تفسير القرطبي
القرطبي ج 18
[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الثامن عشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحشر مدنية في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الحشر لم يبق شئ من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والارض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له. فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا). خرجه الثعلبي. وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ آخر سورة (1) الحشر " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " [ الحشر: 21 ] - إلى آخرها - فمات من ليلته مات شهيدا). وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به (2) سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك). قال: حديث حسن غريب. قوله تعالى: سبح لله ما في السموت وما في الارض وهو العزيز الحكيم 1 تقدم. (3) قوله تعالى: هو الذى اخرج الذين كفروا من أهل الكتب من ديرهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم (1) في أ، ح: " من قرأ سورة الحشر... ". وفى ه: " من قرأ آخر الحشر... ". (2) كلمة " به " ساقطة من ه. (3) راجع ج 17 ص 235. (*)
[ 2 ]
حصونهم من الله فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولى الابصر 2 قوله تعالى: (هو الذى اخرج الذين كفروا من اهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم) قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر ؟ قال: قل سورة النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما نص الله عليه. الثانية - قوله تعالى: (لاول الحشر) الحشر الجمع، وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر) قال الزهري: كانوا من سبط (1) لم يصبهم جلاء، وكان الله عزوجل قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا (2) وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (اخرجوا) قالوا إلى أين ؟ قال: (إلى أرض المحشر). قال قتادة: هذا أول المحشر. قال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره. وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى " لاول الحشر " إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات. وقيل تيماء وأريحاء، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم. وأما الحشر الثاني: (1) السبط: ولد الولد. والسبط من اليهود: كالقبيلة من العرب. (2) مابين المربعين ساقط من ه. (*)
[ 3 ]
فحشرهم قرب القيامة. قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. وهذا ثابت في الصحيح، وقد ذكرناه في (كتاب التذكرة). ونحوه روى ابن وهب عن مالك قال: قلت لمالك هو جلاؤهم من ديارهم ؟ فقال لي: الحشر يوم القيامة حشر اليهود. قال: وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه، فاستحلهم بذلك. قال ابن العربي: للحشر أول ووسط وآخر، فالاول إجلاء بني النضير، والاوسط إجلاء خيبر، والآخر حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة. وخالفه بقية المفسرين وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا. حكاه الثعلبي. الثالثة - قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شئ لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في أول الاسلام ثم نسخ. والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. قوله تعالى: (ما ظننتم ان يخرجوا) يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين، واجتماع كلمتهم. (1) (وظنوا انهم مانعتهم حصونهم) قيل: هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة. (من الله) أي من أمره. وكانوا أهل حلقة - أي سلاح - كثير - وحصون منيعة، فلم يمنعهم شئ منها. (فأتاهم الله) أي أمره وعذابه. (من حيث لم يحتسبوا) أي لم يظنوا. وقيل: من حيث لم يعلموا. وقيل: " من حيث لم يحتسبوا " بقتل كعب بن الاشرف، قاله ابن جريج والسدي وأبو صالح. قوله تعالى: (وقذف في قلوبهم الرعب) بقتل سيدهم كعب بن الاشرف، وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب ابن الاشرف من الرضاعة - وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر) فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير. وهذه خصيصى لمحمد صلى الله عليه وسلم دون غيره. (1) ما بين المربعين ساقط من ه. (*)
[ 4 ]
قوله تعالى: (يخربون بيوتهم) قراءة العامة بالتخفيف من أخرب، أي يهدمون. وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو " يخربون " بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد لان الاخراب ترك الشئ خرابا بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم، يؤيده قوله تعالى: " بأيديهم وأيدي المؤمنين ". وقال آخرون: التخريب والاخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التكثير. وحكى سيبويه: أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان، نحو أخربته (1) وخربته وأفرحته وفرحته. واختار أبو عبيد وأبو حاتم الاولى. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنسوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت (2) في التوراة، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الاشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الانصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتائب، فقال لهم: اخرجوا من المدينة. فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدس إليهم عبد الله ابن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الازقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح، فأبى عليهم إلا الجلاء، على ما يأتي بيانه. وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الابل، كانوا يستحسنون الخشبة والعمود (3) فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضا: كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وقال ابن عباس: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها، ويرموا (1) في ه: " أحزنته وحزنته ". (2) في ح، ه: " الذى بعث الله في الثوراة ". (3) في: ه: " أو العمود " بزيادة لفظ " أو ". (*)
[ 5 ]
بالتي أخرجوا منها المسلمين. وقيل: ليسدوا بها أزقتهم. وقال عكرمة " بأيديهم " في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. وب " أيدي المؤمنين " في إخراب (1) ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها " فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج. وقيل: " يخربون بيوتهم " بنقض المواعدة " وأيدي المؤمنين " بالمقاتلة، قاله الزهري أيضا. وقال أبو عمرو بن العلاء " بأيديهم " في تركهم لها. وب " أيدي المؤمنين " في إجلائهم عنها. قال ابن العربي التناول للافساد إذا كان باليد كان حقيقة، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا، إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء. قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولى الابصار) أي أتعظوا يا أصحاب العقول والالباب. وقيل: يا من عاين ذلك ببصره، فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها. ومن وجوهه: أنه سلط عليهم من كان ينصرهم. ومن وجوهه أيضا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه. وفي الامثال الصحيحة: " السعيد من وعظ بغيره ". قوله تعالى: ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار (3) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب (4) قوله تعالى: (ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء) أي لو لا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن. (لعذبهم في الدنيا) أي بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والاخراج وإن كان معناهما في الابعاد واحدا من وجهين: أحدهما - أن الجلاء ما كان مع الاهل والولد، والاخراج قد يكون مع بقاء (1) مابين المربعين ساقط من ه. (*)
