تفسير القرطبي
القرطبي ج 20

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء العشرون أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة " الطارق " مكية، وهي سبع عشرة آية (قوله تعالى: والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3) قوله تعالى (والسماء والطارق) قسمان: " السماء " قسم، و " الطارق " قسم. والطارق: النجم. وقد بينه الله تعالى بقوله: " وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب ". واختلف فيه، فقيل: هو زحل: الكوكب الذي في السماء السابعة، ذكره محمد بن الحسن (1) في تفسيره، وذكر له أخبارا، الله أعلم بصحتها. وقال ابن زيد: إنه الثريا. وعنه أيضا أنه زحل، وقاله الفراء. ابن عباس: هو الجدي. وعنه أيضا وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - والفراء: " النجم الثاقب ": نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط فكان معها. ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. وحكى الفراء: ثقب الطائر: إذا ارتفع وعلا. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا مع أبي طالب، فانحط نجم، فامتلات الارض نورا، ففزع أبو طالب، وقال: أي شئ هذا ؟ فقال: " هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله " فعجب أبو طالب، ونزل: " والسماء والطارق ". وروي عن ابن عباس أيضا " والسماء والطارق " [ قال: السماء (2) ] وما يطرق فيها. وعن (1) لعل المراد به: أبو بكر العطار: محمد بن الحسن بن مقسم. (2) زيادة عن الطبري (*)
[ 2 ]
ابن عباس وعطاء: " الثاقب ": الذي ترمى به الشياطين. قتادة: هو عام في سائر النجوم، لان طلوعها بليل، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. قال: ومثلك حبلي قد طرقت ومرضعا * فألهيتها عن ذي تمائم مغيل (1) وقال: ألم ترياني كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا وإن لم تطيب فالطارق: النجم، اسم جنس، سمي بذلك لانه يطرق ليلا، ومنه الحديث: [ نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا، كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة ] (2). والعرب تسمى كل قاصد في الليل طارقا. يقال: طرق فلان إذا جاء بليل. وقد طرق يطرق طروقا، فهو طارق. ولابن الرومي: (3) يا راقد الليل مسرورا بأوله * إن الحوادث قد يطرقن أسحارا لا تفرحن بليل طاب أوله * فرب آخر ليل أجج النارا وفي الصحاح: والطارق: النجم الذي يقال له كوكب الصبح. ومنه قول هند: (4) نحن بنات طارق * نمشي على النمارق أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضئ. الماوردي: وأصل الطرق: الدق، ومنه سميت المطرقة، فسمى قاصد الليل طارقا، لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم: إنه قد يكون نهارا. والعرب تقول، أتيتك اليوم طرقتين: أي مرتين. ومنه قوله صلى الله عليه (1) البيت لامرئ القيس. والتمائم: التعاويذ التي تعلق في عنق الصبي. وذو التمائم: هو الصبي. والمغيل: الذي تؤتى أمه وهي ترضعه. ويروي: (محول) بدل (مغيل) وهو الذي أتى عليه الحول. (2) الاستحداد: حلق العانة بالحديد. والمغيبة: التي غاب عنها زوجها. والشعثة: التي تلبد شعرها. (3) لم نعثر على هذين البيتين في ديوان ابن الرومي. وقد أورد الجاحظ البيت الاول في كتابه (الحيوان ج 6 ص 508 طبع مطبعة الحلبي) غير منسوب. ولم يعرف أن الجاحظ يستشهد بشعر ابن الرومي. وقد توفى الجاحظ وكانت سن ابن الرومي 34 على أن هذا الشعر ليس من روح ابن الرومي. وقد أورد أيضا الغزالي في (الاحياء ج 3 ص 180 طبع الحلبي) البيت الاول ضمن ستة أبيات من وزنه وقافيته. (4) هي هند بنت بياضة بن رباح بن طارق الايادي، قالت هذا الرجز يوم أحد تحض على الحرب، والزجر بأكله في (اللسان: طرق). (*)
[ 3 ]
وسلم: [ أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ]. وقال جرير في الطروق: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * حين الزيارة فارجعي بسلام ثم بين فقال: (وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب) والثاقب: المضئ. ومنه " شهاب ثاقب " (1). يقال ثقب يثقب ثقوبا وثقابة: إذا أضاء. وثقوبه: ضوءه. والعرب تقول: أثقب نارك، أي أضئها. قال: أذاع به في الناس حتى كأنه * بعلياء نار أوقدت بثقوب الثقوب: ما تشعل به النار من دقاق العيدان. وقال مجاهد: الثاقب: المتوهج. القشيري: والمعظم على أن الطارق والثاقب اسم جنس أريد به العموم (2)، كما ذكرنا عن مجاهد. (وما أدراك ما الطارق) تفخيما لشأن هذا المقسم به. وقال سفيان: كل ما في القرآن " وما أدراك " ؟ فقد أخبره به. وكل شئ قال فيه " وما يدريك ": لم يخبره به. قال قتادة: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك. وعنه أيضا قال: قرينه يحفظ عليه عمله: من خير أو شر. وهذا هو جواب القسم. وقيل: الجواب " إنه على رجعه لقادر " في قول الترمذي: محمد بن علي. و " إن ": مخففة من الثقيلة، و " ما ": مؤكدة، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وقيل: المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ: يحفظها من الآفات، حتى يسلمها إلى القدر. قال الفراء: الحافظ من الله، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير، وقاله الكلبي. وقال أبو أمامة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه. من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ]. وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة " لما " بتشديد الميم، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة (1) آية 10 سورة الصافات. (2) أي لم يرد به نجم معين، كالثريا أو زحل، كما قال بعض المفسرين. (*)
[ 4 ]
هذيل: يقول قائلهم: نشدتك لما قمت. الباقون بالتخفيف، على أنها زائدة مؤكدة، كما ذكرنا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " (1) [ الرعد: 11 ]، على ما تقدم. وقيل: الحافظ هو الله سبحانه، فلو لا حفظه لها لم تبق. وقيل: الحافظ عليه عقله يرشده إلى مصالحه، ويكفه عن مضاره. قلت: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو الله عزوجل، قال الله عزوجل: " فالله خير حافظا " (2) [ يوسف: 65 ]، وقال: " قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن " (3) [ الانبياء: 52 ]. وما كان مثله. قوله تعالى: فلينظر الانسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) إنه على رجعه لقادر (8) قوله تعالى: (فلينظر الانسان) أي أبن أدم " مم خلق " وجه الاتصال بما قبله توصية الانسان بالنظر في أول أمره وسنته الاولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الاعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. و " مم خلق " ؟ أستفهام، أي من أي شئ خلق ؟ ثم قال: (خلق) وهو جواب الاستفهام " من ماء دافق " أي من المني. والدفق: صب الماء، دفقت الماء أدفقه دفقا: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق، كما قالوا: سر كاتم: أي مكتوم، لانه من قولك: دفق الماء، على ما لم يسم فاعله. ولا يقال: دفق الماء (4). ويقال: دفق الله روحه: إذا دعي عليه بالموت. قال الفراء والاخفش: " من ماء دافق " أي مصبوب في الرحم، الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل، أي ذو فرس، ودرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدة قوته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة، لان الانسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: " دافق " لزج. (يخرج) (1) راجع ج 9 ص 291 (2) آية 65 سورة يوسف. (3) آية 52 سورة الانبياء. (4) بل يقال ذلك، ونقله صاحب اللسان عن الليث. وانظره أيضا في المصباح المنير للفيومي. (*)
[ 5 ]
أي هذا الماء (من بين الصلب) أي الظهر. وفيه لغات أربع: (1) صلب، وصلب - وقرئ بهما - وصلب (بفتح اللام)، وصالب (على وزن قالب)، ومنه قول العباس: (2) * تنقل من صالب إلى رحم * (والترائب): أي الصدر، الواحدة: تريبة، وهي موضع القلادة من الصدر. قال: مهفهفة بيضاء غير مفاضة * ترائبها مصقولة كالسجنجل (3) والصلب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها، وقال عكرمة. وروي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين، وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هو الجيد. مجاهد: هو ما بين المنكبين والصدر وعنه: الصدر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المدني: الترائب عصارة القلب، ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر (4). وقال دريد بن الصمة: فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم * وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب وقال آخر: وبدت كأن ترائبا من نحرها * جمر الغضى في ساعد تتوقد وقال آخر: والزعفران على ترائبها * شرق به اللبات والنحر (5) (1) بل هي ثلاث فقط، أما صلب بضمتين، فضمة العين إتباع للفاء، وليست لغة ثابتة (انظر تاج العروس: صلب). (2) هو ابن عبد المطلب، يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وتمام البيت: * إذا مضى عالم بدا طبق * (3) البيت من معلقة امرئ القيس. والمهفهفة: الخفيفة اللحم: التي ليست برهلة ولا ضخمة البطن. والمفاضة: المسترخية البطن. والسجنجل: المرآة. وقيل: سبيكة الفضة، أو الزعفران، أو ماء الذهب. (4) في بعض نسخ الاصل: (أنها عظام النهد والصدر). (5) البيت للخبل. وشرق الجسد بالطيب امتلا فضاق. واللبات (جمع لبة): موضع القلادة. (*)
[ 6 ]
وعن عكرمة: الترائب: الصدر، ثم أنشد: * نظام در على ترائبها وقال ذو الرمة: * ضرجن البرود عن ترائب حرة (1) أي شققن. ويروي " ضرحن " بالحاء، أي ألقين. وفي الصحاح: والتربية: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر، ما بين الترقوة والثندوة. قال الشاعر: * أشرف ثدياها على التريب * (2) وقال المثقب العبدي: ومن ذهب يسن (3) على تريب * كلون العاج ليس بذي غضون (4) [ عن غير الجوهري: الثندوة للرجل: بمنزلة الثدي للمرأة. وقال الاصمعي: مغرز الثدي. وقال ابن السكيت: هي اللحم الذي حول الثدي، إذا ضممت أولها همزت، وإذا فتحت لم تهمز ] (5). وفي التفسير: يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدم، وقاله الاعمش. وقد تقدم مرفوعا في أول سورة [ آل عمران ]. (6) والحمد لله - وفي (الحجرات) " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " [ الحجرات: 31 ] وقد تقدم (7). وقيل: إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يجتمع في الانثيين. وهذا لا يعارض قوله: " من بين الصلب "، لانه (1) تمام البيت: * وعن أعين قتلتنا كل مقتل * (2) القائل: هو الاغلب العجلي. وعجز البيت: * لم يعدوا التفليك في النتوب * وتفلك ثدى الجارية: استدار. والنتوب: النهود، وهو ارتفاعه. (3) كذا في بعض النسخ والطبري. وفي بعضها: " يسر " بالراء. وفي روح المعاني: (يبين). وفي اللسان وشعراء النصرانية (يلوح). (4) في اللسان مادة (ترب): "... ليس له غضون ". والبيت من قصيدة مكسورة القافية، مطلعها: أفاطم قبل بينك متعيني * ومنعك ما سألت كأن تبيني (5) ما بين المربعين ساقط من بعض نسخ الاصل. (6) راجع ج 4 ص 7 (7) راجع ج 16 ص 343 (*)
[ 7 ]
إن نزل من الدماغ، فإنما يمر بين الصلب والترائب. وقال قتادة: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب، وعليه فيكون معنى من بين الصلب: من الصلب. وقال الحسن: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا (1). وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضا المكثر من الجماع يجد وجعا في ظهره وصلبه، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء. وروى إسماعيل عن أهل مكة " يخرج من بين الصلب " بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي وقال: من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في " يخرج " للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للانسان. وقرئ " الصلب "، بفتح الصاد واللام. وفيه أربع لغات (2): صلب وصلب وصلب وصالب. قال العجاج: * في صلب مثل العنان المؤدم * وفي مدح النبي صلى الله عليه وسلم: * تنقل من صالب إلى رحم * (3) الابيات مشهورة معروفة. " إنه " أي إن الله جل ثناؤه " على رجعه " أي على رد الماء في الاحليل، " لقادر " كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضا أن المعنى: إنه على رد الماء في الصلب، وقال عكرمة. وعن الضحاك أيضا أن المعنى: إنه على رد الانسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضا أن المعنى: إنه على رد الانسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، لقادر. وكذا في المهدوي. وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج، لقادر. وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضا: إنه على رد الانسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبري. الثعلبي: وهو الاقوى، لقوله تعالى: " يوم تبلى السرائر " [ الطارق: 9 ] قال الماوردي: ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة، لان الكفار يسألون الله تعالى فيها الرجعة. (1) وقال الاستاذ الامام في تفسير جزء (عم): كنى بالصلب عن الرجل، وبالترائب عن المرأة. (2) أنظر ما سبق في ص 5. (3) تمام البيت * إذا بدا عالم بدا طبق * وهو من قول للعباس بن عبد المطلب في مدح النبي صلى الله عليه وسلم. (*)
[ 8 ]
قوله تعالى: يوم تبلى السرائر (9) فيه مسألتان: الاولى: العامل في " يوم " - في قول من جعل المعنى إنه على بعث الانسان - قوله " لقادر "، ولا يعمل فيه " رجعه " لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر " إن ". وعلى الاقوال الاخر التي في " إنه على رجعه لقادر "، يكون العامل في " يوم " فعل مضمر، ولا يعمل فيه " لقادر "، لان المراد في الدنيا. و " تبلى " أي تمتحن وتختبر، وقال أبو الغول الطهوي: (1) ولا تبلى بسالتهم وإن هم * صلوا بالحرب حينا بعد حين ويروى " تبلى بسالتهم ". فمن رواه " تبلى " - بضم التاء - جعله من الاختبار، وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة، كأنه قال: لا يعرف لهم فيها كراهة. و " تبلى " تعرف. قال الراجز: قد كنت قبل اليوم تزدريني * فاليوم أبلوك وتبتليني أي أعرفك وتعرفني. ومن رواه " تبلى " - بفتح التاء - فالمعنى: أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان. وذلك أن الامور الشداد إذا تكررت على الانسان هدته وأضعفته. وقيل: " تبلى السرائر ": أي تخرج مخبآتها وتظهر، وهو كل ما كان استسره الانسان من خير أو شر، وأضمره من إيمان أو كفر، كما قال الاحوص: (2) سيبقى لها في مضمر القلب والحشا * سريرة ود يوم تبلى السرائر (1) هو شاعر إسلامي، منسوب إلى " طهية "، بضم الطاء، وهى أم قبيلة من العرب. (2) كذا ورد في بعض نسخ الاصل و (خزانة الادب ج 1 ص 322) وفي بعض نسخ الاصل، والشعرا والشعراء، و (كتاب الاغاني ج 4 ص 242 طبع دار الكتب المصرية): " ستبلى لكم... ". (*)
[ 9 ]
الثانية: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ائتمن الله تعالى خلقه على أربع: على الصلاة، والصوم، والزكاة، والغسل، وهي السرائر التي يختبرها الله عزوجل يوم القيامة). ذكره المهدوي. وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من حافظ عليها فهو ولي الله حقا، ومن اختانهن فهو عدو الله حقا: الصلاة، والصوم، والغسل من الجنابة) ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الامانة ثلاث: الصلاة والصوم، والجنابة. استأمن الله عزوجل ابن أدم على الصلاة، فإن شاء قال صليت ولم يصل. استأمن الله عزوجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال صمت ولم يصم. استأمن الله عزوجل ابن آدم على الجنابة، فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل، اقرءوا إن شئتم " يوم تبلى السرائر ")، وذكره الثعلبي عن عطاء. وقال مالك في رواية أشهب عنه، وسألته عن قوله تعالى: " يوم تبلى السرائر ": أبلغك أن الوضوء من السرائر ؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدث (1) به فلا. والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب، يجزي الله به العباد. قال ابن العربي: قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الامانة، والوضوء من الامانة، والصلاة والزكاة من الامانة، والوديعة من الامانة، وأشد ذلك الوديعة، تمثل له على هيئتها يوم أخذها، فيرمى بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه، فيتبعها، فهو كذلك دهر الداهرين. وقال أبي بن كعب: من الامانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. قال أشهب: قال لي سفيان: في الحيضة والحمل، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة. وفي الحديث: [ غسل الجنابة من الامانة ]. وقال ابن عمر: يبدي الله يوم القيامة كل سر خفي، فيكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه. والله عالم بكل شئ، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين. (1) في ابن العربي: " أخذته ". (*)
[ 10 ]
قوله تعالى: فما له من قوة ولا ناصر (10) قوله تعالى: (فما له) أي للانسان " من قوة " أي منعة تمنعه. " ولا ناصر " ينصره مما نزل به. وعن عكرمة " فما له من قوة ولا ناصر " قال: هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. وقال سفيان: القوة: العشيرة. والناصر: الحليف. وقيل: " فما له من قوة " في بدنه. " ولا ناصر " من غيره يمتنع به من الله. وهو معنى قول قتادة. قوله تعالى: والسماء ذات الرجع (11) والارض ذات الصدع (12) إنه لقول فصل (13) وما هو بالهزل (14) إنهم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع) أي ذات المطر. ترجع كل سنة بمطر بعد مطر. كذا قاله عامة المفسرين. وقال أهل اللغة: الرجع: المطر، وأنشدوا للمتنخل يصف سيفا شبهه بالماء: أبيض كالرجع رسوب إذا * ما ثاخ في محتفل يختلي [ ثاخت قدمه في الوحل تثوخ وتثيخ: خاضت وغابت فيه، قاله الجوهري (1) ]. قال الخليل: الرجع: المطر نفسه، والرجع أيضا: نبات الربيع. وقيل: " ذات الرجع ". أي ذات النفع. وقد يسمى المطر أيضا أوبا، كما يسمى رجعا، قال: رباء شماء لا يأوي لقلتها * إلا السحاب وإلا الاوب والسبل (2) (1) ما بين المربعين ذكر في هامش بعض نسخ الاصل. والمحتفل: أعظم موضع في الجسد. ويختلي: يقطع. (2) البيت للمتنخل الهذلي. قال السكري في شرح هذا البيت: " رباء يربأ فوقها، يقول لا يدنو لقلتها، أي لرأسها: أي لا يعلو هذه الهضبة من طولها إلا السحاب والاوب. والاوب: رجوع النحل. والسبل: القطر حين يسبل ". (*)
[ 11 ]
وقال عبد الرحمن بن زيد: الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء، تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقيل: ذات الملائكة، لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وهذا قسم. (والارض ذات الصدع) قسم آخر، أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والانهار، نظيره " ثم شققنا الارض شقا " (1) [ عبس: 26 ]... الآية. والصدع: بمعنى الشق، لانه يصدع الارض، فتنصدع به. وكأنه قال: والارض ذات النبات، لان النبات صادع للارض. وقال مجاهد: والارض ذات الطرق التي تصدعها المشاة. وقيل: ذات الحرث، لانه يصدعها. وقيل: ذات الاموات: لانصداعها عنهم للنشور. (إنه لقول فصل) على هذا وقع القسم. أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب (2) ما رواه الحارث عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ]. وقيل: المراد بالقول الفصل: ما تقدم من الوعيد في هذه السورة، من قوله تعالى: " إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر ". (وما هو بالهزل) أي ليس القرآن بالباطل واللعب. والهزل: ضد الجد، وقد هزل يهزل. قال الكميت. * يجد بنا في كل يوم ونهزل (3) * " إنهم " أي إن أعداء الله " يكيدون كيدا " أي يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكرا. (وأكيد كيدا) أي أجازيهم جزاء كيدهم. وقيل: هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والاسر. وقيل: كيد الله: استدراجهم من حيث لا يعلمون. وقد مضى هذا المعنى في أول " البقرة "، عند قوله تعالى: " الله يستهزئ بهم " [ البقرة: 15 ]. مستوفي (4). (1) آية 26 سورة عبس. (2) راجع ج 1 ص 5 طبعة ثانية أو ثالثة. (3) صدر البيت: * أرانا على حب الحياة وطولها * (4) راجع ج 1 ص 208 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 12 ]
قوله تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا (17) قوله تعالى: " فمهل الكافرين " أي أخرهم، ولا تسأل الله تعجيل إهلاكهم، وارض بما يدبره (1) في أمورهم. ثم نسخت بآية السيف " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة: 5 ] (2). " أمهلهم " تأكيد. ومهل وأمهل: بمعنى، مثل نزل وأنزل. وأمهله: أنظره، ومهله تمهيلا، والاسم: المهلة. والاستمهال: الاستنظار. وتمهل في أمره أي اتأد. واتمهل اتمهلالا: أي اعتدل وانتصب. والاتمهلال أيضا: سكون وفتور. ويقال: مهلا يا فلان، أي رفقا وسكونا. " رويدا " أي قريبا، عن ابن عباس. قتادة: قليلا. والتقدير: أمهلهم إمهالا قليلا. والرويد في كلام العرب: تصغير رود. وكذا قاله أبو عبيد. وأنشد: * كأنها ثمل يمشي على رود (3) * أي على مهل. وتفسير " رويدا ": مهلا، وتفسير (رويدك): أمهل، لان الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل دون غيره، وإنما حركت الدال لالتقاء الساكنين، فنصب نصب المصادر، وهو مصغر مأموو به، لانه تصغير الترخيم من إرواد، وهو مصدر أرود يرود. وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفة، وحال، ومصدر، فالاسم نحو قولك: رويد عمرا، أي أرود عمرا، بمعنى أمهله. والصفة نحو قولك: ساروا سيرا رويدا. والحال نحو قولك: سار القوم رويدا، لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها. والمصدر نحو قولك: رويد عمرو بالاضافة، كقوله تعالى: " فضرب الرقاب " (4) [ محمد: 4 ]. قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر، أي إمهالا رويدا. ويجوز أن يكون للحال، أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب. ختمت السورة. (1) في بعض النسخ " يريده ". (2) آية 5 سورة التوبة. (3) هذا عجز بيت للجموح الظفري. وصدره: * تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها * (4) آية 4 سورة محمد. (*)
[ 13 ]
سورة " الاعلى " مكية في قول الجمهور. وقال الضحاك: مدنية. وهي تسع عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: سبح اسم ربك الاعلى (1) يستحب للقارئ إذا قرأ " سبح اسم ربك الاعلى " أن يقول عقبه: سبحان ربي الاعلى، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين، على ما يأتي. وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده قال: إن لله تعالى ملكا يقال له حزقيائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمسمائة عام، فخطر له خاطر: هل تقدر أن تبصر العرش جميعه ؟ فزاده الله أجنحة مثلها، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام. ثم أوحى الله إليه: أيها الملك، أن طر، فطار مقدار عشرين ألف سنة، فلم يبلغ رأس قائمة من قوائم العرش. ثم ضاعف الله له في الاجنحة والقوة، وأمره أن يطير، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى، فلم يصل أيضا، فأوحى الله إليه: أيها الملك، لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي. فقال الملك: سبحان ربي الاعلى، فأنزل الله تعالى: " سبح اسم ربك الاعلى ". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم). ذكره الثعلبي في (كتاب العرائس) له. وقال ابن عباس والسدي: معنى " سبح اسم ربك الاعلى " أي عظم ربك الاعلى. والاسم صلة، قصد بها تعظيم المسمى، كما قال لبيد: * إلى الحول ثم اسم السلام عليكما (1) * (1) تمامه: * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر * والبيت من قصيدة له، يخاطب بها ابنتيه، مطلعها: تمنى ابنتاى أن يعيش أبوهما * وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر (*)
[ 14 ]
وقيل: نزه ربك عن السوء، وعما يقول فيه الملحدون. وذكر الطبري أن المعنى نزه اسم ربك عن أن تسمى به أحدا سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه، أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وجعلوا الاسم بمعنى التسمية، والاولى أن يكون الاسم هو المسمى. روى نافع عن ابن عمر قال: لا تقل على اسم الله، فإن اسم الله هو الاعلى. وروى أبو صالح عن ابن عباس: صل بأمر ربك الاعلى. قال: وهو أن تقول سبحان ربك الاعلى. وروي عن علي رضي الله عنه، وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي موسى وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم: أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا: سبحان ربي الاعلى، امتثالا لامره في ابتدائها. فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم، لا أن سبحان ربي الاعلى من القرآن، كما قاله بعض أهل الزيغ. وقيل: إنها في قراءة أبي: " سبحان ربي الاعلى ". وكان ابن عمر يقرؤها كذلك. وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأها قال: [ سبحان ربي الاعلى ]. قال أبو بكر الانباري: حدثني محمد بن شهريار، قال: حدثنا حسين بن الاسود، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال: حدثنا عيسى ابن عمر، عن أبيه، قال: قرأ علي بن أبي طالب عليه السلام في الصلاة " سبح اسم ربك الاعلى "، ثم قال: سبحان ربي الاعلى، فلما انقضت الصلاة قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن ؟ قال: ما هو ؟ قالوا: سبحان ربي الاعلى. قال: لا، إنما أمرنا بشئ فقلته، وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت " سبح اسم ربك الاعلى " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلوها في سجودكم). وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى، لانهم لم يقولوا: سبحان اسم ربك الاعلى. وقيل: إن أول من قال [ سبحان ربي الاعلى ] ميكائيل عليه السلام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (يا جبريل أخبرني بثواب من قال: سبحان ربي الاعلى في صلاته أو في غير صلاته). فقال: (يا محمد، ما من مؤمن ولا مؤمنه يقولها في سجوده أو في غير سجوده، إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول الله تعالى: صدق عبدي، أنا فوق كل شئ، وليس فوقي شئ، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له،
[ 15 ]
وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم، فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه، فأوقفه بين يدي الله تعالى، فيقول: يا رب شفعني فيه، فيقول قد شفعتك فيه، فاذهب به إلى الجنة). وقال الحسن: " سبح اسم ربك الاعلى " أي صل لربك الاعلى. وقيل: أي صل بأسماء الله، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية (1). وقيل: ارفع صوتك بذكر ربك. قال جرير: قبح الاله وجوه تغلب كلما * سبح الحجيج وكبروا تكبيرا قوله تعالى: الذي خلق فسوى (2) والذى قدر فهدى (3) والذي أخرج المرعى (4) فجعله غثاء أحوى (5) قوله تعالى: (الذي خلق فسوى) قد تقدم معنى التسوية في " الانفطار " وغيرها (2). أي سوى ما خلق، فلم يكن في خلقه تثبيج (3). وقال الزجاج: أي عدل قامته. وعن ابن عباس: حسن ما خلق. وقال الضحاك: خلق آدم فسوى خلقه. وقيل: خلق في أصلاب الآباء، وسوى في أرحام الامهات. وقيل: خلق الاجساد، فسوى الافهام. وقيل: أي خلق الانسان وهيأه للتكليف. (الذي قدر فهدى) قرأ علي رضي الله عنه السلمي والكسائي " قدر " مخففة الدال، وشدد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدر ووفق لكل شكل شكله. " فهدى " أي أرشد. قال مجاهد: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال: هدى الانسان للسعادة والشقاوة، وهدى الانعام لمراعيها. وقيل: قدر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله " فهدى " قالوا: عرف خلقه كيف يأتي الذكر الانثى، كما قال في (طه): " أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " (4) [ طه: 50 ] أي الذكر للانثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له. وقيل: خلق المنافع في الاشياء، وهدى الانسان لوجه (1) المكاء: الصفير. والتصدية التصفيق. قال ابن عباس: " كانت قريش تطوف بالبيت عراة يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة في ظنهم ". (2) راجع ج 19 ص 224 (3) التثبيج: التخليط. (4) آية 50. (*)
[ 16 ]
استخراجها منها. وقيل " قدر فهدى ": قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الافعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أن مسح العين بورق الرازيانج (1) الغض يرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله تعالى. وهدايات الانسان إلى ما لا يحد من مصالحه، وما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الارض باب واسع، وشوط بطين (2)، لا يحيط به وصف واصف، فسبحان ربي الاعلى. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. وقال الفراء: أي قدر، فهدى وأضل، فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله تعالى: " سرابيل تقيكم الحر " (3) [ النحل: 81 ]. ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الايمان، كقوله تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط " (4) [ الشورى: 52 ]. أي لتدعو، وقد دعا الكل إلى الايمان. وقيل: " فهدى " أي دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالما قادرا. ولا خلاف أن من شدد الدال من " قدر " أنه من التقدير، كقوله تعالى: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " (5) [ الفرقان: 2 ]. ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القدر والملك، أي ملك الاشياء، وهدى من يشاء. قلت: وسمعت بعض أشياخي يقول: الذي خلق فسوى وقدر فهدى. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال الله سبحانه على جميع مخلوقاته. قوله تعالى: (والذي أخرج المرعى) أي النبات والكلا الاخضر. قال الشاعر: (6) وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * وتبقى حزازات النفوس كما هيا الرازيانج: شجرة يسميها أهل اليمن (السمار)، ومن خصائصها أن عصارة أغصانها وأوراقها تخلط بالادوية التي تحد البصر وتجلوه (انظر المعتمد في الادوية المفردة لملك اليمن يوسف بن رسول. طبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة). (2) أي بعيد. (3) آية 81 سورة النحل. (4) آية 52 سورة الشورى. (5) آية 2 سورة الفرقان. (6) هو زفر بن الحارث. والدمن: السرقين - الزبل - المتلبد بالبعر. والثرى: التراب والارض. (*)
[ 17 ]
(فجعله غثاء أحوى) الغثاء: ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش (1). وكذلك الغثاء (بالتشديد). والجمع: الاغثاء، قتادة: الغثاء: الشئ اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس: غثاء وهشيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش غثاء، كما قال: كأن طمية (2) المجيمر غدوة * من السيل والاغثاء (3) فلكة مغزل وحكى أهل اللغة: غثا الوادي وجفا (4). وكذلك الماء: إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به. والاحوى: الاسود، أي أن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالاسود. والحوة: السواد، قال الاعشى: (5) لمياء في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي أنيابها شنب وفي الصحاح: والحوة: سمرة الشفة. يقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وقد حويت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفرة. وتصغير أحوى أحيو، في لغة من قال أسيود. ثم قيل: يجوز أن يكون " أحوى " حالا من " المرعى "، ويكون المعنى: كأنه من خضرته يضرب إلى السواد، والتقدير: أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء يقال: قد حوي النبت، حكاه الكسائي، وقال: (1) القماش (بالضم): ما كان على وجه الارض من فتات الاشياء. وقماش كل شئ: فتاته. (2) كذا رواه صاحب اللسان في (طما)، وقال: طمية: جبل وفي بعض النسخ ومعلقة امرئ القيس: * كأن ذرا رأس المجيمر غدوة * وقد أشار التبريزي شارح المعلقة إلى الرواية الاولى. قال: " والمجيمر ": أرض لبني فزارة. وطمية: جبل في بلادهم. يقول: قد امتلا المجيمر فكأن الجبل في الماء فلكة مغزل لما جمع السيل حوله من الغثاء. (3) في المعلقة: " الغثاء " قال التبريزي: ورواه الفراء " من السيل والاغثاء ": جمع الغثاء، وهو قليل في الممدود. قال أبو جعفر: من رواه الاغثاء فقد أخطأ لان غثاء لا يجمع على أغثاء وإنما يجمع على أغثية لان أفعلة جمع الممدود وأفعالا جمع المقصور نحو رحا وأرحاء. (4) في الاصول: (وانجفى)، وهو تحريف عن (جفأ). والجفاء كغراب: ما يرمى به الوادي. (5) كذا في جميع نسخ الاصل وهو خطأ. والبيت لذي الرمة كما في ديوانه واللسان. والياء من الشفاء: اللطيفة القليلة الدم. واللعس (بفتحتين) لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح. والشنب: برودة وعذوبة في، ورقة في الاسنان. (*)
[ 18 ]
وغيث من الوسمى حو تلاعه * تبطنته بشيظم صلتان (1) ويجوز أن يكون " أحوى " صفة ل‍ " غثاء ". والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه، والرطب إذا يبس أسود. وقال عبد الرحمن زيد: أخرج المرعى أخضر، ثم لما يبس أسود من احتراقه، فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مثل ضربه الله تعالى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها. قوله تعالى: سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7) ونيسرك لليسرى (8) قوله تعالى " سنقرئك " أي القرآن يا محمد فنعلمكه " فلا تنسى " أي فتحفظ، رواه ابن وهب عن مالك. وهذه بشرى من الله تعالى، بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحى، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كان يتذكر مخافة أن ينسى، فقيل: كفيتكه. قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم للنبي صلى الله عليه وسلم بأولها، مخافة أن ينساها، فنزلت: " سنقرئك فلا تنسى " بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه. ووجه الاستثناء على هذا، ما قاله الفراء: إلا ما شاء الله، وهو لم يشأ أن تنسى شيئا، كقوله تعالى: " خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء (2) ربك " [ هود: 108 ]. ولا يشاء. ويقال في الكلام: لاعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية على ألا يمنعه شيئا. فعلى هذا مجاري الايمان، يستثنى فيها ونية الحالف التمام. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات، " إلا ما شاء الله ". وعن سعيد عن قتادة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا، " إلا (1) الوسمى: مطر أول الربيع لانه يسم الارض بالنبات. نسب إلى الوسم. والتلاع: جمع التلعة، وهي أرض مرتفعة غليظة يتردد فيها السيل، ثم يدفع منها إلى تلعة أسفل منها. وهي مكرمة من المنابت: وقيل: التلعة مجرى الماء من أعلى الوادي إلى بطون الارض وتبطنته: دخلته. والشظيم: الطويل الجسيم الفتى من الناس والخيل. والصلتان: النشيط الحديد الفؤاد من الخيل. (2) آية 108 سورة هود. (*)
[ 19 ]
ما شاء الله ". وعلى هذه الاقوال قيل: إلا ما شاء الله أن ينسى، ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد نزول هذه الآية. وقيل: إلا ما شاء الله أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك، فإذا قد نسي، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا. وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبي أنها نسخت، فسأله فقال: [ إني نسيتها ]. وقيل: هو من النسيان، أي إلا ما شاء الله أن ينسيك. ثم قيل: هذا بمعنى النسخ، أي إلا ما شاء الله أن ينسخه. والاستثناء نوع من النسخ. وقيل. النسيان بمعنى الترك، أي يعصمك من أن تترك العمل به، إلا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه. فهذا في نسخ العمل، والاول في نسخ القراءة. قال الفرغاني: كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي، وكان رجلا جليلا، فقال يوما: ما تقول يا أبا القاسم في قول الله تعالى: " سنقرئك فلا تنسى " ؟ فأجابه مسرعا - كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به. فقال ابن كيسان: لا يفضض الله فاك ! مثلك من يصدر عن رأيه. وقوله " فلا ": للنفي لا للنهي. وقيل: للنهي، وإنما أثبتت الياء (1) لان رءوس الآي على ذلك. والمعنى: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة. والاول هو المختار، لان الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما. وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف، وعليها القراء. وقيل: معناه إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله. وقيل: المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء الله أن يناله بنو آدم والبهائم، فإنه لا يصير كذلك. قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر) أي الاعلان من القول والعمل. " وما يخفى " من السر. وعن ابن عباس: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك. " وما يخفى " هو ما نسخ من صدرك. " ونيسرك ": معطوف على " سنقرئك " وقوله: " إنه يعلم الجهر وما يخفى " اعتراش. ومعنى " لليسرى " أي للطريقة اليسرى، وهي عمل الخير. قال ابن عباس: نيسرك لان تعمل خيرا. ابن مسعود: " لليسرى " أي للجنة. وقيل: نوفقك للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السمحة السهلة، قال معناه الضحاك. وقيل: أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به. (1) يريد الالف في (تنسى)، وأصلها الياء (نسى ينسى). (*)
[ 20 ]
قوله تعالى: فذكر إن نفعت الذكرى (9) قوله تعالى: " فذكر " أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن. " إن نفعت الذكرى " أي الموعظة. وروى يونس عن الحسن قال: تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر. وكان ابن عباس يقول: تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي. وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع. والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، فحذف، كما قال: " سرابيل تقيكم الحر " (1) [ النحل: 81 ]. وقيل: إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم. وقيل: إن " إن " بمعنى ما، أي فذكر ما نفعت الذكرى، فتكون " إن " بمعنى ما، لا بمعنى الشرط، لان الذكرى نافعة بكل حال، قاله ابن شجرة. وذكر بعض أهل العربية: أن " إن " بمعنى إذ، أي إذ نفعت، كقوله تعالى: " وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين " (2) [ آل عمران: 139 ] أي إذ كنتم، فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم. وقيل: بمعنى قد. قوله تعالى: سيذكر من يخشى (10) أي من يتق الله ويخافه. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في ابن أم مكتوم. الماوردي: وقد يذكر من يرجوه، إلا أن تذكرة الخاش أبلغ من تذكرة الراجي، فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلقت بالخشية والرجاء. وقيل: أي عمم أنت التذكير والوعظ، وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء، حكاه القشيري. قوله تعالى: ويتجنبها الاشقى (11) الذي يصلى النار الكبرى (12) ثم لا يموت فيها ولا يحيى (13) قوله تعالى: (ويتجبنها) أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها. (الاشقى) أي الشقي في علم الله. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. (الذي يصلى النار الكبرى) (1) آية 81 سورة النحل. (2) آية 139 سورة آل عمران. (*)
[ 21 ]
أي العظمى، وهي السفلى من أطباق النار، قاله الفراء. وعن الحسن: الكبرى نار جهنم، والصغرى نار الدنيا، وقاله يحيى بن سلام. (ثم لا يموت فيها ولا يحيى) أي لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه، كما قال الشاعر: ألا ما لنفس تموت فينقضي * عناها ولا تحيا حياة لها طعم وقد مضى في " النساء " (1) وغيرها حديث أبي سعيد الخدري، وأن الموحدين من المؤمنين إذا دخلوا جهنم - وهي النار الصغرى على قول الفراء - احترقوا فيها وماتوا، إلى أن يشفع فيهم. خرجه مسلم. وقيل: أهل الشقاء متفاوتون في شقائهم، هذا الوعيد للاشقى، وإن كان ثم شقي لا يبلغ هذه المرتبة. قوله تعالى: قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " قد أفلح " أي قد صادف البقاء في الجنة، أي من تطهر من الشرك بإيمان، قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة. وقال الحسن والربيع: من كان عمله زاكيا ناميا. وقال معمر عن قتادة: " تزكى " قال بعمل صالح. وعنه وعن عطاء وأبي العالية: نزلت في صدقة الفطر. وعن ابن سيرين " قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى " قال: خرج فصلى بعد ما أدى. وقال عكرمة: كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. فقال سفيان: قال الله تعالى: " قد افلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى ". وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر: أن ذلك في صدقة الفطر، وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية، وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها، ومن سقاية الماء. وروى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " قد أفلح من تزكى " قال: [ أخرج زكاة الفطر ]، " وذكر اسم ربه فصلى " قال: [ صلاة العيد ]. وقال ابن عباس والضحاك: " وذكر اسم ربه " في طريق المصلى " فصلى " صلاة العيد. وقيل: المراد (1) راجع ج 5 ص 196 (*)
[ 22 ]
بالآية زكاة الاموال كلها، قاله أبو الاحوص وعطاء. وروى ابن جريج قال: قلت لعطاء: " قد أفلح من تزكى " للفطر ؟ قال: هي للصدقات كلها. وقيل: هي زكاة الاعمال، لا زكاة الاموال، أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير، لان الاكثر أن يقال في المال: زكى، لا تزكى. وروى جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ " قد أفلح من تزكى " أي من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الانداد، وشهد أني رسول الله ]. وعن ابن عباس " تزكى " قال: لا إله إلا الله. وروى عنه عطاء قال: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال: كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة، مائلة في دار رجل من الانصار، إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب إلى دار الانصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه، فقال: [ إن أخاك الانصاري ذكر أن بسرك ورطبك يقع إلى منزله، فيأكل هو وعياله، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها ] ؟ فقال: أبيع عاجلا بآجل ! لا أفعل. فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته، ففيه نزلت " قد أفلح من تزكى ". ونزلت في المنافق " ويتجنبها الاشقى ". وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. الثانية - قد ذكرنا القول في زكاة الفطر في السورة " البقرة " (1) مستوفى. وقد تقدم أن هذه السورة مكية، في قول الجمهور، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. القشيري: ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر وصلاة العيد، فيما يأمر به في المستقبل. الثالثة - قوله تعالى: (وذكر اسم ربه فصلى) أي ذكر ربه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد ذكر معاده وموقفه بين يدي الله جل ثناؤه، فعبده وصلى له. وقيل: ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة، لانها لا تنعقد إلا بذكره، وهو قوله: الله أكبر: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لان الصلاة معطوفة عليها. وفيه حجة لمن قال: إن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء الله عزوجل. وهذه مسألة خلافية (1) راجع ج 1 ص 343 فما بعد. (*)
[ 23 ]
بين الفقهاء. وقد مضى القول في هذا في أول سورة " البقرة " (1). وقيل: هي تكبيرات العيد. قال الضحاك: " وذكر اسم ربه " في طريق المصلى " فصلى "، أي صلاة العيد. وقيل: " وذكر اسم ربه " وهو أن يذكره بقلبه عند صلاته، فيخاف عقابه، ويرجو ثوابه، ليكون استيفاؤه لها، وخشوعه فيها، بحسب خوفه ورجائه. وقيل: هو أن يفتتح أول كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم. " فصلى " أي فصلى وذكر. ولا فرق بين أن تقول: أكرمتني فزرتني، وبين أن تقول: زرتني فأكرمتني. قال ابن عباس: هذا في الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس. وقيل: الدعاء، أي دعاء الله بحوائج الدنيا والآخرة. وقيل: صلاة العيد، قاله أبو سعيد الخدري وابن عمر وغيرهما. وقد تقدم. وقيل: هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاته، قاله أبو الأحوص، وهو مقتضى قول عطاء. وروي عن عبد الله قال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له. قوله تعالى: بل تؤثرون الحيوة الدنيا (16) قراءة العامة " بل تؤثرون " بالتاء، تصديقه قراءة أبي " بل أنتم تؤثرون ". وقرأ أبو عمرو ونصر بن عاصم " بل يؤثرون " بالياء على الغيبة، تقديره: بل يؤثرون الاشقون الحياة الدنيا. وعلى الاول فيكون تأويلها بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا، للاستكثار من الثواب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية، فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ لان الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها، ولذاتها وبهجتها، والآخرة غيبت عنا، فأخذنا العاجل، وتركنا الآجل. وروى ثابت عن أنس قال: كنا مع أبي موسى في مسير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا. قال أبو موسى: يا أنس، إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الاديم بلسانه فريا، فتعال فلنذكر ربنا ساعة. ثم قال: يا أنس، ما ثبر (2) الناس ما بطأ بهم ؟ قلت الدنيا والشيطان (1) راجع ج 1 ص 571 فما بعد. (2) الثبر: الحبس، أي ما الذى صدهم ومنعهم عن طاعة الله. (*)
[ 24 ]
والشهوات. قال: لا، ولكن عجلت الدنيا، وغيبت الآخرة، أما والله لو عاينوها ما عدلوا ولا ميلوا (1). قوله تعالى: والاخرة خير وأبقى (17) أي والدار الآخرة، أي الجنة. " خير " أي أفضل. " وأبقى " أي أدوم من الدنيا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ] صحيح. وقد تقدم (2). وقال مالك بن دينار: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى، على ذهب يفنى. قال: فكيف والآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من خزف يفنى. قوله تعالى: إن هذا لفي الصحف الاولى (18) صحف إبراهيم وموسى (19) قوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الاولى) قال قتادة وابن زيد: يريد قوله " والآخرة خير وأبقى ". وقالا: تتابعت كتب الله جل ثناؤه - كما تسمعون - أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا. وقال الحسن: " إن هذا لفي الصحف الاولى " قال: كتب الله جل ثناؤه كلها. الكلبي: " إن هذا لفي الصحف الاولى " من قوله: " قد أفلح " إلى آخر السورة، لحديث أبي ذر على ما يأتي. وروى عكرمة عن ابن عباس: " إن هذا لفي الصحف الاولى " قال: هذه السورة. وقال والضحاك: إن هذا القرآن لفي الصحف الاولى، أي الكتب الاولى. (صحف إبراهيم وموسى) يعني الكتب المنزلة عليهما. ولم يرد أن هذه الالفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما هو على المعنى، أي إن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وروى الآجري من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، فما (1) قوله (ما عدلوا): ما ساووا بها شيئا. وقوله (ولا ميلوا): أي ما شكوا ولا ترددوا (عن النهاية لابن الاثير). (2) راجع ج 4 ص 320 (*)
[ 25 ]
كانت صحف إبراهيم ؟ قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم. فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر. وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له [ ثلاث (1) ] ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، يفكر فيها في صنع (2) الله عزوجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد، ومرمة لمعاش، ولذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه. ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعينه ". قال: قلت يا رسول الله، فما كانت صحف موسى ؟ قال: " كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ! وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب. وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل !. قال: قلت يارسول الله، فهل في أيدينا شئ مما كان في يديه إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك ؟ قال: نعم اقرأ يا أبا ذر " قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى. بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى. إن هذا لفي الصحف الاولى. صحف إبراهيم وموسى ". وذكر الحديث. سورة " الغاشية " وهي مكية في قول الجميع، وهي ست وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: هل أتاك حديث الغاشية (1) " هل " بمعنى قد، كقوله: " هل أتى على الانسان " [ الانسان: 1 ] (3)، قاله قطرب. أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها، قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب: " الغاشية ": النار تغشى وجوه الكفار، ورواه أبو صالح (1) زيادة من الدر المنثور. (2) في الدر المنثور: (يحاسب فيها نفسه، ويتفكر فيها صنع...) (3) آية 1 سورة الانسان. (*)
[ 26 ]
عن ابن عباس، ودليله قوله تعالى: " وتغشى وجوههم النار " (1) [ إبراهيم: 50 ]. وقيل: تغشى الخلق. وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث، لانها تغشى الخلائق. وقيل: " الغاشية " أهل النار يغشونها، ويقتحمون فيها. وقيل: معنى " هل أتاك " أي هذا لم يكن من علمك، ولا من علم قومك. قال ابن عباس: لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور ها هنا. وقيل: إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله، ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبي. قوله تعالى: وجوه يومئذ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) قال ابن عباس: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال: " وجوه يومئذ " أي يوم القيامة. " خاشعة " قال سفيان: أي ذليلة بالعذاب. وكل متضائل ساكن خاشع. يقال: خشع في صلاته: إذا تذلل ونكس رأسه. وخشع الصوت: خفي، قال الله تعالى: " وخشعت الاصوات للرحمن " [ طه: 108 ] (2). والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه. وقال قتادة وابن زيد: " خاشعة " أي في النار. والمراد وجوه الكفار كلهم، قاله يحيى بن سلام. وقيل: أراد وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس. ثم قال (عاملة ناصبة) فهذا في الدنيا، لان الآخرة ليست دار عمل. فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا " خاشعة " في الآخرة. قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملا. ويقال للسحاب إذا دام برقه: قد عمل يعمل عملا. وذا سحاب عمل. قال الهذلي: (3) حتى شآها كليل موهنا عمل * باتت طرابا وبات الليل لم ينم (1) آية 50 سورة ابراهيم. (2) آية 108 سورة طه. (3) هو ساعدة بن جؤية. وقوله (شآها): أي ساقها. والكليل: البرق الضعيف. والموهن: القطعة من الليل. وباتت طرابا: أي باتت البقر العطاش طرابا إلى السير إلى الموضع الذي فيه البرق. وبات البرق الليل أجمع لا يقر: فعبر عن البرق بأنه لم ينم، لاتصاله من أول الليل إلى آخره (راجع هذا البيت والكلام عليه في خزانة الادب الشاهد الرابع بعد الستمائة). (*)
[ 27 ]
" ناصبة " أي تعبة. يقال: نصب (بالكسر) ينصب نصبا: إذا تعب، ونصبا أيضا، وأنصبه غيره. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله عزوجل، وعلى الكفر، مثل عبدة الاوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصا له. وقال سعيد عن قتادة: " عاملة ناصبة " قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله عزوجل، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثقال، وحمل الاغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال الكلبي: يجرون على وجوههم في النار. وعنه وعن غيره: يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب، بمعالجة السلاسل والاغلال والخوض في النار، كما تخوض الابل في الوحل، وارتقائها في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها، إلى غير ذلك من عذابها. وقاله ابن عباس. وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد، ورواها عبيد عن شبل. عن ابن كثير " ناصبة " بالنصب على الحال. وقيل: على الذم. الباقون (بالرفع) على الصفة أو على إضمار مبتدأ، فيوقف على " خاشعة ". ومن جعل المعنى في الآخرة، جاز أن يكون خبرا بعد خبر عن " وجوه "، فلا يوقف على " خاشعة ". وقيل: " عاملة ناصبة " أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة. وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، خاشعة. قال عكرمة والسدي: عملت في الدنيا بالمعاصي. وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان أصحاب الصوامع، وقاله ابن عباس. وقد تقدم في رواية الضحاك عنه. وروى عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل (1)، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى. فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك ؟ قال: هذا المسكين طلب أمرا فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه، - وقرأ قول الله عزوجل - " وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة ". قال الكسائي: (1) أي شعث وسخ، يقال: أقهل الرجل، وتقهل. (النهاية لابن الاثير). (*)
[ 28 ]
التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل متقهل: يابس الجلد سئ الحال، مثل المتقحل. وقال أبو عمرو: التقهل: شكوى الحاجة. وأنشد: * لعوا (1) إذا لاقيته تقهلا * والقهل: كفران الاحسان. وقد قهل يقهل قهلا: إذا أثنى ثناء قبيحا. وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه. وانقهل ضعف وسقط، قاله الجوهري. وعن علي رضي الله عنه أنهم أهل حروراء، يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ تحقرون صلاتكم (2) مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية... ] الحديث. قوله تعالى: تصلى نارا حامية (4) أي يصيبها صلاؤها وحرها. " حامية " شديدة الحر، أي قد أوقدت وأحميت المدة الطويلة. ومنه حمي النهار (بالكسر)، وحمي التنور حميا فيهما، أي اشتد حره. وحكى الكسائي: اشتد حمي الشمس وحموها: بمعنى. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب " تصلى " بضم التاء. الباقون بفتحها. وقرئ " تصلى " بالتشديد. وقد تقدم القول فيها في " إذا السماء انشقت " (3) [ الانشقاق: 1 ]. الماوردي: فإن قيل فما معنى وصفها بالحمي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة ؟ قيل: قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه: أحدها - أن المراد بذلك أنها دائمة الحمي، وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها. الثاني - أن المراد بالحامية أنها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه. ومن (1) اللعو: السيئ الخلق. والشره الحريص: (2) أي تعدون صلاتكم حقيرة بالنظر إلى صلاتهم. (3) راجع ج 19 ص 270 (*)
[ 29 ]
يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ]. الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، أو ترام مماستها، كما يحمي الاسد عرينه، ومثله قول النابغة: تعدو الذئاب على من لا كلاب له * وتتقي صولة المستأسد الحامي الرابع - أنها حامية حمى غيظ وغضب، مبالغة في شدة الانتقام. ولم يرد حمى جرم وذات، كما يقال: قد حمى فلان: إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام. وقد بين الله تعالى بقوله هذا المعنى فقال: " تكاد تميز من الغيظ " (1) [ الملك: 8 ]. قوله تعالى: تسقى من عين آنية (5) الآني: الذي قد انتهى حره، من الايناء (2)، بمعنى التأخير. ومنه (آنيت وآذيت) (3). وآناه يؤنيه إيناء، أي أحره وحبسه وأبطأه. ومنه " يطوفون بينها وبين حميم آن " (4) [ الرحمن: 44 ]. وفي التفاسير " من عين آنية " أي تناهى حرها، فلو وقعت نقطة منها على جبال الدنيا لذابت. وقال الحسن: " آنية " أي حرها أدرك، أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: بلغت أناها، وحان شربها. قوله تعالى: ليس لهم طعام إلا من ضريع (6) قوله تعالى: " ليس لهم " أي لاهل النار. " طعام إلا من ضريع " لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم. قال عكرمة ومجاهد: الضريع: نبت ذو شوك لاصق بالارض، تسميه قريش الشبرق إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو الضريع، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه، وهو سم قاتل، وهو أخبث الطعام وأشنعه، على هذا عامة المفسرين. إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال: هو شئ يرمى به البحر، يسمى الضريع، من أقوات الانعام (1) آية 8 سورة الملك. (2) آنية: متناهية في شدة الحر، من أنى يأني، كرمى يرمى، وليس من (الايناء) مصدر آنى بمعنى آخر قال الطبري في تفسير الآية: (تسقى أصحاب هذه الوجوه من شراب عين قد أنى حرها، وبلغ غايته في شدة الحر. (3) أي في الحديث في صلاة الجمعة، إذ أنه قال لرجل جاء يوم الجمعة يتطى رقاب الناس: لقد آنيت وآنيت. ومعنى (آنيت): أخرت المجئ وأبطأت. و (آذيت) أي آذيت الناس بتخطيك. (4) آية 44 سورة الرحمن. (*)
[ 30 ]
لا الناس، فإذا وقعت فيه الابل لم تشبع، وهلكت هزلا. والصحيح ما قاله الجمهور: أنه نبت. قال أبو ذؤيب: (1) رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى * وعاد ضريعا بأن منه (2) النحائص وقال الهذلي (3) وذكر إبلا وسوء مرعاها: وحبسن في هزم الضريع فكلها * حدباء دامية اليدين حرود (4) وقال الخليل: الضريع: نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر. وقال الوالبي عن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لاحرقت الارض وما عليها. وقال سعيد بن جبير: هو الحجارة، وقاله عكرمة. والاظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الضريع: شئ يكون في النار، يشبه الشوك، أشد مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سماه الله ضريعا). وقال خالد بن زياد: سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية " ليس لهم طعام إلا من ضريع " قال: بلغني أن الضريع شجرة من نار جهنم، حملها القيح والدم، أشد مرارة من الصبر، فذلك طعامهم. وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه الله من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى الله تعالى، طلبا للخلاص منه، فسمي بذلك، لان آكله يضرع في أن يعفى منه، لكراهته وخشونته. قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقا من الضارع، وهو الذليل، أي ذو ضراعة، أي من شربه ذليل تلحقه ضراعة. وعن الحسن أيضا: هو الزقوم. وقيل: هو واد في جهنم. فالله أعلم. وقد قال الله تعالى في موضع (1) لم نعثر على هذا البيت في ديوان أبي ذؤيب. (2) في بعض نسخ الاصل: (بان عنه النحائص). والنحائص: جمع النحوص (بفتح النون)، وهي الاتان الوحشية الحائل. وقيل: هي التي في بطنها ولد. وقيل: التي لا لبن لها. (3) هو قيس بن عيزارة، كما في اللسان. (4) هزم الضريع: ما تكسر منه. والحدباء: الناقة التي بدت حراقفها، وعظم ظهرها. والحرود: التي لا تكاد تدر. (*)
[ 31 ]
آخر: " فليس له اليوم هاهنا حمم. ولا طعام إلا من غسلين " (1) [ الحاقة: 35 - 36 ]. وقال هنا: " إلا من ضريع " وهو غير الغسلين. ووجه الجمع أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد. قال الكلبي: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى. ويجوز أن تحمل الآيتان على حالتين كما قال: " يطوفون بينها وبين حميم آن " (2) [ الرحمن: 44 ]. القتبي: ويجوز أن يكون الضريع وشجرة الزقوم نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار. وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما نعلم ما بقيت على النار. قال: وإنما دلنا الله على الغائب عنده، بالحاضر عندنا، فالاسماء متفقة الدلالة، والمعاني مختلفة. وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها. القشيري: وأمثل من قول القتبي أن نقول: إن الذي يبقى الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب، يبقي النبات وشجرة الزقوم في النار، ليعذب بها الكفار. وزعم بعضهم أن الضريع بعينه لا ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه. فالضريع من أقوات الانعام، لا من أقوات الناس. وإذا وقعت الابل فيه لم تشبع، وهلكت هزلا، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلا، أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع. قال الترمذي الحكيم: وهذا نظر سقيم من أهله وتأويل دنئ، كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، جعل لنا في الدنيا من الشجر الاخضر نارا، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تطفئ النار، فقال تعالى: " الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " (3) [ يس: 80 ]. وكما قيل حين نزلت " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " (4) [ الاسراء: 97 ]: قالوا يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم ؟ فقال: [ الذي (1) آية 35 و 36 سورة الحاقة. (2) آية 55 سورة الرحمن. (3) آية 80 سورة يس. (4) آية 97 سورة الاسراء. (*)
[ 32 ]
أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ]. فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف القلب. أو ليس قد أخبرنا أنه " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا (1) غيرها " [ النساء: 56 ]، وقال: " سرابيلهم من قطران " (2) [ إبراهيم: 50 ]، وقال: " إن لدينا أنكالا " (3) [ المزمل: 12 ] أي قيودا. " وجحيما وطعاما ذا غصة " قيل: ذا شوك. فإنما يتلون عليهم العذاب بهذه الاشياء. قوله تعالى: لا يسمن ولا يغنى من جوع (7) يعني الضريع لا يسمن آكله. وكيف يسمن من يأكل الشوك ! قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: " لا يسمن ولا يغنى من جوع ". وكذبوا، فإن الابل إنما ترعاه رطبا، فإذا يبس لم تأكله. وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبت النافع، لان المضارعة المشابهة. فوجدوه لا يسمن (4) ولا يغني من جوع. قوله تعالى: وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) في جنة عالية (10) قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة) أي ذات نعمة. وهي وجوه المؤمنين، نعمت بما عاينت من عاقبة أمرها وعملها الصالح. " لسعيها " أي لعملها الذي عملته في الدنيا. " راضية " في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها. ومجازه: لثواب سعيها راضية. وفيها واو مضمرة. المعنى: ووجوه يومئذ، للفصل بينها وبين الوجوه المتقدمة. والوجوه عبارة عن الانفس. (في جنة عالية) أي مرتفعة، لانها فوق السموات حسب ما تقدم. وقيل: عالية القدر، لان فيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين. وهم فيها خالدون. (1) آية 56 سورة النساء. (2) آية 50 سورة ابراهيم. (3) آية 2 سورة المزمل. (4) في بعض النسخ: (لا يشبه). (*)
