي صفراء، ليس فيها سواد ولا بياض. قال أبو جعفر: وهذه الاقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم من قولهم: إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله (ص) على العموم الظاهر دون الخصوص الباطن، إلا أن يخص بعض ما عمه ظاهر التنزيل كتاب من الله أو رسول الله، وأن التنزيل أو الرسول إن خص بعض ما عمه ظاهر التنزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر، فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة، وسائر حكم الآية على
[ 495 ]
العموم، على نحو ما قد بيناه في كتابنا كتاب الرسالة من لطيف القول في البيان عن أصول الاحكام في قولنا في العموم والخصوص، وموافقة قولهم في ذلك قولنا، ومذهبهم مذهبنا، وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الاحكام، وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجئ العموم على العموم ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية، فإن خص منها بعض، فحكم الآية حينئذ على الخصوص فيما خص منها، وسائر ذلك على العموم. وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم (ص) عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها، رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله (ص) موسى ذلك مخطئين، وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر إذ أمروا بذبحها بقوله ان الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فذبحوها كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك مؤدين وللحق مطيعين إذ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع وسن دون سن ورأوا مع ذلك أنهم إذا سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها وحصرهم منها على سن دون سن ونوع دون نوع وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية بعد الذي خص لهم من أنواع البقر من الخطا على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسئلتهم إياه المسألة الاولى وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الاولى والثانية وأن اللازم كان لهم في الحالة الاولى استعمال ظاهر الامر وذبح أي بهيمة شاؤا مما وقع عليها اسم بقرة وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية استعمال ظاهر الامر وذبح أي بهيمة شاؤا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر ولم يروا أن حكمهم إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الاولى من استعمال ظاهر الامر إلى الخصوص ففي اجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك مع الرواية التي رويناها عن رسول الله (ص) بالموافقة لقولهم دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه فيما أمر ونهى على العموم ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له وأنه إذا خص منه شئ فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر وسائر حكم الآية على ظاهرها العام ويؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه. وقد زعم بعض من عظمت جهالته واشتدت حيرته، أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر لانهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت
[ 496 ]
بذلك، كما خصت عصا موسى في معناها، فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها. ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا، لسهل عليه ما استصعب من القول وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم، ثم أضاف إليهم من الامر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم، فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا ويتعبدهم بعبادة، ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به حتى يسألوا بيان ذلك لهم. فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه، ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه، فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض. فتعوذ بالله من الحيرة، ونسأله التوفيق والهداية. وأما قوله: إن البقر تشابه علينا فإن البقر جماع بقرة. وقد قرأ بعضهم: إن الباقر، وذلك وإن كان في الكلام جائزا لمجيئه في كلام العرب وأشعارها، كما قال ميمون بن قيس: وما ذنبه أن عافت الماء باقر وما إن تعاف الماء إلا ليضربا وكما قال أمية: ويسوقون باقر الطود للسهل مهازيل خشية أن تبورا فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجئ الحجة بنقل من لا يجوز عليه فيما نقلوه مجمعين عليه الخطأ والسهو والكذب. وأما تأويل: تشابه علينا فإنه يعني به: التبس علينا. والقراء مختلفة في تلاوته، فبعضهم كانوا يتلونه: تشابه علينا، بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال تفاعل، ويذكر الفعل وإن كان البقر جماعا، لان من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء وجمعه بطرح الهاء، وتأنيثه كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير: كأنهم أعجاز نخل منقعر فذكر المنقعر وهو من صفة النخل لتذكير لفظ النخل، وقال في موضع
[ 497 ]
آخر: كأنهم أعجاز نخل خاوية فأنث الخاوية وهي من صفة النخل بمعنى النخل لانها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر على ما وصفنا قبل فهي جماع نخلة. وكان بعضهم يتلوه: إن البقر تشابه علينا بتشديد الشين وضم الهاء، فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث البقر، كما قال: أعجاز نخل خاوية ويدخل في أول تشابه تاء تدل على تأنيثها، ثم تدغم التاء الثانية في شين تشابه لتقارب مخرجها ومخرج الشين فتصير شينا مشددة وترفع الهاء بالاستقبال والسلام من الجوازم والنواصب. وكان بعضهم يتلوه: إن البقر يشابه علينا فيخرج يشابه مخرج الخبر عن الذكر لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك: تشابه بالتخفيف، ونصب الهاء غير أنه كان يرفعه بالياء التي يحدثها في أول تشابه التي تأتي بمعنى الاستقبال، وتدغم التاء في الشين كما فعله القارئ في تشابه بالتاء والتشديد. والصواب في ذلك من القراءة عندنا: إن البقر تشابه علينا بتخفيف شين تشابه ونصب هائه، بمعنى تفاعل، لاجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك ورفعهم ما سواه من القراءات، ولا يعترض على الحجة بقول من يجوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ. وأما قوله: وإنا إن شاء الله لمهتدون فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى اهتدائهم في هذا الموضع معنى تبينهم أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر. القول في تأويل قوله تعالى: * (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون) * وتأويل ذلك، قال موسى: إن الله يقول: إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول. ويعني بقوله: لا ذلول: أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: أنها بقرة لم تذللها إثارة الارض بأظلافها، ولا سني عليها الماء فيسقى عليها الزرع، كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: دابة ذلول بينة الذل، بكسر الذال، ويقال في مثله من بني آدم: رجل ذليل بين الذل والذلة.
[ 498 ]
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: إنها بقرة لا ذلول يقول: صعبة لم يذلها عمل، تثير الارض ولا تسقي الحرث. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: إنها بقرة لا ذلول تثير الارض يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها، وليست تسقي الحرث. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: إنها بقرة لا ذلول أي لم يذللها العمل، تثير الارض يعني ليست بذلول فتثير الارض، ولا تسقي الحرث يقول: ولا تعمل في الحرث. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: إنها بقرة لا ذلول يقول: لم يذلها العمل، تثير الارض يقول: تثير الارض بأظلافها، ولا تسقي الحرث يقول: لا تعمل في الحرث. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال: الاعرج: قال مجاهد: قوله: لا ذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: ليست بذلول تثير الارض ولا تسقي الحرث. ويعني بقوله: تثير الارض: تقلب الارض للحرث، يقال منه: أثرت الارض أثيرها إثارة: إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة لانها كانت فيما قيل وحشية. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن قال: كانت وحشية. القول في تأويل قوله تعالى: مسلمة. ومعنى مسلمة مفعلة من السلامة، يقال منه: سلمت تسلم فهي مسلمة. ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه، فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما: حدثنا به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
[ 499 ]
نجيح، عن مجاهد: مسلمة يقول: مسلمة من الشية، ولاشية فيها لا بياض فيها ولا سواد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: لاشية فيها قال: مسلمة من الشية لاشية فيها لا بياض فيها ولا سواد. وقال آخرون: مسلمة من العيوب. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: مسلمة لاشية فيها أي مسلمة من العيوب. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: مسلمة يقول: لا عيب فيها. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: مسلمة يعني مسلمة من العيوب. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس قوله: مسلمة لا عوار فيها. والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد لان سلامتها لو كانت من سائر أنواع الالوان سوى لون جلدها، لكان في قوله: مسلمة مكتفى عن قوله: لاشية فيها. وفي قوله: لاشية فيها ما يوضح عن أن معنى قوله: مسلمة غير معنى قوله: لاشية فيها. وإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الارض وقلبها للحراثة ولا السنو عليها للمزارع، وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب. القول في تأويل قوله تعالى: لاشية فيها. يعني بقوله: لاشية فيها: لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من وشي
[ 500 ]
الثوب، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته، يقال منه: وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا. ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: واش، لكذبه عليه عنده وتحسينه كذبه بالاباطيل، يقال منه: وشيت به إلى السلطان وشاية، ومنه قول كعب بن زهير: تسعى الوشاة جنابيها وقولهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول والوشاة جمع واش: يعني أنهم يتقولون بالاباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي (ص) قتله. وقد زعم بعض أهل العربية أن الوشي: العلامة. وذلك لا معنى له إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالاعلام، لانه معلوم أن القائل: وشيت بفلان إلى فلان غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. وإنما قيل: لاشية فيها وهي من وشيت، لان الواو لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها الهاء في آخرها، كما قيل: وزنته زنة، ووسيته سية، ووعدته عدة، ووديته دية. وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: لاشية فيها قال أهل التأويل. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: لاشية فيها أي لا بياض فيها. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: لاشية فيها يقول: لا بياض فيها. حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لاشية فيها أي لا بياض فيها ولا سواد. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: لاشية فيها قال: لونها واحد ليس فيها لون سوى لونها.
[ 501 ]
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لاشية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لاشية فيها هي صفراء ليس فيها بياض ولا سواد. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: لاشية فيها يقول: لا بياض فيها. القول في تأويل قوله تعالى: قالوا الآن جئت بالحق. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: قالوا الآن جئت بالحق فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق فتبيناه، وعرفناه أنه بقرة عينت. وممن قال ذلك قتادة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قالوا الآن جئت بالحق أي الآن بينت لنا. وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها، وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض، فقالوا: هذه بقرة فلان الآن جئت بالحق وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق. وأولى التأويلين عندنا بقوله: قالوا الآن جئت بالحق قول قتادة وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقرة، فعرفنا أنها الواجب علينا ذبحها منها لان الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها بعد قيلهم هذا مع غلظ مؤنة ذبحها عليهم وثقل أمرها، فقال: فذبحوها وما كادوا يفعلون وإن كانوا قد قالوا بقولهم: الآن بينت لنا الحق، هراء من القول، وأتوا خطأ وجهلا من الامر. وذلك أن نبي الله موسى (ص) كان مبينا لهم في كل مسألة سألوها إياه، ورد رادوه في أمر البقرة الحق. وإنما يقال: الآن بينت لنا الحق لمن لم يكن مبينا قبل ذلك، فأما من كان كل قيله فيما أبان عن الله تعالى ذكره حقا وبيانا، فغير جائز أن يقال له في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: الآن جئت بالحق كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك.
[ 502 ]
وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم، وكفروا بقولهم لموسى: الآن جئت بالحق ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر. وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال لانهم أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم. القول في تأويل قوله تعالى: فذبحوها وما كادوا يفعلون. يعني بقوله: فذبحوها فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها. ويعني بقوله: وما كادوا يفعلون أي قاربوا أن يدعوا ذبحها، ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك. ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها وبينت لهم صفتها. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو معشر المدني، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: فذبحوها وما كادوا يفعلون قال: لغلاء ثمنها. حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي، قال: ثنا عبد العزيز بن الخطاب، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: فذبحوها وما كادوا يفعلون قال: من كثرة قيمتها. حدثنا القاسم، قال: أخبرنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس في حديث فيه طول، ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض، قوله: فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة الثمن، أخذوها بمل ء مسكها ذهبا من مال المقتول، فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها. حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: فذبحوها وما كادوا يفعلون يقول: كادوا لا يفعلون. ولم
[ 503 ]
يكن الذي أرادوا لانهم أرادوا أن لا يذبحوها، وكل شئ في القرآن كاد أو كادوا أو لو فإنه لا يكون، وهو مثل قوله: أكاد أخفيها. وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى. والصواب من التأويل عندنا، أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة للخلتين كلتيهما إحداهما غلاء ثمنها مع ذكر ما لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها. والاخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه على قاتله. فأما غلاء ثمنها فإنه قد روى لنا فيه ضروب من الروايات. فحدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا، فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها. حدثنا محمد بن عبد الاعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: اشتروها بمل ء جلدها دنانير. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له، فباعها بمل ء جلدها ذهبا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد، قال: أعطوا صاحبها مل ء مسكها ذهبا فباعها منهم. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسماعيل، عن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير، ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير، ثم دفعوها إليه. حدثني محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا، فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير، فرضي به فأعطاهم إياها.
[ 504 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: لم يجدوها إلا عند عجوز، وإنها سألتهم أضعاف ثمنها، فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد، فباعها بوزنها ذهبا، أو مل ء مسكها ذهبا، فذبحوها. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: وجدوا البقرة عند رجل، فقال: إني لا أبيعها إلا بمل ء جلدها ذهبا، فاشتروها بمل ء جلدها ذهبا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها وهو جلدها ذهبا. وأما صغر خطرها وقلة قيمتها، فإن: الحسن بن يحيى حدثنا، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، قال: حدثني محمد بن سوقة، عن عكرمة، قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير. وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم، فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة إنما قالوا لموسى: أتتخذونا هزوا لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت فحادوا عن ذبحها. حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه. وكان ابن عباس يقول: إن القوم بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله، أنكرت قتلته قتله، فقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآية والحق. حدثني بذلك محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) * يعني بقوله جل ثناؤه: وإذ قتلتم نفسا: واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا.
[ 505 ]
والنفس التي قتلوها هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. وقوله: فادارأتم فيها يعني فاختلفتم وتنازعتم، وإنما هو فتدارأتم فيها على مثال تفاعلتم من الدرء، والدرء: العوج، ومنه قول أبي النجم العجلي: خشية طغام إذا هم حسر يأكل ذا الدرء ويقصي من حقر يعني ذا العوج والعسر. ومنه قول رؤبة بن العجاج: أدركتها قدام كل مدره بالدفع عني درء كل عنجه ومنه الخبر الذي: حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن السائب، قال: جاءني عثمان وزهير ابنا أمية، فاستأذنا لي على رسول الله (ص)، فقال رسول الله (ص): أنا أعلم به منكما، ألم تكن شريكي في الجاهلية ؟ قلت: نعم بأبي أنت وأمي، فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري يعني بقوله: لا تداري: لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشاره. وإنما أصل فادارأتم فتدارأتم، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال، وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين، فأدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مشددة، كما قال الشاعر: تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل يريد إذا ما تتابع القبل، فأدغم إحدى التاءين في الاخرى. فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت، فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها، وذلك إذا كان قبله شئ
[ 506 ]
لان الادغام لا يكون إلا وقبله شئ، ومنه قول الله جل ثناؤه: حتى إذا اداركوا فيها جميعا إنما هو تداركوا، ولكن التاء منها أدغمت في الدال فصارت دالا مشددة، وجعلت فيها ألف إذا وصلت بكلام قبلها ليسلم الادغام. وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله، وابتدئ به، قيل: تداركوا وتثاقلوا، فأظهروا الادغام. وقد قيل: يقال: اداركوا وادارأوا. وقد قيل إن معنى قوله: فادارأتم فيها فتدافعتم فيها، من قول القائل: درأت هذا الامر عني، ومن قول الله: ويدرأ عنها العذاب بمعنى يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الاول لان القوم إنما تدافعوا قتل قتيل، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله، كما قد بينا قبل فيما مضى من كتابنا هذا. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: فادارأتم فيها قال أهل التأويل. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: فادارأتم فيها قال: اختلفتم فيها. حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها قال بعضهم: أنتم قتلتموه، وقال الآخرون: أنتم قتلتموه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فادارأتم فيها قال: اختلفتم، وهو التنازع تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه، وقال هؤلاء: لا. وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم فانتفوا أو انتفلوا منه شك أبو عاصم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن
[ 507 ]
مجاهد بمثله سواء، إلا أنه قال: فادعوا دمه عندهم، فانتفوا ولم يشك منه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قتيل كان في بني إسرائيل فقذف كل سبط منهم حتى تفاقم بينهم الشر حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله (ص)، فأوحى إلى موسى أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها. فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله من أجل ميراث كان بينهم. حدثني ابن سعد، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في شأن البقرة: وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته، فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله. وأنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم أتاهم الشيطان، فقال: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته ؟ وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما، فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين، قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين، فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية. وإنهم لما سول لهم الشيطان ذلك وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم، عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ، فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا وإنهم عمدوا إلى موسى، فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم، وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وإن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى، فقال: قل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها. حدثنا القاسم، قال: ثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، وحجاج عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: إن سبطا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف فإذا لم ير شيئا فتح المدينة فكانوا مع
[ 508 ]
الناس حتى يمسوا. وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير، ولم يكن له وارث غير ابن أخيه، فطال عليه حياته، فقتله ليرثه. ثم حمله فوضعه على باب المدينة. ثم كمن في مكان هو وأصحابه، قال: فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر فلم ير شيئا، ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه: هيهات قتلتموه ثم تردون الباب وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم آخذهم، فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم فقالوا: يا رسول الله إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب، وقال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى ذكره إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير، فقتله ابن أخ له فجره فألقاه على باب ناس آخرين. ثم أصبحوا فادعاه عليهم حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يقتتلوا، فقال ذوو النهي منهم: أتقتتلون وفيكم نبي الله فأمسكوا حتى أتوا موسى، فقصوا عليه القصة، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها، فقالوا: أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قتيل من بني إسرائيل طرح في سبط من الاسباط، فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط، فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا، فقالوا: لا والله. فأتوا إلى موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه، فقالوا: لا والله يا نبي الله طرح علينا. فقال لهم موسى (ص): إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل هو الدرء الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم: فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون. القول في تأويل قوله تعالى: والله مخرج ما كنتم تكتمون.
[ 509 ]
ويعني بقوله: والله مخرج ما كنتم تكتمون والله معلن ما كنتم تسرونه من قتل القتيل الذي قتلتم ثم ادارأتم فيه. ومعنى الاخراج في هذا الموضع: الاظهار والاعلان لمن خفي ذلك عنه وإطلاعهم عليه، كما قال الله تعالى ذكره: ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السموات والارض يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه. والذي كانوا يكتمونه فأخرجه هو قتل القاتل القتيل، كما كتم ذلك القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك حتى أظهره الله وأخرجه، فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره. وعني جل ذكره بقوله: تكتمون تسرون وتغيبون. كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: والله مخرج ما كنتم تكتمون قال: تغيبون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ما كنتم تكتمون ما كنتم تغيبون. القول في تأويل قوله تعالى: * (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) * يعني جل ذكره بقوله: فقلنا لقوم موسى الذين ادارؤا في القتيل الذي قد تقدم وصفنا أمره: اضربوا القتيل. والهاء التي في قوله: اضربوه من ذكر القتيل ببعضها أي ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها. ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة وأي عضو كان ذلك منها، فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ضرب بفخذ البقرة، فقام حيا، فقال: قتلني فلان ثم عاد في ميتته. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ضرب بفخذ البقرة، ثم ذكر مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن عكرمة: فقلنا اضربوه ببعضها قال: بفخذها فلما ضرب بها عاش وقال: قتلني فلان ثم عاد إلى حاله.
[ 510 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن خالد بن يزيد، عن مجاهد، قال: ضرب بفخذها الرجل فقام حيا، فقال: قتلني فلان، ثم عاد في ميتته. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الزراق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال أيوب عن ابن سيرين، عن عبيدة، ضربوا المقتول ببعض لحمها. وقال معمر عن قتادة: ضربوه بلحم الفخذ فعاش، فقال: قتلني فلان. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه الله، فأنبأ بقاتله الذي قتله وتكلم، ثم مات. وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البضعة التي بين الكتفين. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه: من قتلك ؟ فقال لهم: ابن أخي. وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عظم من عظامها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله وهو الذي أتى موسى فشكا إليه فقتله الله على أسوإ عمله. وقال آخرون بما: حدثني به يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها، فإذا هو قاعد، قالوا: من قتلك ؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط، أراد أن يأخذ ديته. والصواب من القول في تأويل قوله عندنا: فقلنا اضربوه ببعضها أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية ولا خبر تقوم به حجة على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ، وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف وغير
[ 511 ]
ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل، ولا ينفع العلم به مع الاقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها، فأحياه الله. فإن قال قائل: وما كان معنى الامر بضرب القتيل ببعضها ؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى (ص) والذين ادارءوا فيه من قاتله. فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك ؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي كما قال جل ثناؤه: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق والمعنى: فضرب فانفلق. يدل على ذلك قوله: كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون. القول في تأويل قوله تعالى: كذلك يحيي الله الموتى. وقوله: كذلك يحيي الله الموتى مخاطبة من الله عباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا، فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث، فإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب وهم قوم أميون لا كتاب لهم، لان الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم وفيهم نزلت هذه الآيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك ليتعرفوا علم من قبلهم. القول في تأويل قوله تعالى: ويريكم آياته لعلكم تعقلون. يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد (ص) وبما جاء به من عند الله من آياته وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق فتؤمنوا به وتتبعوه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون) *
[ 512 ]
يعني بذلك كفار بني إسرائيل، وهم فيما ذكر بنو أخي المقتول، فقال لهم: ثم قست قلوبكم: أي جفت وغلظت وعست، كما قال الراجز: وقد قسوت وقسالدني يقال: قسا وعسا وعتا بمعنى واحد، وذلك إذا جفا وغلظ وصلب، يقال منه: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقساء. ويعني بقوله: من بعد ذلك من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي ادارءوا في قتله. فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والاخبار وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل. وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها أنهم فيما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته بعد إخباره إياهم بذلك، وبعد ميتته الثانية. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما ضرب المقتول ببعضها يعني ببعض البقرة جلس حيا، فقيل له: من قتلك ؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض، فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه. فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه، فقال الله: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك يعني بني أخي الشيخ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى، وبعد ما أراهم من أمر القتيل ما أراهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة. القول في تأويل قوله تعالى: فهي كالحجارة أو أشد قسوة. يعني بقوله: فهي قلوبكم. يقول: ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه عن الخضوع له والاذعان لواجب حق الله عليكم، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد صلابة يعني قلوبكم عن الاذعان لواجب حق الله عليهم، والاقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة.
[ 513 ]
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: فهي كالحجارة أو أشد قسوة وأو عند أهل العربية إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك ؟ قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عباده الذين هم أصحابها الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم، وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا: فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: فهي كالحجارة أو أشد قسوة وما أشبه ذلك من الاخبار التي تأتي ب أو، كقوله: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون وكقول الله جل ذكره: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة، وهو عالم أي ذلك أكل ولكنه أبهم على المخاطب، كما قال أبو الاسود الدؤلي: أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا قالوا: ولا شك أن أبا الاسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد، ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الاسود أنه لما قال هذه الابيات قيل له: شككت ؟ فقال: كلا والله ثم انتزع بقول الله عز وجل وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا في الهادي من الضلال من الضلال ؟ وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: فهي كالحجارة أو أشد قسوة إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة.
[ 514 ]
وقال بعضهم: أو في قوله: أو أشد قسوة بمعنى: وأشد قسوة، كما قال تبارك وتعالى: ولا تطع منهم آثما أو كفورا بمعنى: وكفورا. وكما قال جرير بن عطية: نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر يعني نال الخلافة وكانت له قدرا. وكما قال النابغة: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد يريد ونصفه. وقال آخرون: أو في هذا الموضع بمعنى بل، فكان تأويله عندهم فهي كالحجارة بل أشد قسوة، كما قال جل ثناؤه: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون بمعنى: بل يزيدون. وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة أو أشد قسوة عندكم. قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الاقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب، غير أن أعجب الاقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا، ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشد، على تأويل أن منها كالحجارة، ومنها أشد قسوة لان أو وإن استعملت في أماكن من أماكن الواو حتى يلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنييهما في بعض تلك الاماكن، فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين، فتوجيهها إلى أصلها من وجد إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها ومعناها المعروف لها. قال: وأما الرفع في قوله: أو أشد قسوة فمن وجهين: أحدهما أن يكون عطفا على معنى الكاف التي في قوله: كالحجارة لان معناها الرفع، وذلك أن معناها معنى مثل: فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة. والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا على
[ 515 ]
معنى تكرير هي عليه فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة. القول في تأويل قوله تعالى: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار. يعني بقوله جل ذكره: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الانهار، فاستغنى بذكر الماء عن ذكر الانهار، وإنما ذكر فقال منه للفظ ما. والتفجر: التفعل من فجر الماء، وذلك إذا تنزل خارجا من منبعه، وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك، ومنه قوله عمر بن لجأ: ولما أن قربت إلى جرير أبى ذو بطنه إلا انفجارا يعني: إلا خروجا وسيلانا. القول في تأويل قوله تعالى: وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء. يعني بقوله جل ثناؤه وإن من الحجارة لحجارة تشقق. وتشققها: تصدعها. وإنما هي: لما يتشقق، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة. وقوله: فيخرج منه الماء فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية. القول في تأويل قوله تعالى: وإن منها لما يهبط من خشية الله. قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط: أي يتردى من رأس الجبل إلى الارض والسفح من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى الهبوط فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأدخلت هذه اللامات اللواتي في ما توكيدا للخبر. وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به من أن منها المتفجر منه الانهار، وأن منها المتشقق بالماء، وأن منها الهابط من خشية الله بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل مثلا، معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب برسله والجحود لآياته بعد الذي أراهم من الآيات والعبر وعاينوا من عجائب الادلة والحجج مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالانهار ومنه ما يتشقق بالماء ومنه ما يهبط من
[ 516 ]
خشية الله، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) * قال: كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فهو من خشية الله عز وجل، نزل بذلك القرآن. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فهي كالحجارة أو أشد قسوة ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم، فقال: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة مثله. حدثني محمد بن سعد، قال حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج أنه قال: فيها كل حجر انفجر منه ماء أو تشقق عن ماء أو تردى من جبل، فمن خشية الله نزل به القرآن. ثم اختلف أهل النحو في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله. فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله: تفيؤ ظلاله. وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه. وقال بعضهم: ذلك كان منه، ويكون بأن الله جل ذكره أعطى
[ 517 ]
بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله (ص) إذا خطب فلما تحول عنه حن. وكالذي روي عن النبي (ص) أنه قال: إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لاعرفه الآن. وقال آخرون: بل قوله: يهبط من خشية الله كقوله: جدارا يريد أن ينقض ولا إرادة له، قالوا: وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله، كما قال زيد الخيل: بجمع تضل البلق في حجراته ترى ألاكم فيها سجدا للحوافر وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له يريد أنه ذليل: ساجد المنخر يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع وكما قال جرير بن عطية: لما أتى خبر الرسول تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع وقال آخرون: معنى قوله: يهبط من خشية الله أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه كما قيل: ناقة تاجرة: إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها، كما قال جرير بن عطية: وأعور من نبهان أما نهاره فأعمى وأما ليله فبصير
[ 518 ]
فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه، من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به. وهذه الاقوال وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الامة بخلافها فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها. وقد دللنا فيما مضى على معنى الخشية، وأنها الرهبة والمخافة، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: وما الله بغافل عما تعملون. يعني بقوله: وما الله بغافل عما تعملون وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته والجاحدين نبوة رسوله محمد (ص)، والمتقولين عليه الاباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود، عما تعملون من أعمالكم الخبيثة وأفعالكم الرديئة ولكنه يحصيها عليكم، فيجازيكم بها في الآخرة أو يعاقبكم بها في الدنيا. وأصل الغفلة عن الشئ: تركه على وجه السهو عنه والنسيان له، فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة ولا ساه عنها، بل هو لها محص، ولها حافظ. القول في تأويل قوله تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) * يعني بقوله جل ثناؤه: أفتطمعون يا أصحاب محمد، أي أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد (ص) والمصدقين ما جاءكم به من عند الله أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل ؟ ويعني بقوله: أن يؤمنوا لكم أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم (ص) محمد من عند ربكم. كما: حدثت عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله أفتطمعون أن يؤمنوا لكم يعني أصحاب محمد (ص) أن يؤمنوا لكم، يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود ؟. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم الآية، قال: هم اليهود. القول في تأويل قوله تعالى: وقد كان فريق منهم.
[ 519 ]
قال أبو جعفر: أما الفريق فجمع كالطائفة لا واحد له من لفظه، وهو فعيل من التفرق سمي به الجماع كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب وما أشبه ذلك، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: أجدوا فلما خفت أن يتفرقوا فريقين منهم مصعد ومصوب يعني بقوله: منهم من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل من اليهود الذين قال الله لاصحاب محمد (ص): أفتطمعون أن يؤمنوا لكم لانهم كانوا آباؤهم وأسلافهم، فجعلهم منهم إذ كانوا عشائرهم وفرطهم وأسلافهم، كما يذكر الرجل اليوم الرجل وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته وكان من قومه وعشيرته، فيقول: كان منافلان يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه أو من قومه وعشيرته فكذلك قوله: وقد كان فريق منهم. القول في تأويل قوله تعالى: يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. فقال بعضهم بما: حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون فالذين يحرفونه والذين يكتمونه: هم العلماء منهم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي:
[ 520 ]
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه قال: هي التوراة حرفوها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يسمعون كلام الله ثم يحرفونه قال: التوراة التي أنزلها عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا، والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق، وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شئ أمروه بالحق، فقال لهم: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون. وقال آخرون في ذلك بما: حدثت عن عمار بن الحسن، قال: أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله الآية، قال: ليس قوله: يسمعون كلام الله يسمعون التوراة، كلهم قد سمعها ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم، فأخذتهم الصاعقة فيها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل، فأسمعنا كلامه حين يكلمك فطلب ذلك موسى إلى ربه، فقال: نعم، فمرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتى الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام، فوقعوا سجودا، وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد (ص).
[ 521 ]
وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة، ما قاله الربيع بن أنس والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل سماع موسى إياه منه ثم حرف ذلك وبدل من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان، وإيذانا منه تعالى ذكره عباده المؤمنين وقطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى، فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم بالذي تخبرونهم من الانباء عن الله عز وجل عن غيب لم يشاهدوه ولم يعاينوه ؟ وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه، وأمره ونهيه، ثم يبدله ويحرفه ويجحده، فهؤلاء الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق وهم لا يسمعونه من الله، وإنما يسمعونه منكم وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد (ص) ونعته ويبدلوه وهم به عالمون فيجحدوه ويكذبوا من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف. ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عنى بقوله: يسمعون كلام الله يسمعون التوراة، لم يكن لذكر قوله: يسمعون كلام الله معنى مفهوم لان ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف. فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له. فإن ظن ظان إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: يحرفونه فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود كانوا أعطوا من مباشرتهم سماع كلام الله تعالى ما لم يعطه أحد غير الانبياء والرسل، ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك، فلذلك وصفهم بما وصفهم به للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره. ويعني بقوله: ثم يحرفونه ثم يبدلون معناه، وتأويله: ويغيرونه. وأصله من
[ 522 ]
انحراف الشئ عن جهته، وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: يحرفونه: أي يميلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا، وأنه بخلاف ما حرفوه إليه، فقال: يحرفونه من بعد ما عقلوه يعني من بعد ما عقلوا تأويله وهم يعلمون أي يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى (ص)، وأن بقاياهم من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد (ص) بغيا وحسدا على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) * أما قوله: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد (ص) من إيمانهم من يهود بني إسرائيل الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد (ص) قالوا آمنا. يعني بذلك أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد (ص) وبما جاء به من عند الله قالوا آمنا أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل عنهم أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين وسلكوا منهاجهم. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس قوله: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا (ص) قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد (ص) قالوا آمنا. وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما: حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن
[ 523 ]
محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا أي بصاحبكم رسول الله (ص)، ولكنه إليكم خاصة. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا الآية، قال: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. القول في تأويل قوله تعالى: وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم. يعني بقوله: وإذا خلا بعضهم إلى بعض أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم إلى بعض منهم فصاروا في خلاء من الناس غيرهم، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم، قالوا يعني قال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ؟. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: بما فتح الله عليكم. فقال بعضهم بما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم يعني بما أمركم الله به، فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك. وقال آخرون بما: حدثنا ابن حميد، عن ابن عباس: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا أي بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم. فأنزل الله: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أي تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي (ص) الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا ؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد (ص).
[ 524 ]
حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد (ص)، فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم أفلا تعقلون ؟. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحتجوا به عليكم. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، قال: قال قتادة: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم يعني بما أنزل الله عليكم من أمر محمد (ص) ونعته. وقال آخرون في ذلك بما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم قال: قول يهود بني قريظة حين سبهم النبي (ص) بأنهم إخوة القردة والخنازير، قالوا: من حدثك ؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا، فقال: يا إخوة القردة والخنازير. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله إلا أنه قال: هذا حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وآذوا النبي (ص) فقال: اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير. حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم قال: قام النبي (ص) يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة ويا إخوان الخنازير ويا عبدة الطاغوت فقالوا: من أخبر هذا محمدا ؟ ما خرج هذا إلا منكم أتحدثونهم بما فتح الله عليكم بما حكم الله للفتح ليكون لهم حجة عليكم قال ابن جريج، عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا (ص). وقال آخرون بما: حدثني موسى: قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به عند ربكم ؟ هؤلاء ناس من اليهود
[ 525 ]
آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم ؟ وقال آخرون بما: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم قال: كانوا إذا سئلوا عن الشئ قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا ؟ قالوا: بلى. قال: وهم يهود، فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ؟ قال: قال رسول الله (ص): لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا، واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون. وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون، ليعلموا خبر رسول الله (ص) وأمره وإذا رجعوا، رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه (ص) بهم، قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله (ص) يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ؟ فيقولون: بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم الآية. وأصل الفتح في كلام العرب: النصر والقضاء والحكم، يقال منه: اللهم افتح بيني وبين فلان: أي احكم بيني وبينه، ومنه قول الشاعر: ألا أبلغ بني عصم رسولا بأني عن فتاحتكم غني قال: ويقال للقاضي: الفتاح، ومنه قول الله عز وجل: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين أي احكم بيننا وبينهم.
[ 526 ]
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا، تبين أن معنى قوله: قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم، ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الايمان بمحمد (ص)، وبما جاء به في التوراة، ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم، وكل ذلك كان لرسول الله (ص) وللمؤمنين به حجة على المكذبين من اليهود المقرين بحكم التوراة وغير ذلك. فإن كان كذلك فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد (ص) إلى خلقه لان الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله (ص) ولاصحابه: آمنا بما جاء به محمد (ص) فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها. وإذا كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون تلاومهم كان فيما بينهم فيما كانوا أظهروه لرسول الله (ص) ولاصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد (ص) وبما جاء به، وكان قيلهم ذلك من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله (ص) بذلك، فكان تلاومهم فيما بينهم إذا خلوا على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد (ص) في كتبهم ويكفرون به، وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود وحكمه عليهم لهم في كتابهم أن يؤمنوا بمحمد (ص) إذا بعث، فلما بعث كفروا به مع علمهم بنبوته. وقوله: أفلا تعقلون خبر من الله تعالى ذكره عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله (ص) بما فتح الله لهم عليهم أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون أن إخباركم أصحاب النبي (ص) بما في كتبكم أنه نبي مبعوث حجة لهم عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم ؟ أي فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم، ولا تخبروهم بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) * يعني بقوله جل ثناؤه: أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو لا يعلم هؤلاء اللائمون من اليهود إخوانهم من أهل ملتهم، على كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وعلى إخبارهم المؤمنين بما في كتبهم من نعت رسول الله (ص)، ومبعثه، القائلون
[ 527 ]
لهم: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أن الله عالم بما يسرون فيخفونه عن المؤمنين في خلائهم من كفرهم وتلاومهم بينهم على إظهارهم ما أظهروا لرسول الله (ص) وللمؤمنين به من الاقرار بمحمد (ص)، وعلى قيلهم لهم آمنا، ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا المؤمنين بما فتح الله للمؤمنين عليهم، وقضى لهم عليهم في كتبهم من حقيقة نبوة محمد (ص) ونعته ومبعثه، وما يعلنون فيظهرونه لمحمد (ص) ولاصحابه المؤمنين به إذا لقوهم من قيلهم لهم: آمنا بمحمد (ص) وبما جاء به نفاقا وخداعا لله ولرسوله وللمؤمنين. كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون من كفرهم وتكذيبهم محمدا (ص) إذا خلا بعضهم إلى بعض، وما يعلنون إذا لقوا أصحاب محمد (ص) قالوا آمنا ليرضوهم بذلك. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد (ص) وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوبا عندهم. وما يعلنون يعني ما أعلنوا حين قالوا للمؤمنين آمنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) * يعني بقوله جل ثناؤه: ومنهم أميون ومن هؤلاء اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات، وأيأس أصحاب رسول الله (ص) من إيمانهم، فقال لهم: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم إذا لقوكم قالوا آمنا. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ومنهم أميون يعني من اليهود. وحدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ومنهم أميون قال: أناس من يهود. قال أبو جعفر: يعني بالاميين: الذين لا يكتبون ولا يقرءون، ومنه قول النبي (ص):
[ 528 ]
إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب يقال منه رجل أمي بين الامية. كما: حدثني المثنى، قال: حدثني سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور عن إبراهيم: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب قال: منهم من لا يحسن أن يكتب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ومنهم أميون قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود. وروي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول، وهو ما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ومنهم أميون قال: الاميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله. وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن الامي عند العرب هو الذي لا يكتب. قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للامي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه، لان الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه كما ذكرنا عن النبي (ص) من قوله: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب وكما قال: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم فإذا كان معنى الامي في كلام العرب ما وصفنا، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي من أن معنى قوله: ومنهم أميون: ومنهم من لا يحسن أن يكتب. القول في تأويل قوله تعالى: لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
[ 529 ]
يعني بقوله: لا يعلمون الكتاب لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم، كالذي: حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني إنما هم أمثال البهائم لا يعلمون شيئا. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: لا يعلمون الكتاب يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: لا يعلمون الكتاب لا يدرون ما فيه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لا يعلمون الكتاب قال: لا يدرون بما فيه. حدثنا بشر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: لا يعلمون الكتاب لا يعلمون شيئا، لا يقرءون التوراة ليست تستظهر إنما تقرأ هكذا، فإذا لم يكتب أحدهم لم يستطع أن يقرأ. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: لا يعلمون الكتاب قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله. قال أبو جعفر: وإنما عنى بالكتاب: التوراة، ولذلك أدخلت فيه الالف واللام لانه قصد به كتاب معروف بعينه. ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم وهم ينتحلونه ويدعون الاقرار به من أحكام الله وفرائضه وما فيه من حدوده التي بينها فيه إلا أماني فقال بعضهم بما: حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس إلا أماني يقول إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا.
[ 530 ]
حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد لا يعلمون الكتاب إلا أماني إلا كذبا. حدثني المثني قال حدثنا أبو حذيفه قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وقال آخرون بما: حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال ثنا سعيد عن قتادة الا أماني يقول يتمنون على الله ما ليس لهم حدثنا الحسن بن يحي قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة الا أماني يقول يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم حدثني المثني قال ثنا أبو صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله لا يعلمون الكتاب إلا أماني يقول إلا أحاديث. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون هو من الكتاب، أماني يتمنونها. حدثنا المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: إلا أماني قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم. وأولى ما روينا في تأويل قوله: إلا أماني بالحق وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن عباس، الذي رواه عنه الضحاك، وقول مجاهد: إن الاميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية وأنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الاباطيل كذبا وزورا. والتمني في هذا الموضع، هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعالپ ه، يقال منه: تمنيت كذا: إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت. يعني بقوله ما تمنيت: ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب والافك.
[ 531 ]
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك وأنه أولى بتأويل قوله: إلا أماني من غيره من الاقوال، قول الله جل ثناؤه: وإن هم إلا يظنون فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الاكاذيب ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لم يكونوا ظانين، وكذلك لو كان معناه: يشتهونه لان الذي يتلوه إذا تدبره علمه، ولا يستحق الذي يتلو كتابا قرأه وإن لم يتدبره بتركه التدبير أن يقال: هو ظان لما يتلو إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد (ص) من اليهود فيما بلغنا شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك المتمني الذي هو في معنى المتشهي غير جائز أن يقال: هو ظان في تمنيه، لان التمني من المتمني إذا تمنى ما قد وجد عينه، فغير جائز أن يقال: هو شاك فيما هو به عالم لان العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد، والمتمني في حال تمنيه موجود غير جائز أن يقال: هو يظن تمنيه. وإنما قيل: لا يعلمون الكتاب إلا أماني والاماني من غير نوع الكتاب، كما قال ربنا جل ثناؤه: وما لهم به من علم إلا اتباع الظن والظن من العلم بمعزل، وكما قال: وما لاحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه ألاعلى. وكما قال الشاعر: ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلى وضرب الرقاب وكما قال نابغة بني ذبيان: حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بغائب
[ 532 ]
في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب. ويخرج ب إلا ما بعدها من معنى ما قبلها، ومن صفته، وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه، ويسمي ذلك بعض أهل العربية استثناء منقطعا لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد إلا عن معنى ما قبلها. وإنما يكون ذلك كذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان إلا لكن، فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الاول، ألا ترى أنك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ثم أردت وضع لكن مكان إلا وحذف إلا، وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفيه إلا ؟ وذلك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني، يعني لكنهم يتمنون، وكذلك قوله: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن لكن اتباع الظن، بمعنى: لكنهم يتبعون الظن، وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا. وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ: إلا أماني مخففة، ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم المفتاح مفاتح، والقرقور قراقر، وأن ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الاصلية، أعني من الاماني، كما جمعوا الاثفية أثافي مخففة، كما قال زهير بن أبي سلمى: أثافي سفعا في معرس مرجل ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم وأما من ثقل: أماني فشدد ياءها فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم المفتاح مفاتيح، والقرقور قراقير، والزنبور زنابير، فاجتمعت ياء فعاليل ولامها وهما جميعا ياءان، فأدغمت إحداهما في الاخرى فصارتا ياء واحدة مشددة. فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك فتشديد ياء الاماني، لاجماع القراء على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف مستفيض، ذلك بينهم غير مدفوعة صحته، وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك وكفى خطأ على قارئ ذلك بتخفيفها إجماعها على تخطئته. القول في تأويل قوله تعالى: وإن هم إلا يظنون. يعني بقوله جل ثناءه: وإن هم إلا يظنون وما هم كما قال جل ثناؤه: قالت
[ 533 ]
لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم. ومعنى قوله: إلا يظنون ألا يشكون ولا يعلمون حقيقته وصحته، والظن في هذا الموضع الشك، فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخط ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه إلا تخرصا وتقولا على الله الباطل ظنا منه أنه محق في تخرصه وتقوله الباطل. وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظن أنهم محقون وهم مبطلون، لانهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله، ولم تكن من كتاب الله، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد (ص)، ويتبعون ما هم فيه شاكون، وفي حقيقته مرتابون مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله، ومخالفة منهم لامر الله واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: وإن هم إلا يظنون قال فيه المتأولون من السلف. حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وإن هم إلا يظنون: إلا يكذبون. حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: وإن هم إلا بالظن يظنون قال: يظنون الظنون بغير الحق. حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: يظنون الظنون بغير الحق. حدثت عن عمارة، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
[ 534 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) * اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فويل. فقال بعضهم بما: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس فويل لهم يقول: فالعذاب عليهم. وقال آخرون بما: حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن زياد بن فياض، قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم. حدثنا بشر بن أبان الحطاب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض في قوله: فويل قال: صهريج في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم. حدثنا علي بن سهل الرملي، قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، قال: حدثنا سفيان بن زياد بن فياض، عن أبي عياض، قال: الويل واد من صديد في جهنم. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن شقيق قال: ويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم. وقال آخرون بما: حدثنا به المثنى، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري، قال: حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول الله (ص): قال: الويل جبل في النار. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عمرو بن الحرث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي (ص) قال: ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره.