[ 6 ]
الاهل والولد. الثاني - أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والاخراج يكون لواحد ولجماعة، قاله الماوردي. قوله تعالى: (ذلك) أي ذلك الجلاء (بأنهم شاقوا الله) أي عادوه وخالفوا أمره. (ومن يشاق الله) قرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميقع " ومن يشاقق الله " بإظهار التضعيف كالتي في " الانفال " (1)، وأدغم الباقون. قوله تعالى: ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة) " ما " في محل نصب ب " قطعتم "، كأنه قال: أي شئ قطعتم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك، فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره، إما لاضعافهم بها و (2) إما لسعة المكان بقطعها. فشق ذلك عليهم فقالوا - وهم يهود أهل الكتاب -: يا محمد، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع الخل وحرق الشجر ؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الارض ؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ووجد المؤمنون (3) في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: أقطعوا لنغيظهم بذلك. فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الاثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله. وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك: (1) راجع ج 7 ص 379. (2) في ح، ه: " أو لسعة ". (3) في ح، س، ه: " المسلمون ". (*)
[ 7 ]
ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم * على عهد موسى ولم نصدف وأنتم رعاء لشاء عجاف * بسهل تهامة والاخيف ترون الرعاية مجدا لكم * لدى كل دهر لكم مجحف فيأيها الشاهدون انتهوا * عن الظلم والمنطق المؤنف لعل الليالي وصرف الدهور * يدلن من العادل المنصف بقتل النضير وإجلائها (1) * وعقر النخيل ولم تقطف فأجابه حسان بن ثابت: تفاقد (2) معشر نصروا قريشا * وليس لهم ببلدتهم نصير همو أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم عمي عن التوراة بور كفرتم بالقران وقد أبيتم (3) * بتصديق الذي قال النذير وهان على سراة بني لوي * حريق بالبويرة مستطير فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها (4) السعير ستعلم أينا منها بنزه * ونعلم أي أرضينا تصير فلو كان النخيل بها ركابا * لقالوا لا مقام لكم فسيروا الثانية - كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الاول أول السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودس عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن (1) في سيرة ابن هشام: " وأحلافها ". (2) في سيرة ابن هشام: " تعاهد ". (3) في السيرة: " أتيتم ". (4) في السيرة: " في طرائقها ". (*)
[ 8 ]
دمائهم ويجليهم، على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم، كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع. فدانت لهم خيبر. الثالثة: ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق. ولها يقول حسان: وهان على سراة بني لوي * حريق بالبويرة مستطير وفي ذلك نزلت: " ما قطعتم من لينة " الآية. واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين: الاول - أن ذلك جائز، قال في المدونة. الثاني - إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن يئسوا فعلوا، قاله مالك في الواضحة. وعليه يناظر أصحاب الشافعي. ابن العربي: والصحيح الاول. وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني النضير له، ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها. وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا، مقصودة عقلا. الرابعة - قال الماوردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري قال: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذأ باطل، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه، أخذا بعموم الاذية للكفار، ودخولا في الاذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى: " وليجزي الفاسقين ". الخامسة: اختلف في اللينة ما هي، على أقوال عشرة: الاول - النخل كله إلا العجوة، قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل. وعن ابن عباس ومجاهد
[ 9 ]
والحسن: أنها النخل كله، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها. وعن ابن عباس أيضا: أنها لون من النخل. وعن الثوري: أنها كرام النخل. وعن أبي عبيدة: أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني (1). وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة. وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة. والعتيق: الفحل. وكانت العجوة أصل الاناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها، حكاه الماوردي. وقيل: هي ضرب من النخل يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس، النخلة منها أحب إليهم من وصيف (2). وقيل: هي النخلة القريبة من الارض. وأنشد الاخفش. قد شجاني الحمام حين تغنى * بفراق الاحباب من فوق لينه وقيل: إن اللينة الفسيلة، لانها ألين من النخلة. ومنه قول الشاعر: غرسوا لينها بمجرى معين * ثم حفوا النخيل بالآجام (3) وقيل: إن اللينة الاشجار كلها للينها بالحياة، قال ذو الرمة: طراق الخوافي واقع فوق لينة * ندى ليله في ريشه يترقرق والقول العاشر - أنها الدقل، قاله الاصمعي. قال: وأهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد الالوان، يعنون الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين: أحدهما - أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. الثاني - أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة يصححونه، فإن اللينة وزنها لونة، واعتلت على أصولهم فالت إلى لينة فهى لون، فإذا دخلت الهاء كسر أولها، كبرك الصدر (بفتح الباء) وبركه (بكسرها) لاجل الهاء. وقيل لينة أصلها لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وجمع اللينة لين. وقيل: ليان، قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه: وسالفة كسحوق الليا * ن أضرم فيها الغوي السعر (1) (البرنى بفتح فسكون): ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء، عذب الحلاوة. (2) الوصيف: الخادم، غلاما كان أو جارية. (3) في ح، س، ه: " بالاكمام ". (*)
[ 10 ]