[ 33 ]
قوله تعالى: لا تسمع فيها لاغية (11) أي كلاما ساقطا غير مرضي. وقال: " لاغية "، واللغو واللغا واللاغية: بمعنى واحد. قال: * عن اللغا ورفث التكلم (1) * وقال الفراء والاخفش أي لا تسمع فيها كلمة لغو. وفي المراد بها ستة أوجه: أحدها: يعني كذبا وبهتانا وكفرا بالله عزوجل، قاله ابن عباس. الثاني: لا باطل ولا إثم، قاله قتادة. الثالث: أنه الشتم، قاله مجاهد. الرابع: المعصية، قاله الحسن. الخامس: لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب، قاله الفراء. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين برة ولا فاجرة. السادس: لا يسمع في كلامهم كلمة بلغو، لان أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم، قاله الفراء أيضا. وهو أحسنها لانه يعم ما ذكر. وقرأ أبو عمرو وابن كثير " لا يسمع " بياء غير مسمى الفاعل. وكذلك نافع، إلا أنه بالتاء المضمومة، لان اللاغية اسم مؤنث فأنث الفعل لتأنيثه. ومن قرأ بالياء فلانه حال بين الاسم والفعل الجار والمجرور. وقرأ الباقون بالتاء مفتوحة " لاغية " نصا على إسناد ذلك للوجوه، أي لا تسمع الوجوه فيها لاغية. قوله تعالى: فيها عين جارية (12) فيها سرر مرفوعة (13) وأكواب موضوعة (14) ونمارق مصفوفة (15) وزرابي مبثوثة (16) قوله تعالى: (فيها عين جارية) أي بماء مندفق، وأنواع الاشربة اللذيذة على وجه الارض من غير أخدود. وقد تقدم في سورة " الانسان " أن فيها عيونا (2). ف‍ " - عين ": بمعنى عيون. والله أعلم. (فيها سرر مرفوعة) أي عالية. وروي أنه كان ارتفاعها قدر ما بين (1) قبله: * ورب أسراب حجيج كظم * قائله رؤبة. ونسبه ابن برى للعجاج. (2) راجع ج 19 ص 124، 104 (*)
[ 34 ]
السماء والارض، ليرى ولي الله ملكه حوله. (وأكواب موضوعة) أي أباريق وأوان. والابريق: هو ماله عروة وخرطوم. والكوب: إناء ليس له عروة ولا خرطوم. وقد تقدم هذا في سورة " الزخرف " (1) وغيرها. " ونمارق " أي وسائد، الواحدة نمرقة. " مصفوفة " أي واحدة إلى جنب الاخرى. قال الشاعر: وإنا لنجري الكاس بين شروبنا * وبين أبي قابوس فوق النمارق وقال آخر: كهول وشبان حسان وجوههم * على سرر مصفوفة ونمارق وفي الصحاح: النمرق والنمرقة: وسادة صغيرة. وكذلك النمرقة (بالكسر) لغة حكاها يعقوب. وربما سموا الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة، عن أبي عبيد. (وزرابي مبثوثة): قال أبو عبيدة: الزرابي: البسط. وقال ابن عباس: الزرابي: الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها: زربية، وقال الكلبي والفراء. والمبثوثة: المبسوطة، قال قتادة. وقيل: بعضها فوق بعض، قاله عكرمة. وقيل كثيرة، قاله الفراء. وقيل: متفرقة في المجالس، قاله القتبي. قلت: هذا أصوب، فهي كثيرة متفرقة. ومنه " وبث فيها من كل دابة " (2) [ البقرة: 164 ]. وقال أبو بكر الانباري: وحدثنا أحمد بن الحسين، قال حدثنا حسين بن عرفة، قال حدثنا عمار بن محمد، قال: صليت خلف منصور بن المعتمر، فقرأ: " هل أتاك حديث الغاشية "، وقرأ فيها: " وزرابي مبثوثة ": متكئين فيها ناعمين. قوله تعالى: أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت (17) قال المفسرون: لما ذكر الله عزوجل أمر أهل الدارين، تعجب الكفار من ذلك، فكذبوا وأنكروا، فذكرهم الله صنعته وقدرته، وأنه قادر على كل شئ، كما خلق الحيوانات والسماء والارض. ثم ذكر الابل أولا، لانها كثيرة في العرب، ولم يروا الفيلة، فنبههم جل (1) راجع ج 16 ص 113 (2) آية 164 سورة البقرة. (*)
[ 35 ]
ثناؤه على عظيم من خلقه، قد ذلله للصغير، يقوده وينيخه وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شئ من الحيوان غيره. فأراهم عظيما من خلقه، مسخرا لصغير من خلقه، يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته. وعن بعض الحكماء: أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الاعناق. وحين أراد بها أن تكون سفائن البر، صبرها على احتمال العطش، حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدا، وجعلها ترعى كل شئ نابت في البراري والمفاوز، مما لا يرعاه سائر البهائم. وقيل: لما ذكر السرر المرفوعة قالوا: كيف نصعدها ؟ فأنزل الله هذه الآية، وبين أن الابل تبرك حتى يحمل عليها ثم تقوم، فكذلك تلك السرر تتطامن ثم ترتفع. قال معناه قتادة ومقاتل وغيرهما. وقيل: الابل هنا القطع العظيمة من السحاب، قاله المبرد. قال الثعلبي: وقيل في الابل هنا: السحاب، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الائمة. قلت: قد ذكر الاصمعي أبو سعيد عبد الملك بن قريب، قال أبو عمرو: من قرأها " أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت " بالتخفيف: عنى به البعير، لانه من ذوات الاربع، يبرك فتحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الاربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم. ومن قرأها بالتثقيل فقال: " الابل " (1)، عني بها السحاب التي تحمل الماء والمطر. وقال الماوردي: وفي الابل وجهان: أحدهما: وهو أظهرهما وأشهرهما: أنها الابل من النعم. الثاني: أنها السحاب. فإن كان المراد بها السحاب، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته، والمنافع العامة لجميع خلقه. وإن كان المراد بها الابل من النعم، فلان الابل أجمع للمنافع من سائر الحيوان، لان ضروبه أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة. والابل تجمع هذه الخلال الاربع، فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة فيها أتم. وقال الحسن: إنما خصها الله بالذكر لانها تأكل النوى والقت، وتخرج اللبن. وسئل الحسن أيضا عنها وقالوا: الفيل أعظم في الاعجوبة: فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه، ولا يركب ظهره، ولا يحلب (1) في البحر المحيط: (قرأ الجمهور بكسر الباء وتخفيف اللام. الاصمعي عن أبي عمرو وبإسكان الباء. وعلى وابن عباس بشد اللام، ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي، وقالوا إنها السحاب). (*)
[ 36 ]
دره. وكان شريح يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة (1) حتى ننظر إلى الابل كيف خلقت. والابل: لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة، لان أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظا، إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها دخلتها الهاء، فقلت: أبيلة وغنيمة، ونحو ذلك. وربما قالوا للابل: إبل، بسكون الباء للتخفيف، والجمع: آبال. قوله تعالى: وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الارض كيف سطحت (20) قوله تعالى: (وإلى السماء كيف رفعت) أي رفعت عن الارض بلا عمد. وقيل: رفعت، فلا ينالها شئ. (وإلى الجبال كيف نصبت) أي كيف نصبت على الارض، بحيث لا تزول، وذلك أن الارض لما دحيت مادت، فأرساها بالجبال. كما قال: " وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم " (2) [ الانبياء: 31 ]. (وإلى الارض كيف سطحت) أي بسطت ومدت. وقال أنس: صليت خلف علي رضي الله عنه، فقرأ " كيف خلقت " و " رفعت " و " نصبت " و " سطحت "، بضم التاءات، أضاف الضمير إلى الله تعالى. وبه كان يقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية، والمفعول محذوف، والمعنى خلقتها. وكذلك سائرها. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو رجاء: " سطحت " بتشديد الطاء وإسكان التاء. وكذلك قرأ الجماعة، إلا أنهم خففوا الطاء. وقدم الابل في الذكر، ولو قدم غيرها لجاز. قال القشيري: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة. وقد قيل: هو أقرب إلى الناس في حق العرب، لكثرتها عندهم، وهم من أعرف الناس بها. وأيضا: مرافق الابل أكثر من مرافق الحيوانات الاخر، فهي مأكولة، ولبنها مشروب، وتصلح للحمل والركوب، وقطع المسافات البعيدة عليها، والصبر على العطش، وقلة العلف، وكثرة الحمل، وهي معظم أموال العرب. وكانوا يسيرون على الابل منفردين مستوحشين عن الناس، ومن هذا حاله تفكر فيما يحضره، فقد ينظر (1) الكناسة: سوق الكوفة ترد إليها الابل بأحمال البضائع، أو تصدر عنها، وهي كالمربد للبصرة. (2) آية 31 سورة الانبياء. (*)
[ 37 ]
في مركوبه، ثم يمد بصره إلى السماء ثم إلى الارض. فأمروا بالنظر في هذه الاشياء، فإنها أدل دليل على الصانع المختار القادر. قوله تعالى: فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22) إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه العذاب الاكبر (24) إن إلينا إيابهم (25) ثم إن علينا حسابهم (26) قوله تعالى: " فذكر " أي فعظهم يا محمد وخوفهم. " إنما أنت مذكر " أي واعظ. (لست عليهم بمصيطر) أي بمسلط عليهم فتقتلهم. ثم نسختها آية السيف. وقرأ هارون الاعور " بمسيطر " (بفتح الطاء)، و " المصيطرون " (1) [ الطور: 37 ]. وهي لغة تميم. وفي الصحاح: " المسيطر والمصيطر: المسلط على الشئ، ليشرف عليه، ويتعهد أحواله،. ويكتب عمله، وأصله من السطر، لان (2) من معنى السطر ألا يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر، يقال: سيطرت علينا، وقال تعالى: " لست عليهم بمسيطر ". وسطره أي صرعه. (إلا من تولى وكفر) استثناء منقطع، أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير. (فيعذبه الله العذاب الاكبر) وهي جهنم الدائم عذابها. وإنما قال: " الاكبر " لانهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والاسر والقتل. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود: " إلا من تولى وكفر فإنه يعذبه الله ". وقيل: هو استثناء متصل. والمعنى: لست بمسلط إلا على من تولى وكفر، فأنت مسلط عليه بالجهاد، والله يعذبه بعد ذلك العذاب الاكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير. وروي أن عليا أتى برجل ارتد، فاستتابه ثلاثة أيام، فلم يعاود الاسلام، فضرب عنقه، وقرأ " إلا من تولى وكفر ". وقرا ابن عباس وقتادة " ألا " على الاستفتاح والتنبيه، كقول أمرئ القيس: * ألا رب يوم لك منهن صالح (3) * (1) آية 37 سورة الطور. وقد أورده صاحب اللسان وشرحه. (2) كذا في نسخ الاصل وتفسير ابن عادل نقلا عن القرطبي. والذي في الصحاح: (وأصله من السطر، لان الكتاب مسطر...). (3) تمامه: * ولا سيما يوم بدارة جلجل * (*)
[ 38 ]
و " من " على هذا: للشرط. والجواب " فيعذبه الله " والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير: فهو يعذبه الله، لانه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان: إلا من تولى وكفر يعذبه الله. (إن إلينا إيابهم) أي رجوعهم بعد الموت. يقال: آب يئوب، أي رجع. قال عبيد: * وكل ذي غيبة يئوب * وغائب الموت لا يئوب * وقرأ أبو جعفر " إيابهم " بالتشديد. قال أبو حاتم: لا يجوز التشديد، ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام. وقيل: هما لغتان بمعنى. الزمخشري: وقرأ أبو جعفر المدني " إيابهم " بالتشديد، ووجهه أن يكون فيعالا: مصدر أيب، قيل من الاياب. أو أن يكون أصله إوابا فعالا من أوب، ثم قيل: إيوابا كديوان في دوان. ثم فعل ما فعل بأصل سيد ونحوه. سورة " الفجر " مكية، وهي ثلاثون آية (1) بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والفجر (1) وليال عشر (2) قوله تعالى: (والفجر) أقسم بالفجر. " وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر " أقسام خمسة. واختلف في " الفجر "، فقال قوم: الفجر هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم، قاله علي وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم. وعن ابن عباس أيضا أنه النهار كله، وعبر عنه بالفجر لانه أوله. وقال ابن محيصن عن عطية عن ابن عباس (2): يعني الفجر يوم المحرم. ومثله قال قتادة. قال: هو فجر أول يوم من المحرم، منه تنفجر السنة. (1) في بعض نسخ الاصل: " سبع وعشرون " وفي بعضها: " تسع وعشرون ". (2) في بعض النسخ: " ابن مسعود ". (*)
[ 39 ]
وعنه أيضا: صلاة الصبح. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: " والفجر ": يريد صبيحة يوم النحر، لان الله تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله، إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده، لان يوم عرفة له ليلتان: ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة، فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر، فجر يوم النحر. وهذا قول مجاهد. وقال عكرمة: " والفجر " قال: انشقاق الفجر من يوم جمع (1). وعن محمد بن كعب القرظي: " والفجر " آخر أيام العشر، إذا دفعت من جمع. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، لان الله تعالى قرن الايام به فقال: " وليال عشر " أي ليال عشر من ذي الحجة. وكذا قال مجاهد والسدي والكلبي في قوله: " وليال عشر " هو عشر ذي الحجة، وقال ابن عباس. وقال مسروق هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام " وأتممناها بعشر " (2) [ الاعراف: 142 ]، وهي أفضل أيام السنة. وروى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والفجر. وليال عشر " - قال: [ عشر الاضحى ] فهي ليال عشر على هذا القول، لان ليلة يوم النحر داخلة فيه، إذ قد خصها الله بأن جعلها موقفا لمن لم يدرك الوقوف يوم عرفة. وإنما نكرت ولم تعرف لفضيلتها على غيرها (3)، فلو عرفت لم تستقبل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به، للفضيلة التي ليست لغيرها. والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا: هي العشر الاواخر من رمضان، وقاله الضحاك. وقال ابن عباس أيضا ويمان والطبري: هي العشر الاول من المحرم، التي عاشرها يوم عاشوراء. وعن ابن عباس " وليال عشر " (4) (بالاضافة) يريد: وليالي أيام عشر (5). قوله تعالى: والشفع والوتر (3) الشفع: الاثنان، والوتر: الفرد. وأختلف في ذلك، فروي مرفوعا عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الشفع والوتر: الصلاة، منها شفع، ومنها وتر). (1) جمع: هي مزدلفة. (2) آية 142 سورة الاعراف. (3) في الجمل عن القرطبي: لانها أفضل أيام السنة. (4) في تفسير الالوسي: " وقرأ ابن عباس بالاضافة نضبطه بعضهم (وليال عشر) بلام دون ياء، وبعضهم (وليالي) بالياء، وهو القياس). (5) قال الامام محمد عبده في تفسيره: هي عشر الليالى في أول كل شهر. (*)
[ 40 ]
وقال جابر بن عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (" والفجر وليال عشر " - قال: هو الصبح، وعشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع: يوم النحر). وهو قول ابن عباس وعكرمة. واختاره النحاس، وقال: حديث أبي الزبير عن جابر هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين. فيوم عرفة وتر، لانه تاسعها، ويوم النحر شفع لانه عاشرها. وعن أبي أيوب قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: " والشفع والوتر " فقال: (الشفع: يوم عرفة ويوم النحر، والوتر ليلة يوم النحر). وقال مجاهد وابن عباس أيضا: الشفع خلقه، قال الله تعالى: " وخلقناكم أزواجا " (1) [ النبأ: 8 ] والوتر هو الله عزوجل. فقيل لمجاهد: أترويه عن أحد ؟ قال: نعم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونحوه قال محمد بن سيرين ومسروق وأبو صالح وقتادة، قالوا: الشفع: الخلق، قال الله تعالى: " ومن كل شئ خلقنا زوجين " (2) [ الذاريات: 49 ]: الكفر والايمان.، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والارض، والجن والانس. والوتر: هو الله عزوجل، قال جل ثناؤه: " قل هو الله أحد. الله الصمد " [ الاخلاص: 2 ]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن لله تسعة وتسعين اسما، والله وتر يحب الوتر ]. وعن ابن عباس أيضا: الشفع: صلاة الصبح " والوتر: صلاة المغرب. وقال الربيع بن أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب، الشفع فيها ركعتان، والوتر الثالثة. وقال ابن الزبير: الشفع: يوما منى: الحادي عشر، والثاني عشر. والثالث عشر الوتر، قال الله تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه: ومن تأخر فلا إثم عليه " (3). وقال الضحاك: الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة. وهو قول عطاء. وقيل: إن الشفع والوتر: آدم وحواء، لان آدم كان فردا فشفع بزوجته حواء، فصار شفعا بعد وتر. رواه ابن أبي نجيح، وحكاه القشيري عن ابن عباس. وفي رواية: الشفع: آدم وحواء، والوتر هو الله تعالى. وقيل: الشفع والوتر: الخلق، لانهم شفع ووتر، (1) آية 8 سورة النبأ. (2) آية 49 سورة الذارايات. (3) آية 203 سورة البقرة. (*)
[ 41 ]
فكأنه أقسم بالخلق. وقد يقسم الله تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته، كما قال تعالى: " وما خلق الذكر والانثى " (1) [ الليل: 3 ]. ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه، كما قال: " والشمس وضحاها "، " والسماء وما بناها " [ الشمس: 5 ]، " والسماء والطارق " [ الطارق: 1 ]. وقيل: الشفع: درجات الجنة، وهي ثمان. والوتر، دركات النار، لانها سبعة. وهذا قول الحسين بن الفضل، كأنه أقسم بالجنة والنار. وقيل: الشفع: الصفا والمروة، والوتر: الكعبة. وقال مقاتل بن حيان: الشفع: الايام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينه: الوتر: هو الله، وهو الشفع أيضا، لقوله تعالى: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " (2) [ المجادلة: 7 ]. وقال أبو بكر الوراق: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين: العز والذل، والقدرة والعجز، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والحياة والموت، والبصر والعمى، والسمع والصمم، والكلام والخرس. والوتر: انفراد صفات الله تعالى: عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، وبصر بلا عمى، وكلام بلا خرس، وسمع بلا صمم، وما وازاها. وقال الحسن: المراد بالشفع والوتر: العدد كله، لان العدد لا يخلو عنهما، وهو إقسام بالحساب. وقيل: الشفع: مسجدي مكة والمدينة، وهما الحرمان. والوتر: مسجد بيت المقدس. وقيل: الشفع: القرن بين الحج والعمرة، أو التمتع بالعمرة إلى الحج. والوتر: الافراد فيه. وقيل: الشفع: الحيوان، لانه ذكر وأنثى. والوتر: الجماد. وقيل: الشفع: ما ينمي، والوتر: ما لا ينمي. وقيل غير هذا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والكسائي وحمزة وخلف " والوتر " بكسر الواو. والباقون [ بفتح الواو ]، وهما لغتان بمعنى واحد. وفي الصحاح: الوتر (بالكسر): الفرد، والوتر [ بفتح الواو ]: (3) الذحل. هذه لغة أهل العالية. فأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم. فأما تميم فبالكسر فيهما. (1) آية 3 سورة الليل. (2) آية 7 سورة المجادلة. (3) الذحل: الحقد والعداوة. (*)
[ 42 ]
قوله تعالى: والليل إذا يسر (4) هل في ذلك قسم لذي حجر (5) قوله تعالى: (والليل إذا يسرى) وهذا قسم خامس. وبعد ما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل على العموم. ومعنى " يسري " أي يسرى فيه، كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم. قال: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي (1) بنائم ومنه قوله تعالى: " بل مكر الليل والنهار " (2) [ سبأ: 33 ]. وهذا قول أكثر أهل المعاني، وهو قول القتبي والاخفش. وقال أكثر المفسرين: معنى " يسري ": سار فذهب. وقال قتادة وأبو العالية: جاء وأقبل. وروي عن إبراهيم: " والليل إذا يسر " قال: إذا استوى. وقال عكرمة والكلبي ومجاهد ومحمد بن كعب في قوله: " والليل ": هي ليلة المزدلفة خاصة، لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله. وقيل: ليلة القدر، لسراية الرحمة فيها، واختصاصها بزيادة الثواب فيها. وقيل: إنه أراد عموم الليل كله. قلت: وهو الاظهر، كما تقدم. والله أعلم. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب " يسري " بإثبات الياء في الحالين، على الاصل، لانها ليست بمجزومة، فثبتت فيها الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباتها في الوصل، وبحذفها في الوقف، وروي عن الكسائي. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول مرة بإثبات الياء في الوصل، وبحذفها في الوقف، اتباعا للمصحف. ثم رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا، لانه رأس آية، وهي قراءة أهل الشام والكوفة، واختيار أبي عبيد، اتباعا للخط، لانها وقعت في المصحف بغير ياء. قال الخليل: تسقط الياء منها اتفاقا لرؤوس الآي. قال الفراء: قد تحذف العرب الياء، وتكتفي بكسر ما قبلها. وأنشد بعضهم: كفاك كف ما تليق درهما * جودا وأخرى تعط بالسيف الدما (3) (1) هذا البيت من قصيدة لجرير يرد بها على الفرزدق. (2) آية 33 سورة سبأ. (3) البيت في (اللسان: لپق) غير منسوب لقائله. وفي تفسير الطبري (طبعة الحلبي 12 / 116). (*)
[ 43 ]
يقال: فلان ما يليق درهما من جوده، أي ما يمسكه، ولا يلصق به. وقال المؤرج: سألت الاخفش عن العلة في إسقاط الياء من " يسر " فقال: لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة، فبت على باب داره سنة، فقال: الليل لا يسري وإنما يسرى فيه، فهو مصروف، وكل ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه، ألا ترى إلى قوله تعالى: " وما كانت أمك بغيا " (1) [ مريم: 28 ]، ولم يقل بغية، لانه صرفها عن باغية. الزمخشري: وياء " يسري " تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة. وهذه الاسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، وهو ليعذبن، يدل عليه قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك - إلى قوله تعالى - فصب عليهم ربك سوط عذاب " [ الفجر: 6 - 13 ]. وقال ابن الانباري هو " إن ربك لبالمرصاد " [ الفجر: 14 ]. وقال مقاتل: " هل " هنا في موضع إن، تقديره: إن في ذلك قسما لذي حجر. ف‍ " هل " على هذا، في موضع جواب القسم. وقيل: هي على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك، إذا كنت قد أنعمت. وقيل: المراد بذلك التأكيد لما أقسم به وأقسم عليه. والمعنى ": بل في ذلك مقنع لذي حجر. والجواب على هذا: " إن ربك لبالمرصاد " [ الفجر: 14 ]. أو مضمر محذوف. ومعنى (لذي حجر) أي لذي لب وعقل. قال الشاعر: وكيف يرجى أن تتوب وإنما * يرجى من الفتيان من كان ذا حجر كذا قال عامة المفسرين، إلا أن أبا مالك قال: " لذي حجر ": لذي ستر من الناس. وقال الحسن: لذي حلم. قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حجر، ولذي عقل، ولذي حلم، ولذي ستر، الكل بمعنى العقل. وأصل الحجر: المنع. يقال لمن ملك نفسه ومنعها: إنه لذو حجر، ومنه سمي الحجر، لامتناعه بصلابته: ومنه حجر الحاكم على فلان، أي منعه وضبطه عن التصرف، ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها. وقال الفراء: العرب تقول: إنه لذو حجر: إذا كان قاهرا لنفسه، ضابطا لها، كأنه أخذ من حجرت على الرجل. (1) آية 28 سورة مريم. (*)
[ 44 ]
قوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك) أي مالكك وخالقك. " بعاد. إرم " قراءة العامة " بعادر " منونا. وقرأ الحسن وأبو العالية " بعاد إرم " مضافا. فمن لم يضف جعل " إرم " اسمه، ولم يصرفه، لانه جعل عادا اسم أبيهم، وإرم اسم القبيلة، وجعله بدلا منه، أو عطف بيان. ومن قرأه بالاضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم. وتقديره: بعاد أهل إرم. كقوله: " واسأل القرية " [ يوسف: 82 ] ولم تنصرف - قبيلة كانت أو أرضا - للتعريف والتأنيث. وقراءة العامة " إرم " بكسر الهمزة. وعن الحسن أيضا " بعاد إرم " مفتوحتين، وقرئ " بعاد إرم " بسكون الراء، على التخفيف، كما قرئ " بورقكم ". وقرئ " بعاد إرم ذات العماد " بإضافة " إرم " - إلى - " ذات العماد ". والارم: العلم. أي بعاد أهل ذات العلم. وقرئ " بعاد إرم ذات العماد " أي جعل الله ذات العماد رميما. وقرأ مجاهد والضحاك وقتادة " أرم " بفتح الهمزة. قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام، التي هي الاعلام، واحدها: أرم. وفي الكلام تقديم وتأخير، أي والفجر وكذا وكذا إن ربك لبالمرصاد ألم تر. أي ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد. وهذه الرؤية رؤية القلب، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد عام. وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهورا، إذ كانوا في بلاد العرب، وحجر ثمود موجود اليوم. وأمر فرعون كانوا يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الاخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب. وقد تقدم هذا المعنى في سورة " البروج " (1) وغيرها " بعاد " أي بقوم عاد. فروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: إن كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من حجارة، ولو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الامة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الارض فتدخل فيها. و " إرم ": قيل هو سام بن نوح، قاله ابن إسحاق. وروى عطاء عن ابن عباس - وحكى عن ابن إسحاق (1) راجع ج 19 ص 295 (*)
[ 45 ]
أيضا - قال: عاد بن إرم. فإرم على هذا أبو عاد، وعاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح. وعلى القول الاول: هو اسم جد عاد. قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد، منهم إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام. فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك الطغاة والعصاة. وقال مجاهد: " إرم " أمة من الامم. وعنه أيضا: أن معنى إرم: القديمة، ورواه ابن أبي نجيح. وعن مجاهد أيضا أن معناها القوية (1). وقال قتادة: هي قبيلة من عاد. وقيل: هما عادان. فالاولى هي إرم، قال الله عزوجل: " وأنه أهلك عادا الاولى " (2) [ النجم: 50 ]. فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد، كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للاولين منهم: عاد الاولى، وإرم: تسمية لهم باسم جدهم. ولمن بعدهم: عاد الاخيرة. قال ابن الرقيات: مجدا تليدا بناه أولهم * أدرك عادا وقبله إرما وقال معمر: " إرم ": إليه مجمع عاد وثمود. وكان يقال: عاد إرم، وعاد ثمود. وكانت القبائل تنتسب إلى إرم. " ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد " قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل منهم طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم طوله ثلثمائة ذراع بذراع نفسه. وروي عن ابن عباس أيضا أن طول الرجل منهم كان سبعين ذراعا. ابن العربي: وهو باطل، لان في الصحيح: " إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا في الهواء، فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن ]. وزعم قتادة: أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعا. قال أبو عبيدة: " ذات العماد " ذات الطول. يقال: رجل معمد إذا كان طويلا. ونحوه عن ابن عباس ومجاهد. وعن قتادة أيضا: كانوا عمادا لقومهم، يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي سيدهم. وعنه أيضا: قيل لهم ذلك، لانهم كانوا ينتقلون بأبياتهم للانتجاع، وكانوا أهل خيام وأعمدة، ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلا، ثم يرجعون إلى منازلهم. وقيل: " ذات العماد " أي ذات الابنية المرفوعة على العمد. وكانوا ينصبون الاعمدة، فيبنون عليها القصور. قال ابن زيد: (1) في بعض النسخ: (القرية). (2) آية 50 سورة النجم. (*)
[ 46 ]
" ذات العماد " يعني إحكام البنيان بالعمد. وفي الصحاح: والعماد: الابنية الرفيعة، تذكر وتؤنث. قال عمرو بن كلثوم: ونحن إذا عماد الحي خرت * على الاحفاض نمنع من يلينا والواحدة عمادة. وفلان طويل العماد: إذا كان منزله معلما لزائره. والاحفاض: جمع حفض (بالتحريك) وهو متاع البيت إذا هيئ ليحمل، أي خرت على المتاع. ويروى، عن " الاحفاض " أي خرت عن الابل التي تحمل خرثي (1) البيت. وقال الضحاك: " ذات العماد " ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الاعمدة، دليله قوله تعالى: " وقالوا من أشد منا قوة " (2) [ فصلت: 15 ]. وروى عوف عن خالد الربعي " إرم ذات العماد " قال: هي دمشق. وهو قول عكرمة وسعيد المقبري. رواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وقال محمد بن كعب القرظي: هي الاسكندرية. قوله تعالى: التي لم يخلق مثلها في البلاد (8) لضمير في " مثلها " يرجع إلى القبيلة. أي لم يخلق مثل القبيلة في البلاد: قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة، عن الحسن وغيره. وفي حرف عبد الله " التي لم يخلق مثلهم في البلاد ". وقيل: يرجع للمدينة. والاول أظهر، وعليه الاكثر، حسب ما ذكرناه. ومن جعل " إرم " مدينة قدر حذفا، المعنى: كيف فعل ربك بمدينة عاد إرم، أو بعد صاحبه إرم. وإرم على هذا: مؤنثة معرفة. واختار ابن العربي أنها دمشق، لانه ليس في البلاد مثلها. ثم أخذ ينعتها بكثرة مياهها وخيراتها. ثم قال: وإن في الاسكندرية لعجائب، لو لم يكن إلا المنارة، فإنها مبنية الظاهر والباطن على العمد، ولكن لها أمثال، فأما دمشق فلا مثل لها. وقد روى معن عن مالك أن كتابا وجد بالاسكندرية، فلم يدر ما هو ؟ فإذا فيه: " أنا شداد ابن عاد، الذي رفع العماد، بنيتها حين لا شيب ولا موت. قال مالك: إن كان لتمر بهم (1) الخرثى ككرسي: سقط متاع البيت وأثاثه (أردؤه). (2) آية 15 سورة فصلت. (*)
[ 47 ]
مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وذكر عن ثور بن زيد (1) أنه قال: أنا شداد بن عاد، وأنا رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي بطن الواد، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد، وخلص الامر لشداد فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبنى مثلها. فبنى إرم في بعض صحاري عدن، في ثلثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة. وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها (2) من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الاشجار والانهار المطردة (3). ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب (4) فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا والله ذلك الرجل. وقيل: أي لم يخلق مثل أبنية عاد المعروفة بالعمد. فالكناية للعماد. والعماد على هذا: جمع عمد. وقيل: الارم: الهلاك، يقال: أرم بنو فلان: أي هلكوا (5)، وقاله ابن عباس. وقرأ الضحاك: " أرم (6) ذات العماد "، أي أهلكهم، فجعلهم رميما (7). قوله تعالى: وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) ثمود: هم قوم صالح. و " جابوا ": قطعوا. ومنه: فلان يجوب البلاد، أي يقطعها. وإنما سمي جيب القميص لانه جيب، أي قطع. قال الشاعر وكان قد نزل على ابن الزبير بمكة، فكتب له بستين وسقا يأخذها بالكوفة. فقال: (1) في الاصول: " يزيد " وهو تحريف. (2) الاساطين: جمع الاسطوانة، وهي العمود والسارية. (3) أي الجارية. (4) يريد: كعبا الحبر: عالم أهل الكتاب. (5) حكاه الطبري. (6) كذا بفتح الهمزة والراء. حكاه الشوكاني في فتح القدير (5 / 432). (7) قوله (جعلهم رميما) بيان للمعنى، وليس تفسيرا للاشتقاق. (*)
[ 48 ]
راحت رواحا قلوصي وهي حامد * آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا راحت بستين وسقا في حقيبتها * ما حملت حملها الادنى ولا السددا ما إن رأيت قلوصا قبلها حملت * ستين وسقا ولا جابت به بلدا أي قطعت. قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام: ثمود. فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف، كلها من الحجارة. وقد قال تعالى: " وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين " (1) [ الحجر: 82 ]. وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال، ويجعلونها بيوتا لانفسهم. " بالوادي " أي بوادي القرى، قاله محمد بن إسحاق. وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك على واد ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال: [ أسرعوا السير، فإنكم في واد ملعون ]. وقيل: الوادي بين جبال، وكانوا ينقبون في تلك الجبال بيوتا ودورا وأحواضا. وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل ومنفذا فهو واد. قوله تعالى: وفرعون ذي الاوتاد (10) أي الجنود والعساكر والجموع والجيوش التي تشد ملكه، قاله ابن عباس. وقيل: كان يعذب الناس بالاوتاد، ويشدهم بها إلى أن يموتوا، تجبرا منه وعتوا. وهكذا فعل بامرأته آسية وماشطة ابنته، حسب ما تقدم في آخر سورة " التحريم " (2). وقال عبد الرحمن بن زيد: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ الانسان فتوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه فتشدخه. وقد مضى في سورة " ص " (3) من ذكر أوتاده ما فيه كفاية. والحمد لله. قوله تعالى: الذين طغوا في البلاد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13) (1) آية 82 سورة الحجر. (2) راجع ج 18 ص 202 (3) راجع ج 15 ص 154 (*)
[ 49 ]
قوله تعالى: (الذين طغوا في البلاد) يعني عادا وثمودا وفرعون " طغوا " أي تمردوا وعتوا وتجاوزوا القدر في الظلم والعدوان. (فأكثروا فيها الفساد) أي الجور والاذى. و " الذين طغوا " أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم. ويجوز أن يكون مرفوعا على: هم الذين طغوا، أو مجرورا على وصف المذكورين: عاد، وثمود، وفرعون. (فصب عليهم سوط عذاب) أي أفرغ عليهم وألقى، يقال: صب على فلان خلعة، أي ألقاها عليه. وقال النابغة: فصب (2) عليه الله أحسن صنعه * وكان له بين البرية ناصرا (سوط عذاب) أي نصيب عذاب. ويقال: شدته، لان السوط كان عندهم نهاية ما يعذب به. قال الشاعر: ألم تر أن الله أظهر دينه * وصب على الكفار سوط عذاب وقال الفراء: وهي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب. وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب، إذ كان فيه عندهم غاية العذاب. وقيل. معناه عذاب يخالط اللحم والدم، من قولهم: ساطه يسوطه سوطا أي خلطه، فهو سائط. فالسوط: خلط الشئ بعضه ببعض، ومنه سمي المسواط. وساطه (3) أي خلطه، فهو سائط، وأكثر ذلك يقال: سوط فلان أموره. قال: فسطها ذميم الرأي غير موفق * فلست على تسويطها بمعان قال أبو زيد: يقال أموالهم سويطة بينهم، أي مختلطة. حكاه عنه يعقوب. وقال الزجاج: أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب. يقال: ساط دابته يسوطها، أي ضربها (1) اختلف في (ثمود) فمنهم من صرفه ومنهم من لم يصرفه، فمن صرفه ذهب به إلى الحي لانه اسم عربي مذكر سمى بمذكر. ومن لم يصرفه ذهب به إلى القبيلة وهي مؤنثة. (2) الرواية في البيت كما في ديوانه وشعراء النصرانية: * ورب عليه الله... الخ * قال البطليوسى شارح الديوان: ربه أتمه. وأصله أن يقال: رببت معروفي عند فلان أربه ربا: إذا أدمته عليه وتممته لديه. و (رب عليه): دعاء معطوف على ما قبله. وهو مدح في النعمان. وعلى هذه الرواية لا شاهد في البيت. (3) في الاصل: (سوطه) بصيغة المصدر. وصيغة الفعل الثلاثي الماضي أمكن هنا. (*)
[ 50 ]
بسوطه. وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطا كثيرة، فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شئ عذب الله تعالى به فهو سوط عذاب. قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد (14) أي يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به، قاله الحسن وعكرمة. وقيل: أي على طريق العباد لا يفوته أحد. والمرصد والمرصاد: الطريق. وقد مضى في سورة " براءة " (1) والحمد لله. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: إن على جهنم سبع قناطر، يسأل الانسان عند أول قنطرة عن الايمان، فإن جاء به تاما جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يسأل عن الصلاة، فإن جاء بها جاز إلى الثالثة، ثم يسأل عن الزكاة، فإن جاء بها جاز إلى الرابعة. ثم يسأل عن صيام شهر رمضان، فإن جاء به جاز إلى الخامسة. ثم يسأل عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما جاز إلى السادسة. ثم يسأل عن صلة الرحم، فإن جاء بها جاز إلى السابعة. ثم يسأل عن المظالم، وينادي مناد: ألا من كانت له مظلمة فليأت، فيقتص للناس منه، يقتص له من الناس، فذلك قوله عزوجل: " إن ربك لبالمرصاد ". وقال الثوري: " لبالمرصاد " يعني جهنم، عليها ثلاث قناطر: قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها الامانة، وقنطرة فيها الرب تبارك وتعالى. قلت: أي حكمته وإرادته وأمره. والله أعلم. وعن ابن عباس، أيضا " لبالمرصاد " أي يسمع ويرى. قلت: هذا قول حسن، " يسمع " أقوالهم ونجواهم، و " يرى " أي يعلم أعمالهم وأسرارهم، فيجازي كلا بعمله. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك ؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه الآية، فقال: " إن ربك لبالمرصاد " يا أبا جعفر ! قال الزمخشري: عرض له في هذا النداء، بأنه بعض من (1) راجع ج 8 ص 73 (*)
[ 51 ]
توعد بذلك من الجبابرة، فلله دره. أي أسد فراس كان بين يديه ؟ (1) يدق الظلمة بإنكاره، ويقمع (2) أهل الاهواء والبدع باحتجاجه ! قوله تعالى: فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهنن (16) قوله تعالى: (فأما الانسان) يعني الكافر. قال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وأبا حذيفة بن المغيرة. وقيل: أمية بن خلف. وقيل: أبي بن خلف. (إذا ما ابتلاه ربه) أي امتحنه واختبره بالنعمة. و " ما ": زائدة صلة. (فأكرمه) بالمال. (ونعمه) بما أوسع عليه. (فيقول ربي أكرمني) فيفرح بذلك ولا يحمده. (وأما إذا ما ابتلاه) أي امتحنه بالفقر واختبره. (فقدر) أي ضيق (عليه رزقه) على مقدار البلغة. (فيقول ربي أهانن) أي أولاني هوانا. وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته. فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره. قلت: الآيتان صفة كل كافر. وكثير من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا لم يعطينه الله. وكذا إن قتر عليه يظن أن ذلك لهوانه على الله. وقراءة العامة " فقدر " مخففة الدال. وقرأ ابن عامر مشددا، وهما لغتان. والاختيار التخفيف، لقوله: " ومن قدر عليه رزقه " (2) [ الطلاق: 7 ]. قال أبو عمرو: " قدر " أي قتر. و " قدر " مشددا: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال " ربي أهانن ". وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو " ربي " بفتح الياء في الموضعين. وأسكن الباقون. وأثبت البزي (1) في بعض الاصول والزمخشري: " ثوبيه ". (2) آية 7 سورة الطلاق. (*)
[ 52 ]
وابن محيصن ويعقوب الياء من " أكرمن "، و " أهانن " في الحالين، لانها اسم فلا تحذف. وأثبتها المدنيون في الوصل دون الوقف اتباعا للمصحف. وخير أبو عمرو في إثباتها في الوصل أو حذفها، لانها رأس آية، وحذفها في الوقف لخط المصحف. الباقون بحذفها، لانها وقعت في الموضعين بغير ياء، والسنة ألا يخالف خط المصحف، لانه إجماع الصحابة. قوله تعالى: كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المال حبا جما (20) قوله تعالى: (كلا) رد، أي ليس الامر كما يظن، فليس الغنى لفضله، ولا الفقر لهوانه، وإنما الفقر والغنى من تقديري وقضائي. وقال الفراء: " كلا " في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله عزوجل على الغنى والفقر. وفي الحديث: (يقول الله عزوجل: كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي). قوله تعالى: (بل لا تكرمون اليتيم) إخبار عن ما كانوا يصنعونه من منع اليتيم الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب " يكرمون "، و " يحضون " و " يأكلون "، و " يحبون " بالياء، لانه تقدم ذكر الانسان، والمراد به الجنس، فعبر عنه بلفظ الجمع. الباقون بالتاء في الاربعة، على الخطاب والمواجهة، كأنه قال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله كما ذكرنا. قال مقاتل: نزلت في قدامة بن مظعون وكان يتيما في حجر أمية بن خلف. (ولا تحضون على طعام المسكين) أي لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم. وقرأ الكوفيون " ولا تحاضون " بفتح التاء والحاء والالف. أي يحض بعضهم بعضا. وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها. وهو اختيار أبي عبيد. وروي عن إبراهيم والشيزري عن الكسائي والسلمي " تحاضون " بضم
[ 53 ]
التاء، وهو تفاعلون من الحض، وهو الحث. (وتأكلون التراث) أي ميراث اليتامى. وأصله الوراث من ورثت، فأبدلوا الواو تاء، كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة وتؤدة ونحو ذلك. وقد تقدم. (أكلا لما) أي شديدا، قاله السدي. قيل " لما ": جمعا، من قولهم: لممت الطعام لما إذا أكلته جمعا، قاله الحسن وأبو عبيدة. وأصل اللم في كلام العرب: الجمع، يقال: لممت الشئ ألمه لما: إذا جمعته، ومنه يقال: لم الله شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره. قال النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه * على شعث أي الرجال المهذب ومنه قولهم: إن دارك لمومة، أي تلم الناس وتربهم وتجمعهم. وقال المرناق (1) الطائي يمدح علقمة ابن سيف: لاحبني حب الصبي ولمني (2) * لم الهدي إلى الكريم الماجد وقال الليث: اللم الجمع الشديد، ومنه حجر ملموم، وكتيبة ملمومة. فالآكل يلم الثريد، فيجمعه لقما ثم يأكله. وقال مجاهد: يسفه سفا: وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. قال الحطيئة: إذا كان لما يتبع الذم ربه * فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا يعني أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم ونصيب غيرهم. وقال ابن زيد: هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله، ولا يفكر: أكل من خبيث أو طيب. قال: وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فيلم في الاكل بين حرامه وحلاله. ويجوز (1) كذا في نسخ الاصل ومعجم الشعراء للمرزباني. قال المرزباني: (وأحسبه لقبا). وفي لسان العرب: (قال فدكي بن أعبد يمدح...). وفي كتاب إشعار الحماسة: (وقال رجل من بهراء) واسمه فدكي يمدح...). (2) في اللسان والحماسة ومعجم الشعراء: (ورمني) بالراء بدل (ولمني) باللام، وعلى هذا لا شاهد فيه. وقوله (ورمني): أي أصلح حالي وشأني. و (الهدى): العروس تهدي إلى زوجها: فإذا زفت تكلف أهلها في حسن تجهيزها، لئلا يعير أهل زوجها خللا وقع في أمرها. (*)
[ 54 ]
أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعا، جامعا بين المشتهيات من الاطعمة والاشربة والفواكه، كما يفعل الوراث البطالون. (وتحبون المال حبا جما) أي كثيرا، حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال: جم الشئ يجم جموما، فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض: إذا اجتمع وكثر. وقال الشاعر: (1) إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما والجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه. والجموم: البئر الكثيرة الماء. والجموم (بالضم): المصدر، يقال: جم الماء يجم جموما: إذا كثر في البئر واجتمع، بعد ما استقي ما فيها. قوله تعالى: كلا إذا دكت الارض دكا دكا (21) قوله تعالى: " كلا " أي ما هكذا ينبغي أن يكون الامر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها، فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الارض، ينفع الندم. والدك: الكسر والدق، وقد تقدم (2). أي زلزلت الارض، وحركت تحريكا بعد تحريك. وقال الزجاج: أي زلزلت فدك بعضها بعضا. وقال المبرد: أي ألصقت وذهب ارتفاعها. يقال ناقة: دكاء، أي لا سنام لها، والجمع دك. وقد مضى في سورة " الاعراف " و " الحاقة " القول في هذا. ويقولون: دك الشئ أي هدم. قال: * هل غير غار (3) دك غارا فانهدم * " دكا دكا " أي مرة بعد مرة، زلزلت فكسر بعضها بعضا، فتكسر كل شئ على ظهرها. وقيل: دكت جبالها وأنشازها حتى استوت. وقيل: دكت أي استوت في الانفراش، فذهب دورها وقصورها وجبالها وسائر أبنيتها. ومنه سمي الدكان، لاستوائه في الانفراش. والدك: حط المرتفع من الارض بالبسط، وهو معنى قول ابن مسعود وابن عباس: تمد الارض مد الاديم. (1) هو أبوخراش الهذلي. (2) راجع ج 7 ص 278 وج 11 ص 63 وج 18 ص 264 (3) الغار: الجمع الكثير من الناس. (*)
[ 55 ]
قوله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا (22) وجائ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى (23) قوله تعالى: (وجاء ربك) أي أمره وقضاؤه، قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة، وهو كقوله تعالى: " إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " (1) [ البقرة: 210 ]، أي بظلل. وقيل: جعل مجئ الآيات مجيئا له، تفخيما لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث: (يا بن آدم، مرضت فلم تعدني، واستسقيتك فلم تسقني، واستطعمتك فلم تطعمني). وقيل: " وجاء ربك " أي زالت الشبه ذلك اليوم، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشك عند مجئ الشئ الذي كان يشك فيه. قال أهل الاشارة: ظهرت قدرته واستولت (2)، والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنى له التحول والانتقال، ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان، لان في جريان الوقت على الشئ فوت الاوقات، ومن فاته شئ فهو عاجز. قوله تعالى: (والملك) أي الملائكة. (صفا صفا) أي صفوفا. (وجئ يومئذ يجنهم): قال ابن مسعود ومقاتل: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، حتى تنصب عن يسار العرش. وفي صحيح، مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يؤتى بجهنم يومئذ، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ]. وقال أبو سعيد الخدري: لما نزلت " وجئ يومئذ بجهنم " تغير لون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف في وجهه. حتى اشتد على أصحابه، ثم قال: [ أقرأني جبريل " كلا إذا دكت الارض دكا دك - الآية - وجئ يومئذ بجهنم ]. قال علي رضي الله عنه: قلت يارسول الله، كيف يجاء بها ؟ قال: (تؤتى بها تقاد بسبعين ألف زمام، يقود بكل زمام سبعون ألف ملك، فتشرد شردة لو تركت لاحرقت أهل الجمع (1) آية 210 سورة البقرة. (2) في بعض الاصول: (واستوت). (*)
[ 56 ]
ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لي ولك يا محمد، إن الله قد حرم لحمك علي) فلا يبقى أحد إلا قال نفسي نفسي ! إلا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يقول: رب أمتي ! رب أمتي ! قوله تعالى: (يومئذ يتذكر الانسان) أي يتعظ ويتوب. وهو الكافر، أو من همته معظم (1) الدنيا. (وأنى له الذكرى) أي ومن أين له الاتعاظ والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا. ويقال: أي ومن أين له منفعة الذكرى. فلا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين " يومئذ يتذكر " وبين " وأنى له الذكرى " تناف، قاله الزمخشري. قوله تعالى: يقول ياليتني قدمت لحياتي (24) أي في حياتي. فاللام بمعنى في. وقيل: أي قدمت عملا صالحا لحياتي، أي لحياة لا موت فيها. وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة. قوله تعالى: فيومئذ لا يعذب عذابه أحد (25) ولا يوثق وثاقه أحد (26) قوله تعالى: (يومئذ لا يعذب عذابه أحد) أي لا يعذب كعذاب الله أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد. والكناية ترجع إلى الله تعالى. وهو قول ابن عباس والحسن. وقرأ الكسائي " لا يعذب " " ولا يوثق " بفتح الذال والثاء، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر. والمراد إبليس، لان الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا، لاجل إجرامه، فأطلق الكلام لاجل ما صحبه من التفسير. وقيل: إنه أمية ابن خلف، حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والاغلال كوثاقه أحد، لتناهيه في كفره وعناده. وقيل: أي لا يعذب مكانه (1) هكذا وردت في جميع نسخ الاصل. وفي تفسير ابن عادل: " ومن همته الدنيا ". (*)
[ 57 ]
أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب، والوثاق بمعنى الايثاق. ومنه قول الشاعر: * وبعد عطائك المائه الرتاعا (1) * وقيل: لا يعذب أحد ليس بكافر عذاب الكافر. واختار أبو عبيد وأبو حاتم فتح الذال والثاء. وتكون الهاء ضمير الكافر، لان ذلك معروف: أنه لا يعذب أحد كعذاب الله. وقد روى أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بفتح الذال والثاء. وروي أن أبا عمرو رجع إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءه الجماعة، أي لا يعذب أحد أحدا مثل تعذيب هذا الكافر، فتكون الهاء للكافر. والمراد ب‍ " - أحد " الملائكة الذين يتولون تعذيب أهل النار. قوله تعالى: يا أيها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28) فأدخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي (30) قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة) لما ذكر حال من كانت همته الدنيا فاتهم الله في إغنائه، وإفقاره، ذكر حال من اطمأنت نفسه إلى الله تعالى. فسلم لامره، واتكل عليه. وقيل: هو من قول الملائكة لاولياء الله عزوجل. والنفس المطمئنة: الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله ربها، فأخبتت لذلك، قاله مجاهد وغيره. وقال ابن عباس: أي المطمئنة بثواب الله. وعنه المؤمنة. وقال الحسن: المؤمنة الموقنة. وعن مجاهد أيضا: الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل: الآمنة من عذاب الله. وفي حرف أبي بن كعب " يأيتها النفس الآمنة المطمئنة ". وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله في كتابه. وقال ابن كيسان: المطمئنة هنا: المخلصة. (1) هذا عجز بيت للقطامي، من قصيدة مدح بها زفر بن الحارث، وصدره: * أكفرا بعد رد الموت عنى * والرتاع: الابل الراتعة. (*)
[ 58 ]
وقال ابن عطاء: العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين. وقيل: المطمئنة بذكر الله تعالى بيانه " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " (1) [ الرعد: 38 ]. وقيل: المطمئنة بالايمان، المصدقة بالبعث والثواب. وقال ابن زيد: المطمئنة لانها بشرت بالجنة عند الموت، وعند البعث، ويوم الجمع. وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: يعني نفس حمزة. والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع. قال الحسن البصري: إن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنت النفس إلى الله تعالى، واطمأن الله إليها. وقال عمرو بن العاص: إذا توفي المؤمن أرسل الله إليه ملكين، وأرسل معهما تحفة من الجنة، فيقولان لها: " اخرجي أيتها النفس المطمئنة راضية مرضية، ومرضيا عنك، اخرجي إلى روح وريحان، ورب راض غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك وجد أحد من أنفه على ظهر الارض. وذكر الحديث. وقال سعيد بن زايد: قرأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم " يا أيتها النفس المطمئنة "، فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول الله ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر ]. وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائر لم ير على خلقته طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر - لا يدري من تلاها -: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ". وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه حين وقف بئر رومة (2). وقيل: نزلت في بيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه إلى المدينة، فحول الله وجهه نحو القبلة. والله أعلم. معنى (إلى ربك) أي إلى صاحبك وجسدك، قاله ابن عباس وعكرمة وعطاء. واختاره الطبري، ودليله قراءة ابن عباس " فادخلي في عبدي " على التوحيد، فيأمر الله تعالى الارواح غدا أن ترجع إلى الاجساد. وقرأ ابن مسعود " في جسد عبدي ". وقال الحسن: ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وقال أبو صالح: المعنى: ارجعي إلى الله. وهذا عند الموت. (1) آية 38 سورة الرعد. (2) هي بئر بالمدينة. (*)
[ 59 ]
(فأدخلي في عبادي) أي في أجساد عبادي، دليله قراءة ابن عباس وابن مسعود. قال ابن عباس: هذا يوم القيامة، وقاله الضحاك. والجمهور على أن الجنة هي دار الخلود التي هي مسكن الابرار، ودار الصالحين والاخيار. ومعنى " في عبادي " أي في الصالحين من عبادي، كما قال: " لندخلنهم في الصالحين " (1) [ العنكبوت: 9 ]. وقال الاخفش: " في عبادي " أي في حزبي، والمعنى واحد. أي انتظمي في سلكهم. (وادخلي جنتي) معهم. سورة " البلد " مكية بأتفاق. وهي عشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: لا أقسم بهذا البلد (1) يجوز أن تكون " لا " زائدة، كما تقدم في " لا أقسم بيوم القيامة " [ القيامة: 1 ]، قاله الاخفش. أي أقسم، لانه قال: " بهذا البلد " وقد أقسم به في قوله: " وهذا البلد الامين " [ التين: 3 ] فكيف يجحد القسم به وقد أقسم به. قال الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة * وكاد صميم القلب لا يتقطع أي يتقطع، ودخل حرف " لا " صلة، ومنه قوله تعالى: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " (3) [ الاعراف: 12 ] بدليل قوله تعالى في [ ص ]: " ما منعك أن تسجد " (4). [ ص: 75 ]. وقرأ الحسن والاعمش وابن كثير " لاقسم " من غير ألف بعد اللام إثباتا. وأجاز الاخفش أيضا أن تكون بمعنى " ألا ". وقيل: ليست بنفي القسم، وإنما هو كقول العرب: لا والله لا فعلت كذا، ولا والله ما كان (1) آية 9 سورة العنكبوت. (2) راجع ج 19 ص 90 (3) آية 12 سورة الاعراف راجع ج 7 ص 170 (4) آية 75. (*)
[ 60 ]
كذا، ولا والله لافعلن كذا. وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه، بعد خروجك منه. حكاه مكي. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: " لا " رد عليهم. وهذا اختيار ابن العربي، لانه قال: وأما من قال إنها رد، فهو قول ليس له رد، لانه يصح به المعنى، ويتمكن اللفظ والمراد. فهو رد لكلام من أنكر البعث ثم ابتدأ القسم. وقال القشيري: قوله " لا " رد لما توهم الانسان المذكور في هذه السورة، المغرور بالدنيا. أي ليس الامر كما يحسبه، من أنه لن يقدر عليه أحد، ثم ابتدأ القسم. و " البلد ": هي مكة، أجمعوا عليه. أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك علي وحبي لك. وقال الواسطي أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا، وبركتك ميتا، يعني المدينة. والاول أصح، لان السورة نزلت بمكة باتفاق. قوله تعالى: وأنت حل بهذا البلد (2) يعني في المستقبل، مثل قوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون " (1). ومثله واسع (2) في كلام العرب. تقول لمن تعده الاكرام والحباء: أنت مكرم محبو. وهو في كلام الله واسع، لان الاحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة باتفاق مكية قبل الفتح. فروى منصور عن مجاهد: " وأنت حل " قال: ما صنعت فيه من شئ فأنت في حل. وكذا قال ابن عباس: أحل له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، فقتل ابن خطل (3) ومقيس بن صبابة وغيرهما. ولم يحل لاحد من الناس أن يقتل بها أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى السدي قال: أنت في حل ممن قاتلك أن تقتله. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: أحلت له ساعة من نهار، ثم أطبقت وحرمت إلى يوم القيامة، وذلك يوم فتح مكة. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم (1) آية 30 سورة الزمر. (2) في بعض نسخ الاصل: (شائع). (3) هو عبد الله، كان معلقا بأستار الكعبة فقتله أبوبرزة الاسلمي بأمر الرسول صلوات الله عليه. (*)
[ 61 ]
تحل لاحد قبلي، ولا تحل لاحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ] الحديث. وقد تقدم في سورة " المائدة " ابن زيد: لم يكن بها أحد حلالا غير النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: وأنت مقيم فيه وهو محلك. وقيل: وأنت فيه محسن، وأنا عنك فيه راض. وذكر أهل اللغة أنه يقال: رجل حل وحلال ومحل، ورجل حرام ومحل، ورجل حرام ومحرم. وقال قتادة: أنت حل به: لست بآثم. وقيل: هو ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم، أي إنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه، معرفة منك بحق هذا البيت، لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه. أي أقسم بهذا البيت المعظم الذي قد عرفت حرمته، فأنت مقيم فيه معظم له، غير مرتكب فيه ما يحرم عليك. وقال شرحبيل بن سعد: " وأنت حل بهذا البلد " أي حلال، أي هم يحرمون مكة أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا (1) بها شجرة، ثم هم مع هذا يستحلون إخراجك وقتلك. قوله تعالى: ووالد وما ولد (3) قال مجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح: " ووالد " آدم: عليه السلام. " وما ولد " أي وما نسل من ولده. أقسم بهم لانهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الارض، لما فيهم من التبيان والنطق والتدبير، وفيهم الانبياء والدعاة إلى الله تعالى. وقيل: هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته، وأما (2) غير الصالحين فكأنهم بهائم. وقيل: الوالد إبراهيم. وما ولد: ذريته، قاله أبوعمران الجوني. ثم يحتمل أنه يريد جميع ذريته. ويحتمل أنه يريد المسلمين من ذريته. قال الفراء: وصلحت " ما " للناس، كقوله: " ما طاب لكم " [ النساء: 3 ] وكقوله: " وما خلق الذكر والانثى " [ الليل: 3 ] وهو الخالق للذكر والانثى، وقيل: " ما " مع ما بعدها في موضع المصدر، أي ووالد وولادته، كقوله تعالى: " والسماء وما بناها ". وقال عكرمة وسعيد بن جبير: " ووالد " يعني الذي يولد له، " وما ولد " (1) عضد الشجرة وغيرها: قطعها بالمعضد والمعضد: سيف يمتهن في قطع الشجرة. (2) في بعض نسخ الاصل: (وأما الطالحون). (*)
[ 62 ]
يعني العاقر الذي لا يولد له، وقاله ابن عباس. و " ما " على هذا نفي. وهو بعيد، ولا يصح إلا بإضمار الموصول، أي ووالد والذي ما ولد، وذلك لا يجوز عند البصريين. وقيل: هو عموم في كل والد وكل مولود، قاله عطية العوفي. وروي معناه عن ابن عباس أيضا. وهو اختبار الطبري. قال الماوردي: ويحتمل أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم، لتقدم ذكره، وما ولد أمته: لقوله عليه السلام: [ إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ]. فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عليه السلام. قوله تعالى: لقد خلقنا الانسان في كبد (4) إلى هنا انتهى القسم، وهذا جوابه. ولله أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته لتعظيمها، كما تقدم. والانسان هنا ابن آدم. " في كبد " أي في شدة وعناء من مكابدة الدنيا. وأصل الكبد الشدة. ومنه تكبد اللبن: غلظ وخثر وأشتد. ومنه الكبد، لانه دم تغلظ واشتد. ويقال: كابدت هذا الامر: قاسيت شدته: قال لبيد: يا عين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام الخصوم في كبد قال ابن عباس والحسن: " في كبد " أي في شدة ونصب. وعن ابن عباس أيضا: في شدة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه، وغير ذلك من أحواله. وروى عكرمة عنه قال: منتصبا في بطن أمه. والكبد: الاستواء والاستقامة. فهذا امتنان عليه في الخلقة. ولم يخلق الله جل ثناؤه دابة في بطن أمها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم، فأنه منتصب انتصابا، وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما. ابن كيسان: منتصبا رأسه في بطن أمه، فإذا أذن الله أن يخرج من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وعنه أيضا: يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء، لانه لا يخلو من أحدهما. ورواه ابن عمر. وقال يمان: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق. قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا
[ 63 ]
قمط قماطا، وشد رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان، والاوجاع والاحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والاستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه (1)، ثم يكابد شغل الاولاد، والخدم والاجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الاضراس، ورمد العين، وغم الدين، ووجع السن، وألم الاذن. ويكابد محنا في المال والنفس، مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة، ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة وإما في النار، قال الله تعالى: " لقد خلقنا الانسان في كبد "، فلو كان الامر إليه لما اختار هذه الشدائد. ودل هذا على أن له خالقا دبره، وقضى عليه بهذه الاحوال، فليمتثل أمره. وقال ابن زيد: الانسان هنا آدم. وقوله: " في كبد " أي في وسط السماء. وقال الكلبي: إن هذا نزل في رجل من بني جمح، كان يقال له أبوالاشدين (2)، وكان يأخذ الاديم العكاظي فيجعله تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا. فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل " أيحسب أن لن يقدر عليه أحد " [ البلد: 5 ] يعني: لقوته. وروي عن ابن عباس. " في كبد " أي شديدا، يعني شديد الخلق، وكان من أشد رجال قريش. وكذلك ركانة ابن هشام بن عبد المطلب، وكان مثلا في البأس والشدة. وقيل: " في كبد " أي جرئ القلب، غليظ الكبد، مع ضعف خلقته، ومهانة مادته. ابن عطاء: في ظلمة وجهل. الترمذي: مضيعا ما يعنيه، مشتغلا بما لا يعنيه. (1) في نسخة من نسخ الاصل وحاشية الجمل: " ثم يكابد شغل التزيج والتعجيل فيه، والتزويج ". (2) كذا في نسخ الاصل. وفي الكشاف وروح المعاني والبيضاوي والثعلبي: " أبوالاشد ". (*)
[ 64 ]