[ 535 ]
قال أبو جعفر: فمعنى الآية على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل ويل فالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله. القول في تأويل قوله تعالى: للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. يعني بذلك: الذين حرفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفا لما أنزل الله على نبيه موسى (ص) ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها ولا بما في التوراة جهال بما في كتب الله لطلب عرض من الدنيا خسيس فقال الله لهم فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. كما: حدثني موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا قال كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعون من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله ليأخذوا به ثمنا قليلا. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الاميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالو لقوم سفلة جهال هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا قال عرضا من عرض الدنيا. حدثنى محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله قال هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه. حدثنى المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله إلا أنه قال ثم يحرفونه. حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد عن قتادة فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم الآية وهم اليهود. حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله قال
[ 536 ]
كان ناس من بني اسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم ليتأكلوا الناس فقالوا هذا من عند الله وما هو من عند الله. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا قال: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد (ص)، فحرفوه عن مواضعه يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا، فقال: فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا إبراهيم بن عبد السلام، قال: ثنا علي ابن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله (ص): فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون: الويل: جبل في النار. وهو الذي أنزل في اليهود لانهم حرفوا التوراة، وزادوا فيها ما يحبون، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد (ص) من التوراة، فلذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة فقال: فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: ويل: واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدة حره. قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة إلى أن يخبروا عن هؤلاء القوم الذين قص الله قصتهم أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ؟ قيل له: إن الكتاب من بني آدم وإن كان منهم باليد، فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه، فيقال: كتب فلان إلى فلان بكذا، وإن كان المتولي كتابته بيده غير المضاف إليه الكتاب، إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم عباده المؤمنين أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم على علم منهم وعمد للكذب على الله ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله تكذبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: يكتبون الكتاب بأيديهم أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل: باعني فلان عينه كذا
[ 537 ]
وكذا، فاشترى فلان نفسه كذا، يراد بإدخال النفس والعين في ذلك نفي اللبس عن سامعه أن يكون المتولي بيع ذلك وشراءه غير الموصوف به بأمره، ويوجب حقيقة الفعل للمخبر عنه فكذلك قوله: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم. القول في تأويل قوله تعالى: فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. يعني جل ثناؤه بقوله: فويل لهم مما كتبت أيديهم أي فالعذاب في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم لهم، يعني للذين يكتبون الكتاب الذي وصفنا أمره من يهود بني إسرائيل محرفا، ثم قالوا: هذا من عند الله ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم. وقوله: مما كتبت أيديهم يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك وويل لهم أيضا مما يكسبون يعني مما يعملون من الخطايا، ويجترحون من الآثام، ويكسبون من الحرام بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم، بخلاف ما أنزل الله، ثم يأكلون ثمنه وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله. كما: حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وويل لهم مما يكسبون يعني من الخطيئة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: فويل لهم يقول: فالعذاب عليهم قال: يقول من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وويل لهم مما يكسبون يقول: مما يأكلون به من السفلة وغيرهم. قال أبو جعفر: وأصل الكسب: العمل، فكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف، فهو كاسب لما عمل، كما قال لبيد بن ربيعة: لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يمن طعامها
[ 538 ]
القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) * يعني بقوله: وقالوا اليهود، يقول: وقالت اليهود: لن تمسنا النار، يعني لن تلاقي أجسامنا النار، ولن ندخلها إلا أياما معدودة. وإنما قيل معدودة وإن لم يكن مبينا عددها في التنزيل لان الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الايام التي يوقتونها لمكثهم في النار، فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الايام وسماها معدودة لما وصفنا. ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الايام المعدودة التي عينها اليهود القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك. فقال بعضهم بما: حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قال ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم الايام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الايام، انقطع عنا العذاب والقسم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قال: قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا، نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل، فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.
[ 539 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة، قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدد الايام التي عبدنا فيها العجل. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة الآية. قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا: إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم. وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيه شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة. وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الاجل فلا عذاب وتذهب جهنم وتهلك فذلك قوله: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة يعنون بذلك الاجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب، حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الايام المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة، فقد خلا العدد وأنتم في الابد فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون. حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة إلا أربعين ليلة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: خاصمت اليهود رسول الله (ص) فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول الله (ص) بيده على رؤوسهم: بل أنتم فيها خالدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله جل ثناؤه: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوما تخاصم النبي (ص) فقالوا:
[ 540 ]
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وسموا أربعين يوما ثم يخلفنا أو يلحقنا فيها أناس فأشاروا إلى النبي (ص) وأصحابه. فقال رسول الله (ص): كذبتم، بل أنتم فيها خالدون مخلدون لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا. حدثني يونس ابن عبد الاعلى، قال: أخبرنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي أن رسول الله (ص) قال لهم: أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء، من أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة ؟ قالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة، فنمكث في النار أربعين ليلة، ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله (ص) كذبتم والله لا نخلفكم فيها أبدا. فنزل القرآن تصديقا لقول النبي (ص)، وتكذيبا لهم: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا إلى قوله: هم فيها خالدون. وقال آخرون في ذلك بما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الآخرة، وإنها سبعة أيام. فأنزل الله في ذلك من قولهم: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة الآية. حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله (ص) المدينة ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم لن تمسنا النار الآية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.
[ 541 ]
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا، وسائر الحديث مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة من الدهر، وسموا عدة سبعة آلاف سنة، من كل ألف سنة يوما يهود تقول. القول في تأويل قوله تعالى: قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة على ما قد بينا من تأويل ذلك، قال الله لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لمعشر اليهود أتخذتم عند الله عهدا أخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا فالله لا ينقض ميثاقه ولا يبدل وعده وعقده، أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه ؟ كما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قل أتخذتم عند الله عهدا أي موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم عدة الايام التي عبدنا فيها العجل. فقال الله: أتخذتم عند الله عهدا بهذا الذي تقولونه، ألكم بهذا حجة وبرهان فلن يخلف الله عهده فهاتوا حجتكم وبرهانكم أم تقولون على الله ما لا تعلمون. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله جل ثناؤه لمحمد: قل أتخذتم عند الله عهدا يقول: أدخرتم عند الله عهدا ؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا، ولم تكفروا به ؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها، وإن كنتم لم تقولوها فلم تقولون على الله ما لا تعلمون ؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله، ولم تشركوا به شيئا، ثم متم على ذلك لكان لكم ذخرا عندي، ولم أخلف وعدي لكم أني أجازيكم بها. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط عن السدي،
[ 542 ]
قال: لما قالت اليهود ما قالت، قال الله عز وجل: قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده وقال في مكان آخر: وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون. ثم أخبر الخبر فقال: بلى من كسب سيئة. وهذه الاقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة بنحو ما قلنا في تأويل قوله: قل أتخذتم عند الله عهدا لان مما أعطاه الله عباده من ميثاقه أن من آمن به وأطاع أمره نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الايمان به الاقرار بأن لا إله إلا الله، وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار فينجيه منها. وكل ذلك وإن اختلفت ألفاظ قائليه، فمتفق المعاني على ما قلنا فيه، والله تعالى أعلم. القول في تأويل قوله تعالى: * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * وقوله: بلى من كسب سيئة تكذيب من الله القائلين من اليهود: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وإخبار منه لهم أنه يعذب من أشرك وكفر به وبرسله وأحاطت به ذنوبه فمخلده في النار فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الايمان به وبرسوله، وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده. كما: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة، فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. قال: وأما بلى فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد، كما نعم إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه، وأصلها بل التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: ما قام عمرو بل زيد فزيد فيها الياء ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت بل لا يصلح عليها الوقوف، إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد،
[ 543 ]
ولتكون أعني بلى رجوعا عن الجحد فقط، وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد فدلت الياء منها على معنى الاقرار والانعام، ودل لفظ بل بل الرجوع عن الجحد. قال: وأما السيئة التي ذكر الله في هذا المكان فإنها الشرك بالله. كما: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني عاصم، عن أبي وائل بلى من كسب سيئة قال: الشرك بالله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بلى من كسب سيئة شركا. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: بلى من كسب سيئة قال: أما السيئة فالشرك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: بلى من كسب سيئة أما السيئة فهي الذنوب التي وعد عليها النار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: بلى من كسب سيئة قال: الشرك. قال ابن جريج، قال: قال مجاهد: سيئة شركا. حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: بلى من كسب سيئة يعني الشرك. وإنما قلنا: إن السيئة التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته فهو من أهل النار المخلدين فيها في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما، لان الله قضى على أهلها بالخلود في النار، والخلود في النار لاهل الكفر بالله دون أهل الايمان به لتظاهر الاخبار عن رسول الله (ص) بأن أهل الايمان لا
[ 544 ]
يخلدون فيها، وأن الخلود في النار لاهل الكفر بالله دون أهل الايمان به فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قوله: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات، غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الايمان. فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا هم الذين عملوا الصالحات دون الذين عملوا السيئات، فإن في إخبار الله أنه مكفر باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا، ومدخلنا المدخل الكريم، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: بلى من كسب سيئة بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها. فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: بلى من كسب سيئة ؟ قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه، وأن المعنى بالآية خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لاحد على أحد إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الامة، فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر فإن الاخبار القاطعة عذر من بلغته قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها، فمن أنكر ذلك ممن دافع حجة الاخبار المستفيضة والانباء المتظاهرة فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد، إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن، وكانت الآية تأتي عاما في صنف ظاهرها، وهي خاص في ذلك الصنف باطنها. ويسئل مدافعوا الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء سؤالنا منكر رجم الزاني المحصن، وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض، فإن السؤال عليهم نظير السؤال على هؤلاء سواء. القول في تأويل قوله تعالى: وأحاطت به خطيئته. يعني بقوله جل ثناؤه: وأحاطت به خطيئته اجتمعت عليه فمات عليها قبل الانابة
[ 545 ]
والتوبة منها. وأصل الاحاطة بالشئ: الاحداق به بمنزلة الحائط الذي تحاط به الدار فتحدق به، ومنه قول الله جل ثناؤه: نارا أحاط بهم سرادقها. فتأويل الآية إذا: من أشرك بالله واقترف ذنوبا جمة فمات عليها قبل الانابة والتوبة، فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال المتأولون. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الاعمش، عن أبي روق، عن الضحاك: وأحاطت به خطيئته قال: مات بذنبه. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جرير بن نوح، قال: ثنا الاعمش، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم: وأحاطت به خطيئته قال: مات عليها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: أخبرني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: وأحاطت به خطيئته قال: يحيط كفره بما له من حسنة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأحاطت به خطيئته قال: ما أوجب الله فيه النار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وأحاطت به خطيئته قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن قتادة: وأحاطت به خطيئته قال: الخطيئة: الكبائر. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا وكيع ويحيى بن آدم، عن سلام بن مسكين، قال: سأل رجل الحسن عن قوله: وأحاطت به خطيئته فقال: ما ندري ما الخطيئة يا بني اتل القرآن، فكل آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة. حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا
[ 546 ]
سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته قال: كل ذنب محيط فهو ما وعد الله عليه النار. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبي رزين: وأحاطت به خطيئته قال: مات بخطيئته. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الاعمش، قال: ثنا مسعود أبو رزين، عن الربيع بن خثيم في قوله: وأحاطت به خطيئته قال: هو الذي يموت على خطيئته، قبل أن يتوب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: قال وكيع: سمعت الاعمش يقول في قوله: وأحاطت به خطيئته مات بذنوبه. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: وأحاطت به خطيئته الكبيرة الموجبة. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أحاطت به خطيئته فمات ولم يتب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حسان، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: وأحاطت به خطيئته قال: الشرك، ثم تلا: ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار. القول في تأويل قوله تعالى: فاولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يعني بقوله جل ثناؤه: فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم أصحاب النار هم فيها خالدون. ويعني بقوله جل ثناؤه: أصحاب النار أهل النار وإنما جعلهم لها أصحابا لايثارهم في حياتهم الدنيا ما يوردهموها، ويوردهم سعيرها على الاعمال التي توردهم الجنة، فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة لها أصحابا، كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره حتى يعرف به. هم فيها يعني في النار خالدون، ويعني بقوله خالدون مقيمون. كما: حدثني محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن أبي
[ 547 ]
محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: هم فيها خالدون: أي خالدون أبدا. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: هم فيها خالدون لا يخرجون منها أبدا. القول في تأويل قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * ويعني بقوله: والذين آمنوا: أي صدقوا بما جاء به محمد (ص). ويعني بقوله: وعملوا الصالحات: أطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله: فأولئك فالذين هم كذلك أصحاب الجنة هم فيها خالدون يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها خالدون، مقيمون أبدا. وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها، ودوامپ ما أعد في كل واحدة منهما لاهلها، تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة فأخبرهم بخلود كفارهم في النار وخلود مؤمنيهم في الجنة. كما: حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون أي من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا. حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: والذين آمنوا وعملوا الصالحات محمد (ص) وأصحابه أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي
[ 548 ]
القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) * قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الميثاق مفعال، من التوثق باليمين ونحوها من الامور التي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله. كما: حدثني به ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل أي ميثاقكم لا تعبدون إلا الله. قال أبو جعفر: والقراءة مختلفة في قراءة قوله: لا تعبدون فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء، والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء وأن يقال: لا تعبدون، ولا يعبدون وهم غيب لان أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، فكما تقول: استحلفت أخاك ليقومن، فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك، وتقول: استحلفته لتقومن، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب لانك قد كنت خاطبته بذلك، فيكون ذلك صحيحا جائزا، فكذلك قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ولا يعبدون. من قرأ ذلك بالتاء فمعنى الخطاب إذ كان الخطاب قد كان بذلك، ومن قرأ بالياء فلانهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم. وأما رفع لا تعبدون فبالتاء التي في تعبدون، ولا ينصب ب أن التي كانت تصلح أن تدخل مع: لا تعبدون إلا الله لانها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل كان وجه الكلام فيه الرفع كما قال جل ثناؤه: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون فرفع أعبد إذ لم تدخل فيها أن بالالف الدالة على معنى الاستقبال. وكما قال الشاعر: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فرفع أحضر وإن كان يصلح دخول أن فيها، إذ حذفت بالالف التي تأتي بمعنى الاستقبال. وإنما صلح حذف أن من قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون
[ 549 ]
لدلالة ما ظهر من الكلام عليها، فاكتفى بدلالة الظاهر عليها منها. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله حكاية، كأنك قلت: استحلفناهم لا تعبدون، أي قلنا لهم: والله لا تعبدون، وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك. وبنحو الذي قلنا في قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله تأوله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة. القول في تأويل قوله تعالى: وبالوالدين إحسانا. وقوله جل ثناؤه: وبالوالدين إحسانا عطف على موضع أن المحذوفة في لا تعبدون إلا الله. فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا. فرفع لا تعبدون لما حذف أن، ثم عطف بالوالدين على موضعها، كما قال الشاعر: معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا
[ 550 ]
فنصب الحديد على العطف به على موضع الجبال لانها لو لم تكن فيها باء خافضة كانت نصبا، فعطف بالحديد على معنى الجبال لا على لفظها، فكذلك ما وصفت من قوله: وبالوالدين إحسانا. وأما الاحسان فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: وبالوالدين إذ كان مفهوما معناه، فكان معنى الكلام لو أظهر المحذوف: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا. فاكتفى بقوله: وبالوالدين من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام. وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانا فجعل الباء التي في الوالدين من صلة الاحسان مقدمة عليه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فزعموا أن الباء التي في الوالدين من صلة المحذوف، أعني أحسنوا، فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه، فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا لقيل: وإلى الوالدين إحسانا لانه إنما يقال: أحسن فلان إلى والديه، ولا يقال: أحسن بوالديه، إلا على استكراه للكلام. ولكن القول فيه ما قلنا، وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا وبالوالدين إحسانا، على ما بينا قبل. فيكون الاحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه كما بينا فيما مضى من نظائره. فإن قال قائل: وما ذلك الاحسان الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق ؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما والتحنن عليهما، والرأفة بهما والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك من الافعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما. القول في تأويل قوله تعالى: وذي القربى واليتامى والمساكين. يعني بقوله: وذي القربى وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمة. والقربى مصدر على تقدير فعلى من قولك: قربت مني رحم فلان قرابة وقربى وقربا بمعنى واحد. وأما اليتامى فهم جمع يتيم، مثل أسير وأسارى ويدخل في اليتامى الذكور منهم والاناث. ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الانداد
[ 551 ]
وبالوالدين إحسانا وبذي القربى، أن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقه، وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة، وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم. والمسكين: هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة، وهو مفعيل من المسكنة، والمسكنة هي ذل الحاجة والفاقة. القول في تأويل قوله تعالى: وقولوا للناس حسنا. إن قال قائل: كيف قيل: وقولوا للناس حسنا فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر ؟ قيل: إن الكلام وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالامر والنهي، فلو كان مكان: لا تعبدون إلا الله لا تعبدوا إلا الله على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره كان حسنا صوابا وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءا به لان أخذ الميثاق قول، فكان معنى الكلام لو كان مقروءا كذلك: وإذ قلنا لبني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة. فلما كان حسنا وضع الامر والنهي في موضع: لا تعبدون إلا الله، عطف بقوله: وقولوا للناس حسنا على موضع لا تعبدون، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه، لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالامر والنهي موضع لا تعبدون فكأنه قيل: وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله، وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكايات لما أخبرت عنه، ثم تعود إلى الخبر على وجه الخطاب، وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب ثم تعود إلى الاخبار على وجه الخبر عن الغائب لما في الحكاية من المعنيين كما قال الشاعر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت يعني تقليت، وأما الحسن فإن القراءة اختلفت في قراءته، فقرأته عامة قراءة الكوفة غير عاصم: وقولوا للناس حسنا بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة:
[ 552 ]
حسنا بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: وقولوا للناس حسنى على مثال فعلى. واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: حسنا، وحسنا. فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بالحسن الحسن، وكلاهما لغة، كما يقال: البخل والبخل. وإما أن يكون جعل الحسن هو الحسن في التشبيه، وذلك أن الحسن مصدر، والحسن هو الشئ الحسن، ويكون ذلك حينئذ كقولك: إنما أنت أكل وشرب، وكما قال الشاعر: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع فجعل التحية ضربا. وقال آخر: بل الحسن هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن، والحسن هو البعض من معاني الحسن، قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: ووصينا الانسان بوالديه حسنا يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحسن، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه فقال: وقولوا للناس حسنا يعني بذلك بعض معاني الحسن. والذي قاله هذا القائل في معنى الحسن بضم الحاء وسكون السين غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما الحسن فإنه صفة وقعت لما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا كان الامر كذلك، فالصواب من القراءة في قوله: وقولوا للناس حسنا لان القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم: وقولوا للناس باستعمال الحسن من القول دون سائر معاني الحسن، الذي يكون بغير القول، وذلك نعت لخاص من معاني الحسن وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين، على قراءته بضم الحاء وسكون السين. وأما الذي قرأ ذلك: وقولوا للناس حسنى فإنه خالف بقراءته إياه كذلك قراءة أهل الاسلام، وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الاسلام لو لم يكن على خطئها شاهد غيره، فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب ؟
[ 553 ]
وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بفعلى وأفعل إلا بالالف واللام أو بالاضافة، لا يقال: جاءني أحسن حتى يقولوا الاحسن، ولا يقال أجمل حتى يقولوا الاجمل وذلك أن الافعل والفعلى لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف، كما تقول: بل أخوك الاحسن، وبل أختك الحسنى، وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى، ورجل أحسن. وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية أن يقولوه للناس، فهو ما: حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وقولوا للناس حسنا أمرهم أيضا بعد هذا الخلق أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها ورغب عنها حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن أيضا: لين القول من الادب الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وقولوا للناس حسنا قال: قولوا للناس معروفا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج: وقولوا للناس حسنا قال: صدقا في شأن محمد (ص). وحدثت عن يزيد بن هارون، قال: سمعت سفيان الثوري، يقول في قوله: وقولوا للناس حسنا قال: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. حدثني هارون بن إدريس الاصم، قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، قال: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قول الله جل ثناؤه: وقولوا للناس حسنا قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا جعفر، فقال مثل ذلك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا القاسم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: وقولوا للناس حسنا قال: للناس كلهم.
[ 554 ]
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله. القول في تأويل قوله تعالى: وأقيموا الصلاة. يعني بقوله: وأقيمو الصلاة أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها. كما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود، قال: وأقيموا الصلاة هذه، وإقامة الصلاة تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والاقبال عليها فيها. القول في تأويل قوله تعالى: وآتوا الزكاة. قد بينا فيما مضى قبل معنى الزكاة وما أصلها. وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية، فهي ما: حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: وآتوا الزكاة قال: إيتاء الزكاة ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد (ص) كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها، فكان ذلك تقبله، ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل. وكان الذي قرب من مكسب لا يحل من ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمر الله به وبينه له. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وآتوا الزكاة يعني بالزكاة: طاعة الله والاخلاص. القول في تأويل قوله تعالى: ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون. وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والامهات، ويصلوا الارحام، ويتعطفوا على الايتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم. فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم فوفى لله بعهده وميثاقه. كما:
[ 555 ]
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس، قال: لما فرض الله عز وجل عليهم يعني على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالا وكراهية، وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم، وهم الذين استثنى الله فقال: ثم توليتم يقول: أعرضتم عن طاعتي إلا قليلا منكم قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي، وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول: تركها استخفافا بها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عن عكرمة، عن ابن عباس: ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون أي تركتم ذلك كله. وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: وأنتم معرضون اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله (ص)، وعنى بسائر الآية أسلافهم كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: ثم توليتم إلا قليلا منكم ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم على ما ذكرناه فيما مضى قبل. ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم. وقال آخرون: بل قوله: ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة وتبديلهم أمر الله وركوبهم معاصيه. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) * قال أبو جعفر: قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم في المعنى والاعراب نظير قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله. وأما سفك الدم، فإنه صبه وإراقته. فإن قال قائل: وما معنى قوله: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من
[ 556 ]
دياركم ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم، ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك ؟ قيل: ليس الامر في ذلك على ما ظننت، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا، فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذ كانت ملتهما بمنزلة رجل واحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. وقد يجوز أن يكون معنى قوله: لا تسفكون دماءكم أي لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فيقاد به قصاصا، فيكون بذلك قاتلا نفسه لانه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل، فأضيف بذلك إليه قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه، كما يقال للرجل يركب فعلا من الافعال يستحق به العقوبة فيعاقب العقوبة: أنت جنيت هذا على نفسك. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم أي لا يقتل بعضكم بعضا، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ونفسك يا ابن آدم أهل ملتك. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، ولا حدثني تخرجون أنفسكم من دياركم يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار. حدثنى المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله: لا تسفكون دماءكم يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق ولا تخرجون أنفسكم من دياركم فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
[ 557 ]
القول في تأويل قوله تعالى: ثم أقررتم. يعني بقوله: ثم أقررتم بالميثاق الذي أخذنا عليكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم. كما: حدثنا المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ثم أقررتم يقول: أقررتم بهذا الميثاق. وحدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. القول في تأويل قوله تعالى: وأنتم تشهدون. اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله وأنتم تشهدون. فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) أيام هجرته إليه مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، فقال الله تعالى لهم: ثم أقررتم يعني بذلك إقرار أوائلكم وسلفكم وأنتم تشهدون على إقراركم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ويصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم. وممن حكي معنى هذا القول عنه ابن عباس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون أن هذا حق من ميثاقي عليكم. وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها التي قد بينا تأويلها فيما مضى. وتأولوا قوله وأنتم تشهدون على معنى: وأنتم شهود. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله: وأنتم تشهدون يقول وأنتم شهود. قال أبو جعفر: وأولى الاقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي أن يكون قوله: وأنتم تشهدون خبرا عن أسلافهم، وداخلا فيه المخاطبون منهم الذين أدركوا رسول الله (ص)،
[ 558 ]
كما كان قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم خبرا عن أسلافهم وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله (ص) لان الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى (ص) من بني إسرائيل على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه، فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم ذلك الميثاق، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، بقوله: ثم أقررتم وأنتم تشهدون فإذ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا (ص) منهم، فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة لان الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: ثم أقررتم وأنتم تشهدون وما أشبه ذلك من الآي بعضهم دون بعض والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذ كان ذلك كذلك فليس لاحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها، أعني قوله: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم الآية لانه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد (ص). القول في تأويل قوله تعالى: * (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) * قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: ثم أنتم هؤلاء وجهان: أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك يا استغناء بدلالة الكلام عليه، كما قال: يوسف أعرض عن هذا وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأن ذلك حق لي عليكم
[ 559 ]
لازم لكم الوفاء لي به تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم بالاثم والعدوان. والتعاون: هو التظاهر وإنما قيل: للتعاون التظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعض، فهو تفاعل من الظهر، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض. والوجه الآخر أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم فيرجع إلى الخبر عن أنتم، وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم بهؤلاء، كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس، ولو قيل: أنا هذا أجلس كان صحيحا جائزا، كذلك أنت ذاك تقوم. وقد زعم بعض البصريين أن قوله هؤلاء في قوله: ثم أنتم هؤلاء تنبيه وتوكيد ل أنتم، وزعم أن أنتم وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا ب هؤلاء وأولاء، لانها كناية عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة: أقول له والرمح يأطر متنه تبين خفافا إنني أنا ذلكا يريد: أنا هذا. وكما قال جل ثناؤه: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم. ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية نحو اختلافهم فيمن عني بقوله: وأنتم تشهدون. ذكر اختلاف المختلفين في ذلك: حدثنا محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بإلاثم والعدوان إلى أهل الشرك حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم. فقال: أنبهم الله من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم فكانوا فريقين طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج والنضير وقريظة حلفاء الاوس، فكانوا إذا كانت بين الاوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الاوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون منها ما
[ 560 ]
عليهم وما لهم، والاوس والخزرج أهل الشرك يعبدون الاوثان لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا، ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حراما، ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقا لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض: يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الاوس، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوا من الدماء وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرا لاهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره حين أنبأهم بذلك: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من ذلك، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الاوثان من دونه ابتغاء عرض من عرض الدنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الاوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون قال: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فأعتقوه. فكانت قريظة حلفاء الاوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سمير، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم ؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم ؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم عز وجل فقال: ثم أنتم هولاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين، وكانوا بهذه المثابة، وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الاوس والخزرج
[ 561 ]
أخوين فافترقا، وافترقت قريظة والنضير، فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الاوس. فاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضا، فقال الله جل ثناؤه: ثم أنتم هولاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم الآية. وقال آخرون بما: حدثني به المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم. وأما العدوان فهو الفعلان من التعدي، يقال منه: عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا، واعتدى يعتدي اعتداء، وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا. وقد اختلف القراء في قراءة: تظاهرون فقرأها بعضهم: تظاهرون، على مثال تفاعلون فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة. وقرأها آخرون: تظاهرون، فشدد بتأويل تتظاهرون، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء لتقارب مخرجيهما فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان وإن اختلفت ألفاظهما فإنهما متفقتا المعنى، فسواء بأي ذلك قرأ القارئ لانهما جميعا لغتان معروفتان وقراءتان مستفيضتان في أمصار الاسلام بمعنى واحد ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الاخرى إلا أن يختار مختار تظاهرون المشددة طلبا منه تتمة الكلمة. القول في تأويل قوله تعالى: وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض. يعني بقوله جل ثناؤه: وإن يأتوكم أسارى تفادوهم اليهود يوبخهم بذلك، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها. فقال لهم: ثم أنتم بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم تقتلون أنفسكم يعني به يقتل بعضكم بعضا، وأنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم الاسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم تفدونه ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم وتركهم أسرى في أيدي عدوكم، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم ؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم وتستجيزون قتلهم ؟ وهم جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم سواء لان الذي حرمت
[ 562 ]
عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم أفتؤمنون ببعض الكتاب الذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبينت لكم فيه حدودي وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم وتكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم ؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ثم أنتم هولاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فادين والله إن فداءهم لايمان وإن إخراجهم لكفر، فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم افتكوهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عن عكرمة، عن ابن عباس: وإن يأتوكم أسارى تفادوهم قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم، وهو محرم عليكم في كتابكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرا بذلك ؟ حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وإن يأتوكم أسارى تفادوهم يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك ؟ حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، قال: قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فكان إخراجهم كفرا وفداؤهم إيمانا. حدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ثم أنتم هولاء تقتلون أنفسكم الآية، قال: كان في بني إسرائيل إذا
[ 563 ]
استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالاخراج من الديار فأخرجوا. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، قال: ثنا الربيع بن أنس، قال: أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض قال: كفرهم القتل والاخراج، وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم. وأما إذا أسروا تفادوهم ؟ وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل: إن بني إسرائيل قد مضوا وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث. واختلف القراء في قراءة قوله: وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فقرأه بعضهم: أسرى تفدوهم، وبعضهم: أسارى تفادوهم، وبعضهم: أسارى تفادوهم، وبعضهم: أسرى تفادوهم. قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: وإن يأتوكم أسرى، فإنه أراد جمع الاسير، إذ كان على فعيل على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير فعيل، إذ كان الاسر شبيه المعنى في الاذى والمكروه الداخل على الاسير ببعض معاني العاهات وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا، فقيل أسير وأسرى، كما قيل مريض ومرضى وكسير وكسرى، وجريح وجرحى. وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: أسارى، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع فعلان، إذ كان جمع فعلان الذي له فعلى قد يشارك جمع فعيل، كما قالوا سكارى وسكرى وكسالى وكسلى، فشبهوا أسيرا وجمعوه مرة أسارى وأخرى أسرى بذلك. وكان بعضهم يزعم أن معنى الاسرى مخالف معنى الاسارى، ويزعم أن معنى الاسرى استئسار القوم بغير أسر من المستأسر لهم، وأن معنى الاسارى معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة.
[ 564 ]
قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب، ولكن ذلك على ما وصفت من جمع الاسير مرة على فعلى لما بينت من العلة، ومرة على فعالى لما ذكرت من تشبيههم جمعه بجمع سكران وكسلان وما أشبه ذلك. وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: وإن يأتوكم أسرى لان فعالى في جمع فعيل غير مستفيض في كلام العرب. فإذا كان ذلك غير مستفيض في كلامهم، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات التي بمعنى الآلام والزمانة واحدة على تقدير فعيل على فعلى كالذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك الاسير كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها. وأما من قرأ: تفادوهم فإنه أراد أنكم تفدونهم من أسرهم، ويفدى منكم الذين أسروهم ففادوكم بهم أسراكم منهم. وأما من قرأ ذلك: تفادوهم فإنه أراد أنكم يا معشر اليهود إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم. وهذه القراءة أعجب إلي من الاولى، أعني: أسرى تفادوهم لان الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم. وأما قوله: وهو محرم عليكم إخراجهم فإن في قوله: وهو وجهين من التأويل أحدهما: أن يكون كناية عن الاخراج الذي تقدم ذكره، كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر الاخراج الذي بعد وهو محرم عليكم تكريرا على هو، لما حال بين الاخراج وهو كلام. والتأويل الثاني: أن يكون عمادا لما كانت الواو التي مع هو تقتضي اسما يليها دون الفعل، فلما قدم الفعل قبل الاسم الذي تقتضيه الواو أن يليها أوليت هو لانه اسم، كما تقول: أتيتك وهو قائم أبوك، بمعنى: وأبوك قائم، إذ كانت الواو تقتضي اسما فعمدت ب هو، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام كما قال الشاعر: فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته على العيس في آباطها عرق يبس بأن السلامى الذي بضرية أمير الحمى قد باع حقي بني عبس
[ 565 ]
بثوب ودينار وشاة ودرهم فهل هو مرفوع بما ههنا رأس فأوليت هل لطلبها الاسم العماد. القول في تأويل قوله تعالى: فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا. يعني بقوله جل ثناؤه: فما جزاء من يفعل ذلك منكم فليس لمن قتل منكم قتيلا فكفر بقتله إياه بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة، وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى، جزاء يعني بالجزاء: الثواب وهو العوض مما فعل من ذلك والاجر عليه، إلا خزي في الحياة الدنيا والخزي الذل والصغار، يقال منه: خزي الرجل يخزى خزيا. في الحياة الدنيا، يعني في عاجل الدنيا قبل الآخرة. ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد (ص) من أخذ القاتل بمن قتل والقود به قصاصا، والانتقام للمظلوم من الظالم. وقال آخرون: بل ذلك هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم ذلة لهم وصغارا. وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا إخراج رسول الله (ص) النضير من ديارهم لاول الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم فكان ذلك خزيا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. القول في تأويل قوله تعالى: ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب. يعني بقوله: ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب: ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله إلى أشد العذاب الذي أعد الله لاعدائه. وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب من عذاب الدنيا. ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد
[ 566 ]
معاني العذاب ولذلك أدخل فيه الالف واللام، لانه عنى به جنس العذاب كله دون نوع منه. القول في تأويل قوله تعالى: وما الله بغافل عما تعملون. اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: وما الله بغافل عما يعملون بالياء على وجه الاخبار عنهم، فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون يعني عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب. وقرأه آخرون: وما الله بغافل عما تعملون بالتاء على وجه المخاطبة قال: فكأنهم نحوا بقراءتهم: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض... وما الله بغافل يا معشر اليهود عما تعملون أنتم. وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ بالياء إتباعا لقوله: فما جزاء من يفعل ذلك منكم ولقوله: ويوم القيامة يردون لان قوله: وما الله بغافل عما يعملون إلى ذلك أقرب منه إلى قوله: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فاتباعه الاقرب إليه أولى من إلحاقه بالابعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من الصواب. وتأويل قوله: وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة، بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة ويخزيهم في الدنيا فيذلهم ويفضحهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) * يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعض، فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره، نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل
[ 567 ]
الجهل والغباء من أهل ملتهم، وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها، بالايمان الذي كان يكون لهم به في الآخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة لانهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين، فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا. كما: حدثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة. قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه، لا حظ لهم في نعيم الآخرة، وأن الذي لهم في الآخرة العذاب غير مخفف عنهم فيها العذاب لان الذي يخفف عنه فيها من العذاب هو الذي له حظ في نعيمها، ولا حظ لهؤلاء لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم بآخرتهم. وأما قوله: ولا هم ينصرون فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله، لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) * يعني بقوله جل ثناؤه: آتينا موسى الكتاب: أنزلناه إليه. وقد بينا أن معنى الايتاء: الاعطاء فيما مضى قبل، والكتاب الذي آتاه الله موسى عليه السلام هو التوراة. وأما قوله: وقفينا فإنه يعني: وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض، كما يقفو الرجل الرجل إذا سار في أثره من ورائه. وأصله من القفا، يقال منه: قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه، كما يقال دبرته: إذا صرت في دبره. ويعني بقوله: من بعده: من بعد موسى. ويعني بالرسل الانبياء، وهم جمع رسول، يقال: هو رسول وهم رسل، كما يقال: هو صبور وهم قوم صبر، وهو رجل شكور وهم قوم شكر.
[ 568 ]
وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: وقفينا من بعده بالرسل أي أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة لان كل من بعثه الله نبيا بعد موسى (ص) إلى زمان عيسى ابن مريم، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها، فلذلك قيل: وقفينا من بعده بالرسل يعني على منهاجه وشريعته، والعمل بما كان يعمل به. القول في تأويل قوله تعالى: وآتينا عيسى ابن مريم البينات. يعني بقوله: وآتينا عيسى ابن مريم البينات أعطينا عيسى ابن مريم. ويعني بالبينات التي آتاه الله إياها ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته من إحياء الموتى وإبراء الاكمة ونحو ذلك من الآيات التي أبانت منزلته من الله، ودلت على صدقه وصحة نبوته. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: وآتينا عيسى ابن مريم البينات أي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، وإبراء الاسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة مع الانجيل الذي أحدث الله إليه. القول في تأويل قوله تعالى: وأيدناه بروح القدس. أما معنى قوله: وأيدناه فإنه قويناه فأعناه، كما: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك: وأيدناه يقول: نصرناه. يقال منه: أيدك الله: أي قواك، وهو رجل ذو أيد وذو آد، يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج: من أن تبدلت بآدي آدا يعني بشبابي قوة المشيب. ومنه قول الآخر: إن القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو جلد وبطش أيد
[ 569 ]
يعني بالايد القوي. ثم اختلف في تأويل قوله: روح القدس. فقال بعضهم: روح القدس الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به هو جبريل عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: وأيدناه بروح القدس قال: هو جبريل. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: وأيدناه بروح القدس قال: هو جبريل عليه السلام. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: وأيدناه بروح القدس قال: روح القدس: جبريل. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: وأيدناه بروح القدس قال: أيد عيسى بجبريل وهو روح القدس. وقال ابن حميد: حدثنا سلمة عن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، عن شهر بن حوشب الاشعري: أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله (ص) فقالوا: أخبرنا عن الروح قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل، وهو يأتيني ؟ قالوا: نعم. وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى هو الانجيل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأيدناه بروح القدس قال: أيد الله عيسى بالانجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله، كما قال الله: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا. وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن
[ 570 ]
الضحاك، عن ابن عباس: وأيدناه بروح القدس قال: هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى. وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: الروح في هذا الموضع جبريل لان الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به، كما أخبر في قوله: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل. فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الانجيل لكان قوله: إذ أيدتك بروح القدس وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه على تأويل قول من قال: معنى: إذ أيدتك بروح القدس إنما هو: إذ أيدتك بالانجيل، وإذ علمتك الانجيل وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو معلمه. فذلك تكرير كلام واحد من غير زيادة معنى في أحدهما على الآخر، وذلك خلف من الكلام، والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وإذا كان ذلك كذلك فبين فساد قول من زعم أن الروح في هذا الموضع الانجيل، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لانها تحيا بها القلوب الميتة، وتنتعش بها النفوس المولية، وتهتدي بها الاحلام الضالة. وإنما سمى الله تعالى جبريل روحا وأضافه إلى القدس لانه كان بتكوين الله له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده، فسماه بذلك روحا، وأضافه إلى القدس والقدس: هو الطهر كما سمي عيسى ابن مريم روحا لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده. وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا أن معنى التقديس: التطهير، والقدس: الطهر من ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه. 1233 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: القدس: البركة. 1234 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: القدس: هو الرب تعالى ذكره. 1235 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وأيدناه بروح
[ 571 ]
القدس قال: الله القدس، وأيد عيسى بروحه. قال: نعت الله القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس قال: القدس والقدوس واحد. 1236 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحرث، عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، قال: قال: نعت الله: القدس. القول في تأويل قوله تعالى: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم فريقا كذبتم وفريقا تقتلون. يعني جل ثناؤه بقوله: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم اليهود من بني إسرائيل. 1237 - حدثني بذلك محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بني إسرائيل، لقد آتينا موسى التوراة، وتابعنا من بعده بالرسل إليكم، وآتينا عيسى ابن مريم البينات والحجج إذ بعثناه إليكم، وقويناه بروح القدس. وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم تجبرا وبغيا استكبار إمامكم إبليس فكذبتم بعضا منهم، وقتلتم بعضا، فهذا فعلكم أبدا برسلي. وقوله: أفكلما إن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب فهو بمعنى الخبر. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) * اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: وقالوا قلوبنا غلف مخففة اللام ساكنة، وهي قراءة عامة الامصار في جميع الاقطار. وقرأه بعضهم: وقالوا قلوبنا غلف مثقلة اللام مضمومة. فأما الذين قرءوها بسكون اللام وتخفيفها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا قلوبنا في أكنة وأغطية وغلف. والغلف على قراءة هؤلاء، جمع أغلف، وهو الذي في غلاف وغطاء كما يقال للرجل الذي لم يختتن: أغلف، والمرأة غلفاء، وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه: سيف أغلف، وقوس غلفاء، وجمعها غلف، وكذلك فمع ما كان من
[ 572 ]
النعوت ذكره على أفعل وأنثاه على فعلاء، يجمع على فعل مضمومة الاول ساكنة الثاني، مثل أحمر وحمر، وأصفر وصفر، فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير، ولا يجوز تثقيل عين فعل منه إلا في ضرورة شعر، كما قال طرفة بن العبد: أيها الفتيان في مجلسنا * جردوا منها ورادا وشقر يريد: شقرا، لان الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه. ومنه الخبر الذي: 1238 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير بن سلمان، قال: ثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة. ثم ذكرها، فقال فيما ذكر: وقلب أغلف: معصوب عليه، فذلك قلب الكافر. ذكر من قال ذلك، يعني أنها في أغطية. 1239 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: وقالوا قلوبنا غلف أي في أكنة. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: قلوبنا غلف أي في غطاء. * - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وقالوا قلوبنا غلف فهي القلوب المطبوع عليها. 1240 - حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قوله: وقالوا قلوبنا غلف عليها غشاوة. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: وقالوا قلوبنا غلف عليها غشاوة. 1241 - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا شريك عن الاعمش قوله: قلوبنا غلف قال: هي في غلف.