وقال الاخفش: إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين. المهدوي: واختلف في اشتقاقها، فقيل: هي من اللون وأصلها لونة. وقيل أصلها لينة من لان يلين. وقرأ عبد الله " ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها " أي قائمة على سوقها. وقرأ الاعمش " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها " المعنى لم تقطعوها. وقرئ " قوماء على أصلها ". وفيه وجهان: أحدهما - أنه جمع أصل، كرهن ورهن. والثاني - اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ " قائما على أصوله " ذهابا إلى لفظ " ما ". " فبإذن الله " أي بأمره " وليخزي الفاسقين " أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه. قوله تعالى: وما أفاء الله على رسوله منهم فما أو جفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير 6 ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وماءاتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب 7 قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم) هذه الآية والتي بعدها إلى قوله " شديد العقاب " (1) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وما أفاء الله " يعني ما رده الله تعالى " على رسوله " من أموال بني النضير. " فما أوجفتم عليه " أوضعتم عليه. والايجاف: الايضاع في السير وهو الاسراع، يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي حركته وأتعبته، ومنه قول تميم بن مقبل: مذاويد بالبيض الحديث صقالها * عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا والركاب الابل، واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا (1) ما بين المربعين ساقط من ح، س. (*)
[ 11 ]
ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء. فمشوا إليها مشيا ولم يركبوا خيلا ولا إبلا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا وقيل حمارا مخطوما بليف، فافتتحها صلحا وأجلاهم وأخذ أموالهم. فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه " الآية. فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين. قال الواقدي: ورواه ابن وهب عن مالك، ولم يعط الانصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين، منهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقيل: إنما أعطى رجلين، سهلا وأبا دجانة. ويقال: أعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، وكان سيفا له ذكر عندهم. ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: سفيان ابن عمير، وسعد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها. وفي صحيح مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع (1) والسلاح عدة في سبيل الله تعالى. وقال العباس لعمر - رضي الله عنهما -: اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن - يعني عليا رضي الله عنه - فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير. فقال عمر: أتعلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركناه صدقة) قالا نعم. قال عمر: إن الله عزوجل كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة ولم يخصص بها أحدا غيره. قال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول " (ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا) فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال... الحديث بطوله، خرجه مسلم. وقيل: لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم فيها حظ كالغنائم، فبين الله تعالى أنها فئ وكان قد جرى ثم بعض القتال، لانهم حوصروا أياما وقاتلوا وقتلوا، (1) قوله " في الكراع ": في الدواب التى تصلح للحرب. (*)
[ 12 ]
ثم صالحوا على الجلاء. ولم يكن قتال على التحقيق، بل جرى مبادئ القتال وجرى الحصار، وخص الله تلك الاموال برسوله صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: اعلمهم الله تعالى وذكرهم أنه إنما نصر رسول صلى الله عليه وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة. (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء) أي من أعدائه. وفي هذا بيان أن تلك الاموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه. الثانية - قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) قال ابن عباس: هي قريظة والنضير، وهما بالمدينة وفدك، وهي على ثلاثة أيام من المدينة وخيبر. وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله. وبين أن في ذلك المال الذي خصه بالرسول عليه السلام سهمانا لغير الرسول نظرا منه لعباده. وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الانفال، فقال قوم من العلماء: إن قوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " منسوخ بما في سورة الانفال من كون الخمس لمن سمي له، والاخماس الاربعة لمن قاتل. وكان في أول الاسلام تقسم الغنيمة على هذه الاصناف ولا يكون لمن قاتل عليها شئ. وهذا قول يزيد بن رومان وقتادة وغيرهما. ونحوه عن مالك. وقال قوم: إنما غنم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئا والاولى للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين. وقال معمر: الاولى: للنبي صلى الله عليه وسلم. والثانية: هي الجزية والخراج للاصناف المذكورة فيه. والثالثة: الغنيمة في سورة الانفال للغانمين. وقال قوم منهم الشافعي: إن معنى الآيتين واحد، أي ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهم، أربعة منها للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان الخمس الباقي على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وسهم لذوي القربى - وهم بنو هاشم وبنو المطلب - لانهم منعوا الصدقة فجعل لهم حق في الفئ. وسهم لليتامى. وسهم للمساكين. وسهم لابن السبيل، وأما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي كان من الفئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي في قول إلى المجاهدين المترصدين للقتال في الثغور، لانهم القائمون
[ 13 ]
مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي قول آخر له: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الانهار وبناء القناطر، يقدم الاهم فالاهم، وهذا في أربعة أخماس الفئ. فأما السهم الذي كان له من خمس الفئ والغنيمة فهو لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليس لي من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم). وقد مضى القول فيه في سورة " الانفال " (1). وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة يصرف عنه إلى مصالح المسلمين، كما قال عليه السلام: (إنا لا نورث ما تركناه صدقة). وقيل: كان مال الفئ لنبيه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: " ما أفاء الله رسوله " فأضافه إليه، غير أنه كان لا يتأثل (2) مالا، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيا ت، أما الآية الاولى فهي قوله: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر " [ الحشر: 2 ] ثم قال تعالى: " وما أفاء الله على رسوله منهم " يعني من أهل الكتاب معطوفا عليهم. (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) يريد كما بينا، فلا حق لكم فيه، ولذلك قال عمر: إنها كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني بني النضير وما كان مثلها. فهذه آية واحدة ومعنى متحد. الآية الثانية: قوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول " وهذا كلام مبتدأ غير الاول لمستحق غير الاول. وسمى الآية الثالثة آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق ثان لمستحق آخر، بيد أن الآية الاولى والثانية، اشتركتا في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الاولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الانفال أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من هاهنا، فمن طائفة قالت: هي ملحقة بالاولى، وهو مال الصلح كله ونحوه. (1) راجع ج 8 ص 11. (2) المتأثل: الجامع.