قوله تعالى: أيحسب أن لن يقدر عليه أحد (5) يقول أهلكت مالا لبدا (6) أيحسب أن لم يره أحد (7) ألم نجعل له عينى (8) ولسانا وشفتين (9) قوله تعالى: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) أي أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عزوجل. (يقول أهلكت) أي أنفقت. (مالا لبدا) أي كثيرا مجتمعا. " أيحسب " أي أيظن. (أن لم يره) أي أن لم يعاينه " أحد " بل علم الله عزوجل ذلك منه، فكان كاذبا في قوله: أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال: يوقف العبد، فيقال ماذا عملت في المال الذي رزقتك ؟ فيقول: أنفقته وزكيته. فيقال: كأنك إنما فعلت ذلك ليقال سخي، فقد قيل ذلك. ثم يؤمر به إلى النار. وعن سعيد عن قتادة: إنك مسئول عن مالك من أين جمعت ؟ وكيف أنفقت ؟ وعن ابن عباس قال: كان أبوالاشدين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا وهو في ذلك كاذب. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يكفر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه. وقرأ أبو جعفر " مالا لبدا " بتشديد الباء مفتوحة، على جمع لا بد، مثل راكع وركع، وساجد وسجد، وشاهد وشهد، ونحوه. وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا، جمع لبود. الباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا، جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد، يريد الكثرة. وقد مضى في سورة " الجن " القول فيه. (1) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ " أيحسب " بضم السين في الموضعين. وقال الحسن: يقول أتلفت مالا كثيرا، فمن يحاسبني به، دعني أحسبه. ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته، وأن الله عزوجل يرى صنيعه. ثم عدد عليه نعمه فقال: " ألم نجعل له عينين " يبصر بهما. " ولسانا " ينطق به. " وشفتين " يستر بهما (1) راجع ج 19 ص 22 وما بعدها. (*)
[ 65 ]
ثغره. والمعنى: نحن فعلنا ذلك، ونحن نقدر على أن نبعثه ونحصي عليه ما عمله. وقال أبو حازم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: يا بن آدم، إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق، وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقين، فأطبق). والشفة: أصلها شفهة، حذفت منها الهاء، وتصغيرها: شفيهة، والجمع: شفاه. ويقال: شفهات وشفوات، والهاء أقيس، والواو أعم، تشبيها بالسنوات. وقال الازهري: يقال هذه شفة في الوصل وشفه، بالتاء والهاء. وقال قتادة: نعم الله ظاهرة، يقررك بها حتى تشكر. قوله تعالى: وهديناه النجدين (10) يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر. أي بيناهما له بما أرسلناه من الرسل. والنجد. الطريق في ارتفاع. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. وروى قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا أيها الناس، إنما هما النجدان: نجد الخير، ونجد الشر، فلم نجعل نجد الشر أحب إليك من نجد الخير). وروي عن عكرمة قال: النجدان: الثديان. وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وروي عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما، لانهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. فالنجد: العلو، وجمعه نجود، ومنه سميت " نجد "، لارتفاعها عن انخفاض تهامة. فالنجدان: الطريقان العاليان. قال امرؤ القيس: فريقان منهم (1) جازع بطن نخلة * وآخر منهم قاطع نجد كبكب قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة (11) أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن ! والاقتحام: الرمي بالنفس في شئ من غير روية، يقال منه: قحم في الامر قحوما: أي رمى (1) كذا في الاصل وديوان امرئ القيس: وفي اللسان (مادة نجد): * غداة غدوا فسالك بطن نخلة * والجازع: القاطع. وبطن نخلة: موضع بين مكة والطائف. وكبكب: الجبل الاحمر الذي تجده بظهرك إذا وقفت بعرفة. (*)
[ 66 ]
بنفسه فيه من غير روية. وقحم الفرس فارسه تقحيما على وجهه: إذا رماه. وتقحيم النفس في الشئ: إدخالها فيه من غير روية. والقحمة (بالضم) المهلكة، والسنة الشديدة. يقال: أصابت الاعراب القحمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف. والقحم: صعاب الطريق. وقال الفراء والزجاج: وذكر " لا " مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد " لا " مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يعيدوها في كلام آخر، كقوله تعالى: " فلا صدق ولا صلى " (1) [ القيامة: 31 ] " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ". وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: " ثم كان من الذين آمنوا " [ البلد: 17 ] قائما مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن. وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقوله: لا نجا ولا سلم. (وما أدراك ما العقبة) ؟ فقال سفيان بن عيينة: كل شئ قال فيه " وما أدراك " ؟ فإنه أخبر به، وكل شئ قال فيه " وما يدريك " ؟ فإنه لم يخبر به. وقال: معنى " فلا اقتحم العقبة " أي فلم يقتحم العقبة، كقول زهير: وكان طوى كشحا على مستكنة * فلا هو أبداها ولم يتقدم (2) أي فلم يبدها ولم يتقدم. وكذا قال المبرد وأبو علي: " لا ": بمعنى لم. وذكره البخاري عن مجاهد. أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير. ثم فسر العقبة وركوبها فقال: " فك رقبة " وكذا وكذا، فبين وجوها من القرب المالية. وقال ابن زيد وجماعة من المفسرين: معنى الكلام الاستفهام الذي معناه الانكار، تقديره: أفلا اقتحم العقبة، أو هلا اقتحم العقبة. يقول: هلا أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغبان، ليجاوز به العقبة، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: اقتحام العقبة ها هنا ضرب مثل، أي هل تحمل عظام الامور في إنفاق ماله في طاعة ربه، والايمان به. وهذا إنما يليق بقول من حمل " فلا اقتحم العقبة " على الدعاء، أي فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في كذا وكذا. وقيل: شبه عظم الذنوب وثقلها وشدتها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا، كان مثله كمثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب التي تضره وتؤذيه وتثقله. قال (1) آية 31 سورة القيامة. (2) الكشح: الخاصرة. ومستكنة: على نية أكنها في نفسه. (*)
[ 67 ]
ابن عمر: هذه العقبة جبل في جهنم. وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله. وقال مجاهد والضحاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنم كحد السيف، مسيرة ثلاثة آلاف سنة، سهلا وصعودا وهبوطا. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقيل: اقتحامه عليه قدر ما يصلي صلاة المكتوبة. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: إن وراءنا عقبة، أنجى الناس منها أخفهم حملا. وقيل: النار نفسها هي العقبة. فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداءه من النار. وعن عبد الله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله عزوجل بكل عضو منها عضوا منه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: [ من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه ]. وفي الترمذي عن أبي أمامة وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، كان فكاكه من النار، يجزي كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، كانت فكاكها من النار، يجزي كل عضو منها عضوا منها ]. قال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وقيل: العقبة خلاصه من هول العرض. وقال قتادة وكعب: هي نار دون الجسر. وقال الحسن: هي والله عقبة شديدة: مجاهدة الانسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان. وأنشد بعضهم: إني بليت بأربع يرمينني * بالنبل قد نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى * من أين أرجو بينهن فكاكا يا رب ساعدني بعفو إنني * أصبحت لا أرجو لهن سواكا قوله تعالى: وما أدراك ما العقبة (12) فيه حذف، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمه اقتحام العقبة. قال القشيري: وحمل العقبة على
[ 68 ]
عقبه جهنم بعيد، إذ أحد في الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم، إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا. واختار البخاري قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة في الدنيا. قال ابن العربي: " وإنما اختار ذلك لاجل أنه قال بعد ذلك في الآية الثانية: " وما أدراك ما العقبة " ؟ ثم قال في الآية الثالثة: " فك رقبة "، وفي الآية الرابعة " أو إطعام في يوم ذي مسغبة "، ثم قال في الآية الخامسة: " يتيما ذا مقربة "، ثم قال في الآية السادسة: " أو مسكينا ذا متربة "، فهذه الاعمال إنما تكون في الدنيا. المعنى: فلم يأت في الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة في الآخرة. قوله تعالى: فك رقبة (13) فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: " فك رقبة " فكها: خلاصها من الاسر. وقيل: من الرق. وفي الحديث: [ وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ]. من حديث البراء، وقد تقدم في سورة " براءة (1) ". والفك: هو حل القيد، والرق قيد. وسمي المرقوق رقبة، لانه بالرق كالاسير المربوط في رقبته. وسمي عنقها فكا كفك الاسير من الاسر. قال حسان: كم من أسير فككناه بلا ثمن * وجز ناصية كنا مواليها وروى عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار ] قال الماوردي: ويحتمل ثانيا أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه، باجتناب المعاصي، وفعل الطاعات، ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل، وهو أشبه بالصواب. الثانية: قوله تعالى: " رقبة " قال أصبغ: الرقبة الكافرة ذات الثمن أفضل في العتق من الرقبة المؤمنة القليلة الثمن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي الرقاب أفضل ؟ قال: [ أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ]. ابن العربي: والمراد في هذا الحديث: من (1) راجع ج 8 ص 183. (*)
[ 69 ]
المسلمين)، بدليل قوله عليه السلام: [ من أعتق امرأ مسلما ] و [ من أعتق رقبة مؤمنة ]. وما ذكره أصبغ وهلة (1)، وإنما نظر إلى تنقيص المال، والنظر إلى تجريد المعتق للعبادة، وتفريغه للتوحيد، أولى ". الثالثة - العتق والصدقة من أفضل الاعمال. وعن أبي حنيفة: أن العتق أفضل من الصدقة. وعند صاحبيه الصدقة أفضل. والآية أدل على قول أبي حنيفة، لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة أو يعتق رقبة ؟ قال: الرقبة أفضل، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضوا من النار ]. قوله تعالى: أو إطعام في يوم ذي مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا ذا متربة (16) قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) أي مجاعة. والسغب: الجوع. والساغب الجائع. وقرأ الحسن " أو إطعام في يوم ذا مسغبة " بالالف في " ذا " - وأنشد أبو عبيدة: فلو كنت جارا (2) يا بن قيس بن عاصم * لما بت شبعانا وجارك ساغبا وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل. وقال النخعي في قوله تعالى: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة " قال: في يوم عزيز فيه الطعام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ من موجبات الرحمة إطعام المسلم السغبان ]. (يتيما ذا مقربة) أي قرابة. يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي. يعلمك أن الصدقة على القرابة أفضل منها على غير القرابة، كما أن الصدقة على اليتيم الذي لا كافل له أفضل من الصدقة على اليتيم الذي يجد من يكفله. وأهل اللغة يقولون: سمي يتيما لضعفه. يقال: يتم الرجل يتما: إذا ضعف. (1) كذا في الاصول وابن العربي، ولعلها المرة من الوهل، وهو الغلط. وهل إلى الشئ (بالفتح) يهل (بالكسر) وهلا (بالسكون): إذا ذهب وهمه إليه. ويجوز أن يكون بمعنى غلطة أو سهوة. (2) كذا في الاصول. يريد: فلو كنت جارا قائما بحق الجوار لما حدث هذا. (*)
[ 70 ]
وذكروا أن اليتيم في الناس من قبل الاب. وفي البهائم من قبل الامهات. وقد مضى في سورة " البقرة " مستوفى (1)، وقال بعض أهل اللغة: اليتيم الذي يموت أبواه. وقال قيس بن الملوح: إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا * إلى الله فقد الوالدين يتيم قوله تعالى: (أو مسكينا ذا متربة) أي لا شئ له، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب. قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق، الذي لا بيت له. مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: إنه ذو العيال. عكرمة: المديون. أبو سنان: ذو الزمانة. ابن جبير: الذي ليس له أحد. وروى عكرمة عن ابن عباس: ذو المتربة البعيد التربة، يعني الغريب البعيد عن وطنه. وقال أبو حامد الخارزنجي: المتربة هنا: من التريب، وهي شدة الحال. يقال ترب: إذا افتقر. قال الهذلي: وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا * سفكنا دماء البدن في تربة الحال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: " فك " بفتح الكاف، على الفعل الماضي. " رقبة " نصبا لكونها مفعولا " أو أطعم " بفتح الهمزة نصب الميم، من غير ألف، على الفعل الماضي أيضا، لقوله: " ثم كان من الذين آمنوا " فهذا أشكل ب‍ " فك وأطعم ". وقرأ الباقون: " فك " رفعا، على أنه مصدر فككت. " رقبة " خفض بالاضافة. " أو إطعام " بكسر الهمزة وألف ورفع الميم وتنوينها على المصدر أيضا. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لانه تفسير لقوله تعالى: " وما أدراك ما العقبة " ؟ ثم أخبره فقال: " فك رقبة أو إطعام ". المعنى: اقتحام العقبة: فك رقبة أو إطعام. ومن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى، أي ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذا مسغبة، فكيف يجاوز العقبة. وقرأ الحسن وأبو رجاء: " ذا مسغبة " بالنصب على أنه مفعول " إطعام " أي يطعمون ذا مسغبة و " يتيما " بدل منه. الباقون " ذي مسغبة " فهو صفة ل‍ " - يوم ". ويجوز أن يكون قراءة النصب صفة لموضع الجار والمجرور لان قوله: " في يوم " ظرف منصوب الموضع، فيكون وصفا له على المعنى دون اللفظ. (1) راجع ج 2 ص 14 طبعة ثانية. (*)
[ 71 ]
قوله تعالى: ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحاب الميمنة (18) و. الذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة (19) عليهم نار مؤصدة (20) قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا) يعني: أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة، أو أطعم في يوم ذا مسغبة، حتى يكون من الذين آمنوا، أي صدقوا، فإن شرط قبول الطاعات الايمان بالله. فالايمان بالله بعد الانفاق لا ينفع، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالايمان، قال الله تعالى في المنافقين: " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله " (1) [ التوبة: 54 ]. وقالت عائشة: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم الطعام، ويفك العاني، ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فعل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال: [ لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ]. وقيل: " ثم كان من الذين آمنوا " أي فعل هذه الاشياء وهو مؤمن، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة، نظيره قوله تعالى: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " (2) [ طه: 82 ]. وقيل: المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى. وقيل: أتى بهذه القرب لوجه الله، ثم أمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم، يا رسول الله، إنا كنا نتحنث (3) بأعمال في الجاهلية، فهل لنا منها شئ ؟ فقال عليه السلام: [ أسلمت على ما أسلفت من الخير ]. وقيل: إن " ثم " بمعنى الواو، أي وكان هذا المعتق الرقبة، والمطعم في المسغبة، من الذين آمنوا. (وتواصوا) أي أوصى بعضهم بعضا. (بالصبر) على طاعة الله، وعن معاصيه، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب. (وتواصوا بالمرحمة) بالرحمة على الخلق، فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين. (أولئك أصحاب الميمنة) أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، قال محمد بن كعب القرظي وغيره. وقال يحيى بن سلام: لانهم ميامين على أنفسهم. ابن زيد: لانهم أخدوا من شق آدم الايمن. وقيل: لان منزلتهم عن اليمين، قاله ميمون بن مهران. (والذين كفروا (1) آية 54 سورة التوبة. (2) آية 82 سورة طه. (3) أي نتقرب بها إلى الله. (*)
[ 72 ]
بآياتنا) أي بالقرآن. (هم أصحاب المشأمة) أي يأخذون كتبهم بشمائلهم، قاله محمد بن كعب. يحيى بن سلام: لانهم مشائيم على أنفسهم. ابن زيد: لانهم أخذوا من شق آدم الايسر. ميمون: لان منزلتهم عن اليسار. قلت: ويجمع هذه الاقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب ا لمشأمة أصحاب النار، قال الله تعالى: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود "، وقال: " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم " [ الواقعة: 41 - 42 ]. وما كان مثله. ومعنى " مؤصدة " أي مطبقة مغلقة. قال: تحن إلى أجبال مكة ناقتي * ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده وقيل: مبهمة، لا يدري ما داخلها. وأهل اللغة يقولون: أوصدت الباب وآصدته، أي أغلقته. فمن قال أوصدت، فالاسم الوصاد، ومن قال آصدته، فالاسم الاصاد. وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة ويعقوب والشيزري عن الكسائي " مؤصدة " بالهمز هنا، وفي " الهمزة ". الباقون بلا همز. وهما لغتان. وعن أبي بكر بن عياش (2) قال: لنا إمام يهمز " مؤصدة " فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته. سورة " الشمس " مكية بأتفاق، وهي خمس عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والشمس وضحاها (1) قال مجاهد: " وضحاها " أي ضوئها وإشراقها. وهو قسم ثان. وأضاف الضحى إلى الشمس، لانه إنما يكون بارتفاع الشمس. وقال قتادة: بهاؤها. السدي: حرها. وروى الضحاك عن ابن عباس: " وضحاها " قال: جعل فيها الضوء وجعلها حارة. وقال اليزيدي: هو انبساطها. وقيل: ما ظهر بها من كل مخلوق، فيكون القسم بها وبمخلوقات الارض (1) آية 28، 42 سورة الواقعة. (2) كان ينكر على الكسائي همز (مؤصدة). (*)
[ 73 ]
كلها. حكاه الماوردي والضحا: مؤنثة. يقال: ارتفعت الضحا، وهي فوق الضحو (1). وقد تذكر. فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة. ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل، صرد ونغر (2). وهو ظرف غير متمكن مثل سحر. تقول: لقيته ضحا وضحا، إذا أردت به ضحا يومك لم تنونه. وقال الفراء: الضحا هو النهار، كقول قتادة. والمعروف عند العرب أن الضحا: إذا طلعت الشمس وبعيد ذلك قليلا فإذا زاد فهو الضحاء بالمد. ومن قال: الضحا: النهار كله، فذلك لدوام نور الشمس، ومن قال: إنه نور الشمس أو حرها، فنور الشمس لا يكون إلا مع حر الشمس. وقد استدل من قال: إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى: " ولا تضحى " [ طه: 119 ] أي لا يؤذيك الحر. وقال المبرد: أصل الضحا من الضح، وهو نور الشمس، والالف مقلوبة من الحاء الثانية. تقول: " ضحوة وضحوات، وضحوات وضحا، فالواو من (ضحوة) مقلوبة عن الحاء الثانية، والالف في (ضحا) مقلوبة عن الواو. وقال أبو الهيثم: الضح: نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الارض، وأصله الضحا، فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء، فقلبوها ألفا. قوله تعالى: والقمر إذا تلاها (2) أي تبعها: وذلك إذا سقطت رئ الهلال. يقال: تلوت فلانا: إذا تبعته. قال قتادة: إنما ذلك ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رئ (3) الهلال. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الاول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. الفراء: " تلاها ": أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال قوم: " والقمر إذا تلاها " حين استوى واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور، وقاله الزجاج. (1) كذا في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي. وفي نسخ الاصل وتفسير ابن عادل: (فوق الصخور). تحريف. يريد أن الضحا: أشد ارتفاعا من الضحو والضحوة (كما في اللسان: ضحا). (2) الصرد: طائر فوق العصفور. والنغر: فرخ العصفور. (3) أصله (رئي): قدمت الياء على الهمزة. (*)
[ 74 ]
قوله تعالى: والنهار إذا جلاها (3) أي كشفها. فقال قوم: جلى الظلمة، وإن لم يجر لها ذكر، كما تقول: أضحت باردة، تريد أضحت غداتنا باردة. وهذا قول الفراء والكلبي وغيرهما وقال قوم: الضمير في " جلاها " للشمس، والمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها. ومنه قول قيس بن الخطيم: تجلت لنا كالشمس تحت غمامة * بدا حاجب منها وضنت بحاجب وقيل: جلى ما في الارض من حيوانها حتى ظهر، لاستتاره ليلا وانتشاره نهارا. وقيل: جلى الدنيا. وقيل: جلى الارض، وإن لم يجر لها ذكر، ومثله قوله تعالى: " حتى توارت بالحجاب " (1) [ ص: 32 ] على ما تقدم آنفا. قوله تعالى: والليل إذا يغشاها (4) أي يغشى الشمس، فيذهب بضوئها عند سقوطها، قال مجاهد وغيره. وقيل: يغشى الدنيا بالظلم، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور. قوله تعالى: والسماء وما بناها (5) أي وبنيانها. فما مصدرية، كما قال: " بما غفر لي ربي " (2) [ يس: 27 ] أي بغفران ربي، قاله قتادة، واختاره المبرد. وقيل: المعنى ومن بناها، قاله الحسن ومجاهد، وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها، وهو الله تعالى. وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له، أي سبحان من سبحت له. قوله تعالى: والارض وما طحاها (6) أي وطحوها. وقيل: ومن طحاها، على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها، كذا قال عامة المفسرين، مثل دحاها. قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد، أي بسطها (1) آية 32 سورة ص. (2) آية 27 سورة يس. (*)
[ 75 ]
من كل جانب. والطحو: البسط، طحا يطحو طحوا، وطحى يطحي طحيا، وطحيت: اضطجعت، عن أبي عمرو. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها. وقيل: خلقها، قال الشاعر: وما تدري جذيمة من طحاها * ولا من ساكن العرش الرفيع الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز، لانه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي، أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو: طحا الرجل: إذا ذهب في الارض. يقال: ما أدري أين طحا ! ويقال: طحا به قلبه: إذا ذهب به في كل شئ. قال علقمة: طحا بك قلب في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب قوله تعالى: ونفس وما سواها (7) قيل: المعنى وتسويتها. " فما ": بمعنى المصدر. وقيل: المعنى ومن سواها، وهو الله عزوجل. وفي النفس قولان: أحدهما آدم. الثاني: كل نفس منفوسة. وسوى: بمعنى هيأ. وقال مجاهد: سواها: سوى خلقها وعدل. وهذه الاسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه. قوله تعالى: فألهمها فجورها وتقواها (8) قوله تعالى: " فالهمها " أي عرفها، كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى، وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله عزوجل بعبده خيرا، ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر فعمل به. وقال الفراء: " فألهمها " قال: عرفها طريق الخير وطريق الشر، كما قال: " وهديناه النجدين " (1) [ البلد: 10 ]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال: بين لها فجورها وتقواها. والمعنى (1) آية 10 سورة البلد. (*)
[ 76 ]
متقارب. وروي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فألهمها فجورها وتقواها " قال: [ اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ]. ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية " فالهمها فجورها وتقواها " رفع صوته بها، وقال: [ اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير من زكاها ]. وفي صحيح مسلم، عن أبي الاسود الدؤلي قال: قال لي عمران ابن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشئ قضي ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون (1) مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم ؟ فقلت: بل شئ قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما ؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شئ خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله ! إني لم أرد بما سألتك إلا لاحزر (2) عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه: أشئ قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم ؟ فقال: (لا بل شئ قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل: " ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها "). والفجور والتقوى: مصدران في موضع المفعول به. قوله تعالى: قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10) قوله تعالى: " قد أفلح من زكاها " هذا جواب القسم، بمعنى: لقد أفلح. قال الزجاج: اللام حذفت، لان الكلام طال، فصار طوله عوضا منها. وقيل: الجواب محذوف، أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم، أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود، لانهم كذبوا صالحا. وأما " قد أفلح من زكاها " فكلام تابع لاوله، لقوله: " فألهمها فجورها وتقواها " على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم (1) في بعض الاصول: (مما يستقبلون به... الخ). (2) أي لامتحن عقلك وفهمك ومعرفتك. (*)
[ 77 ]
في شئ. وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها. " أفلح " فاز. " من زكاها " أي من زكى الله نفسه بالطاعة. (وقد خاب من دساها) أي خسرت نفس دسها الله عزوجل بالمعصية. وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها. وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الاعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قال قتادة وغيره. وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد، لانه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة " البقرة " (1) مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الارض، ليشتهر مكانها للمعتفين (2)، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الاولاج والاطراف والاهضام (3)، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، زمر (4) المروءة غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل: دساها: أغواها. قال: وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت * حلائله منه أرامل ضيعا (5) قال أهل اللغة: والاصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشئ في الشئ، فأبدلت سينه ياء، كما يقال: قصيت أظفاري، وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضي. وقال ابن الاعرابي: " وقد خاب من دساها " أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم. قوله تعالى: كذبت ثمود بطغواها (11) إذ انبعث أشقاها (12) فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها (13) فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها (14) (1) راجع ج 1 ص 343 طبعة ثانية أو ثالثة. (2) المعتفى: كل طالب فضل أو رزق. (3) الاولاج: ما كان من كهف أو غار يلجأ إليه. والاهضام: أسافل الاودية. (4) الزمر: القليل. (5) الذي في اللسان (مادة دسا): وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت * نساؤهم فيهم أرامل ضسيع وقال: دسيت: أغويت وأفسدت. وعمرو: قبيلة. (*)
[ 78 ]
قوله تعالى: (كذبت ثمود بطغواها) أي بطغيانها، وهو خروجها عن الحد في العصيان، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس " بطغواها " أي بعذابها الذي وعدت به. قال: وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي، لانه طغى عليهم. وقال محمد بن كعب: " بطغواها " بأجمعها. وقيل: هو مصدر، وخرج على هذا المخرج، لانه أشكل برؤوس الآي. وقيل: الاصل بطغياها، إلا أن " فعلى " إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري وحماد بن سلمة (بضم الطاء) على أنه مصدر، كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر. وقيل: هما لغتان. (إذا انبعث) أي نهض. (أشقاها) لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في " الاعراف " بيان هذا، وهل كان واحدا أو جماعة. وفي البخاري عن عبد الله ابن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذ انبعث أشقاها، انبعث لها رجل عزيز عارم (2) منيع في رهطه مثل أبي زمعة) وذكر الحديث. خرجه مسلم أيضا. وروى الضحاك عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [ أتدري من أشقى الاولين ] قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (عاقر الناقة - قال - أتدري من أشقى الآخرين) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: [ قاتلك ] (فقال لهم رسول الله) يعني صالحا. (ناقة الله) " ناقة " منصوب على التحذير، كقولك: الاسد الاسد، والصبي الصبي، والحذار الحذار. أي أحذروا ناقة الله، أي عقرها. وقيل: ذروا ناقة الله كما قال: " هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم (3) عذاب أليم ". [ الاعراف: 73 ]. (وسقياها) أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة " الشعراء " (4) بيانه والحمد لله. وأيضا في سورة " اقتربت الساعة " (5) [ القمر: 1 ]. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق ذلك عليهم. (1) راجع ج 7 ص 241 (2) العارم: الجبار المفسد البيث. (3) آية 73 سورة الاعراف. (4) راجع ج 13 ص 131 (5) راجع ج 17 ص 141 (*)
[ 79 ]
(فكذبوه) أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: [ إنكم تعذبون إن عقرتموها ]. (فعقروها) أي عقرها الاشقى. وأضيف إلى الكل لانهم رضوا بفعله. وقال قتادة: ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم. وقال الفراء: عقرها اثنان: والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم، فلهذا لم يقل: أشقياها. قوله تعالى: (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم) أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: دمدم عليهم قال: دمر عليهم ربهم بذنبهم، أي بجرمهم. وقال الفراء: دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال: دممت على الشئ: أي أطبقت عليه، ودمم عليه القبر: أطبقه. وناقة مدمومة: ألبسها الشحم. فإذا كررت الاطباق قلت: دمدمت. والدمدمة: إهلاك باستئصال، قاله المؤرج. وفي الصحاح: ودمدمت الشئ: إذا ألزقته بالارض وطحطحته. ودمدم الله عليهم: أي أهلكهم. القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب: أي سويت عليه. فقوله: " فدمدم عليهم " أي أهلكهم، فجعلهم تحت التراب. (فسواها) أي سوى عليهم الارض. وعلى الاول (فسواها) أي فسوى الدمدمة والاهلاك عليهم وذلك أن الصيحة أهلكتهم، فأتت على صغيرهم وكبيرهم. وقال ابن الانباري: دمدم أي غضب. والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل. وقال بعض اللغويين: الدمدمة: الادامة، تقول العرب: ناقة مدمدمة أي سمينة. وقيل: (فسواها " أي فسوى الامة في إنزال العذاب بهم، صغيرهم وكبيرهم، وضيعهم وشريفهم، وذكرهم وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير " فدمدم " وهما، لغتان، كما يقال: امتقع لونه وانتقع. قوله تعالى: ولا يخاف عقباها (15) أي فعل الله ذلك بهم غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. والهاء في " عقباها " ترجع إلى الفعلة، كقوله: (من اغتسل يوم
[ 80 ]
الجمعة فبها ونعمت) أي بالفعلة والخصلة. قال السدي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر، أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع. وقال ابن عباس أيضا. وفي الكلام تقديم وتأخير، مجازه: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها. وقيل: لا يخاف رسول الله صالح عاقبة إهلاك قومه، ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم، لانه قد أنذرهم، ونجاه الله تعالى حين أهلكهم. وقرأ نافع وابن عامر " فلا " بالفاء، وهو الاجود، لانه يرجع إلى المعنى الاول، أي فلا يخاف الله عاقبة إهلاكهم. والباقون بالواو، وهي أشبه بالمعنى الثاني، أي ولا يخاف الكافر عاقبة ما صنع. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا: أخرج إلينا مالك مصحفا لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف، وفيه: " ولا يخاف " بالواو. وكذا هي في مصاحف أهل مكة والعراقيين بالواو، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اتباعا لمصحفهم. سورة " والليل " مكية. وقيل: مدنية. وهي إحدى وعشرون آية بإجماع بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والليل إذا يغشى (1) والنهار إذا تجلى (2) وما خلق الذكر والانثى (3) إن سعيكم لشتى (4) قوله تعالى: (والليل إذا يغشى) أي يغطي. ولم يذكر معه مفعولا للعلم به. وقيل: يغشى النهار. وقيل: الارض. وقيل الخلائق. وقيل: يغشى كل شئ بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال: أول ما خلق الله النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، والنور نهارا مضيئا مبصرا. (والنهار إذا تجلى) أي إذا انكشف ووضح وظهر، وبان بضوئه عن ظلمة الليل. (وما خلق الذكر والانثى) قال الحسن: معناه والذي خلق
[ 81 ]
الذكر والانثى، فيكون قد أقسم بنفسه عزوجل. وقيل: معناه وخلق الذكر والانثى، (فما): مصدرية على ما تقدم. وأهل مكة يقولون للرعد: سبحان ما سبحت له ! (فما) على هذا بمعنى (من)، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقد تقدم. وقيل: المعنى وما خلق من الذكر والانثى، فتكون " من " مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفا. وقال أبو عبيدة: " وما خلق " أي من خلق. وكذا قوله: " والسماء وما بناها " [ الشمس: 5 ]، " ونفس وما سواها " [ الشمس: 7 ]، " ما " في هذه المواضع بمعنى من. وروي ابن مسعود أنه كان يقرأ " والنهار إذا تجلى. والذكر والانثى " ويسقط " وما خلق ". وفي صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ علي قراءة عبد الله ؟ فقلت: نعم، أنا. قال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية " والليل إذا يغشى " ؟ قال: سمعته يقرأ " والليل إذا يغشى. والذكر والانثى " قال: وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ " وما خلق " فلا أتابعهم (1). قال أبو بكر الانباري: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أنا الرازق ذو القوة المتين "، قال أبو بكر: كل من هذين الحديثين مردود، بخلاف الاجماع له، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبد الله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين، والبناء على سندين يوافقان الاجماع أولى من الاخذ بواحد يخالفه الاجماع والامة، وما يبني على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه، أخذ برواية الجماعة، وأبطل نقل الواحد، لما يجوز عليه من النسيان والاغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولا معروفا، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (1) وفي كتاب الاحكام لابن العربي ما نصه: (هذا مما لا يلتفت إليه بشر إنما المعول عليه ما في المصحف فلا تجوز مخالفته لاحد ثم بعد ذلك يقع النظر فيما يوافق خطه مما لم يثبت ضبطه حسب ما بيناه في موضعه فإن القرآن لا يثبت بنقل الواحد وإن كان عدلا وإنما يثبت بالتواتر الذي يقع به العلم وينقطع معه العذر وتقوم به الحجة على الخلق). (*)
[ 82 ]
وسائر الصحابة رضي الله عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة، وجميع أهل الملة. وفي المراد بالذكر والانثى قولان: أحدهما: آدم وحواء، قاله ابن عباس والحسن والكلبي. الثاني: يعني جميع الذكور والاناث من بني آدم والبهائم، لان الله تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته. (إن سعيكم لشتى) هذا جواب القسم. والمعنى: إن عملكم لمختلف. وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل، فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها، يدل عليه قوله عليه السلام: (الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها) (1). وشتى: واحده شتيت، مثل مريض ومرضى. وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه. أي إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض، لان بعضه ضلالة وبعضه هدى. أي فمنكم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: " لشتى " أي لمختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار. وقيل: أي لمختلف الاخلاق، فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل، وشبه ذلك. قوله تعالى: فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى) قال ابن مسعود: يعني أبا بكر رضي الله عنه، وقاله عامة المفسرين. فروى عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الاسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني ! لو أنك (1) هذه رواية الحديث كما قي الثعلبي. والذي في نسخ الاصل: (الناس غاديان: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). (*)
[ 83 ]
أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون معك ؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد (1). وعن ابن عباس في قوله تعالى: " فأما من أعطى " أي بذل. " واتقى " أي محارم الله التي نهى عنها. " وصدق بالحسنى " أي بالخلف من الله تعالى على عطائه. " فسنيسره لليسرى " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وروى من حديث أبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا) فأنزل الله تعالى في ذلك في القرآن " فأما من أعطى "... الآيات. وقال أهل التفسير: " فأما من أعطى " المعسرين. وقال قتادة: أعطى حق الله تعالى الذي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه. (وصدق بالحسنى) أي بلا إله إلا الله، قاله الضحاك والسلمي وابن عباس أيضا. وقال مجاهد: بالجنة، دليله قوله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " (2)... [ يونس: 26 ] الآية. وقال قتادة: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه. زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم. الحسن: بالخلف من عطائه، وهو اختيار الطبري. وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى، إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة. الثانية - قوله تعالى: (فسنيسره لليسرى) أي نرشده لاسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم: " لليسرى " للجنة. وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة بالبقيع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكت به في الارض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: [ ما من نفس منفوسة إلا [ قد ] كتب مدخلها ] فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا ؟ فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء. قال: [ بل (1) كذا في كتاب أسباب النزول وروح المعاني. وفي نسخ الاصل: (ما يريد). وفي تفسير الثعلبي ورواية أخرى في أسباب النزول: (لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك قال: منع ظهري أريد). (2) آية 26 سورة يونس. (*)
[ 84 ]
اعملوا فكل ميسر، أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء - ثم قرأ - " فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى " ] لفظ الترمذي. وقال فيه: حديث حسن صحيح. وسأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: العمل فيه جفت به الاقلام وجرت به المقادير ؟ أم في شئ يستأنف ؟ فقال عليه السلام: [ بل فيما جفت به الاقلام، وجرت به المقادير ] قالا: ففيم العمل ؟ قال: [ أعملوا، فكل ميسر لعمل الذي خلق له ] قالا: فالآن نجد ونعمل. الثالثة - قوله تعالى: (وأما من بخل واستغنى) أي ضن بما عنده، فلم يبذل خيرا. وقد تقدم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة " آل عمران " (1). وفي الآخرة مآله النار، كما في هذه الآية. روى الضحاك عن ابن عباس " فسنيسره للعسرى " قال: سوف أحول بينه وبين الايمان بالله وبرسوله. وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس: " وأما من بخل واستغنى " يقول: بخل بماله، واستغنى عن ربه. (وكذب بالحسنى) أي بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: " وكذب بالحسنى " قال: بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال " بالحسنى " أي بلا إله إلا الله. " فسنيسره " أي نسهل طريقه... " للعسرى " أي للشر. وعن ابن مسعود: للنار. وقيل: أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدم أن الملك ينادي صباحا ومساء: [ اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا ]. رواه أبو الدرداء. مسألة: قال العلماء: ثبت بهذه الآية وبقوله: " ومما رزقناهم ينفقون " (2) [ البقرة: 3 ]، وقوله: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " (3) [ البقرة: 274 ] إلى غير ذلك من الآيات - أن الجود من مكارم الاخلاق، والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل (1) راجع ج 4 ص 291 (2) آية 3 سورة البقرة. (3) آية 274 سورة البقرة. (*)
[ 85 ]
الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من أستفاد بما يعطي أجرا وحمدا فهو الجواد. وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل. ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا، وإنما استوجب به ذما فليس بجواد، وإنما هو مسوف مذموم، وهو من المبذرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما، واستوجب به حمدا، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم. الرابعة - قال الفراء: يقول القائل: كيف قال: " فسنيسره للعسرى " ؟ وهل في العسرى تيسير ؟ فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عزوجل: " فبشرهم بعذاب أليم " (1) [ آل عمران: 21 ]، والبشارة في الاصل على المفرح والسار، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الاصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاء التيسير فيهما جميعا. قال الفراء: وقوله تعالى: " فسنيسره ": سنهيئه. والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال: هما سيدانا يزعمان وإنما * يسوداننا أن يسرت غنماهما (2) قوله تعالى: وما يغنى عنه ماله إذا تردى (11) إن علينا للهدى (12) وإن لنا للاخرة والاولى (13) قوله تعالى: (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) أي مات. يقال: ردي الرجل يردي ردي: إذا هلك. قال: * صرفت الهوى عنهن من خشية الردى * وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: " إذا تردى ": سقط في جهنم، ومنه المتردية. ويقال: ردي في البئر وتردى: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل. يقال: ما أدرى أين ردى ؟ أي أين ذهب. و " ما ": يحتمل أن تكون جحدا، أي ولا يغني عنه ماله شيئا، ويحتمل أن تكون استفهاما (1) آية 21 سورة آل عمران. (2) البيت لابي سيدة الدبيري. وقبله. إن لنا شيخين لا ينفعاننا * غنيين لا يجدي علينا غناهما (*)
[ 86 ]
معناه التوبيخ، أي أي شئ يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم ! أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة. فالهدى: بمعنى بيان الاحكام، قاله الزجاج. أي على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته، قاله قتادة. وقال الفراء: من سلك الهدى فعلى الله سبيله، لقوله: " وعلى الله قصد السبيل " (1) [ النحل: 9 ] يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه إن علينا للهدى والاضلال، فترك الاضلال، كقوله: " بيدك الخير " (2) [ آل عمران: 26 ]، و " بيده ملكوت كل شئ " (3) [ يس: 83 ]. وكما قال: " سرابيل تقيكم الحر " (4) [ النحل: 81 ] وهي تقي البرد، عن الفراء أيضا. وقيل: أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه. (وإن لنا للاخرة والاولى) " للآخرة " الجنة. " والاولى " الدنيا. وكذا روى عطاء عن ابن عباس. أي الدنيا والآخرة لله تعالى. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: " من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة " (5) [ النساء: 134 ] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق. قوله تعالى: فأنذرتكم نارا تلظى (14) لا يصلاها إلا الاشقى (15) الذى كذب وتولى (16) قوله تعالى: (فأنذرتكم) أي حذرتكم وخوفتكم. (نارا تلظى) أي تلهب وتتوقد. وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف. (لا يصلاها) أي لا يجد صلاها وهو حرها. (إلا الاشقى) أي الشقي. " الذي كذب " بنبي الله محمدا صلى الله عليه وسلم. " وتولى " أي أعرض عن الايمان. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة ؟ قال: الذي كذب وتولى. وقال مالك: صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ " والليل (1) آية 9 سورة النحل. (2) آية 26 سورة آل عمران. (3) آية 83 سورة يس. (4) آية 81 سورة النحل. (5) آية 134 سورة النساء. (*)
[ 87 ]
إذا يغشى " فلما بلغ " فأنذرتكم نارا تلظى " وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها وقرأ سورة أخرى. وقال: الفراء: " إلا الاشقى " إلا من كان شقيا في علم الله جل ثناؤه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: " لا يصلاها إلا الاشقى " أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله. وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة، فجعل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نمير ليس لجدهم (1) مكذوبة. يقول: إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه: " ليس لوقعتها كاذبة " (2) [ الواقعة: 2 ] يقول: هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الارجاء (3) بالارجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر، لقوله جل ثناؤه: " لا يصلاها إلا الاشقى. الذي كذب وتولى " وليس الامر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولاهل النار منازل، فمنها أن المنافقين في الدرك الاسفل من النار، والله سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به. وقال جل ثناؤه: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " (4) [ النساء: 48 ]، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب، لم يكن في قوله: " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فائدة، وكان " ويغفر ما دون ذلك " كلاما لا معنى له. الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الاشقى، وجعل مختصا بالصلى، كأن النار لم تخلق (1) كذا في الاصول وأساس البلاغة للزمخشري. والذي في تفسير الفراء ولسان العرب - مادة كذب -: (لحدهم) بالحاء المهملة. وحد الرجل: بأسه ونفاذه في نجدته. (2) آية 2 سورة الواقعة. (3) هم المرجئة، وهم فرقة من فرق الاسلام، يعتقدون أنه لا يضر مع الايمان معصية. كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة. سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي أي أخره عنهم. وقيل: المرجئة فرقة من المسلمين يقولون: الايمان قول بلا عمل كأنهم قدموا القول وأرجئوا العمل أي أخروه لانهم يرون أنهم لو لم يصلوا ولم يصوموا لنجاهم إيمانهم. (4) آية 48 سورة النساء. (*)
[ 88 ]
إلا له وقيل: الاتقى، وجعل مختصا بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي الله عنه. قوله تعالى: وسيجنبها الاتقى (17) الذي يؤتى ماله يتزكى (18) قوله تعالى: (سيجنبها) أي يكون بعيدا منها. (الاتقى) أي المتقي الخائف. قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي الله عنه، يزحزح عن دخول النار. ثم وصف الاتقى فقال: " الذي يؤتي ماله يتزكى " أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدق به مبتغيا به وجه الله تعالى. وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله " الاتقى " و " الاشقى " أي التقي والشقي، كقول طرفة: تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي واحد ووحيد، وتوضع (أفعل) موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير، " وهو أهون عليه " (1) [ الروم: 27 ] بمعنى هين. قوله تعالى: وما لاحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى (20) ولسوف يرضى (21) قوله تعالى: (وما لاحد عنده من نعمة تجزى) أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الاعلى، أي المتعالي " ولسوف يرضى " أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: عذب المشركون بلالا، وبلال يقول أحد أحد، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [ أحد - يعني الله تعالى - ينجيك ] ثم قال لابي بكر: [ يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله ] فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا ؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه. فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده، فنزلت " وما لاحد عنده " أي عند أبي بكر " من نعمة "، أي من يد ومنة، " تجزى " بل (1) آية 27 سورة الروم. (*)
[ 89 ]
" ابتغاء " بما فعل " وجه ربه الاعلى ". وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: " إن سعيكم لشتى " [ الليل: 4 ]. وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لابي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعنيه ؟ فقال: نعم، أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لابي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا، فحمله أبو بكر على الاسلام، على أن يكون له ماله، فأبى، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزلت " وما لاحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء " أي لكن ابتغاء، فهو استثناء منقطع، فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا. ويجوز الرفع. وقرأ يحيى بن وثاب " إلا ابتغاء وجه ربه " بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم: أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها * إلا الجآذر والظلمان تختلف (1) وقول القائل: وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعاقير وإلا العيس (2) وفي التنزيل: " ما فعلوه إلا قليل منهم " (3) [ النساء: 66 ] وقد تقدم. (وجه ربه الاعلى) أي مرضاته وما يقرب منه. و " الاعلى " من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون " ابتغاء وجه ربه " مفعولا له على المعنى، لان معنى الكلام: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمته. (ولسوف يرضى) أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي، وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق. وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ رحم الله أبا بكر ! زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله ]. ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل الله ؟ قال: بل لعمل الله (1) الجآذر (جمع جؤذر) وهو ولد البقرة الوحشية. والظلمان (بالكسر والضم): جمع الظليم، وهو الذكر من النعام. (2) اليعافير: جمع يعفور: وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضا. والعيس: إبل بيض تخالط بياضها شقرة، جمع أعيس وعيساه. (3) آية 66 سورة النساء. راجع ج 5 ص 270. (*)
[ 90 ]
قال: فذرني وعمل الله، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا (يعني بلالا رضي الله عنه). وقال عطاء - وروى عن ابن عباس -: إن السورة نزلت في أبي الدحداح، في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء. وقال القشيري عن ابن عباس: بأربعين نخلة، ولم يسم الرجل. قال عطاء: كان لرجل من الانصار نخلة، يسقط من بلحها في دار جار له، فيتناول صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. [ تبيعها بنخلة في الجنة ] ؟ فأبى، فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال: هل لك أن تبيعنيها ب‍ " حسنى ": حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: [ نعم، والذي نفسي بيده ] فقال: هي لك يا رسول الله، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم جار الانصاري، فقال: [ خذها ] فنزلت " والليل إذا يغشى " [ الليل: 1 ] إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. " فأما من أعطى واتقى " يعني أبا الدحداح. " وصدق بالحسنى " أي بالثواب. " فسنيسره لليسرى ": يعني الجنة. " وأما من بخل واستغنى " يعني الانصاري. " وكذب بالحسنى " أي بالثواب. " فسنيسره للعسرى "، يعني جهنم. " وما يغني عنه ماله إذا تردى " أي مات. إلى قوله: " لا يصلاها إلا الاشقى " يعني بذلك الخزرجي، وكان منافقا، فمات على نفاقه. " وسيجنبها الاتقى " يعني أبا الدحداح. " الذي يؤتي ماله يتزكى " في ثمن تلك النخلة. " ما لاحد عنده من نعمة تجزى " يكافئه عليها، يعني أبا الدحداح. " ولسوف يرضى " إذا أدخله الله الجنة. والاكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه. وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لابي الدحداح في سورة " البقرة "، عند قوله: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " (1) [ البقرة: 245 ]. والله تعالى أعلم. (1) راجع ج 3 ص 237. (*)
[ 91 ]
سورة " الضحاى " مكية بأتفاق. وهي إحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3) قوله تعالى: (والضحى. والليل إذا سجى) قد تقدم القول في " الضحى " (1)، والمراد به النهار، لقوله: " والليل إذا سجى " فقابله بالليل. وفي سورة (الاعراف) " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون " (2) [ الاعراف: 97 - 98 ] أي نهارا. وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبليلة المعراج. وقيل: هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: " وأن يحشر الناس ضحى " (3) [ طه: 59 ]. وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. و " سجا " معناه: سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجية أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجية. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: (4) إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الاعشى: فما ذنبنا (5) أن جاش بحر ابن عمكم * وبحرك ساج ما يواري الدعامصا وقال الراجز: ياحبذا القمراء والليل الساج * وطرق مثل ملاء النساج (1) راجع ص 72 وما بعدها من هذا الجزء. (2) آية 97، 98 (3) آية 59 سورة طه. (4) في اللسان: (يسجو سجوا وسجوا). (5) في ديوان الاعشين: * أتوعدني أن جاش... * والدعامص: جمع الدعموص: وهو دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء. (*)
[ 92 ]
وقال جرير: ولقد رمينك يوم رحن بأعين * ينظرن من خلل الستور سواجي وقال الضحاك: " سجا " غطى كل شئ. قال الاصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار، مثلما يسجى الرجل بالثوب. وقال الحسن: غشى بظلامه، وقاله ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم. وقال سعيد بن جبير: أقبل، وروي عن قتادة أيضا. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: " سجا " استوى. والقول الاول أشهر في اللغة: " سجا " سكن، أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم. وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: " والضحى. والليل إذا سجا ": يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: " الضحى ": يعني نور الجنة إذا تنور. " والليل إذا سجا ": يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: " والضحى ": يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. " والليل إذا سجا ": يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل، فأقسم الله عزوجل بهذه الاشياء. (ما ودعك ربك) هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قلاه الله وودعه، فنزلت الآية. وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما. وقيل: خمسة وعشرين يوما. وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الانبياء. وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة (1) فقالت: يا محمد، إني لارجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله عزوجل " والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى ". وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ هل أنت إلا إصبع دميت، (1) هي العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان، وهي حمالة الحطب، زوج أبي لهب. (*)
[ 93 ]
وفي سبيل الله ما لقيت ] ! قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى: " ما ودعك ربك وما قلى ". هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: " فلم يقم ليلتين أو ثلاثا " أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. والله أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رمي النبي صلى الله عليه وسلم في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: [ هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت ] فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت " والضحى ". وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه، فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: " ما ودعك ربك وما قلى ". وقالت خولة - وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم -: إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله صلى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: [ يا خولة، ما حدث في بيتي ؟ ما لجبريل لا يأتيني ] قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: [ يا خولة دثريني ] فأنزل الله هذه السورة. ولما نزل جبريل سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخر فقال: [ أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ]. وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: [ سأخبركم غدا ]. ولم يقل إن شاء الله. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " (1) [ الكهف: 23 ] فأخبره بما سئل عنه. وفي هذه القصة نزلت " ما ودعك ربك وما قلى ". وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول الله، مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال: [ وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم - وفي رواية براجمكم (2) - ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ]. فنزل (1) آية 23 سورة الكهف. (2) الرواجب (واحدها راجبة): وهي ما بين عقد الاصابع. والبراجم (واحدها برجمة بالضم): هي العقد التي في ظهور الاصابع يجتمع فيها الوسخ. (*)
[ 94 ]
جبريل بهذه السورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما جئت حتى اشتقت إليك ] فقال جبريل: [ أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور ] ثم أنزل عليه " وما نتنزل إلا بأمر ربك " (1) [ مريم: 64 ]. " ودعك " بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق. وروى عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرأاه " ودعك " بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال: وثم ودعنا آل عمرو وعامر * فرائس أطراف المثقفة (2) السمر واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك. قوله تعالى: (وما قلى) أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لانه رأس آية. والقلى: البغض، فإن فتحت القاف مددت، تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقريه قرى وقراء. ويقلاه: لغة طئ. وأنشد ثعلب: * أيام (3) أم الغمر لانقلاها * أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال: (4) أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت وقال امرؤ القيس: * ولست بمقلي الخلال ولا قال (5) وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لانه رأس آية، كما قال عزوجل: " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (6) [ الاحزاب: 35 ] أي والذاكرات الله. (1) آية 64 سورة مريم. (2) المثقفة والمثقف: الرمح. (3) كذا في اللسان. وفي الاصول: (يا رب). وبعده كما في اللسان: * ولو تشاء قبلت عيناها * (4) هو كثير عزة. (5) صدر البيت: * صرفت الهوى عنهن من خشية الردى * (6) آية 35 سورة الاحزاب. (*)
[ 95 ]
قوله تعالى: وللاخرة خير لك من الاولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5) روى سلمة عن ابن إسحاق قال: " وللآخرة خير لك من الاولى " أي ما عندي في مرجعك إلى يا محمد، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وقال ابن عباس: أرى النبي صلى الله عليه وسلم ما يفتح الله على أمته بعده، فسر بذلك، فنزل جبريل بقوله: " وللآخرة خير لك من الاولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ". قال ابن إسحاق: الفلج في الدنيا، والثواب في الآخرة. وقيل: الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الاوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله، عن علي بن عبد الله ابن عباس، عن أبيه قال: أرى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك، فأنزل الله عزوجل " والضحى - إلى قوله تعالى - ولسوف يعطيك ربك فترضى "، فأعطاه الله جل ثناؤه ألف قصر في الجنة، ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له من الازواج والخدم. وعنه قال: رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال السدي. وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي: رضيت يا محمد ؟ فأقول يا رب رضيت). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم: " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " (1) [ إبراهيم: 36 ] وقول عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " (2) [ المائدة: 118 ]، فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي) وبكى. فقال الله تعالى لجبريل: (اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك) فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل فأخبره. فقال الله تعالى لجبريل: [ اذهب إلى محمد، فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك (1) آية 36 سورة إبراهيم. (2) آية 118 سورة المائدة. (*)
[ 96 ]