[ 573 ]
1242 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وقالوا قلوبنا غلف أي لا تفقه. 1243 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وقالوا قلوبنا غلف قال: هو كقوله: قلوبنا في أكنة. * - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: قلوبنا غلف قال: عليها طابع، قال هو كقوله: قلوبنا في أكنة. 1244 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: قلوبنا غلف أي لا تفقه. 1245 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وقالوا قلوبنا غلف قال: يقولون: عليها غلاف وهو الغطاء. 1246 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قلوبنا غلف قال: يقول قلبي في غلاف، فلا يخلص إليه مما تقول. وقرأ: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه. قال أبو جعفر: وأما الذين قرءوها: غلف بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى أنها أوعية. قال: والغلف على تأويل هؤلاء جمع غلاف، كما يجمع الكتاب كتب، والحجاب حجب، والشهاب شهب. فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ: غلف بتحريك اللام وضمها: وقالت اليهود قلوبنا غلف للعلم، وأوعية له ولغيره. ذكر من قال ذلك: 1247 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: وقالوا قلوبنا غلف قال: أوعية للذكر. * - حدثني محمد بن عمارة الاسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله: قلوبنا غلف قال: أوعية للعلم.
[ 574 ]
* - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا فضيل، عن عطية، مثله. 1248 - حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وقالوا قلوبنا غلف قال: مملوءة علما لا تحتاج إلى محمد (ص) ولا غيره. والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: قلوبنا غلف هي قراءة من قرأ غلف بتسكين اللام بمعنى أنها في أغشية وأغطية لاجتماع الحجة من القراء وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه من قراءة ذلك بضم اللام. وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه حجة على من بلغه، وما جاء به المنفرد فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان. القول في تأويل قوله تعالى: بل لعنهم الله بكفرهم. يعني جل ثناؤه بقوله: بل لعنهم الله: بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم وجحودهم آيات الله وبيناته، وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك. وأصل اللعن: الطرد والابعاد والاقصاء، يقال: لعن الله فلانا يلعنه لعنا وهو ملعون، ثم يصرف مفعول فيقال هو لعين ومنه قول الشماخ بن ضرار: ذعرت به القطا ونفيت عنه مكان الذئب كالرجل اللعين قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: بل لعنهم الله بكفرهم تكذيب منه للقائلين من اليهود: قلوبنا غلف لان قوله: بل دلالة على جحده جل ذكره، وإنكاره ما ادعوا من ذلك إذ كانت بل لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود. فإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: وقالت اليهود قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم
[ 575 ]
من رحمته وطردهم عنها وأخزاهم بجحودهم له ولرسله فقليلا ما يؤمنون. القول في تأويل قوله تعالى: فقليلا ما يؤمنون. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: فقليلا ما يؤمنون. فقال بعضهم: معناه: فقليل منهم من يؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا قليل. ذكر من قال ذلك: 1249 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد ابن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير. 1250 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: فقليلا ما يؤمنون قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. ذكر من قال ذلك: 1251 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: فقليلا ما يؤمنون قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. وأولى التأويلات في قوله: فقليلا ما يؤمنون بالصواب ما نحن متقنوه إن شاء الله وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الايمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد (ص)، ولذلك نصب قوله: فقليلا لانه نعت للمصدر المتروك ذكره، ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانا قليلا ما يؤمنون. فقد تبين إذا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك لان معنى ذلك لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان القليل مرفوعا لا منصوبا لانه إذا كان ذلك تأويله كان القليل حينئذ مرافعا ما وإن نصب القليل، وما في معنى من أو الذي بقيت ما لا مرافع لها، وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب. فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى ما التي في قوله: فقليلا ما يؤمنون فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها، وإنما تأويل الكلام: فقليلا يؤمنون، كما قال جل ذكره:
[ 576 ]
فبما رحمة من الله لنت لهم وما أشبه ذلك. فزعم أن ما في ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم وأنشد في ذلك محتجا لقوله ذلك ببيت مهلهل: لو بأبانين جاء يخطبها خضب ما أنف خاطب بدم ورغم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم، وأن ما زائدة. وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في ما في الآية، وفي البيت الذي أنشده، وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الاشياء، إذ كانت ما كلمة تجمع كل الاشياء ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها. وهذا القول عندنا أولى بالصواب لان زيادة ما لا تفيد من الكلام معنى في الكلام غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه. ولعل قائلا أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلا ما يؤمنون من الايمان قليل أو كثير فيقال فيهم فقليلا ما يؤمنون ؟ قيل: إن معنى الايمان هو التصديق، وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله وبالبعث والثواب والعقاب، وتكفر بمحمد (ص) ونبوته، وكل ذلك كان فرضا عليهم الايمان به لانه في كتبهم، ومما جاءهم به موسى فصدقوا ببعض هو ذلك القليل من إيمانهم، وكذبوا ببعض فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به. وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشئ، وإنما قيل: فقليلا ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط، وقد روي عنها سماعا
[ 577 ]
منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل، يعني: ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشئ بالقلة، والمعنى فيه نفي جميعه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) * يعني جل ثناؤه بقوله: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم: ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم، كتاب من عند الله يعني بالكتاب: القرآن الذي أنزله الله على محمد (ص)، مصدق لما معهم يعني مصدق للذي معهم من الكتب التي أنزلها الله من قبل القرآن. كما: 1252 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وهو القرآن الذي أنزل على محمد مصدق لما معهم من التوراة والانجيل. 1253 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وهو القرآن الذي أنزل على محمد (ص) مصدق لما معهم من التوراة والانجيل. القول في تأويل قوله تعالى: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. يعني بقوله جل ثناؤه: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا أي وكان هؤلاء اليهود الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب التي أنزلها الله قبل الفرقان، كفروا به يستفتحون بمحمد (ص) ومعنى الاستفتاح: الاستنصار - يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه أي من قبل أن يبعث. كما: 1254 - حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن
[ 578 ]
عاصم بن عمر بن قتادة الانصاري، عن أشياخ منهم قالوا: فينا والله وفيهم يعني في الانصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة، يعني: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية، ونحن أهل الشرك، وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه، يقتلكم قتل عاد وإرم فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. يقول الله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. 1255 - حدثنا بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الاوس والخزرج برسول الله (ص) قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد (ص) ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشئ نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. * - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، مثله. 1256 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا يقول: يستنصرون بخروج محمد (ص) على مشركي العرب يعني بذلك أهل الكتاب فلما بعث الله محمدا (ص) ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه. 1257 - وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن
[ 579 ]
ابن أبي نجيح، عن علي الازدي في قول الله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا قال: اليهود، كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون يستنصرون به على الناس. * - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن علي الازدي وهو البارقي في قول الله جل ثناؤه: وكانوا من قبل يستفتحون فذكر مثله. 1258 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا كانت اليهود تستفتح بمحمد (ص) على كفار العرب من قبل، وقالوا: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم فلما بعث الله محمدا (ص) فرأوا أنه بعث من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله (ص) يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. 1259 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد (ص) على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم فلما بعث الله محمدا ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله (ص) فقال الله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. 1260 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا (ص) في التوراة، ويسألون الله أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب فلما جاءهم محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل. 1261 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا قال: كانوا يستفتحون على كفار العرب بخروج النبي (ص)، ويرجون أن يكون منهم. فلما خرج ورأوه ليس منهم كفروا، وقد عرفوا أنه الحق وأنه النبي. قال: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.
[ 580 ]
قال: حدثنا ابن جريج، وقال مجاهد: يستفتحون بمحمد (ص) تقول أنه يخرج، فلما جاءهم ما عرفوا وكان من غيرهم، كفروا به. 1262 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: وقال ابن عباس: كانوا يستفتحون على كفار العرب. 1263 - حدثني المثنى، قال: حدثني الحماني، قال: حدثني شريك، عن أبي الحجاب، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قوله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به قال: هم اليهود عرفوا محمدا أنه نبي، وكفروا به. 1264 - حدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا قال: كانوا يستظهرون يقولون نحن نعين محمدا عليهم، وليسوا كذلك يكذبون. 1265 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قول الله عز وجل: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به قال: كانت يهود يستفتحون على كفار العرب يقولون: أما والله لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى أحمد لكان لنا عليكم. وكانوا يظنون أنه منهم والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون عليهم به ويستنصرون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحسدوه. وقرأ قول الله جل ثناؤه: كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق قال: قد تبين لهم أنه رسول، فمن هنالك نفع الله الاوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيا خارج. فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في جوابه، فقال بعضهم: هو مما ترك جوابه استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن. وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتي بأشياء لها أجوبة فتحذف أجوبتها لاستغناء سامعيها بمعرفتهم بمعناها عن ذكر الاجوبة، كما قال جل ثناؤه: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى بل لله الامر جمعيا فترك جوابه. والمعنى: ولو أن قرآنا سوى هذا
[ 581 ]
القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن استغناء بعلم السامعين بمعناه. قالوا: فكذلك قوله: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم. وقال آخرون: جواب قوله: ولما جاءهم كتاب من عند الله في الفاء التي في قوله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وجواب الجزاءين في كفروا به كقولك: لما قمت فلما جئتنا أحسنت، بمعنى: لما جئتنا إذ قمت أحسنت. القول في تأويل قوله تعالى: فلعنة الله على الكافرين. قد دللنا فيما مضى على معنى اللعنة وعلى معنى الكفر، بما فيه الكفاية. فمعنى الآية: فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحق عليهم لله ولانبيائه المنكرين، لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد (ص). ففي إخبار الله عز وجل عن اليهود بما أخبر الله عنهم بقوله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد (ص) بعد قيام الحجة بنبوته عليهم وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) * ومعنى قوله جل ثناؤه: بئسما اشتروا به أنفسهم ساء ما اشتروا به أنفسهم. وأصل بئس: بئس من البؤس، سكنت همزتها ثم نقلت حركتها إلى الباء، كما قيل في ظللت: ظلت، وكما قيل للكبد: كبد، فنقلت حركة الباء إلى الكاف لما سكنت الباء. وقد يحتمل أن تكون بئس وإن كان أصلها بئس من لغة الذين ينقلون حركة العين من فعل إلى الفاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة، كما قالوا من لعب لعب، ومن سئم سئم، وذلك فيما يقال لغة فاشية في تميم، ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ ووصلت ب " ما ".
[ 582 ]
واختلف أهل العربية في معنى ما التي مع بئسما، فقال بعض نحويي البصرة: هي وحدها اسم، وأن يكفروا تفسير له، نحو: نعم رجلا زيد. وأن ينزل الله بدل من أنزل الله. وقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشئ اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف " ما " اسم بئس، وأن يكفروا الاسم الثاني. وزعم أن أن ينزل الله من فضله إن شئت جعلت أن في موضع رفع، وإن شئت في موضع خفض. أما الرفع: فبئس الشئ هذا أن فعلوه وأما الخفض: فبئس الشئ اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا. قال: وقوله: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم كمثل ذلك. والعرب تجعل ما وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التام كقوله: فنعما هي وبئسما أنت. واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز: لا تعجلا في السير وادلواها * لبئسما بطء ولا نرعاها قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر، فيجعلون ما وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي بئس معرفة موقتة وخبره معرفة موقتة. وقد زعم أن بئسما بمنزلة: بئس الشئ اشتروا به أنفسهم، فقد صارت ما بصلتها اسما موقتا لان اشتروا فعل ماض من صلة ما في قول قائل هذه المقالة، وإذا وصلت بماض من الفعل كانت معرفة موقتة معلومة فيصير تأويل الكلام حينئذ: بئس شراؤهم كفرهم، وذلك عنده غير جائز، فقد تبين فساد هذا القول. وكان آخر منهم يزعم أن " أن " في موضع خفض إن شئت، ورفع إن شئت، فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي في به على التكرير على كلامين، كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكررا على موضع ما التي تلي بئس. قال: ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك: بئس الرجل عبد الله.
[ 583 ]
وقال بعضهم: بئسما شئ واحد يعرف ما بعده كما حكي عن العرب: بئسما تزويج ولا مهر فرافع تزويج بئسما، كما يقال: بئسما زيد، وبئسما عمرو، فيكون بئسما رفعا بما عاد عليها من الهاء، كأنك قلت: بئس شئ الشئ اشتروا به أنفسهم، وتكون أن مترجمة عن بئسما. وأولى هذه الاقوال بالصواب قول من جعل بئسما مرفوعا بالراجع من الهاء في قوله: اشتروا به كما رفعوا ذلك بعبد الله، إذ قالوا: بئسما عبد الله، وجعل أن يكفروا مترجمة عن بئسما، فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشي باع اليهود به أنفسم كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله. وتكون أن التي في قوله: أن ينزل الله، في موضع نصب لانه يعني به أن يكفروا بما أنزل الله من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده وموضع أن جر. وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن أن في موضع خفض بنية الباء. وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها، والحرف الخافض لا يخفض مضمرا. وأما قوله: اشتروا به أنفسهم فإنه يعني به باعوا أنفسهم. كما: 1266 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: بئسما اشتروا به أنفسهم يقول: باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا. 1267 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: بئسما اشتروا به أنفسهم يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد (ص) بأن بينوه. والعرب تقول: شريته بمعنى بعته، واشتروا في هذا الموضع افتعلوا من شريت. وكلام العرب فيما بلغنا أن يقولوا: شريت بمعنى بعت، واشتريت بمعنى ابتعت. وقيل إنما سمي الشاري شاريا لانه باع نفسه ودنياه بآخرته. ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري:
[ 584 ]
وشريت بردا ليتني * من قبل برد كنت هامه ومنه قول المسيب بن علس: يعطى بها ثمنا فيمنعها * ويقول صاحبها ألا تشري يعني به: بعت بردا. وربما استعمل اشتريت بمعنى بعت، وشريت في معنى ابتعت، والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت. وأما معنى قوله: بغيا فإنه يعني به: تعديا وحسدا. كما: 1268 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد بن قتادة: بغيا قال: أي حسدا، وهم اليهود. 1269 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: بغيا قال: بغوا على محمد (ص) وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. 1270 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بغيا يعني حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد (ص). * - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشئ باعوا به أنفسهم الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى من نبوة محمد (ص) والامر بتصديقه واتباعه، من أجل أن أنزل الله من فضله، وفضله حكمته وآياته ونبوته على من يشاء من عباده يعني به على محمد (ص) بغيا وحسدا لمحمد (ص)، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل، ولم يكن من بني إسرائيل. فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل: بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ؟ وهل يشترى بالكفر شئ ؟ قيل: إن معنى الشراء والبيع عند العرب:
[ 585 ]
هو إزالة مالك ملكه إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا شرا أو خيرا، فتقول: نعم ما باع به فلان نفسه، وبئس ما باع به فلان نفسه، بمعنى: نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: بئس ما اشتروا به أنفسهم لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد (ص) فأهلكوها، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم فقال: بئسما اشتروا به أنفسهم يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا، إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه بالنار، وما أعد لهم بكفرهم بذلك. وهذه الآية وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا (ص) وقومه من العرب، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه، وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل نظيرة الآية الاخرى في سورة النساء، وذلك قوله: ألم تر الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما. القول في تأويل قوله تعالى: أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه. 1271 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الانصاري، عن أشياخ منهم قوله: بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده أي أن الله تعالى جعله في غيرهم. 1272 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: هم اليهود، ولما بعث الله نبيه محمدا (ص) فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله (ص) يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة. 1273 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.
[ 586 ]
1274 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 1275 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل. 1276 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الازدي قال: نزلت في اليهود. القول في تأويل قوله تعالى: فباءوا بغضب على غضب. يعني بقوله: فباءوا بغضب على غضب فرجعت اليهود من بني إسرائيل بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد (ص) والاستفتاح به، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا، فباءوا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث، وجحودهم نبوته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب على غضب سالف كان من الله عليهم قبل ذلك سابق غضبه الثاني لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستحقون بها الغضب من الله. كما: 1277 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما أروي عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: فباءوا بغضب على غضب فالغضب على الغضب غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم. 1278 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان عن أبي بكير، عن عكرمة: فباءوا بغضب على غضب قال: كفر بعيسى وكفر بمحمد (ص). * - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: فباءوا بغضب على غضب قال: كفرهم بعيسى ومحمد (ص). * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن عكرمة مثله. 1279 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: الناس
[ 587 ]
يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد (ص) فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد (ص) فباء بغضب. 1280 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: فباءوا بغضب على غضب غضب الله عليهم بكفرهم بالانجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد (ص). 1281 - حدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فباءوا بغضب اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي (ص)، على غضب جحودهم النبي (ص) وكفرهم بما جاء به. 1282 - حدثنا المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: فباءوا بغضب على غضب يقول: غضب الله عليهم بكفرهم بالانجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد (ص) وبالقرآن. 1283 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فباءوا بغضب على غضب أما الغضب الاول: فهو حين غضب الله عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني: فغضب عليهم حين كفروا بمحمد (ص). 1284 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله: فباءوا بغضب على غضب قال: غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي (ص) من تبديلهم وكفرهم، ثم غضب عليهم في محمد (ص) إذ خرج فكفروا به. قال أبو جعفر: وقد بينا معنى الغضب من الله على من غضب عليه من خلقه واختلاف المختلفين في صفته فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته، والله تعالى أعلم. القول في تأويل قوله تعالى: وللكافرين عذاب مهين.
[ 588 ]
يعني بقوله جل ثناؤه: وللكافرين عذاب مهين: وللجاحدين نبوة محمد (ص) من الناس كلهم عذاب من الله إما في الآخرة، وإما في الدنيا والآخرة مهين هو المذل صاحبه المخزي الملبسه هوانا وذلة. فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه فيكون للكافرين المهين منه ؟ قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا الذي يخلد فيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله وأما الذي هو غير مهين صاحبه: فهو ما كان تمحيصا لصاحبه، وذلك هو كالسارق من أهل الاسلام يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد، وما أشبه ذلك من العذاب، والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل الاسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير أجرامهم التي ارتكبوها ليمحصوا من ذنوبهم ثم يدخلون الجنة. فإن كل ذلك وإن كان عذابا فغير مهين من عذب به، إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه ثم يورده معدن العز والكرامة ويخلده في نعيم الجنان. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) * يعني بقوله جل ثناؤه: وإذا قيل لهم وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص): آمنوا أي صدقوا، بما أنزل الله يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد (ص). قالوا نؤمن أي نصدق، بما أنزل علينا يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى. القول في تأويل قوله تعالى: ويكفرون بما وراءه. يعني جل ثناؤه بقوله: ويكفرون بما وراءه ويجحدون بما وراءه، يعني بما وراء التوراة. قال أبو جعفر: وتأويل وراءه في هذا الموضع سوى كما يقال للرجل المتكلم بالحسن: ما وراء هذا الكلام شئ، يراد به ليس عند المتكلم به شئ سوى ذلك الكلام
[ 589 ]
فكذلك معنى قوله: ويكفرون بما وراءه أي بما سوى التوراة وبما بعده من كتب الله التي أنزلها إلى رسله. كما: 1285 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ويكفرون بما وراءه يقول: بما بعده. 1286 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ويكفرون بما وراءه أي بما بعده، يعني بما بعد التوراة. 1287 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ويكفرون بما وراءه يقول: بما بعده. القول في تأويل قوله تعالى: وهو الحق مصدقا لما معهم. يعني بقوله جل ثناؤه: وهو الحق مصدقا أي ما وراء الكتاب الذي أنزل عليهم من الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه الحق. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد (ص). كما: 1288 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو القرآن. يقول الله جل ثناؤه: وهو الحق مصدقا لما معهم. وإنما قال جل ثناؤه: مصدقا لما معهم لان كتب الله يصدق بعضها بعضا ففي الانجيل والقرآن من الامر باتباع محمد (ص) والايمان به وبما جاء به، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام فلذلك قال جل ثناؤه لليهود إذ خبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه: إنه الحق مصدقا للكتاب الذي معهم، يعني أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون. قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالانجيل والفرقان، عنادا لله وخلافا لامره وبغيا على رسله صلوات الله عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: قل لم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين. يعني جل ذكره بقوله: قل فلم تقتلون أنبياء الله: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل الذين إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم أنبياءه وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم. وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب
[ 590 ]
لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم. كما: 1289 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال الله تعالى ذكره وهو يعيرهم، يعني اليهود: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين. * - فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثم أخبر أنه قد مضى ؟ قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك، فقال بعض البصريين: معنى ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل ؟ كما قال جل ثناؤه: واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ما تلت، وكما قال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت عنه وقلت لا يعنيني يريد بقوله: ولقد أمر: ولقد مررت. واستدل على أن ذلك كذلك بقوله: فمضيت عنه، ولم يقل: فأمضي عنه. وزعم أن فعل ويفعل قد تشترك في معنى واحد، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: وإني لآتيكم بشكري ما مضى * من الامر واستيجاب ما كان في غد يعني بذلك: ما يكون في غد. وبقول الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * أن الوليد أحق بالعذر يعني: يشهد. وكما قال الآخر: فما أضحي ولا أمسيت إلا * أراني منكم في كوفان
[ 591 ]
فقال: أضحي، ثم قال: ولا أمسيت. وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ومعناه الماضي، كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل، فيقول له: ويحك لم تكذب ولم تبغض نفسك إلى الناس ؟ كما قال الشاعر: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة * ولم تجدي من أن تقري به بدا فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت وذلك أن المعنى معروف، فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام إذا نظرت في سيرة عمر لم تجده يسئ، المعنى: لم تجده أساء، فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه لم يقع في الوهم أنه مستقبل، فلذلك صلحت من قبل مع قوله: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل. قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الانبياء أسلافهم الذين مضوا، فتلوهم على ذلك ورضوا فنسب القتل إليهم. والصواب فيه من القول عندنا أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله (ص) من يهود بني إسرائيل، بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور، بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا، على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل وإن كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم على نحو الذي بينا، جاز أن يقال من قبل إذ كان معناه: قل فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل ؟ وكان معلوما بأن قوله: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إنما هو خبر عن فعل سلفهم. وتأويل قوله: من قبل أي من قبل اليوم. أما قوله: إن كنتم مؤمنين فإنه يعني إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله (ص) وأسلافهم، إن كانوا وكنتم كما
[ 592 ]
تزعمون أيها اليهود مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه عند قولهم حين قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا لانهم كانوا لاوائلهم الذين تولوا قتل أنبياء الله مع قيلهم: نؤمن بما أنزل علينا متولين، وبفعلهم راضين، فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون قتله أنبياء الله ؟ أي ترضون أفعالهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) * يعني جل ثناؤه بقوله: ولقد جاءكم موسى بالبينات أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وحقية نبوته كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا، ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين، وفلق البحر، ومصير أرضه له طريقا يبسا، والجراد والقمل والضفادع، وسائر الآيات التي بينت صدقه وحقية نبوته. وإنما سماها الله بينات لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له، وإنما هي جمع بينة مثل طيبة وطيبات. قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم يا معشر يهود بني إسرائيل موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وحقية نبوته. وقوله: ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها، فالهاء التي في قوله: من بعده من ذكر موسى. وإنما قال: من بعد موسى، لانهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده، على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا. وقد يجوز أن تكون الهاء التي في بعده إلى ذكر المجئ، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعد مجئ البينات وأنتم ظالمون، كما تقول: جئتني فكرهته يعني كرهت مجيئك. وأما قوله: وأنتم ظالمون فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل، وليس ذلك لكم وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه لان العبادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبيخ من الله لليهود، وتعيير منه لهم، وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي
[ 593 ]
يفعل من الاعاجيب وبدائع الافعال ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه من الامور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله، ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه، وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حكم الله فهم إلى تكذيب محمد (ص) وجحوده ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة أسرع، وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) * يعني بقوله جل ثناؤه: وإذ أخذنا ميثاقكم: واذكروا إذ أخذنا عهودكم بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري، وتنتهوا عما نهيتكم فيها بجد منكم في ذلك ونشاط، فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم، إذ رفعنا فوقكم الجبل. أما قوله: واسمعوا فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به، وتقبلوه بالطاعة كقول الرجل للرجل يأمره بالامر: سمعت وأطعت، يعني بذلك: سمعت قولك وأطعت أمرك. كما قال الراجز: السمع والطاعة والتسليم * خير وأعفى لبني تميم يعني بقوله السمع: قبول ما يسمع والطاعة لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: واسمعوا اقبلوا ما سمعتم واعملوا به. قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة، واعملوا بما سمعتم، وأطيعوا الله، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك. وأما قوله: قالوا سمعنا فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب، فإن ذلك كما وصفنا من أن ابتداء الكلام إذا كان حكاية فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب وتخبر عن الغائب ثم تخاطب كما بينا ذلك فيما مضى
[ 594 ]
قبل. فكذلك ذلك في هذه الآية لان قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم بمعنى: قلنا لكم فأجبتمونا. وأما قوله: قالوا سمعنا فإنه خبر من الله عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك وعصينا أمرك. القول في تأويل قوله تعالى: وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. ذكر من قال ذلك: 1290 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: ثنا معمر، عن قتادة: وأشربوا في قلوبهم العجل قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. 1291 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وأشربوا في قلوبهم العجل قال: أشربوا حب العجل بكفرهم. 1292 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع: وأشربوا في قلوبهم العجل قال: أشربوا حب العجل في قلوبهم. وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل. ذكر من قال ذلك. 1293 - حدثني موسى بن هارون. قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: لما رجع موسى إلى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه فذبحه، ثم حرقه بالمبرد، ثم ذراه في اليم، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شئ منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا منه، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب فذلك حين يقول الله عز وجل: وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. 1294 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: لما سحل فألقي في اليم استقبلوا جرية الماء، فشربوا حتى ملئوا بطونهم، فأورث ذلك من فعله منهم جبنا.
[ 595 ]
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: وأشربوا في قلوبهم العجل تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل لان الماء لا يقال منه: أشرب فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك في حب الشئ، فيقال منه: أشرب قلب فلان حب كذا، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه كما قال زهير: فصحوت عنها بعد حب داخل * والحب يشربه فؤادك داء قال: ولكنه ترك ذكر الحب اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام، إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها، وكما قال الشاعر: ألا إنني سقيت أسود حالكا * ألا بجلي من الشراب ألا بجل يعني بذلك سما أسود، فاكتفى بذكر أسود عن ذكر السم لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله: سقيت أسود، ويروى: ألا إنني سقيت أسود سالخا وقد تقول العرب: إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم، فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات. ومنه قول الشاعر: يقولون جاهد يا جميل بغزوة * وإن جهادا طئ وقتالها
[ 596 ]
القول في تأويل قوله تعالى: قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين. يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الشئ يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله، والتكذيب بكتبه، وجحود ما جاء من عنده. ومعنى إيمانهم تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله، إذ قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله، فقالوا: نؤمن بما أنزل علينا. وقوله: إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم وإنما كذبهم الله بذلك لان التوراة تنهي عن ذلك كله وتأمر بخلافه، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك فبئس الامر تأمر به. وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة أن تكون تأمر بشئ مما يكرهه الله من أفعالهم، وأن يكون التصديق بها يدل على شئ من مخالفة أمر الله، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) * قال أبو جعفر: وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد (ص) على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه (ص) أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الايمان وقرب المنزلة من الله، بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جنانه، إن كان الامر كما تزعمون أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي (ص) إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت
[ 597 ]
هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الابد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي (ص) في عيسى إذ دعوا إلى المباهلة من المباهلة فبلغنا أن رسول الله (ص) قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله (ص) لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا. 1295 - حدثنا بذلك أبو كريب، قال: حدثنا أبو زكريا بن عدي، قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله (ص). 1296 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثام بن علي، عن الاعمش، عن ابن عباس في قوله: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه. 1297 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة في قوله: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا. * - حدثني موسى، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، عن ابن عباس، مثله. 1298 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، قال أبو جعفر فيما أروي: أنبأنا عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس قال: لو تمنوه يوم قال لهم ذلك، ما بقي على ظهر الارض يهودي إلا مات. قال أبو جعفر: فانكشف، لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ، كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله (ص)، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل. وإنما أمر رسول الله (ص) أن يقول لهم: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين لانهم فيما ذكر لنا قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى فقال الله لنبيه
[ 598 ]
محمد (ص): قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنوا الموت فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك، وأفلج حجة رسول الله (ص). وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه (ص) أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت، وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما. ذكر من قال ذلك: 1299 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله لنبيه (ص): قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. وقال آخرون بما: 1300 - حدثني بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وذلك أنهم قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. 1301 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فقال الله: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فلم يفعلوا. 1302 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثني أبو جعفر، عن الربيع قوله: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة الآية، وذلك بأنهم قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. وأما تأويل قوله: قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة فإنه يقول: قل يا محمد إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر الدار من ذكر نعيمها لمعرفة المخاطبين بالآية معناها. وقد بينا معنى الدار الآخرة فيما
[ 599 ]
مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما تأويل قوله: خالصة فإنه يعني به صافية، كما يقال: خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصفا لي يقال: منه خلص لي هذا الشئ، فهو يخلص خلوصا وخالصة، والخالصة مصدر مثل العافية، ويقال للرجل: هذا خلصاني، يعني خالصتي من دون أصحابي. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: خالصة خاصة، وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك. 1303 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: قل إن كانت لكم الدار الآخرة قال: قل يا محمد لهم يعني اليهود إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الخير عند الله خالصة يقول: خاصة لكم. وأما قوله: من دون الناس فإن الذي يدل عليه ظاهر التنزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم إخبار الله عنهم أنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك. 1304 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: من دون الناس يقول: من دون محمد (ص) وأصحابه الذين استهزأتم بهم، وزعمتم أن الحق في أيديكم، وأن الدار الآخرة لكم دونهم. وأما قوله: فتمنوا الموت فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: فسلوا الموت. ولا يعرف التمني بمعنى المسألة في كلام العرب، ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى الامنية إذا كانت محبة النفس وشهوتها إلى معنى الرغبة والمسألة، إذ كانت المسألة هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله. 1305 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: فتمنوا الموت فسلوا الموت إن كنتم صادقين. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 600 ]
* (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) * وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت وامتناعهم عن الاجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل والموت بهم حال، ولمعرفتهم بمحمد (ص) أنه رسول من الله إليهم مرسل وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر، فهم يحذرون أن يتمنوا الموت خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب، كالذي: 1306 - حدثني محمد بن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: قل إن كانت لكم الدار الآخرة الآية، أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله (ص). يقول الله لنبيه محمد (ص): ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم أي لعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك. 1307 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس: ولن يتمنوه أبدا يقول: يا محمد ولن يتمنوه أبدا لانهم يعلمون أنهم كاذبون، ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم. 1308 - حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين وكانت اليهود أشد فرارا من الموت، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا. وأما قوله: بما قدمت أيديهم فإنه يعني به بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها، فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها: نالك هذا بما جنت يداك، وبما كسبت يداك، وبما قدمت يداك فتضيف ذلك إلى اليد، ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد. قال: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى اليد لان عظم جنايات الناس بأيديهم، فجرى
[ 601 ]
الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى أيديهم حتى أضيف كل ما عوقب عليه الانسان مما جناه بسائر أعضاء جسده إلى أنها عقوبة على ما جنته يده فلذلك قال جل ثناؤه للعرب: ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد (ص) وما جاء به من عند الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم وأضمرته أنفسهم ونطقت به ألسنتهم من حسد محمد (ص)، والبغي عليه، وتكذيبه، وجحود رسالته إلى أيديهم، وأنه مما قدمته أيديهم، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها، إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما: 1309 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: بما قدمت أيديهم يقول: بما أسلفت أيديهم. 1310 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: بما قدمت أيديهم قال: إنهم عرفوا أن محمدا (ص) نبي فكتموه. وأما قوله: والله عليم بالظالمين فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم: يهود ها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها، وما يعملون. وظلم اليهود كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد (ص) بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم. وقد دللنا على معنى الظالم فيما مضى بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) * يعني بقوله جل ثناؤه: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة اليهود يقول: يا محمد لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا وأشدهم كراهة للموت اليهود. كما: 1311 - حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:
[ 602 ]
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة يعني اليهود. 1312 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن أبي العالية: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة يعني اليهود. 1313 - حدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 1314 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. وإنما كراهتهم الموت لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل. القول في تأويل قوله تعالى: ومن الذين أشركوا. يعني جل ثناؤه بقوله: ومن الذين أشركوا وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال: هو أشجع الناس ومن عنترة، بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة، فكذلك قوله: ومن الذين أشركوا لان معنى الكلام: ولتجدن يا محمد اليهود من بني إسرائيل أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا. فلما أضيف أحرص إلى الناس، وفيه تأويل من أظهرت بعد حرف العطف ردا على التأويل الذي ذكرنا. وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث لانهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب، وأن المشركين لا يصدقون بالبعث، ولا العقاب. فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت. وقيل: إن الذين أشركوا الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث. ذكر من قال هم المجوس: 1315 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة يعني المجوس. 1316 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة قال: المجوس.
[ 603 ]
1317 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ومن الذين أشركوا قال: يهود أحرص من هؤلاء على الحياة. ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث: 1318 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحب طول الحياة، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع مما عنده من العلم. القول في تأويل قوله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا، الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة، يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا بعد فناء دنياه وانقضاء أيام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور لو يعمر ألف سنة حتى جعل بعضهم تحية بعض عشرة آلاف عام حرصا منهم على الحياة. كما: 1319 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي عليا، أخبرنا أبو حمزة، عن الاعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة قال: هو قول الاعاجم سأل زه نوروز مهرجان حر. 1320 - وحدثت عن نعيم النحوي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: زه هزارسال. 1321 - حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم، قالا: ثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح عن قتادة في قوله: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة قال: حببت إليهم الخطيئة طول العمر. * - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: حدثني ابن معبد، عن ابن علية، عن ابن أبي نجيح في قوله: يود أحدهم فذكر مثله. 1322 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: ولتجدنهم
[ 604 ]
أحرص الناس على حياة حتى بلغ: لو يعمر ألف سنة يهود أحرص من هؤلاء على الحياة، وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة. 1323 - وحدثت عن أبي معاوية، عن الاعمش، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة قال: هو قول أحدهم إذا عطس زه هزار سال، يقول: عشرة آلاف سنة. القول في تأويل قوله تعالى: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر يعني جل ثناؤه بقوله: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر وما التعمير وهو طول البقاء بمزحزحه من عذاب الله. وقوله: هو عماد لطلب ما الاسم أكثر من طلبها الفعل، كما قال الشاعر: فهل هو مرفوع بما ههنا رأس وأن التي في: أن يعمر رفع بمزحزحه، أو هو الذي مع ما تكرير عماد للفعل لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة. وقد قال بعضهم إن هو الذي مع ما كناية ذكر العمر، كأنه قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب. وجعل أن يعمر مترجما عن هو، يريد: ما هو بمزحزحه التعمير. وقال بعضهم: قوله: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر. وأقرب هذه الاقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا، وهو أن يكون هو عمادا نظير قولك: ما هو قائم عمرو. وقد قال قوم من أهل التأويل: إن أن التي في قوله: أن يعمر بمعنى: وإن عمر، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف. ذكر من قال ذلك: 1324 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع عن أبي العالية: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر يقول: وإن عمر. * - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. 1325 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أن يعمر ولو عمر.
[ 605 ]
وأما تأويل قوله: بمزحزحه فإنه بمبعده ومنحيه، كما قال الحطيئة: وقالوا تزحزح ما بنا فضل حاجة * إليك وما منا لوهيك راقع يعني بقوله تزحزح: تباعد، يقال منه: زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا، وهو عنك متزحزح: أي متباعد. فتأويل الآية: وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ولا منحيه منه لانه لا بد للعمر من الفناء ومصيره إلى الله. كما: 1326 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد فيما أري، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر أي ما هو بمنحيه من العذاب. 1327 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر يقول: وإن عمر، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه. * - حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 1328 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام. 1329 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك، إذ كان كافرا ولم يزحزحه ذلك عن العذاب. القول في تأويل قوله تعالى: والله بصير بما يعملون يعني جل ثناؤه بقوله:
[ 606 ]
والله بصير بما يعملون والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفى عليه شئ من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط ولها حافظ ذاكر حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها. وأصل بصير مبصر من قول القائل: أبصرت فأنا مبصر، ولكن صرف إلى فعيل، كما صرف مسمع إلى سميع، وعذاب مؤلم إلى أليم، ومبدع السموات إلى بديع، وما أشبه ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله (ص) في أمر نبوته ذكر من قال ذلك: 1330 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس، عن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله (ص) فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي ! فقال رسول الله (ص): سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الاسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله (ص): سلوني عما شئتم فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والانثي ؟ وأخبرنا بهذا النبي الامي في النوم ومن وليه من الملائكة ؟ فقال رسول الله (ص): عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني. فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق، فقال: نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحم الابل ؟ - قال أبو جعفر: فيما أرى: وأحب الشراب إليه ألبانها - فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله (ص): أشهد الله عليكم
[ 607 ]
وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وأن ماء المرأة أصف رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بأذن الله، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله ؟. قالوا: اللهم نعم ! قال: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: فما يمنعكم أن تصدقوه ؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل: (من كان عدوا لجربيل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله: (كأنهم لا يعلمون). فعندها باءوا بغضب على غضب. 1331 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين، يعني المكي، عن شهر بن حوشب الاشعري، أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله (ص) فقالوا: يا محمد أخبرنا عن أربع نسألك عنهن فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك ! فقال رسول الله (ص): عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني ! قالوا: نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه وإنما النطفة من الرجل ؟ فقال رسول الله (ص): أنشدكم بالله وبأيامه عند نبي إسرائيل هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة، فأيهما غلبت صاحبتها كان لها الشبه ؟ قالوا: نعم. قالوا فأخبرنا كيف نومك ؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الامي تنام عيناه ولا ينام قلبه ؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد ! قالوا: أخبرنا أي الطعام حرم إسرئيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الابل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله فحرم على نفسه لحوم الابل وألبانها ؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح ! قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء،
[ 608 ]
فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله فيهم: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) إلى قوله: (كأنهم لا يعلمون). 1332 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريح، قال: حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبي (ص) من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي، فقال: جبريل. قالوا: فإنه عدود لا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال. فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. قال ابن جريح: قال مجاهد: قالت يهود: يا محمد ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب، وقالوا: إنه لنا عدو، فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. وقال آخرون: بل سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم في أمر النبي (ص). وذكر من قال ذلك: 1333 - حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا ربعي بن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها، فقال: ما هؤلاء ؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله (ص) صلى ههنا. فكره ذلك وقال إنما رسول الله (ص) أدركته الصلاة بواد فصلى ثم ارتحل فتركه. ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق التوراة، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك ! قلت: ولم ذلك ؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق الفرقان ! قال: ومر رسول الله (ص) فقالوا: يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به ! قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله (ص) قال: فسكتوا. قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه ! قالوا: أنت عالمنا
[ 609 ]
وسيدنا فأجبه أنت. قال: أما إذ أنشدتنا به، فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم ! إذا هلكتم. قالوا: إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك وأنتم تعلمون أنه رسول الله (ص)، ثم لا تتبعونه، ولا تصدقونه ؟ قالوا: إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم ؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والاعسار والتشدبد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: ما منزلتهما من ربهما ؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل، ولا ميكائيل أن يسالم عدو جبريل. قال: ثم قمت فاتبعت النبي (ص)، فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان فقال لي: يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن ؟ فقرأ علي: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريدك أن أخبرك الخبر فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر. * - حدثني يعقوب، قال: ثنا إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي. 1334 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود، فلما أبصروه، رحبوا به، فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لاسمع منكم ! فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمد على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة، ولكن صاحب صحابنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم، فقال عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو رسول الله (ص) ليحدثه حديثهم، فوجدوه قد أنزل
[ 610 ]
عليه هذه الآية: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله). * - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر عن قتادة، قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما فذكر نحوه. 1335 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (من كان عداوا لجبريل) قال: قالت اليهود: إن جبريل هو عدونا لانه ينزل بالشدة والحرب والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه: (من كان عدوا لجبريل). 1336 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثن عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) قال: كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة، فكان يأتيها، وكان ممره على طريق مدراس اليهود، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه دخل عليهم ذات يوم، فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد (ص) أحد أحب إلينا منك إنهم يمرون بنا فيؤذوننا، وتمر بنا فلا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك. فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم ؟ قالوا: الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا (ص) عندكم ؟ فأسكتوا. فقال: تكلموا ما شأنكم ؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شئ من ديني فنظر بعضهم إلى بعض، فقام رجل منهم قال: أخبروا الرجل لتخبرنه أو لاخبرنه قالوا: نعم إنا نجده مكتوبا عندنا ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل وجبريل عدونا، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف، ولو انه كان وليه ميكائيل إذا لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أين مكان جبريل من الله ؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي هو عن يمنيه عدو للذي عن يساره، والذي هو عدو للذي هو عن يساره عدو للذي هو عن يمينه، وأنه من كان عدوهما فإنه عدو الله. ثم رجع عمر ليخبر النبي (ص)، فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فدعاه النبي (ص) فقرأ عليه، فقال عمر: والذي بعثك بالحق، لقد جئتك وما أريد إلا أن اخبرك.