[ 14 ]
ومن طائفة قالت: هي ملحقة بالثانية وهي آية الانفال. والذين قالوا أنها ملحقة بآية الانفال اختلفوا، هل هي منسوخة - كما تقدم - أو محكمة ؟ وإلحاقها بشهادة الله بالتي قبلها (1) أولى، لان فيه تجديد فائدة ومعنى. ومعلوم أن حمل الحرف من الآية فضلا عن الآية على فائدة متجددة أولى من حمله على فائدة معادة. وروى ابن وهب عن مالك في قوله تعالى: " فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " بني النضير (2)، لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الانصار، حسب ما تقدم. وقوله " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " هي قريظة، وكانت قريظة والخندق في يوم واحد. قال ابن العربي: قول مالك إن الآية الثانية في بني قريظة، إشارة إلى أن معناها يعود إلى آية الانفال، ويلحقها النسخ. وهذا أقوى (3) من القول بالاحكام. ونحن لا نختار إلا ما قسمنا وبينا أن الآية الثانية لها معنى مجدد حسب ما دللنا عليه. والله اعلم. قلت - ما اختاره حسن. وقد قيل إن سورة " الحشر " نزلت بعد الانفال، فمن المحال أن ينسخ المتقدم المتأخر. وقال ابن أبي نجيح: المال ثلاثة: مغنم، أو فئ، أو صدقة، وليس منه درهم إلا وقد بين الله موضعه. وهذا أشبه. الثالثة - الاموال التي للائمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم، كالصدقات والزكوات. والثاني - الغنائم، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث: الفئ، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الاسلام ولا وارث له. فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها، حسب ما ذكره الله تعالى، وقد مضى في " براءة " (4). وأما الغنائم فكانت (1) في المطبوعة: " بشهادة الله بالاولى أولى ". (2) في ز، ل: " هي النضير ". (3) في ح، ز، س، ط، ه: " وهو أقوى منا من القول... ". (4) راجع ج 8 ص 67. (*)
[ 15 ]
في صدر الاسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة " الانفال ": " قل الانفال لله والرسول " [ الانفال: 1 ]، ثم نسخ بقوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شئ " [ الانفال: 41 ] الآية. وقد مضى في الانفال بيانه (1). فأما الفئ فقسمته وقسمة الخمس سواء. والامر عند مالك فيهما إلى الامام، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس، وسوى فيه بين عربيهم ومولاهم. ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطوا ذوو القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفئ سهمهم على ما يراه الامام، وليس له حد معلوم. واختلف في إعطاء الغني منهم، فأكثر الناس على إعطائه لانه حق لهم. وقال مالك: لا يعطي منه غير فقرائهم، لانه جعل لهم عوضا من الصدقة. وقال الشافعي: أيما حصل من أموال الكفار من غير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على خمسة وعشرين سهما: عشرون للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء. والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة. قال أبو جعفر أحمد ابن الداودي: وهذا قول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصا له، كما ثبت في الصحيح عن عمر مبينا للآية. ولو كان هذا لكان قوله: " خالصة لك من دون المؤمنين " (2) [ الاحزاب: 50 ] يدل على أنه يجوز الموهبة لغيره، وأن قوله: " خالصة يوم القيامة " (3) [ الاعراف: 32 ] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم. وقد مضى قول الشافعي مستوعبا في ذلك والحمد لله. ومذهب الشافعي رضي الله عنه: أن سبيل خمس الفئ سبيل خمس الغنيمة، وأن أربعه أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي بعده لمصالح المسلمين. وله قول آخر: أنها بعده للمرصدين أنفسهم للقتال بعده خاصة، كما تقدم. الرابعة - قال علماؤنا: ويقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الاقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينتقل ذلك إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أعوام الرمادة، وكانت خمسة أعوام أو ستة. وقد قيل عامين. وقيل: (1) راجع ج 8 ص 9 (2) راجع ج 14 ص 205. (3) راجع ج 7 ص 195. (*)
[ 16 ]
عام فيه اشتد الطاعون مع الجوع. وإن لم يكن ما وصفنا ورأى الامام إيقاف الفئ أوقفه لنوائب المسلمين، ويعطى منه المنفوس ويبدأ بمن أبوه فقير. والفئ حلال للاغنياء. ويسوى بين الناس فيه إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة. والتفضيل فيه إنما يكون على قدر الحاجة. ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم. ويعطي منه الجائزة والصلة إن كان ذلك أهلا، ويرزق القضاء والحكام ومن فيه منفعة للمسلمين. وأولاهم بتوفر الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعا. ومن أخذ من الفئ شيئا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا غزي. الخامسة - قوله تعالى: " كي لا يكون دولة " قراءة العامة " يكون " بالياء. " دولة " بالنصب، أي كي لا يكون الفئ دولة وقرأ أبو جعفر والاعرج وهشام - عن ابن عامر - وأبو حيوة " تكون " بتاء " دولة " بالرفع، أي كي لا تقع دولة. فكان تامة. و " دولة " رفع على اسم كان ولا خبر له. ويجوز أن تكون ناقصة وخبرها " بين الاغنياء منكم ". وإذا كانت تامة فقوله: " بين الاغنياء منكم " متعلق ب " دولة " على معنى تداول بين الاغنياء منكم. ويجوز أن يكون " بين الاغنياء منكم " وصفا ل " دولة ". وقراءة العامة " دولة " بضم الدال. وقرأها السلمي وأبو حيوة بالنصب. قال عيسى بن عمر ويونس والاصمعي: هما لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة (بالفتح) الظفر في الحرب وغيره، وهي المصدر. وبالضم اسم الشئ الذي يتداول من الاموال. وكذا قال أبو عبيدة: الدولة اسم الشئ الذي يتداول. والدولة الفعل. ومعنى الآية: فعلنا ذلك في هذا الفئ، كي لا تقسمه الرؤساء والاغنياء والاقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لان أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع. ثم يصطفي منها أيضا بعد المرباع ما شاء، وفيها قال الشاعرهم: * لك المرباع منها والصفايا (1) * (1) البيت بتمامه: لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفضول وهو لعبدالله بن عنمة الضبى يخاطب بسطام بن قيس. والنشيطة ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحى. والفضول: ما فضل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة كالبعير والفرس ونحوهما. (*)
[ 17 ]
يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية. فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم، يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا جاء خمس وقع بين المسلمين جميعا. السادسة - قوله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الاخذ والغلول (1) فانتهوا، قاله الحسن وغيره. السدي: ما أعطاكم من مال الفئ فأقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه. وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. الماوردي: وقيل إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه، لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد. قلت: هذا هو معنى القول الذي قبله. فهي ثلاثة أقوال. السابعة - قال المهدوي: قوله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى. والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها. وقال الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه يسير على من اتبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن قال الله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا "). الثامنة - قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: أتقرأ علي بهذا آية من كتاب الله تعالى ؟ قال: نعم، " وما آتاكم الرسول فخذوة وما نهاكم عنه فانتهوا ". وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، قال فقلت له ما تقول - أصلحك الله - في المحرم يقتل الزنبور ؟ قال فقال: (1) الغلول: الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة. (*)