ولا نسوءك ] (1). وقال علي رضي الله عنه لاهل العراق: إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " (2) [ الزمر: 53 ] قالوا: إنا نقول ذلك. قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى ". وفي الحديث: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إذا والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار ]. قوله تعالى: ألم يجدك يتيما فأوى (6) عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: " ألم يجدك يتيما " لا أب لك، قد مات أبوك. " فآوى " أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه ؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد: هو من قول العرب: درة يتيمة، إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية: ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك. قوله تعالى: ووجدك ضالا فهدى (7) أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة، كقوله جل ثناؤه: " لا يضل ربي ولا ينسى " (3) [ طه: 52 ] أي لا يغفل. وقال في حق نبيه: " وإن كنت من قبله لمن الغافلين " (4) [ يوسف: 3 ]. وقال قوم: " ضالا " لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك الله إلى القرآن، وشرائع الاسلام، عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى (1) رواية الحديث كما ورد في صحيح مسلم: كتاب الايمان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عزوجل في إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني) الآية وقول عيسى عليه السلام (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي)، وبكى فقال الله عزوجل: (يا جبريل إذهب إلى محمد وربك أعلم، فسله ما يبكيك) فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: (يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك). (2) آية سورة الزمر. (3) آية 52 سورة طه. (4) آية 3 سورة يوسف. (*)
[ 97 ]
قوله تعالى: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان "، على ما بينا في سورة " الشورى " (1). وقال قوم: " ووجدك ضالا " أي في قوم ضلال، فهداهم الله بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه، أي ووجد قومك في ضلال، فهداك إلى إرشادهم. وقيل: " ووجدك ضالا " عن الهجرة، فهداك إليها. وقيل: " ضالا " أي ناسيا شأن الاستئناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح - فأذكرك، كما قال تعالى: " أن تضل إحداهما " (2) [ البقرة: 282 ]. وقيل: ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها، بيانه: " قد نرى تقلب وجهك في السماء (3)... " [ البقرة: 144 ] الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب، لان الضال طالب. وقيل: ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك، فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى التحير، لان الضال متحير. وقيل: ووجدك ضائعا في قومك، فهداك إليه، ويكون الضلال بمعنى الضياع. وقيل: ووجدك محبا للهداية، فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى: " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " (4) [ يوسف: 95 ] أي في محبتك. قال الشاعر: هذا الضلال أشاب مني المفرقا * والعارضين ولم أكن متحققا (5) عجبا لعزة في اختيار قطيعتي * بعد الضلال فحبلها قد أخلقا وقيل: " ضالا " في شعاب مكة، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب. قال ابن عباس: ضل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير في شعاب مكة، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، فمن الله عليه بذلك، حين رده إلى جده على يدي عدوه. وقال سعيد بن جبير: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء، فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند، ورده إلى القافلة، فمن الله عليه بذلك. وقال كعب: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لترده على عبد المطلب، (1) آية 52 راجع ج 16 ص 55 (2) آية 282 سورة البقرة. (3) آية 144 سورة البقرة. (4) آية 95 سورة يوسف. (5) المفرق (كمقعد ومجلس): وسط الرأس. والعارض: صفحة الخد. (*)
[ 98 ]
فسمعت عند باب مكة: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت: فوضعته لاصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي ؟ فقال: لم نر شيئا، فصحت: وامحمداه ! فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الاعظم، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت. فانكب (هبل) على وجهه، وتساقطت الاصنام، وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلا كنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه، وارتعد وقال: إن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع مكة، فلم يجدوه. فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا، وتضرع إلى الله أن يرده، وقال: يا رب رد ولدي محمدا * اردده ربي واتخذ عندي يدا يا رب إن محمد لم يوجدا * فشمل قومي كلهم تبددا فسمعوا مناديا ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمدا بوادي تهامة، عند شجرة السمر. فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالاغصان وبالورق. وقيل: " ووجدك ضالا " ليلة المعراج، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش. وقال أبو بكر الوراق وغيره: " ووجدك ضالا ": تحب أبا طالب، فهداك إلى محبة ربك. وقال بسام بن عبد الله: " ووجدك ضالا " بنفسك لا تدري من أنت، فعرفك بنفسك وحالك. وقال الجنيدي: ووجدك متحيرا في بيان الكتاب، فعلمك البيان، بيانه: " لتبين للناس ما نزل إليهم " (1) [ النحل: 44 ]... الآية. " لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " (2) [ النحل: 64 ]. وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الارض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدي بها إلى الطريق، فقال الله تعالى (1) آية 44 سورة النحل. (2) آية 64 سورة النحل. (*)
[ 99 ]
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " ووجدك ضالا " أي لا أحد على دينك، وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي. قلت: هذه الاقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي. والقول الاخير أعجب إلي، لانه يجمع الاقوال المعنوية. وقال قوم: إنه كان على جملة ما كان القوم عليه، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال، فأما الشرك فلا يظن به، بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة. وقال الكلبي والسدي: هذا على ظاهره، أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك (1). وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة " الشورى " (2). وقيل: وجدك مغمورا بأهل الشرك، فميزك عنهم. يقال: ضل الماء في اللبن، ومنه " أئذا ضللنا في الارض " (3) [ السجدة: 10 ] أي لحقنا بالتراب عند الدفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته. وفي قراءة الحسن " ووجدك ضال فهدى " أي وجدك الضال فاهتدى بك، وهذه قراءة على التفسير. وقيل: " ووجدك ضالا " لا يهتدي إليك قومك، ولا يعرفون قدرك، فهدى المسلمين إليك، حتى آمنوا بك. قوله تعالى: ووجدك عائلا فأغنى (8) أي فقيرا لا مال لك. " فأغنى " أي فأغناك بخديجة رضي الله عنها، يقال: عال الرجل يعيل عيلة: إذا افتقر. وقال أحيحة بن الجلاح: فما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل أي يفتقر. وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق. وقال الكلبي: قنعك بالرزق. وقال ابن عطاء: ووجدك فقير النفس، فأغنى قلبك. وقال الاخفش: وجدك ذا عيال، دليله " فأغنى ". ومنه قول جرير: الله أنزل في الكتاب فريضة * لابن السبيل وللفقير العائل (1) مثل هذه الاقوال لا يصح نسبتها إلى سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه ولا لاحد من الانبياء، لان العصمة ثابتة لهم قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر على الصحيح. (2) راجع ج 16 ص 55 فما بعدها. (3) آية 10 سورة السجدة. (*)
[ 100 ]
وقيل: وجدك فقيرا من الحجج والبراهين، فأغناك بها. وقيل: أغناك بما فتح لك من الفتوح، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري: وفي هذا نظر، لان السورة مكية، وإنما فرض الجهاد بالمدينة. وقراءة العامة " عائلا ". وقرأ ابن السميقع " عيلا " بالتشديد، مثل طيب وهين. قوله تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل فلا تنهر (10) وإما بنعمة ربك فحدث (11) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر) أي لا تسلط (1) عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك، قاله الاخفش. وقيل: هما لغتان: بمعنى. وعن مجاهد " فلا تقهر " فلا تحتقر. وقرأ النخعي والاشهب العقيلي " تكهر " بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره، بظلمه وأخذ ماله. وخص اليتيم لانه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس: وهذا غلط، إنما يقال كهره: إذا اشتد عليه وغلظ. وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي، حين تكلم في الصلاة برد السلام، قال: فبأبي هو وأمي ! ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني... الحديث. وقيل: القهر الغلبة. والكهر: الزجر. الثانية - ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره والاحسان إليه، حتى قال قتادة: كن لليتيم كالاب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال: (إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين). وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين). (1) في بعض نسخ الاصل: (لا تسطو). (*)
[ 101 ]
وأشار بالسبابة والوسطى. ومن حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه ؟ أن أرضيه (1) يوم القيامة). فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من ضم يتيما فكان في نفقته، وكفاه مؤونته، كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ]. وقال أكثم ابن صيفي: الاذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديون، واليتيم. الثالثة - قوله تعالى: (وأما السائل فلا تنهر) أي لا تزجره، فهو نهى عن إغلاظ القول. ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، واذكر فقرك، قاله قتادة وغيره. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين (2) من ذهب ]. وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال: يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجئ إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشئ. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ ردوا السائل ببذل يسير، أو رد جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الانس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله ]. وقيل: المراد بالسائل هنا، الذي يسأل عن الدين، أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين، قاله سفيان. قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم، على الكفاية، كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحبا بأحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري (3)، قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إن الناس لكم تبع (1) كذا في الاصول ط، ب، ح، ص. (2) القلب (بضم وسكون) السوار. (3) القائل هو أبو هارون العبدي. (*)
[ 102 ]
وإن رجالا يأتونكم من أقطار الارض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا ]. وفي رواية [ يأتيكم رجال من قبل المشرق ].. فذكره. و " اليتيم " و " السائل " منصوبان بالفعل الذي بعده، وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء، والتقدير: مهما يكن من شئ فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها: قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وسخرت مع داود الجبال يسبحن، وأعطيت فلانا كذا، فقال عزوجل: ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك: خواتيم سورة البقرة، الم أتخذك خليلا، كما اتخذت إبراهيم خليلا ؟ قلت بلى يا رب) الرابعة - قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث) أي أنشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء. والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد " وأما بنعمة ربك " قال بالقرآن. وعنه قال: بالنبوة، أي بلغ ما أرسلت به. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والحكم عام له ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: إذا أصبت خيرا، أو عملت خيرا، فحدث به الثقة من إخوانك. وعن عمرو بن ميمون قال: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به، يقول له: رزق الله من الصلاة البارحة كذا وكذا. وكان أبو فراس عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول: لقد رزقني الله البارحة كذا، قرأت كذا، وصليت كذا، وذكرت الله كذا، وفعلت كذا. فقلنا له: يا أبا فراس، إن مثلك لا يقول هذا ! قال يقول الله تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة الله ! ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي الله عنهم. وقال بكر بن عبد الله المزني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعطى خيرا فلم ير عليه، سمي بغيض الله، معاديا لنعم الله). وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب ]. وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فرآني رث الثياب فقال: [ ألك مال ؟ ] قلت:
[ 103 ]
نعم، يا رسول الله، من كل المال. قال: [ إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك ]. وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إن الله جميل يحب الجمال، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده ]. فصل: يكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير - وقد رواه مجاهد عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ آخر " والضحى " كبر (1) بين كل سورة تكبيرة، إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيره، بل يفصل بينهما بسكتة. وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أياما، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه، فنزلت هذه السورة فقال: [ الله أكبر ]. قال مجاهد: قرأت على ابن عباس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يكبر في قراءة الباقين، لانها ذريعة إلى الزيادة في القرآن. قلت: القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه، لا زيادة فيه ولا نقصان، فالتكبير على هذا ليس بقرآن. فإذا كان بسم الله الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد، فاستحبه ابن كثير، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه. ذكر الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ في كتاب " المستدرك " له على البخاري ومسلم: حدثنا أبويحيى محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد، المقرئ الامام بمكة، في المسجد الحرام، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن زيد الصائغ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، فلما بلغت " والضحى " قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت " والضحى " قال: كبر حتى تختم. وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. (1) كذا في الاصول، ولعل اللفظ (بعد) في مكان (بين). (*)
[ 104 ]
سورة " ألم نشرح " مكية في قول الجميع. وهي ثماني آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ألم نشرح لك صدرك (1) شرح الصدر: فتحه، أي ألم نفتح صدرك للاسلام. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ألم نلين لك قلبك. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، أينشرح الصدر ؟ قال: [ نعم وينفسح ]. قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك علامة ؟ قال: [ نعم التجافي عن دار الغرور، والانابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت، قبل نزول الموت ]. وقد مضى هذا المعنى في " الزمر " (1) عند قوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه ". وروي عن الحسن قال: " ألم نشرح لك صدرك " قال: ملئ حكما وعلما. وفي الصحيح (2) عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة (3) فأتيت بطست من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا) قال قتادة قلت: ما يعني ؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: [ فاستخرج قلبي، فغسل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة ]. وفي الحديث قصة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني ملكان في صورة طائر، معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح (1) راجع ج 95 ص 247 (2) وهذه رواية الترمذي في كتاب التفسير. (3) في صحيح مسلم: (أحد الثلاثة بين الرجلين) روى أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما معه حينئذ عمه حمزة بن عبد المطلب وابن عمه جعفر ابن أبي طالب. راجع شرح هذا الحديث في صحيح مسلم (باب الاسراء). وفي شرح القسطلاني في كتاب بدء الخلق (باب ذكر الملائكة). (*)
[ 105 ]
الآخر بمنقاره فيه فغسله). وفي حديث آخر قال: [ جاءني ملك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة (1)، وقال: قلبك وكيع، وعيناك بصيرتان، وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول الله، لسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قثم، وأنت قيم ]. قال أهل اللغة: قوله [ وكيع أي يحفظ ما يوضع فيه. يقال: سقاء وكيع، أي قوي يحفظ ما يوضع فيه. واستوكعت معدته، أي قويت وقوله: [ قثم ] أي جامع. يقال: رجل قثوم للخير، أي جامع له. ومعنى " ألم نشرح " قد شرحنا، الدليل، على ذلك قوله في النسق عليه: " ووضعنا عنك وزرك "، فهذا عطف على التأويل، لا على التنزيل، لانه لو كان على التنزيل لقال: ونضع عنك وزرك. فدل هذا على أن معنى " ألم نشرح ": قد شرحنا. و " لم " جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق، كقوله تعالى: " أليس الله بأحكم الحاكمين " (2) [ التين: 8 ]. ومعناه: الله أحكم الحاكمين. وكذا " أليس الله بكاف عبده " (3) [ الزمر: 36 ]. ومثله قول جرير يمدح عبد الملك ابن مروان: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح المعنى: أنتم كذا. قوله تعالى: ووضعنا عنك وزرك (2) الذي أنقض ظهرك (3) قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك) أي حططنا عنك ذنبك. وقرأ أنس " وحللنا، وحططنا ". وقرأ ابن مسعود: " وحللنا عنك وقرك ". هذه الآية مثل قوله تعالى: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " (4) [ الفتح: 2 ]. قيل: الجميع كان قبل النبوة. والوزر: الذنب، أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية، لانه كان صلى الله عليه وسلم في كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنما ولا وثنا. قال قتادة والحسن والضحاك: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ذنوب أثقلته، فغفرها الله له " الذي أنقض ظهرك " أي أثقله حتى سمع (1) كذا في بعض نسخ الاصل. وفي بعضها الآخر: (غدرة) بالغين المعجمة والدال المهملة. ولم نقف على هذا اللفظ لغير القرطبي. ولعله محرف عن (علقة). (2) آية 8 سورة التين. (3) آية 36 سورة الزمر. (*)
[ 106 ]
نقيضه، أي صوته. وأهل اللغة يقولون: أنقض، الحمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل، أي صريره. قال جميل: وحتى تداعت بالنقيض حباله * وهمت بواني زوره أن تحطما " بواني زوره ": أي أصول صدره. فالوزر: الحمل الثقيل. قال المحاسبي: يعني ثقل الوزر لو لم يعف الله عنه. (الذي انقض ظهرك) أي أثقله وأوهنه. قال: وإنما وصفت ذنوب الانبياء بهذا الثقل، مع كونها مغفورة لشدة اهتمامهم بها وندمهم منها وتحسرهم عليها. وقال السدي: " ووضعنا عنك وزرك " أي وحططنا عنك ثقلك. وهي في قراءة عبد الله ابن مسعود " وحططنا (1) عنك وقرك ". وقيل: أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية. قال الحسين ابن المفضل: يعني الخطأ والسهو. وقيل: ذنوب أمتك، أضافها إليه لاشتغال قلبه بها. وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بها، حتى لا تثقل عليك. وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاءه جبريل وأراه نفسه، وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل. وقيل: عصمناك عن احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوة في الاربعين من الادناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الادناس. قوله تعالى: ورفعنا لك ذكرك (4) قال مجاهد: يعني بالتأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت: أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الاله اسم النبي إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وروي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له لا ذكرت إلا ذكرت معي في الاذان، والاقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الاضحى: وأيام التشريق، (1) في شواذ ابن خالويه: (وحططنا عنك وزرك) عن أنس بن مالك. (وحللنا وحططنا) جميعا عنه، وعن ابن مسعود. (*)
[ 107 ]
ويوم عرفة، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الارض ومغاربها. ولو أن رجلا عبد الله جل ثناؤه، وصدق بالجنة والنار وكل شئ، ولم يشهد أن محمدا رسول الله، لم ينتفع بشئ وكان كافرا. وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الانبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه. وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الارض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات. قوله تعالى: فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6) أي إن مع الضيقة والشدة يسرا، أي سعة وغنى. ثم كرر فقال: " إن مع العسر يسرا "، فقال قوم: هذا التكرير تأكيد للكلام، كما يقال: ارم ارم، اعجل اعجل، قال الله تعالى: " كلا سوف (1) تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون " [ التكاثر: 3 - 4 ]. ونظيره في تكرار الجواب: بلى بلى، لا، لا. وذلك للاطناب والمبالغة، قاله الفراء. ومنه قول الشاعر: هممت بنفسي بعض الهموم * فأولى لنفسي أولى لها (1) وقال قوم: إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو. وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للامل، وأبعث على الصبر، قاله ثعلب. وقال ابن عباس: يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة: أنه قال: [ لن يغلب عسر يسرين ]. وقال ابن مسعود: (3) والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، ولن يغلب عسر يسرين. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنهما: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: " يا أيها الذين آمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا (1) آية 3 سورة ألهاكم. (2) البيت للخنساء. ويروى: * هممت بنفسى كل الهموم * (3) أي في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (*)
[ 108 ]
واتقوا الله لعلكم تفلحون " (1) [ آل عمران: 200 ]. وقال قوم منهم الجرجاني: هذا قول مدخول، لانه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان. والصحيح أن يقال: إن الله بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مقلا مخفا، فعيره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالا، فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره، فعزاه الله، وعدد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: " فإن مع العسر يسرا " أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر، فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا، أي في الدنيا. فأنجز له ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسع ذات يده، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الابل، ويهب الهبات السنية، ويعد لاهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا، وإن كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء الله تعالى. ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى الله عليه وسلم، فقال مبتدئا: " إن مع العسر يسرا " فهو شئ آخر. والدليل على ابتدائه، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه، أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة. والذي في الخبر: [ لن يغلب عسر يسرين ] يعني العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا، فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شئ. أو يقال: " إن مع العسر " وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة " يسرا "، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عز وشرف. قوله تعالى: فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (فإذا فرغت) قال ابن عباس وقتادة: فإذا فرغت من صلاتك " فانصب " أي بالغ في الدعاء وسله حاجتك. وقال ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض (1) آية سورة آل عمران. (*)
[ 109 ]
فانصب في قيام الليل. وقال الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة " فانصب " أي استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. وقال الحسن وقتادة أيضا: إذا فرغت من جهاد عدوك، فانصب لعبادة ربك. وعن مجاهد: " فإذا فرغت " من دنياك، " فانصب " في صلاتك. ونحوه عن الحسن. وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. قال ابن العربي: " ومن المبتدعة من قرأ هذه الآية " فانصب " بكسر الصاد، والهمز (1) من أوله، وقالوا: معناه: انصب الامام الذي تستخلفه. وهذا باطل في القراءة، باطل في المعنى، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا. وقرأها بعض: الجهال " فانصب " بتشديد الباء، معناه: إذا فرغت من الجهاد، فجد في الرجوع إلى بلدك.. وهذا باطل أيضا قراءة، لمخالفة الاجماع، لكن معناه صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم: [ السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته، فليعجل الرجوع إلى أهله ]. وأشد الناس عذابا وأسوأهم مباء ومآبا، من أخذ معنى صحيحا، فركب عليه من قبل نفسه قراءة أو حديثا، فيكون كاذبا على الله، كاذبا على رسوله، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ". قال المهدوي: وروي عن أبي جعفر المنصور: أنه قرأ " ألم نشرح لك صدرك " بفتح الحاء، وهو بعيد، وقد يؤول على تقدير النون الخفيفة، ثم أبدلت النون ألفا في الوقف، ثم حمل الوصل على الوقف، ثم حذف الالف. وأنشد عليه: إضرب عنك الهموم طارقها * ضربك بالسوط قونس الفرس (2) أراد: اضربن. وروى عن أبي السمال " فإذا فرغت " بكسر الراء، وهي لغة فيه. وقرئ " فرغب " أي فرغب الناس إلى ما عنده. الثانية - قال ابن العربي: روي عن شريح أنه مر بقوم يلعبون يوم عيد، فقال ما بهذا أمر الشارع. وفيه نظر، فإن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم (1) أي همز الوصل لا القطع لان ماضيه ثلاثي: (نصب ينصب). (2) قونس الفرس: ما بين أذنيه. وقيل مقدم رأسه. والبيت لطرفة ويقال إنه مصنوع عليه. (*)
[ 110 ]
العيد، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر. ودخل أبو بكر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وعندها جاريتان من جواري الانصار تغنيان، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: [ دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد ]. وليس يلزم الدءوب على العمل، بل هو مكراه للخلق ". تفسير سورة " والتين " مكية في قول الاكثر. وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية وهي ثماني آيات. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والتين والزيتون (1) فيه ثلاث مسائل: الاول - قوله تعالى: (والتين والزيتون) قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت، قال الله تعالى: " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " (1) [ المؤمنون: 20 ]. وقال أبو ذر: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم سل تين، فقال: [ كلوا ] وأكل منه. ثم قال: [ لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لان فاكهة الجنة بلا عجم (2)، فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس ]. وعن معاذ أنه أستاك بقضيب زيتون، وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ السواك الزيتون ! من الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفر (3)، وهي سواكي وسواك الانبياء من قبلي ]. وروي عن ابن عباس أيضا: التين: مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي، والزيتون: مسجد بيت المقدس. وقال الضحاك: التين: المسجد الحرام، والزيتون المسجد (1) آية 20 سورة المؤمنون. (2) العجم (بالتحريك): النوى. (3) الحفر (بفتح الحاء وسكون الفاء وفتحها): صفرة تعلو الاسنان. (*)
[ 111 ]
الاقصى. ابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: مسجد بيت المقدس. قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق: والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس. وقال محمد بن كعب: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد إيلياء. وقال كعب الاخبار وقتادة أيضا وعكرمة وابن زيد: التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وهذا اختيار الطبري. وقال الفراء: سمعت رجلا من أهل الشام يقول: التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون: جبال الشام. وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما طور زيتا وطور تينا (بالسريانية) سميا بذلك لانهما ينبتانهما. وكذا روى أبو مكين عن عكرمة، قال: التين والزيتون: جبلان بالشام. وقال النابغة: *... أتين التين عن عرض (1) * وهذا اسم موضع. ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف، أي ومنابت التين والزيتون. ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه، قاله النحاس. الثانية - وأصح هذه الاقوال الاول، لانه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل. وإنما أقسم الله بالتين، لانه كان ستر آدم في الجنة، لقوله تعالى: " يخصفان عليهما من ورق الجنة " (2) [ الاعراف: 22 ] وكان ورق التين. وقيل: أقسم به ليبين وجه المنة العظمى فيه، فإنه جميل المنظر، طيب المخبر، نشر (3) الرائحة، سهل الجني، على قدر المضغة. وقد أحسن القائل فيه: انظر إلى التين في الغصون ضحى * ممزق الجلد مائل العنق كأنه رب نعمة سلبت * فعاد بعد الجديد في الخلق أصغر ما في النهود أكبره * لكن ينادى عليه في الطرق (1) البيت بتمامه كما في كتاب الملاحن لابن دريد وشعراء النصرانية: صهب الظلال أتين التين عن عرض * يزجين غيما قليلا ماؤه شبما والصهب والصهبة: الحمرة. والعرض: الاعتراض أو الجانب. ويزجين: يسقن. والشبم البارد. والبيت في وصف سحائب لا ماء فيها. وقد نسبه المؤلف لزهير. (2) آية 22 سورة الاعراف. (3) كذا في الاصول ولم نجده في معاجم اللغة. (*)
[ 112 ]
وقال آخر: التين يعدل عندي كل فاكهة * إذا انثنى مائلا في غصنه الزاهي مخمش الوجه قد سالت حلاوته * كأنه راكع من خشية الله وأقسم بالزيتون لانه مثل به إبراهيم في قوله تعالى: " يوقد من شجرة مباركة زيتونة " (1) [ النور: 35 ]. وهو أكثر أدم أهل الشام والمغرب، يصطبغون (2) به، ويستعملونه في طبيخهم، ويستصبحون به، ويداوي به أدواء الجوف والقروح والجراحات، وفيه منافع كثيرة. وقال عليه السلام: [ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ]. وقد مضى في سورة " المؤمنون " القول فيه (3). الثالثة - قال ابن العربي ولامتنان البارئ سبحانه، وتعظيم المنة في التين، وأنه مقتات مدخر [ فلذلك ] (4) قلنا بوجوب الزكاة فيه. وإنما فر كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه، تقية جور الولاة، فإنهم يتحاملون في الاموال الزكاتية، فيأخذونها مغرما، حسب ما أنذر به الصادق صلى الله عليه وسلم. فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلا إلى مال آخر يتشططون فيه، ولكن ينبغي للمرء أن يخرج عن نعمة ربه، بأداء حقه. وقد قال الشافعي لهذه العلة وغيرها: لا زكاة في الزيتون. والصحيح وجوب الزكاة فيهما. (5) قوله تعالى: وطور سينين (2) روى ابن أبي نجيح عن مجاهد " وطور " قال: جبل. " سينين " قال: مبارك بالسريانية. وعن عكرمة عن ابن عباس قال: " طور " جبل، و " سينين، حسن. وقال قتادة: سينين هو المبارك الحسن. وعن عكرمة قال: الجبل الذي نادى الله جل ثناؤه منه موسى عليه السلام. وقال مقاتل والكلبي: " سينين " كل جبل فيه شجر مثمر، فهو سينين وسيناء، بلغة النبط وعن عمرو بن ميمون قال: صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة، فقرأ " والتين والزيتون. (1) آية 35 سورة النور. راجع ج 12 ص 263. (2) أي يأتدمون به. (3) راجع ج 12 ص 116. (4) زيادة عن ابن العربي. (5) في نسخ الاصل: (فيها). (*)
[ 113 ]
وطور سيناء. وهذا البلد الامين " قال: وهكذا هي في قراءة عبد الله، ورفع صوته تعظيما للبيت. وقرأ في الركعة الثانية: " ألم تر كيف فعل ربك " [ الفيل: 1 ]. و " لايلاف قريش " [ قريش: 1 ] جمع بينهما. ذكره ابن الانباري. النحاس: وفي قراءة عبد الله " سيناء " (بكسر السين)، وفي حديث عمرو بن ميمون عن عمر (بفتح السين). وقال الاخفش: " طور " جبل. و " سينين " شجر واحدته سينينية. وقال أبو علي: " سينين " فعليل، فكررت اللام التي هي نون فيه، كما كررت في زحليل: للمكان الزلق، وكرديدة: للقطعة من التمر، وخنذيد: للطويل. ولم ينصرف " سينين " كما لم ينصرف سيناء، لانه جعل اسما لبقعة أو أرض، ولو جعل اسما للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف، لانك سميت مذكرا بمذكر. وإنما أقسم بهذا الجبل لانه بالشام والارض المقدسة، وقد بارك الله فيهما، كما قال: " إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله " [ الاسراء: 1 ]. قوله تعالى: وهذا البلد الامين (3) يعني مكة. سماه أمينا لانه آمن، كما قال: " أنا جعلنا حرما آمنا " (1) [ العنكبوت: 67 ] فالامين: بمعنى الآمن، قاله الفراء وغيره. قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني * حلفت يمينا لا أخون أمبني يعني: آمني. وبهذا احتج من قال: إنه أراد بالتين دمشق، وبالزيتون بيت المقدس. فأقسم الله بجبل دمشق، لانه مأوى عيسى عليه السلام، وبجبل بيت المقدس، لانه مقام الانبياء عليهم السلام، وبمكة لانها أثر إبراهيم ودار محمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " لقد خلقنا الانسان " هذا جواب القسم، وأراد بالانسان: الكافر. قيل: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري (1) آية 67 سورة العنكبوت. (*)
[ 114 ]
البعث. وقيل: المراد بالانسان آدم وذريته. " في أحسن تقويم " وهو اعتداله واستواء شبابه، كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون، لانه خلق كل شئ منكبا عل وجهه، وخلقه هو مستويا، وله لسان ذلق، ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر: مزينا بالعقل، مؤديا للامر، مهديا بالتمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيده. ابن العربي: " ليس لله تعالى خلق أحسن من الانسان، فإن الله خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: [ إن الله خلق آدم على صورته ] يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها. وفي رواية [ على صورة الرحمن ] ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني ". وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الازدي قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال: كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني !. وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم. فقال جميع من حضر: قد طلقت، إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم ؟ فقال له الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم: " والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الامين. لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ". يا أمير المؤمنين، فالانسان أحسن الاشياء، ولا شئ أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن موسى: الامر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك. فهذا يدلك على أن الانسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الاصغر، إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه. (1) (1) في بعض نسخ الاصل وابن العربي: (أجمع فيه). (*)
[ 115 ]
الثانية - قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الاول، قاله الضحاك والكلبي وغيرهما. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: " ثم رددناه أسفل سافلين " إلى النار، يعني الكافر، وقال أبو العالية. وقيل: لما وصفه الله بتلك الصفات الجليلة التي ركب الانسان عليها، طغى وعلا، حتى قال: " أنا ربكم الاعلى " (1) [ النازعات: 24 ] وحين علم الله هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده، رده أسفل سافلين، بأن جعله مملوءا قذرا، مشحونا نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغلبة أخرى، حتى، إذا شاهد ذلك من أمره، رجع إلى قدره. وقرأ عبد الله " أسفل السافلين ". وقال، " أسفل سافلين " على الجمع، لان الانسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافل جاز، لان لفظ الانسان واحد. وتقول: هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين، لانك تضمر لواحد، فإن كان الواحد غير مضمر له، رجع اسمه بالتوحيد والجمع، كقوله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " (2) [ الزمر: 33 ]. وقوله تعالى: " وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة " (3) [ الشورى: 48 ]. وقد قيل: إن معنى " رددناه أسفل سافلين أي رددناه إلي الضلال، كما قال تعالى: " إن الانسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال " أسفل سافلين " النار، متصل. ومن قال: إنه الهرم فهو منقطع. قوله تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (6) قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم، قاله ابن عباس. قال: وهم الذين أدركهم الكبر لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم. (1) آية 24 سورة النازعات. (2) آية 33 سورة الزمر. (3) آية 48 سورة الشورى. (*)
[ 116 ]
وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه، أجرى الله عزوجل له ما كان يعمل في شبابه. وفي حديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ]. وقيل: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنه لا يخرف ولا يهرم (1)، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به. وعن عاصم الاحول عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ]. وروي: إن العبد المؤمن إذا مات أمر الله ملكيه (2) أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة، ويكتب له ذلك. قوله تعالى: (فلهم أجر غير ممنون) قال الضحاك: أجر بغير عمل. وقيل مقطوع. قوله تعالى: فما يكذبك بعد بالدين (7) قيل: الخطاب للكافر، توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الانسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلى الله عليه وسلم به ؟ وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي استيقن مع ما جاءك من الله عزوجل، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة. وقال قتادة أيضا والفراء: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على ذلك، أي على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الانسان والدين والجزاء. قال الشاعر: دنا تميما كما كانت أوائلنا * دانت أوائلهم في (3) سالف الزمن (1) في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي: (فهم لا يخرفون ولا تذهب عقولهم). (2) في بعض نسخ الاصل: (ملائكة) وفي بعضها: (ملكين). (3) في تفسير الشوكاني طبعة مصطفى البابي الحلبي (5: 453): من سالف. (*)
[ 117 ]
قوله تعالى: أليس الله بأحكم الحاكمين (8) أي أتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق. وقيل: " بأحكم الحاكمين " قضاء بالحق، وعدلا بين الخلق. وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم. وألف الاستفهام إذا دخلت عل النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجابا، كما قال: * ألستم خير من ركب المطايا (1) * وقيل: " فما يكذبك بعد بالدين. أليس الله بأحكم الحاكمين ": منسوخة بآية السيف. وقيل: هي ثابتة، لانه لا تنافي بينهما. وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إذا قرأ: " أليس الله بأحكم الحاكمين " قالا: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، فيختار ذلك. والله أعلم. ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال: من قرأ سورة " والتين والزيتون " فقرأ " أليس الله بأحكم الحاكمين " فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. والله أعلم. سورة " العلق " وهي مكية بإجماع وهي أول ما نزل من القرآن في قول أبي موسى وعائشة رضى الله عنهما. وهي تسع عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: أقرأ باسم ربك الذي خلق (1) هذه السورة أول ما نزل من القرآن، في قول معظم المفسرين. نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على حراء، فعلمه خمس آيات من هذه السورة. وقيل: إن أول ما نزل " يا أيها المدثر " [ المدثر: 1 ]، قاله جابر بن عبد الله، وقد تقدم (2). وقيل: فاتحة الكتاب أول ما نزل، قاله أبو ميسرة الهمداني. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أول ما نزل من القرآن (1) من قصيدة لجرير يمدح عبد الملك بن مروان. وتمامه: * وأندى العالمين بطون راح * (2) راجع ج 19 ص 58 من الطبعة الاولى وج 19 ص 59 من الطبعة الثانية. (*)
[ 118 ]
" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " (1) [ الانعام: 151 ] والصحيح الاول. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة (2)، فجاءه الملك فقال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الاكرم ". خرجه البخاري. وفي الصحيحين عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، يتحنث (3) فيه الليالي ذوات العدد، [ قبل أن يرجع إلى أهله ] (4) ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: [ اقرأ ]: فقال: (ما أنا بقارئ - قال - فأخذني فغطني (5)، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني) فقال: [ أقرأ ] فقلت: " ما أنا بقارئ ". فأخذني فغطني (5) الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: [ اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الاكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم ] الحديث بكامله. وقال أبو رجاء العطاردي: وكان أبو موسى الاشعري يطوف علينا في هذا المسجد: مسجد البصرة، فيقعدنا حلقا، فيقرئنا القرآن، فكأني أنظر إليه بين ثوبين له أبيضين، وعنه أخذت هذه السورة: " اقرأ باسم ربك الذي خلق ". وكانت أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم. وروت عائشة رضي الله عنها أنها أول سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها " ن والقلم "، ثم بعدها " يأيها المدثر " ثم بعدها " والضحى " ذكره الماوردي. وعن الزهري: أول ما نزل سورة: " اقرأ باسم ربك - إلى قوله - ما لم يعلم "، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال له: [ إنك نبي الله ] فرجع إلى خديجة وقال: [ دثروني وصبوا علي ماء باردا ] فنزل " يا أيها المدثر " [ المدثر: 1 ]. (1) آية 151 سورة الانعام. (2) كذا في الاصول ومسلم. وفي البخاري: (الصالحة). (2) يتحنث: أي يتعبد. يقال: فلان يتحنث أي يفعل فعلا يخرج به من الاثم والحرج. (4) زيادة عن الصحيحين. (5) الغط: العصر الشديد والكبس. (*)
[ 119 ]
ومعنى " اقرأ باسم ربك " أي اقرأ ما أنزل إليك من القرآن مفتتحا باسم ربك، وهو أن تذكر التسمية في ابتداء كل سورة. فمحل الباء من " باسم ربك " النصب على الحال. وقيل: الباء بمعنى على، أي اقرأ على اسم ربك. يقال: فعل كذا باسم الله، وعلى اسم الله. وعلى هذا فالمقروء محذوف، أي اقرأ القرآن، وافتتحه باسم الله. وقال قوم: اسم ربك هو القرآن، فهو يقول: " اقرأ باسم ربك " أي اسم ربك، والباء زائدة، كقوله تعالى " تنبت بالدهن " [ المؤمنون: 20 ]، وكما قال: * سود المحاجر لا يقرأن بالسور (1) * أراد: لا يقرأن السور. وقيل: معنى " اقرأ باسم ربك " أي اذكر اسمه. أمره أن يبتدئ القراءة باسم الله. قوله تعالى: خلق الانسان من علق (2) قوله تعالى: " خلق الانسان " يعني ابن آدم. (من علق) أي من دم، جمع علقة، والعلقة الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح. وقال: " من علق " فذكره بلفظ الجمع، لانه أراد بالانسان الجمع، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة. والعلقة: قطعة من دم رطب، سميت بذلك لانها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفت لم تكن علقة. قال الشاعر: تركناه يخر على يديه * يمج عليهما علق الوتين وخص الانسان بالذكر تشريفا له. وقيل: أراد أن يبين قدر نعمته عليه، بأن خلقه من علقة مهينة، حتى صار بشرا سويا، وعاقلا مميزا. قوله تعالى: أقرأ وربك الاكرم (3) قوله تعالى: " اقرأ " تأكيد، وتم الكلام، ثم استأنف فقال: " وربك الاكرم " أي الكريم. وقال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العباد، فلم يعجل بعقوبتهم. والاول أشبه (1) هذا عجز بيت للراعي وصدره: * هن الحرائر لا ربات أحمرة * (*)
[ 120 ]
بالمعنى، لانه لما ذكر ما تقدم من نعمه، دل بها على كرمه. وقيل: " إقرأ وربك " أي اقرأ يا محمد وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير القارئ. و " الاكرم " بمعنى المتجاوز عن جهل العباد. قوله تعالى: الذي علم بالقلم (4) فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: " الذي علم بالقلم " يعني الخط والكتابة، أي علم الانسان الخط بالقلم. وروى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الاولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسمي قلما لانه يقلم، أي يقطع، ومنه تقليم الظفر. وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم: فكأنه والحبر يخضب رأسه * شيخ لوصل خريدة يتصنع لم (1) لا ألاحظه بعين جلالة * وبه إلى الله الصحائف ترفع وعن عبد الله بن عمر قال: يا رسول الله، أأكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال: [ نعم فاكتب، فإن الله علم بالقلم ]. وروى مجاهد عن أبي عمر قال: خلق الله عزوجل أربعة أشياء بيده، ثم قال لسائر الحيوان: كن فكان: القلم، والعرش، وجنة عدن، وآدم عليه السلام. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام، لانه أول من كتب، قاله كعب الاحبار. الثاني: أنه إدريس، وهو أول من كتب. قاله الضحاك. الثالث: أنه أدخل كل من كتب بالقلم، لانه ما علم إلا بتعليم الله سبحانه، وجمع بذلك نعمته عليه في خلقه، وبين نعمته عليه في تعليمه، استكمالا للنعمة عليه. (1) في الاصول: (ألا) في موضع (لم لا)، ولعله تحريف. (*)
[ 121 ]
الثانية - صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، قال: لما خلق الله الخلق كتب في كتابه - فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي). وثبت عنه عليه السلام أنه قال: (أول ما خلق الله: القلم، فقال له اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذكر فوق عرشه). وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: [ أنه ] (1) سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم يقول، يا رب، أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول يا رب رزقه، ليقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص، وقال تعالى: " إن عليكم لحافظين. كراما كاتبين " (2) (الانفطار: 10). قال علماؤنا: فالاقلام في الاصل ثلاثة: القلم الاول: الذي خلقه الله بيده، وأمره أن يكتب. والقلم الثاني: أقلام الملائكة، جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والاعمال. والقلم الثالث: أقلام الناس، جعلها الله بأيديهم، يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها مأربهم. وفي الكتابة فضائل جمة. والكتابة من جملة البيان، والبيان مما اختص به الآدمي. الثالثة - قال علماؤنا: كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب، وأقل العرب معرفة به المصطفى صلى الله عليه وسلم، صرف عن علمه، ليكون ذلك أثبت لمعجزته، وأقوى في حجته، وقد مضى هذا مبينا في سورة " العنكبوت " (3). وروى حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة ]. قال علماؤنا: وإنما حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لان في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل، وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر. وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل، فتحدث الفتنة والبلاء، فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة. (1) زيادة لتكملة العبارة. (2) آية 10 سورة الانفطار. (3) راجع ج 13 ص 351 (*)
[ 122 ]
وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال ]. وذلك أنها خلقت من الرجل، فنهمتها في الرجل، والرجل خلقت فيه الشهوة، وجعلت سكنا له، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه. وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى. والكتابة عين من العيون، بها يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده. وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان، فهو أبلغ من اللسان. فأحب رسوله الله صلى الله عليه وسلم أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة، تحصينا لهن، وطهارة لقلوبهن. قوله تعالى: علم الانسان ما لم يعلم (5) قيل: " الانسان " هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شئ، حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى: " وعلم آدم الاسماء كلها " (1). فلم يبق شئ إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه. وبذلك ظهر فضله، وتبين قدره، وثبتت نبوته، وقامت حجة الله على الملائكة وحجته، وامتثلت الملائكة الامر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الامر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما عن قوم. وقد مضى هذا في سورة " البقرة " (2) مستوفى والحمد لله. وقيل: " الانسان " هنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، دليله قوله تعالى: " وعلمك ما لم تكن تعلم " (3) [ النساء: 113 ]. وعلى هذا فالمراد ب‍ " - علمك " المستقبل (4)، فإن هذا من أوائل ما نزل. وقيل: هو عام لقوله تعالى: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا " (5) [ النحل: 78 ]. قوله تعالى: كلا إن الانسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7) قوله تعالى: (كلا إن الانسان ليطغى) إلى آخر السورة. قيل: إنه نزل (1) آية 31 سورة البقرة. (2) راجع ج 1 ص 279 طبعة ثانية (3) آية 113 سورة النساء. (4) في نسخة: المشكل. (5) آية 78 سورة النحل. (*)
[ 123 ]
في أبي جهل. وقيل: نزلت السورة كلها في أبي جهل، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب. وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل. ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أول ما نزلت، ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة، لان تأليف السور جرى بأمر من الله. ألا ترى أن قوله تعالى: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " (1) [ البقرة: 281 ] آخر ما نزل، ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل. و " كلا " بمعنى حقا، إذ ليس قبله شئ. والانسان هنا أبو جهل. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان. " أن رآه " أي لان رأى نفسه استغنى، أي صار ذا مال وثروة. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه، قال: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: (يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاءوا فعلنا بهم ما أرادوه: فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة). فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القوم لا يقبلون ذلك (2)، فكف عنهم إبقاء عليهم. وقيل: " أن رآه استغنى " بالعشيرة والانصار والاعوان. وحذف اللام من قوله " أن رآه " كما يقال: إنكم لتطغون إن رأيتم غناكم. وقال الفراء: لم يقل رأى نفسه، كما قيل قتل نفسه، لان رأى من الافعال التي تريد اسما وخبرا، نحو الظن والحسبان، فلا يقتصر فيه على مفعول واحد. والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا. وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير " أن رآه استغنى " بقصر الهمزة. الباقون " رآه " بمدها، وهو الاختيار. (1) آية 281 سورة البقرة. (2) في نسخة من الاصل: (يقبلون). (*)
[ 124 ]
قوله تعالى: إن إلى ربك الرجعى (8) أي مرجع من هذا وصفه، فنجازيه. والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر، يقال: رجع إليه رجوعا ومرجعا. ورجعى، على وزن فعلى. قوله تعالى: أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) قوله تعالى: (أرأيت الذي ينهى) وهو أبو جهل (عبدا) وهو محمد صلى الله عليه وسلم. فإن أبا جهل قال: إن رأيت محمدا يصلي لاطأن على عنقه، قاله أبو هريرة. فأنزل الله هذه الآيات تعجبا (1) منه. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: أمن هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة. قوله تعالى: أرأيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أي أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على هذه الصفة، أليس ناهيه عن التقوى والصلاة هالكا ؟ ! قوله تعالى: أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) يعني أبا جهل كذب بكتاب الله عزوجل، وأعرض عن الايمان. وقال الفراء: المعنى " أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى " وهو على الهدى، وآمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر، أي فما أعجب هذا ! ثم يقول: ويله ! ألم يعلم أبو جهل بأن الله يرى، أي يراه ويعلم فعله، فهو تقرير وتوبيخ. وقيل: كل واحد من " أرأيت " بدل من الاول. و " ألم يعلم بأن الله يرى " الخبر. قوله تعالى: كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كاذبة خاطئة (16) (1) أي تعجيبا منه، وهو إيقاع المخاطب وحمله على التعجب (عن حاشية الجمل). (*)
[ 125 ]
قوله تعالى: (كلا لئن لم ينته) أي أبو جهل عن أذاك يا محمد. " لنسفعا " أي لنأخذن " بالناصية " فلنذلنه. وقيل: لنأخذن بناصيته يوم القيامة وتطوى مع قدميه، ويطرح في النار، كما قال تعالى: " فيؤخذ بالنواصي والاقدام " (1) [ الرحمن: 41 ]. فالآية - وإن كانت في أبي جهل - فهي عظة للناس، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة. وأهل اللغة يقولون: سفعت بالشئ: إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. ويقال: سفع بناصية فرسه. قال: قوم إذا كثر الصياح رأيتهم * من بين ملجم مهره أو سافع (2) وقيل: هو مأخوذ من سفعته النار والشمس: إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد، كما قال: أثافي سفعا في معرس مرجل * ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع (3) والناصية: شعر مقدم الرأس. وقد يعبر بها عن جملة الانسان، كما يقال: هذه ناصية مباركة، إشارة إلى جميع الانسان. وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته. وقال المبرد: السفع: الجذب بشدة، أي لنجرن بناصيته إلى النار. وقيل: السفع الضرب، أي لنلطمن وجهه. وكله متقارب المعنى. أي يجمع عليه الضرب عند الاخذ، ثم يجر إلى جهنم. ثم قال على البدل: " ناصية كاذبة خاطئة " (1) آية 41 سورة الرحمن. (2) البيت لحميد بن ثور الهلالي الصحابي ويروى: (ما بين ملجم...) (3) هكذا ورد البيت في جميع نسخ الاصل وتفسير ابن عادل وهو ملفق من قصيدتين. فالشطر الاول من معلقة زهير. والبيت كما في ديوانه ومعلقته: أثافى سفعا في معرس مرجل * ونؤيا كجذام الحوض لم يتثلم والشطر الثاني من قصيدة للنابغة: والبيت كما في ديوانه: رماد ككحل العين لايا أبينه * ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع والاثلم: المتثلم. الخاشع: اللاصق بالارض. والاثافي: الحجارة التي تجعل عليها القدر الواحدة أثفية. والسفع: السود. والمعرس: الموضع الذي فيه المرجل. والمرجل: كل قدر يطبخ فيها من حجارة أو حديد أو خزف أو نحاس. والنؤى: حاجز يرفع حول البيت من تراب لئلا يدخل البيت الماء من خارج. وجذم الحوض: حرفه وأصله. ولم يتثلم: يعني النؤى قد ذهب أعلاه ولم يتثلم ما بقى منه أي يتكسر. (*)
[ 126 ]
أي ناصية أبي جهل كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها. والخاطئ معاقب مأخوذ. والمخطئ غير مأخوذ (1). ووصف الناصية بالكاذبة الخاطئة، كوصف الوجوه بالنظر في قوله تعالى: " إلى ربها ناظرة " (2) [ القيامة: 23 ]. وقيل: أي صاحبها كاذب خاطئ، كما يقال: نهاره صائم، وليله قائم، أي هو صائم في نهاره، ثم قائم في ليله. قوله تعالى: فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) قوله تعالى: (فليدع ناديه) أي أهل مجلسه وعشيرته، فليستنصر بهم. (سندع الزبانية) أي الملائكة الغلاط الشداد - عن ابن عباس وغيره - واحدهم زبني، قاله الكسائي. وقال الاخفش: زابن. أبو عبيدة: زبنية. وقيل: زباني. وقيل: هو اسم للجمع، كالابابيل والعباديد. وقال قتادة: هم الشرط في كلام العرب. وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع، ومنه المزابنة (3) في البيع. وقيل: إنما سموا الزبانية لانهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم، حكاه أبو الليث السمرقندي - رحمه الله - قال: وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة، وبلغ إلى قوله تعالى: " لنسفعا بالناصية " قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. فقال الله تعالى: " فليدع ناديه، سندع الزبانية ". فلما سمع ذكر الزبانية رجع فزعا، فقيل له: خشيت منه ! قال لا ! ولكن رأيت عنده فارسا يهددني بالزبانية. فما أدري ما الزبانية، ومال إلي الفارس، فخشيت منه أن يأكلني. وفي الاخبار أن الزبانية رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الارض، فهم يدفعون الكفار في جهنم وقيل: إنهم أعظم الملائكة خلقا، وأشدهم بطشا. والعرب تطلق هذا الاسم على من أشتد بطشه. قال الشاعر: مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى * زبانية غلب عطام حلومها (4) (1) الخاطئ: من تعمد لما لا ينبغي أي القاصد للذنب. والمخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره. (2) آية 23 سورة القيامة. (3) هي بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر ونهى عنها لما يقع فيها من الغبن والجهالة. (4) غلب: جمع أغلب وهو الغليظ الرقبة. والعرب تصف السادة بغلظ الرقبة وطولها. والحلوم: جمع الحلم وهو العقل. (*)
[ 127 ]
وعن عكرمة عن ابن عباس: " سندع الزبانية " قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي لاطأن على عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لو فعل لاخذته الملائكة عيانا ]. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر أبو جهل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام، فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد ! فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: بأي شئ تهددني يا محمد ! والله إني لاكثر أهل الوادي هذا ناديا، فأنزل الله عزوجل: " فليدع ناديه. سندع الزبانية ". قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لاخذته زبانية العذاب من ساعته. أخرجه الترمذي بمعناه، وقال: حسن غريب صحيح. والنادي في كلام العرب: المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي يجتمعون، والمراد أهل النادي، كما قال جرير: * لهم مجلس صهب السبال أذلة (1) * وقال زهير: * وفيهم مقامات حسان وجوههم (2) * وقال آخر: * واستب بعدك يا كليب المجلس (3) * وقد ناديت الرجل أناديه إذا جالسته. قال زهير: وجار البيت والرجل المنادي * أمام الحي عقدهما سواء (1) تمامه: * سواسية أحرارها وعبيدها * والبيت لذي الرمة لا لجرير. و (صهب): حمر. و (السبال): الشعر الذي عن يمين الشفة العليا وشمالها. (2) تمام البيت: * وأندية ينتابها القول والفعل * المقامات: المجالس، وإنما سميت المقامات لان الرجل كان يقوم في المجلس فيحض على الخير ويصلح بين الناس. وأندية: جمع الندى وهو المجلس أيضا وفيه الشاهد. (3) هذا عجز بيت المهلهل يرثى أخاه كليبا. وصدره: * نبئت أن النار بعدك أوقدت * (*)
[ 128 ]
قوله تعالى: كلا لا تطعه واسجد واقترب (19) (كلا) أي ليس الامر على ما يظنه أبو جهل. (لا تطعه) أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة. (واسجد) أي صل لله (واقترب) أي تقرب إلى الله جل ثناؤه بالطاعة والعبادة. وقيل: المعنى: إذا سجدت فاقترب من الله بالدعاء. روى عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الارض ساجدا لله ]. قال علماؤنا: وإنما [ كان ] ذلك لانها نهاية العبودية والذلة، ولله غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها، فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن (1) أن يستجاب لكم ]. ولقد أحسن من قال: وإذا تذللت الرقاب تواضعا * منا إليك فعزها في ذلها وقال زيد بن أسلم: اسجد أنت يا محمد مصليا، واقترب أنت يا أبا جهل من النار. وقوله تعالى: " واسجد " هذا من السجود. يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة. قال ابن العربي: " والظاهر أنه سجود الصلاة " لقوله تعالى: " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى - إلى قوله - كلا لا تطعه واسجد واقترب "، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الائمة عن أبي هريرة أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في " إذا السماء انشقت " [ الانشقاق: 1 ]، وفي " اقرأ باسم ربك الذي خلق " [ العلق: 1 ] سجدتين، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة. وقد روى ابن وهب، عن حماد ابن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: عزائم السجود أربع: " ألم " و " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " و " النجم " و " اقرأ (1) يقال: قمن وقمن بفتح الميم وكسرها والذي بالكسر يثنى ويجمع كقمين أي خليق وجدير. (*)
[ 129 ]