[ 611 ]
1337 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق بن الحجاج الرازي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مغراء، قال: ثنا زهير، عن مجاهد، عن الشعبي، قال: انطلق عمر إلى يهود، فقال: إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم ؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه ؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي ياتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، ما منزلتهما من رب العالمين ؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله، وما كان ميكائيل أن يعادي سلم جبريل، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. فينما هو عندهم إذ مر نبي الله (ص)، فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب، فقام إليه فأتاه وقد أنزل عليه: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قول: (فإن الله عدو الكافرين). 1338 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله: (من كان عدوا لجبريل) قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كا الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة وهو لنا عدو. قال: فنزلت هذه الآية: (من كان عدوا لجبريل). 1339 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بنحو ذلك. وأما تأويل الآية، أعني قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) فهو أن الله يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل الذين زعموا أن جبريل لهم عدو من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة، فأبرا اتباعك وجحدوا نبوتك، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك، وزعموا أنه عدو لهم -: من يكن من الناس لجبريل عدوا ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه وصاحب رحمته فإني له ولي وخليل، ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله، وأنه هو الذي ينزل وحي الله
[ 612 ]
على قلبي من عند ربي بإذن ربي له بذلك يربط به على قلبي ويشد فؤادي. كما: 1340 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة: عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: (قل من كان عدوا لجبريل) قال: وذلك أن اليهود قالت حين سألت محمدا (ص) عن أشياء كثيرة، فأخبرهم بها على ما هي عندهم إلا جبريل، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة، ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة. فأخبرهم رسول الله (ص) فيما سألوه عنه أن جبريل صاحب وحي الله، وصاحب نقمته، وصاحب رحمته. فقالوا: ليس بصاحب وحي ولا رحمة هو لنا عدو. فأنزل الله عز وجل إكذابا لهم: (قل) يا محمد (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) يقول: فإن جبريل نزله. يقول: نزل القرآن بأمر الله يشد به فؤداك ويربط به على قلبك، ويعني بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله، وكذلك يفعل بالمرسلين والانبياء من قبلك. 1341 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد: قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) يقول: أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله. 1342 - وحدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فإنه نزله على قلبك) يقول: نزل الكتاب على قلبك جبريل. قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: (فإنه نزله على قلبك) وهو يعني بذلك قلب محمد (ص)، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه، ولم يقل: فإنه نزله على قلبي. ولو قيل على قلبي كان صوابا من القول، لان من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه، إذ كان المخبر عن نفسه ومرة مضافا إلى اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب لانه به مخاطب، فتقول في نظير ذلك قل للقوم إن الخير عندي كثر فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه لانه مأمور أن يخبر بذلك عن نفسه، وقل للقوم: إن الخير عندك كثير فتخرج كناية اسمه كهئية كناية اسم المخاطب، لانه وإن كان مأمورا بقيل ذلك فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك لا تقل للقوم إني قائم، ولا تقل لهم: إنك قائم، والياء من إني اسم المأمور بقول ذلك على ما وصفنا، ومن ذلك قول الله عز وجل: قل للذين كفروا سيغلبون و " تغلبون " بالياء والتاء.
[ 613 ]
وأما جبريل، فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون جبريل وميكال بغير همز بكسر الجيم والراء من جبريل وبالتخفيف، وعلى القراءة بذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة. وأما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون جبرئيل وميكائيل، على مثال جبرعيل وميكاعيل بفتح الجيم والراء وبهمز زيادة ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قراء أهل الكوفة، كما قال جرير بن عطية: عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد * وبجرئيل وكذبوا ميكالا وقد ذكر الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما يقرآن: جبريل بفتح الجيم وترك الهمز. قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزة القراءة بها، لان فعيل في كلام العرب غير موجود. وقد اختار ذلك بعضهم، وزعم أنه اسم أعجمي كما يقال: سمويل، وأنشد في ذلك: بحيث لو وزنت لخم بأجمعها * ما وازنت ريشة من ريش سمويلا وأما بنو أسد فإنها تقول جبرين بالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في بفتح ألفا فتقول: جبرائيل وميكائيل. وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ جبرئل بفتح الجيم والهمز وترك المد وتشديد اللام، فأما جبر وميك فإنهما هما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى عبد والآخر بمعنى عبيد، وأما إيل فهو الله تعالى ذكر. ذكر: 1343 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا جرير بن نوح الحماني، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: جبريل وميكائيل كقولك عبد الله. 1344 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جبريل: عبد الله، وميكائيل: عبيدالله، وكل إسم إيل فهو الله.
[ 614 ]
1345 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس: أن إسرائيل وميكائيل وجبريل وإسرافيل، كقولك عبد الله. 1346 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، قال: إيل الله بالعبرانية. 1347 - حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا قيس، عن عاصم، عن عكرمة، قال: جبريل اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبد الله، إيل: الله. 1348 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين، قال: اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيدالله، واسم إسرافيل عبد الرحمن، وكل معبد بإيل فهو عبد الله. 1349 - حدثنا المثنى، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن محمد المدني، - قال المدني قال المثنى، قال قبيصة: أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين، قال: ما تعدون جبريل في أسمائكم ؟ قال: جبريل عبد الله، وميكائيل عبيدالله، وكل اسم فيه إيل فهو معبد لله. 1350 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين، قال: قال لي: هل تدري ما اسم جبريل من أسمائكم ؟ قلت: لا، قال: عبد الله، قال: فهل تدري ما اسم ميكائيل من أسمائكم ؟ قال: لا، قال: عبيدالله. وقد سمى لي إسرائيل باسم نحو ذلك فنسيته، إلا أنه قد قال لي، أرأيت كل اسم يرجع إلى إيل فهو معبد به. * - حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله: (جبريل) قال: جبر: عبد، إيل: الله، وميكا قال: عبد، إيل: الله. قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ جبرائيل بالفتح والمد، وهو إن شاء الله معنى من قرأ بالكسر وترك الهمز. وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز وترك المد وتشديد اللام، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك
[ 615 ]
إلى إضافة جبر وميكا إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني، وذلك أن الال بلسان العرب الله كما قال: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) فقال جماعة من أهل العلم: هو الله. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين سألهم عما كان مسيلمة يقول، فأخبروه، فقال لهم: ويحكم أين ذهب بكم والله، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر. يعني من إل: من الله. وقد: 1351 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: (ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) قال: قول جبريل وميكائيل وإسرافيل، كأنه يقول حين يضيف، جبر وميكا وإسرا يقول: عبد الله، (ولا يرقبون في مؤمن إلا) كأنه يقول: لا يرقبون عز وجل. القول في تأويل قوله تعالى: (مصدقا لما بين يديه). يعني جل ثناؤه بقوله: (مصدقا لما بين يديه) القرآن. ونصب مصدقا على القطع من الهاء التي في قوله: (نزله على قلبك). فمعنى الكلام: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك يا محمد مصدقا لما بين يدي القرآن، يعني بذلك مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد (ص) وتصديقه إياها موافقة معانيه معانيها في الامر باتباع محمد (ص). وما جاء به من عند الله، وهي تصدقه. كما: 1352 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: (مصدقا لما بين يديه) يقول: لما قبله من الكتب التي أنزلها الله والآيات والرسل الذين بعثهم الله بالآيات نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم. 1353 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: (مصدقا لما بين يديه من التوراة والانجيل). 1354 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. القول في تأويل قوله تعالى: (وهدى وبشرى للمؤمنين). يعني بقوله جل ثناؤه: (وهدي) ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه هدى
[ 616 ]
لاهتداء المؤمن به، واهتداؤه به اتخاذه إياه هاديا يتبعه وقائدا ينقاد لامره ونهيه وحلاله وحرامه. والهادي من كل شئ ما تقدم أمامه، ومن ذلك قيل لاوائل الخيل: هواديها، وهو ما تقدم أمامها، وكذلك قيل للعنق: الهادي: لتقدمها أمام سائر الجسد. وأما البشرى فإنها البشارة. وأخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه أن القرآن لهم بشرى منه، لانه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه. وذلك هو البشرى التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه، لان البشارة في كلام العرب هي إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخير قبل أن يسمعه من غيره أو يعلمه من قبل غيره. وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه. 1355 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد: عن قتادة، قوله: هدى وبشرى للمؤمنين) لان المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ورعاه وانتفع به واطمأن إليه وصدق بموعود الله الذي وعد فيه، وكان على يقين من ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * وهذا خبر من الله جل ثناؤه: من كان عدوا لله من عاداه وعادى جميع ملائكته ورسله، وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل وعادى جميع ملائكته ورسله لان الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته، ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة، ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته لان العدو لله عدو لاوليائه، والعدو لاولياء الله عدو له. فكذلك قال لليهود الذين قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة، وميكائيل ولينا منهم: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل فهو لكل من ذكره من ملائكته ورسله وميكال عدو، وكذلك عدو بعض رسل الله عدو لله ولكل ولي. وقد: 1356 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد الله يعني العتكي عن رجل من قريش، قال: سأل النبي (ص) اليهود فقال: أسألكم بكتابكم الذي تقرءون هل تجدون به قد بشر بي عيسى بن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد ؟ فقالوا:
[ 617 ]
اللهم وجدناك في كتابنا ولكنا كرهناك لانك تستحل الاموال وتهريق الدماء فأنزل الله: من كان عدوا لله وملائكته الآية. 1357 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: إن يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك هو عدو لنا. فقال له عمر: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين قال: فنزلت على لسان عمر. وهذا الخبر يدل على أن الله أنزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد (ص)، وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو، وأن عدو محمد من الناس كلهم لمن الكافرين بالله الجاحدين آياته. فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة ؟ قيل: بلى. فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما، وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة ؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت: جبريل عدونا وميكائيل ولينا، وزعمت أنها كفرت بمحمد (ص) من أجل أن جبريل صاحب محمد (ص)، أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا، فإن الله له عدو، وأنه من الكافرين. فنص عليه باسمه، وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء لان الملائكة اسم عام محتمل خاصا وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه. وكذلك قوله: ورسله فلست يا محمد داخلا فيهم. فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين. وأما إظهار اسم الله في قوله: فان الله عدو للكافرين وتكريره فيه، وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال: من كان عدوا لله وملائكته فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية، فقيل: فإنه عدو للكافرين على سامعه من المعني بالهاء التي في فإنه أألله أم رسل الله جل ثناؤه، أم جبريل، أم ميكائيل ؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعنى بذلك لاحتمال الكلام ما وصفت. وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر:
[ 618 ]
ليت الغراب غداة ينعب دائبا * كان الغراب مقطع الاوداج وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والامر في ذلك بخلاف ما قال وذلك أن الغراب الثاني لو كان مكني عنه لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم الغراب الاول، إذ كان لا شئ قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه غير كناية اسم الغراب الاول وأن قبل قوله: فان الله عدو للكافرين أسما لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم إلا بتوقيف من حجة، فلذلك اختلف أمراهما. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) * يعني جل ثناؤه بقوله: ولقد أنزلنا إليك آيات أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك. وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنزله إلى محمد (ص) من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم، التي كانت في التوراة، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد (ص). فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد (ص) من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر ولا أخذ شئ منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. 1358 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ولقد أنزلنا إليك آيات بينات يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.
[ 619 ]
1359 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال ابن صوريا القطيوني لرسول الله (ص): يا محمد ما جئتنا بشئ نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها فأنزل الله عز وجل: ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون. * - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله (ص)، فذكر مثله. القول في تأويل قوله تعالى: وما يكفر بها إلا الفاسقون. يعني بقوله جل ثناؤه: وما يكفر بها إلا الفاسقون وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى الكفر الجحود بما أغنى عن إعادته هاهنا. وكذلك بينا معنى الفسق، وأنه الخروج عن الشئ إلى غيره. فتأويل الآية: ولقد أنزلنا إليك فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم الجاحدين نبوتك والمكذبين رسالتك أنك لي رسول إليهم ونبي مبعوث، وما يجحد تلك الآيات الدالات على صدقك ونبوتك التي أنزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم، إلا الخارج منهم من دينه، التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي تدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه والمتبع منهم حكم كتابه، فإنه بالذي أنزلت إليك من آياتي مصدق. وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا (ص) من يهود بني إسرائيل. القول في تأويل قوله تعالى: * (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) * اختلف أهل العربية في حكم الواو التي في قوله: أو كلما عاهدوا عهدا فقال بعض نحويي البصريين: هي أو تجعل مع حروف الاستفهام، وهي مثل الفاء في قوله:
[ 620 ]
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم قال: وهما زائدتان في هذا الوجه، وهي مثل الفاء التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا، وكقولك للرجل: أفلا تقوم وإن شئت جعلت الفاء والواو ههنا حرف عطف. وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام. والصواب في ذلك عندي من القول أنها واو عطف أدخلت عليها ألف الاستفهام، كأنه قال جل ثناؤه: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ثم أدخل ألف الاستفهام على وكلما، فقال: قالوا سمعنا وعصينا أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له، فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن الواو والفاء من قوله: أوكلما وأفكلما زائداتان لا معنى لهما. وأما العهد: فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بها في التوراة مرة بعد أخرى، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالايمان به من أمر محمد (ص) من العهد والميثاق فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته، فقال تعالى ذكره: أوكلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا نبذه فريق منهم فتركه ونقضه ؟ كما: 1360 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله (ص) وذكر لهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد الله إليهم فيه: والله ما عهد إلينا في محمد (ص) وما أخذ له علينا ميثاقا فأنزل الله جل ثناؤه: أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون. * - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله. قال أبو جعفر: وأما النبذ فإن أصله في كلام العرب الطرح، ولذلك قيل للملقوط
[ 621 ]
المنبوذ لانه مطروح. مرمى به، ومنه سمي النبيذ نبيذا، لانه زبيب أو تمر يطرح في وعاء ثم يعالج بالماء. وأصله مفعول صرف إلى فعيل، أعني أن النبيذ أصله منبوذ ثم صرف إلى فعيل، فقيل نبيذ كما قيل كف خضيب ولحية دهين، يعني مخضوبة ومدهونة يقال منه: نبذته أنبذه نبذا، كما قال أبو الاسود الدؤلي: نظرت إلى عنوانه فنبذته * كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا فمعنى قوله جل ذكره: نبذه فريق منهم طرحه فريق منهم فتركه ورفضه ونقضه. كما: 1361 - حدثنا بشر ابن معاذ قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: نبذه فريق منهم يقول: نقضه فريق منهم. 1362 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: نبذه فريق منهم قال: لم يكن في الارض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه، ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: نقضه فريق منهم. والهاء التي في قوله: نبذه من ذكر العهد، فمعناه: أوكلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم. والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه بمنزلة الجيش والرهط الذي لا واحد له من لفظه. والهاء والميم اللتان في قوله: فريق منهم من ذكر اليهود من بني إسرائيل. وأما قوله: بل أكثرهم لا يؤمنون فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا نقضه فريق منهم لا يؤمنون. ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله على عدد الفريق، فيكون الكلام حينئذ معناه: أوكلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد ؟ لا ما ينقض ذلك فريق منهم، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله أكثرهم لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه. والوجه الآخر: أن يكون معناه: أوكلما عاهدت اليهود ربها عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم ؟ لا ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه على الايمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم، ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله، ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى الايمان وأنه التصديق. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 622 ]
* (ولمآ جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) * يعني جل ثناؤه بقوله: ولما جاءهم أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل رسول يعني بالرسول محمدا (ص). كما: 1363 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي في قوله: ولما جاءهم رسول قال: لما جاءهم محمد (ص). وأما قوله: مصدق لما معهم فإنه يعني به أن محمدا (ص) يصدق التوراة، والتوراة تصدقه في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه. وأما تأويل قوله: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم فإنه للذي هو مع اليهود، وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله (ص) من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة أن محمدا (ص) نبي الله، نبذ فريق، يعني بذلك أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: من الذين أوتوا الكتاب وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: كتاب الله التوراة، وقوله: نبذوه وراء ظهورهم جعلوه وراء ظهورهم وهذا مثل، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال: قد جعل فلان هذا الامر منه بظهر وجعله وراء ظهره، يعني به أعرض عنه وصد وانصرف. كما: 1364 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم قال: لما جاءهم محمد (ص) عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وما روت فذلك قوله الله: كأنهم لا يعلمون. ومعنى قوله: كأنهم لا يعلمون كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه لا يعلمون ما في التوراة من الامر باتباع محمد (ص) وتصديقه.
[ 623 ]
وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم. كما: 1365 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أي أن القوم كانوا يعلمون. ولكنهم أفسدوا علمهم وجحدوا وكفروا وكتموا. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) * يعني بقوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه (ص)، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه وذلك هو الخسار والضلال المبين. واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان. فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص) لانهم خاصموا رسول الله (ص) بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة، تأمره من اتباع محمد (ص) وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان. ذكر من قال ذلك: 1366 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان على عهد سليمان. قال: كانت الشياطين
[ 624 ]
تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الارض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا ؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان. فقام ناحية، فقالوا له: فادن قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الانس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب. فلما جاءهم محمد (ص) خاصموه بها، فذلك حين يقول: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. 1367 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قالوا: إن اليهود سألوا محمدا (ص) زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شئ من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصمهم. فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان سليمان لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر، وخدعوا به الناس
[ 625 ]
وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه. فأخبرهم النبي (ص) بهذا الحديث. فرجعوا من عنده، وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم. 1368 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قال: لما جاءهم رسول الله (ص) مصدقا لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب الآية. قال: اتبعوا السحر، وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان. ذكر من قال ذلك: 1369 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان فاتبعته اليهود على ملكه يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان. 1370 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر: من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا. حتى إذا صنعوا أصناف السحر، جعلوه في كتاب، ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه، فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله (ص) فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد (ص) يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد (ص): واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا قال: كان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والانس واتبعوا الشهوات. فلما رجع الله إلى سليمان ملكه، قام الناس على الدين كما كانوا. وإن سليمان
[ 626 ]
ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه. وتوفي سليمان حدثان ذلك، فظهرت الجن والانس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا. فأخذوا به فجعلوه دينا، فأنزل الله: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين وهي المعازف واللعب وكل شئ يصد عن ذكر الله. والصواب من القول في تأويل قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان أن ذلك توبيخ من الله لاحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله (ص)، فجحدوا نبوته وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وإنما اخترنا هذا التأويل لان المتبعة ما تلته الشياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق وأمر السحر لم يزل في اليهود، ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: واتبعوا بعضا منهم دون بعض، إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين إلى أخلافهم بعدهم. ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله (ص) أثر منقول، ولا حجة تدل عليه، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا. القول في تأويل قوله تعالى: ما تتلوا الشياطين. يعني جل ثناؤه بقوله: ما تتلوا الشياطين: الذي تتلو. فتأويل الكلام إذا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين. واختلف في تأويل قوله: تتلوا فقال بعضهم: يعني بقوله: تتلوا تحدث وتروى وتتكلم به وتخبر، نحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته. ووجه قائلوا هذا القول تأويلهم ذلك إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم. ذكر من قال ذلك: 1371 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن عمرو، عن مجاهد في قول الله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قال: كانت
[ 627 ]
الشياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس وهو السحر. 1372 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من الكهانة والسحر وذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. 1373 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين قال: نراه ما تحدث. 1374 - حدثني سلم بن جنادة السوائي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: انطلقت الشياطين في الايام التي ابتلى فيها سليمان، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس. وقال آخرون: معنى قوله: ما تتلوا ما تتبعه وترويه وتعمل به. ذكر من قال ذلك: 1375 - حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي، قال: حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس: تتلوا قال: تتبع. 1376 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الازدي، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن أبي رزين مثله. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان باتباعهم ما تلته الشياطين. ولقول القائل: هو يتلو كذا في كلام العرب معنيان: أحدهما الاتباع، كما يقال: تلوت فلانا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره، كما قال جل ثناؤه: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت يعني
[ 628 ]
بذلك تتبع. والآخر: القراءة والدراسة، كما تقول: فلان يتلو القرآن، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسان بن ثابت: نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد ولم يخبرنا الله جل ثناؤه بأي معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا، فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته. القول في تأويل قوله تعالى: على ملك سليمان. يعني بقوله جل ثناؤه: على ملك سليمان في ملك سليمان وذلك أن العرب تضع في موضع على وعلى في موضع في، من ذلك قول الله جل ثناؤه: ولاصلبنكم في جذوع النخل يعني به: على جذوع النخل، وكما قال: فعلت كذا في عهد كذا وعلى عهد كذا بمعنى واحد. وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله. 1377 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: على ملك سليمان يقول: في ملك سليمان. 1378 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في قوله: على ملك سليمان أي في ملك سليمان. القول في تأويل قوله تعالى: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام من قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع من اتبع
[ 629 ]
من اليهود ما تلته الشياطين ؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود ؟ قيل: وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك إلى سليمان بن داود، وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الانس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر انفسهم عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة، وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان من سليمان، وهو نبي الله (ص) منهم بشر، وأنكروا أن يكون كان لله رسولا، وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لاسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها. وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر، متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا في عملهم السحر ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه. ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الاخبار والآثار: 1379 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الانس، فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا: نعم: قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الانس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر. فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد (ص) براءة سليمان، فقال: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان الآية، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. 1380 - حدثني أبو السائب السوائي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه، قال: فكان هوى
[ 630 ]
سليمان أن يكون الحق لاهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحد. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والانس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت: كذبت لست بسليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الايام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا (ص) فأنزل جل ثناؤه: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا فأنزل الله عز وجل وعذره. 1381 - حدثني محمد بن عبد الاعلى الصنعاني، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: أخذ سليمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خلي عنه، فرأى الناس السجع والسحر وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان فقال الله جل ثناؤه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. 1382 - حدثنا أبو حميد، قال: ثنا جرير، عن حصين ابن عبد الرحمن، عن عمران بن الحرث، قال: بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل، فقال له ابن عباس: من أين جئت ؟ قال: من العراق، قال: من أيه ؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر ؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم. ففزع فقال: ما تقول لا أبا لك لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني أحدثكم من ذلك أنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا حدث منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فيشربها قلوب الناس فأطلع الله عليها سليمان فدفنها تحت كرسيه. فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله ؟ تحت الكرسي. فأخرجوه فقالوا: هذا سحر. فتناسخها الامم، حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل
[ 631 ]
العراق. فأنزل الله عذر سليمان: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. 1383 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وأعلموهم إياه. فلما سمع بذلك سليمان نبي الله (ص) فتتبع تلك الكتب، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك، فقال جل ثناؤه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان. فقال الله عز وجل: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. 1384 - حدثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، حدثنا الحسين قال: عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس. 1385 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب، قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان، فكتبت: من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا، وإنما كان ساحرا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا: والله
[ 632 ]
لقد كان سليمان ساحرا، هذا سحره، بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا. فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا. فلما بعث الله النبي محمدا (ص) جعل يذكر الانبياء حتى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الانبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح. فأنزل الله عذر سليمان: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان الآية. 1386 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وذلك أن رسول الله (ص) فيما بلغني لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا، والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي بإتباعهم السحر وعملهم به وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. قال أبو جعفر: فإذا كان الامر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ما ذكرنا فتبين أن في الكلام متروكا ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه، وأن معنى الكلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان، وما كفر سليمان فيعمل بالسحر ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا على ما قلنا. 1387 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يقول: ما كان عن مشورته، ولا عن رضا منه ولكنه شئ افتعلته الشياطين دونه. وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى تتلو، وتوجيه من وجه ذلك إلى أن تتلوا بمعنى تلت، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: واتبعوا وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وأما معنى قوله: ما تتلوا فإنه بمعنى الذي تتلو وهو السحر.
[ 633 ]
1388 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان أي السحر. قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان ؟ قيل له: بلى قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان ؟ قيل: لانهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه مما كانوا وجدوه إما في خزائنه وإما تحت كرسيه، على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كان الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. اختلف أهل العلم في تأويل ما التي في قوله: وما أنزل على الملكين فقال بعضهم: معناه الجحد وهي بمعنى لم. ذكر من قال ذلك: 1389 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فإنه يقول: لم ينزل الله السحر. 1390 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثني حكام عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس: وما أنزل على الملكين قال: ما أنزل الله عليهما السحر. فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله: وما أنزل على الملكين إلى: ولم ينزل على الملكين، واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون حينئذ قوله: ببابل وهاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم. فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون معنيا بالملكين: جبريل وميكائيل لان سحرة
[ 634 ]
اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود. فأكذبها الله بذلك وأخبر نبيه محمدا (ص) أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة على الناس وردا عليهم. وقال آخرون: بل تأويل ما التي في قوله: وما أنزل على الملكين الذي. ذكر من قال ذلك: 1391 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر، قال قتادة والزهري عن عبد الله: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائمكة سخروا من أحكام بني آدم، قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها، ثم ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر: قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر 1392 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا يقول: خاصموه بما أنزل على الملكين وإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الانس فصنع وعمل به كان سحرا. 1393 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت. 1394 - حدثني المثنى قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت قال: التفريق بين المرء وزوجه.
[ 635 ]
1395 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين فقرأ حتى بلغ: فلا تكفر قال: الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر. قال أبو جعفر: فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله، سنذكر ما روي من الاخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى. وقالوا: إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله السحر، أم شاء الله تعالى هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟ قلنا له: إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله. وبين جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها ونهاهم عن ركوبها، فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها. قالوا: ليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الاصنام والطنابير والملاعب، وإنما الاثم في عمله وتسويته. قالوا: وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الاثم في العمل به وأن يضر به من لا يحل ضره به. قالوا: فليس في إنزال الله إياه على الملكين ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس إثم إذا كان تعليمهما من علماه ذلك بإذن الله لهما بتعليمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر وإنما الاثم على من يتعلمه منهما ويعمل به، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. قالوا: ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم يكن من تعلمه حرجا، كما لم يكونا حرجين لعلمهما به، إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما. وقال آخرون: معنى ما معنى الذي، وهي عطف على ما الاولى، غير أن الاولى في معنى السحر والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه. فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. ذكر من قال ذلك:
[ 636 ]
1396 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وذلك قول الله جل ثناؤه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا وكان يقول: أما السحر فإنما يعلمه الشياطين، وأما الذي يعلم الملكان فالتفريق بين المرء وزوجه، كما قال الله تعالى. وقال آخرون: جائز أن تكون ما بمعنى الذي، وجائز أن تكون ما بمعنى لم. ذكر من قال ذلك. 1397 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، وسأله رجل عن قول الله: يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنزل عليهما، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ قال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت. * - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: ثنا بشر بن عياض، عن بعض أصحابه، أن القاسم بن محمد سئل عقول الله تعالى ذكره: وما أنزل على الملكين فقيل له: أنزل أو لم ينزل ؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان، إلا أني آمنت به. والصواب من القول في ذلك عندي قول من وجه ما التي في قوله: وما أنزل على الملكين إلى معنى الذي دون معنى ما التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك من أجل أن ما إن وجهت إلى معنى الجحد، فتنفي عن الملكين أن يكونا منزلا إليهما. ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما أعني هاروت وماروت من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما، أو بدلا من الناس في قوله: يعلمون الناس السحر وترجمة عنهما. فإن جعلا بدلا من الملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه لانهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه ؟ وبعد، فإن ما التي في قوله: وما أنزل على الملكين إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: وما كفر سليمان فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: وما كفر سليمان عن
[ 637 ]
سليمان أن يكون السحر من عمله، أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه، وهاروت وماروت هما الملكان، فمن المتعلم منه إذا ما يفرق به بين المرء وزوجه ؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين. وإن كان قوله هاروت وماروت ترجمة عن الناس الذين في قوله: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو هاروت وماروت عند قائل هذه المقالة من أحد أمرين: إما أن يكونا ملكين، فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب، وفي خبر الله عز وجل عنهما أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر ما يغني عن الاكثار في الدلالة على خطأ هذا القول. أو أن يكونا رجلين من بني آدم فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل من بني آدم لانه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما وفي وجود السحر في كل زمان ووقت أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم، لم يعد ما من الارض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس. فيدعي ما لا يخفى بطوله. فإذا فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها، فبين أن معنى: ما التي في قوله: وما أنزل على الملكين بمعنى الذي، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الملكين ولذلك فتحت أواخر أسمائهما، لانهما في موضع خفض على الرد على الملكين، ولكنهما لما كانا لا يجران فتحت أواخر أسمائهما. فإن التبس على ذي غباء ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه ؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة ؟ قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثم
[ 638 ]
أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الامر على غير ذلك، لما كان للامر والنهي معنى مفهوم فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: إنما نحن فتنة فلا تكفر ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه وعن السحر، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما، ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك لله مطيعين، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرا إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه، فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعظتهما له بقولهما: إنما نحن فتنة فلا تكفر إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك. كما: 1398 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن في قوله: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت إلى قوله: فلا تكفر أخذ عليهما ذلك. ذكر بعض الاخبار التي في بيان الملكين، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: ببابل: 1399 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، قال: ثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب، عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون الخطايا، قالوا: يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شئ، يعملون بالخطايا. قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا، قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الارض. قال: فاختاروا هارون وماروت، فاهبطا إلى الارض، وأحل لهما ما فيها من شئ غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن يقال لها بيذخت، فلما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بالله وتشربا الخمر وتقتلا النفس وتسجدا لهذا الصنم. فقالا: ما كنا لنشرك بالله شيئا. فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا
[ 639 ]
إلا أن تشربا الخمر فشربا حتى ثملا، ودخل عليهما سائل فقتلاه. فلما وقعا فيه من الشر، أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك كنت أعلم قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت وجعلا ببابل. * - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حجاج، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والارض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم ؟ فأوحى الله إلى الملائكة: إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا. فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت، فاهبطا إلى الارض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، وكان أهل فارس يسمونها بيذخت. قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا. فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الارض: ألا إن الله هو الغفور الرحيم فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. 1400 - حدثني المثنى، قال: حدثني الحجاج، قال: ثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن عمرو بن سعيد، قال سمعت عليا يقول: كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء. فعلماها فتكلمت فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا. 1401 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا مؤمل بن إسماعيل، وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن الثوري، عن محمد بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب، قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين وقال الحسن بن يحيى في حديثه: اختاروا ملكين فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا، وليس بيني
[ 640 ]
وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الارض، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه. وقال الحسن بن يحيى في حديثه: فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما. * - حدثني المثنى، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة، قال: حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الاحبار، أنه حدث أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الارض من المعاصي، فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب فاختاروا منكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت، فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس، وليس بيني وبينكما رسول، انزلا إلى الارض، ولا تشركا بي شيئا، ولا تزنيا فقال كعب: والذي نفس كعب بيده ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما. 1402 - حدثني موسى ابن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الارض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة، وبالنبطية بيذخت، واسمها بالفارسية أناهيذ، فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني. فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي، فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك، فلما أراد الذي يواقعها، قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى
[ 641 ]
السماء ؟ وبأي كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها فتكلمت فصعدت. فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها، وجعلها الله كوكبا فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا فعرفا الهلك، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة، فعلقا ببابل فجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر. 1403 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي رب هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام والسرقة والزنا وشرب الخمر فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم. فقيل لهم: إنهم في غيب فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري، وأنهاهما عن معصيتي فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الارض، وجعل بهما شهوات بني آدم، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسرقة والزنا وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الارض زمانا يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب. وإنها أتت عليهما فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، وإنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وإنهما سألاها عن دينها التي هي عليه، فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فصبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها. فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم، أو تقتلا النفس، أو تشربا الخمر. فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها، فمر بهما إنسان وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء. فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب، فعجبوا كل العجب، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الارض. وإنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة
[ 642 ]
فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر طلعت الحمراء قالها مرتين أو ثلاثا. ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا ولا أهلا قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع ؟ قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله (ص) وقال: قال لي رسول الله (ص): إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم قال: فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت. 1404 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الارض بين بني آدم فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمر ونهاهما. ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان. حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم، فقضيا عليها. فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت ؟ قال: نعم، فبعثا إليها أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت قالا لها وقضيا لها: ائتينا فأتتهما، فكشفا لها عن عورتهما. وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا: ادع لنا ربك فقال: كيف يشفع أهل الارض لاهل السماء ؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء. فوعدهما يوما
[ 643 ]
وغدا يدعو لهما. فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما لصاحبه فقالا: نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ومع الدنيا سبع مرات مثلها. فامرا أن ينزلا ببابل، فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما. قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: وما أنزل على الملكين يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال فأما من جهة النقل فإجماع الحجة على خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقراء الامصار، وكفى بذلك شاهدا على خطئها. وأما قوله ببابل فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الارض. وقد اختلف أهل التأويل فيها، فقال بعضهم: إنها بابل دنباوند. * - حدثني بذلك موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي. وقال بعضهم: بل ذلك بابل العراق. ذكر من قال ذلك: 1405 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل، فأتت بها هاروت وماروت فتعلمت منهما السحر. واختلف في معنى السحر، فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر، حتى يخيل إلى المسحور الشئ أنه بخلاف ما هو به نظير الذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، ويرى الشئ من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الاشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته. كالذي: 1406 - حدثني أحمد بن الوليد، وسفيان بن وكيع قالا: ثنا يحيى بن سعيد، عن
[ 644 ]
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي (ص) لما سحر كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولم يفعله. 1407 - حدثنا ابن وكيع، قال: اثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سحر رسول الله (ص) يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الاعصم، حتى كان رسول الله (ص) يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله. 1408 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عقد سحر لرسول الله (ص)، فجعلوها في بئر حزم حتى كان رسول الله (ص) ينكر بصره ودله الله على ما صنعوا. فأرسل رسول الله (ص) إلى بئر حزم التي فيها العقد فانتزعها، فكان رسول الله (ص) يقول: سحرتني يهود بني زريق. وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شئ عن حقيقته، واستسخار شئ من خلق الله إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم، أو إنشاء شئ من الاجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لابصار الناظرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الاجسام وقلب لحقائق الاعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الحق والباطل فصل، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله عز وجل سحرة فرعون بقوله: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. وفي خبر عائشة عن رسول الله (ص) أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشئ ولا يفعله، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين: أن الساحر ينشئ أعيان الاشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم. كالموات والجماد والحيوان، وصحة ما قلنا.
[ 645 ]
وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الانسان حمارا، وأن يسحر الانسان والحمار وينشئ أعيانا وأجساما. واعتلوا في ذلك بما: 1409 - حدثنا به الربيع بن سليمان، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي (ص) أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله (ص) بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شئ دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله (ص) فيشفيها، كانت تبكي حتى إني لارحمها، وتقول: إني لاخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشئ حتى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك ؟ فقلت: أتعلم السحر ؟ فقالا: إما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت ؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيت شيئا ؟ قلت: لم أر شيئا، فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت، فاقشعررت وخفت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت ؟ فقلت: لم أر شيئا، فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت ؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا، فقالت: بلى، لن تريدي شيئا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري فبذرت، فقلت: أطلعي فأطلعت، وقلت: أحقلي
[ 646 ]
فأحقلت، ثم قلت: أفركي فأفركت، ثم قلت: أيبسي فأيبست، ثم قلت: أطحني فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت. فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين، والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. قال أهل هذه المقالة بما وصفنا واعتلوا بما ذكرنا، وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه، قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وذلك لو كان على غير الحقيقة وكان على وجه التخييل والحسبان، لم يكن تفريقا على صحة، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة. وقال آخرون: بل السحر أخذ بالعين. القول في تأويل قوله تعالى: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم فلا تكفر بربك. كما: 1410 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: إذا أتاهما يعني هاروت وماروت إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة. فإن أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء، وذلك الايمان وقيل شئ أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شئ منه، فلذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر الآية. 1411 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر. 1412 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 647 ]
قال: قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر. 1413 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، قال: قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر. * - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عوف، عن الحسن، قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك. 1414 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر، لا يجترئ على السحر إلا كافر. وأما الفتنة في هذا الموضع، فإن معناها الاختبار والابتلاء، من ذلك قول الشاعر: وقد فتن الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شرا طويلا ومنه قوله: فتنت الذهب في النار: إذا امتحنتها لتعرف جودتها من رداءتها، أفتنه فتنة وفتونا. كما: 1415 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة إنما نحن فتنة أي بلاء. القول في تأويل قوله تعالى: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه. قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: فيتعلمون منهما خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجواب لقوله: وما يعلمان من أحد بل هو خبر مستأنف ولذلك رفع، فقيل: فيتعلمون. فمعنى الكلام إذا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة. فيأبون قبول ذلك منهما فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وقد قيل: إن قوله: فيتعلمون خبر عن اليهود معطوف على قوله: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت
[ 648 ]
فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم. والذي قلنا أشبه بتأويل الآية لان إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ما كان للتأويل وجه صحيح أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام. والهاء والميم والالف من قوله: منهما من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه. وما التي مع يفرقون بمعنى الذي. وقيل معنى ذلك: السحر الذي يفرقون به، وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل. وأما المرء فإنه بمعنى رجل من أسماء بني آدم، والانثى منه المرأة يوحد ويثنى، ولا تجمع ثلاثيه على صورته، يقال منه: هذا امرؤ صالح، وهذان امرآن صالحان، ولا يقال: هؤلاء امرءو صدق، ولكن يقال: هؤلاء رجال صدق، وقوم صدق. وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها، يقال: هذه امرأة وهاتان امرأتان، ولا يقال: هؤلاء امرآت، ولكن هؤلاء نسوة. وأما الزوج، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: هي زوجه، بمنزلة الزوج الذكر ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: أمسك عليك زوجك وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: هي زوجته، كما قال الشاعر: وإن الذي يمشي يحرش زوجتي * كماش إلى أسد الشرى يستبيلها فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه ؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى السحر تخييل الشئ إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه، فتفريقه بين المرء وزوجه تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته من حسن
[ 649 ]
وجمال حتى يقبحه عنده فينصرف بوجهه ويعرض عنه حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا، فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما. وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا على أن العرب تضيف الشئ إلى مسببه من أجل تسببه وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1416 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وتفريقهما أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه. وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويل قوله: فيتعلمون منهما إلى فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا، أي مكان كذا. كما قال الشاعر: جمعت من الخيرات وطبا وعلبة * وصرا الاخلاف المزممة البزل ومن كل أخلاق الكرام نميمة * وسعيا على الجار المجاور بالنجل يريد بقوله: جمعت من الخيرات، مكان خيرات الدنيا هذه الاخلاق الرديئة والافعال الدنيئة. ومنه قول الآخر: صلدت صفاتك أن تلين حيودها * وورثت من سلف الكرام عقوقا يعني ورثت مكان سلف الكرام عقوقا من والديك.
[ 650 ]
القول في تأويل قوله تعالى: وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله. يعني بقوله جل ثناؤه: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه، بضارين بالذي تعلموه منهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه من أحد من الناس، إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره فأما من دفع الله عنه ضره وحفظه من مكروه السحر والنفث والرقى، فإن ذلك غير ضاره ولا نائله أذاه. وللاذن في كلام العرب أوجه: منها الامر على غير وجه الالزام، وغير جائز أن يكون منه قوله: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله لان الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر فكيف به على وجه السحر على لسان الامة. ومنها التخلية بين المأذون له والمخلى بينه وبينه. ومنها العلم بالشئ، يقال منه: قد أذنت بهذا الامر، إذا علمت به، آذن به إذنا ومنه قول الحطيئة: ألا يا هند إن جددت وصلا * وإلا فأذنيني بانصرام يعني فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: فأذنوا بحرب من الله وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: وماهم بضارين بالذي تعلموا من الملكين من أحد إلا بعلم الله. يعني بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما: 1417 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله قال: بقضاء الله. القول في تأويل قوله تعالى: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. يعني بذلك جل ثناؤه: ويتعلمون أي الناس الذين يتعلمون من الملكين، ما أنزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.