[ 18 ]
بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ". وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر). حدثنا سفيان ابن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أمر بقتل الزنبور. قال علماؤنا: وهذا جواب في نهاية الحسن، أفتى بجواز قتل الزنبور في الاحرام، وبين أنه يقتدي فيه بعمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسنة. وقد مضى هذا المعنى من قول عكرمة حين سئل عن أمهات الاولاد فقال: هن أحرار في سورة " النساء " عند قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم " (1) [ النساء: 59 ]. وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات (2) والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) فبلغ ذلك أمرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت ! فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ! أما قرأت " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ! قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه.. الحديث. وقد مضى القول فيه في " النساء " (1) مستوفي. التاسعة - قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) وإن جاء بلفظ الايتاء وهو المناولة فإن معناه الامر، بدليل قوله تعالى: " وما نهاكم عنه فانتهوا " فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالامر، والدليل على فهم ذلك ما ذكرناه قبل مع قوله عليه الصلاة السلام: (إذا (1) راجع ج 5 ص 259 وص 392. (2) المتنمصات: (جمع متنمصة) وهى التى تنتف الشعر من وجهها. والمتفلجات: (جمع متفلجة) وهى التى تتكلف أن تفرق بين منها من الثنايا والرباعيات. (*)
[ 19 ]
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه). وقال الكلبي: إنها نزلت في رؤساء المسلمين، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال، المشركين: يا رسول الله، خذ صفيك والربع، ودعنا والباقي، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية. وأنشدوه: لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفضول فأنزل الله تعالى هذه الآية. العاشرة - قوله تعالى: (واتقوا الله) أي عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه. وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه فلا تضيعوها. (إن الله شديد العقاب) لمن خالف ما أمره به. قوله تعالى: للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديرهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضونا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصدقون 8 أي الفئ والغنائم " للفقراء المهاجرين ". وقيل: " كي لا يكون دولة بين الاغنياء " ولكن يكون " للفقراء ". وقيل: هو بيان لقوله: " ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " فلما ذكروا بأصنافهم قيل المال لهؤلاء، لانهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم، فهم أحق الناس به. وقيل: " ولكن الله يسلط رسله على من يشاء " للفقراء المهاجرين لكيلا يكون المال دولة للاغنياء من بني الدنيا. وقيل: والله شديد العقاب للمهاجرين، أي شديد العقاب للكفار بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم. ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: " ولذي القربى واليتامى ". وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان لفلان. والمهاجرون هنا: من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبا فيه ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والاموال والاهلين والاوطان حبا لله ولرسوله، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء
[ 20 ]
ماله دثار غيرها. وقال عبد الرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير: كان ناس من المهاجرين لاحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو فنسبهم الله إلى الفقر وجعل لهم سهما في الزكاة. ومعنى " أخرجوا من ديارهم " أي أخرجهم كفار مكة، أي أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل. (يبتغون) يطلبون. (فضلا من الله) أي غنيمة في الدنيا (ورضوانا) في الآخرة، أي مرضاة ربهم. (وينصرون الله ورسوله) في الجهاد في سبيل الله. (أولئك هم الصادقون) في فعلهم ذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية (1) فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبى بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تعالى جعلني له خازنا وقاسما. ألا وإني باد بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الاولين، أنا وأصحابي اخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا. قوله تعالى: والذين تبوءو الدار والايمن من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 9 فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم) لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الانصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. " والايمان " نصب بفعل غير تبوأ، لان التبوء إنما يكون في الاماكن. و " من قبلهم " " من " صلة تبوأ والمعنى: والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الايمان وأخلصوه، لان الايمان (1) بلدة دمشق. (*)
[ 21 ]
ليس بمكان يتبوأ، كقوله تعالى: " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " (1) [ يونس: 71 ] أي وادعوا شركاءكم، ذكره أبو علي والزمخشري وغيرهما. ويكون من باب قوله: علفتها تبنا وماء باردا. ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوءوا الدار ومواضع الايمان. ويجوز حمله على ما دل عليه تبوأ، كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الايمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون تبوأ الايمان على طريق المثل، كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم. والتبوء: التمكن والاستقرار. وليس يريد أن الانصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. الثانية - واختلف أيضا هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة، فتأول قوم أنها معطوفة على قوله: " " للفقراء المهاجرين " وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه، لان الله تعالى يقول: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا " إلى قوله " الفاسقين " [ الحشر: 2 - 5 ] فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع. ثم قال: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء " فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، لانه لم يوجف عليه حين خلوه. وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الامر. ثم قال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " وهذا كلام غير معطوف على الاول. وكذا " والذين تبوءوا الدار والايمان " ابتداء كلام في مدح الانصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفئ للمهاجرين، وكأنه قال، الفئ للفقراء المهاجرين، والانصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفئ. وكذا " والذين جاءوا من بعدهم " [ الحشر: 10 ] ابتداء كلام، والخبر " يقولون ربنا اغفر لنا " [ الحشر: 10 ]. وقال إسماعيل ابن إسحاق: إن قوله " والذين تبوءوا الدار " " والذين جاءوا معطوف على ما قبل، وأنهم (1) راجع ج 8 ص 362. (*)