باسم ربك ". وقال ابن العربي: وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة " الحج "، وإن كان مقترنا بالركوع، لانه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع، واسجدوا في موضع السجود ". وقد قال ابن نافع ومطرف: وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من " اقرأ باسم ربك " وابن وهب يراها من العزائم. قلت: وقد روينا من حديث مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر قال: لما أنزل الله تعالى " اقرأ باسم ربك الذي خلق " [ العلق: 1 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: [ اكتبها يا معاذ ] فأخذ معاذ اللوح والقلم والنون - وهي الدواة - فكتبها معاذ، فلما بلغ " كلا لا تطعه واسجد واقترب " سجد اللوح، وسجد القلم، وسجدت النون، وهم يقولون: اللهم ارفع به ذكرا، اللهم احطط به وزرا، اللهم اغفر به ذنبا. قال معاذ: سجدت، وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسجد. ختمت السورة. والحمد لله على ما فتح ومنح وأعطى. وله الحمد والمنة. سورة " القدر " وهي مدنية في قول أكثر المفسرين ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عكسه. قلت: وهي مدنية في قول الضحاك وأحد قولي ابن عباس. وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وهي خمس آيات. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) قوله تعالى: (أنا أنزلناه) يعنى القرآن، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة، لان المعنى معلوم، والقرآن كله كالسورة الواحدة. وقد قال: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " (1) [ البقرة: 185 ] وقال: " حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة " (2) [ الدخان: 1 - 3 ] يريد: في ليلة القدر. وقال (1) آية 185 سورة البقرة. (2) أول سورة الدخان. (*)
[ 130 ]
الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة (1)، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما (2) نجوما. وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة، قاله ابن عباس، وقد تقدم في سورة " البقرة " (3). وحكى الماوردي عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة، جملة واحدة من عند الله، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي: " وهذا باطل، ليس بين جبريل وبين الله واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة ". قوله تعالى: (في ليلة القدر) قال مجاهد: في ليلة الحكم. (وما أدراك ما ليلة القدر) قال: ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سميت بذلك لان الله تعالى يقدر (4) فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والاجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الامور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل. عليهم السلام. وعن ابن عباس قال: يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت، حتى الحاج. قال عكرمة: يكتب حاج بيت الله تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء أبائهم، ما يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم. وقاله سعيد بن جبير. وقد مضى في أول سورة " الدخان " (5) هذا المعنى. وعن ابن عباس أيضا: أن الله تعالى يقضي الاقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة. قاله الزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لان للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا. وقال أبو بكر الوراق: (1) السفرة: هم الملائكة جمع سافر. والسافر في الاصل: الكاتب سمى به لانه يبين الشئ ويوضحه. (2) يعني جزءا جزءا الآية والآيتين. (3) راجع ج 2 ص 297 طبعة ثانية. (4) يريد أنه يظهر ما قضاه في الازل من الامور لا أنه يقدر ابتداء. (5) راجع ج 16 ص 125 (*)
[ 131 ]
سميت بذلك لان من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها. وقيل: سميت بذلك لانه أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر. وقيل: لانه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر وخطر. وقيل: لان الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة. وقال سهل: سميت بذلك لان الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال الخليل: لان الارض تضيق فيها بالملائكة، كقوله تعالى: " ومن قدر عليه رزقه " (1) [ الطلاق: 7 ] أي ضيق. قوله تعالى: وما أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (3) قال الفراء: كل ما في القرآن من قوله تعالى: " وما أدراك " فقد أدراه. وما كان من قوله: " وما يدريك " [ الاحزاب: 63 ] فلم يدره. وقاله سفيان، وقد تقدم (2). (ليلة القدر خير من ألف شهر) بين فضلها وعظمها. وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل. وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. والله أعلم. وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر. وقيل: عنى بألف شهر جميع الدهر، لان العرب تذكر الالف في غاية الاشياء، كما قال تعالى: " يود أحدهم لو يعمر ألف سنة " (3) [ البقرة: 96 ] يعني جميع الدهر. وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد الله ألف شهر، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل الله تعالى لامة محمد صلى الله عليه وسلم عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها. وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما. وقال ابن مسعود: إن النبي صلى الله (1) آية 7 سورة الطلاق. (2) راجع ج 18 ص 257 وج 19 ص 247 وص 3 من هذا الجزء. (3) آية 96 سورة البقرة. (*)
[ 132 ]
عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فنزلت " إنا أنزلناه " [ الدخان: 3 ] الآية. " خير من ألف شهر "، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله. ونحوه عن ابن عباس. وهب بن منبه: إن ذلك الرجل كان مسلما، وإن أمه جعلته نذرا لله، وكان من قرية قوم يعبدون الاصنام، وكان سكن قريبا منها، فجعل يغزوهم وحده، ويقتل ويسبي ويجاهد، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش، انفجر له من اللحيين (1) ماء عذب، فيشرب منه، وكان قد أعطى قوة في البطش، لا يوجعه حديد ولا غيره: وكان اسمه شمسون. وقال كعب الاحبار: كان رجلا ملكا في بني إسرائيل، فعل خصلة واحدة، فأوحى الله إلى نبي زمانهم: قل لفلان يتمنى. فقال: يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي، فرزقه الله ألف ولد، فكان يجهز الولد بماله في عسكر، ويخرجه مجاهدا في سبيل الله، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد، ثم يجهز آخر في عسكر، فكان كل ولد يقتل في الشهر، والملك مع ذلك قائم الليل، صائم النهار، فقتل الالف (2) ولد في ألف شهر، ثم تقدم فقاتل فقتل. فقال الناس: لا أحد يدرك منزلة هذا الملك، فأنزل الله تعالى: " ليلة القدر خير من ألف شهر " من شهور ذلك الملك، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والاولاد في سبيل الله. وقال علي وعروة: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة من بني إسرائيل، فقال (عبدوا الله ثمانين سنة، لم يعصوه طرفة عين)، فذكر أيوب وزكريا، وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك. فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيرا من ذلك، ثم قرأ: " إنا أنزلناه في ليلة القدر ". فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت (1) اللحى (بفتح اللام وتشديدها وسكون الحاء): عظم الحنك وهو الذي عليه الاسنان. وعبارة الطبري في تاريخه (طبع أوربا قسم أول ص 794): " وكان إذا لقيهم لقيهم بلحى بعير، لا يلقاهم بغيره: فإذا قاتلوه وقاتلهم. وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذي في اللحى ماء عذب... الخ ". بإفراد " اللحى " في الموضعين. (2) كذا في الاصل والمعروف في العربية أن البصريين قالوا: ما كان من العدد مضافا أدخل الالف واللام في آخره فقط وأجاز الكوفيون إدخال الالف واللام على الاول والثاني وعلى ذلك فيقال هنا: ألف الولد أو الالف الولد. (*)
[ 133 ]
من أثق به يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الامم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر. وفي الترمذي. عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت " إنا أعطيناك الكوثر " [ الكوثر: 1 ]، يعني نهرا في الجنة. ونزلت " إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر " يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم بن الفضل الحداني: فعددناها، فإذا هي ألف شهر، لا تزيد يوما، ولا تنقص يوما. قال: حديث غريب. قوله تعالى: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) قوله تعالى: (تنزل الملائكة) أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها. فينزلون إلى الارض ويؤمنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر، فذلك قوله تعالى: " تنزل الملائكة ". (والروح فيها بإذن ربهم) أي جبريل عليه السلام. وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة، جعلوا حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم، كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة. وأقربهم من الله تعالى. وقيل: إنهم جند من جند الله عزوجل من غير الملائكة. رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعا، ذكره الماوردي وحكى القشيري: قيل هم صنف من خلق الله يأكلون الطعام، ولهم أيد وأرجل، وليسوا ملائكة. وقيل: " الروح " خلق عظيم يقوم صفا، والملائكة كلهم صفا. وقيل: " الروح " الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده " (1) [ النحل: 2 ]، أي بالرحمة. " فيها " أي في ليلة القدر. " بإذن ربهم " أي بأمره. (من كل أمر): أمر بكل أمر قدره الله وقضاه في تلك السنة إلى قابل، قاله ابن عباس، كقوله تعالى: " يحفظونه من أمر الله " (2) [ الرعد: 11 ] أي بأمر الله. وقراءة العامة " تنزل " بفتح التاء، إلا أن البزي (1) آية 2 سورة النحل. (2) آية 11 سورة الرعد. (*)
[ 134 ]
شدد التاء. وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميقع، بضم التاء على الفعل المجهول. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي " من كل امرئ ". وروي عن ابن عباس أن معناه: من كل ملك، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كل امرئ مسلم. " فمن " بمعنى على. وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة (1) من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى. قوله تعالى: سلام هي حتى مطلع الفجر (5) قيل: إن تمام الكلام " من كل أمر " ثم قال " سلام ". روي ذلك عن نافع وغيره، أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها. " حتى مطلع الفجر " أي إلى طلوع الفجر. قال الضحاك: لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل: أي هي سلام، أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وروي مرفوعا. وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن. وقيل: يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها. وقال قتادة: " سلام هي ": خير هي. " حتى مطلع الفجر " أي إلى مطلع الفجر. وقرأ الكسائي وابن محيصن " مطلع " بكسر اللام، الباقون بالفتح. والفتح والكسر: لغتان في المصدر. والفتح الاصل في فعل يفعل، نحو المقتل والمخرج. والكسر على أنه مما شذ عن قياسه، نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر. حكى في ذلك كله الفتح والكسر، على أن يراد به المصدر لا الاسم. وهنا ثلاث مسائل: الاولى: في تعيين ليلة القدر، وقد اختلف العلماء في ذلك. والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين، لحديث زر بن حبيش قال: قلت لابي بن كعب: إن أخاك عبد الله (1) الكبكبة (بالفتح): الجماعة المتضامة من الناس وغيرهم. (*)
[ 135 ]
ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: يغفر الله لابي عبد الرحمن ! لقد علم أنها في العشر الاواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكنه أراد ألا يتكل الناس، ثم حلف لا يستثنى (1): أنها ليلة سبع وعشرين. قال قلت: بأي شئ تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يؤمئذ لا شعاع لها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرجه مسلم. وقيل: هي في شهر رمضان دون سائر العام، قاله أبو هريرة وغيره. وقيل: هي في ليالي السنة كلها. فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر، لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضي سنة من يوم حلف. لانه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضي حول. وكذلك العتق، وما كان مثله من يمين أو غيره. وقال ابن مسعود: من يقم الحول يصبها، فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن ! أما إنه علم أنها في العشر الاواخر من شهر رمضان، ولكنه أراد ألا يتكل الناس. وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة. وقيل عنه: إنها رفعت - يعني ليلة القدر - وأنها إنما كانت مرة واحدة، والصحيح أنها باقية. وروي عن ابن مسعود أيضا: أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة، كانت في العام المقبل في يوم آخر. والجمهور على أنها في كل عام من رمضان. ثم قيل: إنها الليلة الاولى من الشهر، قاله أبو رزين العقيلي. وقال الحسن وابن إسحاق وعبد الله بن الزبير: هي ليلة سبع عشرة من رمضان، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر. كأنهم نزعوا بقوله تعالى: " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان " (2) [ الانفال: 41 ]، وكان ذلك ليلة سبع عشرة، وقيل هي ليلة التاسع عشر. والصحيح المشهور: أنها في العشر الاواخر من رمضان، وهو قول مالك والشافعي والاوزاعي وأبي ثور وأحمد. ثم قال قوم: هي ليلة الحادي والعشرين. ومال إليه الشافعي رضي الله عنه، لحديث الماء والطين (1) أي جزم في حلفه بلا استثناء فيه بأن يقول عقب يمينه إن شاء الله. (2) آية 41 سورة الانفال. (*)
[ 136 ]
ورواه أبو سعيد الخدري، خرجه مالك (1) وغيره. وقيل ليلة الثالث والعشرين، لما رواه ابن عمر أن رجلا قال: يا رسول الله إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين). قال معمر: فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين). قال عبد الله بن أنيس: فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ليلة خمس وعشرين، لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التمسوها في العشر الاواخر في تاسعة تبقى، في سابعه تبقى، في خامسة تبقى). رواه مسلم، قال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين. وقيل: ليلة سبع وعشرين. وقد مضى دليله، وهو قول علي رضي الله عنه وعائشة ومعاوية وأبي بن كعب. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان متحريا ليلة القدر، فليتحرها ليلة سبع وعشرين). وقال أبي بن كعب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليلة القدر ليلة سبع وعشرين). وقال أبو بكر الوراق: إن الله تعالى قسم ليالي هذا الشهر - شهر رمضان - على كلمات هذه السورة، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فتجئ سبعا وعشرين. وقيل: هي ليلة تسع وعشرين، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليلة القدر التاسعة (1) لفظ الحديث كما رواه مالك في الموطأ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة حدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه): قال (من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الاواخر وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها: وقد رأيتني أسجد من صبحها في ماء وطين: فالتمسوها في العشر الاواخر والتمسوها في كل وتر " قال أبو سعيد: فأمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد (قطر) قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبينه وأنفه أثر الماء والطين من صبح ليلة إحدى وعشرين ". (*)
[ 137 ]
والعشرون - أو السابعة والعشرون - وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى ". وقد قيل: إنها في الاشفاع (1). قال الحسن: ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها. يعني من كثرة الانوار في تلك الليلة. وقيل إنها مستورة في جميع السنة، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي. وقيل: أخفاها في جميع شهر رمضان، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان، طمعا في إدراكها، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الاعظم في أسمائه الحسنى، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الاوقات، والعبد الصالح بين العباد، رحمة منه وحكمة. الثانية: في علاماتها: منها أن الشمس، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها. وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: (إن من أماراتها: أنها ليلة سمحة بلجة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع). وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر، فأخذت من مائه، فوجدته عذبا سلسا. الثالثة: في فضائلها. وحسبك بقوله تعالى: " ليلة القدر خير من ألف شهر ". وقوله تعالى: " تنزل الملائكة والروح فيه ". وفي الصحيحين: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه) رواه أبو هريرة. وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى، منهم جبريل، ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء على المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل الخنزير، والمتضمخ بالزعفران): وفي الحديث: (إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضئ فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شئ من الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر ". وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها. وقال الفراء، لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدر في غيرها البلايا والنقم، وقد تقدم عن الضحاك. ومثله لا يقال (1) جمع شفع وهو العدد الذي يقبل القسمة على أثنين. (*)
[ 138 ]
من جهة الرأي، فهو مرفوع. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: [ من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها (1) ]، ومثله لا يدرك بالرأي. وقد روى عبيد الله ابن عامر بن ربيعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر) ذكره الثعلبي في تفسيره. وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول ؟ قال: (قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). تفسير سورة " لم يكن " وهي مكية في قول يحيى بن سلام. ومدنية، في قول ابن عباس والجمهور. وهي تسع آيات (3). وقد جاء في فضلها حديث لا يصح، رويناه عن محمد بن محمد بن عبد الله الحضرمي قال: قال لي أبو عبد الرحمن بن نمير: اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب، فاكتب عنه فإنه قد كتب، فذهب إليه، فقال: حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله: (لو يعلم الناس ما في [ لم يكن ] الذين كفروا من أهل الكتاب،، لعطلوا الاهل والمال، فتعلموها) فقال رجل من خزاعة: وما فيها من الاجر يا رسول الله ؟ قال: (لا يقرؤها منافق أبدا، ولا عبد في قلبه شك في الله. والله إن الملائكة المقربين يقرءونها (4) منذ خلق الله السموات والارض ما يفترون من قراءتها. وما من عبد يقرؤها إلا بعث الله إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة). قال الحضرمي: فجئت إلى أبي عبد الرحمن بن نمير، فألقيت هذا الحديث عليه، فقال: هذا (1) ما بين المربعين زيادة من الموطأ. (2) الذي في نسخة تفسير الثعلبي التي بين أيدينا: " من صلى المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر فقد أخذ... " الحديث. ولم يذكر: (في جماعة). (3) في مصاحفنا: (ثمان آيات). وفي تفسير الآلوسي: وآيها تسع في البصري وثمان في غيره). (4) في بعض نسخ الاصل: (قبل خلق السموات...) (*)
[ 139 ]
قد كفانا مئونته، فلا تعد إليه. قال ابن العربي: " روى إسحاق بن بشر الكاهلي عن مالك ابن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب: عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في [ لم يكن ] الذين كفروا لعطلوا الاهل والمال ولتعلموها) (1). حديث باطل، وإنما الحديث الصحيح ما روي عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابي بن كعب: (إن الله أمرني أن اقرأ عليك " لم يكن الذين كفروا " قال: وسماني لك ! ؟ قال " نعم " فبكى). قلت: خرجه البخاري ومسلم. وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي، ليعلم الناس التواضع، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة. وقيل: لان أبيا كان أسرع أخذا لالفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد بقراءته عليه، أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه، ويعلم غيره. وفيه فضيلة عظيمة لابي، إذ أمر الله رسوله أن يقرأ عليه. قال أبو بكر الانباري: وحدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد، قال حدثنا علي بن الجعد، قال حدثنا عكرمة عن عاصم عن زر بن حبيش قال: في قراءة أبي بن كعب: ابن آدم لو أعطي واديا من مال لالتمس ثانيا ولو أعطي واديين من مال لالتمس ثالثا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. قال عكرمة: قرأ علي عاصم " لم يكن " ثلاثين آية، هذا فيها. قال أبو بكر: هذا باطل عند أهل العلم، لان قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متصلتان بأبي بن كعب، لا يقرأ فيهما هذا المذكور في " لم يكن " مما هو معروف في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنه من كلام الرسول عليه السلام، لا يحكيه عن رب العالمين في القرآن. وما رواه اثنان معهما الاجماع: أثبت مما يحكيه واحد مخالف مذهب الجماعة. (1) في الرواية الاولى للحديث ص 138: (فتعلموها). (*)
[ 140 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1) رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة (2) فيها كتب قيمة (3) قوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا " كذا قراءة العامة، وخط المصحف. وقرأ ابن مسعود " لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين " وهذه قراءة على التفسير. قال ابن العربي: " وهي جائزة في معرض البيان لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الصحيح " فطلقوهن لقبل عدتهن " وهو تفسير، فإن التلاوة: هو ما كان في خط المصحف ". قوله تعالى: (من أهل الكتاب) يعني اليهود والنصارى. (والمشركين) في موضع جر عطفا على " أهل الكتاب ". قال ابن عباس " أهل الكتاب ": اليهود الذين كانوا بيثرب، وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع. والمشركون: الذين كانوا بمكة وحولها، والمدينة والذين حولها، وهم مشركو قريش. (منفكين) أي منتهين عن كفرهم، مائلين عنه. (حتى تأتيهم) أي أتتهم البينة، أي محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل: " منفكين " زائلين، أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائما. أي ما زال قائما. وأصل الفك: الفتح، ومنه فك الكتاب، وفك الخلخال، وفك السالم (1). قال طرفة: فآليت لا ينفك كشحي بطانة * لعضب رقيق الشفرتين مهند (2) (1) كذا في بعض نسخ الاصل. وفي بعضها: (فك السالم وهي قال طرفة). بياض بعد (وهي). وفي تفسير الثعلبي: (وفك السالم وهي حروف الفطن قال طرفة). ولم نهتد لوجه الصواب فيه. (3) الكشح: الجنب والعضب: السيف القاطع. ومهند: أي مشحذ والتهنيد: التشحيذ. ويقال: سيف مهند: إذا عمل ببلاد الهند. (*)
[ 141 ]
وقال ذو الرمة: حراجيج ما تنفك إلا مناخة * على الخف أو نرمي بها بلدا قفرا (1) يريد: ما تنفك مناخة، فزاد " إلا ". وقيل: " منفكين ": بارحين، أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، حتى بعث، فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله: " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " (2) [ البقرة: 89 ]. ولهذا قال: " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب " [ البينة: 4 ]... الآية. وعلى هذا فقوله " والمشركين " أي ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم، حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الامين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم، فحينئذ عادوه. وقال بعض اللغويين: " منفكين " هالكين من قولهم: أنفك صلا (3) المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل، فلا يلتئم فتهلك المعنى: لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. وقال قوم في المشركين: إنهم من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال: عزير ابن الله. ومن النصارى من قال: عيسى هو الله. ومنهم من قال: هو ابنه. ومنهم من قال: ثالث ثلاثة. وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيائهم. والمشركون ولدوا على الفطرة، فكفروا حين بلغوا. فلهذا قال: " والمشركين ". وقيل: المشركون وصف أهل الكتاب أيضا، لانهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد. فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة، والكل شرك. وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء، وأنت تريد أقواما بأعيانهم، تصفهم بالامرين. فالمعنى: من أهل الكتاب المشركين. وقيل: إن الكفر هنا هو الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم، أي لم يكن الذين كفروا بمحمد من اليهود والنصارى، الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون، الذين هم عبدة (1) الحراجيج (جمع حرجوج): وهي الناقة الطويلة الضامرة. والخسف: أن تبيت على غير علف. يقول: ما تنفصل من بلد إلى بلد الا مناخة على الخسف. (2) آية 89 سورة البقرة. (3) الصلا: وسط الظهر من الانسان ومن كل ذي أربع. وقيل: هو ما انحدر من الوركين. وقيل: هو ما عن يمين الذنب وشماله. (*)
[ 142 ]
الاوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين. قال القشيري: وفيه بعد، لان الظاهر من قوله " حتى تأتيهم البينة. رسول من الله " أن هذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم منفكين حتى يأتيهم محمد، إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث الله محمدا إليهم ويبين لهم الآيات، فحينئذ يؤمن قوم. وقرأ الاعمش وإبراهيم " والمشركون " رفعا، عطفا على " الذين ". والقراءة الاولى أبين، لان الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب. وفي حرف أبي: " فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين ". وفي مصحف ابن مسعود: " لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين ". وقد تقدم. (حتى تأتيهم البينة) قيل حتى أتتهم. والبينة: محمد صلى الله عليه وسلم. (رسول من الله) أي بعيث من الله جل ثناؤه. قال الزجاج: " رسول " رفع على البدل من " البينة ". وقال الفراء: أي هي رسول من الله، أو هو رسول من الله، لان البينة قد تذكر فيقال: بينتي فلان. وفي حرف أبي وابن مسعود " رسولا " بالنصب على القطع. (يتلو) أي يقرأ. يقال: تلا يتلو تلاوة. (صحفا) جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب. (مطهرة) قال ابن عباس: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة. وقال قتادة: من الباطل. وقيل: من الكذب، والشبهات. والكفر، والمعنى واحد. أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب، ويدل عليه أنه كان يتلو عن ظهر قلبه، لا عن كتاب، لانه كان أميا، لا يكتب ولا يقرأ. و " مطهرة ": من نعت الصحف، وهو كقوله تعالى: " في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة " (1) [ عبس: 13 - 14 ]، فالمطهرة نعت للصحف في الظاهر، وهي نعت لما في الصحف من القرآن. وقيل: " مطهرة " أي ينبغي ألا يمسها إلا المطهرون، كما قال في سورة " الواقعة " حسب ما تقدم بيانه (2). وقيل: الصحف المطهرة: هي التي عند الله في أم الكتاب، الذي منه نسخ ما أنزل على الانبياء (1) آية 13 سورة عبس. (2) راجع ج 17 ص 225 فما بعدها. (*)
[ 143 ]
من الكتب، كما قال تعالى: " بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ " (1) [ البروج: 21 - 22 ]. قال الحسن: يعني الصحف المطهرة في السماء. (فيها كتب قيمة) أي مستقيمة مستوية محكمة، من قول العرب: قام يقوم: إذا استوى وصح. وقال بعض أهل العلم: الصحف هي الكتب، فكيف قال في صحف فيها كتب ؟ فالجواب: أن الكتب هنا: بمعنى الاحكام، قال الله عزوجل: " كتب الله لاغلبن " (2) [ المجادلة: 21 ] بمعنى حكم. وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لاقضين بينكما بكتاب الله) ثم قضى بالرجم، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب، فالمعنى: لاقضين بينكما بحكم الله تعالى. وقال الشاعر: وما الولاء بالبلاء (3) فملتم * وما ذاك قال الله إذ هو يكتب وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن، فجعله كتبا لانه يشتمل على أنواع من البيان. قوله تعالى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة (4) قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) أي من اليهود والنصارى. خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لانهم مظنون بهم علم فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. (إلا من بعد ما جاءتهم البينة) أي أتتهم البينة الواضحة. والمعني به محمد صلى الله عليه وسلم، أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته. وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا، فمنهم من كفر: بغيا وحسدا، ومنهم من آمن، كقوله تعالى: " وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " (4) [ الشورى: 14 ]. وقيل: " البينة ": البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء: من أول السورة إلى قوله " قيمة " [ البينة: 5 ]: حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين. وقوله: " وما تقرق ": حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج. (1) آخر سورة البروج. (2) آية 21 سورة المجادلة. (3) كذا في الاصل، ولم نقف على هذا البيت فيما لدينا من المراجع. ولعل صوابه: * ومال الولاة بالبلاء فملتم.. الخ * (4) آية 14 سورة الشورى. (*)
[ 144 ]
قوله تعالى: وما أمروا إلا يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة (5) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما أمروا) أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والانجيل (إلا ليعبدوا الله) أي ليوحدوه. واللام في " ليعبدوا " بمعنى " أن "، كقوله: " يريد الله ليبين (1) لكم " [ النساء: 26 ] أي أن يبين. و " يريدون ليطفئوا نور الله " (2) [ الصف: 8 ]. و " أمرنا لنسلم لرب العالمين " (3) [ الانعام: 71 ]. وفي حرف عبد الله: " وما أمروا إلا أن يعبدوا الله ". (مخلصين له الدين) أي العبادة، ومنه قوله تعالى: " قل إني أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين " (4) [ الزمر: 11 ]. وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الاخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره. الثانية - قوله تعالى: (حنفاء) أي مائلين عن الاديان كلها، إلى دين الاسلام، وكان ابن عباس يقول: حنفاء: على دين إبراهيم عليه السلام. وقيل: الحنيف: من اختتن وحج، قاله سعيد بن جبير. قال أهل اللغة: وأصله أنه تحنف إلى الاسلام، أي مال إليه. الثالثة - قوله تعالى: (ويقيموا الصلاة) أي بحدودها في أوقاتها. (ويؤتوا الزكاة) أي يعطوها عند محلها. (وذلك دين القيمة) أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة، أي الدين المستقيم. وقال الزجاج: أي ذلك دين الملة المستقيمة. و " القيمة ": نعت لموصوف محذوف. أو يقال: دين الامة القيمة بالحق، أي القائمة بالحق. وفي حرف عبد الله " وذلك الدين القيم ". قال الخليل: " القيمة " جمع القيم، والقيم والقائم: واحد. وقال الفراء: أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته، لاختلاف اللفظين. وعنه أيضا: هو من باب إضافة الشئ إلى نفسه، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة. وقيل: الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة. وقال محمد بن الاشعث، الطالقاني " القيمة " ها هنا: الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها. (1) آية 26 سورة النساء. (2) آية 8 سورة الصف. (3) آية 71 سورة الانعام. (4) آية 11 سورة الزمر. (*)
[ 145 ]
قوله تعالى: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية (6) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية (7) قوله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) " المشركين ": معطوف على " الذين "، أو يكون مجرورا معطوفا على " أهل ". (في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز على الاصل في الموضعين، من قولهم: برأ الله الخلق، وهو البارئ الخالق، وقال: " من قبل أن نبرأها " (1) [ الحديد: 22 ]. الباقون بغير همز، وشد الياء عوضا منه. قال الفراء: إن أخذت البرية من البرى، وهو التراب، فأصله غير الهمز، تقول منه: براه الله يبروه بروا، أي خلقه. قال القشيري: ومن قال البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة. وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته، فتدخل فيه الملائكة. ولكنه قول ضعيف، لانه يجب منه تخطئة من همز. وقوله " شر البرية " أي شر الخليقة. فقيل يحتمل أن يكون على التعميم. وقال قوم: أي هم شر البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: " وأني فضلتكم على العالمين " (2) [ البقرة: 47 ] أي على عالمي زمانكم. ولا يبعد أن يكون في كفار الامم قبل هذا من هو شر منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح. وكذا " خير البرية ": إما على التعميم، أو خير برية عصرهم. وقد استدل بقراءة الهمز من فضل بني آدم على الملائكة، وقد مضى في سورة " البقرة " القول فيه (3). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: المؤمن أكرم على الله عزوجل من بعض الملائكة الذين عنده. (1) آية 22 سورة الحديد. (2) آية 47 سورة البقرة. (3) راجع ج 1 ص 289 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 146 ]
قوله تعالى: جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه (8) قوله تعالى: (جزاؤهم) أي ثوابهم. (عند ربهم) أي خالقهم ومالكهم. (جنات) أي بساتين. (عدن) أي إقامة. والمفسرون يقولون: " جنات عدن " بطنان الجنة، أي وسطها، تقول: عدن بالمكان يعدن [ عدنا وعدونا ]: أقام. ومعدن الشئ: مركزه ومستقره. قال الاعشى: وإن يستضافوا إلى حكمه * يضافوا إلى راجح قد عدن (تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا) لا يظعنون ولا يموتون. (رضي الله عنهم أي رضي أعمالهم، كذا قال ابن عباس. (ورضوا عنه) أي رضوا هم بثواب الله عز وجل. (ذلك) أي الجنة. (لمن خشى ربه) أي خاف ربه، فتناهى عن المعاصي. سورة " الزلزلة " مدنية في قول ابن عباس وقتادة. ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر. وهي تسع (1) آيات قال العلماء: وهذه السورة فضلها كثير، وتحتوي على عظيم: روى الترمذي عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ " إذا زلزلت "، عدلت له بنصف القرآن. ومن قرأ " قل يا أيها الكافرون " [ الكافرون: 1 ] عدلت له بربع القرآن، ومن قرأ " قل هو الله أحد " [ الاخلاص: 1 ] عدلت له بثلث القرآن). قال: حديث غريب، وفي الباب عن ابن عباس. وروي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ إذا زلزلت أربع مرات، كان كمن قرأ القرآن كله). وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لما نزلت " إذا زلزلت " بكى أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لولا أنكم تخطئون وتذنبون ويغفر الله لكم، لخلق أمة يخطئون ويذنبون ويغفر لهم، إنه هو الغفور الرحيم ]. (1) في حاشية الشهاب: (آيها تسع أو ثمان). (*)
[ 147 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: إذا زلزلت الارض زلزالها (1) أي حركت من أصلها. كذا روى عكرمة عن ابن عباس، وكان يقول: في النفخة الاولى يزلزلها - وقاله مجاهد -، لقوله تعالى: " يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة " (1) [ النازعات: 6 - 7 ] ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها وهي الاثقال. وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الارض، كقولك: لاعطينك عطيتك، أي عطيتي لك. وحسن ذلك لموافقة رءوس الآي بعدها. وقراءة العامة بكسر الزاي من الزلزال. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر بفتحها، وهو مصدر أيضا، كالوسواس والقلقال والجرجار (2). وقيل: الكسر المصدر. والفتح الاسم. قوله تعالى: وأخرجت الارض أثقالها (2) قال أبو عبيدة والاخفش: إذا كان الميت في بطن الارض، فهو ثقل لها. وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد: " أثقالها ": موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجن والانس: الثقلان. وقالت الخنساء: أبعد ابن عمرو من آل الشر * يد حلت به الارض أثقالها تقول: لما دفن عمرو صار حلية لاهل القبور، من شرفه وسؤدده. وذكر بعض أهل العلم قال: كانت العرب تقول: إذا كان الرجل سفاكا للدماء: كان ثقلا على ظهر الارض، فلما مات حطت الارض عن ظهرها ثقلها. وقيل: " أثقالها " كنوزها، ومنه الحديث: (تقئ الارض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان (3) من الذهب والفضة...). (1) آية 6 سورة النازعات. (2) القلقال: من قلقل الشئ إذا حركه. والجرجار: من جرجر البعير إذا ردد صوته في حنجرته. (3) الاسطوان: جمع اسطوانة وهي السارية والعمود وشبهه بالاسطوان لعظمه وكثرته. (*)
[ 148 ]
قوله تعالى: وقال الانسان مالها (3) قوله تعالى: (وقال الانسان) أي ابن آدم الكافر. فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هو الاسود بن عبد الاسد. وقيل: أراد كل إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الاولى: من مؤمن وكافر. وهذا قول من جعلها في الدنيا من أشراط الساعة، لانهم لا يعلمون جميعا من أشراط الساعة في ابتداء أمرها، حتى يتحققوا عمومها، فلذلك سأل بعضهم بعضا عنها. وعلى قول من قال: إن المراد بالانسان الكفار خاصة، جعلها زلزلة القيامة، لان المؤمن معترف بها، فهو لا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فلذلك يسأل عنها. ومعنى (مالها) أي مالها زلزلت. وقيل: مالها أخرجت أثقالها، وهي كلمة تعجيب، أي لاي شئ زلزلت. ويجوز أن يحيى الله الموتى بعد وقوع النفخة الاولى، ثم تتحرك الارض فتخرج الموتى وقد رأوا الزلزلة وانشقاق الارض عن الموتى أحياء، فيقولون من الهول: مالها. قوله تعالى: يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (5) يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم (6) قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها) " يومئذ " منصوب بقوله: " إذا زلزلت ". وقيل: بقوله " تحدث أخبارها "، أي تخبر الارض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ. ثم قيل: هو من قول الله تعالى. وقيل: من قول الانسان، أي يقول الانسان مالها تحدث أخبارها، متعجبا. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " يومئذ تحدث أخبارها " قال: (أتدرون ما أخبارها - قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا، كذا وكذا. قال: (فهذه أخبارها). قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الماوردي، قوله " يومئذ تحدث أخبارها ": فيه ثلاثة أقاويل: أحدها - " تحدث أخبارها " بأعمال العباد على ظهرها، قاله أبو هريرة، ورواه مرفوعا. وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.
[ 149 ]
الثاني - تحدث أخبارها بما أخرجت من أثقالها، قاله يحيى بن سلام. وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة. قلت: وفي هذا المعنى حديث رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (إذا كان أجل العبد بأرض أو ثبته الحاجة إليها، حتى إذا بلغ أقصى أثره قبضه الله، فتقول الارض يوم القيامة: رب هذا ما استودعتني). أخرجه ابن ماجه في سننه. وقد تقدم (1). الثالث: أنها تحدث بقيام الساعة إذا قال الانسان ما لها ؟ قاله ابن مسعود. فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى. فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم، ووعيدا للكافر، وإنذارا للمؤمن. وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل: أحدها - أن الله تعالى يقلبها حيوانا ناطقا، فتتكلم بذلك. الثاني - أن الله تعالى يحدث فيها الكلام. الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام. قال الطبري: تبين أخبارها بالرجة والزلزلة وإخراج الموتى. (بأن ربك أوحى لها) أي إنها تحدث أخبارها بوحي الله " لها "، أي إليها. والعرب تضع لام الصفة موضع " إلى ". قال العجاج يصف الارض: وحى لها القرار فاستقرت * وشدها بالراسيات الثبت وهذا قول أبي عبيدة: " أوحى لها " أي إليها. وقيل: " أوحى لها " أي أمرها، قاله مجاهد. وقال السدي: " أوحى لها " أي قال لها. وقال: سخرها. وقيل: المعنى يوم تكون الزلزلة، وإخراج الارض أثقالها، تحدث الارض أخبارها، ما كان عليها من الطاعات والمعاصي، وما عمل على ظهرها من خير وشر. وروي ذلك عن الثوري وغيره. (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) أي فرقا، جمع شت. قيل: عن موقف الحساب، فريق يأخذ جهة اليمين إلى الجنة، وفريق آخر يأخذ جهة الشمال إلى النار، كما قال تعالى: " يومئذ يتفرقون " (2) [ الروم: 14 ] " يومئذ يصدعون " (3) [ الروم: 43 ]. وقيل: يرجعون عن الحساب بعد فراغهم من الحساب. " أشتاتا " (1) راجع ج 14 ص 83. (2) آية 14 سورة الروم (3) آية 43 سورة الروم. (*)
[ 150 ]
يعني فرقا فرقا. (ليروا أعمالهم) يعني ثواب أعمالهم. وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يوم القيامة إلا ويلوم نفسه، فإن كان محسنا فيقول: لم لا أزددت إحسانا ؟ وإن كان غير ذلك يقول: لم لا نزعت عن المعاصي) ؟ وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وكان ابن عباس يقول: " أشتاتا " متفرقين على قدر أعمالهم أهل الايمان على حدة، وأهل كل دين على حدة. وقيل: هذا الصدور، إنما هو عند النشور، يصدرون أشتاتا من القبور، فيصار بهم إلى موقف الحساب، ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم، فكأنهم وردوا القبور فدفنوا فيها، ثم صدروا عنها. والوارد: الجائي. والصادر: المنصرف. " أشتاتا " أي يبعثون من أقطار الارض. وعلى القول الاول فيه تقديم وتأخير، مجازه: تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها، ليروا أعمالهم. واعترض قوله " يومئذ يصدر الناس أشتاتا " متفرقين عن موقف الحساب. وقراءة العامة " ليروا " بضم الياء، أي ليريهم الله أعمالهم. وقرأ الحسن والزهري وقتادة والاعرج ونصر ابن عاصم وطلحة بفتحها، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) كان ابن عباس يقول: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة، مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة. وفي بعض الحديث: (الذرة لا زنة لها) وهذا مثل ضربه الله تعالى: أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة. وهو مثل قوله تعالى:
[ 151 ]
" إن الله لا يظلم مثقال ذرة " (1) [ النساء: 40 ]. وقد تقدم الكلام هناك في الذر، وأنه لا وزن له. وذكر بعض أهل اللغة أن الذر: أن يضرب الرجل بيده على الارض، فما علق بها من التراب فهو الدر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الارض ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة. وقال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى (2) ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير. ومن يعمل، مثقال ذرة من شر من مؤمن، يرى (2) عقوبته في الدنيا، في نفسه وماله وولده وأهله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. دليله ما رواه العلماء الاثبات من حديث أنس: أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر ؟ قال: (ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذر الشر، ويدخر لكم مثاقيل ذر الخير، حتى تعطوه يوم القيامة). قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير " (3) [ الشورى: 30 ]. وقال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل " ويطعمون الطعام على حبه " (4) [ الانسان: 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة (5). وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنه يوشك أن يكثر، ويحدرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر، وقاله سعيد بن جبير. والاثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شئ. الثانية - قراءة العامة " يره " بفتح الياء فيهما. وقرأ الجحدري والسلمي وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم: " يره " بضم الياء، أي يريه الله إياه. والاولى الاختيار، لقوله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا " (6) [ آل عمران: 30 ] الآية. وسكن الهاء في قوله " يره " (1) آية 40 سورة النساء. راجع ج 5 ص 195. (2) كذا في الاصل وبعض كتب التفسير بإثبات الياء والراجح حذفها. (3) آية 30 سورة الشورى. (4) آية 8 سورة الانسان. (5) الجوزة: واحدة الجوز الذي يؤكل فارسي معرب. (6) آية 30 سورة آل عمران. (*)
[ 152 ]
في الموضعين هشام. وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حيوة والمغيرة. واختلس يعقوب والزهري والجحدري وشيبة. وأشبع الباقون. وقيل " يره " أي يرى جزاءه، لان ما عمله قد مضى وعدم فلا يرى. وأنشدوا: إن من يعتدي ويكسب إثما * وزن مثقال ذرة سيراه ويجازى بفعله الشر شرا * وبفعل الجميل أيضا جزاه هكذا قوله تبارك ربي * في إذا زلزلت وجل ثناه الثالثة - قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن، وصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية، القائلون بالعموم ومن لم يقل به. وروى كعب الاحبار أنه قال: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والانجيل والزبور والصحف: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ". قال الشيخ أبو مدين في قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " قال: في الحال قبل المآل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمى هذه الآية الآية الجامعة الفاذة، كما في الصحيح لما سئل عن الحمر وسكت عن البغال، والجواب فيهما واحد، لان البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الاجر الدائم، والثواب المستمر، سأل السائل عن الحمر، لانهم لم يكن عندهم يومئذ بغل، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم " الدلدل "، التي أهداها له المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وإن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة، قاله ابن العربي. وفي الموطأ: أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب، فقالت لانسان: خذ حبة فأعطه إياها. فجعل ينظر إليها ويعجب، فقال: أتعجب ! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة. وروي عن سعد بن أبي وقاص: أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة. وروى المطلب بن حنطب: أن أعرابيا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة ! قال: (نعم) فقال الاعرابي: واسوأتاه ! مرارا: ثم قام وهو يقولها، فقال النبي صلى الله
[ 153 ]
عليه وسلم: (لقد دخل قلب الاعرابي الايمان). وقال الحسن: قدم صعصعة عم الفرزدق (1) على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع " فمن يعمل مثقال ذرة " الآيات، قال: لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها، حسبي، فقد انتهت الموعظة، ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروى أن صعصعة ابن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه، فقرأ عليه هذه الآية، فقال صعصعة: حسبي حسبي، إن عملت مثقال ذرة شرا رأيته. وروى معمر عن زيد ابن أسلم: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني مما علمك الله. فدفعه إلى رجل يعلمه، فعلمه " إذا زلزلت - حتى إذا بلغ - فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " قال: حسبي. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دعوه فإنه قد فقه). ويحكي أن أعرابيا أخر " خيرا يره " فقيل: قدمت وأخرت. فقال: خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه * كلا جانبي هرشى لهن طريق (2) سورة " والعاديات " وهي مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء. ومدنية في قول ابن عباس وأنس ومالك وقتادة. وهي إحدى عشرة اية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والعاديات ضبحا (1) فالموريات قدحا (2) قوله تعالى: (والعاديات ضبحا) أي الافراس تعدو. كذا قال عامة المفسرين وأهل اللغة، أي تعدو في سبيل الله فتضبح. قال قتادة: تضبح إذا عدت، أي تحمحم. وقال (1) قال أبو أحمد العسكري: (وقد وهم بعضهم في صعصعة بن معاوية عم الاحنف بن قيس فقال: صعصعة عم الفرزدق وهو غلط). والمعروف أن صعصعة بن ناجية هو جد الفرزدق وليس له عم يسمى صعصعة. راجع كتاب الاصابة وأسد الغابة في ترجمة صعصعة. (2) هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر ولها طريقان فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد. في معجم البلدان لياقوت: خذا أنف هرشى... وفي اللسان: خذا جنب هرشى... (*)
[ 154 ]
الفراء: الضبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدون. ابن عباس: ليس شئ من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب. وقيل: كانت تكعم (1) لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة. قال أبن العربي: أقسم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: " يس. والقرآن الحكيم " [ يس: 1 - 2 ]، وأقسم بحياته فقال: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (2) "، [ الحجر: 72 ]، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: " والعاديات ضبحا "... الآيات الخمس. وقال أهل اللغة (3): وطعنة ذات رشاش واهيه * طعنتها عند صدور العاديه يعني الخيل. وقال آخر: والعاديات أسابي الدماء بها * كأن أعناقها أنصاب ترجيب (4) يعني الخيل. وقال عنترة: والخيل تعلم حين تض‍ * - بح في حياض الموت ضبحا وقال آخر: لست بالتبع اليماني إن لم * تضبح الخيل في سواد العراق وقال أهل اللغة: وأصل الضبح والضباح للثعالب، فاستعير للخيل. وهو من قول العرب: ضبحته النار: إذا غيرت لونه ولم تبالغ فيه. وقال الشاعر: فلما أن تلهوجنا شواء * به اللهبان مقهورا ضبيحا (5) وأنضبح لونه: إذا تغير إلى السواد قليلا. وقال: * علقتها قبل أنضباح لوني * (1) الكعام: شئ يجعل على فم البعير. (2) آية 72 سورة الحجر. (2) قوله: (قال أهل اللغة...) إلى آخر البيت. هكذا ورد في جميع نسخ الاصل وظاهر أن فيه سقطا يوضحه أبو حيان في البحر بقوله: (قال أهل اللغة: أصله للثعلب فاستعير للخيل...) الخ. على أن المؤلف أورده فيما يأتي. (4) البيت لسلامة بن جندل. والاسابي: الطرق من الدم. وأسابي الدماء: طرائقها. والترحيب: أن تدعم الشجرة إذا كثر حملها لئلا تتكسر أغصانها. قال ابن منظور: (فإنه شبه أعناق الخيل بالمرجب. وقيل: شبه أعناقها بالحجارة التي تذبح عليها النسائك). (5) البيت لمضرس الاسدي. والملهوج من الشواء: الذي لم يتم نضجه. واللهبان: اتقاد النار واشتعالها. (*)
[ 155 ]
وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع وتعب أو طمع. ونصب " ضبحا " على المصدر، أي والعاديات تضبح ضبحا. والضبح (1) أيضا الرماد. وقال البصريون: " ضبحا " نصب على الحال. وقيل: مصدر في موضع الحال. قال أبو عبيدة: ضبحت الخيل ضبحا مثل ضبعت، وهو السير. وقال أبو عبيدة: الضبح والضبع: بمعنى العدو والسير. وكذا قال المبرد: الضبح مد أضباعها في السير. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بني كنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليهم المنذر بن عمرو الانصاري، وكان أحد النقباء، فقال المنافقون: إنهم قتلوا، فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم الذين بعث إليهم. وممن قال: إن المراد بالعاديات الخيل، ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد. والمراد الخيل التي يغزو عليها المؤمنون. وفي الخبر: (من لم يعرف حرمة فرس الغازي، فيه شعبة من النفاق). وقول ثان: أنها الابل، قال مسلم: نازعت فيها عكرمة فقال عكرمة: قال ابن عباس هي الخيل. وقلت: قال علي هي الابل في الحج، ومولاي أعلم من مولاك. وقال الشعبي: تمارى (2) علي وابن عباس في " العاديات "، فقال علي: هي الابل تعدو في الحج. وقال ابن عباس: هي الخيل، ألا تراه يقول " فأثرن به نقعا " [ العاديات: 4 ] فهل تثير إلا بحوافرها ! وهل تضبح الابل ! فقال علي: ليس كما قلت، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، ثم قال له علي: أتفتي الناس بما لا تعلم ! والله إن كانت لاول غزوة في الاسلام وما معنا إلا فرسان: فرس للمقداد، وفرس للزبير، فكيف تكون العاديات ضبحا ! إنما العاديات الابل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى عرفة. قال ابن عباس: فرجعت إلى قول علي، وبه قال ابن مسعود وعبيد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي. ومنه قول صفية بنت عبد المطلب: فلا والعاديات غداه جمع * بأيديها إذا سطع الغبار (1) في القاموس: (والضبح بالكسر الرماد). (2) التمارى والمماراة: المجادلة. (*)
[ 156 ]
يعني الابل. وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو، وهو تباعد الارجل في سرعة المشي. وقال آخر: رأى صاحبي في العاديات نجيبة * وأمثالها في الواضعات القوامس (1) ومن قال هي الابل فقوله " ضبحا " بمعنى ضبعا، فالحاء عنده مبدلة من العين، لانه يقال: ضبعت الابل وهو أن تمد أعناقها في السير. وقال المبرد: الضبع مد أضباعها في السير. والضبح أكثر ما يستعمل في الخيل. والضبع في الابل. وقد تبدل الحاء من العين. أبو صالح: الضبح من الخيل: الحمحمة، ومن الابل التنفس. وقال عطاء: ليس شئ من الدواب يضبح إلا الفرس والثعلب والكلب، وروي عن ابن عباس. وقد تقدم عن أهل اللغة أن العرب تقول: ضبح الثعلب، وضبح في غير ذلك أيضا. قال توبة: ولو أن ليلى الاخيلية سلمت * علي ودوني تربة (2) وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أو زقا * إليها صدى من جانب القبر ضابح (3) زقا الصدى يزقو زقاء (4): أي صاح. وكل زاق صائح. والزقية: الصيحة. (فالموريات قدحا) قال عكرمة وعطاء والضحاك: هي الخيل حين توري النار بحوافرها، وهي سنابكها، وروي عن ابن عباس. وعنه أيضا: أورت بحوافرها غبارا. وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدح النار، وإنما هذا في الابل. وروى ابن نجيح عن مجاهد " والعاديات ضبحا. فالموريات قدحا " قال قال ابن عباس: هو في القتال وهو في الحج. ابن مسعود: هي الابل تطأ الحصى، فتخرج منها النار. وأصل القدح الاستخراج، (1) في اللسان مادة (عدا): (وحكى الازهري عن ابن السكيت (وإبل عادية: ترعى الخلة ولا ترعى الحمض..) وقال: وكذلك العاديات) وساق البيت. وفي اللسان أيضا مادة (رضع): (وناقة واضع وواضعة ونوق واضعات: ترعى الحمض حول الماء. وأنشد ابن برى قول الشاعر...) الخ. ولفظ (القوامس) هكذا ورد في اللسان وشرح القاموس. وبعض نسخ الاصل. وفي نسخة: (القرامس) بالراء. ولعل الصواب: (العرامس) جمع عرمس (بكسر العين): وهي الناقة الصلبة الشديدة. (2) في نسخة: (جندل) وهي رواية في البيت. (3) في رواية صائح. ولا شاهد فيه. (4) في اللسان: (زقا يزقو ويزقى زقوا وزقاء وزقوا وزقيا وزقيا وزقيا. (*)
[ 157 ]
ومنه قدحت العين: إذا أخرجت منها الماء الفاسد. واقتدحت بالزند. واقتدحت المرق: غرفته. وركى قدوح: تغترف باليد. والقديح: ما يبقى في أسفل القدر، فيغرف بجهد. والمقدحة: ما تقدح به النار. والقداحة والقداح: الحجر الذي يوري النار. يقال: ورى الزند (بالفتح) يري وريا: إذا خرجت ناره. وفيه لغة أخرى: ورى الزند (بالكسر) يرى فيهما. وقد مضى هذا في سورة " الواقعة " (1). و " قدحا " انتصب بما انتصب به " ضبحا ". وقيل: هذه الآيات في الخيل، ولكن إيراءها: أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم. ومنه يقال للحرب إذا التحمت: حمي الوطيس. ومنه قوله تعالى: " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " (2) [ المائدة: 64 ]. وروي معناه عن ابن عباس أيضا، وقاله قتادة. وعن ابن عباس أيضا، وقاله قتادة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد بالموريات قدحا: مكر الرجال في الحرب، وقاله مجاهد وزيد بن أسلم. والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: والله لامكرن بك، ثم لاورين لك. وعن ابن عباس أيضا: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم. وعنه أيضا: أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهابا. وكل من قرب من العدو يوقد نيرانا كثيرة ليظنهم العدو كثيرا. فهذا إقسام بذلك. قال محمد بن كعب: هي النار تجمع. وقيل: هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة. وقال عكرمة: هي ألسنة الرجال تورى النار من عظيم ما تتكلم به، ويظهر بها، من إقامة الحجج، وإقامة الدلائل، وإيضاح الحق، وإبطال الباطل. وروى ابن جريح عن بعضهم قال: فالمنجحات أمرا وعملا، كنجاح الزند إذا أورى. قلت: هذه الاقوال مجاز، ومنه قولهم: فلان يوري زناد الضلالة. والاول: الحقيقة، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النار بحوافرها. قال مقاتل: العرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب، وكان أبوحباحب شيخا من مضر في الجاهلية، من أبخل الناس، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام العيون، فيوقد نويرة تقد مرة وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحد (1) راجع ج 17 ص 221 (2) آية 64 سورة المائدة. (*)
[ 158 ]
أطفأها، كراهية أن ينتفع بها أحد. فشبهت العرب هذه النار بناره، لانه لا ينتقع بها. وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت نارا، فكذلك يسمونها. قال النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب تقد السلوقي المضاعف نسجه * وتوقد بالصفاح نار الحباحب (1) قوله تعالى: فالمغيرات صبحا (3) الخيل تغير على العدو عند الصبح، عن ابن عباس وأكثر المفسرين. وكانوا إذا أرادوا الغارة سروا ليلا، ويأتون العدو صبحا، لان ذلك وقت غفلة الناس. ومنه قوله تعالى: " فساء صباح المنذرين " (2) [ الصافات: 177 ]. وقيل: لعزهم أغاروا نهارا، و " صبحا " على هذا، أي علانية، تشبيها بظهور الصبح. وقال ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما: هي الابل تدفع بركبانها يوم النحر من منى إلى جمع. والسنة ألا تدفع حتى تصبح، وقاله القرطبي. والاغارة: سرعة السير، ومنه قولهم: أشرق ثبير (3)، كيما نغير. قوله تعالى: فأثرن به نقعا (4) أي غبارا، يعني الخيل تثير الغبار بشدة العدو في المكان الذي أغارت به. قال عبد الله ابن رواحة: عدمت بنيتي إن لم تروها * تثير النقع من كنفي كداء (4) والكناية في " به " ترجع إلى المكان أو إلى الموضع الذي تقع فيه الاغارة. وإذا علم المعني جاز أن يكنى عما لم يجر له ذكر بالتصريح، كما قال " حتى توارت بالحجاب " (5) [ ص: 32 ]. وقيل: " فأثرن به "، (1) السلوقي: الدرع المنسوبة إلى سلوق قرية باليمن. والصفاح: جمع صفاحة وهي الحجر العريض. (2) آية 177 سورة الصافات. (3) ثبير: جبل بقرب مكة وهو على يمين الذاهب إلى عرفة. أي ادخل في الشروق وهو ضوء الشمس. (4) كداء (بفتح الكاف ومد الدال): جبل بمكة. والهاء في تروها: راجعة إلى الخيل المفهومة من السياق. ورواية صدر البيت في الشوكاني 5 / 469: (عدمنا خيلنا...). (5) آية 32 سورة ص. (*)
[ 159 ]
أي بالعدو (نقعا). وقد تقدم ذكر العدو. وقيل: النقع: ما بين مزدلفة إلى منى، قاله محمد ابن كعب القرظي. وقيل: إنه طريق الوادي، ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع. وفي الصحاح: النقع: الغبار، والجمع: نقاع. والنقع: محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه. وفي الحديث: أنه نهى أن يمنع نقع البئر. والنقع الارض الحرة الطين يستنقع فيها الماء، والجمع: نقاع وأنقع، مثل بحر وبحار وأبحر. قلت: وقد يكون النقع رفع الصوت، ومنه حديث عمر حين قيل له: إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد، فقال: وما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن وهن جلوس على أبي سليمان، ما لم يكن نقع، ولا لقلقة. قال أبو عبيد: يعني بالنقع رفع الصوت، على هذا رأيت قول الاكثرين من أهل العلم، ومنه قول لبيد: فمتى ينقع صراخ صادق * يحلبوها ذات جرس وزجل ويروى " يحلبوها " أيضا. يقول: متى سمعوا صراخا أحلبوا الحرب، أي جمعوا لها. وقوله " ينقع صراخ ": يعني رفع الصوت. وقال الكسائي: قوله " نقع ولا لقلقة " النقع: صنعه الطعام، يعني في المأتم. يقال منه: نقعت أنقع نقعا. قال أبو عبيد: ذهب بالنقع إلى النقيعة، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء: صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم. وقال بعضهم: يريد عمر بالنقع: وضع التراب على الرأس، يذهب إلى أن النقع هو الغبار. ولا أحسب عمر ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن، وكيف يبلغ خوفه ذا وهو يكره لهن القيام. فقال: يسفكن من دموعهن وهن جلوس. قال بعضهم: النقع: شق الجيوب، وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في الحديث إلا الصوت الشديد، وأما اللقلقة: فشدة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافا. وقرأ أبو حيوة " فأثرن " بالتشديد، أي أرت آثار ذلك. ومن خفف فهو من أثار: إذا حرك، ومنه " وأثاروا الارض " (1) [ الروم: 9 ]. (1) آية 9 سورة الروم. (*)
[ 160 ]