[ 651 ]
القول في تأويل قوله تعالى: ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق. يعني بقوله جل ثناؤه: ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون من يهود بني إسرائيل كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم، التاركون العمل بما فيه، من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم بالاقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ماله في الآخرة من خلاق. كما: 1418 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة. 1419 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق يعني اليهود، يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره ما له في الآخرة من خلاق. 1420 - وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه. 1421 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق قال: قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة أن من اشترى السحر وترك دين الله ما له في الآخرة من خلاق، فالنار مثواه ومأواه. وأما قوله: لمن اشتراه فإن من في موضع رفع، وليس قوله: ولقد علموا بعامل فيها لان قوله: علموا بمعنى اليمين فلذلك كانت في موضع رفع، لان الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. ولكون قوله: قد علموا بمعنى اليمين حققت بلام اليمين، فقيل: لمن اشتراه كما يقال: أقسم لمن قام خير ممن
[ 652 ]
قعد، وكما يقال: قد علمت لعمرو خير من أبيك. وأما من فهو حرف جزاء. وإنما قيل اشتراه ولم يقل يشتروه، لدخول لام القسم على من، ومن شأن العرب إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا ب فعل دون يفعل إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم، كما قال الله جل ثناؤه: لئن أخرجوا لا يخرجون معهم وقد يجوز إظهار فعله بعده على يفعل مجزوما، كما قال الشاعر: لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم * ليعلم ربي أن بيتي واسع واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ما له في الآخرة من خلاق فقال بعضهم: الخلاق في هذا الموضع: النصيب. ذكر من قال ذلك: 1422 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ما له في الآخرة من خلاق يقول: من نصيب. 1423 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ما له في الآخرة من خلاق من نصيب. 1424 - حدثني المثنى، قال: حدثني إسحاق، قال: ثنا وكيع، قال سفيان: سمعنا في: وما له في الآخرة من خلاق أنه ما له في الآخرة من نصيب. وقال بعضهم: الخلاق ههنا: الحجة. ذكر من قال ذلك: 1425 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: وما له في الآخرة من خلاق قال: ليس له في الآخرة حجة. وقال آخرون: الخلاق: الدين. ذكر من قال ذلك: 1426 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الحسن: ما له في الآخرة من خلاق قال: ليس له دين. وقال آخرون: الخلاق ههنا: القوام. ذكر من قال ذلك: 1427 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن
[ 653 ]
جريج: قال ابن عباس: ما له في الآخرة من خلاق قال: قوام. وأولى هذه الاقوال بالصواب قول من قال: معنى الخلاق في هذا الموضع: النصيب وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب. ومنه قول النبي (ص): ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الاسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم * إلا سرابيل من قطر وأغلال يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ إلا السرابيل والاغلال. فكذل قوله: ما له في الآخرة من خلاق ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: ما له في الآخرة من خلاق فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار. إذ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب على مراده من الخير، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا. القول في تأويل قوله تعالى: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. قال أبو جعفر رحمه الله: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى شروا: باعوا فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته. كما: 1428 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولبئس ما شروا به أنفسهم يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم. فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وقد قال قبل: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا
[ 654 ]
بالسحر أنفسهم ؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم، إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه. ثم عاد إلى الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين. فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها، ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين، والعمل بما أحدثته من السحر على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم وبغيا على رسله، وتعديا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب، فذلك تأويل قوله. وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق يعني به الشياطين، وأن قوله: لو كانوا يعلمون يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: ولقد علموا لمن اشتراه معني به اليهود دون الشياطين. ثم هو مع ذلك خلاف ما دل عليه التنزيل، لان الآيات قبل قوله: ولقد علموا لمن اشتراه وبعد قوله: لو كانوا يعلمون جاءت من الله بذم اليهود، وتوبيخهم على ضلالهم، وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق أحد تلك الاخبار عنهم. وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فنفى عنهم العلم هم الذين وصفهم الله بقوله: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: لو كانوا يعلمون بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: ولقد علموا من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا،
[ 655 ]
وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالما: لو علمت لاقصرت كما قال كعب بن زهير المزني، وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده: إذا حضراني قلت لو تعلما به * ألم تعلما أني من الزاد مرمل فأخبر أنه قال لهما: لو تعلمانه، فنفى عنهما العلم. ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما. قالوا: فكذلك قوله: ولقد علموا لمن اشتراه و: لو كانوا يعلمون وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب. أعني بقوله: ولقد علموا وقوله: لو كانوا يعلمون وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة من الوجه الذي يجب التسليم له بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن، أولى. القول في تأويل قوله تعالى: * (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) * يعني جل ثناؤه بقوله: ولو أنهم آمنوا واتقوا لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه آمنوا، فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم، واتقوا ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه لكان جزاء الله إياهم وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به لو كانوا يعلمون أن ثواب الله إياهم على ذلك خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما نفى بقوله: لو كانوا يعلمون العلم عنهم أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله وقدر جزائه على طاعته. والمثوبة في كلام العرب مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة، فأصل ذلك من ثاب إليك الشئ بمعنى رجع، ثم يقال: أثبته إليك: أي رجعته إليك ورددته. فكان معنى إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها: إرجاعه إليها منها بدلا، ورده عليه منها عوضا. ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه مثيبا له. ومنه ثواب الله عز وجل عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له.
[ 656 ]
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير مما اكتفي بدلالة الكلام على معناه عن ذكر جوابه، وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لاثيبوا ولكنه استغنى بدلالة الخبر عن المثوبة عن قوله: لاثيبوا. وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله: ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة وأن لو إنما أجيبت بالمثوبة، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى لئن في أنهما جزاءان، فإنهما جوابان للايمان، فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها، فأجيبت لو بجواب لئن، ولئن بجواب لو لذلك وإن اختلفت أجوبتهما فكانت لو من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل، وكانت لئن من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل لما وصفنا من تقاربهما، فكان يتأول معنى قوله: ولو أنهم آمنوا واتقوا: ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير. وبما قلنا في تأويل المثوبة قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1429 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لمثوبة من عند الله يقول: ثواب من عند الله. 1430 - حدثني يونس، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله أما المثوبة، فهو الثواب. 1431 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير يقول: لثواب من عند الله. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) * اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: لا تقولوا راعنا فقال بعضهم: تأويله لا تقولوا خلافا. ذكر من قال ذلك: 1432 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: لا تقولوا راعنا قال: لا تقولوا خلافا. 1433 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: لا تقولوا راعنا لا تقولوا خلافا.
[ 657 ]
* - وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن رجل عن مجاهد، مثله. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: تأويله: أرعنا سمعك: أي اسمع منا ونسمع منك. ذكر من قال ذلك: 1434 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: راعنا أي أرعنا سمعك. 1435 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. 1436 - وحدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: راعنا قال: كان الرجل من المشركين يقول: أرعني سمعك. ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا راعنا، فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي (ص). ذكر من قال ذلك: 1437 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا قول كانت تقوله اليهود استهزاء، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم. 1438 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: لا تقولوا راعنا قال: كان أناس من اليهود يقولون: أرعنا سمعك، حتى قالها أناس من المسلمين. فكره الله لهم ما قالت اليهود، فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا كما قالت اليهود والنصارى. 1439 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 658 ]
عن قتادة في قوله: لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا قال: كانوا يقولون راعنا سمعك، فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله: لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا. 1440 - وحدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: لا تقولوا راعنا قال: كانوا يقولون للنبي (ص): راعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا. 1441 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا قال: راعنا القول الذي قاله القوم قالوا سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين قال: قال هذا الراعن، والراعن: الخطاء. قال: فقال للمؤمنين: لا تقولوا خطاء كما قال القوم وقولوا انظرنا واسمعوا، قال: كانوا ينظرون إلى النبي (ص) ويكلمونه ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم. وقال آخرون: بل هي كلمة كانت الانصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الاسلام أن يقولوها لنبيه (ص). ذكر من قال ذلك: 1442 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن عطاء في قوله: لا تقولوا راعنا قال: كانت لغة في الانصار في الجاهلية، فنزلت هذه الآية: لا تقولوا راعنا ولكن قولوا انظرنا إلى آخر الآية. * - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: لا تقولوا راعنا قال: كانت لغة في الانصار. * - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله. 1443 - وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: لا تقولوا راعنا قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك فنهوا عن ذلك. 1444 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، راعنا قول الساخر، فنهاهم أن يسخروا من قول محمد (ص).
[ 659 ]
وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه يقال له رفاعة بن زيد، كان يكلم النبي (ص) به على وجه السب له، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي (ص). ذكر من قال ذلك: 1445 - حدثني موسى، قال ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا كان رجل من اليهود من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب. قال أبو جعفر: هذا خطأ إنما هو ابن التابوت ليس ابن السائب كان يأتي النبي (ص)، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع. فكان المسلمون يحسبون أن الانبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، كقولك اسمع غير صاغر، وهي التي في النساء: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين يقول: إنما يريد بقوله: طعنا في الدين. ثم تقدم إلى المؤمنين فقال: لا تقولوا راعنا. والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه: راعنا، أن يقال إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه (ص)، نظير الذي ذكر عن النبي (ص) أنه قال: لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة، ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي وما أشبه ذلك من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما واختيار الاخرى عليها في المخاطبات. فإن قال لنا قائل: فإنا قد علمنا معنى نهي النبي (ص) في العنب أن يقال له كرم، وفي العبد أن يقال له عبد، فما المعنى الذي في قوله: راعنا حينئذ الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين عن أن يقولوه، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله: انظرنا ؟ قيل:
[ 660 ]
الذي فيه من ذلك، نظير الذي في قول القائل الكرم للعنب، والعبد للمملوك، وذلك أن قول القائل عبد، لجميع عباد الله، فكره النبي (ص) أن يضاف بعض عباد الله، بمعنى العبودية إلى غير الله، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل، فيقال: فتاي. وكذلك وجه نهيه في العنب أن يقال كرم خوفا من توهم وصفه بالكرم، وإن كانت مسكنة، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد، فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا راعنا، لما كان قول القائل راعنا محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك وارقبنا ونرقبك، من قول العرب بعضهم لبعض: رعاك الله بمعنى حفظك الله وكلاك. ومحتملا أن يكون بمعنى أرعنا سمعك، من قولهم: أرعيت سمعي إرعاء، أو راعيته سمعي رعاء أو مراعاة، بمعنى: فرغته لسماع كلامه. كما قال الاعشى ميمون بن قيس: يرعى إلى قول سادات الرجال إذا * أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا يعني بقوله يرعى: يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك. وكأن الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه (ص) وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم، فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الالفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها، فكان من ذلك قولهم: راعنا لما فيه من احتمال معنى ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل: عاطنا وحادثنا وجالسنا، بمعنى افعل بنا ونفعل بك. ومعنى أرعنا سمعك حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله (ص) بقولهم له: اسمع غير مسمع وراعنا. يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه مما يسر اليهود والمشركين. فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله: راعنا أنه بمعنى خلافا، فمما لا
[ 661 ]
يعقل في كلام العرب لان راعيت في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى فاعلت من الرعية، وهي الرقبة والكلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع، بمعنى أرعيته سمعي. وأما راعيت بمعنى خالفت، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب، إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد، فيكون لذلك وإن كان مخالفا قراءة القراء معنى مفهوم حينئذ. وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكى ذلك عنه، أن قوله: راعنا كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم (ص)، ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي (ص)، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي (ص) لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه أن يخاطب رسول الله (ص) به. وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك من الوجه الذي تقوم به الحجة. وإذ كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره. وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: لا تقولوا راعنا بالتنوين، بمعنى: لا تقولوا قولا راعنا، من الرعونة وهي الحمق والجهل. وهذه قراءة المسلمين مخالفة، فغير جائز لاحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين وخلافها ما جاءت به الحجة من المسلمين. ومن نون راعنا نونه بقوله: لا تقولوا لانه حينئذ عامل فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لانه أمر محكي لان القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي (ص): راعنا بمعنى مسألته إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم على ما قد بينت فيما قد مضى فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم إياه راعنا. فتكون الدلالة على معنى الامر في راعنا حينئذ سقوط الياء التي كانت تكون في يراعيه. ويدل عليها أعني على الياء الساقطة كسرة العين من راعنا. وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: لا تقولوا راعونا بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا وجه
[ 662 ]
أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا كان خطابهم للنبي (ص) أو لغيره، ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الاخبار. القول في تأويل قوله تعالى: وقولوا انظرنا. يعني بقوله جل ثناؤه: وقولوا انظرنا وقولوا أيها المؤمنون لنبيكم (ص): انظرنا وارقبنا نفهم ونتبين ما تقول لنا وتعلمنا. كما: 1446 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وقولوا انظرنا فهمنا بين لنا يا محمد. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وقولوا انظرنا فهمنا بين لنا يا محمد. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. يقال منه: نظرت الرجل أنظره نظرة بمعنى انتظرته ورقبته. ومنه قول الحطيئة: وقد نظرتكم أعشاء صادرة * للخمس طال بها حوزي وتنساسي ومنه قول الله عز وجل: يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم يعني به انتظرونا. وقد قرئ أنظرنا بقطع الالف في الموضعين جميعا، فمن قرأ ذلك كذلك أراد أخرنا، كما قال الله جل ثناؤه: قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون أي أخرني. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع لان أصحاب رسول الله (ص) إنما أمروا بالدنو من رسول الله (ص) والاستماع منه وإلطاف الخطاب له وخفض الجناح، لا بالتأخر عنه ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب إن كان ذلك كذلك من القراءة قراءة من وصل الالف من قوله: انظرنا ولم يقطعها بمعنى انتظرنا. وقد قيل: إن معنى أنظرنا بقطع الالف بمعنى أمهلنا، حكي عن بعض العرب
[ 663 ]
سماعا: أنظرني أكلمك وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه، فأخبره أنه أراد أمهلني. فإن يكن ذلك صحيحا عنهم ف انظر وأنظرنا بقطع الالف ووصلها متقاربا المعنى. غير أن الامر وإن كان كذلك، فإن القراءة التي أستجيز غيرها قراءة من قرأ: وقولوا انظرنا بوصل الالف بمعنى انتظرنا، لاجماع الحجة على تصويبها ورفضهم غيرها من القراءات. القول في تأويل قوله تعالى: واسمعوا وللكافرين عذاب أليم. يعني بقوله جل ثناؤه: واسمعوا واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم وعوه وافهموه. كما: 1447 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: واسمعوا اسمعوا ما يقال لكم. فمعنى الآية إذا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول، ولكن قولوا انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا، واسمعوا منه ما يقول لكم فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته وخالف أمره ونهيه وكذب رسوله العذاب الموجع في الآخرة، فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم، يعني بقوله الاليم: الموجع. وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل وما فيه من الآثار. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم) * يعني بقوله: ما يود ما يحب، أي ليس يحب كثير من أهل الكتاب، يقال منه: ود فلان كذا يوده ودا وودا ومودة. وأما المشركين فإنهم في موضع خفض بالعطف على أهل الكتاب. ومعنى الكلام: ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم. وأما أن في قوله: أن ينزل فنصب بقوله: يود. وقد دللنا
[ 664 ]
على وجه دخول من في قوله: من خير وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. فتأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الاوثان أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله ينزله عليكم. فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد (ص) من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدا وبغيا منهم على المؤمنين. وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم وقبول شئ مما يأتونهم به، على وجه النصيحة لهم منهم بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون. القول في تأويل قوله تعالى: والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم. يعني بقوله جل ثناؤه: والله يختص برحمته من يشاء والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالايمان على من أحب فيهديه له. واختصاصه إياهم بها إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه وهدايته من هدى من عباده رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته، وفوزه بها بالجنة واستحقاقه بها ثناءه وكل ذلك رحمة من الله له. وأما قوله: والله ذو الفضل العظيم فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم من غير استحقاق منهم ذلك عليه. وفي قوله: والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب أن الذي آتى نبيه محمد (ص) والمؤمنين به من الهداية تفضلا
[ 665 ]
منه، وأن نعمه لا تدرك بالاماني ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) * يعني جل ثناؤه بقوله: ما ننسخ من آية إلى غيره، فنبدله ونغيره. وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا، والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الامر والنهي والحظر والاطلاق والمنع والاباحة، فأما الاخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيره. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواء إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها أو فر حظها فترك، أو محي أثرها، فعفي ونسي، إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة. والحكم الحادث المبدل به الحكم الاول والمنقول إليه فرض العباد هو الناسخ، يقال منه: نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، والنسخة الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول. 1448 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها قال: إن نبيكم (ص) أقرئ قرآنا ثم نسيه فلم يكن شيئا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ما ننسخ فقال بعضهم بما: 1449 - حدثني به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن عمار، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ما ننسخ من آية أما نسخها فقبضها. وقال آخرون بما: 1450 - حدثني به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ما ننسخ من آية يقول: ما نبدل من آية. وقال آخرون بما:
[ 666 ]
1451 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب عبد الله ابن مسعود أنهم قالوا: ما ننسخ من آية نثبت خطها ونبدل حكمها. * - وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ما ننسخ من آية نثبت خطها، ونبدل حكمها، حدثت به عن أصحاب ابن مسعود. * - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: حدثني بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود: ما ننسخ من آية نثبت خطها. القول في تأويل قوله تعالى: أو ننسها. اختلفت القراءة في قوله ذلك، فقرأها قراء أهل المدينة والكوفة: أو ننسها ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل، أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها، فذلك تأويل النسيان. وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1452 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله (ص) الآية أو أكثر من ذلك ثم تنسى وترفع. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ما ننسخ من آية أو ننسها قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه (ص) ما شاء وينسخ ما شاء. 1453 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان عبيد بن عمير يقول: ننسها نرفعها من عندكم. 1454 - حدثنا سوار بن عبد الله، قال: ثنا خالد بن الحرث، قال: ثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: أو ننسها قال: إن نبيكم (ص) أقرئ قرآنا، ثم نسيه. وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية إلا أنه كان يقروها: أو تنسها بمعنى الخطاب لرسول الله (ص)، كأنه عني أو تنسها أنت يا محمد. ذكر الاخبار بذلك:
[ 667 ]
1455 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يعلى بن عطاء، عن القاسم، قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما ننسخ من آية أو ننسها قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: أو ننسها قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، قال الله: سنقرئك فلا تنسى واذكر ربك إذا نسيت. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشيم، قال: ثنا يعلى بن عطاء، قال: ثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي، قال: سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه. * - حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: ما ننسخ من آية أو ننسها فقال سعد: إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه، إنما هي: ما ننسخ من آية أو تنسها يا محمد. ثم قرأ: سنقرئك فلا تنسى واذكر ربك إذا نسيت. 1456 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ما ننسخ من آية أو ننسها يقول: ننسها: نرفعها وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها. والوجه الآخر منهما أن يكون بمعنى الترك، من قول الله جل ثناؤه: نسوا الله فنسيهم يعني به تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1457 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن
[ 668 ]
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: أو ننسها يقول: أو نتركها لا نبدلها. 1458 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: أو ننسها نتركها لا ننسخها. 1459 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: ما ننسخ من آية أو ننسها قال: الناسخ والمنسوخ. قال: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما: 1460 - حدثني به يونس ابن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ننسها نمحها. وقرأ ذلك آخرون: أو ننسأها بفتح النون وهمزة بعد السين بمعنى نؤخرها، من قولك: نسأت هذا الامر أنسؤه نسأ ونساء إذا أخرته، وهو من قولهم: بعته بنساء، يعني بتأخير. ومن ذلك قول طرفة بن العبد: لعمرك إن الموت ما أنسأ الفتى * لكالطول المرخى وثنياه باليد يعني بقوله أنسأ: أخر. وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماعة من أهل التأويل ذكر من قال ذلك: 1461 - حدثنا أبو كريب، ويعقوب ابن إبراهيم، قالا: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: ما ننسخ من آية أو ننسأها قال نؤخرها. 1462 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح، يقول في قول الله: أو ننسأها قال: نرجئها. 1463 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أو ننسأها نرجئها ونؤخرها. 1464 - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا فضيل، عن عطية: أو ننسأها قال: نؤخرها فلا ننسخها. 1465 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج،
[ 669 ]
قال: أخبرني عبد الله بن كثير عن عبيد الازدي، عن عبيد بن عمير أو ننسأها إرجاؤها وتأخيرها. هكذا حدثنا القاسم عن عبد الله بن كثير، عن عبيد الازدي. وإنما هو عن علي الازدي. * - حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن علي الازدي، عن عبيد بن عمير أنه قرأها: ننسأها. قال: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها نأت بخير منها أو مثلها. وقد قرأ بعضهم ذلك: ما ننسخ من آية أو تنسها وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ أو ننسها إلا أن معنى أو تنسها أنت يا محمد. وقد قرأ بعضهم: ما ننسخ من آية بضم النون وكسر السين، بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية، من أنسختك فأنا أنسخك. وذلك خطأ من القراءة عندنا لخروجه عما جاءت به الحجة من القراءة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ تنسها أو تنسها لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الامة. وأولى القراءات في قوله: أو ننسها بالصواب من قرأ: أو ننسها، بمعنى نتركها لان الله جل ثناؤه أخبر نبيه (ص) أنه مهما بدل حكما أو غيره أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها، أن يكون إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: ما ننسخ من آية قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعرو ف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى الانساء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير، إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك. وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: أو تنسها إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله (ص) نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ إلا أن يكون نسي منه شيئا ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه بجائز على جميعهم أن ينسوه.
[ 670 ]
قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم. قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده الاخبار المتظاهرة عن رسول الله (ص) وأصحابه بنحو الذي قلنا. 1466 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدثنا أنس بن مالك: إن أولئك السبعين من الانصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. ثم إن ذلك رفع. فالذي ذكرنا عن أبي موسى الاشعري أنهم كانوا يقرءون: لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ثم رفع وما أشبه ذلك من الاخبار التي يطول بإحصائها الكتاب. وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح ولا بحجة خبر أن ينسي الله نبيه (ص) بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذا كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول ذلك غير جائز. وأما قوله: ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشئ منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه، وقد قال الله تعالى ذكره: سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء، فالذي
[ 671 ]
ذهب منه الذي استثناه الله. فأما نحن فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان اتى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله. القول في تأويل قوله تعالى: نأت بخير منها أو مثلها. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: نأت بخير منها أو مثلها، فقال بعضهم بما: 1467 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نأت بخير منها أو مثلها يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال آخرون بما: 1468 - حدثني به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: نأت بخير منها أو مثلها يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، فيها أمر، فيها نهي. وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها. ذكر من قال ذلك: 1469 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: نأت بخير منها يقول: نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها أو مثل التي تركناها. فالهاء والالف اللتان في قوله: منها عائدتان على هذه المقالة على الآية في قوله: ما ننسخ من آية والهاء والالف اللتان في قوله: أو مثلها عائدتان على الهاء والالف اللتين في قوله: أو ننسها. وقال آخرون بما: 1470 - حدثني به المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان عبيد بن عمير يقول: ننسها نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها. 1471 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أو ننسها نرفعها نأت بخير منها أو بمثلها. 1472 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود، مثله. والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره أو نترك تبديله
[ 672 ]
فنقره بحاله، نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها، إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذل ك خيرا لهم في عاجلهم لسقوط عب ء ذلك وثقل حمله عنهم وإما في الآجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الابدان، كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة أثقل على الابدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل والاجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الابدان أشق فهو خير من الاول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره الذي لم يكن مثله لصوم الايام المعدودات. فذلك معنى قوله: نأت بخير منها لانه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الاجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة لان الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة سواء. فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه: أو مثلها. وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: ما ننسخ من آية أو ننسها ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: وأشربوا في قلوبهم العجل بمعنى حب العجل ونحو ذلك. فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والاجر والثواب. فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: وأشربوا في قلوبهم العجل أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فما الذي يدل على أن قوله: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها لذلك نظير ؟
[ 673 ]
قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: نأت بخير منها أو مثلها وغير جائز أن يكون من القرآن شئ خير من شئ لان جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض. القول في تأويل قوله تعالى: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير. يعني جل ثناؤه بقوله: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم، إما عاجلا في الدنيا وإما آجلا في الآخرة. أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم. فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شئ قدير. ومعنى قوله: قدير في هذا الموضع: قوي، يقال منه: قد قدرت على كذا وكذا. إذا قويت عليه أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقدرانا و مقدرة. وبنو مرة من غطفان تقول: قدرت عليه بكسر الدال. فأما من التقدير من قول القائل: قدرت الشئ فإنه يقال منه: قدرته أقدره قدرا وقدرا. القول في تأويل قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) * قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله (ص) يعلم أن الله على كل شئ قدير وأنه له ملك السموات والارض حتى قيل له ذلك ؟ قيل: بلى، فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا، فيقول أحدهم لصاحبه: ألم أكرمك ؟ ألم أتفضل عليك ؟ بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه، يريد أليس قد أكرمتك ؟ أليس قد تفضلت عليك ؟ بمعنى قد علمت ذلك. قال: وهذا لا وجه له عندنا وذلك أن قوله جل ثناؤه ألم تعلم إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات، وإما بمعنى النفي. فأما بمعنى الاثبات فذلك غير معروف في كلام العرب، ولاسيما إذا دخلت على حروف الجحد ولكن ذلك عندي وإن كان ظهر
[ 674 ]
ظهور الخطاب للنبي (ص)، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا. والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي (ص) بقوله: ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض لان المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه، وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح. أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحد وهو يقصد به جماعة غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم وعلى وجه الخطاب للجماعة والمقصود به أحدهم، من ذلك قول الله جل ثناؤه: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ثم قال: واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي (ص). ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله (ص): إلى السراج المنير أحمد لا * يعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع الناس إلي العيون وارتقبوا وقيل أفرطت بل قصدت ولو * عنفني القائلون أو ثلبوا لج بتفضيلك اللسان ولو * أكثر فيك الضجاج واللجب أنت المصفي المحض المهذب في النسبة إن نص قومك النسب فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي (ص) وهو قاصد بذلك أهل بيته، فكني عن وصفهم ومدحهم بذكر النبي (ص) وعن بني أمية بالقائلين المعنفين لانه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي (ص) وتفضيله، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله. وكما قال جميل بن معمر: ألا إن جيراني العشية رائح * دعتهم دواع من هوى ومنادح
[ 675 ]
فقال: ألا إن جيراني العشية فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثم قال: رائح لان قصده في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم. وكما قال جميل أيضا في كلمته الاخرى: خليلي فيما عشتما هل رأيتما * قتيلا بكى من حب قاتله قبلي وهو يريد قاتلته لانه إنما يصف امرأة فكني باسم الرجل عنها وهو يعنيها. فكذلك قوله: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي (ص)، فإنه مقصود به قصد أصحابه وذلك بين بدلالة قوله: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل الآيات الثلاث بعدها على أن ذلك كذلك. أما قوله: له ملك السموات والارض ولم يقل ملك السموات، فإنه عنى بذلك ملك السلطان والمملكة دون الملك، والعرب إذا أرادت الخبر عن المملكة التي هي مملكة سلطان قالت: ملك الله الخلق ملكا، وإذا أرادت الخبر عن الملك قالت: ملك فلان هذا الشئ فهو يملكه ملكا وملكة وملكا. فتأويل الآية إذا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والارض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهي عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر منها ما أشاء ؟ هذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد (ص) على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى، وأنكروا محمدا (ص)، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والارض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لامره ونهيه، وإن له أمرهم بما شاء ونهيهم عما شاء، ونسخ ما شاء وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه (ص) وللمؤمنين معه: انقادوا لامري، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك، فلا أنسخ من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا قيم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم والدفاع عنكم، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتى أعلي حجتكم، وأجعلها عليهم لكم. والولي معناه فعيل، من
[ 676 ]
قول القائل: وليت أمر فلان: إذا صرت قيما به فأنا إليه فهو وليه وقيمه ومن ذلك قيل: فلان ولي عهد المسلمين، يعني به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين. وأما النصير فإنه فعيل من قولك: نصرتك أنصرك فأنا ناصرك ونصير ك وهو المؤيد والمقوي. وأما معنى قوله: من دون الله فإنه سوى الله وبعد الله. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: يا نفس مالك دون الله من واقي * وما على حدثان الدهر من باقي يريد: ما لك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره. فمعنى الكلام إذا: وليس لكم أيها المؤمنون بعد الله من قيم بأمركم ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم فيعينكم على أعدائكم. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سوآء السبيل) * اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية. فقال بعضهم بما: 1473 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثني يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله (ص): ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك فأنزل الله في ذلك من قولهم: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل الآية. وقال آخرون بما: 1474 - حدثنا بشر بن معاذ، قال ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل وكان موسى يسأل فقيل له: أرنا الله جهرة. 1475 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أن يريهم الله جهرة، فسألت العرب رسول الله (ص) أن يأتيهم بالله فيروه جهرة. وقال آخرون بما:
[ 677 ]
1476 - حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمدا (ص) أن يجعل الله له الصفا ذهبا، قال: نعم، وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم. فأبوا ورجعوا. * - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم. فأبوا ورجعوا، فأنزل الله أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أن يريهم الله جهرة. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله، وقال آخرون بما: 1477 - حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: قال رجل: يا رسول الله لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل فقال النبي (ص): اللهم لا نبغيها ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل فقال النبي كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة. وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل، قال: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. قال: وقال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن. وقال: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك. فأنزل الله: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل. واختلف أهل العربية في معنى أم التي في قوله: أم تريدون. فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام، وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم ؟ وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام، كأنك تميل بها إلى أوله كقول العرب: إنها لابل يا قوم أم شاء، ولقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي.
[ 678 ]
قال: وليس قوله: أم تريدون على الشك ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الاخطل: كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: أم تريدون استفهاما على كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه فجاءت أم وليس قبلها استفهام. فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه. وقال قائل هذه المقالة: أم في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين، إحداهما: أن تعرف معنى أي، والاخرى أن يستفهم بها، ويكون على جهة النسق، وللذي ينوي به الابتداء إلا أنه ابتداء متصل بكلام، فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت لم يكن إلا بالالف أو ب هل. قال: وإن شئت قلت في قوله: أم تريدون قبله استفهام، فرد عليه وهو في قوله: ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير. والصواب من القول في ذلك عندي على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل أنه استفهام مبتدأ بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم ؟ وإنما جاز أن يستفهم القوم ب أم وإن كانت أم أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام لانها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام، ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه. وقد تكون أم بمعنى بل إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه أي، فيقولون: هل لك قبلنا حق، أم أنت رجل معروف بالظلم ؟ وقال الشاعر: فوالله ما أدري أسلمى تغولت * أم القوم أم كل إلي حبيب
[ 679 ]
يعني: بل كل إلي حبيب. وقد كان بعضهم يقول منكرا قول من زعم أن أم في قوله: أم تريدون استفهام مستقبل منقطع من الكلام يميل بها إلى أوله أن الاول خبر والثاني استفهام، والاستفهام لا يكون في الخبر، والخبر لا يكون في الاستفهام ولكن أدركه الشك بزعمه بعد مضي الخبر، فاستفهم. فإذا كان معنى أم ما وصفنا، فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الاشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا إن منعتموه في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا، إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثم كفرتم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الامم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم، فلما أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها بعد إعطاء الله إياها سؤلها. القول في تأويل قوله تعالى: ومن يتبدل الكفر بالايمان. يعني جل ثناؤه بقوله: ومن يتبدل ومن يستبدل الكفر ويعني بالكفر: الجحود بالله وبآياته بالايمان، يعني بالتصديق بالله وبآياته والاقرار به. وقد قيل عنى بالكفر في هذا الموضع الشدة وبالايمان الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني الكفر، ولا الرخاء في معنى الايمان، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله الكفر بمعنى الشدة في هذا الموضع وبتأويله الايمان في معنى الرخاء ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد، وما أعد الله لاهل الايمان فيها من النعيم، فيكون ذلك وجها وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب. ذكر من قال ذلك: 1478 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية: ومن يتبدل الكفر بالايمان يقول: يتبدل الشدة بالرخاء. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسن، قال: حدثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية بمثله. وفي قوله: ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل دليل واضح على ما قلنا من أن هذه الآيات من قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله (ص) وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم مما سر به اليهود وكرهه رسول الله (ص) لهم، فكرهه الله لهم. فعاتبهم على ذلك، وأعلمهم أن اليهود
[ 680 ]
أهل غش لهم وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم المكاره ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا فقد أخطأ قصد السبيل. القول في تأويل قوله تعالى: فقد ضل سواء السبيل. أما قوله: فقد ضل فإنه يعني به ذهب وحاد. وأصل الضلال عن الشئ: الذهاب عند والحيد. ثم يستعمل في الشئ الهالك والشئ الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة: ضل بن ضل، وقل بن قل كقول الاخطل في الشئ الهالك: كنت القذى في موج أكدر مزبد * قذف الآتي به فضل ضلالا يعني: هلك فذهب. والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: فقد ضل سواء السبيل فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه. وأما تأويل قوله: سواء السبيل فإنه يعني بالسواء: القصد والمنهج، وأصل السواء: الوسط ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي، يعني وسطي. وقال حسان بن ثابت: يا ويح أنصار النبي ونسله * بعد المغيب في سواء الملحد يعني بالسواء الوسط. والعرب تقول: هو في سواء السبيل، يعني في مستوى السبيل. وسواء الارض مستواها عندهم، وأما السبيل فإنها الطريق المسبول، صرف من مسبول إلى سبيل.
[ 681 ]
فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالايمان بالله وبرسوله الكفر فيرتد عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول. وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالايمان الكفر عن الطريق، والمعنى به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه، وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب محجته السائر فيه ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إليه عباده مثلا لادراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم في آخرتهم، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه والحائد عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته في حياته ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده وذهابه عما أمل من ثواب عمله وبعده به من ربه، مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه إلا ازداد من موضع حاجته بعدا، وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا. وهذه السبيل التي أخبر الله عنها أن من يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواءها، هي الصراط المستقيم الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير) * قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي (ص)، إنما هو خطاب منه للمؤمنين وأصحابه، وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شئ من أمور دينهم، ودليل على أنهم كانوا استعملوا، أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله (ص) الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك: لا تقولوا لنبيكم (ص) كما تقول له اليهود: راعنا تأسيا منكم بهم، ولكن قولوا
[ 682 ]
: انظرنا واسمعوا، فإن أذى رسول الله (ص) كفر بي وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذاب أليم فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم من خير من ربكم، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد (ص)، من بعدما تبين لهم الحق في أمر محمد وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة. وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: ود كثير من أهل الكتاب كعب بن الاشرف. 1479 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: ود كثير من أهل الكتاب هو كعب بن الاشرف. 1480 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان العمري، عن معمر، عن الزهري وقتادة: ود كثير من أهل الكتاب قال كعب بن الاشرف. وقال بعضهم بما: 1481 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق. وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله برسوله (ص)، وكانا جاهدين في رد الناس عن الاسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم الآية. وليس لقول القائل عنى بقوله: ود كثير من أهل الكتاب كعب بن الاشرف معنى مفهوم لان كعب بن الاشرف واحد، وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم. والواحد لا يقال له كثير بمعنى الكثرة في العدد، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته، كما يقال: فلان في الناس كثير، يراد به كثرة المنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ، لان الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة، فقال: لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد. أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة، والمقصود بالخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل فيكون ذلك أيضا خطأ، وذلك أن الكلام إذا
[ 683 ]
كان بذلك المعنى فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه، ولا دلالة تدل في قوله: ود كثير من أهل الكتاب أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال. القول في تأويل قوله تعالى: حسدا من عند أنفسهم. ويعني جل ثناؤه بقوله: حسدا من عند أنفسهم أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم من الردة عن إيمانهم إلى الكفر حسدا منهم وبغيا عليهم. والحسد إذا منصوب على غير النعت للكفار، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر، كقول القائل لغيره: تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك. فيكون الحسن مصدرا من معنى قوله: تمنيت من السوء لان في قوله تمنيت لك ذلك، معنى حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب الحسد، لان في قوله: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا يعني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والايمان برسوله، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رؤوفا بكم رحيما، ولم يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله: حسدا مصدرا من ذلك المعنى. وأما قوله: من عند أنفسهم فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم، كما يقول القائل: لي عندك كذا وكذا، بمعنى: لي قبلك. وكما: 1482 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر [ عن أبيه، عن الربيع بن أنس ] قوله: من عند أنفسهم. وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين من عند أنفسهم إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه. القول في تأويل قوله تعالى: من بعد ما تبين لهم الحق. يعني جل ثناؤه بقوله: من بعد ما تبين لهم الحق أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم الحق في أمر محمد (ص)
[ 684 ]
وما جاء به من عند ربه والملة التي دعا إليها فأضاء لهم أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه. كما: 1483 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: من بعد ما تبين لهم الحق من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله (ص)، والاسلام دين الله. 1484 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: من بعد ما تبين لهم الحق يقول: تبين لهم أن محمدا رسول الله (ص) يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. * - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله وزاد فيه: فكفروا به حسدا وبغيا، إذ كان من غيرهم. 1485 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: من بعد ما تبين لهم الحق قال: الحق: هو محمد (ص) فتبين لهم أنه هو الرسول. * - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: من بعد ما تبين لهم الحق قال: قد تبين لهم أنه رسول الله. قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله عناد، وعلى علم منهم ومعرفة، بأنهم على الله مفترون. كما: 1486 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: من بعد ما تبين لهم الحق يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة. القول في تأويل قوله تعالى: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره. يعني جل ثناؤه بقوله: فاعفوا فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم، وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم (ص): اسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في
[ 685 ]
الدين واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه (ص) وللمؤمنين به: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح بفرض قتالهم على المؤمنين حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا. كما: 1487 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير ونسخ ذلك قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. 1488 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره فأتى الله بأمره فقال: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر حتى بلغ: وهم صاغرون أي صغارا ونقمة لهم فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره. 1489 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا. فأحدث الله بعد فقال: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى: وهم صاغرون. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن قتادة في قوله: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره قال: نسختها: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. 1490 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره قال: هذا منسوخ، نسخه: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله: وهم صاغرون. القول في تأويل قوله تعالى: إن الله على كل شئ قدير.
[ 686 ]
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى القدير وأنه القوي. فمعنى الآية ههنا: أن الله على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم قدير، إن شاء الانتقام منهم بعنادهم ربهم وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الايمان، لا يتعذر عليه شئ أراده ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه لان له الخلق والامر. القول في تأويل قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) * قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى إقامة الصلاة، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل الصلاة وما أصلها، وعلى معنى إيتاء الزكاة، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فرضت ووجبت، وعلى معنى الزكاة واختلاف المختلفين فيها، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما قوله: وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لانفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به. والخير: هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: تجدوه والمعنى: تجدوا ثوابه. كما: 1491 - حدثت عن عمار بن الحسن. قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: تجدوه يعني: تجدوا ثوابه عند الله. قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه، كما قال عمر بن لجأ:
[ 687 ]
وسبحت المدينة لا تلمه * ارأت قمرا بسوقهم نهارا وإنما أراد: وسبح أهل المدينة. وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لانفسم، ليطهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله (ص) بقوله: راعنا إذ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والابدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله. القول في تأويل قوله تعالى: إن الله بما تعملون بصير. وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شئ، فيجزيهم بالاحسان جزاءه وبالاساءة مثلها. وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه، كما قال: وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله وليحذروا معصيته، إذ كان مطلعا على راكبها بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها. وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وعد عليه فمأمور به. وأما قوله: بصير فإنه مبصر صرف إلى بصير، كما صرف مبدع إلى بديع، ومؤلم إلى أليم. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * يعني جل ثناؤه بقوله: وقالوا وقالت اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة. فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين، واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك ؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه، وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه جمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل: قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى الآية، أي قالت اليهود: لن
[ 688 ]
يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. وأما قوله: من كان هودا فإن في الهود قولين: أحدهما أن يكون جمع هائد، كما جاء عوط جمع عائط، وعوذ جمع عائذ، وحول جمع حائل، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد والهائد: التائب الراجع إلى الحق. والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع، كما يقال: رجل صوم وقوم صوم، ورجل فطر وقوم فطر ونسوة فطر. وقد قيل: إن قوله: إلا من كان هودا إنما هو قوله: إلا من كان يهودا ولكنه حذف الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي: إلا من كان يهوديا أو نصرانيا. وقد بينا فيما مضى معنى النصارى ولم سميت بذلك وجمعت كذلك بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: تلك أمانيهم فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان ولا يقين علم بصحة ما يدعون، ولكن بادعاء الاباطيل وأماني النفوس الكاذبة. كما: 1492 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: تلك أمانيهم أماني يتمنونها على الله كاذبة. 1493 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: تلك أمانيهم قال: أماني تمنوا على الله بغير الحق. القول في تأويل قوله تعالى: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه (ص) بدعاء الذين قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى إلى أمر عدل بين جميع الفرق مسلمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد (ص): يا محمد قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى دون غيرهم من سائر البشر: هاتوا برهانكم على ما تزعمون من ذلك فنسلم لكم
[ 689 ]
دعواكم إن كنتم في دعواكم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى محقين. والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما: 1494 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: هاتوا برهانكم هاتوا بينتكم. 1495 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: هاتوا برهانكم هاتوا حجتكم. 1496 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قل هاتوا برهانكم قال: حجتكم. 1497 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: قل هاتوا برهانكم أي حجتكم. وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم لانهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن على أن الذي ذكرنا من الكلام بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم. وأما تأويل قوله: قل هاتوا برهانكم فإنه: أحضروا وأتوا به. القول في تأويل قوله تعالى: * (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * يعني بقوله جل ثناؤه: بلى من أسلم أنه ليس كما قال الزاعمون لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها وينعم فيها. كما:
[ 690 ]
1498 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية. وقد بينا معنى بلى فيما مضى قبل. وأما قوله: من أسلم وجهه لله فإنه يعني بإسلام الوجه التذلل لطاعته والاذعان لامره. وأصل الاسلام: الاستسلام لانه من استسلمت لامره، وهو الخضوع لامره. وإنما سمي المسلم مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما: 1499 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: بلى من أسلم وجهه لله يقول: أخلص لله. وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له. وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: بلى من أسلم وجهه لله بإسلام وجهه له دون سائر جوراحه لان أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشئ وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشئ فتضيفه إلى وجهه وهي تعني بذلك نفس الشئ وعينه، كقول الاعشى: وأول الحكم على وجهه * ليس قضائي بالهوى الجائر يعني بقوله: على وجهه: على ما هو به من صحته وصوابه. وكما قال ذو الرمة: فطاوعت همي وأنجلى وجه بازل * من الامر لم يترك خلاجا بزولها يريد: وانجلى البازل من الامر فتبين، وما أشبه ذلك، إذ كان حسن كل شئ
[ 691 ]
وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشئ وجهه بما تصفه به إبانة عن عين الشئ ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: بلى من أسلم وجهه لله إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده وهو محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر الوجه من ذكر جسده لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر الوجه. وأما قوله: وهو محسن فإنه يعني به في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له محسنا في فعله ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يعني بقوله جل ثناؤه: فله أجره عند ربه فللمسلم وجهه لله محسنا جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه عند الله في معاده. ويعني بقوله: ولا خوف عليهم على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون، المخلصين له الدين في الآخرة من عقابه وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم. ويعني بقوله: ولا هم يحزنون ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لاهل طاعته. وإنما قال جل ثناؤه: ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقد قال قبل: فله أجره عند ربه لان من التي في قوله: بلى من أسلم وجهه لله في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله: فله أجره للفظ، والجمع في قوله: ولا خوف عليهم للمعنى. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) * قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله (ص)، فقال بعضهم لبعض. ذكر من قال ذلك:
[ 692 ]
1500 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قالا جميعا: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله (ص)، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله (ص)، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شئ وكفر بعيسى ابن مريم وبالانجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شئ وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ إلى قوله: فيما كانوا فيه يختلفون 1501 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي (ص). وأما تأويل الآية، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب. وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين إعلاما منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الاقرار بصحته وبأنه من عند الله، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه لان الانجيل الذي تدين بصحته وحقيقته النصارى يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام وما جاء به من عند الله من الاحكام والفرائض. ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون، وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون. فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شئ، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك ؟ قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل، من أن إنكار كل فريق منهم إنما كان إنكارا لنبوة النبي (ص)، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الآخر، لا دفعا منهم أن يكون
[ 693 ]
الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا (ص) على شئ من دينه، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد (ص). وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شئ بعد بعثة نبينا (ص)، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد (ص) في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية ؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شئ من دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: ليست اليهود على شئ منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا. فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا. كما: 1502 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ قال: بلى قد كانت أوائل النصارى على شئ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا وقالت النصارى: ليست اليهود على شئ. ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا. 1503 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ قال: قال مجاهد: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شئ. وأما قوله: وهم يتلون الكتاب فإنه يعني به كتاب الله التوراة والانجيل، وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه. كما: 1504 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قالا جميعا: ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس في قوله: وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الانجيل مما جاء به عيسى تصديق موسى، وما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه. القول في تأويل قوله تعالى: كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم. اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: كذلك قال الذين لا يعلمون، فقال بعضهم بما:
[ 694 ]
1505 - حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال الذين لا يعلمون مثل قولهم قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم. 1506 - حدثنا بشر بن سعيد، عن قتادة: قال الذين لا يعلمون مثل قولهم قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم. وقال آخرون بما: 1507 - حدثنا به القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والانجيل. وقال بعضهم: عنى بذلك مشركي العرب، لانهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل، ونفى عنهم من أجل ذلك العلم. ذكر من قال ذلك: 1508 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فهم العرب، قالوا: ليس محمد (ص) على شئ. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أخبر تبارك وتعالى عن قوم وصفهم بالجهل، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ. وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى، إذ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي، ولا خبر بذلك عن رسول الله (ص) ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ولا من جهة النقل المستفيض. وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل، وافتراء الكذب على الله، وجحود نبوة الانبياء والرسل، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون، وعلى الله مفترون مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا. وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به لان الله تعالى ذكره عظم توبيخ
[ 695 ]
اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله: وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون. القول في تأويل قوله تعالى: فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. يعني بذلك جل ثناءه: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين القائل بعضهم لبعض: لستم على شئ من دينكم يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم، فيتبين المحق منهم من المبطل بإثابته المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا. وأما القيامة فهي مصدر من قول القائل: قمت قياما وقيامة، كما يقال: عدت فلانا عيادة، وصنت هذا الامر صيانة. وإنما عنى بالقيامة: قيام الخلق من قبورهم لربهم، فمعنى يوم القيامة: يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابهآ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع الشئ في غير موضعه. وتأويل قوله: ومن أظلم: وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لامره من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها ؟ والمساجد جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى السجود فيما مضى، فمعنى المسجد: الموضع الذي يسجد لله فيه، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه: المجلس، وللموضع الذي ينزل فيه: منزل، ثم يجمع منازل ومجالس نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب مساجد في واحد المساجد، وذلك كالخطأ من قائله. وأما قوله: أن يذكر فيها اسمه فإن فيه وجهين من التأويل، أحدهما: أن يكون
[ 696 ]
معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، فتكون أن حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض وتعلق الفعل بها. والوجه الآخر أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده، فتكون أن حينئذ في موضع نصب تكريرا على موضع المساجد وردا عليه. وأما قوله: وسعى في خرابها فإن معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وممن سعى في خراب مساجد الله. ف سعى إذا عطف على منع. فإن قال قائل: ومن الذي عني بقوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها وأي المساجد هي ؟ قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى والمسجد بيت المقدس. ذكر من قال ذلك: 1509 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أنهم النصارى. 1510 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الاذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. * - حدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: هو بختنصر وجنده ومن أعانهم من النصارى والمسجد: مسجد بيت المقدس. ذكر من قال ذلك: 1511 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه الآية، أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.
[ 697 ]
* - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها قال: هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى. 1512 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها قال: الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس، حتى خربه وأمر به أن تطرح فيه الجيف وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش، إذ منعوا رسول الله (ص) من المسجد الحرام. ذكر من قال ذلك: 1513 - حدثني يونس ابن عبد الاعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها قال: هؤلاء المشركون، حين حالوا بين رسول الله (ص) يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يرد عن هذا البيت. وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق. وفي قوله: وسعى في خرابها قالوا: إذا قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه النصارى وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده. والدليل على صحة ما قلنا في ذلك: قيام الحجة بأن لا قوم في معنى هذه الآية إلا أحد الاقوال الثلاثة التي ذكرناها، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله: وسعى في خرابها إلا أحد المسجدين، إما مسجد بيت المقدس، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا في بعض الاوقات رسول الله (ص) وأصحابه من الصلاة فيه صح وثبت أن
[ 698 ]
الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده غير الذين وصفهم الله بعمارتها، إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية، وبعمارته كان افتخارهم، وإن كان بعض أفعالهم فيه كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم. وأخرى، أن الآية التي قبل قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام قبلها، فيوجه الخبر بقول الله عز وجل: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه إليهم وإلى المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه، هو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا، إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك وإن اتفقت قصصها فاشتبهت. فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك، إذ كان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في المسجد المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه، فيلجئون توجيه قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد، وإن كان قد دل بعموم قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أن كل مانع مصليا في مسجد لله فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين. القول في تأويل قوله تعالى: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين. وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها ما داموا على مناصبة الحرب إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها. كالذي: 1514 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين وهم اليوم كذلك، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا وأبلغ إليه في العقوبة.
[ 699 ]
* - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال الله عز وجل: ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين وهم النصارى، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة، إن قدر عليهم عوقبوا. 1515 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين فليس في الارض رومي يدخلها اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها. 1516 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين قال: نادى رسول الله (ص): لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن ننزل. وإنما قيل: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين فأخرج على وجه الخبر عن الجميع وهو خبر عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه لان من في معنى الجميع، وإن كان لفظه واحدا. القول في تأويل قوله تعالى: لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم. فأما قوله عز وجل: لهم فإنه يعني الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. وأما قوله: لهم في الدنيا خزي فإنه يعني بالخزي: العار والشر. والذلة إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية. كما: 1517 - حدثنا الحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: لهم في الدنيا خزي قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. 1518 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: لهم في الدنيا خزي أما خزيهم في الدنيا: فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم، فذلك الخزي وأما العذاب العظيم: فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي، على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعيهم في خرابها. ولهم على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الارض فسادا عذاب جهنم، وهو العذاب العظيم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 700 ]
* (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) * يعني جل ثناؤه بقوله: ولله المشرق والمغرب لله ملكهما وتدبيرهما، كما يقال: لفلان هذه الدار، يعني بها أنها له ملكا، فذلك قوله: ولله المشرق والمغرب يعني أنهما له ملكا وخلقا. والمشرق: هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال لموضع طلوعها منه مطلع بكسر اللام، وكما بينا في معنى المساجد آنفا. فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد حتى قيل: ولله المشرق والمغرب ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذا كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق، وما بين قطري المغرب، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها كل يوم. فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت فلله كل ما دونه ؟ الخلق خلقه قيل: بلى. فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع دون سائر الاشياء غيرها ؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع، ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه ذلك بالخبر من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس، وكان رسول الله (ص) يفعل ذلك مدة، ثم حولوا إلى الكعبة، فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي (ص) فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها، فحيثما تولوا فثم وجه الله. ذكر من قال ذلك: 1519 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس، قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله (ص) لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله (ص) بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله (ص) يحب قبلة
[ 701 ]
إبراهيم عليه السلام فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء إلى قوله: فولوا وجوهكم شطره فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله عز وجل: قل لله المشرق والمغرب وقال: أينما تولوا فثم وجه الله. * - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي نحوه. وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه (ص) وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام. وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب لانهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لان له المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، كما قال عز وجل: ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام. ذكر من قال ذلك: 1520 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد عن قتادة: قوله عز وجل: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فقال الله: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام. 1521 - حدثت عن الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: فأينما تولوا فثم وجه الله قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام. 1522 - حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا همام، قال: ثنا يحيى، قال: سمعت قتادة في قول الله: فأينما تولوا فثم زوجه الله قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله (ص) بمكة قبل الهجرة، وبعد ما هاجر رسول الله (ص) صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام، فنسخها الله في آية أخرى: فلنولينك قبلة ترضاها إلى: وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة.
[ 702 ]
1523 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته يعني زيدا يقول: قال عز وجل لنبيه (ص): فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم قال: فقال رسول الله (ص): هولاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه فاستقبله النبي (ص) ستة عشر شهرا. فبلغه أن يهود تقول: والله ما دري محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم فكره ذلك النبي (ص)، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز وجل: قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية. وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي (ص) إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف، والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك، بقوله: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله. ذكر من قال ذلك: 1524 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله (ص) كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: أينما تولوا فثم وجه الله. 1525 - حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الآية: أينما تولوا فثم وجه الله أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا، كان رسول الله (ص) إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب، فأن وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية. ذكر من قال ذلك: 1526 - حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو الربيع السمان، عن
[ 703 ]
عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله (ص) في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا، فجعل الرجل يأخذ الاحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه. فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله عز وجل: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم. 1527 - حدثني المثنى، قال: حدثني الحجاج، قال: ثنا حماد، قال: قلت للنخعي: إني كنت استيقظت أو قال أوقظت، شك الطبري فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك، يقول الله عز وجل: فأينما تولوا فثم وجه الله. 1528 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا أبي عن أشعث السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع النبي (ص) في ليلة مظلمة في سفر، فلم ندر أين القبلة فصلينا، فصلى كل واحد منا على حياله. ثم أصبحنا فذكرنا للنبي (ص)، فأنزل الله عز وجل: فأينما تولوا فثم وجه الله. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي لان أصحاب رسول الله (ص) تنازعوا في أمره من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها لي، فمن وجه وجهه نحو شئ منها يريدني به ويبتغي به طاعتي، وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته. ذكر من قال ذلك: 1529 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هشام بن معاذ، قال: حدثني أبي، عن قتادة أن النبي (ص) قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم قال: فنزلت: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله قال قتادة: فقالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله.
[ 704 ]
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا وإن كان لا شئ إلا وهو له ملك إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق، وأن على جميعهم إذ كان له ملكهم طاعته فيما أمرهم ونهاهم، وفيما فرض عليهم من الفرائض، والتوجه نحو الوجه الذي وجهوا إليه، إذ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب، والمراد به من بينهما من الخلق، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشئ من ذكره والخبر عنه، كما قيل: وأشربوا في قلوبهم العجل وما أشبه ذلك. ومعنى الآية إذا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته فولوا وجوهكم أيها المؤمنون نحو وجهي، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي. فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة ؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجئ العموم، والمراد الخاص وذلك أن قوله: فأينما تولوا فثم وجه الله محتمل: أينما تولوا في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثم وجه الله كما قال ابن عمر والنخعي ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا. ومحتمل: فأينما تولوا من أرض الله فتكونوا بها فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها لان الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال أبو كريب: 1530 - قال ثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك، والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل: فأينما تولوا فثم وجه الله قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها. 1531 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني إبراهيم، عن ابن أبي بكر، عن مجاهد، قال: حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها، قال: الكعبة. ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم. كما:
[ 705 ]
1532 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: لما نزلت: ادعوني أستجب لكم قالوا: إلى أين ؟ فنزلت: فأينما تولوا فثم وجه الله. فإذ كان قوله عز وجل: فأينما تولوا فثم وجه الله محتملا ما ذكرنا من الاوجه، لم يكن لاحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها لان الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: فأينما تولوا فثم وجه الله معني به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم. ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله (ص) وأصحابه نحو بيت المقدس أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله (ص) وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى. ولا خبر عن رسول الله (ص) ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت. ولا هي إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا بأن تكون جاءت بعموم، أو معناها: في حال دون حال إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا. وقد دللنا في كتابنا: كتاب البيان عن أصول الاحكام، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله (ص) إلا ما نفي حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه غير محتمل بظاهره وباطنة غير ذلك. فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه، ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: فأينما تولوا فثم وجه الله بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ. وأما قوله: فأينما فإن معناه: حيثما. وأما قوله: تولوا فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون تولون نحوه وإليه، كما يقول القائل: وليت وجهي (نحوه) ووليته إليه، بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك
[ 706 ]
أولى بتأويل الآية لاجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله، بمعنى قبلة الله. وأما قوله: فثم فإنه بمعنى: هنالك. واختلف في تأويل قوله: فثم (وجه الله) فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك: وجهه الذي وجههم إليه. ذكر من قال ذلك: 1533 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: فثم وجه الله قال: قبلة الله. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني إبراهيم، عن مجاهد، قال: حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها. وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل فثم وجه الله فثم الله تبارك وتعالى. وقال آخرون: معنى قوله: فثم وجه الله فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم. وقال آخرون: عنى بالوجه: ذا الوجه، وقال قائلوا هذه المقالة: وجه الله صفة له. فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها ؟ قيل: هي لها مواصلة، وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها، ولله المشرق والمغرب، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه، فإن وجهه هنالك يسعكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلم ما تعملون، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله تبتغون به وجهه. القول في تأويل قوله تعالى: إن الله واسع عليم. يعني جل ثناؤه بقوله: واسع يسع خلقه كلهم بالكفاية والافضال و الجود والتدبير. وأما قوله: عليم فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شئ ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 707 ]
* (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون) * يعني بقوله جل ثناؤه: وقالوا اتخذ الله ولدا الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وقالوا معطوف على قوله: وسعى في خرابها. وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، وقالوا اتخذ الله ولدا وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله ؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنفيا - ما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم. سبحانه يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل: سبحان الله بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والارض ملكا وخلقا، ومعنى ذلك: وكيف يكون المسيح لله ولدا، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الاماكن إما في السموات، وإما في الارض، ولله ملك ما فيهما ؟ ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم لم يكن كسائر ما في السموات والارض من خلقه وعبيده في ظهور آيات الصنعة فيه. القول في تأويل قوله تعالى: كل له قانتون. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون. ذكر من قال ذلك: 1534 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: كل له قانتون: مطيعون. 1535 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: كل له قانتون قال: مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله.
[ 708 ]
1536 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره. 1537 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: كل له قانتون يقول: كل له مطيعون يوم القيامة. 1538 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عمن ذكره، عن عكرمة: كل له قانتون قال: الطاعة. 1539 - حدثت عن المنجاب بن الحرث، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: قانتون: مطيعون. وقال آخرون: معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية. ذكر من قال ذلك: 1540 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: كل له قانتون كل مقر له بالعبودية. وقال آخرون بما: 1541 - حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: كل له قانتون قال: كل له قائم يوم القيامة. وللقنوت في كلام العرب معان: أحدها الطاعة، والآخر القيام، والثالث الكف عن الكلام والامساك عنه. وأولى معاني القنوت في قوله: كل له قانتون الطاعة والاقرار لله عز وجل بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله عز وجل، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: بل له ما في السموات والارض ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والارض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته ؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله: كل له قانتون خاصة لاهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا: كتاب البيان عن أصول الاحكام. وهذا خبر من الله عز وجل عن أن المسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مكذبهم هو والسموات والارض وما فيها، إما باللسان، وإما بالدلالة وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر
[ 709 ]
عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بالعبودية عقيب قوله: وقالوا اتخذ الله ولدا فدل ذلك على صحة ما قلنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (بديع السماوات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * يعني جل ثناؤه بقوله: بديع السموات والارض مبدعها. وإنما هو مفعل صرف إلى فعيل، كما صرف المؤلم إلى أليم، والمسمع إلى سميع. ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا، لاحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي: يرعى إلى قول سادات الرجال إذا * أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا أي يحدث ما شاء. ومنه قول رؤبة بن العجاج: فأيها الغاشي القذاف الاتيعا * إن كنت لله التقي ألاطوعا فليس وجه الحق أن تبدعا يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه. فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والارض، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده، أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والارض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
[ 710 ]
1542 - حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: بديع السموات والارض يقول: ابتدع خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد. 1543 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: بديع السموات والارض يقول: ابتدعها فخلقها، ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به. القول في تأويل قوله تعالى: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون. يعني جل ثناؤه بقوله: وإذا قضى أمرا وإذا أحكم أمرا وحتمه. وأصل كل قضاء أمر الاحكام والفراغ منه ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس: القاضي بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه. ومنه قيل للميت: قد قضى، يراد به قد فرغ من الدنيا، وفصل منها. ومنه قيل: ما ينقضي عجبي من فلان، يراد: ما ينقطع. ومنه قيل: تقضى النهار: إذا انصرم. ومنه قول الله عز وجل: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه أي فصل الحكم فيه بين عباده بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول أبي ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع ويروى: وتعاورا مسرودتين قضاهما. ويعني بقوله: قضاهما: أحكمهما. ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بوائق في أكمامها لم تفتق ويروى: بوائج.
[ 711 ]
وأما قوله: فانما يقول له كن فيكون فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك الامر كن، فيكون ذلك الامر على ما أمره الله أن يكون وأراده. فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون ؟ وفي أي حال يقول للامر الذي يقضيه كن ؟ أفي حال عدمه، وتلك حال لا يجوز فيها أمره، إذ كان محالا أن يأمر إلا المأمور، فإذا لم يكن المأمور استحال الامر كما محال الامر من غير آمر، فكذلك محال الامر من آمر إلا لمأمور. أم يقول له ذلك في حال وجوده، وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث، لانه حادث موجود، ولا يقال للموجود: كن موجودا إلا بغير معنى الامر بحدوث عينه ؟ قيل: قد تنازع المتأولون في معنى ذلك ونحن مخبرون بما قالوا فيه، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك: قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه، ومضى فيه أمره، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم، وكالذي خسف به وبداره الارض، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه. فوجه قائلوا هذا القول قوله: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون إلى الخصوص دون العموم. وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها، فليس لاحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها، وقال: إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلما كان ذلك كذلك كانت الاشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها، نظائر التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم. وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهر عموم، فتأويلها الخصوص لان الامر غير جائز إلا لمأمور على ما وصفت قبل. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فالآية تأويلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت، أو إماتة حي، ونحو ذلك، فإنما يقول لحي كن ميتا، أو لميت كن حيا، وما أشبه ذلك من الامر. وقال آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه كان ووجد. ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة إلا وجود المخلوق،
[ 712 ]
وحدوث المقضي وقالوا: إنما قول الله عز وجل: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون نظير قول القائل: قال فلان برأسه، وقال بيده إذا حرك رأسه أو أومأ بيده ولم يقل شيئا. وكما قال أبو النجم: وقالت الانساع للبطن الحق * قدما فآضت كالفنيق المحنق ولا قول هنالك، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال عمرو بن حممة الدوسي: فأصبحت مثل النسر طارت فراخه * إذا رام تطيارا يقال له قع ولا قول هناك، وإنما معناه: إذا رام طيرانا ووقع، وكما قال الآخر: امتلا الحوض وقال قطني * سيلا رويدا قد ملات بطني وأولى الاقوال بالصواب في قوله: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه، لان ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا: كتاب البيان عن أصول الاحكام. وإذ كان ذلك كذلك، فأمر الله عز وجل لشئ إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: كن في حال إرادته إياه مكونا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. فغير جائز أن يكون الشئ مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون قوله: ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله، ولا يتأخر عنه. ويسأل من زعم أن قوله: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون خاص في
[ 713 ]
التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم، أم بعده ؟ أم هي في خاص من الخلق ؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ويسأل الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: فانما يقول له كن فيكون نظير قول القائل: قال فلان برأسه أو بيده، إذا حركه وأومأ، ونظير قول الشاعر: تقول إذا درأت لها وضيني * أهذا دينه أبدا وديني وما أشبه ذلك ؟ فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ولا كتاب الله، وما دلت على صحته الادلة اتبعوا. فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له: كن، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك ؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن، وخرجوا من الملة، وإن قالوا: بل نقر به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل: قال الحائط فمال ولا قول هنالك، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط. قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل ؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها. وإن قالوا: ذلك غير جائز، قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشئ إذا أراده أن يقول له كن فيكون، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشئ ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل: قال الحائط فمال. فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون وقول القائل: قال الحائط فمال ؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله. وإذا كان الامر في قوله جل ثناؤه: وإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون هو ما وصفنا من أن حال أمره الشئ بالوجود حال وجود المأمور بالوجود، فتبين بذلك أن الذي هو أولى بقوله: فيكون رفع على العطف على قوله: يقول لان القول والكون حالهما واحد. وهو نظير قول القائل: تاب فلان فاهتدى، واهتدى فلان فتاب لانه لا
[ 714 ]
يكون تائبا إلا وهو مهتد، ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود ولذلك استجاز من استجاز نصب فيكون من قرأ: إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن يقول له كن فيكون بالمعنى الذي وصفنا على معنى: أن نقول فيكون. وأما رفع من رفع ذلك، فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله: إذا أردناه أن نقول له كن إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شئ كان المحتوم عليه موجودا، ثم ابتدأ بقوله: فيكون، كما قال جل ثناؤه: لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء، وكما قال ابن أحمر: يعالج عاقرا أعيت عليه * ليلقحها فينتجها حوارا يريد: فإذا هو ينتجها حوارا. فمعنى الآية إذا: وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والارض وما فيهما، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنى يكون له ولد، وهو الذي ابتدع السموات والارض من غير أصل، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذر عليه به شئ أراده بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه: كن، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاءه إذ أراد خلقه من غير والد. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) * اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى. ذكر من قال ذلك: 1544 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي
[ 715 ]
نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية قال: النصارى تقوله. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله وزاد فيه وقال الذين لا يعلمون: النصارى. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله (ص). ذكر من قال ذلك: 1545 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قالا جميعا: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رافع بن حريملة لرسول الله (ص): إن كنت رسولا من عند الله كما تقول، فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله عز وجل في ذلك من قوله: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية الآية كلها. وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب. ذكر من قال ذلك: 1546 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية وهم كفار العرب. 1547 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله قال: هم كفار العرب. 1548 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أما الذين لا يعلمون: فهم العرب. وأولى هذه الاقوال بالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالى عنى بقوله: وقال الذين لا يعلمون النصارى دون غيرهم لان ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله: اتخذ الله ولدا تمنوا على الله الاباطيل، فقالوا جهلا منهم بالله وبمنزلتهم عنده وهم بالله مشركون: لولا يكلمنا الله كما يكلم رسوله وأنبياءه، أو تأتينا آية كما أتتهم ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه، ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده. فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى
[ 716 ]
الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه. وقال الزاعم: إن الله عنى بقوله: وقال الذين لا يعلمون العرب، فإنه قائل قولا لا خبر بصحته ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه، لانه ادعى ما لا برهان على صحته، وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد. وأما معنى قوله: لولا يكلمنا الله فإنه بمعنى: هلا يكلمنا الله كما قال الاشهب بن رميلة: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطري لولا الكمي المقنعا بمعنى: فهلا تعدون الكمي المقنع ؟ كما: 1549 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لولا يكلمنا الله قال: فهلا يكلمنا الله. قال أبو جعفر: فأما الآية فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة. وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلا تأتينا آية على ما نريده ونسأل، كما أتت الانبياء والرسل فقال عز وجل: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم. القول في تأويل قوله تعالى: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم. اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، فقال بعضهم في ذلك بما:
[ 717 ]
1550 - حدثني به محمد بن عمرو، وقال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم هم اليهود. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قال الذين من قبلهم اليهود. وقال آخرون: هم اليهود والنصارى، لان الذين لا يعلمون هم اليهود. ذكر من قال ذلك: 1551 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: قال الذين من قبلهم يعني اليهود والنصارى وغيرهم. 1552 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قالوا يعني العرب، كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم. 1553 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم يعني اليهود والنصارى. قال أبو جعفر: قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله هم النصارى، والذين قالت مثل قولهم هم اليهود، وسألت موسى (ص) أن يريهم ربهم جهرة، وأن يسمعهم كلام ربهم، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، وسألوا من الآيات ما ليس لهم مسألته تحكما منهم على ربهم، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد. 1554 - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: تشابهت قلوبهم قلوب النصارى واليهود.
[ 718 ]
وقال غيرهم: معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم. ذكر من قال ذلك: 1555 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: تشابهت قلوبهم يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم. 1556 - حدثني المثنى، ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: تشابهت قلوبهم يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم. وغير جائز في قوله: تشابهت التثقيل، لان التاء التي في أولها زائدة أدخلت في قوله: تفاعل، وإن ثقلت صارت تاءين ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما، لان إحداهما تدخل علما للاستقبال، والاخرى منها التي في تفاعل، ثم تدغم إحداهما في الاخرى فتثقل فيقال: تشابه بعد اليوم قلوبنا. فمعنى الآية: وقالت النصارى الجهال بالله وبعظمته: هلا يكلمنا الله ربنا كما كلم أنبياءه ورسله، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد ؟ قال الله جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم. قال من قبلهم من اليهود، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة، ويؤتيهم آية، واحتكموا عليه وعلى رسله، وتمنوا الاماني. فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها. القول في تأويل قوله تعالى: قد بينا الآيات لقوم يوقنون. يعني جل ثناؤه بقوله: قد بينا الآيات لقوم يوقنون قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود وجعل منهم القردة والخنازير، وأعد لهم العذاب المهين في معادهم، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا، وأعد لهم الخزي والعذاب الاليم في الآخرة، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها. فاعلموا الاسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك، وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون لانهم أهل التثبت في الامور، والطالبون معرفة حقائق الاشياء على يقين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه، ويعلم حقيقة الامر إذ كان ذلك خبرا من الله
[ 719 ]
جل ثناؤه، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه. وقد يحتمل غيره من الاخبار ما يحتمل من الاسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب، وذلك منفي عن خبر الله عز وجل. القول في تأويل قوله تعالى: * (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) * ومعنى قوله جل ثناؤه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا إنا أرسلناك يا محمد بالاسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الاديان وهو الحق مبشرا من اتبعك فأطاعك وقبل منك ما دعوته إليه من الحق، بالنصر في الدنيا، والظفر بالثواب في الآخرة، والنعيم المقيم فيها ومنذرا من عصاك فخالفك ورد عليك ما دعوته إليه من الحق بالخزي في الدنيا، والذل فيها، والعذاب المهين في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم وقال أبو جعفر: قرأت عامة القراء: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم بضم التاء من تسأل ورفع اللام منها على الخبر، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، فبلغت ما أرسلت به، وإنما عليك البلاغ والانذار، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق وكان من أهل الجحيم. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: ولا تسأل جزما بمعنى النهي مفتوح التاء من تسأل، وجزم اللام منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما: 1557 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن موسى بن عبده، عن محمد بن كعب، قال: قال رسول الله (ص): ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت ولا تسأل عن أصحاب الجحيم. 1558 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبده عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله (ص): ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثا، فنزلت: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم فما ذكرهما حتى توفاه الله. 1559 - حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال:
[ 720 ]
أخبرني داود بن أبي عاصم، أن النبي (ص) قال ذات يوم: ليت شعري أين أبواي ؟ فنزلت: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم. والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع على الخبر لان الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى، وذكر ضلالتهم، وكفرهم بالله، وجراءتهم على أنبيائه، ثم قال لنبيه (ص): إنا أرسلناك يا محمد بشيرا من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه، ونذيرا من كفر بك وخالفك، فبلغ رسالتي، فليس عليك من أعمال من كفر بك بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر لمسألة رسول الله (ص) ربه عن أصحاب الجحيم ذكر، فيكون لقوله: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي (ص) نهي عن أن يسأل في هذه الآية عن أصحاب الجحيم، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم. فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام في أن أهل الشرك من أهل الجحيم، وأن أبويه كانا منهم، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب إن كان الخبر عنه صحيحا، مع أن ابتداء الخبر بعد قوله: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا بالواو بقوله: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم، وتركه وصل ذلك بأوله بالفاء، وأن يكون: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم، أوضح الدلائل على أن الخبر بقوله: ولا تسأل، أولى من النهي، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: وما تسأل وفي قراءة ابن مسعود: ولن تسأل وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه دون النهي.
[ 721 ]
وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم إلى الحال، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم التاء، وقرأه على معنى الخبر، وكان يجيز على ذلك قراءته: ولا تسأل، بفتح التاء وضم اللام على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك. وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك يرفعهما ما روي عن ابن مسعود وأبي من القراءة لان إدخالهما ما أدخلا من ذلك من ما، ولن يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: ولا تسأل وإذا كان ابتداء لم يكن حالا. وأما أصحاب الجحيم، فالجحيم هي النار بعينها إذا شبت وقودها، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: إذا شبت جهنم ثم دارت * وأعرض عن قوابسها الجحيم القول في تأويل قوله تعالى: * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) * يعني بقوله جل ثناؤه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم: وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الالفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم لان اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا، وذلك مما لا يكون منك أبدا، لانك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الالفة عليه سبيل، وأما الملة فإنها الدين وجمعها الملل.
[ 722 ]
ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى: إن هدى الله هو الهدى يعني أن بيان الله هو البيان المقنع والقضاء الفاصل بيننا، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل، وأينا أهل الجنة، وأينا أهل النار، وأينا على الصواب، وأينا على الخطأ وإنما أمر الله نبيه (ص) أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه، لان فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وبيان أمر محمد (ص)، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به. القول في تأويل قوله تعالى: ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير. يعني جل ثناؤه بقوله: ولئن اتبعت يا محمد هوى هؤلاء اليهود والنصارى، فيما يرضيهم عنك من تهود وتنصر، فصرت من ذلك إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة، ما لك من الله من ولي. يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به، ولا نصير ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك إن أحل بك ذلك ربك. وقد بينا معنى الولي والنصير فيما مضى قبل. وقد قيل إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد (ص) لان اليهود والنصارى دعته إلى أديانها، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم. القول في تأويل قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) * اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: الذين آتيناهم الكتاب فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله (ص)، وبما جاء به من أصحابه: ذكر من قال ذلك:
[ 723 ]
1560 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: الذين آتيناهم الكتاب هؤلاء أصحاب نبي الله (ص)، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة، فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد (ص)، والايمان به، والتصديق بما جاء به من عند الله. ذكر من قال ذلك: 1561 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فاولئك هم الخاسرون قال: من كفر بالنبي (ص) من يهود فأولئك هم الخاسرون. وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة لان الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين، وتبديل من بدل منهم كتاب الله، وتأولهم إياه على غير تأويله، وادعائهم على الله الاباطيل. ولم يجر لاصحاب محمد (ص) في الآية التي قبلها ذكر، فيكون قوله: الذين آتيناهم الكتاب موجها إلى الخبر عنهم، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله (ص) بعد انقضاء قصص غيرهم، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه في الآية قبلها والآية بعدها، وهم أهل الكتابين: التوراة والانجيل. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد، وهو التوراة، فقرءوه واتبعوا ما فيه، فصدقوك وآمنوا بك، وبما جئت به من عندي، أولئك يتلونه حق تلاوته. وإنما أدخلت الالف واللام في الكتاب لانه معرفة، وقد كان النبي (ص) وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به. القول في تأويل قوله تعالى: يتلونه حق تلاوته. اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: يتلونه حق تلاوته فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه. ذكر من قال ذلك: 1562 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني ابن أبي عدي، وعبد الاعلى، وحدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا ابن أبي عدي جميعا، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه. * - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة بمثله.
[ 724 ]
* - وحدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة بمثله. 1563 - حدثني الحسن بن عمرو العبقري، قال: حدثني أبي، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: يتلونه حق تلاوته قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه. * - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: يتلونه حق تلاوته فذكر مثله إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه. 1564 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا المؤمل، قال: ثنا سفيان قال: ثنا يزيد، عن مرة، عن عبد الله في قول الله عز وجل: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه. 1565 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: قال عبد الله ابن مسعود: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود في قوله: يتلونه حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه. * - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا الزبيري، قال: ثنا عباد بن العوام عمن ذكره، عن عكرمة، عن ابن عباس: يتلونه حق تلاوته يتبعونه حق اتباعه. 1566 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا عباد بن العوام، عن الحجاح، عن عطاء، بمثله. 1567 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه. * - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، وحدثني المثنى، قال:
[ 725 ]
حدثني أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، وحدثني نصر بن عبد الرحمن الازدي، قال: ثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله. 1568 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد: يتلونه حق تلاوته قال: عملا به. 1569 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن قيس بن سعد: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه ألم تر إلى قوله: والقمر إذا تلاها يعني الشمس إذا تبعها القمر. 1570 - حدثني المثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء وقيس بن سعد، عن مجاهد في قوله: يتلونه حق تلاوته قال: يعملون به حق عمله. 1571 - حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: يتبعونه حق اتباعه. * - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يتلونه حق تلاوته يعملون به حق عمله. * - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن مجاهد في قوله: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه. * - حدثني عمرو، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا الحسن بن أبي جعفر، عن أبي أيوب، عن أبي الخليل، عن مجاهد: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه. * - حدثنا عمرو، قال: ثنا يحيى القطان، عن عبد الملك، عن عطاء قوله: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه، يعملون به حق عمله. 1572 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثني أبي، عن المبارك، عن الحسن:
[ 726 ]
يتلونه حق تلاوته قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. 1573 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: يتلونه حق تلاوته قال: أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وعملوا بما فيه ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، وأن يقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه. * - حدثنا عمرو، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا الحكم بن عطية، سمعت قتادة يقول: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه، قال: اتباعه يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويقرءونه كما أنزل. 1574 - حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم عن داود، عن عكرمة في قوله: يتلونه حق تلاوته قال: يتبعونه حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: والقمر إذا تلاها ؟ قال: إذا تبعها. وقال آخرون يتلونه حق تلاوته: يقرءونه حق قراءته. والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره، إذا اتبع أثره لاجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله. وإذا كان ذلك تأويله، فمعنى الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي، يتبعون كتابي الذي أنزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه، فيؤمنون به، ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك، وأنك رسولي فرض عليهم طاعتي في الايمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي، ويعملون بما أحللت لهم، ويجتنبون ما حرمت عليهم فيه، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه كما أنزلته عليهم بتأويل ولا غيره. أما قوله: حق تلاوته فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به، كما يقال: إن فلانا لعالم حق عالم، وكما يقال: إن فلانا لفاضل كل فاضل.
[ 727 ]
وقد اختلف أهل العربية في إضافة حق إلى المعرفة، فقال بعض نحويي الكوفة: غير جائزة إضافته إلى معرفة لانه بمعنى أي، وبمعنى قولك: أفضل رجل فلان، وأفعل لا يضاف إلى واحد معرفة لانه مبعض، ولا يكون الواحد المبعض معرفة. فأحالوا أن يقال: مررت بالرجل حق الرجل، ومررت بالرجل جد الرجل، كما أحالوا مررت بالرجل أي الرجل، وأجازوا ذلك في كل الرجل وعين الرجل ونفس الرجل، وقالوا: إنما أجزنا ذلك لان هذه الحروف كانت في الاصل توكيدا، فلما صرن مدوحا تركن مدوحا على أصولهن في المعرفة. وزعموا أن قوله: يتلونه حق تلاوته إنما جازت إضافته إلى التلاوة، وهي مضافة إلى معرفة لان العرب تعتد بالهاء إذا عادت إلى نكرة بالنكرة، فيقولون: مررت برجل واحد أمه، ونسيج وحده، وسيد قومه. قالوا: فكذلك قوله: حق تلاوته إنما جازت إضافة حق إلى التلاوة وهي مضافة إلى الهاء، لاعتداد العرب ب الهاء التي في نظائرها في عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك حق التلاوة لوجب أن يكون جائزا: مررت بالرجل حق الرجل، فعلى هذا القول تأويل الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة. وقال بعض نحويي البصرة: جائزة إضافة حق إلى النكرات مع النكرات، ومع المعارف إلى المعارف وإنما ذلك نظير قول القائل: مررت بالرجل غلام الرجل، وبرجل غلام رجل. فتأويل الآية على قول هؤلاء: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته. وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الاول لان معنى قوله: حق تلاوته أي تلاوة، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها. وأي غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم، وكذلك حق غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة، وإنما أضيف في حق تلاوته إلى ما فيه الهاء لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها. القول في تأويل قوله تعالى: أولئك يؤمنون به. قال أبو جعفر: يعني جل ثناءه بقوله: أولئك هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته. وأما قوله: يؤمنون به فإنه يعني يصدقون به. والهاء التي في قوله به عائدة على
[ 728 ]
الهاء التي في تلاوته، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قال الله: الذين آتيناهم الكتاب فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه. وإنما وصف جل ثناؤه من وصف بما وصف به من متبعي التوراة، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم لان في اتباعها اتباع محمد نبي الله (ص) وتصديقه، لان التوراة تأمر أهلها بذلك وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم، وإن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد (ص)، وهم العاملون بما فيها. كما: 1575 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أولئك يؤمنون به قال: من آمن برسول الله (ص) من بني إسرائيل، وبالتوراة، وأن الكافر بمحمد (ص) هو الكافر بها الخاسر، كما قال جل ثناؤه: ومن يكفر به فاولئك هم الخاسرون. القول في تأويل قوله تعالى: ومن يكفر به فاولئك هم الخاسرون. يعني جل ثناؤه بقوله: ومن يكفر به ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه من آتاه من المؤمنين حق تلاوته. ويعني بقوله جل ثناؤه: يكفر يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد (ص)، وتصديقه، ويبدله، فيحرف تأويله أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله واستبدلوا بها سخط الله وغضبه. وقال ابن زيد في قوله بما: 1576 - حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ومن يكفر به فاولئك هم الخاسرون قال: من كفر بالنبي (ص) من يهود، فاولئك هم الخاسرون. القول في تأويل قوله تعالى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) * وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله (ص)، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم استعطافا منه لهم
[ 729 ]
على دينه، وتصديق رسوله محمد (ص) فقال: يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم، وصنائعي عندكم، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه، وإنزالي عليكم المن والسلوى في تيهكم، وتمكيني لكم في البلاد، بعد أن كنتم مذللين مقهورين، واختصاصي الرسل منكم، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين ظهرانيه، أيام أنتم في طاعتي باتباع رسولي إليكم، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي، ودعوا التمادي في الضلال والغي. وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، والمعاني التي ذكرهم جل ثناءه من آلائه عندهم، والعالم الذي فضلوا عليه فيما مضى قبل، بالروايات والشواهد، فكر هنا تطويل الكتاب بإعادته، إذ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك واحدا. القول في تأويل قوله تعالى: * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) * وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنزيلي، المحرفين تأويله عن وجهه، المكذبين برسولي محمد (ص)، عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا تغني عنها غناء، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي، وتكذيبكم رسولي، فتموتوا عليه فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع، ولا هم ينصرهم ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه. وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * يعني جل ثناؤه بقوله: وإذ ابتلى وإذا اختبر، يقال منه: ابتليت فلانا ابتليه ابتلاء. ومنه قول الله عز وجل وابتلوا اليتامى يعني به: اختبروهم. وكان اختبار الله تعالى
[ 730 ]
ذكره إبراهيم اختبارا بفرائض فرضها عليه، وأمر أمره به، وذلك هو الكلمات التي أوحاهن إليه وكلفه العمل بهن امتحانا منه له واختبارا. ثم اختلف أهل التأويل في صفة الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه، فقال بعضهم: هي شرائع الاسلام، وهي ثلاثون سهما. ذكر من قال ذلك: 1577 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، ابتلاه الله بكلمات فأتمهن قال: فكتب الله له البراءة، فقال: وإبراهيم الذي وفى قال: عشر منها في الاحزاب، وعشر منها في براءة، وعشر منها في المؤمنين وسأل سائل وقال: إن هذا الاسلام ثلاثون سهما. 1578 - حدثنا إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم ابتلي بالاسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة، فقال: وإبراهيم الذي وفى فذكر عشرا في براءة، فقال: التائبون العابدون الحامدون إلى آخر الآيات، وعشرا في الاحزاب: إن المسلمين والمسلمات، وعشرا في سورة المؤمنين، إلى قوله: والذين هم على صلواتهم يحافظون، وعشرا في سأل سائل: والذين هم على صلاتهم يحافظون. 1579 - حدثنا عبيد الله بن أحمد بن شبرمة، قال: ثنا علي بن الحسن، قال: ثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الاسلام ثلاثون سهما، وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم، قال الله وإبرهيم الذي وفى فكتب الله له براءة من النار. وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الاسلام. ذكر من قال ذلك: 1580 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: ابتلاه الله
[ 731 ]
بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الاظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الابط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء. * - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن القاسم بن أبي بزة، عن ابن عباس بمثله، ولم يذكر أثر البول. 1581 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال. قال: ثنا قتادة في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الاظافر، ونتف الابط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة. 1582 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الخلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء هن في الانسان: سنة الاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الابط، وقلم الاظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج. وقال بعضهم: بل الكلمات التي ابتلي بهن عشر خلال بعضهن في تطهير الجسد، وبعضهن في مناسك الحج. ذكر من قال ذلك: 1583 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش عن ابن عباس في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: ستة في الانسان، وأربعة في المشاعر فالتي في الانسان: حلق العانة، والختان، ونتف الابط، وتقليم الاظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والافاضة. وقال آخرون: بل ذلك: إني جاعلك للناس إماما في مناسك الحج. ذكر من قال ذلك: 1584 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عتن أبي صالح في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن فمنهن: إني جاعلك للناس إماما وآيات النسك.