قوله تعالى: فوسطن به جمعا (5) " جمعا " مفعول ب‍ " فوسطن "، أي فوسطن بركبانهن العدو، أي الجمع الذي أغاروا عليهم. وقال ابن مسعود: " فوسطن به جمعا ": يعني مزدلفة، وسميت جمعا لاجتماع الناس. ويقال: وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة، أي صرت وسطهم. وقرأ علي رضي الله عنه " فوسطن " بالتشديد، وهي قراءة قتادة وابن مسعود وأبي رجاء، لغتان بمعنى، يقال: وسطت القوم (بالتشديد والتخفيف) وتوسطهم: بمعنى واحد. وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين. والتخفيف: صرن في وسط الجمع، وهما يرجعان إلى معنى الجمع. قوله تعالى: إن الانسان لربه لكنود (6) هذا جواب القسم، أي طبع الانسان على كفران النعمة. قال ابن عباس: " لكنود " لكفور جحود لنعم الله. وكذلك قال الحسن. وقال: يذكر المصائب وينسى النعم. أخذه الشاعر فنظمه: يأيها الظالم في فعله * والظلم مردود على من ظلم إلى متى انت وحتى متى * تشكو المصيبات وتنسى النعم ! وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكنود، هو الذي يأكل وحده، ويمنع رفده (1)، ويضرب عبده). وروى أبن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم بشراركم) ؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: (من نزل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده). خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الاصول. وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال: الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي، وبلسان ربيعة ومضر: الكفور. وبلسان كنانة: البخيل السئ الملكة، وقاله مقاتل: وقال الشاعر: كنود لنعماء الرجال ومن يكن * كنودا لنعماء الرجال يبعد (1) الرفد (بكسر الراء): العطاء والصلة. (*)
[ 161 ]
أي كفور. ثم قيل: هو الذي يكفر باليسير، ولا يشكر الكثير. وقيل: الجاحد للحق. وقيل: إنما سميت كندة كندة، لانها جحدت أباها. وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر: دع البخلاء إن شمخوا وصدوا * وذكرى بخل غانية كنود وقيل: الكنود: من كند إذا قطع، كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر. ويقال: كند الحبل: إذا قطعه. قال الاعشى: أميطي (1) تميطي بصلب الفؤاد * وصول حبال وكنادها فهذا يدل على القطع. ويقال: كند يكند كنودا: أي كفر النعمة وجحدها، فهو كنود. وامرأة كنود أيضا، وكند مثله. قال الاعشى: أحدث لها تحدث لوصلك إنها * كند لوصل الزائر المعتاد (2) أي كفور للمواصلة. وقال ابن عباس: الانسان هنا الكافر، يقول إنه لكفور، ومنه الارض الكنود التي لا تنبت شيئا. وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة. قال المبرد: الكنود: المانع لما عليه. وأنشد لكثير: (3) أحدث لها تحدث لوصلك إنها * كند لوصل الزائر المعتاد وقال أبو بكر الواسطي: الكنود: الذي ينفق نعم الله في معاصي الله. وقال أبو بكر الوراق: الكنود: الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. وقال الترمذي: الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم. وقال ذو النون المصري: الهلوع والكنود: هو الذي إذا مسه الشر جزوع وإذا مسه الخير منوع. وقيل: هو الحقود الحسود. وقيل: هو الجهول لقدره. وفي الحكمة: من جهل قدرة: هتك ستره. (1) ماط الاذى ميطا وأماطه: نجاه ودفنه. يقول إن تنحيت عنى باني صلب الفؤاد وصول لمن وصل، كفور لمن كفر. ورواية صدر البيت في اللسان. فميطى أي تنحى وأذهبي. (2) المعتاد: الذي يعود مرة بعد أخرى. (3) تقدم أن هذا البيت للاعشى وهو في ديوان، ولم نجده في ديوان كثير الذي بين إيدينا. (*)
[ 162 ]
قلت: هذه الاقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة، وأحوال غير محمودة، فإن صح فهو أعلى ما يقال، ولا يبقى لاحد معه مقال. قوله تعالى: وإنه على ذلك لشهيد (7) أي وإن الله عزوجل ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد. كذا روى منصور عن مجاهد، وهو قول أكثر المفسرين، وهو قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة ومحمد ابن كعب: " وإنه " أي وإن الانسان لشاهد على نفسه بما يصنع، وروي عن مجاهد أيضا. قوله تعالى: وإنه لحب الخير لشديد (8) قوله تعالى: (وإنه) أي الانسان من غير خلاف. (لحب الخير) أي المال، ومنه قوله تعالى: " إن ترك خيرا " (1) [ البقرة: 180 ]. وقال عدي: ماذا ترجي النفوس من طلب ال‍ * - خير وحب الحياة كاربها (2) (لشديد) أي لقوي في حبه للمال. وقيل: " لشديد " لبخيل. ويقال للبخيل: شديد ومتشدد. قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى * عقيلة مال الفاحش المتشدد يقال: اعتامه واعتماه، أي أختاره. والفاحش: البخيل أيضا. ومنه قوله تعالى: " ويأمركم بالفحشاء " (3) [ البقرة: 268 ] أي البخل. قال ابن زيد: سمى الله المال خيرا، وعسى أن يكون شرا وحراما (4)، ولكن الناس يعدونه خيرا، فسماه الله خيرا لذلك. وسمى الجهاد سواء، فقال: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " (5) [ آل عمران: 174 ] على ما يسميه الناس. قال الفراء: نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير، فلما تقدم الحب قال: شديد، وحذف من آخره (1) آية 180 سورة البقرة. (2) كاربها: غامها من كربه الامر: اشتد عليه. (3) آية 268 سورة البقرة. (4) في بعض نسخ الاصل: (شرا وخيرا). (5) آية 174 سورة آل عمران. (*)
[ 163 ]
ذكر الحب، لانه قد جرى ذكره، ولرؤوس الآي، كقوله تعالى: " في يوم عاصف " (1) [ إبراهيم: 18 ] والعصوف: للريح لا الايام، فلما جرى ذكر الريح قبل اليوم، طرح من آخره ذكر الريح، كأنه قال: في يوم عاصف الريح. قوله تعالى: أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير (11) قوله تعالى: (أفلا يعلم) أي ابن آدم (إذا بعثر) أي أثير وقلب وبحث، فأخرج ما فيها. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه وعن محمد بن كعب قال: ذلك حين يبعثون. الفراء: سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ: " بحثر " بالحاء مكان العين، وحكاه الماوردي عن ابن مسعود، وهما بمعنى. (وحصل ما في الصدور) أي ميز ما فيها من خير وشر، كذا قال المفسرون. وقال أبن عباس: أبرز. وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم " وحصل " بفتح الحاء وتخفيف الصاد وفتحها، أي ظهر. (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) أي عالم لا يخفى عليه منهم خافية. وهو عالم بهم في ذلك اليوم وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم. وقوله: " إذا بعثر " العامل في " إذا ": " بعثر "، ولا يعمل فيه " يعلم "، إذ لا يراد به العلم من الانسان ذلك الوقت، إنما يراد في الدنيا. ولا يعمل فيه " خبير "، لان ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبلها. والعامل في " يومئذ ": " خبير "، وإن فصلت اللام بينهما، لان موضع اللام الابتداء. وإنما دخلت في الخبر لدخول " إن " على المبتدأ. ويروى أن الحجاج قرأ هذه السورة على المنبر يحضهم على الغزو، فجرى على لسانه: " أن ربهم " بفتح الالف، ثم استدركها فقال: " خبير " بغير لام. ولولا اللام لكانت مفتوحة، لوقوع العلم عليها. وقرأ أبو السمال " أن ربهم بهم يومئذ خبير ". والله سبحانه وتعالى أعلم. (1) آية 18 سورة إبراهيم. (*)
[ 164 ]
تفسير سورة " القارعة " وهي مكية بإجماع. وهي عشر آيات (1) بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: القارعة (1) ما القارعة (2) وما أدراك ما القارعة (3) قوله تعالى: (القارعة ما القارعة) أي القيامة والساعة، كذا قال عامة المفسرين. وذلك أنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها. وأهل اللغة يقولون: تقول العرب قرعتهم القارعة، وفقرتهم الفاقرة، إذا وقع بهم أمر فظيع. قال أبن أحمر: وقارعة من الايام لولا * سبيلهم لزاحت (2) عنك حينا وقال آخر: متى تقرع بمروتكم (3) نسؤكم * ولم توقد لنا في القدر نار وقال تعالى: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة " (4) [ الرعد: 31 ] وهي الشديدة من شدائد الدهر. قوله تعالى: (ما القارعة) استفهام، أي أي شئ هي القارعة ؟ وكذا (وما أدراك ما القارعة) كلمة استفهام على جهة التعظيم والتفخيم لشأنها، كما قال: " الحاقة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة " [ الحاقة: 1 ] على ما تقدم (5). (1) في كتاب روح المعاني: وآيها إحدى عشرة آية في الكوفي وعشر في الحجازي وثمان في البصري والشامي. (2) في بعض النسخ: (لراحت) بالراء. (3) المروة: حجر يقدح منه النار. (4) آية 31 سورة الرعد. (5) راجع ج 18 ص 257. (*)
[ 165 ]
قوله تعالى: يوم يكون الناس كالفراش المبثوث (4) " يوم " منصوب على الظرف، تقديره: تكون القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج. الواحد فراشه، وقاله أبو عبيدة. وقال الفراء: إنه الهمج الطائر، من بعوض وغيره، ومنه الجراد. ويقال: هو أطيش من فراشة. وقال: طويش من نفر أطياش * أطيش من طائرة الفراش وقال آخر: وقد كان أقوام رددت قلوبهم * إليهم وكانوا كالفراش من الجهل وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي). وفي الباب عن أبي هريرة. والمبثوث المتفرق. وقال في موضع آخر: " كأنهم جراد منتشر " (2) [ القمر: 7 ]. فأول حالهم كالفراش لا وجه له، يتحير في كل وجه، ثم يكونون كالجراد، لان لها وجها تقصده. والمبثوث: المتفرق والمنتشر. وإنما ذكر على اللفظ: كقوله تعالى: " أعجاز نخل منقعر " (3) [ القمر: 20 ] ولو قال المبثوثة [ فهو ] (4) كقوله تعالى: " أعجاز نخل خاوية " (5) [ الحاقة: 7 ]. وقال ابن عباس والفراء: " كالفراش المبثوث " كغوغاء الجراد، يركب بعضها بعضا. كذلك الناس، يجول بعضهم في بعض إذا بعثوا. قوله تعالى: وتكون الجبال كالعهن المنفوش (5) أي الصوف الذي ينفش باليد، أي تصير هباء وتزول، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: " هباء منبثا " (6) [ الواقعة: 6 ] وأهل اللغة يقولون: العهن الصوف المصبوغ. وقد مضى في سورة " سأل سائل " (7). (1) في بعض النسخ: (عليهم). (2) آية 7 سورة القمر. (3) آية 20 سورة القمر. (4) الزيادة من تفسير ابن عادل يقتضيها السياق. (5) آية 7 سورة الحاقة. (6) آية 6 سورة الواقعة. (7) راجع ج 18 ص 284. (*)
[ 166 ]
قوله تعالى: فأما من ثقلت موازينه (6) فهو في عيشة راضية (7) وأما من خفت موازينه (8) فأمه هاوية (9) وما أدراك ماهيه (10) نار حامية (11) قد تقدم القول في الميزان في " الاعراف والكهف والانبياء ". وأن له كفة ولسانا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسانات والسيئات. ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجوع. وقيل: موازين، كما قال: * فلكل حادثة لها ميزان (2) * وقد ذكرناه فيما تقدم (3). وذكرناه أيضا في كتاب " التذكرة " وقيل: إن الموازين الحجج والدلائل، قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر: قد كنت قل لقائكم ذا مرة * عندي لكل مخاصم ميزانه ومعنى (عيشة راضية) أي عيش مرضي، يرضاه صاحبه. وقيل: " عيشة راضية " أي فاعلة للرضا، وهو اللين والانقياد لاهلها. فالفعل للعيشة لانها أعطت الرضا من نفسها، وهو اللين والانقياد. فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة، فهي فاعلة للرضا، كالفرش المرفوعة، وارتفاعها مقدار مائة عام، فإذا دنا منها ولي الله أتضعت حتى يستوي عليها، ثم ترتفع كهيئتها، ومثل الشجرة فرعها، كذلك أيضا من الارتفاع، فإذا أشتهى ولي الله ثمرتها تدلت إليه، حتى يتناولها ولي الله قاعدا وقائما، وذلك قوله تعالى: " قطوفها دانية " (4) [ الحاقة: 23 ]. وحيثما مشى أو ينتقل من مكان إلى مكان، جرى معه نهر حيث شاء، علوا وسفلا، وذلك قوله تعالى: " يفجرونها تفجيرا " (5) [ الانسان: 6 ]. فيروى في الخبر (إنه يشير بقضيبه فيجري من غير أخدود حيث شاء من قصوره وفي مجالسه). فهذه الاشياء كلها عيشة قد أعطت الرضا من نفسها، فهي (1) راجع ج 7 ص 165 وما بعدها. وج 11 ص 66 وص 293 (2) صدر البيت: * ملك تقوم الحادثات لعدله * (3) راجع ج 11 ص 293 (4) آية 23 سورة الحاقة. (5) آية 6 سورة الانسان. (*)
[ 167 ]
فاعلة للرضا، وهي أنذلت وانقادت بذلا وسماحة. ومعنى (فأمه هاوية) يعني جهنم. وسماها أما، لانه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، قاله ابن زيد. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: فالارض معقلنا وكانت أمنا * فيها مقابرنا وفيها نولد وسميت النار هاوية، لانه يهوي فيها مع بعد قعرها. ويروى أن الهاوية اسم الباب الاسفل من النار. وقال قتادة: معنى " فأمه هاوية " فمصيره إلى النار. عكرمة: لانه يهوي فيها على أم رأسه. الاخفش: " أمه ": مستقره، والمعنى متقارب. وقال الشاعر: يا عمر لو نالتك أرماحنا * كنت كمن تهوي به الهاويه والهاوية: المهواة. وتقول: هوت أمه، فهي هاوية، أي ثاكلة، قال كعب بن سعد الغنوي: هوت أمه (1) ما يبعث الصبح غاديا * وماذا يؤدي الليل حين يئوب والمهوي والمهواة: ما بين الجبلين، ونحو ذلك. وتهاوى القوم في المهواة: إذا سقط بعضهم في إثر بعض. (وما أدراك ماهيه) الاصل " ما هي " فدخلت الهاء للسكت. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبن محيصن " ما هي نار " بغير هاء في الوصل، ووقفوا بها. وقد مضى في سورة الحاقة (2) بيانه. (نار حامية) أي شديدة الحرارة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم) قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا، كلها مثل حرها). وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه، لانه وضع فيه الحق، وحق لميزان يكون فيه الحق أن يكون ثقيلا. وإنما خف ميزان من خف ميزانه، لانه وضع فيه الباطل، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا. وفي الخبر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله، فيقول ذلك مات قبلي، أما مر بكم ؟ فيقولون لا والله، فيقول إنا لله وإنا إليه راجحون ! ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الام، وبئست المربية). وقد ذكرناه بكماله في كتاب " التذكرة "، والحمد لله. (1) البيت في اللسان: (أمم). (2) راجع ج 18 ص 269 (*)
[ 168 ]
تفسير سورة " التكاثر " وهي مكية في قول جميع المفسرين. وروى البخاري أنها مدنية. وهي ثمان آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى (ألهاكم التكاثر) " ألهاكم " شغلكم. قال: * فألهيتها عن ذي تمائم مغيل (1) * أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله، حتى متم ودفنتم في المقابر. وقيل " ألهاكم ": أنساكم. " التكاثر " أي من الاموال والاولاد، قاله ابن عباس والحسن. وقال قتادة: أي التفاخر بالقبائل والعشائر. وقال الضحاك: أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة. يقال: لهيت عن كذا (بالكسر) ألهى لهيا ولهيانا: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه. وألهاه: أي شغله. ولهاه به تلهية أي علله. والتكاثر: المكاثرة. قال مقاتل وقتادة وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا. وقال ابن زيد: نزلت في فخذ من الانصار. وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم، تعادوا وتكاثروا بالسادة والاشراف في الاسلام، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عائذا، فكثر بنو عبد مناف سهما. ثم تكاثروا بالاموات، فكثرتهم سهم، فنزلت " ألهاكم التكاثر " بأحيائكم فلم ترضوا (1) هذا عجز بيت من معلقة امرئ القيس وصدره: * فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * ويروى: (تمام محول)، أي قد أتى عليه الحول. و (المغيل): الذي تؤتى أمه وهي ترضعه. (*)
[ 169 ]
" حتى زرتم المقابر " مفتخرين بالاموات. وروى سعيد عن قتادة قال: كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعد من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. وعن عمرو بن دينار: حلف أن هذه السورة نزلت في التجار. وعن شيبان عن قتادة قال: نزلت في أهل الكتاب. قلت: الآية تعم جميع ما ذكر وغيره. وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ " ألهاكم التكاثر " قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي ! وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت [ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس ] (1). وروى البخاري عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن لابن أدم واديا من ذهب، لاحب أن يكون له واديان، ولن يملا فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). قال ثابت عن أنس عن أبي: كنا نرى هذا من القرآن، حتى نزلت " ألهاكم التكاثر ". قال أبن العربي: وهذا نص صحيح مليح،. غاب عن أهل التفسير فجهلوا وجهلوا، والحمد لله على المعرفة. وقال ابن عباس: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " ألهاكم التكاثر " قال: (تكاثر الاموال: جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدها في الاوعية). الثانية - قوله تعالى (حتى زرتم المقابر) أي حتى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زوارا، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره. وقيل: أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الاموات، على ما تقدم. وقيل: هذا وعيد. أي أشتغلتم بمفاخرة الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عزوجل. الثالثة - قوله تعالى: " المقابر " جمع مقبرة ومقبرة (بفتح الباء وضمها). والقبور: جمع القبر قال: (1) ما بين المربعين من رواية أبي هريرة في سند آخر لا من رواية مطرف (راجع صحيح مسلم). (*)
[ 170 ]
أرى أهل القصور إذا أميتوا * بنوا فوق المقابر بالصخور أبوا إلا مباهاة وفخرا * على الفقراء حتى في القبور وقد جاء في الشعر (المقبر) قال: لكل أناس مقبر بفنائهم * فهم ينقصون والقبور تزيد (1) وهو المقبري والمقبري: لابي سعيد المقبري (2)، وكان يسكن المقابر. وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا، أي دفنته. وأقبرته أي أمرت بأن يقبر. وقد مضى في سورة " عبس " القول فيه (3). والحمد لله. الرابعة - لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي، لانها تذكر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الامل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة) رواه ابن مسعود، أخرجه ابن ماجه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (فإنها تذكر الموت). وفي الترمذي عن بريدة: (فإنها تذكر الآخرة). قال: هذا حديث حسن صحيح. وفيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. قال: وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت. قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن. قلت: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء. أما الشواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن. ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال، ولا يختلف في هذا إن شاء الله. وعلى هذا المعنى يكون قوله: (زوروا القبور) عاما. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء، فلا يحل ولا يجوز. (1) ذكر البيت صاحب تاج العروس مع بيت بعده (قبر) ونسبهما إلى عبد الله بن قطبة الحنفي. (2) قال ابن قنينة في المعارف: أبو سعيد المقبري: اسمه كيسان روى عن عمر. وتوفى سنة مئة. (3) راجع ج 19 ص 217 (*)
[ 171 ]
فبينا الرجل يحرج ليعتبر، فيقع بصره على امرأة فيفتتن، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور. والله أعلم. الخامسة: قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه، أن يكثر من ذكر هاذم (1) اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، وبواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه، فإن أنتفع بالاكثار من ذكر الموت، وأنجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الاول، لان ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير. وفي مشاهدة من أحتضر، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة، فلذلك كان أبلغ من الاول، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) رواه ابن عباس. فأما الاعتبار بحال المحتضرين، فغير ممكن في كل الاوقات، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات. وأما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر. فينبغي لمن عزم على الزيارة، أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها التطواف على الاجداث فقط، فإن هذه حاله تشاركه فيها بهيمة. ونعوذ بالله من ذلك. بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب المشي على المقابر، والجلوس عليها ويسلم إذا دخل المقابر وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا، وأتاه من تلقاء وجهه، لانه في زيارته كمخاطبته حيا، ولو خاطبه حيا لكان الادب استقباله بوجهه، فكذلك ها هنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وأنقطع عن الاهل والاحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الاصحاب والعشائر، وجمع الاموال والذخائر، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه. فليتأمل الزائر حال من مضي من إخوانه، ودرج من (1) هاذم (بالذال المعجمة) بمعنى قاطع، والمراد الموت إما لان ذكره يزهد فيها وإما لانه إذا جاء لا يبقى من لذائذ الدنيا شيئا. (*)
[ 172 ]
أقرانه الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الاموال، كيف أنقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، وأقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم. وليتذكر ترددهم (1) في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتاة الاسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب. وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع، والهلاك السريع، كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه. وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله. وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الاغيار الدنيوية، ويقبل على الاعمال الاخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه. قوله تعالى: كلا سوف تعلمون (3) ثم كلا سوف تعلمون (4) (كلا) قال الفراء: أي ليس الامر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر والتمام على هذا " كلا سوف تعلمون " أي سوف تعلمون عاقبة هذا. (ثم كلا سوف تعلمون): وعيد بعد وعيد، قاله مجاهد. ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ، وهو قول الفراء. وقال ابن عباس: " كلا سوف تعلمون " ما ينزل بكم من العذاب في القبر. " ثم كلا سوف تعلمون " في الآخرة إذا حل بكم العذاب. فالاول في القبر، والثاني في الآخرة، فالتكرار للحالتين. وقيل " كلا سوف تعلمون " عند المعاينة، أن ما دعوتكم إليه حق. " ثم كلا سوف تعلمون ": عند البعث أن ما وعدتكم به صدق. وروى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه، قاله: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه السورة، فأشار إلى أن قوله: " كلا سوف تعلمون " يعني في القبور. وقيل: " كلا سوف (1) في نسخة: (تزودهم المآب). (*)
[ 173 ]
تعلمون "، إذا نزل بكم الموت، وجاءتكم رسل لتنزع أرواحكم. " ثم كلا سوف تعلمون ": إذا دخلتم قبوركم، وجاءكم منكر ونكير، وحاط بكم هول السؤال، وانقطع منكم الجواب. قلت: فتضمنت السورة القول في عذاب القبر. وقد ذكرنا في كتاب " التذكرة " أن الايمان به واجب، والتصديق به لازم، حسبما أخبر به الصادق، وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره، برد الحياة إليه، ويجعل له من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه، ليعقل ما يسأل عنه، وما يجيب به، ويفهم ما أتاه من ربه، وما أعد له في قبره، من كرامة وهوان. وهذا هو مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أهل الملة. وقد ذكرناه هناك مستوفي، والحمد لله، وقيل: " كلا سوف تعلمون " عند النشور أنكم مبعوثون " ثم كلا سوف تعلمون " في القيامة أنكم معذبون. وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة من بعث وحشر، وسؤال وعرض، إلى غير ذلك من أهوالها وأفزاعها، حسب ما ذكرناه في كتاب " التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة ". وقال الضحاك: " كلا سوف تعلمون " يعني الكفار، " ثم كلا سوف تعلمون ": قال المؤمنون. وكذلك كان يقرؤها، الاولى بالتاء والثانية بالياء. قوله تعالى: كلا لو تعلمون علم اليقين (5) قوله تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين) أعاد " كلا " وهو زجر وتنبيه، لانه عقب كل واحد بشئ آخر، كأنه قال: لا تفعلوا، فإنكم تندمون، لا تفعلوا، فإنكم تستوجبون العقاب. وإضافة العلم إلى اليقين، كقوله تعالى: " إن هذا لهو حق اليقين " (1) [ الواقعة: 95 ]. وقيل: اليقين ها هنا: الموت، قاله قتادة. وعنه أيضا: البعث، لانه إذا جاء زال الشك، أي لو تعلمون علم البعث وجواب " لو " محذوف، أي لو تعلمون اليوم من البعث ما تعلمونه إذا جاءتكم نفخة الصور، وأنشقت اللحود عن جثثكم، كيف يكون حشركم ؟ لشغلكم ذاك عن التكاثر بالدنيا. وقيل: " كلا لو تعلمون علم اليقين " أي لو (2) قد تطايرت الصحف، فشقي وسعيد. (1) آية 95 سورة الواقعة. (2) كذا في نسخ الاصل. (*)
[ 174 ]
وقيل: إن " كلا " في هذه المواضع الثلاثة بمعنى " ألا " قاله ابن أبي حاتم، وقال الفراء: هي بمعنى " حقا " وقد تقدم الكلام فيها مستوفى (1). قوله تعالى: لترون الجحيم (6) ثم لترونها عين اليقين (7) قوله تعالى: (لترون الجحيم) هذا وعيد آخر. وهو على إضمار القسم، أي لترون الجحيم في الآخرة. والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار. وقيل: هو عام، كما قال: " وإن منكم إلا واردها " (2) [ مريم: 71 ] فهيئ للكفار دار، وللمؤمنين ممر. وفي الصحيح: (فيمر أولهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير...) الحديث. وقد مضى في سورة " مريم ". وقرأ الكسائي وابن عامر " لترون " بضم التاء، من أريته الشئ، أي تحشرون إليها فترونها. وعلى فتح التاء، هي قراءة الجماعة، أي لترون الجحيم بأبصاركم على البعد. (ثم لترونها عين اليقين) أي مشاهدة. وقيل: هو إخبار عن دوام مقامهم في النار، أي هي رؤية دائمة متصلة. والخطاب على هذا للكفار. وقيل: معنى " لو تعلمون علم اليقين " أي لو تعلمون اليوم في الدنيا، علم اليقين فيما أمامكم، مما وصفت: " لترون الجحيم " بعيون قلوبكم، فإن علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك، وهو أن تتصور لك تارات القيامة، وقطع مسافاتها. " ثم لترونها عين اليقين ": أي عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقينا، لا تغيب عن عينك. " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ": في موقف السؤال والعرض. قوله تعالى: ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم (8) قوله تعالى: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: (ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة) ؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: (وأنا (1) راجع ج 11 ص 147 فما بعدها. (2) آية 71 سورة مريم. (3) راجع ج 11 ص 137. (*)
[ 175 ]
والذي نفسي بيده لاخرجني الذي أخرجكما قوما) فقاما معه، فأتى رجلا من الانصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين فلان) ؟ قالت: يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الانصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله ! ما أحد اليوم أكرم أضافيا مني. قال: فانطلق، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي بكر وعمر: (والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم، يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم). خرجه الترمذي، وقال [ فيه ]: (هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد) وكنى الرجل الذي من الانصار، فقال: أبو الهيثم ابن التيهان. وذكر قصته. قلت: أسم هذا الرجل الانصاري مالك بن التيهان، ويكنى أبا الهيثم. وفي هذه القصة يقول عبد الله بن رواحة، يمدح بها أبا الهيثم بن التيهان: فلم أر كالاسلام عزا لامة * ولا مثل أضياف الاراشي (1) معشرا نبي وصديق وفاروق أمة * وخير بني (2) حواء فرعا وعنصرا فوافوا لميقات وقدر قضية * وكان قضاء الله قدرا (3) مقدرا إلى رجل نجد يباري بجوده * شموس الضحى جودا ومجدا ومفخرا وفارس خلق الله في كل غارة * إذا لبس القوم الحديد المسمرا ففدى وحيا ثم أدنى قراهم * فلم يقرهم إلا سمينا متمرا (4) (1) كذا في جميع نسخ الاصل. (2) في نسخة من الاصل: (وخير نبي جاء). (3) في نسخة من الاصل: (أمرا). (4) المقطع. (*)
[ 176 ]
وقد ذكر أبونعم الحافظ، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، فخرجت إليه، ثم مر بأبي بكر فدعاه، فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه، فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الانصار، فقال لصاحب الحائط: (أطعمنا بسرا) فجاء بعذق، فوضعه فأكلوا، ثم دعا بماء فشرب، فقال: (لتسألن عن هذا يوم القيامة) قال: وأخذ عمر العذق، فضرب به الارض حتى تناثر البسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال: (نعم إلا من ثلاث: كسرة يسد بها جوعته، أو ثوب يستر به عورته، أو حجر يأوي فيه من الحر والقر). واختلف أهل التأويل في النعيم المسئول عنه على عشرة أقوال: أحدها: الامن والصحة، قاله ابن مسعود. الثاني - الصحة والفراغ، قاله سعيد بن جبير. وفي البخاري عنه عليه السلام: (نعمتان (1) مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). الثالث - الادراك بحواس السمع والبصر، قاله ابن عباس. وفي التنزيل: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان (2) عنه مسئولا " [ الاسراء: 36 ]. وفي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتي بالعبد يوم القيامة، فيقول له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا، ومالا وولدا...)، الحديث. خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح. الرابع - ملاذ المأكول والمشروب قاله جابر بن عبد الله الانصاري. وحديث أبي هريرة يدل عليه. الخامس - أنه الغداء والعشاء، قاله الحسن. السادس - قول مكحول الشامي -: أنه شبع البطون وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم. ورواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتسألن يومئذ عن النعيم) يعني عن شبع البطون...). فذكره. ذكره الماوردي، وقال: وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن، إلا أن سؤال المؤمن (1) أي ذو خسران فيهما. والنعمة: ما يتنعم به الانسان ويستلذه. والغبن: أن يشتري بأضعاف الثمن. أو يبيع بدون ثمن المثل. فمن صح بدنه: وتفرغ من الاشغال العائقة ولم يسع لصلاح آخرته فهو كالمغبون في البيع. والمقصود: بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ، بل يصرفونهما في غير محالهما. (عن شرح سنن ابن ماجه). (2) آية 36 سورة الاسراء. (*)
[ 177 ]
تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية. وقال قوم: هذا السؤال عن كل نعمة، إنما يكون في حق الكفار، فقد روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان، من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب (1)، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه ؟ فقال عليه السلام: (ذلك للكفار، ثم قرأ: " وهل يجازي إلا الكفور " (2) [ سبأ: 17 ]. ذكره القشيري أبو نصر. وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال القشيري: والجمع بين الاخبار: أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكفار توبيخ، لانه قد ترك الشكر. وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لانه شكر. وهذا النعيم في كل نعمة. قلت: هذا القول حسن، لان اللفظ يعم. وقد ذكر الفريابي قال: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله تعالى: " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " قال: كل شئ من لذة الدنيا. وروى أبو الاحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى ليعدد نعمه على العبد يوم القيامة، حتى يعد عليه: سألتني فلانة أن أزوجكها، فيسميها باسمها، فزوجتكها). وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " قال الناس: يا رسول الله، عن أي النعيم نسأل ؟ فإنما هما الاسودان (3) والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا. قال: (إن ذلك سيكون). وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد - أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد) قال: حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده، فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله). والجاه من نعيم الدنيا لا محالة. وقال مالك رحمه الله: إنه صحة البدن، وطيب النفس. وهو القول السابع. وقيل: النوم مع الامن والعافية. وقال سفيان بن عيينة: إن ما سد الجوع وستر العورة من خشن الطعام واللباس، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم. قال: والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة. فقال له: " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. (1) أي بدأ فيه الارطاب. (2) آية 17 سورة سبأ وهذه قراءة نافع. (3) الاسودان: التمر والماء. (*)
[ 178 ]
وأنك لا تظمأ فيها (1) ولا تضحى " [ طه: 118 - 119 ]. فكانت هذه الاشياء الاربعة - ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يستكن فيه من الحر، ويستر به عورته - لآدم عليه السلام بالاطلاق، لا حساب عليه فيها، لانه لابد له منها. قلت: ونحو هذا ذكره القشيري أبو نصر، قال: إن مما لا يسأل عنه العبد لباسا يواري سوأته، وطعاما يقيم صلبه، ومكانا يكنه من الحر والبرد. قلت: وهذا منتزع من قوله عليه السلام: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء) خرجه الترمذي. وقال النضر بن شميل: جلف الخبز: ليس معه إدام. وقال محمد بن كعب: النعيم: هو ما أنعم الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفي التنزيل: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " (2) [ آل عمران: 164 ]. وقال الحسن أيضا والمفضل: هو تخفيف الشرائع، وتيسير القرآن، قال الله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (3) [ الحج: 78 ]، وقال تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " (4) [ القمر: 17 ]. قلت: وكل هذه نعم، فيسأل العبد عنها: هل شكر ذلك أم كفر. والاقوال المتقدمة أظهر. والله أعلم. تفسير سورة " والعصر " وهي مكية. وقال قتادة مدنية وروى عن ابن عباس. وهي ثلاث آيات. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والعصر (1) فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: " والعصر " أي الدهر، قاله ابن عباس وغيره. فالعصر مثل الدهر، ومنه قول الشاعر: سبيل الهوى وعر وبحر الهوى غمر * ويوم الهوى شهر وشهر الهوى دهر (1) آية 118، 119 سورة طه. (2) آية 164 سورة آل عمران. (3) آية 78 سورة الحج. (4) آية 17 سورة القمر. (*)
[ 179 ]
أي عصر أقسم الله به عزوجل، لما فيه من التنبيه بتصرف الاحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع. وقيل: العصر: الليل والنهار. قال حميد بن ثور: ولن يلبث العصران: يوم وليلة * إذا طلبا أن يدركا ما تيمما والعصران أيضا: الغداة والعشي. قال: وأمطله العصرين حتى يملني * ويرضى بنصف الدين والانف راغم يقول: إذا جاءني أول النهار وعدته آخره. وقيل: إنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها، قاله الحسن وقتادة. ومنه قول الشاعر: تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر * وفي الروحة الاولى الغنيمة والاجر وعن قتادة أيضا: هو آخر ساعة من ساعات النهار. وقيل: هو قسم بصلاة العصر، وهي الوسطى، لانها أفضل الصلوات، قاله مقاتل. يقال: أذن للعصر، أي لصلاة العصر. وصليت العصر، أي صلاة العصر. وفي الخبر الصحيح [ الصلاة الوسطى صلاة العصر ]. وقد مضى في سورة " البقرة " (1) بيانه. وقيل: هو قسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، لفضله بتجديد النبوة فيه. وقيل: معناه ورب العصر. الثانية - قال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا: لم يكلمه سنة. قال ابن العربي: " إنما حمل مالك يمين الحالف ألا يكلم امرأ عصرا على السنة، لانه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الايمان. وقال الشافعي: يبر بساعة، إلا أن تكون له نية، وبه أقول، إلا أن يكون الحالف عربيا، فيقال له: ما أردت ؟ فإذا فسره بما يحتمله قبل منه، إلا أن يكون الاقل، ويجئ على مذهب مالك أن يحمل على ما يفسر. والله أعلم. قوله تعالى: إن الانسان لفي خسر (2) هذا جواب القسم. والمراد به الكافر، قاله ابن عباس في رواية أبي صالح. وروى الضحاك عنه قال: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والاسود (1) راجع ج 3 ص 210 (*)
[ 180 ]
ابن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، والاسود بن عبد يغوث. وقيل: يعني بالانسان جنس الناس. " لفي خسر ": لفي غبن. وقال الاخفش: هلكة. الفراء: عقوبة، ومنه قوله تعالى: " وكان عاقبة أمرها (1) خسرا " [ الطلاق: 9 ]. ابن زيد: لفي شر. وقيل: لفي نقص، المعنى متقارب. وروي عن سلام " والعصر " بكسر الصاد. وقرأ الاعرج وطلحة وعيسى الثقفي " خسر " بضم السين. وروى ذلك هارون عن أبي بكر عن عاصم. والوجه فيهما الاتباع. ويقال: خسر وخسر، مثل عسر وعسر. وكان علي يقرؤها " والعصر ونوائب الدهر، إن الانسان لفي خسر. وإنه فيه إلى آخر الدهر ". وقال إبراهيم: إن الانسان إذا عمر في الدنيا وهرم، لفي نقص وضعف وتراجع، إلا المؤمنين، فإنهم تكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم، نظيره قوله تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين ". [ التين: 4 - 5 ]. قال: وقراءتنا " والعصر إن الانسان لفي خسر، وإنه في آخر الدهر ". والصحيح ما عليه الامة والمصاحف. وقد مضى الرد في مقدمة الكتاب على من خالف مصحف عثمان، وأن ذلك ليس بقرآن يتلي، فتأمله هناك (2). قوله تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (8) قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا) استئناء من الانسان، إذ هو بمعنى الناس على الصحيح. قوله تعالى: (وعملوا الصالحات) أي أدوا الفرائض المفترضة عليهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبي بن كعب: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " والعصر " ثم قلت: ما تفسيرها يا نبي الله ؟ قال: " والعصر " قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: " إن الانسان لفي خسر ": أبو جهل " إلا الذين آمنوا ": أبو بكر، " وعملوا الصالحات " عمر. " وتواصوا بالحق " عثمان " وتواصلوا بالصبر " علي " رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا خطب (1) آية 9 سورة الطلاق. (2) راجع ج 1 ص 80 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 181 ]
أبن عباس على المنبر موقوفا عليه. ومعنى (وتواصوا) أي تحابوا، أوصى بعضهم بعضا، وحث بعضهم بعضا. (بالحق) أي بالتوحيد، كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال قتادة: " بالحق " أي القرآن. وقال السدي: الحق هنا هو الله عزوجل. (وتواصوا بالصبر) على طاعة الله عزوجل، والصبر عن معاصيه. وقد تقدم (1). والله أعلم. تفسير سورة " الهمزة " مكية بإجماع. وهي تسع آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة (1) قد تقدم القول في " الويل " في غير موضع (2)، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة. وقيل: واد في جهنم. " لكل همزة لمزة " قال ابن عباس: هم المشاءون بالنميمة، المفسدون (3) بين الاحبة، الباغون للبرآء العيب، فعلى هذا هما بمعنى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ شرار عباد الله تعالى المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الاحبة، الباغون للبرآء العيب ]. وعن ابن عباس أن الهمزة: القتات، واللمزة: العياب. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح: الهمزة: الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة: الذي يغتابه من خلفه إذا غاب، ومنه قول حسان: همزتك فاختضعت بذل نفس * بقافية تأجج كالشواظ (4) (1) راجع ص 71 من هذا الجزء. (2) راجع ج 2 ص 7 طبعة ثانية. (3) في بعض نسخ الاصل (المفرقون). (4) رواية البيت كما في ديوانه: مجللة تعممه شنارا * مضرمة تأجج كالشواظ كهمزة ضيغم يحمى عربنا * شديد مغارز الاضلاع خاظى (*)
[ 182 ]
واختار هذا القول النحاس، قال: ومنه قوله تعالى " ومنهم من يلمزك في الصدقات " (1) [ التوبة: 58 ]. وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة: الذي يغتاب في الوجه. وقال قتادة ومجاهد: الهمزة: الطعان في الناس، والهمزة: الطعان في أنسابهم. وقال ابن زيد الهامز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري يهمز بلسانه، ويلمز بعينيه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه. وقال مرة: هما سواء، وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. وقال زياد الاعجم: تدلى بودي إذا لاقيتني كذبا * وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه وقال آخر: إذا لقيتك عن سخط تكاشرني * وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه الشحط: العبد. والهمزة: اسم وضع للمبالغة في هذا المعنى، كما يقال: سخرة وضحكة: للذي يسخر ويضحك بالناس. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والاعرج " همزة لمزة " بسكون الميم فيهما. فإن صح ذلك عنهما، فهي في معنى المفعول، وهو الذي يتعرض للناس حتى يهمزوه ويضحكوا منه، ويحملهم على الاغتياب. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبو وائل والنخعي والاعمش: " ويل للهمزة اللمزة ". وأصل الهمز: الكسر، والعض على الشئ بعنف، ومنه همز الحرف. ويقال: همزت رأسه. وهمزت الجوز بكفي كسرته. وقيل لاعرابي: أتهمزون (الفارة) ؟ فقال: إنما تهمزها الهرة. الذي في الصحاح: وقيل لاعرابي أتهمز الفارة ؟ فقال السنور يهمزها. والاول قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهر يسمى الهمزة. قال العجاج: * ومن همزنا رأسه تهشما * وقيل: أصل الهمز واللمز: الدفع والضرب. لمزه يلمزه لمزا: إذا ضربه ودفعه. وكذلك همزه: أي دفعه وضربه. قال الراجز: ومن همزنا عزه تبركعا * على أسته زوبعة أو زوبعا (1) آية 58 سورة التوبة. (*)
[ 183 ]
البركعة: القيام على أربع. وبركعه فتبركع، أي صرعه فوقع على أسته، قاله في الصحاح. والآية نزلت في الاخنس بن شريق، فيما روى الضحاك عن ابن عباس. وكان يلمز الناس ويعيبهم: مقبلين ومدبرين. وقال ابن جريج: في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويقدح فيه في وجهه. وقيل: نزلت في أبي بن خلف. وقيل: في جميل ابن عامر الثقفي (1). وقيل: إنها مرسلة على العموم من غير تخصيص، وهو قول الاكثرين. قال مجاهد: ليست بخاصة لاحد، بل لكل من كانت هذه صفته. وقال الفراء: بجوز أن يذكر الشئ العام ويقصد به الخاص، قصد الواحد إذا قال: لا أزورك أبدا. فتقول: من لم يزرني فلست بزائره، يعني ذلك القائل. قوله تعالى: الذي جمع مالا وعدده (2) أي أعده - زعم - لنوائب الدهر، مثل كرم وأكرم. وقيل: أحصى عدده، قاله السدي. وقال الضحاك: أي أعد ماله لمن يرثه من أولاده. وقيل: أي فاخر بعدده وكثرته. والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة. كما قال: " مناع للخير " (2) [ ق: 25 ]، وقال: " وجمع فأوعى " (3) [ المعارج: 18 ]. وقراءة الجماعة " جمع " مخفف الميم. وشددها ابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير. وأختاره أبو عبيد، لقوله: " وعدده ". وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية " جمع " مخففا، " وعدده " مخففا أيضا، فأظهروا التضعيف، لان أصله عده وهو بعيد، لانه وقع في المصحف بدالين. وقد جاء مثله في الشعر، لما أبرزوا التضعيف خففوه. قال: مهلا (4) أمامة قد جريت من خلقي * إني أجود لاقوام وإن ضننوا (1) كذا في نسخ الاصل. والذي في الطبري: (جميل بن عامر الجمحي). وفي سيرة ابن هشام (ص 229 طبع أوربا) وتاريخ الكامل لابن الاثير (ج 2 ص 66 طبع أوربا) وبعض كتب التفسير: (جميل بن معمر الجمحي). (2) آية 25 سورة ق، وآية 12 سورة ن. (3) آية 18 سورة المعارج. (4) في اللسان وكتاب سيبويه: (مهلا أعاذل). وقد نسياه لقعنب بن أم صاحب. (*)
[ 184 ]
أراد: ضنوا وبخلوا، فأظهر التضعيف، لكن الشعر موضع ضرورة. قال المهدوي: من خفف " وعدده " فهو معطوف على المال، أي وجمع عدده فلا يكون فعلا على إظهار التضعيف، لان ذلك لا يستعمل إلا في الشعر. قوله تعالى: يحسب أن ماله أخلده (3) كلا لينبذن في الحطمة (4) وما أدراك ما الحطمة (5) نار الله الموقدة (6) التي تطلع على الافئدة (7) قوله تعالى: (يحسب) أي يظن (أن ماله أخلده) أي يبقيه حيا لا يموت، قاله السدي. وقال عكرمة: أي يزيد في عمره. وقيل: أحياه فيما مضى، وهو ماض بمعنى المستقبل. يقال: هلك والله فلان ودخل النار، أي يدخل. (كلا) رد لما توهمه الكافر، أي لا يخلد ولا يبقى له مال. وقد مضى القول في " كلا " مستوفي (1). وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة: إذا سمعت الله عزوجل يقول " كلا " فإنه يقول كذبت. (لينبذن) أي ليطرحن وليلقين. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن: لينبذان بالتثنية، أي هو وماله. وعن الحسن أيضا " لينبدنه " على معنى لينبذن ماله. وعنه أيضا بالنون " لننبذنه " على إخبار الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال. وعنه أيضا " لينبذن " بضم الذال، على أن المراد الهمزة واللمزة والمال وجامعه. (في الحطمة) وهي نار الله، سميت بذلك لانها تكسر كل ما يلقي فيها وتحطمه وتهشمه. قال الراجز: إنا حطمنا بالقضيب مصعبا * يوم كسرنا أنفه ليغضبا وهي الطبقة السادسة من طبقات جهنم. حكاه الماوردي عن الكلبي. وحكى القشيري عنه: " الحطمة " الدركة الثانية من درك النار. وقال الضحاك: وهي الدرك الرابع. ابن زيد: اسم من أسماء جهنم. (وما أدراك ما الحطمة) على التعظيم لشأنها، والتفخيم لامرها. (1) راجع ج 11 ص 147. (*)
[ 185 ]
ثم فسرها ما هي فقال: (نار الله الموقدة) أي التي أوقد عليها ألف عام، وألف عام، وألف عام، فهي غير خامدة، أعدها الله للعصاة. (للتي تطلع على الافئدة) قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما في أجسادهم، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد، خلقوا خلقا جديدا، فرجعت تأكلهم. وكذا روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النار تأكل أهلها، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله تعالى: " نار الله الموقدة. التي تطلع على الافئدة ":. وخص الافئدة لان الالم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. أي إنه في حال من يموت وهم لا يموتون، كما قال الله تعالى: " لا يموت فيها ولا يحيا " (1) [ طه: 74 ] فهم إذا أحياء في معنى الاموات. وقيل: معنى " تطلع على الافئدة " أي تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وذلك بما استبقاه الله تعالى من الامارة الدالة عليه. ويقال: أطلع فلان على كذا: أي علمه. وقد قال الله تعالى: " تدعوا من أدبر وتولى " (2) [ المعارج: 17 ]. وقال تعالى: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " (3) [ الفرقان: 12 ]. فوصفها بهذا، فلا يبعد أن توصف بالعلم. قوله تعالى: إنها عليهم مؤصدة (8) في عمد ممددة (9) أي مطبقة، قال الحسن والضحاك. وقد تقدم في سورة " البلد " القول (4) فيه. وقيل: مغلقة، بلغة قريش. يقولون: آصدت الباب إذا أغلقته، قاله مجاهد. ومنه قول عبيد الله ابن قيس الرقيات: إن في القصر لو دخلنا غزالا * مصفقا موصدا (5) عليه الحجاب (في عمد ممددة) الفاء بمعنى الباء أي مؤصدة بعمد ممددة قاله ابن مسعود وهي في قراءته " بعمد ممددة " وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (ثم إن الله يبعث إليهم (1) آية 74 سورة طه. (2) آية 17 سورة المعارج. (3) آية 12 سورة الفرقان. (4) راجع ص 72 من هذا الجزء. (5) صفق الباب وأصفقه: أغلقه. (*)
[ 186 ]
ملائكة بأطباق من نار، ومسامير من نار وعمد من نار، فتطبق عليهم بتلك الاطباق، وتشد عليهم بتلك المسامير وتمد بتلك العمد، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح، ولا يخرج منه غم، وينساهم الرحمن على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يستغيثون بعدها أبدا، وينقطع الكلام، فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا، فذلك قوله تعالى: " إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممددة ". وقال قتادة: " عمد " يعذبون بها. واختاره الطبري. وقال ابن عباس: إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم. وقيل: قيود في أرجلهم، قاله أبو صالح. وقال القشيري: والمعظم على أن العمد أوتاد الاطباق التي تطبق على أهل النار. وتشد تلك الاطباق بالاوتاد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يدخل عليهم روح. وقيل: أبواب النار مطبقة عليهم وهم في عمد، أي في سلاسل وأغلال مطولة، وهي أحكم وأرسخ من القصيرة. وقيل: هم في عمد ممددة، أي في عذابها وآلامها يضربون بها. وقيل: المعنى في دهر ممدود، أي لا انقطاع له. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم " في عمد " بضم العين والميم: جمع عمود. وكذلك " عمد " أيضا. قال الفراء: والعمد والعمد: جمعان صحيحان لعمود، مثل أديم وأدم وأدم، وأفيق وأفق وأفق. أبو عبيدة: عمد: جمع عماد، مثل إهاب. وأختار أبو عبيد " عمد " بفتحتين. وكذلك أبو حاتم، أعتبارا بقوله تعالى: " رفع السموات بغير عمد ترونها " (2) [ الرعد: 2 ]. وأجمعوا على فتحها. قال الجوهري: العمود: عمود البيت، وجمع القلة: أعمدة، وجمع الكثرة عمد، وعمد، وقرئ بهما قوله تعالى: " في عمود ممددة ". وقال أبو عبيدة: العمود، كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء مثل العماد. عمدت الشئ فانعمد، أي أقمته بعماد يعتمد عليه. وأعمدته جعلت تحته عمدا. والله أعلم. (1) الاديم. الجلد المدبوغ. والافيق: الجلد الذي لم يدبغ. وقيل: هو الذي لم تتم دباغته. (2) آية 2 سورة الرعد. (*)
[ 187 ]
تفسير سورة " الفيل " وهي مكية باجماع. وهي خمس آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1) فيه خمس مسائل: الاولى: قوله تعالى: " ألم تر " أي ألم تخبر. وقيل ألم تعلم. وقال ابن عباس: ألم تسمع ؟ واللفظ استفهام، والمعنى تقرير. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام، أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل، أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع منتي عليكم، فما لكم لا تؤمنون ؟ و " كيف " في موضع نصب ب‍ " - فعل ربك " لا ب‍ " - ألم تر كيف " في معنى الاستفهام. الثانية: قوله تعالى: " بأصحاب الفيل " الفيل معروف، والجمع أفيال: وفيول، وفيلة. قال ابن السكيت: ولا تقل أفيلة. [ والانثى فيلة ] (1) وصاحبه (2) فيال. قال سيبوبه: يجوز أن يكون أصل فيل فعلا، فكسر من أجل الياء، كما قالوا: أبيض وبيض. وقال الاخفش: هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع. ورجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي. والجمع أفيال. ورجل فال، أي ضعيف الرأي، مخطئ الفراسة. وقد فال الرأي يفيل فيولة، وفيل رأيه تفييلا: أي ضعفه، فهو فيل الرأي. الثالثة: في قصة أصحاب الفيل، وذلك أن (أبرهة) بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشئ من الارض، وكان نصرانيا، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب (1) من تتمة قول ابن السكيت. (2) في اللسان: (وصاحبها). (*)
[ 188 ]
فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة (1)، فخرج حتى أتى الكنيسة، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا ؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت، الذي تحج إليه العرب بمكة، لما سمع قولك: (أصرف إليها حج العرب) غضب، فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة (2) يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتى به أسيرا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي، فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا، فأتي به، فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران وناهس، بالسمع والطاعة، فخلى سبيله. وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات (3) - إنما تريد البيت الذي بمكة، (1) في سيرة ابن هشام: (من النسأة أحد بني فقيم بن عدي...... والنسأة: الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر). (راجع سيرة ابن هشام طبع أوربا ص 29). (2) بنو كنانة: قبيلة ذلك الرجل الذي أحدث في الكنيسة. (3) في سيرة ابن هشام: (واللات: بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة). (*)
[ 189 ]
نحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم. وبعثوا معه أبا رغال، حتى أنزله المغمس (1) فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس، وفيه يقول الشاعر: وارجم قبره في كل عام * كرجم الناس قبر أبي رغال فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له الاسود بن مقصود (2) على خيل له، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لي بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، أو كما قال، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يحل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر، وكان صديقا له، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر، وما غناء رجل أسير بيدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ! ما عندي غناء في شئ مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه، وأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، فقال حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فقال له: (1) المغمس: موضع قرب مكة في طريق الطائف. (2) كذا في بعض نسخ الاصل وتفسير الثعلبي وتاريخ الطبري (قسم أول ص 937 طبع أوربا) وتاريخ ابن الاثير (ج 1 ص 321 طبع أروبا). وفي بعض الاصول: تفسير الطبري وسيرة ابن هشام (ص 33 طبع أوربا): " مفصود " بالفاء بدل القاف. (3) في هامش نسخة: " عن سيد هذا البيت ". (*)
[ 190 ]
إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عين مكة، ويطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما أستطعت، فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك، يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءوس الجبال، فأذن له عليك، فيكلمك في حاجته. قال: فأذن له أبرهة. وكان عبد المطلب أوسم الناس، وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجله، وأعظمه عن أن يجلسه تحته، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه ؟ لا تكلمني فيه ! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الابل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني ! قال أنت وذاك. فرد عليه إبله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف (1) الجبال والشعاب، تخوفا عليهم معرة (2) الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لا هم إن العبد يم‍ * - نع رحله فامنع حلالك (3) لا يغلبن صليبهم * ومحالهم عدوا (4) محالك إن يدخلوا البلد الحرا * م فأمر ما بدا لك (1) شعف الجبال: رؤوسها. (2) المعرة الاذى. ومعرة الجيش: أن ينزلوا بقوم فيأكلوا من زروعهم بغير علم. وقيل: وطأتهم من مروا به من مسلم أو معاهد وإصابتهم إياهم في حريمهم وأموالهم وزروعهم بما لم يؤذن لهم فيه. (3) الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون. يريد بهم سكان الحرم. (4) " عدوا " بالعين المهملة ومعناه الاعتداء وفي السان مادة (غدا): (غدوا) بالغين المعجمة. قال: (الغدو أصل الغد وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك فحذفت لامه ولم يستعمل تاما إلا في الشعر. ولم يرد عبد المطلب الغد بعينه وأنما أراد القريب من الزمان). (*)
[ 191 ]
يقول: أي: شئ ما بدا لك، لم تكن تفعله بنا. والحلال: جمع حل. والمحال: القوة وقيل: إن عبد المطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال: يا رب لا أرجو لهم سواكا * يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا * إنهم لن يقهروا قواكا وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي: لا هم أخز الاسود بن مقصود * الاخذ الهجمة فيها التقليد (1) بين حراء وثبير فالبيد * يحبسها وهي أولات التطريد (2) فضمها إلى طماطم سود * قد أجمعوا ألا يكون معبود (3) ويهدموا البيت الحرام المعمود * والمروتين والمشاعر السود (4) ] * أخفره (5) يا رب وأنت محمود * قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، ثم أنطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب، حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له: ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل. وخرج نفيل بن حبيب يشتد، حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين (6) ليقوم فأبى، فأدخلوا (1) الهجمة: القطعة الضخمة من الابل. قيل هي ما بين الثلاثين والمائة. وقيل أولها الاربعون. وقيل ما بين السبعين إلى المائة (انظر كتب اللغة). وتقليدها أنه جعل في عنقها شعارا ليعلم أنه هدى. (2) حراء وثبير: جبلان بمكة. والبيد: جمع البيداء وهي الفلاة. وتطريد الابل: تتابعها. (3) السهيلي: " طماطم سود " يعني العلوج. (4) ما بين المربعين لم يذكره ابن إسحاق في روايته. (5) أخفره: أي انقض عهده وعزمه فلا تؤمنه. (6) الطبر (محركة): الفأس من السلاح (معربة). والطبرزين آلة من السلاح تشبه الطبر. وقيل هو الطبر بعينه. (*)
[ 192 ]
محاجن (1) لهم في مراقه، فبزغوه (2) بها ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان (3)، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاءوا منها، ويسألون عن نفيل ابن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفر والاله الطالب * والاشرم (4) المغلوب ليس الغالب وقال أيضا: حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا فكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون [ بكل مهلك ] (5) على كل سهل (6)، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة (7)، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث (8) قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون. وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان - يزيد أحدهما وينقص -: سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصاري الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا، فاحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره، (1) المحجن: العصا المنعطفة الرأس كالصولجان. (2) بزغوه: شرطوه. (3) في اللسان والنهاية مادة (بلس): (قال عباد بن موسى أظنها الزرازير). (4) الاشرم: أبرهة سمى بذلك لانه جاءه حجر فشرم أنفه فسمى الاشرم. (5) زيادة عن سيرة ابن هشام. (6) في سيرة ابن هشام: (منهل) () أي ينتثر جسمه والانملة طرف الاصبع. ويعبر بها عن الصغير من الاشياء. (8) مث السقاء: رشح. (*)
[ 193 ]
فاستشاط غضبا. فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة. وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزير، وحجر بن شرحبيل من قواده، وقال مجاهد: أبو يكسوم هو أبرهة ابن الصباح. فساروا ومعهم الفيل. قال الاكثرون: هو فيل واحد. وقال الضحاك: هي ثمانية فيلة. ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة، وفيها إبل عبد المطلب. وأتى الراعي نذيرا، فصعد الصفا، فصاح: واصباحاه ! ثم أخبر الناس بمجئ الجيش والفيل. فخرج عبد المطلب، وتوجه إلى أبرهة، وسأله في إبله. واختلف في النجاشي، هل كان معهم، فقال قوم كان معهم. وقال الاكثرون: لم يكن معهم. ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غريبة بأرضنا، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية " وإنها أشباه اليعاسيب (1). وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة، فلما أطلت (2) على القوم ألقتها عليهم، حتى هلكوا. قال عطاء بن أبي رباح: جاءت الطير عشية، فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم. وقال الكلبي: في مناقيرها حصى كحصى الخذف (3)، أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق. فلما جاءت عسكر القوم وتوافت، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به. وقيل: كان كل حجر مكتوب: من أطاع الله نجا، ومن عصاه غوى. ثم انصاعت (4) راجعة من حيث جاءت. وقال العوفي: سألت عنها أبا سعيد الخدري، فقال: حمام مكة منها. وقيل: كان يقع الحجر على بيضة (5) أحدهم فيخرقها، ويقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة. ويغيب الحجر في الارض من شدة وقعه. وكان أصحاب الفيل ستين ألفا، لم يرجع منهم أحد إلا أميرهم، رجع ومعه شرذمة لطيفة. فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وقال الواقدي: أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهة هو الاشرم، سمي بذلك لانه تفاتن (6) مع أرياط، حتى تزاحفا، (1) اليعسوب: أمير النحل. (2) في نسخة: (أقبلت). (3) الخذف: الرمى بالحصى الصغار بأطراف الاصابع. (4) انصاع الرجل: انفتل راجعا ومر مسرعا. (5) هي بيضة الحديد. (6) المفاتنة: اختلاف الناس في الآراء وما يقع بينهم من القتال. (*)
[ 194 ]
ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما، فمن غلب فله الامر. فتبارزا - وكان أرياط جسيما عظيما، في يده حربة، وأبرهة قصيرا حادرا (1) حيما ذا دين في النصرانية، ومع أبرهة وزير له يقال له عتودة - فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة، فوقعت على جبينه، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته، فلذلك سمي الاشرم. وحمل عتودة على أرياط فقتله. فاجتمعت الحبشة لابرهة، فغضب النجاشي، وحلف ليجزن ناصية أبرهة، ويطأن بلاده. فجز أبرهة ناصيته " وملا مزودا من تراب أرضه، وبعث بهما إلى النجاشي، وقال: إنما كان عبدك، وأنا عبدك، وأنا أقوم بأمر الحبشة، وقد جززت ناصيتي، وبعثت إليك بتراب أرضي، لتطأه وتبر في يمينك، فرضى عنه النجاشي. ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء، ليصرف إليها حج العرب، على ما تقدم. الرابعة: قال مقاتل: كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة. وقال الكلبي وعبيد بن عمير: كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة. والصحيح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [ ولدت عام الفيل ]. وروي عنه أنه قال: [ يوم الفيل ]. حكاه الماوردي في التفسير له. وقال في كتاب أعلام النبوة: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول، وكان بعد الفيل بخمسين يوما. ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط (2)، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان. قال: وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان. وقد قيل: إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ويومين من التاسع. وقيل: إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم، حكاه ابن شاهين (3) أبو حفص، في فضائل يوم عاشوراء له. ابن العربي: " قال ابن وهب عن مالك: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقال قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. وقد روى الناس عن مالك أنه قال: (1) الحادر: المجتمع الخلق. (2) في نسخة: " شباط " (بالشين المعجمة كغراب)، وورد بالسين المهملة. (3) في بعض نسخ الاصل: " أبو شاهين حفص ". (*)
[ 195 ]
من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه، لانه إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه. وهذا قول ضعيف، لان مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سنه، وهو من أعظم العلماء قدوة به. فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا ". وقال عبد الملك ابن مروان لعتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقيل لبعض القضاة: كم سنك ؟ قال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وكان سنه يومئذ دون العشرين. الخامسة: قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي، لانها كانت توكيدا لامره، وتمهيدا لشأنه. ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة، ولهذا قال: " ألم تر " ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس. وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس. وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة، سودا مخططة بحمرة. قوله تعالى: ألم يجعل كيدهم في تضليل (2) قوله تعالى: (ألم يجعل كيدهم في تضليل) أي في إبطال وتضييع، لانهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي، والبيت بالتخريب والهدم. فحكي عن عبد المطلب أنه بعث ابنه عبد الله على فرس له، ينظر ما لقوا من تلك الطير، فإذا القوم مشدخين جميعا، فرجع يركض فرسه، كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال: إن ابني هذا أفرس العرب. وما كشف عن فخذه إلا بشيرا أو نذيرا. فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا: ما وراءك ؟ قال: هلكوا جميعا. فخرج عبد المطلب وأصحابه، فأخذوا أموالهم. وكانت
[ 196 ]
أموال بني عبد المطلب منها، وبها تكاملت رياسة عبد المطلب، لانه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم خرج أهل مكة بعده ونهبوا. وقيل: إن عبد المطلب حفر حفرتين فملاهما من الذهب والجوهر، ثم قال لابي مسعود الثقفي - وكان خليلا لعبد المطلب -: اختر أيهما شئت. ثم أصاب الناس من أموالهم حتى ضاقوا ذرعا، فقال عبد المطلب عند ذلك: أنت منعت الحبش (1) والافيالا * وقد رعوا بمكة الا جبالا (2) وقد خشينا منهم القتالا * وكل أمر لهم (3) معضالا * شكرا وحمدا لك ذا الجلالا (4) * قال ابن إسحاق: ولما رد الله الحبشة عن مكة عظمت العرب قريشا، وقالوا: [ هم ] (5) أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مئونة عدوهم. وقال عبد الله بن عمرو بن مخزوم، في قصة أصحاب الفيل: أنت الجليل ربنا لم تدنس * أنت حبست الفيل بالمغمس من بعد ما هم بشر مبلس * حبسته في هيئة المكركس * وما لهم من فرج ومنفس * والمكركس: المنكوس المطروح. قوله تعالى: وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) قال سعيد بن جبير: كانت طيرا من السماء لم ير قبلها، ولا بعدها مثلها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إنها طير بين السماء والارض تعشش وتفرخ ]. وعن ابن عباس: كانت لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة: كانت طيرا خضرا، خرجت من البحر، لها رءوس كرءوس السباع. ولم تر قبل ذلك ولا بعده. وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شئ بالخطاطيف. وقيل: بل كانت أشباه الوطاويط، حمراء وسوداء. وعن (1) الظاهر أنه جمع (أحبش) بوزن أحمر، وإن لم ينطقوا به. قال في تاج العروس: كأنه جمع أحبش (بوزن أحمر). (2) في روح المعاني، (الاحبالا) بالحاء. (3) في روح المعاني (منهم) بدل (لهم). (4) كذا في نسخ الاصل وغيرها من المصادر. (5) زيادة عن سيرة ابن هشام. (*)
[ 197 ]
سعيد بن جبير أيضا: هي طير خضر لها مناقير صفر. وقيل: كانت بيضا. وقال محمد ابن كعب: هي طير سود بحرية، في مناقيرها وأظفارها الحجارة. وقيل: إنها العنقاء المغرب (1) التي تضرب بها الامثال، قال عكرمة: " أبابيل " أي مجتمعة. وقيل: متتابعة، بعضها في إثر بعض، قاله أبن عباس ومجاهد. وقيل مختلفة متفرقة، تجئ من كل ناحية من ها هنا وها هنا، قاله ابن مسعود وابن زيد والاخفش. قال النحاس: وهذه الاقوال متفقة، وحقيقة المعنى: أنها جماعات عظام. يقال: فلان يؤبل على فلان، أي يعظم عليه ويكثر، وهو مشتق من الابل. واختلف في واحد (أبابيل)، فقال الجوهري: قال الاخفش يقال: جاءت إبلك أبابيل، أي فرقا، وطيرا أبابيل. قال: وهذا يجئ في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له. وقال بعضهم: واحده أبول. مثل عجول. وقال بعضهم - وهو المبرد -: إبيل مثل سكين. فال: ولم أجد العرب تعرف له واحدا في غير الصحاح. وقيل في واحده إبال. وقال رؤبة بن العجاج في الجمع: ولعبت طير بهم أبابيل * فصيروا مثل كعصف مأكول وقال الاعشى: طريق وجبار (2) رواء أصوله * عليه أبابيل من الطير تنعب وقال آخر: كادت تهد من الاصوات راحلتي * إذ سالت الارض بالجرد (3) الابابيل وقال آخر: تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم * أبابيل طير تحت دجن مسخن (4) (1) هي التي أغربت في البلاد فنأت ولم تحس ولم تر. (2) الجبار من النخل: ما طال وفات اليد. (3) الجرد (بالضم كالجريدة): خيل لا رجالة فيها. والجرد - أيضا -: قصر شعر الجلد في الفرس، وهو من الاوصاف المحمودة في الخيل. (4) كذا في نسخ الاصل، (بالخاء المعجمة والنون). وفي تفسير الثعلبي:... تحت دجن مسحر. (بالحاء المهملة والراء). وقد نسبه إلى امرئ القيس، ولم نجده في ديوانه. ولعل صوابه:... تحت دجن مسخر. (بالخاء المعجمة والراء). (*)
[ 198 ]
قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع في واحدها " إبالة " مشددة. وحكى الفراء " إبالة " مخففا. قال: سمعت بعض العرب يقول: ضغث (1) على إبالة. يريد: خصبا على خصب. قال: ولو قال قائل إيبال كان صوابا، مثل دينار ودنانير. وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل: الابابيل: مأخوذ من الابل المؤبلة، وهي الاقاطيع. قوله تعالى: ترميهم بحجارة من سجيل (4) في الصحاح: " حجارة من سجيل " قالوا: حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم، لقوله تعالى: " لنرسل عليهم حجارة من طين. مسومة " (2) [ الذاريات: 33 - 34 ]. وقال عبد الرحمن ابن أبزى: " من سجيل ": من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل من الجحيم. وهي " سجين " ثم أبدلت اللام نونا، كما قالوا في أصيلان أصيلال. قال أبن مقبل: * ضربا تواصت به الابطال سجينا (3) * وإنما هو سجيلا. وقال الزجاج: " من سجيل " أي مما كتب عليهم أن يعذبوا به، مشتق من السجل. وقد مضى القول في سجيل في " هود " (4) مستوفى. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم. وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة. وقال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري. وقراءة العامة " ترميهم " بالتاء، لتأنيث جماعة الطير. وقرأ الاعرج وطلحة " يرميهم " بالياء، أي يرميهم الله، دليله قوله تعالى: " ولكن الله رمى " (5) [ الانفال: 17 ] ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير، لخلوها من علامات التأنيث، ولان تأنيثها غير حقيقي. (1) الضغث: قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس. والابالة: الحزمة من الحطب. في فرائد اللآل: يضرب لمن حملك مكروها ثم زادك عليه. (2) آية 33 سورة الذاريات. (3) صدر البيت كما في اللسان: * ورجلة يضربون البيض عن عرض * (4) راجع ج 9 ص 81. (5) آية 17 سورة الانفال. (*)
[ 199 ]
قوله تعالى: فجعلهم كعصف مأكول (5) أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل. شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه. روى معناه عن ابن زيد وغيره. وقد مضى القول في العصف في سورة " الرحمن " (1). ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة: تسقي مذانب قد مالت عصيفتها * حدورها من أتى الماء مطموم (2) وقال رؤبة بن العجاج: ومسهم ما مس أصحاب الفيل * ترميهم حجارة من سجيل ولعبت طير بهم أبابيل * فصيروا مثل كعصف مأكول العصف: جمع، واحدته عصفة وعصافة، وعصيفة. وأدخل الكاف في " كعصف " للتشبيه مع مثل، نحو قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " (3) [ الشورى: 11 ]. ومعنى " مأكول " مأكول حبه. كما يقال: فلان حسن، أي حسن وجهه. وقال ابن عباس: " فجعلهم كعصف مأكول " أن المراد به قشر البر، يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح. ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة. وقال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل (4) من كندة، فقال: فإنك لو رأيت ولم تريه (5) * لدى جنب المغمس ما لقينا (1) راجع ج 17 ص 156. (2) المذانب: مسايل الماء. والعصيفة: الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وحدورها: ما انحدر منها واطمأن. والاتي (كغنى): الجدول. والمطموم: المملوء بالماء. (3) آية 11 سورة الشورى. (4) هو نفيل بن حبيب كما في تاريخ الطبري وابن الاثير. (5) في نسخ الاصل: (ولو ترانا) وهو تحريف لانه يخاطب امرأة. والابيات كما أوردها الطبري (ص 942 قسم أول طبع أوربا) وابن الاثير (ج 1 ص 322 طبع أوربا): ألا حييت عنا ياردينا * نعمناكم مع الاصباح عينا أتانا قابس منكم عشاء * فلم يقدر لقابسكم لدينا ردينة لو رأيت ولم تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا إذن لعذرتني وحمدت رأيى * ولم تأسى على ما فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا لكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا (*)
[ 200 ]
خشيت الله إذ قد بث طيرا * وظل سحابة مرت علينا وباتت كلها تدعو بحق * كأن لها على الحبشان دينا ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء الله منهم. وقد تقدم أن أميرهم رجع وشر ذمة لطيفة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. فالله أعلم. وقال ابن إسحاق: لما رد الله الحبشة عن مكة، عظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم مئونة عدوهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم. تفسير سورة " قريش " مكية، في قول الجمهور. ومدنية في قول الضحاك والكلبي وهي أربع آيات بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: لايلاف قريش (1) قيل: إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى. يقول: أهلكت أصحاب الفيل لايلاف قريش، أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها. وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معا. وقال عمرو بن ميمون الاودي: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ في الاولى: " والتين والزيتون " [ التين: 1 ] وفي الثانية " ألم تر كيف " [ الفيل: 1 ] و " لايلاف قريش " [ قريش: 1 ]. وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الاولى (1)، لانه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: " لايلاف قريش " أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش. وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها، فلا يغار عليها ولا تقرب في الجاهلية. يقولون هم أهل بيت الله عزوجل، حتى جاء صاحب الفيل (1) الذي في كتاب الفراء: " قال بعضهم كانت موصولة ب‍ " - ألم تر كيف فعل ربك " الخ. (*)
[ 201 ]
ليهدم الكعبة، ويأخذ حجارتها، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه، فأهلكهم الله عزوجل، فذكرهم نعمته. أي فجعل الله ذلك لايلاف قريش، أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم، وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه. ذكره النحاس: حدثنا أحمد ابن شعيب قال أخبرني عمرو بن علي قال: حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة، قال: حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: " لايلاف قريش " قال: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف. وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما، على ما نبينه أثناء السورة. وقيل: ليست بمتصلة، لان بن السورتين " بسم الله الرحمن الرحيم " وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الاخرى، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى: " فليعبدوا " أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت، لايلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار (1). وكذا قال الخليل: ليست متصلة، كأنه قال: ألف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت. وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها لانها زائدة غير عاطفة، كقولك: زيدا فاضرب. وقيل: اللام في قوله تعالى: " لايلاف قريش " لام التعجب، أي اعجبوا لايلاف قريش، قاله الكسائي والاخفش. وقيل: بمعنى إلى. وقرأ ابن عامر: " لائلاف قريش " مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو جعفر والاعرج " ليلاف " بلا همز طلبا للخفة. الباقون " لايلاف " بالياء مهموزا مشبعا، من آلفت أولف إيلافا. قال الشاعر: المنعمين إذا النجوم تغيرت * والظاعنين لرحلة الايلاف ويقال: ألفته إلفا وإلافا. وقرأ أبو جعفر أيضا: " لالف قريش " وقد جمعهما من قال: زعمتم أن إخوتكم قريش (2) * لهم إلف وليس لكم إلاف قال الجوهري: وفلان قد ألف هذا الموضع (بالكسر) يألفه إلفا، وآلفه إياه غيره. ويقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا. وكذلك: آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا، (1) أي لجلب الطعام. (2) كذا في نسخ الاصل بالرفع على الخبر. وفي اللسان وشرح القاموس: (قريشا) بالنصب على البدل. (*)
[ 202 ]
فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة. وقرأ عكرمة " ليألف " بفتح اللام على الامر. وكذلك هو في مصحف ابن مسعود. وفتح لام الامر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره. وكان عكرمة يعيب على من يقرأ " لايلاف ". وقرأ بعض أهل مكة " إلاف قريش " استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تتركنه ما حييت لمعظم * وكن رجلا ذا نجدة وعفاف تذود العدا عن عصبة هاشمية * إلافهم في الناس خير إلاف وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه. وربما قالوا: قريشي، وهو القياس، قال الشاعر: * بكل قريشي عليه مهابة (1) * فإن أردت بقريش الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه، قال الشاعر: * وكفى قريش المعضلات وسادها (2) * والتقريش: الاكتساب، وتقرشوا أي تجمعوا. وقد كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم، حتى اتخذوه مسكنا. قال الشاعر: أبونا قصي كان يدعي مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر وقد قيل: إن فريشا بنو فهر بن مالك بن النضر. فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي. والاول أصح وأثبت. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إنا ولد النضر ابن كنانة لا نقفوا (3) أمنا، ولا ننتفي من أبينا ]. وقال وائلة بن الاسقع: قال النبي صلى الله (1) تمامه * سريع إلى داعي الندى والتكرم * (2) هذا عجز بيت لعدي بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك. وصدره كما في اللسان: * غلب المساميح الوليد سماحة * (3) قفا فلان فلانا: إذا قذفه بما ليس فيه أي لا نتهمها ولا نقذفها، وقيل: معناه لا نترك النسب إلى الآباء، وننتسب إلى الامهات. (*)
[ 203 ]
عليه وسلم [ إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ]. صحيح ثابت، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال: أحدهما: لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع والالتئام. قال أبو جلدة اليشكري: (1) إخوة قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرهم وقديم الثاني -: لانهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم. والتقرش: التكسب. وقد قرش يقرش قرشا: إذا كسب وجمع. قال الفراء: وبه سميت قريش. الثالث: لانهم كانوا يفتشون الحاج (2) من ذي الخلة، فيسدون خلته. والقرش: التفتيش. قال الشاعر: أيها الشامت المقرش عنا * عند عمرو فهل له إبقاء (3) الرابع: ما روي أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا ؟ فقال: لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى. وأنشد قول تبع: وقريش هي التي تسكن البح‍ * - ر بها سميت قريش قريشا تأكل الرث والسمين ولا تت‍ * - رك فيها لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون البلاد أكلا كميشا (4) ولهم آخر الزمان نبي * يكثر القتل فيهم والخموشا (5) قوله تعالى: إيلافهم رحلة االشتاء والصيف (2) قرأ مجاهد وحميد " إلفهم " ساكنة اللام بغير ياء. وروي نحوه عن ابن كثير. وكذلك روت أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " إلفهم ". وروي عن ابن عباس (1) ضبطه في التاج بكسر الجيم. (2) الحاج: جماعة الحجاج. والخلة (بالفتح): الحاجة والفقر. (3) البيت للحارث بن حلزة اليشكري في معلقته. وروايته كما في شرح المعلقات: أيها الناطق المرقش عنا * عند عمرو وهل لذاك بقاء قال التبريزي: (المرقش: المزين القول بالباطل ليقبل منه الملك باطله. ويقال إنه يخاطب بها عمرو بن كلثوم. ومعنى (وهل لذاك بقاء): (إن الباطل لا يبقى). وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه. (4) أي سريعا. (5) الخموش: (جمع الخمش) وهو مثل الخدش يكون في البدن والوجه. (*)
[ 204 ]
وغيره. وقرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام وأبو حيوة " إلافهم " مهموزا مختلسا بلا ياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم " إئلافهم " بهمزتين، الاولى مكسورة والثانية ساكنة. والجمع بين الهمزتين في الكلمتين شاذ. الباقون " إيلافهم " بالمد والهمز، وهو الاختيار، وهو بدل من الايلاف الاول للبيان. وهو مصدر آلف: إذا جعلته يألف. وألف هو إلفا، على ما تقدم ذكره من القراءة، أي وما قد ألفوه من رحلة الشتاء والصيف. روى أبن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: " إيلافهم رحلة الشتاء والصيف " قال: لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف، منة منه على قريش. وقال الهروي وغيره: وكان أصحاب الايلاف أربعة إخوة: هاشم، وعبد شمس، والمطلب، ونوفل، بنو عبد مناف. فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك الشام، أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام. وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة. والمطلب إلى اليمن. ونوفل إلى فارس. ومعنى يؤلف يجير. فكان هؤلاء الاخوة يسمون المجيرين. فكان تجار قريش يختلفون إلى الامصار بحبل هؤلاء الاخوة، فلا يتعرض لهم. قال الازهري: الايلاف: شبه الاجارة بالخفارة (1)، يقال: آلف يؤلف: إذا أجار الحمائل بالخفارة. والحمائل: جمع حمولة (2). قال: والتأويل: أن قريشا كانوا سكان الحرم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يتخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض الناس لهم. وذكر أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في تفسيره: حدثنا سعيد بن محمد، عن بكر بن سهل الدمياطي، بإسناده إلى ابن عباس، في قول الله عز وجل: " لايلاف قريش " إلفهم رحلة الشتاء والصيف. وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم (3) مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا، حتى كان عمرو بن عبد مناف، وكان سيدا (1) في بعض نسخ الاصل: (الاجارة والخفارة) ولم نجد هذا في كتاب التهذيب للازهري ولا في غيره من كتب اللغة. والاجارة: الاغاثة والحماية. والخفارة (مثلثة الخاء): الامان. (2) الحمولة (بالفتح): الابل التي تحمل. (3) المخمصة: المجاعة. (*)
[ 205 ]
في زمانه، وله ابن يقال له أسد، وكان له ترب (1) من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدا نعتفد، قال ابن فارس: هذه لفظة في هذا الخبر لا أدري: بالدال هي أم بالراء، فإن كانت بالراء فلعلها من العفر، وهو التراب، وإن كان بالدال، فما أدري معناها (2)، وتأويله على ما أظنه: ذهابهم إلى ذلك الخباء، وموتهم واحدا بعد واحد. قال: فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه. قال: فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما. ثم إن تربه أتاه أيضا فقال: نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله عزوجل، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسمي هاشما. وفيه قال الشاعر: عمرو الذي (3) هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون (4) عجاف ثم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الاسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم: والخالطون فقيرهم بغنيهم * حتى يصير فقيرهم كالكافي فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال: " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع " بصنيع هاشم " وآمنهم من خوف " أن تكثر العرب ويقلوا. (1) الترب (بالكسر): اللدة ومساويك في السن ومن ولد معك. (2) في اللسان مادة عفد: (الاعتفاد: أن يغلق الرجل بابه على نفسه فلا يسأل أحدا حتى يموت جوعا). (3) في اللسان: (عمرو العلا...) (4) مسنتون: أي أصابتهم السنة. والسنة: الجدب والقحط. (*)
[ 206 ]
قوله تعالى: " رحلة الشتاء والصيف " " رحلة " نصب بالمصدر، أي ارتحالهم رحلة، أو بوقوع " إيلافهم " عليه، أو على الظرف. ولو جعلتها في محل الرفع، على معنى هما رحلة الشتاء والصيف، لجاز. والاول أولى. والرحلة الارتحال. وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء، لانها بلاد حامية، والرحلة الاخرى في الصيف إلى الشام، لانها بلاد باردة. وعن ابن عباس أيضا قال: كانوا يشتون بمكة لدفئها، ويصيفون بالطائف لهوائها. وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة. وقال الشاعر: تشتي بمكة نعمة * ومصيفها بالطائف وهنا أربع مسائل: الاولى - اختار القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من العلماء: أن قوله تعالى: " لايلاف " متعلق بما قبله. ولا يجوز أن يكون متعلقا بما بعده، وهو قوله تعالى: " فليعبدوا رب هذا البيت " قال: وإذا ثبت أنه متعلق بالسورة الاخرى - وقد قطع عنه بكلام مبتدأ، واستئناف بيان وسطر " بسم الله الرحمن الرحيم "، فقد تبين جواز الوقف في القراءة (1) للقراء قبل تمام الكلام، وليست المواقف التي ينتزع (2) بها القراء شرعا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرويا، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني، فإذا علموها وقفوا حيث شاءوا. فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك. هذا رأيي فيه، ولا دليل على ما قالوه، بحال، ولكني أعتمد الوقف على التمام، كراهية الخروج عنهم. قلت: ومن الدليل على صحة هذا، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم " الحمد لله رب العالمين " ثم يقف. " الرحمن الرحيم " ثم يقف. وقد مضى في مقدمة الكتاب (3). وأجمع المسلمون أن (1) في ابن العربي: (في القرآن). (2) في ابن العربي: (تنزع). (3) راجع ج 1 ص 10 فيما بعد. (*)
[ 207 ]
الوقف عند قوله: " كعصف مأكول " [ الفيل: 5 ] ليس بقبيح. وكيف يقال إنه قبيح وهذه السورة تقرأ في الركعة الاولى والتي بعدها في الركعة الثانية، فيتخللها من قطع القراءة أركان ؟ وليس أحد من العلماء يكره ذلك، وما كانت العلة فيه إلا أن قوله تعالى: " فجعلهم كعصف مأكول " [ الفيل: 5 ] انتهاء آية. فالقياس على ذلك: ألا يمتنع الوقف عند أعجاز الآيات سواء كان الكلام يتم، والغرض ينتهي، أو لا يتم، ولا ينتهي. وأيضا فإن الفواصل حلية وزينة للكلام المنظوم، ولولاها لم يتبين المنظوم من المنثور. ولا خفاء أن الكلام المنظوم أحسن، فثبت بذلك أن الفواصل من محاسن المنظوم، فمن أظهر فواصله بالوقوف عليها فقد أبدى محاسنه، وترك الوقوف يخفي تلك المحاسن، ويشبه المنثور بالمنظوم، وذلك إخلال بحق المقروء. الثانية - قال مالك: الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها، ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمن (1) ومن معه، لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا، وهو يوم التاسع عشر من بشنس، وهو يوم خمسة وعشرين من عدد (2) الروم أو الفرس. وأراد (3) بطلوع الثريا أن يخرج السعاة، ويسير الناس بمواشيهم إلى مياههم، وأن طلوع الثريا أول (4) الصيف ودبر الشتاء. وهذا مما لا خلاف فيه بين أصحابه عنه. وقال عنه أشهب وحده: إذا سقطت الهقعة (5) نقص الليل، فلما جعل طلوع الثريا أول الصيف، وجب أن يكون له في مطلق السنة ستة أشهر، ثم يستقبل الشتاء من بعد ذهاب الصيف ستة أشهر. وقد سئل محمد بن عبد الحكم عمن حلف ألا يكلم أمرأ حتى يدخل الشتاء ؟ فقال: لا يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من هاتور. ولو قال حتى يدخل الصيف، لم يكلمه حتى يمضي سبعة عشر من بشنس. قال القرظي: أما ذكر هذا عن محمد في بشنس، فهو سهو، إنما هو تسعة عشر من بشنس، لانك إذ حسبت المنازل (1) هو ربيعة الرأى أدرك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والاكابر من التابعين وكان صاحب الفتوى بالمدينة وعنه أخذ مالك بن أنس وغيره. توفى سنة 136 ه‍. (2) كذا في الاصول وابن العربي. أي من عدد شهورهم (3) كذا في ابن العربي. وفي نسخ الاصل: (وأرى). (4) في ابن العربي: (قبل الصيف). (5) الهقعة: ثلاثة كواكب نيرة قريب بعضها من بعض فوق منكب الجوزاء، وهي منزل من منازل القمر. (*)
[ 208 ]
على ماهي عليه، من ثلاث عشرة ليلة كل منزلة، علمت أن ما بين تسع عشرة من هاتور لا تنقضي منازله إلا بدخول تسع عشرة من بشنس. والله أعلم. الثالثة - قال قوم: الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف. وقال قوم: هو شتاء، وصيف، وقيظ، وخريف. والذي قاله مالك أصح، لان الله قسم الزمان قسمين (1) ولم يجعل لهما ثالثا. الرابعة - لما امتن الله تعالى على قريش برحلتين، شتاء وصيفا، على ما تقدم، كان فيه دليل على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ البادهنجات (2) والخيش للتبريد، واللبد واليانوسة (3) للدف ء. قوله تعالى: فليعبدوا رب هذا البيت (3) أمرهم الله تعالى بعبادته وتوحيده، لاجل إيلافهم رحلتين. ودخلت الفاء لاجل ما في الكلام من معنى الشرط، لان المعنى: إما لا فليعبدوه لايلافهم، على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة. والبيت: الكعبة. وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما لانه كانت لهم أوثان فميز نفسه عنها. الثاني: لانهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك، تذكيرا لنعمته. وقيل: " فليعبدوا رب هذا البيت " أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين. قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى (1) في الاصول: (لان قسمة الله الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثا) وهي غير مستقيمة. وفي ابن العربي (لاجل قسمة الله الزمان قسمين... الخ) () في كتاب شفاء العليل للشهاب الخفاجي: (الباد هنج) معرب باد خون أو باد كير، منفذ الهواء في سقف البيت. (3) في ابن العربي: (اليانوس). ولم نجد في المعاجم العربية هذه المادة. (*)
[ 209 ]
ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم: " فليعبدوا رب هذا البيت " أي يقيموا بمكة. رحلة (1) الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام. قوله تعالى: الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4) قوله تعالى: " الذي أطعمهم من جوع " أي بعد جوع. " وآمنهم من خوف " قال ابن عباس: وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: " رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات " (2) [ البقرة: 126 ]. وقال ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها من بعض، فأمنت قريش من ذلك المكان الحرم - وقرأ - " أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات (3) كل شئ " [ القصص: 57 ]. وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السفن، فحملوه، فخافت قريش منهم، وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام، وأغاثوهم بالاقوات، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدة بالابل والحمر، فيشترون الطعام، على مسيرة ليلتين. وقيل: هذا الاطعام هو أنهم لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: [ اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ] فاشتد القحط، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكة، وأخصب أهلها. وقال الضحاك والربيع وشريك وسفيان: " وآمنهم من خوف " أي من خوف الجذام، لا يصيبهم ببلدهم الجذام. وقال الاعمش: " وآمنهم من خوف " أي من خوف الحبشة مع الفيل. وقال علي رضي الله عنه: وآمنهم من [ خوف ]: أن تكون الخلافة إلا فيهم. وقيل: أي كفاهم أخذ الايلاف من الملوك. فالله أعلم، واللفظ يعم. (1) يريد: يقموا بمكة: ويتركوا الرحلة... الخ. (2) آية 126 سورة البقرة. (3) آية 57 سورة القصص. (4) التكملة عن تفسير الخطيب. (*)
[ 210 ]
تفسير سورة " الماعون " وهي مكية في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس. ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة وغيره. وهي سبع آيات. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: أرأيت الذي يكذب بالدين (1) فذلك الذي يدع اليتيم (2) ولا يحض على طعام المسكين (3) فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يرآءون (6) ويمنعون الماعون (7) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين) أي بالجزاء والحساب في الآخرة، وقد تقدم في " الفاتحة ". و " أرأيت " بإثبات الهمزة الثانية، إذ لا يقال (1) في أرأيت: ريت، ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا، ذكره الزجاج. وفي الكلام حذف، والمعنى: أرأيت الذي يكذب بالدين: أمصيب هو أم مخطئ. واختلف فيمن نزل هذا فيه، فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقاله الكلبي ومقاتل. وروى الضحاك عنه قال: نزلت في رجل من المنافقين. وقال السدي: نزلت في الوليد ابن المغيرة. وقيل في أبي جهل. الضحاك: في عمرو بن عائذ. قال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا، فطلب منه يتيم شيئا، فقرعه بعصاه، فأنزل الله هذه السورة. و " يدع " أي يدفع، كما قال: " يدعون إلى نار جهنم دعا " (2) [ الطور: 13 ] وقد (1) راجع ج 1 ص 143 (2) آية 13 سورة الطور. راجع ج 17 ص 64 (*)
[ 211 ]
تقدم. وقال الضحاك عن ابن عباس: " فذلك الذي يدع اليتيم " أي يدفعه عن حقه. قتادة: يقهره ويظلمه. والمعنى متقارب. وقد تقدم في سورة " النساء " (1) أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ من ضم يتيما من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة ]. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع (2). الثانية - قوله تعالى: (ولا يحض على طعام المسكين) أي لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء. وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة: " ولا يحض على طعام المسكين " (3) [ الحاقة: 34 ] وقد تقدم. وليس الذم عاما حتى يتناول من تركه عجزا، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لانفسهم، ويقولون: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " (4) [ يس: 47 ]، فنزلت هذه الآية فيهم، وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا. الثالثة - قوله تعالى: (فويل للمصلين) أي عذاب لهم. وقد تقدم في غير موضع. (5). (الذين هم عن صلاتهم ساهون)، فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا، وإن تركها لم يخش عليها عقابا. وعنه أيضا: الذين يؤخرونها عن أوقاتها. وكذا روى المغيرة عن إبراهيم، قال: ساهون بإضاعة الوقت. وعن أبي العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها. قلت: ويدل على هذا قوله تعالى: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة " [ مريم: 59 ] حسب ما تقدم بيانه في سورة " مريم " (6) عليها السلام. وروى عن إبراهيم أيضا: أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا. وقال قطرب: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله. وفي قراءة عبد الله " الذين هم عن صلاتهم لاهون ". وقال سعد بن أبي وقاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم [ في قوله ]: (1) راجع ج 5 ص 46 (2) راجع ج 2 ص 14 طبعة ثانية. (3) آية 34 راجع ج 18 ص 272 (4) آية 47 سورة يس. (5) راجع ج 2 ص 7 طبعة ثانية. (6) راجع ج 11 ص 121 (*)
[ 212 ]
" فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون " - قال -: [ الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، تهاونا بها ]. وعن ابن عباس أيضا: هم المنافقون يتركون الصلاة سرا، يصلونها علانية " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " (1) [ النساء: 142 ]... الآية. ويدل على أنها في المنافقين قوله: " الذين هم يراءون "، وقاله ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس: ولو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين. وقال عطاء: الحمد لله الذي قال " عن صلاتهم " ولم يقل في صلاتهم. قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قوله: " عن صلاتهم "، وبين قولك: في صلاتهم ؟ قلت: معنى " عن " أنهم ساهون عنها سهو ترك لها، وقلة التفات إليها، وذلك فعل المنافقين، أو الفسقة الشطار (2) من المسلمين. ومعنى " في " أن السهو يعتريهم فيها، بوسوسة شيطان، أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلا عن غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. قال ابن العربي: لان السلامة من السهو محال، وقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته والصحابة: وكل من لا يسهو في صلاته، فذلك رجل لا يتدبرها، ولا يعقل قراءتها، وإنما همه في أعدادها، وهذا رجل يأكل القشور، ويرمي اللب. وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم منها، اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى. الرابعة - قوله تعالى: (الذين هم يراءون) أي يرى الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية، كالفاسق، يرى أنه يصلي عبادة وهو يصلي ليقال: إنه يصلي. وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس. وأولها تحسين السمت (3)، وهو من أجزاء النبوة، ويريد بذلك الجاه والثناء. وثانيها: الرياء بالثياب القصار والخشنة، ليأخذ بذلك هيئة (1) آية 142 سورة النساء. (2) في نسخة من الاصل: (الشياطين). والشطار: جمع شاطر، وهو الذي ترك موافقة أهله وأعياهم لؤما وخبثا. (3) في اللسان: السمت: حسن القصد والمذهب في الدين والدنيا. (*)
[ 213 ]
الزهد في الدنيا. وثالثها: الرياء بالقول، بإظهار التسخط على أهل الدنيا، وإظهار الوعظ والتأسف على ما يفوت من الخير والطاعة. ورابعها: الرياء بإظهار الصلاة والصدقة، أو بتحسين الصلاة لاجل رؤية الناس، وذلك يطول، وهذا دليله، قاله ابن العربي. قلت: قد تقدم في سورة " النساء وهود وآخر الكهف " (1) القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه كفاية. والحمد لله. الخامسة - ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الاعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه السلام: [ ولا غمة (2) في فرائض الله ] لانها أعلام الاسلام، وشعائر الدين، ولان تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالاظهار، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفي، لانه لا يلام تركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا. وإنما الرياء أن يقصد بالاظهار أن تراه الاعين، فتثنى عليه بالصلاح. وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. وإنما قال هذا لانه توسم فيه الرياء والسمعة. وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " (3) عند قوله تعالى: " إن تبدو الصدقات " [ البقرة: 271 ]، وفي غير موضع. والحمد لله على ذلك. السادسة - قوله تعالى: (ويمنعون الماعون) فيه اثنا عشر قولا: الاول - أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها. وقد روى أبو بكر (4) بن عبد العزيز عن مالك قال: بلغني أن قوله الله تعالى: " فويل للمصلين. الذين هم على صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون " قال: إن المنافق إذا صلى صلى رياء، وإن فاتته لم يندم عليها، " ويمنعون الماعون " الزكاة التي فرض الله عليهم. قال زيد بن أسلم: لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا. القول الثاني - أن " الماعون " المال، بلسان (1) راجع ج 5 ص 181 وج 9 ص 13 وج 11 ص 70. (2) أي لا تستر ولا تخفى فرائضه، وإنما تظهر وتعلن ويجهر بها. (3) راجع ج 3 ص 332 (4) في بعض نسخ الاصل: (أبو عمر) وفي بعضها: (أبو عبد). وفي ابن العربي: (أبو بكر بن عبد العزيز). (*)
[ 214 ]
قريش، قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب. وقول ثالث - أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك، قاله ابن مسعود، وروي عن ابن عباس أيضا. قال الاعشى: بأجود منه بماعونه * إذا ما سماؤهم لم تغم الرابع - ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه منفعة، حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة، وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير، وأنشدوا بيت الاعشى. قالوا: والماعون في الاسلام: الطاعة والزكاة، وأنشدوا قول الراعي: أخليفة الرحمن إنا معشر * حنفاء نسجد بكرة وأصيلا عرب نرى لله من أموالنا * حق الزكاة منزلا تنزيلا قوم على الاسلام لما يمنعوا * ما عونهم ويضيعوا التهليلا (1) يعني الزكاة. الخامس - أنه العارية، روى عن ابن عباس أيضا. السادس - أنه المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم، قاله محمد بن كعب والكلبي. السابع - أنه الماء والكلا. الثامن - الماء وحده. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون: الماء، وأنشدني فيه: * يمج صبيره الماعون صبا * الصبير: السحاب. التاسع - أنه منع الحق، قاله عبد الله بن عمر. العاشر - أنه المستغل من منافع الاموال، مأخوذ من المعن وهو القليل، حكاه الطبري ابن عباس (2). قال قطرب: أصل الماعون من القلة. والمعن: الشئ القليل، تقول العرب: ماله سعنة (3) ولا معنة، أي شئ قليل. فسمى الله تعالى الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف ماعونا، لانه قليل من كثير. ومن الناس من قال: الماعون: أصله معونة، والالف عوض من الهاء، حكاه الجوهري. ابن العربي: الماعون: مفعول (4) من أعان يعين، والعون: هو الامداد (1) في اللسان: قوم على التنزيل لما يمنعوا * ما عونهم ويبدلوا التنزيلا (2) كذا في بعض نسخ الاصل. وفي بعضها الآخر: (حكاه الطبري وابن عيسى). (3) هذا مثل يضرب لمن لا مال له. والسعن: الكثير. (4) هذا القول يأباه القياس اللغوي. (*)
[ 215 ]
بالقوة والآلات والاسباب الميسرة للامر. الحادي عشر - أنه الطاعة والانقياد. حكى الاخفش عن أعرابي فصيح: لو قد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون أي تنقاد لك وتطيعك. قال الراجز: متى تصادفهن (1) في البرين * يخضعن أو يعطين بالماعون (2) وقيل: هو ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار، لان عائشة رضوان الله عليها قالت: قلت يا رسول الله، ما الشئ الذي لا يحل منعه ؟ قال: [ الماء والنار والملح ] قلت: يا رسول الله هذا الماء، فما بال النار والملح ؟ فقال: [ يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء، فكأنما أعتق ستين نسمة. ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد، فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ]. ذكره الثعلبي في تفسيره، وخرجه ابن ماجه في سننه. وفي إسناده لين، وهو القول الثاني عشر. الماوردي: ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله. والله أعلم. وقيل لعكرمة مولى ابن عباس: من منع شيئا من المتاع كان له الويل ؟ فقال: لا، ولكن من جمع ثلاثهن فله الويل، يعني: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالماعون. قلت: كونها في المنافقين أشبه، وبهم أخلق، لانهم جمعوا الاوصاف الثلاثة: ترك الصلاة، والرياء، والبخل بالمال، قال الله تعالى: " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " (3) [ النساء: 142 ]، وقال: " ولا ينفقون إلا وهم كارهون " (4) [ التوبة: 54 ]. وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق، وإن وجد بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ، وذلك في منع الماعون إذا تعين، كالصلاة إذا تركها. والله أعلم. إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. والله أعلم. (1) في تفسير الثعلبي: * متى تجاهدهن * وهي الاوجه. (2) البرين (بضم الباء وكسرها): جمع برة وهي هنا الحلقة في أنف البعير. وهي أيضا: كل حلقة من سوار وقرط وخلخال. (3) آية 142 سورة النساء. (4) آية 54 سورة التوبة. (*)
[ 216 ]
تفسير سورة " الكوثر " وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل. ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة. وهي ثلاث آيات. قوله تعالى: إنا أعطيناك الكوثر (1) فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: " إنا أعطيناك الكوثر " قراءة العامة. " إنا أعطيناك " بالعين. وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف: " أنطيناك " بالنون، وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لغة في العطاء، أنطيته: أعطيته. و " الكوثر ": فوعل من الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر. والعرب تسمى كل شئ كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا. قال سفيان: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر: بم آب أبنك ؟ قالت بكوثر، أي بمال كثير. والكوثر من الرجال: السيد الكثير الخير. قال الكميت: وأنت كثير يا بن مروان طيب * وكان أبوك ابن العقائل كوثرا والكوثر: العدد الكثير من الاصحاب والاشياع. والكوثر من الغبار: الكثير. وقد تكوثر [ إذا كثر ]، قال الشاعر: * وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا (1) * الثانية - واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا: الاول: أنه نهر في الجنة، رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا (1) هذا عجز بيت لحسان بن نشبة. وصدره كما في اللسان: * أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم * (*)
[ 217 ]
وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وروى الترمذي أيضا عن أبن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكوثر: نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج). هذا حديث حسن صحيح. الثاني - أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف، قاله عطاء. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: بينما نحن (1) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءه، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال: نزلت على آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم: " إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وأنحر. إن شانئك هو الابتر " - ثم قال - أتدرون ما الكوثر ؟. قلنا الله ورسوله أعلم. قال: " فإنه نهر وعدنيه ربي عزوجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة أنيته عدد النجوم، فيختلج (3) العبد منهم فأقول إنه من أمتي، فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك ". والاخبار في حوضه في الموقف كثيرة، ذكرناها في كتاب " التذكرة ". وأن على أركانه الاربعة خلفاء الاربعة، رضوان الله عليهم. وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر، وذكرنا هناك من يطرد عنه. فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك. ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك. ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير. الثالث: أن الكوثر النبوة والكتاب، قاله عكرمة. الرابع: القرآن، قاله الحسن. الخامس: الاسلام، حكاه المغيرة. السادس - تيسير (3) القرآن وتخفيف الشرائع، قاله الحسين بن الفضل. السابع - هو كثرة الاصحاب والامة والاشياع، قاله أبو بكر بن عياش ويمان ابن رئاب. الثامن - أنه الايثار، قاله ابن كيسان. التاسع - أنه رفعة الذكر. حكاه الماوردي. العاشر: أنه نور في قلبك دلك علي، وقطعك عما سواي. وعنه: هو الشفاعة، وهو الحادي عشر. وقيل: معجزات الرب هدي بها أهل الاجابة لدعوتك، حكاه (1) في صحيح مسلم طبع الآستانة وبولاق: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى...) الحديث. (2) أي ينتزع ويقتطع. (3) في بعض نسخ الاصل: (تسهيل). (*)
[ 218 ]
الثعلبي، وهو الثاني عشر. الثالث عشر: قال هلال بن يساف: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: الفقه في الدين. وقيل: الصلوات الخمس، وهما الرابع عشر والخامس عشر. وقال ابن إسحاق: هو العظيم من الامر، وذكر بيت لبيد: وصاحب ملحوب فجعنا بفقده * وعند الرداع بيت آخر كوثر أي عظيم (1). قلت: أصح هذه الاقوال الاول والثاني، لانه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر. وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض، لقد تركت عجائز خلفي، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حوضه يقول الشاعر: يا صاحب الحوض من يدانيكا * وأنت حقا حبيب باريكا وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. قوله تعالى: فصل لربك وانحر (2) فيه خمس مسائل: الاولى: قوله تعالى: " فصل " أي أقم الصلاة المفروضة عليك، كذا رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال قتادة وعطاء وعكرمة: " فصل لربك " صلاة العيد ويوم النحر. " وانحر " نسكك. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحر ثم يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر. وقال سعيد بن جبير أيضا: صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع (2)، وانحر البدن بمنى، وقال سعيد بن جبير أيضا: نزلت في الحديبية حين حصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، فأمره الله تعالى أن يصلي وينحر البدن وينصرف، ففعل ذلك. قال أبن العربي: أما من (1) ملحوب: ماء لبني أسد بن خزيمة. وصاحبه: عوف بن الاحوص. والرداع (بالكسر): اسم ماء أيضا. والكوثر أيضا: السيد الكثير الخير. (2) جمع: المزدلفة. (*)
[ 219 ]
قال: إن المراد بقوله تعالى: " فصل ": الصلوات الخمس، فإنها ركن العبادات، وقاعدة الاسلام، وأعظم دعائم الدين. وأما من قال: إبها صلاة الصبح بالمزدلفة، فلانها مقرونة بالنحر، وهو في ذلك اليوم، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها، فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر ". قلت: وأما من قال إنها صلاه العيد، فذلك بغير مكة، إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع، فيما حكاه ابن عمر. قال ابن العربي: " فأما مالك فقال: ما سمعت فيه شيئا، والذي يقع في نفسي أن المراد بذلك صلاة يوم النحر، والنحر بعدها ". وقال علي رضي الله عنه ومحمد ابن كعب: المعنى ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة. وروي عن ابن عباس أيضا. وروي عن علي أيضا: أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وكذا قال جعفر بن علي: " فصل لربك وانحر " قال: يرفع يديه أول ما يكبر للاحرام إلى النحر. وعن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت " فصل لربك وانحر " قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: [ ما هذه النحيرة التي أمرني الله بها ] ؟ قال: [ ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة، أن ترفع يديك إذا كبرت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع، وإن لكل شئ زينة، وإن زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيره ]. وعن أبي صالح عن ابن عباس قال: استقبل القبلة بنحرك، وقاله الفراء والكلبي وأبو الاحوص. ومنه قول الشاعر: أبا حكم ما أنت عم مجالد * وسيد أهل الابطح المتناحر (1) أي المتقابل. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: منازلنا (2) تتناحر، أي نتقابل، نحر هذا بنحر هذا، أي قبالته. وقال ابن الاعرابي: هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب، من قولهم: منازلهم تتناحر، أي تتقابل. وروي عن عطاء قال: أمره أن يستوي بين السجدتين (1) في اللسان: نحر: (هل) في موضع (ما). (2) الذي في كتاب الفراء: (منازلنا تتناحر: نحر هذا... أي قبالته). وفيه تحريف. والذي في اللسان: وقال الفراء: (سمعت بعض العرب يقول: منازلهم تتناحر: هذا بنحر هذا، أي قبالته). (*)
[ 220 ]
جالسا حتى يبدو نحره. وقال سليمان التيمي: يعنى وارفع يدك بالدعاء إلى نحرك. وقيل: " فصل " معناه: واعبد. وقال محمد بن كعب القرظي: " إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وأنحر " يقول: إن ناسا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، وقد أعطيناك الكوثر، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله. قال ابن العربي: والذي عندي أنه أراد: أعبد ربك، وانحر له، فلا يكن عملك إلا لمن خصك بالكوثر، وبالحري (1) أن يكون جميع العمل يوازي هذه الخصوصية من الكوثر، وهو الخير الكثير، الذي أعطاكه الله، أو النهر الذي طينه مسك، وعدد آنيته نجوم السماء، أما أن يوازي هذا صلاة يوم النحر، وذبح كبش أو بقرة أو بدنة، فذلك يبعد في التقدير والتدبير، وموازنة الثواب للعبادة ". والله أعلم. الثانية - قد مضى القول في سورة " الصافات " (2) في الاضحية وفضلها، ووقت ذبحها، فلا معنى لاعادة ذلك. وذكرنا أيضا في سورة " الحج " (3) جملة من أحكامها. قال ابن العربي: ومن عجيب الامر: أن الشافعي قال: إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه: " فصل لربك وأنحر "، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (في البخاري وغيره، عن البراء بن عازب، قال): (أول ما نبدأ به في يومنا هذا: نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب نسكنا، ومن ذبح قبل، فإنما هو لحم قدمه لاهله، ليس من النسك في شئ). وأصحابه ينكرونه، وحبذا الموافقة). الثالثة - وأما ما روي عن علي عليه السلام " فصل لربك وانحر " قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة (خرجه الدارقطني)، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال: الاول: لا توضع فريضة ولا نافلة، لان ذلك من باب الاعتماد. ولا يجوز في الفرض، ولا يستحب في النفل. الثاني - لا يفعلها في الفريضة، ويفعلها في النافلة استعانة، لانه موضع ترخص. الثالث - يفعلها في الفريضة والنافلة. وهو الصحيح، لانه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على اليسرى من حديث وائل (1) في (اللسان: حرى): والحري: الخليق: كقولك: بالحري إن يكون ذلك. وإنه لحرى بكذا، وحر: وحرى. (2) راجع ج 15 ص 107 وما بعدها. (3) راجع ج 12 ص 42 وما بعدها. (*)
[ 221 ]
ابن حجر وغيره. قال ابن المنذر: وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكي ذلك عن الشافعي. واستحب ذلك أصحاب الرأي. ورأت جماعة إرسال اليد. وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر (1) والحسن البصري وإبراهيم النخعي. قلت: وهو مروي أيضا عن مالك. قال ابن عبد البر: إرسال اليدين، ووضع اليمنى على الشمال، كل ذلك من سنة الصلاة. الرابعة - واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد، فروى عن علي بن أبي طالب: أنه وضعهما على صدره. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السرة. وقال: لا بأس إن كانت تحت السرة. وقالت طائفة: توضع تحت السرة. وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز. وبه قال سفيان الثوري وإسحاق. الخامسة: وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والسجود، فاختلف في ذلك، فروى الدارقطني من حديث حميد عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد. لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبد الوهاب الثقفي. والصواب: من فعل أنس. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه، حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول سمع الله لمن حمده. ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود. قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول. وبه أقوال، لانه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك. هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي. (1) في بعض الاصول: (ابن الزبير). (*)
[ 222 ]
قلت: وهو المشهور من مذهب مالك، لحديث ابن مسعود، (خرجه الدارقطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل)، قال: حدثنا محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الاولى في أفتتاح الصلاة. قال إسحاق: به نأخذ في الصلاة كلها. قال الدارقطني: تفرد به محمد بن جابر (وكان ضعيفا) عن حماد عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبد الله، من فعله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب. وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين أفتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شئ من ذلك حتى فرغ من الصلاة. قال الدارقطني: [ وإنما ] (1) لقن يزيد في آخر عمره: " ثم لم يعد "، فتلقنه وكان قد أختلط. وفي (مختصر ما ليس في المختصر) عن مالك: لا يرفع اليدين في شئ من الصلاة. قال ابن القاسم: ولم أر مالكا يرفع يديه عند الاحرام، قال: وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الاحرام. قوله تعالى: إن شانئك هو الابتر (3) أي مبغضك، وهو العاص بن وائل. وكانت العرب تسمى من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون وبقي البنات: أبتر. فيقال: إن العاص وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفا ؟ فقال: مع ذلك الابتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من خديجة، فأنزل الله جل شأنه: " إن شانئك هو الابتر "، أي المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة. وذكر عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا: بتر فلان. فلما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه، فقال: بتر محمد، فأنزل الله جل ثناؤه: (1) الزيادة من الدارقطني. (*)
[ 223 ]
" إن شانئك هو الابتر " يعني بذلك أبا جهل. وقال شمر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط. وقيل: إن قريشا كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده: قد بتر فلان. فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبنه القاسم: بمكة، وإبراهيم بالمدينة، قالوا: بتر محمد، فليس له من يقوم بأمره من بعده، فنزلت هذه الآية، قاله السدي وأبن زيد. وقيل: إنه جواب لقريش حين قالوا لكعب بن الاشرف لما قدم مكة: نحن أصحاب السقاية والسدانة والحجابة واللواء، وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الصنيبر (1) الابيتر من قومه ؟ قال كعب: بل أنتم خير، فنزلت في كعب: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت (2) والطاغوت " [ النساء: 51 ] الآية. ونزلت في قريش: " إن شانئك هو الابتر "، قاله ابن عباس أيضا وعكرمة. وقيل: إن الله عزوجل لما أوحى إلى رسوله، ودعا قريشا إلى الايمان، قالوا: انبتر منا محمد، أي خالفنا وأنقطع عنا. فأخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم هم المبتورون، قاله أيضا عكرمة وشهر بن حوشب. قال أهل اللغة: الابتر من الرجال: الذي لا ولد له، ومن الدواب الذي لا ذنب له. وكل أمر انقطع من الخير أثره، فهو أبتر. والبتر: القطع. بترت الشئ بترا: قطعته قبل الاتمام. والانبتار: الانقطاع. والباتر: السيف القاطع. والابتر: المقطوع الذنب. تقول منه: بتر [ بالكسر ] يبتر بترا. وفي الحديث [ ما هذه البتيراء ]. وخطب زياد خطبته البتراء، لانه لم يجمد الله فيها، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم. ابن السكيت: الابتران: العير والعبد، قال سميا أبترين لقلة خيرهما. وقد أبتره الله: أي صيره أبتر. ويقال: رجل أباتر (بضم الهمزة): الذي يقطع رحمه. قال الشاعر: لئيم نزت في أنفه خنزوانة * على قطع ذي القربى أحذ أباتر والبترية: فرقة من الزيدية، نسبوا إلى المغيرة بن سعد، ولقبه الابتر. وأما الصنبور فلفظ مشترك. قيل: هو النخلة تبقى منفردة، ويدق أسفلها ويتقشر، يقال: صنبر أسفل النخلة. (1) في نسخة الصنبور. وسيأتي للمصنف بيان معناه. (2) آية 51 سورة النساء. (*)
[ 224 ]
وقيل: هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ. وقيل: هو مثعب (1) الحوض خاصة، حكاه أبو عبيد. وأنشد: * ما بين صنبور إلى الازاء (2) * والصنبور: قصبة تكون في الاداوة (3) من حديد أو رصاص يشرب منها. حكى جميعه الجوهري رحمه الله. والله سبحانه وتعالى أعلم. سورة " الكافرون " وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة. ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك. وهي ست آيات. وفي الترمذي من حديث أنس: أنها تعدل ثلث القرآن. وفي كتاب (الرد لابي بكر الانباري): أخبرنا عبد الله بن ناجية قال: حدثنا يوسف قال حدثنا القعنبي وأبو نعيم عن موسى ابن وردان عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ " قل يأيها الكافرون " تعدل ربع القرآن ]. ورواه موقوفا عن أنس. وخرج الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الفجر في سفر، فقرأ " قل يأيها الكافرون ". و " قل هو الله أحد "، ثم قال: [ قرأت بكم ثلث القرآن وربعه ]. وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا ] ؟ قلت: نعم. قال: (فاقرأ هذه السور الخمس من أول " قل يا أيها الكافرون " [ الكافرون: 1 ] إلى - قل أعوذ برب الناس " [ الناس: 1 ] وأفتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم). قال: فوالله لقد كنت غير كثير المال، إذا سافرت أكون أبدهم (4) هيئة، وأقلهم زادا، فمذ قرأتهن صرت من أحسنهم هيئة، وأكثرهم زادا، حتى أرجع من سفري ذلك. (1) مثعب الحوض: مسيله. (2) الازاء: مصب الماء في الحوض. (3) الاداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء. (4) بذ الهيئة: رثها. (*)
[ 225 ]
وقال فروة بن نوفل الاشجعي: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني قال: (أقرأ عند منامك " قل يأيها الكافرون " فإنها براءة من الشرك). خرجه أبو بكر الانباري وغيره. وقال ابن عباس: ليس في القرآن أشد غيظا لابليس منها، لانها توحيد وبراءة من الشرك. وقال الاصمعي: كان يقال ل‍ " - قل يأيها الكافرون "، و " قل هو الله أحد " المقشقشتان، أي أنهما تبرئان من النفاق. وقال أبو عبيدة: كما يقشقش الهناء (1) الجرب فيبرئه. وقال ابن السكيت: يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف، وللجرب في الابل إذا قفل (2): قد توسف جلده، وتقشر جلده، وتقشقش جلده. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قل يأيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم عابدون ما أعبد (3) ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عابدون ما أعبد (5) ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص ابن وائل، والاسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله عزوجل " قل يا أيها الكافرون ". وقال أبو صالح عن ابن عباس: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو استلمت (3) بعض هذه الآلهة لصدقناك، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه، وآذوه، وآذوا أصحابه. والالف واللام ترجع إلى معنى المعهود (1) الهناء (بالكسر): القطران. () قفل الجلد: يبس. (3) استلم الحجر: لمسه بالقبلة أو باليد. (*)
[ 226 ]
وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة لاي، لانها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم. ونحوه عن الماوردي: نزلت جوابا، وعنى بالكافرين قوما معينين. لا جميع الكافرين، لان منهم من آمن، فعبد الله، ومنهم من مات أو قتل على كفره، وهم المخاطبون بهذا القول، وهم المذكورون. قال أبو بكر بن الانباري: وقرأ من طعن في القرآن: قل للذين كفروا " لا أعبد ما تعبدون " وزعم أن ذلك هو الصواب، وذلك افتراء على رب العالمين، وتضعيف لمعنى هذه السورة، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزري، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا. وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى، وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم. فمعنى قراءتنا: قل للذين كفروا: يأيها الكافرون، دليل صحة هذا: أن العربي إذا قال لمخاطبة قل لزيد أقبل إلينا، فمعناه قل لزيد يا زيد أقبل إلينا. فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم، وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى، إذ كان الرسول عليه السلام يعتمدهم في ناديهم، فيقول لهم: " يأيها الكافرون ". وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر، ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد، أو تقع به من جهتهم أذية. فمن لم يقرأ " قل يأيها الكافرون " كما أنزلها الله، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبيل أهل الاسلام ألا يسارعوا إلى مثلها، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه، التي منحه الله إياها، وشرفه بها. وأما وجه التكرار فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم، كما تقول: والله لا أفعل كذا، ثم والله لا أفعله. قال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والافهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والايجاز، لان خروج الخطيب والمتكلم من شئ إلى شئ أولى من اقتصاره في المقام على شئ واحد، قال الله تعالى: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " [ الرحمن: 13 ]. " ويل يومئذ للمكذبين " [ المطففين: 10 ]. " كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون " [ النبأ: 4 - 5 ]. و " فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا " [ الشرح: 5 - 6 ]. كل هذا على التأكيد.