[ 732 ]
* - حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح مولى أم هانئ في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال منهن: إني جاعلك للناس إماما ومنهن آيات النسك: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت. 1585 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال الله لابراهيم: إني مبتليك بأمر، فما هو ؟ قال: تجعلني للناس إماما. قال: نعم. قال: ومن ذريتي ؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس قال: نعم. وأمنا قال: نعم. وتجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك قال: نعم. وترينا مناسكنا وتتوب علينا قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم قال: نعم. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح أخبره به عن عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا. 1586 - حدثنا سفيان، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: ابتلي بالآيات التي بعدها: إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين. 1587 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن فالكلمات: إني جاعلك للناس إماما وقوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وقوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقوله: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل الآية، وقوله: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت الآية قال: فذلك كلمة من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.
[ 733 ]
1588 - حدثني محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن فمنهن: إني جاعلك للناس إماما ومنهن: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ومنهن الآيات في شأن النسك، والمقام الذي جعل لابراهيم، والرزق الذي رزق ساكنوا البيت ومحمد (ص) في ذريتهما عليهما السلام. وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة. ذكر من قال ذلك: 1589 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سلم بن قتيبة، قال: ثنا عمرو بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: مناسك الحج. * - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان ابن عباس يقول في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: المناسك. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك. * - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم: المناسك. * - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: مناسك الحج. * - حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: منهن مناسك الحج. وقال آخرون: هي أمور منهن الختان. ذكر من قال ذلك: 1590 - حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا سلم بن قتيبة عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: منهن الختان.
[ 734 ]
* - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعت الشعبي يقول: فذكر مثله. * - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، قال: سمعت الشعبي، وسأله أبو إسحاق عن قول الله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: منهن الختان يا أبا إسحاق. وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن. ذكر من قال ذلك: 1591 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: قلت للحسن: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه، وابتلاه بالنار فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان. 1592 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: إي والله ابتلاه بأمر فصبر عليه، ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والارض حنيفا وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان فصبر على ذلك. 1593 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن يقول في قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، وبالكوكب، والشمس، والقمر. 1594 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سلم بن قتيبة، قال: ثنا أبو هلال، عن الحسن: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس، والقمر، فوجده صابرا. وقال آخرون بما: 1595 - حدثنا به موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا
[ 735 ]
واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه، وأمره أن يعمل بهن وأتمهن، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل الكلمات، وجائز أن تكون بعضه لان إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك، فعمل به وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لاحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شئ، ولا عنى به كل ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر عن الرسول (ص)، أو إجماع من الحجة ولم يصح فيه شئ من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه روي عن النبي (ص) في نظير معنى ذلك خبران لو ثبتا، أو أحدهما، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. أحدهما ما: 1596 - حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا راشد بن سعد، قال: حدثني ريان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: كان النبي (ص) يقول: ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ لانه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون حتى يختم الآية. والآخر منهما ما: 1597 - حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا الحسن بن عطية. قال: ثنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله (ص): وإبراهيم الذي وفى قال: أتدرون ما وفى ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وفى عمل يومه أربع ركعات في النهار. فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده. كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن هو قوله كلما أصبح وأمسى: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والارض وعشيا وحين تظهرون. أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته، كان معلوما أن الكلمات التي أو حين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن
[ 736 ]
أن يصلي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر. والصواب من القول في معنى الكلمات التي أخبر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم ما بينا آنفا. ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا، لان قوله: إني جاعلك للناس إماما وقوله: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين وسائر الآيات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم. القول في تأويل قوله تعالى: فأتمهن. يعني جل ثناؤه بقوله: فأتمهن فأتم إبراهيم الكلمات، وإتمامه إياهن إكماله إياهن بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن وهو الوفاء الذي قال الله جل ثناؤه: وإبراهيم الذي وفى يعني وفى بما عهد إليه بالكلمات، فأمره به من فرائضه ومحنة فيها. كما: 1598 - حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الاعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس: فأتمهن أي فأداهن. 1599 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: فأتمهن أي عمل بهن، فأتمهن. 1600 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: فأتمهن أي عمل بهن فأتمهن. القول في تأويل قوله تعالى: قال إني جاعلك للناس إماما. يعني جل ثناؤه بقوله: إني جاعلك للناس إماما فقال الله: يا إبراهيم إني مصيرك للناس إماما يؤتم به ويقتدي به. كما: 1601 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: إني جاعلك للناس إماما ليؤتم به، ويقتدي به يقال منه: أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة إذا كنت إمامهم. وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لابراهيم: إني جاعلك للناس إماما إني مصيرك تؤم من
[ 737 ]
بعدك من أهل الايمان بي وبرسلي، فتقدمهم أنت، ويتبعون هديك، ويستنون بسنتك التي تعمل بها بأمري إياك ووحيي إليك. القول في تأويل قوله تعالى: قال ومن ذريتي. يعني جل ثناؤه بذلك، قال إبراهيم لما رفع الله منزلته وكرمه، فأعلمه ما هو صانع به من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم يهتدي بهديه ويقتدي بأفعاله وأخلاقه: يا رب ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدي بهم كالذي جعلتني إماما يؤتم به ويتقدى بي مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها. كما: 1602 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال إبراهيم: ومن ذريتي يقول: فاجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدي به. وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم: ومن ذريتي مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه، كما قال: واجنبني وبني أن نعبد الاصنام فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه بقوله: لا ينال عهدي الظالمين. والظاهر من التنزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة لان قول إبراهيم صلوات الله عليه: ومن ذريتي في إثر قول الله جل ثناؤه: إني جاعلك للناس إماما فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه لكان مبينا ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره، اكتفى بالذكر الذي قد مضى من تكريره وإعادته، فقال: ومن ذريتي بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به من الامامة للناس. القول في تأويل قوله تعالى: قال لا ينال عهدي الظالمين. هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير، وهو من الله جل ثناؤه جواب لما توهم في مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة مثله، فأخبر أنه فاعل ذلك إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مصيره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده بالتكرمة بالامامة لان الامامة إنما هي لاوليائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به. واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه، فقال بعضهم: ذلك العهد هو النبوة. ذكر من قال ذلك:
[ 738 ]
1603 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لا ينال عهدي الظالمين يقول: عهدي، نبوتي. فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك. وقال آخرون: معنى العهد عهد الامامة، فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالما إماما لعبادي يقتدي به. ذكر من قال ذلك: 1604 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون إمام ظالما. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قال الله: لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون إمام ظالما. 1605 - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة بمثله. * - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون إمام ظالم يقتدي به. * - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. * - حدثنا مسروق بن أبان الحطاب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله: لا ينال عهدي الظالمين قال: لا أجعل إماما ظالما يقتدي به. * - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: ثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: لا ينال عهدي الظالمين قال: لا أجعل إماما ظالما يقتدي به. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون إماما ظالم. قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما قلت لعطاء: ما عهده ؟ قال: أمره. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه. ذكر من قال ذلك:
[ 739 ]
1606 - حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لا ينال عهدي الظالمين يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه. * - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسرائيل، عن مسلم الاعور، عن مجاهد، عن ابن عباس: قال لا ينال عهدي الظالمين قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه. * - حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: ليس لظالم عهد. وقال آخرون: معنى العهد في هذا الموضع: الامان. فتأويل الكلام على معنى قولهم، قال الله: لا ينال أماني أعدائي، وأهل الظلم لعبادي أي لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة. ذكر من قال ذلك: 1607 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قال لا ينال عهدي الظالمين ذلكم عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالم، فأما في الدنيا فقد نالوا عهد الله، فوارثوا به المسلمين وعادوهم وناكحوهم به، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه. 1608 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: لا ينال عهدي الظالمين قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم وأكل به وعاش. 1609 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وأبصر وعاش. وقال آخرون: بل العهد الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله. ذكر من قال ذلك: 1610 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال الله لابراهيم: لا ينال عهدي الظالمين فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده: دينه. يقول: لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما
[ 740 ]
محسن وظالم لنفسه مبين يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق. 1611 - حدثني يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: لا ينال عهدي الظالمين قال: لا ينال عهدي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليا يطيعني. وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهر خبر عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله الذي هو النبوة والامامة لاهل الخير، بمعنى الاقتداء به في الدنيا، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة، من وفي لله به في الدنيا، من كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق. فهو إعلام من الله تعالى ذكره لابراهيم أن من ولده من يشرك به، ويجوز عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده. كالذي: 1612 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: ثنا عتاب بن بشر، عن خصيف، عن مجاهد في قوله: لا ينال عهدي الظالمين قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون. وأما نصب الظالمين، فلان العهد هو الذي لا ينال الظالمين. وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: لا ينال عهدي الظالمون بمعنى أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله. وإنما جاز الرفع في الظالمين والنصب، وكذلك في العهد لان كل ما نال المرء فقد ناله المرء، كما يقال: نالني خير فلان ونلت خيره، فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه. وقد بينا معنى الظلم فيما مضى فكرهنا إعادته. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) * أما قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة فإنه عطف ب إذ على قوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات. وقوله: وإذا ابتلى إبراهيم معطوف على قوله: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي واذكروا إذا ابتلى إبراهيم ربه، وإذ جعلنا البيت مثابة. والبيت الذي جعله الله مثابة للناس هو البيت الحرام.
[ 741 ]
وأما المثابة فإن أهل العربية مختلفون في معناها، والسبب الذي من أجله أنثت فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في المثابة لما كثر من يثوب إليه، كما يقال سيارة لمن يكثر ذلك ونسابة. وقال بعض نحويي الكوفة: بل المثاب والمثابة بمعنى واحد، نظيرة المقام والمقامة ذكر على قوله لانه يريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت المقامة لانه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون المثابة كالسيارة والنسابة، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في السيارة والنسابة تشبيها لها بالداعية والمثابة مفعلة من ثاب القوم إلى الموضع: إذا رجعوا إليهم فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا. فمعنى قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا. ومن المثاب قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم: مثاب لافناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الصلائح ومنه قيل: ثاب إليه عقله، إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1613 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: لا يقضون منه وطرا. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: يثوبون إليه، لا يقضون منه وطرا. 1614 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: وإذ جعلنا
[ 742 ]
البيت مثابة للناس قال: أما المثابة فهو الذي يثوبون إليه كل سنة لا يدعه الانسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه. 1615 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: لا يقضون منه وطرا، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه. 1616 - وحدثني عبد الكريم بن أبي عمير، قال: حدثني الوليد بن مسلم، قال: قال أبو عمرو، حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. 1617 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك عن عطاء في قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: يثوبون إليه من كل مكان، ولا يقضون منه وطرا. * - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله. 1618 - حدثني محمد بن عمار الاسدي، قال: ثنا سهل بن عامر، قال: ثنا مالك بن مغول، عن عطية في قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: لا يقضون منه وطرا. 1619 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهذيل، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: يحجون ويثوبون. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي الهذيل، عن سعيد بن جبير في قوله: مثابة للناس قال: يحجون، ثم يحجون، ولا يقضون منه وطرا. * - حدثني المثنى، قال: ثنا ابن بكير، قال: ثنا مسعر، عن غالب، عن سعيد بن جبير: مثابة للناس قال: يثوبون إليه. 1620 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا قال: مجمعا. 1621 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن
[ 743 ]
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: مثابة للناس قال: يثوبون إليه. 1622 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: مثابة للناس قال: يثوبون إليه. 1623 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس قال: يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه. القول في تأويل قوله تعالى: وأمنا. والامن: مصدر من قول القائل أمن يأمن أمنا. وإنما سماه الله أمنا لانه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه، وكان كما قال الله جل ثناؤه: أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم. 1624 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وأمنا قال: من أم إليه فهو آمن كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له. 1625 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما أمنا فمن دخله كان آمنا. 1626 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله: وأمنا قال: تحريمه لا يخاف فيه من دخله. ذكر من قال ذلك: 1627 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: وأمنا يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح، وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون. 1628 - حدثت عن المنجاب، قال: أخبرنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وأمنا قال: أمنا للناس. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن
[ 744 ]
مجاهد في قوله: وأمنا قال: تحريمه لا يخاف فيه من دخله. القول في تأويل قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى بكسر الخاء على وجه الامر باتخاذه مصلى وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة، وقراءة عامة قراء أهل مكة وبعض قراء أهل المدينة. وذهب إليه الذين قرءوه كذلك من الخبر الذي: 1629 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد، عن أنس ابن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، لو اتخذت المقام مصلى ؟ فأنزل الله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي، وحدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية جميعا، عن حميد، عن أنس، عن عمر، عن النبي (ص) مثله. حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا حميد، عن أنس، قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، فذكر مثله. قالوا: فإنما أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه (ص) باتخاذ مقام إبراهيم مصلى فغير جائز قراءتها وهي أمر على وجه الخبر. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى معطوف على قوله: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فكان الامر بهذه الآية وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم على قول هذا القائل لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله (ص). كما: 1630 - حدثنا الربيع بن أنس بما حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهم يصلون خلف المقام. فتأويل قائل هذا القول: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك
[ 745 ]
للناس إماما وقال: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله (ص) قبل، يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله (ص) والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين. وقرأه بعض قراء أهل المدينة والشام: واتخذوا بفتح الخاء على وجه الخبر. ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله: واتخذوا إذا قرئ كذلك على وجه الخبر، فقال بعض نحويي البصرة: تأويله إذا قرئ كذلك: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا وإذ اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله: جعلنا فكان معنى الكلام على قوله: وإ جعلنا البيت مثابة للناس واتخذوه مصلى. والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا: واتخذوا بكسر الخاء، على تأويل الامر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى للخبر الثابت عن رسول الله (ص) الذي ذكرناه آنفا، وأن عمرو بن علي: 1631 - حدثنا قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله (ص) قرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وفي مقام إبراهيم. فقال بعضهم: مقام إبراهيم: هو الحج كله. ذكر من قال ذلك: 1632 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: مقام إبراهيم قال: الحج كله مقام إبراهيم. 1633 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال: الحج كله. 1634 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان. عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الحج كله مقام إبراهيم. وقال آخرون: مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار. ذكر من قال ذلك:
[ 746 ]
1635 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رياح واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال: لاني قد جعلته إماما فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار. 1636 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال: مقامه جمع وعرفة ومنى لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة. 1637 - حدثنا عمرو بن علي، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال: مقامه عرفة. 1638 - حدثنا عمرو بن علي، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة مقام إبراهيم: اليوم أكملت لكم دينكم الآية. حدثنا عمرو قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود، عن الشعبي، مثله. وقال آخرون: مقام إبراهيم: الحرم. ذكر من قال ذلك: 1639 - حدثت عن حماد بن زيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال: الحرم كله مقام إبراهيم وقال آخرون: مقام إبراهيم: الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه، وضعف عن رفع الحجارة. ذكر من قال ذلك: 1640 - حدثنا سنان القزاز، قال: ثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: ثنا إبراهيم بن نافع، قال: سمعت كثير بن كثير يحدث عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر، فهو مقام إبراهيم. وقال آخرون: بل مقام إبراهيم، هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام. ذكر من قال ذلك:
[ 747 ]
1641 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الامة شيئا مما تكلفته الامم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه، فيها فما زالت هذه الامم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. 1642 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فهم يصلون خلف المقام. 1643 حدثني يونس، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهو الصلاة عند مقامه في الحج. والمقام: هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب، فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته، فغابت رجله أيضا فيه، فجعلها الله من شعائره، فقال: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وأولى هذه الاقوال بالصواب عندنا ما قاله القائلون إن مقام إبراهيم: هو المقام المعروف بهذا الاسم، الذي هو في المسجد الحرام لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، ولما: 1644 - حدثنا يوسف بن سليمان، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، قال: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: استلم رسول الله (ص) الركن، فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين. فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى بمقام إبراهيم الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى هو الذي وصفنا. ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله (ص)، لكان الواجب فيه من القول ما قلنا وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف دون باطنه المجهول، حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك مما يجب التسليم له.
[ 748 ]
ولا شك أن المعروف في الناس بمقام إبراهيم هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فإن أهل التأويل مختلفون في معناه، فقال بعضهم: هو المدعى. ذكر من قال ذلك: 1645 - حدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال: مصلى إبراهيم مدعى. وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده. ذكر من قال ذلك: 1646 - حدثني بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: أمروا أن يصلوا عنده. 1647 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: هو الصلاة عنده. فكأن الذين قالوا تأويل المصلى ههنا المدعى، وجهوا المصلى إلى أنه مفعل من قول القائل: صليت بمعنى دعوت. وقائلوا هذه المقالة هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله. فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مداعي تدعونني عندها، وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها، فإني قد جعلته لمن بعده من أوليائي وأهل طاعتي إماما يقتدون به وبآثاره، فاقتدوا به. وأما تأويل القائلين القول الآخر، فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده، عبادة منكم، وتكرمة مني لابراهيم. وهذا القول هو أولى بالصواب لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، عن رسول الله (ص). القول في تأويل قوله تعالى: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي. يعني تعالى ذكره بقوله: وعهدنا وأمرنا. كما: 1648 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما عهده ؟ قال: أمره. 1649 - حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: وعهدنا إلى إبراهيم قال: أمرناه.
[ 749 ]
فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. والتطهير الذي أمرهما الله به في البيت، هو تطهيره من الاصنام وعبادة الاوثان فيه ومن الشرك بالله. فإن قال قائل: وما معنى قوله: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين وهل كان أيام إبراهيم قبل بنائه البيت بيت يطهر من الشرك وعبادة الاوثان في الحرم، فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره ؟ قيل: لذلك وجهان من التأويل، قد كان لكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل، أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والريب، كما قال تعالى ذكره: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار، فكذلك قوله: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب. كما: 1650 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط عن السدي: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي يقول: ابنيا بيتي. فهذا أحد وجهيه، والوجه الآخر منهما أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه والبيت بعد بنيانه مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه على عهد نوح ومن قبله من الاوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده. كما: 1651 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: أن طهرا قال: من الاصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها. 1652 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عبيد بن عمير: أن طهرا بيتي للطائفين قال: من الاوثان والريب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، مثله. 1653 - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: من الشرك. 1654 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا أبو إسرائيل، عن أبي
[ 750 ]
حصين، عن مجاهد: طهرا بيتي للطائفين قال: من الاوثان 1655 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: طهرا بيتي للطائفين قال: من الشرك وعبادة الاوثان. 1656 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة بمثله، وزاد فيه: وقو الزور. القول في تأويل قوله تعالى: للطائفين. اختلف أهل التأويل في معنى الطائفين في هذا الموضع، فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غربة. ذكر من قال ذلك: 1657 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله: للطائفين قال: من أتاه من غربة. وقال آخرون: بل الطائفون هم الذين يطوفون به غرباء كانوا أو من أهله. ذكر من قال ذلك: 1658 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: ثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء: للطائفين قال: إذا كان طائفا بالبيت، فهو من الطائفين. وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء لان الطائف هو الذي يطوف بالشئ دون غيره، والطارئ من غربة لا يستحق اسم طائف بالبيت إن لم يطف به. القول في تأويل قوله تعالى: والعاكفين. يعني تعالى ذكره بقوله: والعاكفين والمقيمين به، والعاكف على الشئ: هو المقيم عليه، كما قال نابغة بني ذبيان: عكوفا لدى أبياتهم يثمدونهم - رمى الله في تلك الاكف الكوانع وإنما قيل للمعتكف معتكف من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.
[ 751 ]
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: والعاكفين فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة. ذكر من قال ذلك: 1659 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء، قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين. وقال بعضهم: العاكفون هم المعتكفون المجاورون. ذكر من قال ذلك: 1660 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة: طهرا بيتي للطائفين والعاكفين قال: المجاورون. وقال بعضهم: العاكفون هم أهل البلد الحرام. ذكر من قال ذلك: 1661 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا أبو حصين، عن سعيد بن جبير في قوله: والعاكفين قال: أهل البلد. 1662 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والعاكفين قال: العاكفون: أهله. وقال آخرون: العاكفون: هم المصلون. ذكر من قال ذلك: 1663 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس في قوله: طهرا بيتي للطائفين والعاكفين قال: العاكفون: المصلون. وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء، وهو أن العاكف في هذا الموضع: المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة، لان صفة العكوف ما وصفنا من الاقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم، وعلى غير ذلك من الاحوال فلما كان تعالى ذكره قد ذكر في قوله: أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود المصلين والطائفين، علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من العاكف غير حال المصلي والطائف، وأن التي عنى من أحواله هو العكوف بالبيت على سبيل الحوار فيه، وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا. القول في تأويل قوله تعالى: والركع السجود. يعني تعالى ذكره بقوله: والركع جماعة القوم الراكعين فيه له، واحدهم راكع. وكذلك السجود هم جماعة القوم الساجدين فيه له واحدهم ساجد، كما يقال رجل قاعد
[ 752 ]
ورجال قعود ورجل جالس ورجال جلوس فكذلك رجل ساجد ورجال سجود. وقيل: بل عنى بالركع السجود: المصلين. ذكر من قال ذلك: 1664 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء: والركع السجود قال: إذا كان يصلي فهو من الركع السجود. 1665 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: والركع السجود أهل الصلاة. وقد بينا فيما مضى بيان معنى الركوع والسجود، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. القول في تأويل قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) * يعني تعالى ذكره بقوله: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا: واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا، يعني بقوله: آمنا: آمنا من الجبابرة وغيرهم أن يسلطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله، كما تنال سائر البلدان، من خسف، وانتقال، وغرق، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره. كما: 1666 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن الحرم حرم بحياله إلى العرش، وذكر لنا البيت هبط مع آدم حين هبط، قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمان الطوفان حين أغرق الله قوم نوح رفعه وطهره ولم تصبه عقوبة أهل الارض، فتتبع منه إبراهيم أثرا فبناه على أساس قديم كان قبله. فإن قال لنا قائل: أو ما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الامان ؟ قيل له: لقد اختلف في ذلك، فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والارض. واعتلوا في ذلك بما: 1667 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس ابن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، قال: سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام رسول الله (ص) خطيبا فقال: يا أيها الناس إن الله
[ 753 ]
حرم مكة يوم خلق السموات والارض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرا. ألا وإنها لا تحل ء لاحد بعدي ولم تحل لي إلا هذه الساعة عصى علي أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالامس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فمن قال: إن رسول الله (ص) قد قتل بها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك. 1668 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا: ثنا جرير جميعا، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) لمكة حين افتتحها: هذه حرم حرمها الله يوم خلق السموات والارض وخلق الشمس والقمر ووضع هذين الاخشبين، لم تحل ء لاحد قبلي، ولا تحل ء لاحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار. قالوا: فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثابتة عن رسول الله (ص) التي ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط، وأن يرزق ساكنه من الثمرات، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. قالوا: وإنما سأل ربه ذلك، لانه أسكن فيه ذريته، وهو غير ذي زرع ولا ضرع، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه. قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه، وهو القائل حين حله، ونزله بأهله وولده: ربنا إني أسكنت من
[ 754 ]
ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال: عند بيتك المحرم، عند نزوله به، ولكنه حرم قبله، وحرم بعده. وقال آخرون: كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه، كما كانت مدينة رسول الله (ص) حلالا قبل تحريم رسول الله (ص) إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك ما: 1669 - حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (ص): إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يصاد صيدها ولا تقطع عضاهها 1670 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا عبد الرحيم الرازي، سمعت أشعث، عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها عضاها وصيدها، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير. 1671 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله (ص): إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها. وأما
[ 755 ]
أشبه ذلك من الاخبار التي يطول باستيعابها الكتاب. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال: رب اجعل هذا بلدا آمنا ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الاشياء دون بعض، فليس لاحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك الامان له من بعض الاشياء دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس فخبران لا تثبت بهما حجة لما في أسانيدهما من الاسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها. والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبي (ص) أنه حرمها يوم خلق السموات والارض بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات، وعن ساكنيها ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل، فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاد فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه، يستنون بها فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا، وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدي به، فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه، فصارت مكة بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها، بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليك بذلك إليه فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول الله (ص): إن الله حرم مكة لان فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به، دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاء والحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، لزم العباد فرضه دون غيره. فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين، أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي (ص) أنه قال: إن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر. وخبر جابر وأبي هريرة
[ 756 ]
ورافع بن خديج وغيرهم، أن النبي (ص) قال: اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر كما ظنه بعض الجهال. وغير جائز في أخبار رسول الله (ص) أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها، وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله (ص) مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه. وقول إبراهيم عليه السلام: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم فإنه إن يكن قال قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلائه من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك. وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد، فلا مسألة لاحد علينا في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. وهذه مسألة من إبراهيم ربه أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات دون كافريهم. وخص بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين لما أعلمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده، والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر، خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة المؤمن منهم دون الكافر، وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قليلا. وأما من في قوله: من آمن منهم بالله واليوم الآخر فإنه نصب على الترجمة، والبيان عن الاهل، كما قال تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وكما قال تعالى ذكره: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا. وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك لانه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل، فسأل أن يرزق أهله ثمرا، وأنه يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه نقل الله الطائف من فلسطين.
[ 757 ]
1672 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق بن الحجاج، قال: ثنا هشام، قال: قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم وارزق أهله من الثمرات نقل الله الطائف من فلسطين. القول في تأويل قوله تعالى: قال ومن كفر فامتعه قليلا. اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول وفي وجه قراءته، فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره، وتأويله على قولهم: قال ومن كفر فامتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك: فامتعه قليلا بتشديد التاء ورفع العين. ذكر من قال ذلك: 1673 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية، عن أبي بن كعب في قوله: ومن كفر فامتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار قال: هو قول الرب تعالى ذكره. 1674 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق لما قال إبراهيم: رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كان منهم ظالم لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر فامتعه قليلا. وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا، ثم اضطره إلى عذاب النار بتخفيف التاء وجزم العين وفتح الراء من اضطره، وفصل ثم اضطره بغير قطع ألفها، على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة. ذكر من قال ذلك: 1675 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا. 1676 - حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن ليث، عن مجاهد: ومن كفر فامتعه قليلا يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا ثم اضطره إلى عذاب النار. والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل، ما قاله أبي بن كعب وقراءته، لقيام
[ 758 ]
الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم اضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار. وأما قوله: فامتعه قليلا يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته. وإنما قلنا إن ذلك كذلك لان الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لابراهيم جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة، فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه. وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا. وقال غيره: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة، حتى أبعث محمدا (ص) فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه لما وصفنا. القول في تأويل قوله تعالى: ثم أضطره إلى عذاب النار. يعني تعالى ذكره بقوله: ثم أضطره إلى عذاب النار ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها، كما قال تعالى ذكره: يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ومعنى الاضطرار: الاكراه، يقال: اضطررت فلانا إلى هذا الامر: إذا ألجأته إليه وحملته عليه. فذلك معنى قوله: (ثم اضطرره إلى عذاب النار) أدفعه إليها، وأسوقه سحبا وجرا على وجهه. القول في تأويل قوله تعالى: (وبئس المصير). قد دللنا على أن بئس من البؤس، سكن ثانيه ونقلت حركة ثانيه إلى أوله، كما قيل للكبد كبد، وما أشب ذلك. ومعنى الكلام: وساء المصير عذاب النار، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها. وأما المصير فإنه مفعل من قول القائل: صرت مصيرا صالحا، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار. القول في تأويل قوله تعالى:
[ 759 ]
* (وإذا يرفع ابراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت سميع العليم) * يعني تعالى ذكره بقوله: وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت) واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت. والقواعد جمع قاعدة يقال للواحدة من قواعد البيت قاعدة، وللواحدة من قواعد النساء وعجائزهن قاعد، فتلغى هاء التأنيث، لانها فاعل من قول القائل: قعدت عن الحيض، ولا حظ فيه للذكورة، كما يقال: امرأة طاهر وطامث لانه لا حظ في ذلك للذكور ولو عنى به القعود الذي هو خلاف القيام لقيل قاعدة، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث. وقواعد البيت: إساسه. ثم اختلف أهل التأويل في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت أهما أحدثا ذلك أم هي قواعد كانت له قبلهما ؟ فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام، فبناه. ذكر من قال ذلك: 1677 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريح، عن عطاء قال: قال آدم: يا رب إني لا أسمع أصوات الملائكة قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الارض وابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، وطور زيتا، وطور سينا، وجبل لبنان، والجودي، وكان ربضه من حراء، فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد. 1678 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا: معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) قال: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الارض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت: ذكر من قال ذلك:
[ 760 ]
1679 - حدثني محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، معك بيتا يطاف حوله، كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده، كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الانبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله إبراهيم وأعمله مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من حراء، وثبير، ولبنان، وجبل والطور، وجبل الخمر. * - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، ثنا: إسماعيل بن علية، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: أهبط آدم، ثم ذكر نحوه. 1680 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة كان رجلاه في الارض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، ويأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى الارض، فلما فقد ما كان يسمع منهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة فكان موضع قدمه قرية وخطوة مفازة، حتى انتهى إلى مكة. وأنزل الله ياقوته من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم فبناه فذلك قول الله: (وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت). 1681 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: وضع الله البيت من آدم حين أهبط الله آدم إلى الارض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الارض فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا. فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال الله: يا آدم إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي. فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك، فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الانبياء. 1682 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة واحدة أو درة واحدة، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه وبقي اساسه، فبوأه الله لابراهيم، فبناه بعد ذلك.
[ 761 ]
وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الارض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الارض من تحتها، فلم يزل ذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه. وقالوا: على أركان أربعة في الارض السابعة. ذكر من قال ذلك: 1683 - حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال جرير بن حازم، حدثني حميد بن قيس، عن مجاهد، قال: كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السموات والارض، مثل الزبدة البيضاء، ومن تحته دحيت الارض. 1684 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريح، قال: عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحا فصفقت الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت منها فلذلك هي أم القرى. قال ابن جريح: قال عطاء: ثم وتدها بالجبال كي لا تكفأ بميد، فكان أول جبل أبو قبيس. 1685 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الارض من تحت البيت. 1686 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة، عن عطاء بن أبي رباح، قال: وجدوا بمكة حجرا مكتوبا على: (إني أنا الله ذو بكة بنيته يوم صنعت الشمس والقمر، وحففته بسبعة أملاك حفا). 1687 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سملة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت، خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسماعيل وأمه هاجر، وإسماعيل طفل صغير
[ 762 ]
يرضع، وحملوا - فيما حدثني - على البراق ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم. فخرج وخرج معه جبريل، فقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذا أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل: امضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاة سلم وسمر يربها أناس يقال لهم المعاليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن اضعها ؟ قال: نعم فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا، فقال: (رب إني أسكنت من ذرزتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إلى قوله: (لعلهم يشكرون). قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: يزعمون - والله أعلم - أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل، حين أنزلهما إبراهيم مكة قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، فأشار لهما إلى البيت، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لهما: هذا أول بيت وضع في الارض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه. فالله أعلم. 1688 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا هشام بن حسان، قال: أخرني حميد، عن مجاهد، قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الارض بألفي سنة، وأركانه في الارض السابعة. 1689 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، قال: أخبرني بشر بن عاصم، عن ابن المسيب، قال: حدثنا كعب أن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الارض بأربعين سنة، ومنه دحيت الارض. قال: وحدثنا عن علي بن أبي طالب أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة، تدله على تبوئ البيت كما تتبوأ العنكبوت بتها. قال: فرفعت عن أحجار تطيقه - أو لا تطيقه - ثلاثون رجلا. قال:
[ 763 ]
قلت يا أبا محمد، فإن الله يقول: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) قال: كان ذاك بعد. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء مما أنشأه الله من زبد الماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم حتى رفع إبراهيم قواعده وإسماعيل. ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، لان حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله (ص) بالنقل المستفيض، ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو إذ لم يكن به خبر على ما وصفناه مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس فيمثل بغيره، ويستنبط عمله من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب ما قلنا. والله تعالى أعلم. القول في تأويل قوله تعالى: (ربنا تقبل منا) يعني تعالى ذكره بذلك: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) يقولان: (ربنا تقبل منا) وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود، وهو قول جماعة من أهل التأويل، ذكر من قال ذلك: 1690 - موسى بن هارون، قال: ثنا عمروا، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم ربه، قال: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم). 1691 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريح، قال: أخبرني ابن كثير، قال: ثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) قال: هما يرفعان القواعد من البيت، ويقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) قال: إسماعيل يحمل الحجارة على رقبته والشيخ يبني. فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل قائيلن: ربنا تقبل منا. وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل.
[ 764 ]
فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإذ يقول إسماعيل: ربنا تقبل منا. فيصير حينئذ إسماعيل مرفوعا بالجملة التي بعده، ويقول حينئذ خبر له دون إبراهيم. ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها، فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. ذكر من قال ذلك: 1692 - حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين) قال: فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة، وعن أساس البيت الاول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الاساس: فذلك حين يقول: (وإذ يرفع لابراهيم مكان البيت). فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن قال إبراهيم لاسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا قال: يا أبت إني كسلان تعب قال: علي بذلك فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر، فلم يرضه، فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجرا، وجاءه جبريل بالحجر الاسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءة إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاء بهذا ؟ فقال: من هو أنشط منك. فبنياه. 1693 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن عمرو بن عبد الله بن عتبة، عن عبيد بن عمير الليثي، قال: بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت. وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسماعيل يناوله الحجارة. ذكر من قال ذلك: 1694 - حدثنا أحمد بن ثابت الرازي، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
[ 765 ]
عن أيوب، وكثير بن كثير المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جاء إبراهيم وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم. فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) حتى دور حول البيت. 1695 - حدثنا ابن بشار القزاز، قال: ثنا عبيدالله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي، قال: ثنا إبراهيم بن نافع قال: سمعت كثير بن كثير يحدث عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء - يعني إبراهيم - فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم، قال إبراهيم: يا إسماعيل إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر فهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان: (ربنا تقبل منا إنك انت السميع العليم). وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده إسماعيل يومئذ طفل صغير. ذكر من قال ذلك: 1696 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مصرف، عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه
[ 766 ]
مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم ابن على ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص فلما بنى (خرج) وخلف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم إلى من تكلنا ؟ قال: إلى الله. قالت: فانطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا. قال: فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئا، ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا، حتى فعلت ذلك سبع مرات فقالت: يا إسماعيل مت حيث لا أراك فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل، فقال لها: من أنت ؟ فقالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما ؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف. قال: ففحص الارض باصبعه فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء. فقال: دعبه فإنها رواء. 1697 - حدثنا عباده، قال: ثنا أبو الاحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت ؟ أهو أول بيت وضع في الارض ؟ فقال: لا ولكن هو أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بني، إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الارض، قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج، ولها رأسان، فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيم: لا، ابغ حجرا كما آمرك قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الاسود في مكانه فقال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر ؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك جاء به جبريل من السماء. فأتماه.
[ 767 ]
* - حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن سماك، سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه. * - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الاحوص كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي بنحوه. فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة. فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لابراهيم وإسماعيل، ويكون الكلام حينئذ: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) ويقولان: (ربنا تقبل منا). وقد كان يحتمل على هذا التأويل أن يكون المضمر من القول لاسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولابراهيم خاصة دون إسماعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لابراهيم وإسماعيل جميعا. وأما على التأويل الذي روي عن علي أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل، فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لاسماعيل خاصة. والصواب من القول عندنا في ذلك أن المضمر من القول لابراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا، وذلك أن إبراهيم وإسماعيل إن كانا هما بنياهما ورفعاها، فهو ما قلنا، وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها، لان رفعها كان بهما من أحدهما البناء من الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الاحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنما قلنا ما قلنا من ذلك لاجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه أنهما كان يقولانه، وذلك قولهما: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك إلا وهو إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان - في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله - كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه فقد دخل في معنى من رفع قواعد
[ 768 ]
البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام. فتأويل الكلام: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) يقولان: ربنا تقبل منا عملنا وطاعتنا إياك وعبادتنا لك في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه إنك أنت السميع العليم. وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) دليل واضح على أن يناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه ولا منزلا ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أرااد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك، ولذلك قالا: (ربنا تقبل منا). ولو كانا بنياه مسكنا لانفسهما لم يكن لقولهما: (تقبل منا) وجه مفهوم، لانه كانا يكونان لو كان الامر كذلك سائلين لانفسهما أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه، وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه. القول في تأويل قوله تعالى: (إنك أنت السميع العليم). وتأويل قوله: (أنك أنت السميع العليم) إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، العليم بما في ضمائر نفوسنا من الاذعان لك في الطاعة والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا. كما: 1698 - حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريح: أخربني أبو كثير، قال: ثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (تقبل منا إنك أنت السميع العليم) يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) * وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان: ربنا واجعلنا مسلمين لك يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لامرك خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الاسلام الخضوع لله بالطاعة.
[ 769 ]
وأما قوله: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك فإنهما خصا بذلك بعض الذرية لان الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله (ص) قبل مسألته هذه أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره، فخصا بالدعوة بعض ذريتهما. وقد قيل إنهما عنيا بذلك العرب. ذكر من قال ذلك: 1699 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك يعنيان العرب. وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه لان ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والمستجيبين لامره، وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لامر الله والخاضع له بالطاعة من الفريقين فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد. وأما الامة في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، من قول الله: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق. القول في تأويل قوله تعالى: وأرنا مناسكنا. اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: وأرنا مناسكنا بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لاعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة، وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل يسكن الراء من أرنا، غير أنه يشمها كسرة. واختلف قائل هذه المقالة وقراء هذه القراءة في تأويل قوله: مناسكنا فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه. ذكر من قال ذلك: 1700 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: وأرنا مناسكنا فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والافاضة من عرفات، والافاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين أو دينه. 1701 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: وأرنا مناسكنا قال: أرنا نسكنا وحجنا. 1702 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: لما
[ 770 ]
فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت أمره الله أن ينادي فقال: وأذن في الناس بالحج فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك لبيك فأجابوه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك وأتاه من أتاه. فأمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا، فصده فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز فلذلك سمي ذا المجاز. ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال: قد عرفت فسميت عرفات. فوقف إبراهيم بعرفات. حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت المزدلفة. فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره. وذلك قوله: وأرنا مناسكنا. وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة: المناسك المذابح. فكان تأويل هذه الآية على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك. ذكر من قال ذلك: 1703 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: وأرنا مناسكنا قال: ذبحنا. * - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: مذابحنا. 1704 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. 1705 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج،
[ 771 ]
قال: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: وأرنا مناسكنا قال: أرنا مذابحنا. وقال آخرون: وأرنا مناسكنا بتسكين الراء. وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا ودلنا عليها، لا أن معناها أرناها بالابصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حطائط بن يعفر أخي الاسود بن يعفر: أريني جوادا مات هزلا لانني * أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا يعني بقوله أريني: دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به رؤية العين. وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين. ذكر من قال ذلك: 1706 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: أرنا مناسكنا أخرجها لنا، علمناها. 1707 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال: فعلت أي رب فأرنا مناسكنا، أبرزها لنا، علمناها فبعث الله جبريل فحج به. والقول واحد، فمن كسر الراء جعل علامة الجزم سقوط الياء التي في قول القائل أرنيه، أرنه وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن الراء من أرنا توهم أن إعراب الحرف في الراء فسكنها في الجزم كما فعلوا ذلك في لم يكن ولم يك. وسواء كان ذلك من رؤية العين، أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب.
[ 772 ]
وأما المناسك فإنها جمع منسك، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الاعمال الصالحة ولذلك قيل لمشاعر الحج مناسكه، لانها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويترددون إليها. وأصل المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال: لفلان منسك، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر ولذلك سميت المناسك مناسك، لانها تعتاد ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالاعمال التي يتقرب بها إلى الله. وقد قيل: إن معنى النسك: عبادة الله، وأن الناسك إنما سمي ناسكا بعبادة ربه، فتأول قائل هذه المقالة قوله: وأرنا مناسكنا وعلمنا عبادتك كيف نعبدك، وأين نعبدك، وما يرضيك عنا فنفعله. وهذا القول وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على معنى المناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الحج التي ذكرنا معناها. وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لانفسهما، وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لانفسهما وذريتهما المسلمين، فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما صارا كالمخبرين عن أنفسهم بذلك. وإنما قلنا إن ذلك كذلك لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية، وتأخره بعد في الآية الاخرى. فأما الذي في أول الآية فقولهما: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. ثم جمعا أنفسهما والامة المسلمة من ذريتهما في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا: وأرنا مناسكنا. وأما التي في الآية التي بعدها: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم فجعلا المسألة لذريتهما خاصة. وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود: وأرهم مناسكهم، يعني بذلك: وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم. القول في تأويل قوله تعالى: وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. أما التوبة فأصلها الاوبة من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد إلى ربه: أوبته مما يكرهه الله منه بالندم عليه والاقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه.
[ 773 ]
فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة ؟ قيل: إنه ليس أحد من خلق الله إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه ما يجب عليه الانابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خصا به الحال التي كانا عليها من رفع قواعد البيت، لان ذلك كان أحرى الاماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدي بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما: وتب علينا وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا، الذين أعلمتنا أمرهم من ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لانفسهما، والمعني به ذريتهما، كما يقال: أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرني فلان: إذا بر ولده. وأما قوله: إنك أنت التواب الرحيم فإنه يعني به: إنك أنت العائد على عبادك بالفضل والمتفضل عليهم بالعفو والغفران، الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك. القول في تأويل قوله تعالى: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) * وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد (ص) خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا (ص) يقول: أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى. 1708 - حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول الله (ص) قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى (ص). 1709 - حدثني عمران بن بكار الكلاعي، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا أبو كريب، عن أبي مريم، عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية السلمي، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إني عند الله في أم الكتاب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه ورءويا أمي.
[ 774 ]
* - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثني أبي، قال: ثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، قالا جميعا، عن سعيد بن سويد، عن عبد الله بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية السلمي، عن النبي (ص) بنحوه. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن سعيد بن سويد، عن عبد الاعلى بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول فذكر نحوه. وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1710 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد. 1711 - حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم هو محمد (ص). 1712 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم هو محمد (ص)، فقيل له: قد استجيب ذلك، وهو في آخر الزمان. ويعني تعالى ذكره بقوله: يتلوا عليهم آياتك يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه. القول في تأويل قوله تعالى: ويعلمهم الكتاب والحكمة. ويعني بالكتاب القرآن. وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن كتابا وما تأويله. وهو قول جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1713 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ويعلمهم الكتاب: القرآن.
[ 775 ]
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي السنة. ذكر من قال ذلك: 1714 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، والحكمة: أي السنة. وقال بعضهم: الحكمة هي المعرفة بالدين والفقه فيه. ذكر من قال ذلك: 1715 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: ما الحكمة ؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له. 1716 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: والحكمة قال: الحكمة: الدين الذي لا يعرفونه إلا به (ص) يعلمهم إياها. قال: والحكمة: العقل في الدين وقرأ: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. وقال لعيسى: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة وإلانجيل. قال: وقرأ ابن زيد: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها. قال: لم ينتفع بالآيات حيث لم تكن معها حكمة. قال: والحكمة شئ يجعله الله في القلب ينور له به. والصواب من القول عندنا في الحكمة، أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول (ص) والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من الحكم الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل بمنزلة الجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، يقال منه: إن فلانا لحكيم بين الحكمة، يعني به أنه لبين الاصابة في القول والفعل. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك، وأحكامك التي تعلمه إياها. القول في تأويل قوله تعالى: ويزكيهم. قد دللنا فيما مضى تعلمه إياها قبل على أن معنى التزكية: التطهير، وأن معنى الزكاة: النماء
[ 776 ]
والزيادة. فمعنى قوله: ويزكيهم في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الاوثان وينميهم ويكثرهم بطاعة الله. كما: 1717 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يتلوا عليهم آياتك ويزكيهم قال: يعني بالزكاة، طاعة الله والاخلاص. 1718 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج: قوله: ويزكيهم قال: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه. القول في تأويل قوله تعالى: إنك أنت العزيز الحكيم. يعني تعالى ذكره بذلك: إنك يا رب أنت العزيز القوي الذي لا يعجزه شئ أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك. والحكيم: الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك. القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * يعني تعالى ذكره بقوله: ومن يرغب عن ملة إبراهيم وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم ويتركها رغبة عنها إلى غيرها. وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الاسلام لان ملة إبراهيم هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما فقال تعالى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه. كما: 1719 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم يعني الاسلام حنيفا، كذلك بعث الله نبيه محمدا (ص) بملة إبراهيم. 1720 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:
[ 777 ]
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم وابتدعوا اليهودية والنصرانية وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم الاسلام. القول في تأويل قوله تعالى: إلا من سفه نفسه. يعني تعالى ذكره بقوله: إلا من سفه نفسه إلا من سفهت نفسه، وقد بينا فيما مضى أن معنى السفه: الجهل. فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ويضرها في معادها. كما: 1721 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: إلا من سفه نفسه قال: إلا من أخطأ حظه. وإنما نصب النفس على معنى المفسر ذلك أن السفه في الاصل للنفس، فلما نقل إلى من نصبت النفس بمعنى التفسير، كما يقال: هو أوسعكم دارا، فتدخل الدار في الكلام على أن السعة فيه لا في الرجل. فكذلك النفس أدخلت، لان السفه للنفس لا ل " من " ولذلك لم يجز أن يقال سفه أخوك، وإنما جاز أن يفسر بالنفس وهي مضافة إلى معرفة لانها في تأويل نكرة. وقال بعض نحويي البصرة: إن قوله: سفه نفسه جرت مجرى سفه إذا كان الفعل غير متعد. وإنما عداه إلى نفسه ورأيه وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو سفه، إذا هو لم يتعد. فأما غبن وخسر فقد يتعدى إلى غيره، يقال: غبن خمسين، وخسر خمسين. القول في تأويل قوله تعالى: ولقد اصطفيناه في الدنيا. يعني تعال ذكره بقوله: ولقد اصطفيناه في الدنيا ولقد اصطفينا إبراهيم، والهاء التي في قوله: اصطفيناه من ذكر إبراهيم. والاصطفاء: الافتعال من الصفوة، وكذلك اصطفينا افتعلنا منه، صيرت تاؤها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد.
[ 778 ]
ويعني بقوله: اصطفيناه اخترناه واجتبيناه للخلة، ونصيره في الدنيا لمن بعده إماما. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده فهو لله مخالف، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد (ص) فهو لابراهيم مخالف وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته، وجعله للناس إماما، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الامام الذي نصبه الله لعباده. القول في تأويل قوله تعالى: وإنه في الآخرة لمن الصالحين. يعني تعالى ذكره بقوله: وإنه في الآخرة لمن الصالحين وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين. والصالح من بني آدم هو المؤدي حقوق الله عليه. فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله أنه في الدنيا له صفي، وفي الآخرة ولي، وإنه وارد موارد أوليائه الموفين بعهده. القول في تأويل قوله تعالى: * (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * يعني تعالى ذكره بقوله: إذ قال له ربه أسلم إذ قال له ربه: أخلص لي العبادة، واخضع لي بالطاعة، وقد دللنا فيما مضى على معنى الاسلام في كلام العرب، فأغنى عن إعادته. وأما معنى قوله: قال أسلمت لرب العالمين فإنه يعني تعالى ذكره: قال إبراهيم مجيبا لربه: خضعت بالطاعة، وأخلصت بالعبادة لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره. فإن قال قائل: قد علمت أن إذ وقت فما الذي وقت به، وما الذي صلة ؟ قيل: هو صلة لقوله: ولقد اصطفيناه في الدنيا. وتأويل الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا حين قال له ربه أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين. فأظهر اسم الله في قوله: إذ قال له ربه أسلم على وجه الخبر عن غائب، وقد جرى ذكره قبل على وجه الخبر عن نفسه، كما قال خفاف بن ندبة:
[ 779 ]
أقول له والرمح يأطر متنه * تأمل خفافا إنني أنا ذالكا فإن قال لنا قائل: وهل دعا الله إبراهيم إلى الاسلام ؟ قيل له: نعم، قد دعاه إليه. فإن قال: وفي أي حال دعاه إليه ؟ قيل: حين قال: يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات وألارض حنيفا وما أنا من المشركين وذلك هو الوقت الذي قال له ربه أسلم من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس. القول في تأويل قوله تعالى: * (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * يعني تعالى ذكره بقوله: ووصى بها ووصى بهذه الكلمة أعني بالكلمة قوله: أسلمت لرب العالمين وهي الاسلام الذي أمر به نبيه (ص)، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له. ويعني بقوله: ووصى بها إبراهيم بنيه عهد إليهم بذلك وأمرهم به. وأما قوله: ويعقوب فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوب بنيه. كما: 1722 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يقول: ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم. 1723 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ووصى بها إبراهيم بنييه وصاهم بالاسلام، ووصى يعقوب بمثل ذلك. وقال بعضهم: قوله: ووصى بها إبراهيم بنيه خبر منقض، وقوله: ويعقوب خبر مبتدأ، فإنه قال: ووصى بها إبراهيم بنيه بأن يقولوا: أسلمنا لرب العالمين، ووصى يعقوب بنيه أن: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. ولا معنى لقول من قال ذلك لان الذي أوصى به يعقوب بنيه نظير الذي أوصى به إبراهيم بنيه من الحث على طاعة الله والخضوع له والاسلام.
[ 780 ]
فإن قال قائل: فإن كان الامر على ما وصفت من أن معناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب أن يا بني، فما بال أن محذوفة من الكلام ؟ قيل: لان الوصية قول فحملت على معناها، وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ القول لم تحسن معه أن، وإنما كان يقال: وقال إبراهيم لبنيه ويعقوب: يا بني، فلما كانت الوصية قولا حملت على معناها دون قولها، فحذفت أن التي تحسن معها، كما قال تعالى ذكره: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وكما قال الشاعر: إني سابدي لك فيما أبدي * لي شجنان شجن بنجد وشجن لي ببلاد السند فحذفت أن إذ كان الابداء باللسان في المعنى قولا، فحمله على معناه دون لفظه. وقد قال بعض أهل العربية: إنما حذفت أن من قوله: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب باكتفاء النداء، يعني بالنداء قوله: يا بني، وزعم أن علته في ذلك أن من شأن العرب الاكتفاء بالادوات عن أن كقولهم: ناديت هل قمت ؟ وناديت أين زيد ؟ قال: وربما أدخلوها مع الادوات فقالوا: ناديت أن هل قمت ؟ وقد قرأ عهد إليهم عهدا بعد عهد، وأوصى وصية بعد وصية. القول في تأويل قوله تعالى: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين. يعني تعالى ذكره بقوله: إن الله اصطفى لكم الدين إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه واجتباه لكم. وإنما أدخل الالف واللام في الدين، لان الذين خوطبوا من ولدهما وبنيهما بذلك كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به وعهدهما إليهم فيه، ثم قالا لهم بعد أن عرفاهموه: إن الله اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه، فاتقوا الله أن تموتوا إلا وأنتم عليه. القول في تأويل قوله تعالى: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. إن قال لنا قائل: أو إلى بني آدم الموت والحياة فينهى أحدهم أن يموت إلا على حالة
[ 781 ]
دون حالة ؟ قيل له: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننت، وإنما معناه: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي فلا تفارقوا هذا الدين وهو الاسلام أيام حياتكم وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيته، فلذلك قالا لهم: فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون لانكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار، فلا تفارقوا الاسلام فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربكم ساخط عليكم فتهلكوا. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) * يعني تعالى ذكره بقوله: أم كنتم شهداء أكنتم، ولكنه استفهم ب أم إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه، كما قيل: الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه، وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه تستفهم فيه ب أم، والشهداء جمع شهيد كما الشركاء جمع شريك، والخصماء جمع خصيم. وتأويل الكلام: أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين بمحمد (ص)، الجاحدين نبوته، حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الموت، أي أنكم لم تحضروا ذلك. فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الاباطيل، وتنحلوهم اليهودية والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصوا بنيهم وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم، فلو حضرتموهم فسمعتم منهم علمتم أنهم على غير ما تنحلوهم من الاديان والملل من بعدهم. وهذه آيات نزلت تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب أنهم كانوا على ملتهم، فقال لهم في هذه الآية: أم كنتم شهداء إذ حضر
[ 782 ]
يعقوب الموت فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده. ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1724 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: أم كنتم شهداء يعني أهل الكتاب. القول في تأويل قوله تعالى: إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون. يعني تعالى ذكره بقوله: إذ قال لبنيه إذ قال يعقوب لبنيه. وإذ هذه مكررة إبدالا من إذ الاولى بمعنى: أم كنتم شهداء يعقوب إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته. ويعني بقوله: ما تعبدون من بعدي أي شئ تعبدون من بعدي، أي من بعد وفاتي. قالوا نعبد إلهك يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا، أي نخلص له العبادة ونوحد له الربوبية فلا نشرك به شيئا ولا نتخذ دونه ربا. ويعني بقوله: ونحن له مسلمون ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة. ويحتمل قوله: ونحن له مسلمون أن تكون بمعنى الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه. ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا، فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون. وأحسن هذين الوجهين في تأويل ذلك أن يكون بمعنى الحال، وأن يكون بمعنى: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق مسلمين لعبادته. وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لان إسماعيل كان أسن من إسحاق. ذكر من قال ذلك: 1725 - حدثني يونس بن عبد الاعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قال: يقال بدأ بإسماعيل لانه أكبر. وقرأ بعض المتقدمين: وإله أبيك إبراهيم ظنا منه أن إسماعيل إذ كان عما ليعقوب، فلا يجوز أن يكون فيمن ترجم به عن الآباء وداخلا في عدادهم. وذلك من قارئه كذلك قلة علم منه بمجاري كلام العرب. والعرب لا تمتنع من أن تجعل الاعمام
[ 783 ]
بمعنى الآباء، والاخوال بمعنى الامهات، فلذلك دخل إسماعيل فيمن ترجم به عن الآباء. وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ترجمة عن الآباء في موضع جر، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون. والصواب من القراءة عندنا في ذلك: وإله آبائك لاجماع القراء على تصويب ذلك وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك، ونصب قوله إلها على الحال من قوله إلهك. القول في تأويل قوله تعالى: * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) * يعني تعالى ذكره بقوله: تلك أمة قد خلت إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم. يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى دعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية فتضيفوها إليهم، فإنهم أمة ويعني بالامة في هذا الموضع الجماعة، والقرن من الناس قد خلت: مضت لسبيلها. وإنما قيل للذي قد مات فذهب: قد خلا، لتخليه من الدنيا، وانفراده بما كان من الانس بأهله وقرنائه في دنياه، وأصله من قولهم: خلا الرجل، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه وانفرد من الناس، فاستعمل ذلك في الذي يموت على ذلك الوجه. ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إن لمن نحلتموه بضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه من أنبيائي ورسلي ما كسبت. والهاء والالف في قوله: لها عائدة إن شئت على تلك، وإن شئت على الامة. ويعني بقوله: لها ما كسبت أي ما عملت من خير، ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم. ولا تؤاخذون أنتم أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل، فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون فيكسبون من خير وشر لان لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم، فإن
[ 784 ]
الدعاوى غير مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم إن كنتم عملتموها وقدمتموها. القول في تأويل قوله تعالى: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * يعني تعالى ذكره بقوله: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا وقالت اليهود لمحمد (ص) وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا. تعني بقولها تهتدوا: أي تصيبوا طريق الحق. كما: 1726 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة جميعا، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال عبد الله بن صوريا الاعور لرسول الله (ص): ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل فيهم: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. احتج الله لنبيه محمد (ص) أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه (ص) فقال: يا محمد قل للقائلين لك من اليهود والنصارى ولاصحابك: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي تجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به، فإن دينه كان الحنيفية المسلمة، وندع سائر الملل التي نختلف فيها فينكرها بعضنا ويقر بها بعضنا، فإن ذلك على اختلافه لا سبيل لنا على الاجتماع عليه كما لنا السبيل إلا الاجتماع على ملة إبراهيم. وفي نصب قوله: بل ملة إبراهيم أوجه ثلاثة: أحدها أن يوجه معنى قوله: وقالوا كونوا هودا أو نصارى إلى معنى: وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية، لانهم إذ قالوا: كونوا هودا أو نصارى إلى اليهودية والنصرانية دعوهم، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة، فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد لا نتبع اليهودية والنصرانية، ولا نتخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، ثم يحذف نتبع الثانية، ويعطف بالملة على إعراب اليهوية والنصرانية. والآخر أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى نتبع. والثالث أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة إبراهيم ثم حدف الاهل
[ 785 ]
والاصحاب، وأقيمت الملة مقامهم، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام، كما قال الشاعر: حسبت بغام راحلتي عناقا * وما هي ويب غيرك بالعناق يعني صوت عناق، فتكون الملة حينئذ منصوبة عطفا في الاعراب على اليهود والنصارى. وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الاغراء، باتباع ملة إبراهيم. وقرأ بعض القراء ذلك رفعا، فتأويله على قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيم. القول في تأويل قوله تعالى: بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. والملة: الدين. وأما الحنيف: فإنه المستقيم من كل شئ. وقد قيل: إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الاخرى إنما قيل له أحنف نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد: المفازة، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة وكما قيل للديغ: السليم، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك. فمعنى الكلام إذا: قل يا محمد بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما. فيكون الحنيف حينئذ حالا من إبراهيم. وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم: الحنيف: الحاج. وقيل: إنما سمي دين إبراهيم الاسلام الحنيفية، لانه أول إمام لزم العباد الذين كانوا في عصره والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة اتباعه في مناسك الحج، والائتمام به فيه. قالوا: فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته، فهو حنيف مسلم على دين إبراهيم. ذكر من قال ذلك: 1727 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا
[ 786 ]
القاسم بن الفضل، عن كثير أبي سهل، قال: سألت الحسن عن الحنيفية، قال: حج البيت. 1728 - حدثني محمد بن عبادة الاسدي، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله: حنيفا قال: الحنيف: الحاج. * - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: ثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية مثله. 1729 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سالم، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، قال: الحنيف: الحاج. 1730 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن التيمي، عن كثير بن زياد، قال: سألت الحسن عن الحنيفية، قال: هو حج هذا البيت قال ابن التيمي: وأخبرني جويبر، عن الضحاك بن مزاحم مثله. * - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن السدي، عن مجاهد: حنفاء قال: حجاجا. 1731 - حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: حنيفا قال: حاجا. 1732 - حدثت عن وكيع، عن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن القاسم، قال: كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون حنفاء، فأنزل الله تعالى ذكره: حنفاء لله غير مشركين به. وقال آخرون: الحنيف: المتبع، كما وصفنا قبل من قول الذين قالوا: إن معناه الاستقامة. ذكر من قال ذلك: 1733 - حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: حنفاء قال: متبعين. وقال آخرون: إنما سمي دين إبراهيم الحنيفية، لانه أول إمام سن للعباد الختان، فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختتن على سبيل اختتان إبراهيم، فهو على ما كان
[ 787 ]
عليه إبراهيم من الاسلام، فهو حنيف على ملة إبراهيم. وقال آخرون: بل ملة إبراهيم حنيفا، بل ملة إبراهيم مخلصا، فالحنيف على قولهم: المخلص دينه لله وحده. ذكر من قال ذلك: 1734 - حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: واتبع ملة إبراهيم حنيفا يقول: مخلصا. وقال آخرون: بل الحنيفية الاسلام، فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها فهو حنيف. قال أبو جعفر: الحنيف عندي هو الاستقامة على دين إبراهيم واتباعه على ملته. وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين فكذلك القول في الختان لان الحنيفية لو كانت هي الختان لوجب أن يكون اليهود حنفاء، وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما. فقد صح إذا أن الحنيفية ليست الختان وحده، ولا حج البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا من الاستقامة على ملة إبراهيم واتباعه عليها والائتمام به فيها. فإن قال قائل: فكيف أضيف الحنيفية إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة دون سائر الانبياء قبله وأتباعهم ؟ قيل: إن كل من كان قبل إبراهيم من الانبياء كان حنيفا متبعا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدا منهم إماما لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إماما فيما بينه من مناك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الاسلام، تعبدا به أبدا إلى قيام الساعة، وجعل ما سن من ذلك علما مميزا بين مؤمني عباده وكفارهم والمطيع منهم له والعاصي، فسمي الحنيف من الناس حنيفا باتباعه ملته واستقامته على هديه ومنهاجه، وسمي الضال عن ملته بسائر أسماء الملل، فقيل: يهودي ونصراني ومجوسي، وغير ذلك من صنوف الملل. وأما قوله: وما كان من المشركين يقول: إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الاوثان
[ 788 ]
والاصنام، ولا كان من اليهود، ولا من النصارى، بل كان حنيفا مسلما. القول في تأويل قوله تعالى: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) * يعني تعالى ذكره بذلك: قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا: آمنا، أي صدقنا بالله. وقد دللنا فيما مضى أن معنى الايمان التصديق بما أغنى عن إعادته. وما أنزل إلينا يقول أيضا: صدقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبينا محمد (ص). فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم إذ كانوا متبعيه ومأمورين منهيين به، فكان وإن كان تنزيلا إلى رسول الله (ص) بمعنى التنزيل إليهم للذي لهم فيه من المعاني التي وصفت. ويعني بقوله: وما أنزل إلى إبراهيم صدقنا أيضا وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط، وهم الانبياء من ولد يعقوب. وقوله: وما أوتي موسى وعيسى يعني: وآمنا أيضا بالتوارة التي آتاها الله موسى، وبالانجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب التي آتى النبيين كلهم، وأقررنا وصدقنا أن ذلك كله حق وهدى ونور من عند الله. وأن جميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى يصدق بعضهم بعضا على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله والعمل بطاعته، لا نفرق بين أحد منهم يقول: لا نؤمن ببعض الانبياء ونكفر ببعض، ونتبرأ من بعض، ونتولى بعضا، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرت بغيرهما من الانبياء، وكما تبرأت النصارى من محمد (ص) وأقرت بغيره من الانبياء بل نشهد لجميعهم أنهم كانوا رسل الله وأنبياءه، بعثوا بالحق والهدى. وأما قوله: ونحن له مسلمون فإنه يعني تعالى ذكره: ونحن له خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية. فذكر أن نبي الله (ص) قال ذلك لليهود، فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به. كما:
[ 789 ]
1735 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله (ص) نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وعازر وخالد وزيد وأزار بن أبي أزار وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال: أؤمن بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط، وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به. فأنزل الله فيهم: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون. * - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله (ص)، فذكر نحوه، إلا أنه قال: ونافع بن أبي نافع، مكان رافع بن أبي رافع. وقال قتادة: أنزلت هذه الآية أمرا من الله تعالى ذكره للمؤمنين بتصديق رسله كلهم. 1736 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إلى قوله: ونحن له مسلمون أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم. وأما الاسباط الذين ذكرهم فهم اثنا عشر رجلا من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا أسباطا. كما: 1737 - حدثنا بشر بن معاذ قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: الاسباط: يوسف وإخوته بنو يعقوب، ولد اثني عشر رجلا، فولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا أسباطا. 1738 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: أما الاسباط فهم بنو يعقوب: يوسف، وبنيامين، وروبيل، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وقهاث.
[ 790 ]
1739 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الاسباط: يوسف وإخوته بنو يعقوب اثنا عشر رجلا، فولد لكل رجل منهم أمة من الناس، فسموا الاسباط. 1740 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: نكح يعقوب بن إسحاق وهو إسرائيل ابنة خاله ليا ابنة ليان بن توبيل بن إلياس، فولدت له روبيل بن يعقوب، وكان أكبر ولده، وشمعون بن يعقوب، ولاوي بن يعقوب، ويهوذا بن يعقوب، وريالون بن يعقوب، ويشجر بن يعقوب ودينة بنت يعقوب. ثم توفيت ليا بنت ليان، فخلف يعقوب على أختها راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس، فولدت له يوسف بن يعقوب وبنيامين، وهو بالعربية أسد، وولد له من سريتين له اسم إحداهما زلفة، واسم الاخرى بلهية أربعة نفر: دان بن يعقوب، ونفثالي بن يعقوب، وجاد بن يعقوب، وإشرب بن يعقوب. فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا، نشر الله منه اثني عشر سبطا لا يحصى عددهم ولا يعلم أنسابهم إلا الله، يقول الله تعالى: وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما. القول في تأويل قوله تعالى: * (فإن آمنوا بمثل مآ آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) * يعني تعالى ذكره بقوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن صدق اليهود والنصارى بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك مثل ما صدقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم، فقد وفقوا ورشدوا ولزموا طريق الحق واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك. فدل تعالى ذكره بهذه الآية على أنه لم يقبل من أحد عملا إلا بالايمان بهذه المعاني التي عدها قبلها. كما: 1741 - حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ونحو هذا، قال:
[ 791 ]
أخبر الله سبحانه أن الايمان هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرم الجنة إلا على من تركه. وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءة جاءت مصاحف المسلمين بخلافها، وأجمعت قراء القرآن على تركها. وذلك ما: 1742 - حدثنا به محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: قال ابن عباس: لا تقولوا: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا فإنه ليس لله مثل، ولكن قولوا: فإن آمنوا بالذين آمنتم به فقد اهتدوا، أو قال: فإن آمنوا بما آمنتم به. فكأن ابن عباس في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه يوجه تأويل قراءة من قرأ: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به: فإن آمنوا بمثل الله، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه شرك لا شك بالله العظيم، لانه لا مثل لله تعالى ذكره، فنؤمن أو نكفر به. ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وجه إليه تأويله، وإنما معناه ما وصفنا، وهو: فإن صدقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به من جميع ما عددنا عليكم من كتب الله وأنبيائه، فقد اهتدوا. فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء، كقول القائل: مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به، يعني بذلك مر عمرو بأخيك مثل مروري به، والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المروريين، لا بين عمرو وبين المتكلم فكذلك قوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به إنما وقع التمثيل بين الايمانين لا بين المؤمن به. القول في تأويل قوله تعالى: وإن تولوا فإنما هم في شقاق. يعني تعالى ذكر بقوله: وإن تولوا وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمد (ص) وأصحابه كونوا هودا أو نصارى، فأعرضوا، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الانبياء، وابتعثت به الرسل، وفرقوا بين رسل الله، وبين الله ورسله، فصدقوا ببعض وكفروا ببعض، فاعلموا أيها المؤمنون أنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله ولكم. كما: 1743 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن قتادة: فإنما هم في شقاق أي في فراق. 1744 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: فإنما هم في شقاق يعني فراق.
[ 792 ]
1745 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وإن تولوا فإنما هم في شقاق قال: الشقاق: الفراق والمحاربة، إذا شاق فقد حارب، وإذا حارب فقد شاق، وهما واحد في كلام العرب. وقرأ: ومن يشاقق الرسول. وأصل الشقاق عندنا والله أعلم مأخوذ من قول القائل: شق عليه هذا الامر إذا كر به وآذاه، ثم قيل: شاق فلان فلانا بمعنى: نال كل واحد منهما من صاحبه ما كر به وآذاه وأثقلته مساءته، ومنه قول الله تعالى ذكره: وإن خفتم شقاق بينهما بمعنى فراق بينهما. القول في تأويل قوله تعالى: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. يعني تعالى ذكره بقوله: فسيكفيكهم الله فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء الذين قالوا لك لاصحابك: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا من اليهود والنصارى، إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أنزل إليك، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الانبياء غيرهم، وفرقوا بين الله ورسله، إما بقتل السيف، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات، فإن الله هو السميع لما يقولون لك بألسنتهم ويبدون لك بأفواههم من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضالة، العليم بما يبطنون لك ولاصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحسد والبغضاء. ففعل الله بهم ذلك عاجلا وأنجز وعده، فكفي نبيه (ص) بتسليطه إياه عليهم حتى قتل بعضهم وأجلى بعضا وأذل بعضا وأخزاه بالجزية والصغار. القول في تأويل قوله تعالى: * (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) * يعني تعالى ذكره بالصبغة: صبغة الاسلام، وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصر أطفالهم جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس بمنزلة غسل الجنابة لاهل الاسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية، فقال الله تعالى ذكره إذ قالوا لنبيه محمد (ص) وأصحابه المؤمنين به: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا: قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيم صبغة الله التي هي أحسن الصبغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشرك بالله والضلال عن محجة هداه. ونصب الصبغة من قرأها نصبا على الرد على الملة، وكذلك رفع الصبغة من رفع الملة على ردها عليها. وقد يجوز رفعها على غير
[ 793 ]
هذا الوجه، وذلك على الابتداء، بمعنى: هي صبغة الله. وقد يجوز نصبها على غير وجه الرد على الملة، ولكن على قوله: قولوا آمنا بالله إلى قوله: ونحن له مسلمون صبغة الله، بمعنى: آمنا هذا الايمان، فيكون الايمان حينئذ هو صبغة الله. وبمثل الذي قلنا في تأويل الصبغة قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: 1746 - حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة إن اليهود تصبغ أبناءها يهود، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة الله الاسلام، فلا صبغة أحسن من الاسلام ولا أطهر، وهو دين الله بعث به نوحا والانبياء بعده. 1747 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال عطاء: صبغة الله صبغت اليهود أبناءهم خالفوا الفطرة. واختلفوا أهل التأويل في تأويل قوله صبغة الله فقال بعضهم: دين الله. ذكر من قال ذلك: 1748 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: صبغة الله قال: دين الله. 1749 - حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: صبغة الله قال: دين الله. ومن أحسن من الله صبغة: ومن أحسن من الله دينا. * - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. 1750 - حدثنا أحمد بن إسحاق الاهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجاهد، مثله. * - حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. 1751 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا فصيل بن مرزوق، عن عطية قوله: صبغة الله قال: دين الله.
[ 794 ]
1752 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة يقول: دين الله، ومن أحسن من الله دينا. 1753 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس: صبغة الله قال: دين الله. 1754 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: صبغة الله قال: دين الله. * - حدثني ابن البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت ابن زيد عن قول الله: صبغة الله فذكر مثله. وقال آخرون: صبغة الله فطرة الله. ذكر من قال ذلك: 1755 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: صبغة الله قال: فطرة الله التي فطر الناس عليها. * - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا محمد بن حرب، قال: ثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن مجاهد: ومن أحسن من الله صبغة قال: الصبغة: الفطرة. * - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: صبغة الله الاسلام، فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال ابن جريج: قال لي عبد الله بن كثير صبغة الله قال: دين الله ومن أحسن من الله دينا. قال: هي فطر الله. ومن قال هذا القول، فوجه الصبغة إلى الفطرة، فمعناه: بل نتبع فطرة الله وملته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره: فاطر السموات والارض بمعنى خالق السموات والارض. القول في تأويل قوله تعالى: ونحن له عابدون. وقوله تعالى ذكره: ونحن له عابدون أمر من الله تعالى ذكره نبيه (ص) أن يقوله لليهود والنصارى الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه: كونوا هودا أو نصارى فقال لنبيه محمد (ص): قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، صبغة الله، ونحن له عابدون. يعني ملة
[ 795 ]
الخاضعين لله المستكينين له في اتباعنا ملة إبراهيم ودينونتنا له بذلك، غير مستكبرين في اتباع أمره والاقرار برسالته رسله، كما استكبرت اليهود والنصارى، فكفروا بمحمد (ص) استكبارا وبغيا وحسدا. القول في تأويل قوله تعالى: * (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنآ أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون) * يعني تعالى ذكره بقوله: قل أتحاجوننا في الله قل يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولاصحابك كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، وزعموا أن دينهم خير من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم لانه كان قبل كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منك: أتحاجوننا في الله، وهو ربنا وربكم، بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقاب، والجزاء على الاعمال الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أولى منا من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربكم وربنا واحد، وأن لكل فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الاعمال وسيئها، ويجازي فيثاب أو يعاقب لا على الانساب وقدم الدين والكتاب. ويعني بقوله: قل أتحاجوننا قل أتخاصموننا وتجادلوننا. كما: 1756 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قل أتحاجوننا في الله قل أتخاصموننا. 1757 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قل أتحاجوننا أتخاصموننا. 1758 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أتحاجوننا أتجادلوننا. فأما قوله: ونحن له مخلصون فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادة والطاعة لا نشرك به شيئا، ولا نعبد غيره أحدا، كما عبد أهل الاوثان معه الاوثان، وأصحاب العجل معه العجل. وهذا من الله تعالى ذكره توبيخ لليهود واحتجاج لاهل الايمان، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد (ص): قولوا أيها المؤمنون لليهود والنصارى الذين قالوا
[ 796 ]
لكم: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا. أتحاجوننا في الله يعني بقوله: في الله في دين الله الذي أمرنا أن ندينه به، وربنا وربكم واحد عدل لا يجوز، وإنما يجازي العباد على ما اكتسبوا. وتزعمون أنكم أولى بالله منا لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحن مخلصون له العبادة لم نشرك به شيئا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجل وبعضكم المسيح. فأنى تكونوا خيرا منا، وأولى بالله منا. القول في تأويل قوله تعالى: * (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) * قال أبو جعفر: في قراءة ذلك وجهان أحدهما: أم تقولون بالتاء، فمن قرأ كذلك فتأويله: قل يا محمد للقائلين لك من اليهود والنصارى كونوا هودا أو نصارى تهتدوا: أتجادلوننا في الله أم تقولون إن إبراهيم ؟ فيكون ذلك معطوفا على قوله: أتحاجوننا في الله. والوجه الآخر منهما أم يقولون بالياء. ومن قرأ ذلك كذلك وجه قوله: أم يقولون إلى أنه استفهام مستأنف، كقوله: أم يقولون افتراه وكما يقال: إنها لابل أم شاء. وإنما جعله استفهاما مستأنفا لمجئ خبر مستأنف، كما يقال: أتقوم أم يقوم أخوك ؟ فيصير قوله: أم يقوم أخوك خبرا مستأنفا لجملة ليست من الاول واستفهاما مبتدأ. ولو كان نسقا على الاستفهام الاول لكان خبرا عن الاول، فقيل: أتقوم أم تقعد. وقد زعم بعض أهل العربية أن ذلك إذا قرئ كذلك بالياء، فإن كان الذي بعد أم جملة تامة فهو عطف على الاستفهام الاول لان معنى الكلام: قيل أي هذين الامرين كائن، هذا أم هذا ؟. والصواب من القراءة عندنا في ذلك: أم تقولون بالتاء دون الياء عطفا على قوله: قل أتحاجوننا بمعنى: أي هذين الامرين تفعلون ؟ أتجادلوننا في دين الله، فتزعمون أنكم أولى منا، وأهدى منا سبيلا، وأمرنا وأمركم ما وصفنا على ما قد بيناه أيضا، أم تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن سمى الله كانوا هودا أو نصارى على
[ 797 ]
ملتكم، فيصح للناس بهتكم وكذبكم لان اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه، وغير جائزة قراءة ذلك بالياء لشذوذها عن قراءة القراء. وهذه الآية أيضا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه (ص) على اليهود والنصارى الذين ذكر الله قصصهم. يقول الله لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: أتحاجوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضل من ديننا، وأنكم على هدى ونحن على ضلالة ببرهان من الله تعالى ذكره فتدعوننا إلى دينكم ؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى على دينكم ؟ فهاتوا على دعواكم ما ادعيتم من ذلك برهانا فنصدقكم فإن الله قد جعلهم أئمة يقتدى بهم. ثم قال تعالى ذكره لنبيه (ص): قل لهم يا محمد إن ادعوا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الاديان أم الله ؟ القول في تأويل قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) *. يعني: فإن زعمت يا محمد اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولاصحابك كونوا هودا أو نصارى، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى، فمن أظلم منهم ؟ يقول: وأي امرئ أظلم منهم وقد كتموا شهادة عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا مسلمين، فكتموا ذلك ونحلوهم اليهودية والنصرانية. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك: 1759 - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله قال: في قول يهود لابراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى. فيقول الله: لا تكتموا مني شهادة إن كانت عندكم فيهم. وقد علم أنهم كاذبون. * - حدثني المثنى قال: أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله في قول اليهود لابراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى. فقال الله لهم: لا تكتموا مني الشهادة فيهم إن كانت عندكم فيهم. وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين. 1760 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني إسحاق، عن أبي
[ 798 ]
الاشهب، عن الحسن أنه تلا هذه الآية: أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل إلى قوله: قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادة أن أنبياء برآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام، فبم استحلوها ؟. 1761 - حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله أهل الكتاب، كتموا الاسلام وهم يعلمون أنه دين الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل: أنهم لم يكونوا يهود ولا نصارى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان. وأنه عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارى إن ادعوا أن إبراهيم ومن سمي معه في هذه الآية كانوا هودا أو نصارى، تبين لاهل الشرك الذين هم نصراؤهم كذبهم وادعاءهم على أنبياء الله الباطل لان اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم، وإن هم نفوا عنهم اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين، فإنا وأنتم مقرون جميعا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون فيما خالف الدين الذي كانوا عليه. وقال آخرون: بل عنى تعالى ذكره بقوله: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله اليهود في كتمانهم أمر محمد (ص) ونبوته، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم. ذكر من قال ذلك: 1762 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى أولئك أهل الكتاب كتموا الاسلام وهم يعلمون أنه دين الله، واتخذوا اليهودية والنصرانية، وكتموا محمدا (ص) وهم يعلمون أنه رسول الله (ص)، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. 1763 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله قال: الشهادة النبي (ص) مكتوب عندهم، وهو الذي كتموا. 1764 - حدثني المثنى، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو حديث بشر بن معاذ عن يزيد.
[ 799 ]
1765 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله قال: لهم يهود يسألون عن النبي (ص) وعن صفته في كتاب الله عندهم، فيكتمون الصفة. وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك لان قوله تعالى ذكره: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله في أثر قصة من سمى الله من أنبيائه، وأمام قصته لهم. فأولى بالذي هو بين ذلك أن يكون من قصصهم دون غيره. فإن قال قائل: وأية شهادة عند اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط ؟ قيل: الشهادة التي عندهم من الله في أمرهم، ما أنزل الله إليهم في التوراة والانجيل، وأمرهم فيها بالاستنان بسنتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حنفاء مسلمين. وهي الشهادة التي عندهم من الله التي كتموها حين دعاهم نبي الله (ص) إلى الاسلام، فقالوا له: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا له ولاصحابه: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا. فأنزل الله فيهم هذه الآيات في تكذيبهم وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطل والزور. القول في تأويل قوله تعالى: * (وما الله بغافل عما تعملون) *. يعني تعالى ذكره بذلك: وقل لهؤلاء اليهود والنصار الذين يحاجونك يا محمد: وما الله بغافل عما تعملون من كتمانكم الحق فيما ألزمكم في كتابه بيانه للناس، من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط في أمر الاسلام، وأنهم كانوا مسلمين، وأن الحنيفية المسلمة دين الله الذي على جميع الخلق الدينونة به دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل. ولا هو ساه عن عقابكم على فعلكم ذلك، بل هو محص عليكم حتى يجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهل في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلا في الدنيا بقتل بعضهم وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مجازيهم في الآخرة العذاب المهين. القول في تأويل قوله تعالى: * (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) *
[ 800 ]
يعني تعالى ذكره بقوله: تلك أمة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط. كما: 1766 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله تعالى: تلك أمة قد خلت يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط. 1766 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله تعالى: تلك أمة قد خلت يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط. 1767 - حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله. وقد بينا فيما مضى أن الامة: الجماعة. فمعنى الآية إذا: قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك في الله من اليهود والنصارى إن كتموا ما عندهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سمينا معه، وأنهم كانوا مسلمين، وزعموا أنهم كانوا هودا أو نصارى فكذبوا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط أمة قد خلت أي مضت لسبيلها، فصارت إلى ربها، وخلت بأعمالها وآمالها، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شر لا ينفعها غير صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيئها. فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك، فإنكم إن كان هؤلاء هم الذين بهم تفتخرون وتزعمون أن بهم ترجون النجاة من عذاب ربكم مع سيئاتكم، وعظيم خطيئاتكم، لا ينفعهم عند الله غير ما قدموا من صالح الاعمال، ولا يضرهم غير سيئها فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الاعمال، ولا يضركم غير سيئها. فاحذروا على أنفسكم وبادروا خروجها بالتوبة والانابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفرية على الله وعلى أنبيائه ورسله، ودعوا الاتكال على فضائل الآباء والاجداد، فإنما لكم ما كسبتم، وعليكم ما اكتسبتم، ولا تسألون عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط يعملون من الاعمال، لان كل نفس قدمت على الله يوم القيامة، فإنما تسأل عما كسبت وأسلفت. دون ما أسلف غيرها. تم الجزء الاول ويليه الجزء الثاني، وأوله: سيقول السفهاء انتهى والحمد لله