[ 227 ]
وقد يقول القائل: إرم إرم، اعجل اعجل، ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح: (فلا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني). خرجه مسلم (1). وقال الشاعر: هلا سألت جموع كندة * يوم ولوا أين أينا وقال آخر: يالبكر انشروا لي كليبا * يالبكر أين أين الفرار (2) وقال آخر: يا علقمه يا علقمه يا علقمه * خير تميم كلها وأكرمه وقال آخر: يا أقرع بن حابس يا أقرع * إنك إن يصرع أخوك تصرع (3) وقال آخر: ألا يا اسلمي ثم يا أسلمي ثمت اسلمي * وثلاث تحيات وإن لم تكلم ومثله كثير. وقيل: هذا على مطابقة قولهم: تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة. فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده، أي إن هذا لا يكون أبدا. قال ابن عباس: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة، ونزوجك من شئت، ونطأ عقبك، أي نمشي خلفك، وتكف عن شتم آلهتنا، فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح، تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة، (1) لفظ الحديث كما في صحيح مسلم (باب الفضائل): (... أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: إن بنى هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم إلا أن يجب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) والبضعة (بالفتح وقد تكسر): القطعة من اللحم. (2) البيت من أبيات المهلهل بن ربيعة قالها بعد أن أخذ بثأر أخيه كليب (راجع الشاهد العاشر بعد المائة في خزانة الادب). (3) البيت لجرير بن عبد الله البجلي. وقيل لعمرو بن خثارم البجلي. (راجع خزانة الادب في الشاهد الحادي والثمانين بعد الخمسمائة). (*)
[ 228 ]
ونحن نعبد إلهك سنة (1)، فنزلت السورة. فكان التكرار في " لا أعبد ما تعبدون "، لان القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة. والله أعلم. وقيل: إنما كرر بمعنى التغليظ. وقيل: أي " لا أعبد " الساعة " ما تعبدون. ولا أنتم عابدون " الساعة " ما أعبد ". ثم قال: " ولا أنا عابد " في المستقبل " ما عبدتم. ولا أنتم " في المستقبل " عابدون ما أعبد ". قاله الاخفش والمبرد. وقيل: إنهم كانوا يعبدون الاوثان، فإذا ملوا وثنا، وسئموا العبادة له، رفضوه، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك، فعظموها ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر عليه السلام أن يقول لهم: " لا أعبد ما تعبدون " اليوم من هذه الآلهة التي بين أيدكم. ثم قال: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وإنما تعبدون الوثن الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن. " ولا أنا عابد ما عبدتم " أي بالامس من الآلهة التي رفضتموها، وأقبلتم على هذه. " ولا أنتم عابدون ما أعبد " فإني أعبد إلهي. وقيل: إن قوله تعالى: " لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد " في الاستقبال. وقوله: (ولا أنا عابد ما عبدتم) على نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي. ثم قال: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) على التكرير في اللفظ دون المعنى، من قبل أن التقابل يوجب أن يكون: ولا أنتم عابدون ما عبدت، فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد، إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل، مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر. وأكثر ما يأتي ذلك في أخبار الله عزوجل. وقال: " ما أعبد "، ولم يقل: من أعبد، ليقابل به " ولا أنا عابد ما عبدتم " وهي أصنام وأوثان، ولا يصلح فيها إلا " ما " دون " من " فحمل الاول على الثاني، ليتقابل الكلام ولا يتنافى. وقد جاءت " ما " لمن يعقل. ومنه قولهم: سبحان ما سخركن لنا. وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يأيها الكافرون لا أعبد الاصنام التي تعبدونها، ولا أنتم عابدون الله عزوجل الذي أعبده، لاشراككم به، واتخاذكم الاصنام، فإن زعمتم أنكم تعبدونه، فأنتم كاذبون، لانكم تعبدونه مشركين. فأنا لا أعبد ما عبدتم، أي مثل عبادتكم، ف‍ " - ما " مصدرية. وكذلك (1) في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي: ثم تعبد آلهتنا، ونعبد إلهك، فنجرى على هذا أبدا: سنة وسنة، فنزلت... الخ. (*)
[ 229 ]
" ولا أنتم عابدون ما أعبد " مصدرية أيضا، معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي، التي هي توحيد. قوله تعالى: لكم دينكم ولي دين (6) فيه معنى التهديد، وهو كقوله تعالى: " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " (1) [ القصص: 55 ] أي إن رضيتم بدينكم، فقد رضينا بديننا. وكان هذا قبل الامر بالقتال، فنسخ بآية السيف. وقيل: السورة كلها منسوخة. وقيل: ما نسخ منها شئ لانها خبر. ومعنى " لكم دينكم " أي جزاء دينكم، ولي جزاء ديني. وسمى دينهم دينا، لانهم اعتقدوه وتولوه. وقيل: المعنى لكم جزاؤكم ولي جزائي، لان الدين الجزاء. وفتح الياء من " ولي دين " نافع، والبزي عن ابن كثير باختلاف عنه، وهشام عن ابن عامر، وحفص عن عاصم. وأثبت الياء في " ديني " في الحالين نصر ابن عاصم وسلام ويعقوب، قالوا: لانها اسم مثل الكاف في دينكم، والتاء في قمت. الباقون بغير ياء، مثل قوله تعالى: " فهو يهدين " (2) [ الشعراء: 78 ] " فاتقوا الله وأطيعون " (3) [ آل عمران: 50 ] ونحوه، اكتفاء بالكسرة، واتباعا لخط المصحف، فإنه وقع فيه بغير ياء. تفسير سورة " النصر " وهي مدنية بإجماع. وتسمى سورة (التوديع). وهي ثلاث آيات. وهي آخر سورة نزلت جميعا قاله ابن عباس في صحيح مسلم. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح (1) النصر: العون مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الارض: إذا أعان على نباتها، من قحطها. قال الشاعر: (4) (1) آية 55 سورة القصص. (2) آية 78 سورة الشعراء. (3) آية 50 سورة آل عمران. (4) هو الراعي يخاطب خيلا. (عن اللسان مادة نصر.) (*)
[ 230 ]
إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي * بلاد تميم وأنصري أرض عامر ويروى: إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي * بلاد تميم وأنصري أرض عامر يقال: نصره على عدوه ينصره نصرا، أي أعانه. والاسم النصرة، واستنصره على عدوه: أي سأله أن ينصره عليه. وتناصروا: نصر بعضهم بعضا. ثم قيل: المراد بهذا النصر نصر الرسول على قريش، الطبري. وقيل: نصره على من قاتله من الكفار، فإن عاقبة النصر كانت له. وأما الفتح فهو فتح مكة، عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن والقصور. وقيل: فتح سائر البلاد. وقيل: ما فتحه عليه من العلوم. و " إذا " بمعنى قد، أي قد جاء نصر الله، لان نزولها بعد الفتح. ويمكن أن يكون معناه: إذا يجيئك. قوله تعالى: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا (2) قوله تعالى: " ورأيت الناس " أي العرب وغيرهم. " يدخلون في دين الله أفواجا " أي جماعات: فوجا بعد فوج. وذلك لما فتحت مكة قالت العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان (1). فكانوا يسلمون أفواجا: أمة أمة. قال الضحاك: والامة: أربعون رجلا. وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن. وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرءون القرآن، وبعضهم يهللون، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لك، وبكى عمر وابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: " إذا جاء نصر الله والفتح " وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، فدخلوا في دين الله أفواجا ". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الفقه يمان، والحكمة يمانية ]. وروى أنه (1) أي طاقة. (*)
[ 231 ]
صلى الله عليه وسلم قال: [ إني لاجد نفس (1) ربكم من قبل اليمن ] وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الفرج، لتتابع إسلامهم أفواجا. والثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن، وهم الانصار. وروى جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا ] ذكره الماوردي، ولفظ الثعلبي: وقال أبو عمار حدثني جابر لجابر، قال: سألني جابر عن حال الناس، فأخبرته عن حال اختلافهم وفرقتهم، فجعل يبكي ويقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون من دين الله أفواجا ]. قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3) قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره) أي إذا صليت فأكثر من ذلك. وقيل: معنى سبح: صل، عن ابن عباس: " بحمد ربك " أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح. " وأستغفره " أي سل الله الغفران. وقيل: " فسبح " المراد به: التنزيه، أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له. " واستغفره " أي سل الله الغفران مع مداومة الذكر. والاول أظهر. روى الائمة (واللفظ للبخاري) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة " إذا جاء نصر الله والفتح " إلا يقول: [ سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ] وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: [ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي ]. يتأول القرآن. وفي غير الصحيح: وقالت أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجئ ولا يذهب إلا قال: [ سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب (1) قال ابن الاثير: (هو مستعار من نفس الهواء الذي يرده التنفس إلى الجوف فيبرد من حرارته ويعدلها. أو من نفس الريح الذي يتنسمه فيستروح إليه. أو من نفس الروضة وهو طيب روائحها فيتفرج به عنه يقال: أنت في نفس من أمرك واعمل وأنت في نفس من عمرك أي في سعة وفسحة قبل المرض والهرم ونحوهما. (*)
[ 232 ]
إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - " إذا جاء نصر الله والفتح " إلى آخرها ]. وقال أبو هريرة: اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها، حتى تورمت قدماه. ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما يبكيك يا عم ؟ ] قال: نعيت إليك نفسك. قال: [ إنه لكما تقول ]، فعاش بعدها ستين (1) يوما، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا. وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق، حجة الوداع، فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: إن هذا يوم فرح، فقالا: بل فيه نعي النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ صدقتما، نعيت إلي نفسي ]. وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب يأذن لاهل بدر، ويأذن لي معهم. قال: فوجد (2) بعضهم من ذلك، فقالوا: يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله ! فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم (3). قال: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة " إذا جاء نصر الله والفتح " فقالوا: أمر الله عزوجل نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره، وأن يتوب إليه. فقال: ما تقول يابن عباس ؟ قلت: ليس كذلك، ولكن أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم حضور أجله، فقال: " إذا جاء نصر الله والفتح "، فذلك علامة موتك. " فسبح بحمد ربك وأستغفره إنه كان توابا ". فقال عمر رضي الله عنه: تلومونني عليه ؟ وفي البخاري فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. ورواه الترمذي، قال: كان عمر يسألني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عبد الرحمن ابن عوف: أتسأله ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر: إنه من حيث نعلم. فسأله عن هذه الآية: " إذا جاء نصر الله والفتح ". فقلت: إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه إياه، وقرأ السورة إلى آخرها. فقال له عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم. قال: هذا (1) الذي في الطبري والكشاف: (سنتين). (2) أي غضب. (3) أي من جهة ذكائه وزيادة معرفته. أو من جهة قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (*)
[ 233 ]
حديث حسن صحيح. فإن قيل: فماذا يغفر للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمر بالاستغفار ؟ قيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: [ رب اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، أنت المقدم وأنت المؤخر، إنك على شئ قدير ]. فكان صلى الله عليه وسلم يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا. ويحتمل أن يكون بمعنى: كن متعلقا به، سائلا راغبا، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق، لئلا ينقطع إلى رؤية الاعمال. وقيل: الاستغفار تعبد يجب إتيناه، لا للمغفرة، بل تعبدا. وقيل: ذلك تنبيه لامته، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار. وقيل: " وأستغفره " أي استغفر لامتك. (إنه كان توابا): أي على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم. وإذا كان عليه السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار، فما الظن بغيره ؟ روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: [ سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه ]. قالت: فقلت يارسول الله أراك تكثر من قول (سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه ؟ فقال: (خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: " إذا جاء نصر الله والفتح " - فتح مكة - " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا "). وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " (1) [ المائدة: 3 ] فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما. ثم نزلت آية الكلالة (2)، فعاش بعدها خمسين يوما. ثم نزل " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " (3) [ التوبة: 128 ] فعاش بعدها خمسه وثلاثين يوما. ثم نزل " واتقوا يوما ترجعون فيه (4) إلى الله " فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما. وقال مقاتل سبعة أيام. وقيل غير هذا مما تقدم في " البقرة " بيانه (5)، والحمد الله. (1) آية 3 سورة المائدة. (2) آخر سورة النساء. (3) آية 128 سورة التوبة. (4) آية 281 سورة البقرة. (5) راجع ج 3 ص 375 (*)
[ 234 ]
سورة " تبت " وهي مكية باجماع. وهي خمس آيات قوله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب (1) فيه ثلاث مسائل الاولى: قوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب " في الصحيحين وغيرهما (واللفظ لمسلم) عن ابن عباس قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " (1) [ الشعراء: 214 ] ورهطك منهم المخلصين (2) "، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه ! فقالوا: من هذا الذي يهتف ؟ قالوا محمد. فاجتمعوا إليه. فقال: [ يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب ! ] فاجتمعوا إليه. فقال: [ أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ] ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: [ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ]. فقال أبو لهب: تبا لك !، أما جمعتنا إلا لهذا ! ثم قام، فنزلت هذه السورة: " تبت يدا أبي لهب وقد تب " كذا قرأ الاعمش إلى آخر السورة. زاد الحميدي وغيره: فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، وفي يدها فهر (3) من حجارة، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت: يا أبا بكر، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة: مذمما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قلينا (1) آية 214 سورة الشعراء. (2) قال النووي في شرح مسلم: (وظاهر هذه العبارة أن قوله ورهطك منهم المخلصين كان قرآنا أنزل ثم نسخت تلاوته). (3) الفهر (بالكسر): الحجر مل ء الكف وقيل الحجارة مطلقا. (*)
[ 235 ]
ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك ؟ قال: [ ما رأتني، لقد أخذ الله بصرها عني ]. وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما، يسبونه، وكان يقول: [ ألا تعجبون لما صرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد ]. وقيل: إن سبب نزولها ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد ؟ فقال: [ كما يعطى المسلمون ] قال ما لي عليهم فضل ؟ !. قال: [ وأي شئ تبغي ] ؟ قال: تبا لهذا من دين، أن أكون أنا وهؤلاء سواء، فأنزل الله تعالى فيه. " تبت يدا أبي لهب وتب ". وقول ثالث حكاه عبد الرحمن بن كيسان قال: كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقد انطلق إليهم أبو لهب فيسألونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له: أنت أعلم به منا. فيقول لهم أبو لهب: إنه كذاب ساحر. فيرجعون عنه ولا يلقونه. فأتى وفد، ففعل معهم مثل ذلك، فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، ونسمع كلامه. فقال لهم أبو لهب: إنا لم نزل نعالجه فتبا له وتعسا. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب لذلك، فأنزل الله تعالى " تبت يدا أبي لهب "... السورة. وقيل: إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر، فمنعه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب " للمنع الذي وقع به. ومعنى " تبت ": خسرت، قاله قتادة. وقيل: خابت، قال ابن عباس. وقيل ضلت، قاله عطاء. وقيل: هلكت، قاله ابن جبير. وقال يمان بن رئاب: صفرت من كل خبر. حكى الاصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان رحمه الله سمع الناس هاتفا يقول: لقد خلوك وانصرفوا * فما آبوا ولا رجعوا ولم يوفوا بنذرهم * فيا تبا لما صنعوا وخصى اليدين بالتباب، لان العمل أكثر ما يكون بهما، أي خسرتا وخسر هو. وقيل: المراد باليدين نفسه. وقد يعبر عن النفس باليد، كما قال الله تعالى: " بما قدمت يداك " (2) [ الحج: 10 ]. (1) في بعض نسخ الاصل: * فتبا للذي صنعوا * (2) آية 10 سورة الحج. (*)
[ 236 ]
أي نفسك. وهذا مهيع (1) كلام العرب، تعبر ببعض الشئ عن كله، تقول: أصابته يد الدهر، ويد الرزايا والمنايا، أي أصابه كل ذلك. قال الشاعر: لما أكبت يد الرزايا * عليه نادى ألا مجير " وتب " قال الفراء: التب الاول: دعاء والثاني خبر، كما يقال: أهلكه الله وقد هلك. وفي قراءة عبد الله وأبي " وقد تب " وأبو لهب أسمه عبد العزى، وهو ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم. وامرأته العوراء أم جميل، أخت أبي سفيان بن حرب، وكلاهما، كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال طارق بن عبد الله المحاربي: إني بسوق ذي المجاز، إذ أنا بإنسان يقول: [ يأيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ]، وإذا رجل خلفه يرميه، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يأيها الناس، إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت من هذا ؟ فقالوا: محمد، زعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. وروى عطاء عن ابن عباس قال: قال أبو لهب: سحركم محمد ! إن أحدنا ليأكل الجذعة (2)، ويشرب العس (3) من اللبن فلا يشبع، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة، وأرواكم من عس لبن. الثانية: قوله تعالى: " أبي لهب " قيل: سمي باللهب لحسنه، وإشراق وجهه. وقد ظن قوم أن في هذا دليلا على تكنية المشرك، وهو باطل، وإنما كناه الله بأبي لهب - عند العلماء - لمعان أربعة: الاول: أنه كان اسمه عبد العزى، والعزى: صنم، ولم يضف الله في كتابه العبودية إلى صنم. الثاني: أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه، فصرح بها. الثالث: أن الاسم أشرف من الكنية، فحطه الله عزوجل عن الاشرف إلى الانقص، إذا لم يكن بد من الاخبار عنه، ولذلك دعا الله تعالى الانبياء بأسمائهم، ولم يكن عن أحد منهم. ويدلك على شرف الاسم على الكنية: أن الله تعالى يسمى ولا يكنى، وإن كان ذلك لظهوره وبيانه، واستحالة نسبة الكنية إليه، لتقدسه عنها. الرابع - أن (1) يقال طريق مهيع: أي واضح واسع بين. (2) الجذعة: ولد الشاة في السنة الثانية. (3) العس (بالضم): القدح الكبير. (*)
[ 237 ]
الله تعالى أراد أن يحقق نسبته، بأن يدخله النار، فيكون أبا لها، تحقيقا للنسب، وإمضاء للفأل والطيرة التي اختارها لنفسه. وقد قيل: اسمه كنيته. فكان أهله يسمونه (أبا لهب)، لتلهب وجهه وحسنه، فصرفهم الله عن أن يقولوا: أبو النور، وأبو الضياء، الذي هو المشترك بين المحبوب والمكروه، وأجرى على ألسنتهم أن يضيفوه إلى (لهب) الذي هو مخصوص بالمكروه المذموم، وهو النار. ثم حقق ذلك بأن يجعلها مقره. وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير وابن محيصن. " أبي لهب " بإسكان الهاء. ولم يختلفوا في " ذات لهب " إنها مفتوحة، لانهم راعوا فيها رءوس الآي. الثالثة: قال ابن عباس: لما خلق الله عزوجل القلم قال له: اكتب ما هو كائن، وكان فيما كتب " تبت يد أبي لهب ". وقال منصور: سئل الحسن عن قوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب ". هل كان في أم الكتاب ؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألا يصلى النار ؟ فقال: والله ما كان يستطيع ألا يصلاها، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه. ويؤيده قول موسى لآدم: (أنت الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، خيبت (1) الناس، وأخرجتهم من الجنة. قال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك بكلامه، وأعطاك التوراة، تلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلق الله السموات والارض. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ فحج آدم موسى (2) ]. وقد تقدم (3) هذا. وفي حديث همام عن أبي هريرة أن آدم قال لموسى: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني) ؟ قال: (بألفي عام) قال: فهل وجدت فيها: " وعصى آدم ربه فغوى " قال: (نعم) قال: (أفتلومني على أمر وكتب الله على أن أفعله من قبل أن أخلق بألفي عام). فحج (4) آدم موسى. وفي حديث طاووس وابن هرمز والاعرج عن أبي هريرة: [ بأربعين عاما ]. (1) في الاصول: (أغويت). (2) أي غلبه بالحجة. (3) راجع ج 11 ص 256 (4) أي غلبه بقوة حجته. (*)
[ 238 ]
قوله تعالى: ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) أي ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال، ولا ما كسب من جاه. وقال مجاهد: من الولد، وولد الرجل من كسبه. وقرأ الاعمش " وما اكتسب " ورواه عن ابن مسعود. وقال أبو الطفيل: جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس، فاقتتلوا، فقام ليحجز بينهم، فدفعه بعضهم، فوقع على الفراش، فغضب ابن عباس وقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، يعني ولده. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولدي من كسبه ]. خرجه أبو داود. وقال ابن عباس: لما أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بالنار، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي، فنزل: " ما أغني عنه ماله وما كسب ". و " ما " في قوله: " ما أغنى ": يجوز أن تكون نفيا، ويجوز أن تكون استفهاما، أي أي شئ أغنى [ عنه ] ؟ و " ما " الثانية: يجوز أن تكون بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، أي ما أغنى عنه ماله وكسبه. قوله تعالى: سيصلى نارا ذات لهب (3) أي ذات اشتعال وتلهب. وقد مضى في سورة " المرسلات " (1) القول فيه. وقراءة العامة: " سيصلى " بفتح الياء. وقرأ أبو رجاء والاعمش: بضم الياء. ورواها محبوب عن إسماعيل عن أبن كثير، وحسين عن أبي بكر عن عاصم، ورويت عن الحسن. وقرأ أشهب العقيلي وأبو سمال العدوي ومحمد بن السميقع " سيصلى " بضم الياء، وفتح الصاد، وتشديد اللام، ومعناها سيصليه الله، من قوله: " وتصلية جحيم " (2) [ الواقعة: 94 ]. والثانية من الاصلاء، أي يصليه الله، من قوله: " فسوف نصليه نارا " (3) [ النساء: 30 ]. والاولى هي الاختيار، لاجماع الناس عليها، وهي من قوله: " إلا من هو صال الجحيم " (4) [ الصافات: 163 ]. (1) راجع ج 19 ص 160. (2) آية 94 سورة الواقعة. (3) آية 30 سورة النساء. (4) آية 163 سورة الصافات. (*)
[ 239 ]
قوله تعالى: وامرأته حمالة الحطب (4) قوله تعالى: " وامرأته " أم جميل. وقال ابن العربي: العوراء أم قبيح، وكانت عوراء. " حمالة (1) الحطب " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: كانت تمشي بالنميمة بين الناس، تقول العرب: فلان يحطب على فلان: إذا ورش عليه (2). قال الشاعر: إن بني الادرم حمالو الحطب * هم الوشاة في الرضا وفي الغضب * عليهم اللعنة تترى والحرب (3) * وقال آخر: من البيض لم تصطد على ظهر لامة * ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب يعني: لم تمش بالنمائم، وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين، الذي هو زيادة في الشر. وقال أكثم بن صيفي لبنيه: إياكم والنميمة ! فإنها نار محرقة، وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر. أخذه بعض الشعراء فقال: إن النميمة نار ويك محرقة * ففر عنها وجانب من تعاطاها ولذلك قيل: نار الحقد لا تخبو. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ لا يدخل الجنة نمام ]. وقال: [ ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه ]. وقال كعب الاحبار: أصاب بني إسرائيل قحط، فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث مرات يستسقون فلم يسقوا فقال موسى: [ إلهي عبادك ] فأوحى الله إليه: [ إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لان فيهم رجلا نماما، قد أصر على النميمة ]. فقال موسى: [ يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا ] ؟ فقال: [ يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما ] قال: فتابوا بأجمعهم، فسقوا. والنميمة من الكبائر، لا خلاف في ذلك، حتى قال الفضيل بن عياض: ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرون الصائم، وينقضن الوضوء: الغيبة، والنميمة، والكذب. (1) (حمالة) بالرفح قراءة نافع وبها يقرأ المؤلف. (2) التوريش: التحريش يقال: ورشت بين القوم وأرشت. (3) الحرب (بالتحريك): نهب مال الانسان وتركه لا شئ له. (*)
[ 240 ]
وقال عطاء بن السائب: ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ لا يدخل الجنة سافك دم، ولا مشاء بنميمة، ولا تاجر يربي ] فقلت: يا أبا عمرو، قرن النمام بالقاتل وآكل الربا ؟ فقال: وهل تسفك الدماء، وتنتهب الاموال، وتهيج الامور العظام، إلا من أجل النميمة. وقال قتادة وغيره: كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر. ثم كانت مع كثرة ما لها تحمل الحطب على ظهرها، لشدة بخلها، فعيرت بالبخل. وقال ابن زيد والضحاك: كانت تحمل العضاه والشوك، فتطرحه بالليل على طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقاله ابن عباس. قال الربيع: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير. وقال مرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة (1) من الحسك (2)، فتطرحها على طريق المسلمين، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها. وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا والذنوب، من قولهم: فلان يحتطب على ظهره، دليله قوله تعالى: " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " (3) [ الانعام: 31 ]. وقيل: المعنى حمالة الحطب في النار، وفيه بعد. وقراءة العامة " حمالة " بالرفع، على أن يكون خبرا " وامرأته " مبتدأ. ويكون " في جيدها حبل من مسد " جملة في موضع الحال من المضمر في " حمالة ". أو خبرا ثانيا. أو يكون " حمالة الحطب " نعتا لامرأته. والخبر " في جيدها حبل من مسد "، فيوقف (على هذا) على " ذات لهب ". ويجوز أن يكون " وامرأته " معطوفة على المضمر في " سيصلى " فلا يوقف على " ذات لهب " ويوقف على " وامرأته " وتكون " حمالة الحطب " خبر ابتداء محذوف. وقرأ عاصم " حمالة الحطب " بالنصب على الذم، كأنها أشتهرت بذلك، فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص، كقوله تعالى: " معلونين أينما ثقفوا (4) "، وقرأ أبو قلابة " حاملة الحطب ". (1) الابالة: الحزمة الكبيرة. (2) الحسك، نبات له ثمرة ذات شوك تعلق بأصواف الغنم والسعدان. (3) آية 31 سورة الانعام. (4) آية 61 سورة الاحزاب. (*)
[ 241 ]
قوله تعالى: في جيدها حبل من مسد (5) قوله تعالى: " في جيدها " أي عنقها. وقال امرؤ القيس: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش * إذا هي نصته ولا بمعطل (1) " حبل من مسد " أي من ليف، قال النابغة: مقذوفة بدخيس النحض بازلها * له صريف صريف القعو بالمسد (2) وقال آخر: يا مسد الخوص تعوذ مني * إن كنت لدنا لينا فإني * ما شئت من أشمط مقسئن (3) * وقد يكون من جلود الابل، أو من أوبارها، قال الشاعر: ومسد أمر من أيانق * لسن بأنياب ولا حقائق (4) وجمع الجيد أجياد، والمسد أمساد. أبو عبيدة: هو حبل يكون من صوف. قال الحسن: هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد، وكانت تفتل. قال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا، فكانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار. وقال ابن عباس (1) الجيد: العنق. والريم: الظبي الابيض الخالص البياض. و (نصته) رفعته. والمعطل: الذي لا حلى عليه. وقوله (بفاحش) أي ليس بكريه المنظر. (2) قال التبريزي (مقذوفة: أي مرمية باللحم. والدخبس: الذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته. والنحض: اللحم وهو جمع نحضة. والبازل: الكبير. والصريف: الصباح. والقعو: ما يضم البكرة إذا كان خشبا فإذا كان حديدا فهو خطاف. ويروى: له صريف صريف القعو (بالضم) على البدل والنصب أجود). (3) الاشمط: من خالط بياض رأسه سواد. والمقسئن: الذي قد انتهى في سنه فليس به ضعف كبر ولا قوة شباب. وقيل: هو الذي في آخر شبابه وأول كبره. والرجز ثلاثة أبيات في (اللسان: مسد) ولم ينسبه إلى قائله. (4) أمر الحبل: فتله فتلا شديدا. وأيانق: جمع أينق وأينق جمع ناقة. والانياب: جمع ناب، وهي الناقة الهرمة. والحقائق: جمع حقة وهي التي دخلت في السنة الرابعة وليس جلدها بالقوى. والرجز ثلاثة أبيات في اللسان. ونسبه الاصمعي لعمارة بن طارق. وقال أبو عبيدة: هو لعقبة الهجيمي. وقوله (ليس): كذا في (اللسان: مسد) وأعاده في (حقق): (لسن) بالنون. وهو الصواب. (*)
[ 242 ]
في رواية أبي صالح: " في جيدها حبل من مسد " قال: سلسلة ذرعها سبعون ذراعا - وقاله مجاهد وعروة بن الزبير: تدخل من فيها، وتحرج من أسفلها، ويلوى سائرها على عنقها. وقال قتادة. " حبل من مسد " قال: قلادة من ودع. الودع: خرز بيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر. قال الشاعر: * والحلم حلم صبي يمرث الودعة (1) * والجمع: ودعات. الحسن: إنما كان خرزا في عنقها. سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللات والعزى لانفقنها في عداوة محمد. ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة. وقيل: إن ذلك إشارة إلى الخذلان، يعني أنها مربوطة عن الايمان بما سبق لها من الشقاء، كالمربوط في جيده بحبل من مسد. والمسد: الفتل. يقال: مسد حبلة يمسده مسدا، أي أجاد فتله. قال (2): * يمسد أعلى لحمه ويأرمه * يقول: إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده. ودابة ممسودة الخلق: إذا كانت شديدة الاسر (3). قال الشاعر: ومسد أمر من أيانق * صهب عتاق ذات مخ زاهق * لسن بأنياب ولا حقائق (4) * ويروى: * ولا ضعاف مخهن زاهق * قال الفراء: هو مرفوع والشعر مكفأ (5). يقول: بل مخهن مكتنز، رفعه على الابتداء. قال: ولا يجوز أن يريد ولا ضعاف زاهق مخهن. كما لا يجوز أن تقول: مررت برجل أبوه قائم، (1) مرث الودع يمرثه مرثا: مصه. (2) هو رؤبة. (3) الاسر: الخلق. (4) أمر الحبل: فتله فتلا شديدا. والايانق: جمع ناقة. والصهب: جمع الاصهب هو بعير ليس بشديد البياض. وعتاق: جمع عتيق وهو الكريم. وزهق المخ: إذا اكتنز (اجتمع) لحمه فهو زاهق. (5) الاكفاء في الشعر: المخالفة بين ضروب إعراب قوافيه. ومن الاكفاء أيضا المخالفة بين هجاء قوافيه إذا تقاربت مخارج الحروف أو تباعدت. (*)
[ 243 ]
بالخفض. وقال غيره: الزاهق هنا: بمعنى الذاهب كأنه قال: ولا ضعاف مخهن، ثم رد الزاهق على الضعاف. ورجل ممسود: أي مجدول الخلق. وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والارم (1)، وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة. والمساد، على فعال: لغة في المساب (2)، وهي نحى السمن، وسقاء العسل. قال جميعه الجوهري. وقد أعترض فقيل: إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به، فكيف يبقى في النار ؟ وأجيب عنه بأن الله عزوجل قادر على تجديده كلما احترق. والحكم ببقاء أبي لهب وأمراته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة (3)، فلما ماتا على الكفر صدق الاخبار عنهما. ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. فأمرأته خنقها الله بحبلها، وأبو لهب رماه الله بالعدسة (4) بعد وقعة بدر بسبع ليال، بعد أن شجته أم الفضل (5) وذلك أنه لما قدم الحيسمان مكة يخبر خبر بدر، قال له أبو لهب: أخبرني خبر الناس. قال: نعم، والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يضعون السلاح منا حيث شاءوا، ومع ذلك ما لمست الناس. لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، لا والله ما تبقى منا، يقول: ما تبقي شيئا. قال أبو رافع: وكنت غلاما للعباس أنحت الاقداح في صفة زمزم، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، فرفعت طنب الحجرة، فقلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب وجهي ضربة منكرة، وثاورته (6)، وكنت رجلا ضعيفا، فاحتملني، فضرب بي الارض، وبرك على صدري يضربني. وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فتأخذه وتقول: استضعفته أن غاب عنه سيده ! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقه شجة منكرة. فقام يجر رجليه ذليلا، ورماه الله بالعدسة، فمات، وأقام ثلاثة أيام لم يدفن حتى أنتن، ثم إن ولده غسلوه بالماء، قذفا من بعيد، مخافة عدوى العدسة. وكانت قريش تتقيها كما يتقي الطاعون. ثم احتلموه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا (7) عليه الحجارة. (1) أي مجدولة الخلق. (2) وقد يهمز فيقال مسأب كمنبر. (3) كذا في الاصول والظاهر أن اللفظ محرف عن (الوفاة). (4) العدسة: بثرة تخرج بالبدن فتقتل. (5) هي لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهالية أخت ميمونة أم المؤمنين. (6) المثاورة: المواثبة. (اللسان: ثور). (7) رضموا: أي جعلوا الحجارة بعضها على بعض. (*)
[ 244 ]
سورة " الاخلاص " مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر. ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. وهي أربع آيات. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4) قوله تعالى: (قل هو الله أحد) أي الواحد الوتر، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا صاحبة، ولا ولد ولا شريك. وأصل " أحد ": وحد، قلبت الواو همزة. ومنه قول النابغة (1): * بذي الجليل على مستأنس وحد * وقد تقدم في سورة " البقرة " الفرق بين واحد وأحد، وفي كتاب " الاسنى، في شرح أسماء الله الحسنى " أيضا مستوفى. والحمد لله. و " أحد " مرفوع، على معنى: هو أحد. وقيل: المعنى: قل: الامر والشأن: الله أحد. وقيل: " أحد " بدل من قوله: " الله ". وقرأ جماعة " أحد الله " بلا تنوين، طلبا للخفة، وفرارا من التقاء الساكنين، ومنه قول الشاعر: * ولا ذاكر الله إلا قليلا (2) * (1) صدر البيت كما في معلقته: * كأن رحلى وقد زال النهار بنا * و (ذو الجليل) مكان ينبت الجليل وهو الثمام. والثمام: نبت ضعيف قصير لا يطول. (2) هذا عجز بيت لابي الاسود الدؤلي. وصدره: * فألفيته غير مستعتب * (*)
[ 245 ]
(الله الصمد) أي الذي يصمد إليه في الحاجات. كذا روى الضحاك عن ابن عباس، قال: الذي يصمد إليه في الحاجات، كما قال عزوجل: " ثم إذا مسكم الضر فإليه (1) تجأرون " [ النحل: 53 ]. قال أهل اللغة: الصمد: السيد الذي يصمد إليه في النوازل والحوائج. قال: ألا بكر الناعي بخير (2) بني أسد * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد وقال قوم: الصمد: الدائم الباقي، الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: تفسيره ما بعده " لم يلد ولم يولد ". قال أبي بن كعب: الصمد: الذي لا يلد ولا يولد، لانه ليس شئ إلا سيموت، وليس شئ يموت إلا يورث. وقال علي وابن عباس أيضا وأبو وائل شقيق بن سلمة وسفيان: الصمد: هو السيد الذي قد أنتهى سودده في أنواع الشرف والسودد، ومنه قول الشاعر: علوته بحسام ثم قلت له * خذها حذيف فأنت السيد الصمد وقال أبو هريرة: إنه المستغني عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد. وقال السدي: إنه: المقصود في الرغائب، والمستعان به في المصائب. وقال الحسين بن الفضل: إنه: الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مقاتل: إنه: الكامل الذي لا عيب فيه، ومنه قول الزبرقان: سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا * ولا رهينة إلا سيد صمد وقال الحسن وعكرمة والضحاك وابن جبير: الصمد: المصمت الذي لا جوف له (3)، قال الشاعر: شهاب حروب لا تزال جياده * عوابس يعلكن الشكيم المصمدا (4) قلت: قد أتينا على هذه الاقوال مبينة في الصمد، في (كتاب الاسنى) وأن الصحيح منها. ما شهد له الاشتقاق، وهو القول الاول، ذكره الخطابي. وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه، وجعل النار مقامه ومثواه، وقرأ " الله الواحد الصمد " في الصلاة، والناس يستمعون، فأسقط: " قل هو "، وزعم أنه ليس من القرآن. وغير لفظ " أحد "، وأدعى أن هذا (1) آية 53 سورة النحل. (2) ويروى: بخيري. وهو الصواب لانه ذكر بعده اثنين. (3) وهذا لا يجوز على الله تعالى. (4) علكت الدابة اللجام تعلكه (من باب قتل) علكا: لاكته وحركته. والكشيم والشكيمة: الحديدة المعترضة في فم الفرس. (*)
[ 246 ]
هو الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل والمحال، فأبطل معنى الآية، لان أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابا لاهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر ؟ فقال الله عزوجل ردا عليهم: " قل هو والله أحد ". ففي " هو " دلالة على موضع الرد، ومكان الجواب، فإذا سقط (1) بطل معنى الآية، وصح الافتراء على الله عزوجل، والتكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله عزوجل: " قل هو الله أحد. الله الصمد ". والصمد: الذي لم يلد ولم يولد، لانه ليس شئ يولد إلا سيموت، وليس شئ يموت إلا سيورث، وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث. " ولم يكن له كفوا أحد " (2): قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شئ. وروي عن أبي العالية: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا: انسب لنا ربك. قال: فأتاه جبريل بهذه السورة " قل هو الله أحد "، فذكر نحوه، ولم يذكر فيه عن أبي بن كعب، وهذا أصح، قاله الترمذي. قلت: ففي هذا الحديث إثبات لفظ " قل هو الله أحد " وتفسير الصمد، وقد تقدم. وعن عكرمة نحوه. وقال ابن عباس: " لم يلد " كما ولدت مريم، ولم يولد كما ولد عيس وعزير. وهو رد على النصارى، وعلى من قال: عزير ابن الله. (ولم يكن له كفوا أحد) أي لم يكن له مثلا أحد. وفيه تقدم وتأخير، تقديره: ولم يكن له كفوا أحد، فقدم خبر كان على اسمها، لينساق أواخر الآي على نظم واحد. وقرئ " كفوا " بضم الفاء وسكونها. وقد تقدم في " البقرة " أن كل اسم على ثلاث أحرف أوله مضموم، فإنه يجوز في عينه الضم والاسكان (3)، إلا قوله تعالى: " وجعلوا له من عباده جزءا " (4) [ الزخرف: 15 ] لعلة تقدمت. وقرأ حفص " كفوا " مضموم الفاء غير مهموز. وكلها لغات فصيحة. (1) في نسخة من الاصل: (فأسقط آية وأبطل المعنى وصحف افتراء على الله عزوجل...) الخ. (2) بالهمزة قراءة نافع وهي قراءة المؤلف. (3) راجع ج 1 ص 447 طبعة ثانية أو ثالثة. (4) آية 15 سورة الزخرف راجع ج 16 ص 69 (*)
[ 247 ]
القول في الاحاديث الواردة في فضل هذه السورة، وفيه ثلاث مسائل: الاولى - ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا سمع رجلا يقرأ " قل هو الله أحد " يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالها (1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ]. وعنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه: [ أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ] فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال: [ الله الواحد (2) الصمد ثلث القرآن ] خرجه مسلم من حديث أبي الدرداء بمعناه. وخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ احشدوا (3) فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ]، فحشد (4) من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ " قل هو الله أحد " ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله. ثم خرج فقال: [ إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن ] قال بعض العلماء: إنها عدلت ثلث القرآن لاجل هذا الاسم، الذي هو " الصمد "، فإنه لا يوجد في غيرها من السور. وكذلك " أحد ". وقيل: إن القرآن أنزل أثلاثا، ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا منه أسماء وصفات، وقد جمعت " قل هو الله أحد " [ أحد ] (5) الا ثلاث، وهو الاسماء والصفات. ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: [ إن الله عزوجل جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل " قل هو الله أحد " جزءا من أجزاء القرآن ]. وهذا نص، وبهذا المعنى سميت سورة الاخلاص، والله أعلم. الثانية: روى مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لاصحابه في صلاتهم، فيختم ب‍ " - قل هو الله أحد "، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى (1) أي يعتقد أنها قليلة في العمل لا في التنقيص. (2) في شرح العيني على البخاري في فضائل القرآن: (قوله الله الواحد الصمد: كناية عن قل هو الله أحد). (3) من باب قتل وضرب ويستعمل متعديا ولازما. (4) أي اجتمع من اجتمع. (5) زيادة عن الخطيب. (*)
[ 248 ]
الله عليه وسلم فقال: [ سلوه لاي شئ يصنع ذلك ] ؟ فسألوه فقال: لانها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أخبروه أن الله عزوجل يحبه ]. وروى الترمزي عن أنس بن مالك قال: كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما أفتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها، أفتتح ب‍ " - قل هو الله أحد "، حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعوا وتقرأ بسورة أخرى ؟ قال: ما أنا بتاركها وإن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: [ يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك ؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة ] ؟ فقال: يا رسول الله، إني أحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن حبها أدخلك الجنة ]. قال: حديث حسن غريب صحيح. قال ابن العربي: " فكان هذا دليلا على أنه يجوز تكرار سورة في كل ركعة. وقد رأيت على باب الاسباط فيما يقرب منه، إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان يصلي فيه التراويح في رمضان بالاتراك، فيقرأ في كل ركعة " الحمد لله " و " قل هو الله أحد " حتى يتم التراويح، تخفيفا عليه، ورغبة في فضلها وليس من السنة ختم القرآن في رمضان. قلت: هذا نص قول مالك، قال مالك: وليس ختم القرآن في المساجد بسنة. الثالثة: روى الترمذي عن أنس (1) بن مالك قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ " قل هو الله أحد "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وجبت). قلت: وما وجبت ؟ قال: [ الجنة ]. قال: هذا حديث حسن صحيح (2). قال الترمذي: (1) الرواية في الترمذي عن أبي هريرة. (2) في الترمذي: (حسن غريب). (*)
[ 249 ]
حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال حدثنا حاتم بن ميمون أبو سهل عن ثابت البناني عن أنس ابن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد، محي عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين ]. وبهذا الاسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ " قل هو الله أحد " مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب: يا عبدي، ادخل على يمينك الجنة). قال: هذا حديث غريب من حديث ثابت عن أنس. وفي مسند أبي محمد الدارمي، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من قرأ " قل هو الله أحد " خمسين مرة، غفرت له ذنوب خمسين سنة ] قال: وحدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا حيوة قال: أخبرني أبو عقيل: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: [ من قرأ " قل هو الله أحد " عشرة مرات بني له قصر في الجنة. ومن قرأها عشرين مرة بني له بها قصران في الجنة. ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة ]. فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله إذا لنكثرن قصورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ الله أوسع من ذلك ] قال أبو محمد: أبو عقيل زهرة بن معبد، وزعموا أنه كان من الابدال. وذكر أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه، لم يفتن في قبره. وأمن من ضغطة القبر. وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها، حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة ]. قال: هذا حديث غريب من حديث يزيد، تفرد به نصر بن حماد البجلي. وذكر أبو بكر أحمد بن علي ابن ثابت الحافظ عن عيسى بن أبي فاطمة الرازي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إذا نقس بالناقوس اشتد غضب الرحمن، فتنزل الملائكة، فيأخذون بأقطار الارض، فلا يزالون يقرءون " قل هو الله أحد " حتى يسكن غضبه عزوجل. وخرج من حديث محمد بن خالد الجندي عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من دخل يوم الجمعة
[ 250 ]
المسجد، فصلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب و " قل هو الله أحد " خمسين مرة فذلك مائتا مرة في أربع ركعات، لم يمت حتى يرى منزله في الجنة أو يرى له ]. وقال أبو عمر مولى جرير بن عبد الله البجلي، عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من قرأ " قل هو الله أحد " حين يدخل منزله، نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل وعن الجيران ]. وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من قرأ " قل هو الله أحد " مرة بورك عليه، ومن قرأها مرتين بورك عليه وعلى أهله، ومن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى جميع جيرانه، ومن قرأها اثنتي عشرة بنى الله له اثني عشر قصرا في الجنة، وتقول الحفظة انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا فإن قرأها مائة مرة كفر الله عنه ذنوب خمسين سنة، ما خلا الدماء والاموال، فإن قرأها أربعمائة مرة كفر الله عنه ذنوب مائة سنة، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له ]. وعن سهل بن سعد الساعدي قال: شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر وضيق المعيشة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إذا دخلت البيت فسلم إن كان فيه أحد، وإن لم يكن فيه أحد فسلم علي، واقرأ " قل هو الله أحد " مرة واحدة ] ففعل الرجل فأدر الله عليه الرزق، حتى أفاض عليه جيرانه. وقال أنس: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بيضاء لها شعاع ونور، لم أرها فيما مضى طلعت قط كذلك، فأتى جبريل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يا جبريل، مالي أرى الشمس طلعت بيضاء بشعاع لم أرها طلعت كذلك فيما مضى قط ] ؟ فقال: [ ذلك لان معاوية بن معاوية الليثي توفي بالمدينة اليوم، فبعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه ]. قال [ ومم ذلك ] ؟ قال: [ كان يكثر قراءة " قل هو الله أحد " آناء الليل وآناء النهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الارض. فتصلي عليه ] ؟ قال [ نعم ] فصلى عليه ثم رجع. ذكره الثعلبي، والله أعلم.
[ 251 ]
تفسير سورة " الفلق " وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة. وهي خمس آيات. وهذه السورة وسورة " الناس " و " الاخلاص ": تعوذ بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود، على ما يأتي. وقيل: إن المعوذتين كان يقال لهما المقشقشتان أي تبرئان من النفاق. وقد تقدم. وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به، وليستا من القرآن، خالف به الاجماع من الصحابة وأهل البيت. قال ابن قتيبة: لم يكتب عبد الله بن مسعود في مصحفه المعوذتين، لانه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - بهما، فقدر أنهما بمنزلة: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة. قال أبو بكر الانباري: وهذا مردود على ابن قتيبة، لان المعوذتين من كلام رب العالمين، المعجز لجميع المخلوقين، و " أعيذكما بكلمات الله التامة " من قول البشر بين. وكلام الخالق الذي هو آية لمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحجة له باقية على جميع الكافرين، لا يلتبس بكلام الآدميين، على مثل عبد الله بن مسعود الفصيح اللسان، العالم باللغة، العارف بأجناس الكلام، وأفانين القول. وقال بعض الناس: لم يكتب عبد الله المعوذتين لانه أمن عليهما من النسيان، فأسقطهما وهو يحفظهما، كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه، وما يشك في حفظه وإتقانه لها. فرد هذا القول على قائله، واحتج عليه بأنه قد كتب: " إذا جاء نصر الله والفتح "، و " إنا أعطيناك الكوثر "، و " قل هو الله أحد " وهن يجرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال، والحفظ إليهن أسرع، ونسيانهن مأمون، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب، إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتها. وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها، فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف، على معنى الثقة ببقاء حفظها، والامن من نسيانها، صحيح، وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها، ولا يسلك به طريقها. وقد مضى هذا المعنى في سورة " الفاتحة " (1). والحمد لله. (1) راجع ج 1 ص 114 طبعة أو ثالثة. (*)
[ 252 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق (2) ومن شر غاسق إذا وقب (3) ومن شر النفاثات في العقد (4) ومن شر حاسد إذا حسد (5) فيه تسع مسائل: الاولى - روى النسائي عن عقبة بن عامر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني سورة [ هود ] (1) أقرئني سورة يوسف. فقال لي: [ ولن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من " قل أعوذ برب الفلق " ]. وعنه قال: بينا أنا أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والابواء، إذ غشتنا ريح مظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ ب‍ " - أعوذ برب الفلق "، و " أعوذ برب الناس "، ويقول: [ يا عقبة، تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما ]. قال: وسمعته يقرأ بهما في الصلاة. وروى النسائي عن عبد الله قال: أصابنا طش (2) وظلمة، فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج (3). ثم ذكر كلاما معناه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ليصلي بنا ] (4)، فقال: (قل). فقلت: ما أقول ؟ قال: (قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاثا، يكفك كل شئ) وعن عقبة بن عامر الجهني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ قل ]. قلت: ما أقول ؟ قال قل: (قل هو الله أحد. قل أعوذ برب الفلق. قل أعوذ برب الناس - فقرأهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لم يتعوذ الناس بمثلهن، أو لا يتعوذ الناس بمثلهن). وفي حديث أبن عباس " قل أعوذ برب (1) زيادة عن سنن النسائي. (2) الطش (بفتح الطاء وتشديد الشين): المطر الضعيف. (3) الذي في سنن النسائي: (فانتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى بنا، ثم ذكر... الخ). (4) زيادة عن سنن النسائي. (*)
[ 253 ]
الفلق وقل أعوذ برب الناس، هاتين السورتين ". وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، كلما أشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها. النفث: النفخ ليس معه ريق. الثانية - ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره يهودي من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الاعصم، حتى يخيل إليه أنه كان يفعل الشئ ولا يفعله، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث - في غير الصحيح: سنة - ثم قال: (يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه. أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال [ الذي عند رأسي للذي عند رجلي ] (1): ما شأن الرجل ؟ قال: مطبوب (2). قال ومن طبه ؟ قال لبيد بن الاعصم. قال في ماذا ؟ قال في مشط ومشاطة (3) وجف طلعة (4) ذكر، تحت راعوفة (5) في بئر ذي أوران (6) فجاء البئر واستخرجه. انتهى الصحيح. وقال ابن عباس (7): (أما شعرت يا عائشة أن الله تعالى أخبرني بدائي). ثم بعث عليا والزبير وعمار ابن ياسر، فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الضخرة وهي الراعوفة - صخرة تترك أسفل البئر يقوم عليها المائح (8)، وأخرجوا الجف، فإذا مشاطة رأس إنسان، وأسنان من مشط، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالابر، فأنزل الله تعالى هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد، وأمر أن يتعوذ بهما، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، حتى انحلت العقدة الاخيرة، فكأنما أنشط من عقال، وقال: ليس به بأس. وجعل جبريل يرقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: [ باسم الله (1) زيادة عن الصحيحين. (2) المطبوب: المسحور. (3) في بعض نسخ الاصل وبعض كتب الحديث: (ومشاقة) بالقاف بدل الطاء وهو ما يستخرج من الكتان. والمشط: الآلة التي يمشط بها الشعر. (4) الجف (بضم الجيم وتشديد الفاء): الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والانثى فلذا قيده بقوله (ذكر). (6) ويقال: (بئر ذروان)، وهي بئر بالمدينة في بستان بني زريق. (7) أي في روايته. (8) في بعض نسخ الاصل: (الماتح) بالتاء المثناة من فوق وهو المستقي. من البئر بالدلو. من أعلى البئر. أما المائح بالهمز فهو: الذي يكون في أسفل البئر يملا الدلو. (*)
[ 254 ]
أرقيك، من كل شئ يؤذيك، من شر حاسد وعين، والله يشفيك ]. فقالوا: يا رسول الله، ألا نقتل الخبيث. فقال: [ أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على الناس شرا ]. وذكر القشيري في تفسيره أنه ورد في الصححاح: أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدست (1) إليه اليهود، ولم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم. والمشاطة (بضم الميم): ما يسقط من الشعر عند المشط. وأخذ عدة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الاعصم اليهودي. وذكر نحو ما تقدم عن ابن عباس. الثالثة - تقدم في البقرة القول في السحر وحقيقته، وما ينشأ عنه من الآلام والمفاسد، وحكم الساحر، فلا معنى لاعادته (2). الرابعة - قوله تعالى: " القلق " اختلف فيه، فقيل: سجن في جهنم، قاله ابن عباس. وقال أبي بن كعب: بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من حره. وقال الحبلي أبو عبد الرحمن (3): هو اسم من أسماء جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال عبد الله ابن عمر: شجرة في النار. سعيد بن جبير: جب في النار. النحاس: يقال لما أطمأن من الارض فلق، فعلى هذا يصح هذا القول. وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن جبير أيضا ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد: الفلق، الصبح. وقاله ابن عباس. تقول العرب: هو أبين من فلق الصبح وفرق الصبح. وقال الشاعر: يا ليلة لم أنمها بت مرتفقا (4) * أرعى النجوم إلى أن نور الفلق وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه، أي تتشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور، لانها تتشقق من خوف الله عزوجل. قال زهير: ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت * أيدي الركاب بهم من راكس فلقا (1) في نسخة: فدنت. (2) راجع ج 2 ص 43 فما بعدها طبعة ثانية. (3) هو عبد الله بن يزيد المعافري. (4) المرتفق: المتكئ على مرفق يده. (*)
[ 255 ]
الراكس: بطن الوادي. وكذلك هو في قول النابغة: * أتاني ودوني راكس فالضواجع (1) * والراكس أيضا: الهادي، وهو الثور وسط البيدر (2)، تدور عليه الثيران في الدياسة. وقيل: الرحم تنفلق بالحيوان. وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى، وكل شئ من نبات وغيره، قاله الحسن وغيره. قال الضحاك: الفلق الخلق كله، قال: وسوس يدعو مخلصا رب الفلق * سرا وقد أون تأوين العقق (3) قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق، فإن الفلق الشق. فلقت الشئ فلقا أي شققته. والتفليق مثله. يقال: فلقته فانفلق وتفلق. فكل ما انفلق عن شئ من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق، قال الله تعالى: " فالق الاصباح " (4) [ الانعام: 96 ] قال: " فالق الحب والنوى " (5) [ الانعام: 95 ]. وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي: حتى إذا ما انجلى (6) عن وجهه فلق * هاديه في أخريات الليل منتصب يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه. والفلق أيضا: المطمئن من الارض بين الربوتين، وجمعه: فلقان، مثل خلق وخلقان، وربما قالوا: كان ذلك بفالق كذا وكذا، يريدون المكان المنحدر (1) صدر البيت: * وعبد أبي قابوس في غير كنهه * والضواجع: جمع ضاجعة وهي منحني الوادي. (2) البيدر: الموضع الذي يداس فيه الحبوب. (3) ورد هذا البيت في الاصول محرفا. وهو من أرجوزة رؤبة بن العجاج التي مطلعها: * وقائم الاعماق خاوى المخترق * وقوله: (أون) أي أكل وشرب حتى أمتلا بطنه. والعقق: جمع عقوق كرسول ورسل وهي التي تكامل حملها، وقرب ولادها. وصف صائدا لما أحس بالصيد - وهي الاتن التي وردت الماء فشربت حتى أمتلات خواصرها - وأراد رؤبة: وسوس نفسه بالدعاء حذر الخيبة. (4) آية 96 سورة الانعام. (5) آية 95 سورة الانعام. (6) كذا في الاصول واللسان. والذي في الديوان: (ماجلا). وقال ابن بري: الرواية الصحيحة: * حتى إذا ما جلا عن وجهه شفق * وقوله تعالى (هاديه) أي أوله مأخوذ من الهادي وهو مقدم العنق. (*)
[ 256 ]
بين الربوتين، والفلق أيضا مقطرة (1) السجان. فأما الفلق (بالكسر): فالداهية والامر العجب، تقول منه: أفلق الرجل وأفتلق. وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق [ أي بالداهية ]. والفلق أيضا: القضيب يشق باثنين، فيعمل منه قوسان، يقال لكل واحدة منهما فلق، وقولهم: جاء بعلق فلق، وهي الداهية، لا يجرى [ مجرى عمر ] (2). يقال منه: أعلقت وأفلقت، أي جئت بعلق فلق. ومر يفتلق في عدوه، أي يأتي بالعجب من شدته. وقوله تعالى: (من شر ما خلق) قيل: هو إبليس وذريته. وقيل جهنم. وقيل: هو عام، أي من شر كل ذي شر خلقه الله عزوجل. الخامسة - قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) اختلف فيه، فقيل: هو الليل. والغسق: أول ظلمة الليل، يقال منه: غسقا الليل يغسق أي أظلم. قال [ ابن ] قيس الرقيات: إن هذا الليل قد غسقا * واشتكيت الهم والارقا وقال آخر: يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا * إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. و " وقب " على هذا التفسير: أظلم، قاله ابن عباس. والضحاك: دخل. قتادة: ذهب. يمان بن رئاب: سكن. وقيل: نزل، يقال: وقب العذاب على الكافرين، نزل. قال الشاعر: وقب العذاب عليهم فكأنهم * لحقتهم نار السموم فاحصدوا وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لانه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغسق: البرد، ولان في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العيث (1) المقطرة (بكسر الميم): خشية فيها خروق كل خرق على قدر سعة الساق يدخل فيها أرجل المحبوسين مشتق من قطار الابل. (2) زيادة من اللسان مادة (علق) يقتضيها السياق. وفي الاساس مادة (فلق): (وجاء بعلق) على التركيب كخمسة عشر. (*)
[ 257 ]
والفساد. وقيل: الغاسق: الثريا، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الاسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، قال عبد الرحمن بن زيد. وقيل: هو الشمس إذا غربت، قاله ابن شهاب. وقيل: هو القمر. قال القتبي: " إذا وقب " القمر: إذا دخل في ساهوره، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خسف به. وكل شئ أسود فهو غسق. وقال قتادة: " إذا وقب " إذا غاب. وهو أصح، لان في الترمذي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر، فقال: [ يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ]. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الاعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وأنشد: أراحني الله من أشياء أكرهها * منها العجوز ومنها الكلب والقمر هذا يبوح وهذا يستضاء به * وهذه ضمرز قوامة السحر (1) وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت. وكأن الغاسق نابها، لان السم يغسق منه، أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللديغ. وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر، كائنا ما كان، من قولهم: غسقت القرحة: إذا جرى صديدها. السادسة - قوله تعالى: (ومن شر النفاثات في العقد) يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها. شبه النفخ كما يعمل من يرقي. قال الشاعر: أعوذ بربي من النافثا * ت في عضه العاضه المعضه (2) وقال متمم بن نويرة: نفثت في الخيط شبيه الرقى * من خشية الجنة والحاسد وقال عنترة: فإن يبرأ فلم أنفث عليه * وإن يفقد فحق له الفقود (1) الضمرز (كزبرج): الناقة المسنة. ومن النساء الغليظة. وقد وردت هذه الكلمة في نسخ الاصل محرفة، ففي بعضها (صمود) في بعضها الآخر: (ضمور) وهو تحريف. وفي البيت إقواء وهو اختلاف حركات الروى. (2) العضه (كعنب): الكذب والسحر والبهتان. والعاضه: الساحر. (*)
[ 258 ]
السابعة - روى النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق (1) شيئا وكل إليه ]. واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح ولا يعقد. قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقي. وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجع، فقلت: ألا أعوذك يا أبا محمد ؟ قال: بلى، ولكن لا تنفث، فعوذته بالمعوذتين. وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن ينفخ به أو ينفث ؟ قال: لا شئ من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفث إن شئت. وسئل محمد بن سيرين عن الرقية ينفث فيها، فقال: لا أعلم بها بأسا، وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث في الرقية، رواه الائمة، وقد ذكرناه أول السورة وفي " سبحان " (2). وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام، زعم أنه لم يحفظه. وقال محمد بن الاشعث: ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء، فرقتني ونفثت. وأما ما روي عن عكرمة من قول: لا ينبغي للراقي أن ينفث، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به، فلا يكون بنفسه عوذة. وليس هذا هكذا، لان النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما. ولان النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالارواح، وهذا النفث لاستصلاح الابدان، فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة. قال علي رضي الله عنه: اشتكيت، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني، وإن كان بلاء فصبرني. فقال النبي صلى الله عليه (1) أي من علق شيئا من التعاويذ والتمائم معتقدا أنها تجلب إليه نفعا أو تدفع عنه ضررا. وقيل: المراد تمائم الجاهلية مثل الخرزات وأظفار السباع. أما ما يكون من القرآن والاسماء الالهية فهو خارج عن هذا الحكم. (شرح سنن النسائي). (2) راجع ج 10 ص 315 فما بعدها. (*)
[ 259 ]
وسلم [ كيف قلت ] ؟ فقلت له: فمسحني بيده، ثم قال: [ اللهم أشفه ] فما عاد ذلك الوجع بعد. وقرأ عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب " من شر النافثات " في وزن (فاعلات). ورويت عن عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وروي أن نساء سحرن النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية. قال ابن زيد: كن من اليهود، يعني السواحر المذكورات. وقيل: هن بنات لبيد بن الاعصم. الثامنة - قوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد) قد تقدم في سورة " النساء " معنى الحسد (1)، وأنه تمنى زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل. فالحسد شر مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغبطة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ المؤمن يغبط، والمنافق يحسد ]. وفي الصحيحين: [ لا حسد إلا في اثنتين ] يريد لا غبطة. وقد مضى في سورة " النساء " (2) والحمد لله. قلت: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال صلى الله عليه وسلم: [ إذا حسدت فلا تبغ... ] الحديث. وقد تقدم. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الارض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال: قل للحسود إذا تنفس طعنة * يا ظالما وكأنه مظلوم التاسعة - هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من جميع الشرور. فقال: " من شر ما خلق ". وجعل خاتمة ذلك الحسد، (1) معنى الحسد تقدم في سورة البقرة ج 2 ص 71 طبعة ثانية. وراجع أيضا سورة النساء ج 5 ص 251 (2) هذا مذكور في سورة النساء. فليراجع. (*)
[ 260 ]
تنبيها على عظمه، وكثرة ضرره. والحاسد عدو نعمة الله. قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها - أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. وثانيها - أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة ؟ وثالثها - أنه ضاد فعل الله، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله. ورابعها - أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها - أنه أعان عدوه إبليس. وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة ألا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم: آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين). والله سبحانه وتعالى أعلم. سورة " الناس " مثل " الفلق " لانها إحدى المعوذتين. وروى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزل الله علي آيات لم ير مثلهن: " قل أعوذ برب الناس " إلى آخر السورة " وقل أعوذ برب الفلق " إلى آخر السورة). قال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه مسلم. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3) قوله تعالى: " قل أعوذ برب الناس " أي مالكهم ومصلح أمورهم. وإنما ذكر أنه رب الناس، وإن كان ربا لجميع الخلق لامرين: أحدهما: لان الناس معظمون، فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: لانه أمر بالاستعاذة من شرهم، فأعلم بذكرهم
[ 261 ]
أنه هو الذي يعيذ منهم. إنما قال: " ملك الناس إله الناس " لان في الناس ملوكا يذكر أنه ملكهم. وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه، دون الملوك والعظماء. قوله تعالى: من شر الوسواس الخناس (4) يعني: من شر الشيطان. والمعنى: من شر ذي الوسواس، فحذف المضاف، قاله الفراء: وهو (بفتح الواو) بمعنى الاسم، أي الموسوس. و (بكسر الواو) المصدر، يعني الوسوسة. وكذا الزلزال والزلزال. والوسوسة: حديث النفس. يقال: وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة (بكسر الواو). ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وسواس. قال ذو الرمة: فبات يشئزه ثاد ويسهره * تذؤب الزيح والوسواس والهضب (1) وقال الاعشى: تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت * كما استعان بريخ عشرق زجل (2) وقيل: إن الوسواس الخناس ابن لابليس، جاء به إلى حواء، ووضعه بين يديها وقال: اكفليه. فجاء آدم [ عليه السلام ] (3) فقال: ما هذا [ يا حواء ] (3) ! قالت: جاء عدونا بهذا وقال لي: اكفليه. فقال: ألم أقل لك لا تطيعيه في شئ، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية ؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع، وعلق كل ربع على شجرة، غيظا له، فجاء إبليس فقال: يا حواء، أين ابني ؟ فأخبرته بما صنع به أدم [ عليه السلام ] فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء وقال: اكفليه، فجاء آدم [ عليه السلام ] فحرقه بالنار، ودر رماده في البحر، فجاء إبليس [ عليه اللعنة ] فقال: يا حواء، أين ابني ؟ فأخبرته بفعل آدم إياه، فذهب (1) شئز الرجل: قلق من مرض أو هم. والثأد: الندى والقر والامر القبيح. وتذؤب الريح: هبوبها من كل وجه وهو مأخوذ من خداع الذئب. والهضب (بكسر الهاء): الامطار. (2) العشرق (كزبرج): نبت له ورق فإذا يبس طار. ونبت زجل: صوتت فيه الريح. (3) زيادة عن نوادر الاصول للترمذي الحكيم. (*)
[ 262 ]
إلى البحر، فقال: يا خناس، فحيي فأجابه. فجاء به إلى حواء الثالثة، وقال: أكفليه. فنظر، إليه آدم، فذبحه وشواه، وأكلاه جميعا. فجاء إبليس فسألها فأخبرته [ حواء ] (1). فقال: يا خناس، فحيي فأجابه [ فجاء به ] من جوف آدم وحواء. فقال إبليس: هذا الذي أردت، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم، فهو ملتقم قلب ابن آدم ما دام غافلا يوسوس، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس. ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الاصول بإسناد عن وهب ابن منبه. وما أظنه يصح، والله تعالى أعلم. ووصف بالخناس لانه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى: " فلا أقسم بالخنس " (2) [ التكوير: 15 ] يعني النجوم، لاختفائها بعد ظهورها. وقيل: لانه يخنس إذا ذكر العبد الله، أي يتأخر. وفي الخبر [ إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، ف إذا غفل وموس، وإذا ذكر الله خنس ] أي تأخر وأقصر. وقال قتادة: " الخناس " الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الانسان، فإذا غفل الانسان (3) وسوس له، وإذا ذكر العبد ربه خنس. يقال: خنسته فخنس، أي أخرته فتأخر. وأخنسته أيضا. ومنه قول أبي العلاء الحضرمي - أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن دحسوا بالشر فاعف تكرما * وإن خنسوا عند (4) الحديث فلا تسل الدحس: الافساد. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس ]. وقال ابن عباس: إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومناه. وقال إبراهيم التيمي: أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء. وقيل: سمي خناسا لانه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله. والخنس: الرجوع. وقال الراجز: وصاحب يمتعس (5) امتعاسا * يزداد إن حييته (6) خناسا (1) زيادة عن الترمذي الحكيم. () آية 15 سورة التكوير. (3) في نسخة من الاصل (ابن آدم). (4) في اللسان: (عنك). (5) يمتعس: يتحرك. (6) في بعض الاصول (جتتته) وبعضها (جننته) وفي بعضها بدون إعجام. (*)
[ 263 ]
وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: " الوسواس الخناس " وجهين: أحدهما - أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى. الثاني: أنه الخارج بالوسوسة من اليقين. قوله تعالى: الذي يوسوس في صدور الناس (5) قال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، سلطه الله على ذلك، فذلك قوله تعالى: " الذي يوسوس في صدور الناس ". وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ]. وهذا يصحح ما قاله مقاتل. وروى شهر بن حوشب عن أبي ثعلبة الخشني قال: سألت الله أن يريني الشيطان ومكانه من ابن آدم فرأيته، يداه في يديه، ورجلاه في رجليه، ومشاعبه في جسده، غير أن له خطما كخطم الكلب، فإذا ذكر الله خنس ونكس، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه. فعلى، ما وصف أبو ثعلبة أنه متشعب في الجسد، أي في كل عضو منه شعبة. وروي عن عبد الرحمن بن الاسود أو غيره من التابعين أنه قال - وقد كبر سنه -: ما أمنت الزنى وما يؤمنني أن يدخل الشيطان ذكره فيوتده ! فهذا القول ينبئك أنه متشعب في الجسد، وهذا معنى قول مقاتل. ووسوسته: هو الدعاء لطاعته بكلام خفي، يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت. قوله تعالى: من الجنة والناس (6) أخبر أن الموسوس قد يكون من الناس. قال الحسن: هما شيطانان، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الانس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الانس شياطين، فتعوذ بالله من شياطين الانس والجن. وروي عن أبي ذر أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من شياطين الانس ؟ فقال: أو من الانس شياطين ؟ قال: نعم، لقوله تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين (1) الانس والجن " [ الانعام: 112 ]... الآية. وذهب قوم إلى أن الناس هنا يراد به الجن. سموا ناسا كما سموا رجالا في قوله: " وأنه كان رجال من (1) آية 112 من سورة الانعام. (*)
[ 264 ]
الانس يعوذون برجال من الجن " (1) [ الجن: 6 ] - وقوما ونفرا (2). فعلى هذا يكون " والناس " عطفا على " الجنة "، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. وذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث: جاء قوم من الجن فوقفوا. فقيل: من أنتم ؟ فقالوا: ناس من الجن. وهو معنى قول الفراء. وقيل: الوسواس هو الشيطان. وقوله: " من الجنة " بيان أنه من الجن " والناس " معطوف على الوسواس. والمعنى: قل أعوذ برب الناس من شر الوسواس، الذي هو من الجنة، ومن شر الناس. فعلى هذا أمر بأن يستعيذ من شر الانس والجن. والجنة: جمع جني، كما يقال: إنس وإنسي. والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الناس. فعلى هذا يكون " في صدور الناس " عاما في الجميع. و " من الجنة والناس " بيان لما يوسوس في صدره. وقيل: معنى " من شر الوسواس " أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إن الله عزوجل تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ]. رواه أبو هريرة، أخرجه مسلم. فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك. (1) آية 6 سورة الجن. (2) وذلك في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن...) آية 29 سورة الاحقاف. (*) خاتم المطبع بحمد لله وتوفيقه، تمت هذه الطبعة الثانية لتفسير الامام القرطبي، بمطبعة دار الكتب والناس " بيان لما يوسوس في صدره. وقيل: معنى " من شر الوسواس " أي الوسوسة التي تكون من الجنة والناس، وهو حديث النفس. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إن الله عزوجل تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به ]. رواه أبو هريرة، أخرجه مسلم. فالله تعالى أعلم بالمراد من ذلك. (1) آية 6 سورة الجن. (2) وذلك في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن...) آية 29 سورة الاحقاف. (*) خاتم المطبع بحمد لله وتوفيقه، تمت هذه الطبعة الثانية لتفسير الامام القرطبي، بمطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، في غرة شهر ذي الحجة من سنة 1386 ه‍ - الموافق 12 من مارس سنة 1967 م، وذلك‌في عهد الثورة الاشتراكية المباركة، رغبة من رئيسها العظيم السيد / جمال عبد الناصر، ورجال حكومته المخلصين لدينهم وعروبتهم، وثقافتهم الاسلامية، في إذاعة الثقافة الدينية العالية والثقافة العربية، فى جميع الافاق العربية والاسلامية. وقد زادت الدار من عنايتها فى هذه الطبعة من تفسير القرطبي، فحرصت على أن تراجع المطبوعة الحديثية على جميع الاصول المخطوطة القديمة، وعلى ما عثر عليه حديثا منها، ولذلك جاءت هذه الطبعة أوفى تدقيقا وتحقيقا، وأكثر ضبطاغ وتيسيرا، من الطبعات التي سبقتها. والله تعالى يوفق الدار إلى المزيد من إخراج الاصول المهمة فى الدين واللغة والادب فى عهد هذه الثورة المباركة التي يقودها الرئيس المفدى السيد / جمال عبد الناصر، إنه مجيب الدعاء. مصطفى السقا الاستاذ بجامعة القاهرة بحمد الله وعونه، تم طبع الجزء العشرين وهو الاخير، من كتاب " الجامع لاحكام القرآن لابي عبدالله محمد بن أحمد بن فرج الانصاري القرطبي "