[ 22 ]
شركاء في الفئ، أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوءوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية " إنما الصدقات للفقراء " [ التوبة: 60 ] فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ " ما أفاء الله على رسوله - حتى بلغ - للفقراء المهاجرين "، " والذين تبوءوا الدار والايمان "، " والذين جاءوا من بعدهم " ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير (1) نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والانصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الامر وتدبروه ثم أغدوا علي. ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت. فلما غدوا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة " الحشر " وتلا " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى - إلى قوله - للفقراء المهاجرين " فلما بلغ قوله: " أولئك هم الصادقون " [ الحجرات: 15 ] قال: ما هي لهؤلاء فقط. وتلا قوله: " والذين جاءوا من بعدهم - إلى قوله - رءوف رحيم " [ الحشر: 10 ] ثم قال: ما بقي أحد من أهل الاسلام إلا وقد دخل في ذلك. والله اعلم. الثالثة - روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة: أن عمر أبقى سواد (2) العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم، لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة والذراري، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم، فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك، فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش، فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين قلة. ومن أبى أعطاه ثمن حظه. فمن قال: إنما أبقى الارض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، لانه قسم خيبر، لان اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها. وقيل: إنه أبقاها بغير شئ أعطاه أهل الجيوش. وقيل: إنه (1) سرو حمير: منازل حمير بأرض اليمن. والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل. (2) سواد البلدة: ما حولها من الريف والقرى. (*)
[ 23 ]
تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: " للفقراء المهاجرين - إلى قوله - ربنا إنك رءوف رحيم " على ما تقدم. والله اعلم. (1) الرابعة - واختلف العلماء في قسمة العقار، فقال مالك: للامام أن يوقفها لمصالح المسلمين. وقال أبو حنيفة: الامام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفا لمصالح المسلمين. وقال الشافعي: ليس للامام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الاموال. فمن طاب نفسا عن حقه للامام أن يجعله وقفا عليهم فله. ومن لم تطب نفسه فهو أحق بمال. وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم. قلت: وعلى هذا يكون (2) قوله: " والذين جاءوا من بعدهم " [ الحشر: 10 ] مقطوعا مما قبله، وانهم ندبوا بالدعاء للاولين والثناء عليهم. الخامسة - قال ابن وهب: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إن المدينة تبوئت بالايمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ " والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " الآية. وقد مضى الكلام في هذا، وفي فضل الصلاة في المسجدين: المسجد الحرام ومسجد المدينة، فلا معنى للاعادة. السادسة - قوله تعالى: (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفئ وغيره، كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين، المعنى مس حاجة من فقد ما أوتوا. وكل ما يجد الانسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الانصار، فلما غنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الانصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم. ثم قال: (إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم). فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الانصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله (1) جملة " والله أعلم " ساقطة من س. (2) في ح، س: " وعلى هذا يجى ". (*)
[ 24 ]
صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم الانصار وأبناء الانصار). وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الانصار شيئا إلا الثلاثة الذين ذكرناهم (1). ويحتمل أن يريد به " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " إذا كان قليلا بل يقنعون به ويرضون عنه. وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا. وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). السابعة - قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه مسلم أيضا. وخرج عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الاخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله ؟ فقام رجل من الانصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شئ ؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم (2) بشئ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قد عجب (3) الله - عزوجل - من صنيعكما بضيفكما الليلة). وفي رواية عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال: (ألا رجل يضيف هذا رحمه الله) ؟ فقام رجل من الانصار يقال له أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله...، وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل (1) راجع ص 11 من هذا الجزء. (2) علله بكذا: شغله ولهاه به. (3) أي عظم ذلك عنده وكبر عليه، وإطلاق العجب على الله مجاز، لانه لا يخفى عليه أسباب الاشياء. (*)
[ 25 ]
من الانصار - نزل به ثابت - يقال له أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه. وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الانصار - يقال له أبو المتوكل - ثابت بن قيس ضيفا، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج ونومي الصبية، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة - إلى قوله - فأولئك هم المفلحون ". وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم: وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم ". ذكره الثعلبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودا فوجه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الاول، فنزلت: " ويؤثرون على أنفسهم " الآية. وقال ابن عباس قال النبي للانصار يوم بني النضير: (إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا) فقالت الانصار: بل نقسم لاخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة، فنزلت " ويؤثرون على أنفسهم " الآية. والاول أصح. وفي الصحيحين عن أنس: أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه. لفظ مسلم. وقال الزهري عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شئ، وكان الانصار أهل الارض والعقار، فقاسمهم الانصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة، وكانت أم أنس بن مالك تدعي أم سليم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، كان أخا لانس لامه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا (1) لها، فأعطاها رسول الله صلى (1) العذاق - بكسر العين جمع عذق بفتحها - ومعناها النخلات. (*)
[ 26 ]
الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، ثم أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الانصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه. خرجه مسلم أيضا. الثامنة - الايثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا، أي خصصته به وفضلته. ومفعول الايثار محذوف، أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها، حسب ما تقدم بيانه. وفي موطأ مالك: " أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن مسكينا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه ؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها (1). فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك. قال علماؤنا: هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجل منه ما يشاء ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه. ومن ترك شيئا لله لم يجد فقده. وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقى شح نفسه وأفلح فلاحا لا خسارة بعده. ومعنى (شاة وكفنها) فإن العرب - أو بعض العرب أو بعض وجوههم - كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غطوه كله بعجين البر وكفنوه به ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شئ إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم. وروى النسائي عن نافع (1) أي أنها كانت ملفوفة بالرغف، وسيأتى معناه بأوضح من هذا. وقولها: " ما كان يهدى لنا " تريد أن عائشة رضى الله عنها لم تعلم بذلك ولم تحتسب به فتتق به وتعول عليه، ولكن الله سبحانه عوضها من حيث لا تحتسب. (شرح الموطا). (*)
[ 27 ]
أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبا، فاشترى له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل، فقال: اعطوه إياه، فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه، فأراد السائل أن يرجع فمنع. ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه، لان ما خرج لله لا يعود فيه. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرف قال: حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تلكأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن ! والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة ! بعضهم من بعض. ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها، وكان عشرة آلاف وكان المنكدر دخل عليها (1). فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. فأما الانصار الذين أثنى الله عليهم بالايثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " (2) [ البقرة: 177 ]. وكان الايثار فيهم أفضل من الامساك. والامساك لمن لا يصبر (1) بعد كلمة " عليها " بياض في ح، ز، س، ه، نبه عليه الناسخ بقوله: بياض في الاصل. (2) راجع ج 2 ص 243. (*)
[ 28 ]
ويتعرض للمسألة أولى من الايثار. وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: (يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس). والله اعلم. التاسعة: - والايثار بالنفس فوق الايثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الامثال السائرة: * والجود بالنفس أقصى غاية الجود (1) * ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حد المحبة: أنها الايثار، ألا ترى أن أمرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام، آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجوة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم. فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله ! لا يصيبونك ! نحري دون نحرك ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شئ من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم فإذا أنا برجل يقول: آه ! آه ! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك ؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه ! آه ! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ! قدم علينا حاجا فقال لي: يابا يزيد، ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا. وإن فقدنا صبرنا. (1) هو من بيت لمسلم بن الوليد، صدره: * تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها * يقول: تجود بنفسك في الحرب إذ أنت الضنين بها في الذم. ويروى: * يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها * (*)
[ 29 ]
فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم ؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا. وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره ؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والايثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الانطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا، إيثارا لصاحبه على نفسه. العاشرة: قوله تعالى (1): " ولو كان بهم خصاصة " الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال. وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالامر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة، أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر: أما الربيع إذا تكون خصاصة * عاش السقيم به وأثرى المقتر الحادية عشرة - قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الشح والبخل سواء، يقال: رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة. قال عمرو بن كلثوم: ترى اللحز الشحيح إذا أمرت * عليه لماله فيها مهينا (2) وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص، تقول: شححت (بالكسر) تشح. وشححت أيضا تشح وتشح. ورجل شحيح، وقوم شحاح وأشحة. والمراد بالآية: الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الارحام والضيافة، وما شا كل ذلك. فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه. وروى الاسود عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت ؟ قال: (1) جملة " قوله تعالى " ساقطة من س. (2) في شرح التبريزي: " اللحز: الضيق البخيل. وقيل: هو السئ الخلق اللثيم. وقوله: إذا أمرت عليه. أي أديرت، والمعنى: أن الخمر إذا كثر دورانها عليه أهان ماله، يقال: فلا مهين لماله، إذا كان سخيا. وفلان معز لماله، إذا كان بخيلا ". (*)
[ 30 ]
وما ذاك ؟ قال: سمعت الله عزوجل يقول: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشئ البخل. ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الانسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادخار الحرام. ابن عيينة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الايمان فذلك الشحيح. ابن زيد: من لم يأخذ شيئا لشئ نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح على أن يمنع شيئا من شئ أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة). وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو (اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووساوسها). وقال أبو الهياج الاسدي: رأيت رجلا في الطواف يدعو: اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك شيئا، فقلت له ؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل. فإذا الرجل عبد الرحمن ابن عوف. قلت: يدل على هذا قول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). وقد بيناه في آخر " آل عمران " (1). وقال كسرى لاصحابه: أي شئ أضر بابن آدم ؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر، لان الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا. (1) راجع ج 4 ص 293. (*)
[ 31 ]
قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخوننا الذين سبقونا بالايمن ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم 10 فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم) يعني التابعين ومن دخل في الاسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والايمان، والذين جاءوا من بعدهم. فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن شمسا، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع فكن كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع. ومعنى هذا: كن مهاجريا. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريا. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد ابن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: يابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقول في عثمان ؟ فقال له: يا أخى أنت من قوم قال الله فيهم: " للفقراء المهاجرين " الآية. قال لا ! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية (1) فأنت من قوم قال الله فيهم: " والذين تبوءوا الدار والايمان " الآية. قال لا قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الاسلام وهي قوله تعالى: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان " الآية. وقد قيل: إن محمد ابن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، روى عن أبيه: أن نفرا من أهل العراق جاءوا إليه، فسبوا أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم عثمان - رضي الله عنه - فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الاولين أنتم ؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوءوا الدار والايمان من (1) ما بين المربعين ساقط من س، ه. (*)
[ 32 ]
قبلهم ؟ فقالوا لا. فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين ! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عزوجل: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم " قوموا، فعل الله بكم وفعل ! ! ذكره النحاس. الثانية - هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة، لانه جعل لمن بعدهم حظا في الفئ ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحدا منهم أو اعتقد فيه شرا إنه لا حق له في الفئ، روي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فئ المسلمين، ثم قرأ " والذين جاءوا من بعدهم " الآية. الثالثة - هذه الآية تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والارض شملا (1) بين المسلمين أجمعين، كما فعل عمر رضي الله عنه، إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس عليه وأن هذه الآية قاضية بذلك، لان الله تعالى أخبر عن الفئ وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والانصار - وهم معلمون - " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ". فهي عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أن رأيت (2) إخواننا) قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك ؟ فقال: (بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض). فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم، لا كما قال السدي والكلبي: إنهم الذين هاجروا بعد ذلك. وعن الحسن أيضا " والذين جاءوا من بعدهم " من قصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة. (1) كذا في الاصول. والمراد جعلها عامة شاملة بين المسلمين. (2) في صحيح مسلم: " أنا قد رأينا... ". (*)
[ 33 ]
الرابعة - قوله تعالى: (يقولون) نصب في موضع الحال، أي قائلين. (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) فيه وجهان: أحدهما - أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الامة من مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة رضي الله عنها فأمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم. الثاني: أمروا أن يستغفروا للسابقين الاولين من المهاجرين والانصار. قال ابن عباس: أمر الله تعالى بالاستغفار لاصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وقالت عائشة: أمرتم بالاستغفار لاصحاب محمد فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تذهب هذه الامة حتى يلعن آخرها أولها) وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعن الله أشركم). وقال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الامة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم. وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا: أصحاب عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم. أعاذنا الله وإياكم من الاهواء المضلة. " ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا " أي حقدا وحسدا (ربنا إنك رءوف رحيم) قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكذبون 11
[ 34 ]
تعجب (1) من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا. ومن جملة المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد. وقيل: رافعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الانصار ولكنهم نافقوا، وقالوا ليهود قريظة والنضير: (لئن أخرجتم لنخرجن معكم). وقيل: هو من قول بني النضير لقريظة. وقوله: (ولا نطيع فيكم أحدا أبدا) يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، لا نطيعه في قتالكم. وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب، لانهم أخرجوا فلم يخرجوا، وقوتلوا فلم ينصروهم، كما قال الله تعالى: (والله يشهد إنهم لكاذبون) أي في قولهم وفعلهم. قوله تعالى: لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبر هم لا ينصرون 12 قوله تعالى: " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار " أي منهزمين. " ثم لا ينصرون " قيل: معنى " لا ينصرونهم " طائعين. " ولئن نصروهم " مكرهين " ليولن الادبار ". وقيل: معنى " لا ينصرونهم " لا يدومون على نصرهم. هذا على أن الضميرين متفقان. وقيل: إنهما مختلفان، والمعنى لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم. " ولئن نصروهم " أي ولئن نصر اليهود المنافقين " ليولن الادبار ". وقيل: " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم " أي علم الله منهم أنهم لا يخرجون إن أخرجوا. " ولئن قوتلوا لا ينصرونهم " أي علم الله منهم ذلك. ثم قال: " ليولن الادبار " فأخبر عما قد أخبر أنه لا يكون كيف كان يكون لو كان ؟ وهو كقوله تعالى: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا (2) عنه " [ الانعام: 28 ]. وقيل: معنى " ولئن نصروهم " أي ولئن شئنا أن ينصروهم زينا ذلك لهم. " ليولن الادبار ". (1) في أ: " عجب ". (2) راجع ج 6 ص 410. (*)
[ 35 ]
قوله تعالى: لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون 13 قوله تعالى: (لانتم) يا معشر المسلمين (أشد رهبة) أي خوفا وخشية (في صدورهم من الله) يعني صدور بني النضير. وقيل: في صدور المنافقين. ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين، أي يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم ذلك الخوف. (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته. قوله تعالى: لا يقتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون 14 قوله تعالى: (لا يقاتلونكم جميعا) يعني اليهود (إلا في قرى محصنة) أي بالحيطان والدور، يظنون أنها تمنعهم منكم. (أو من وراء جدر) أي من خلف حيطان يستترون بها لجبنهم ورهبتهم. وقراءة العامة " جدر " على الجمع، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، لانها نظير قوله تعالى: " في قرى محصنة " وذلك جمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو " جدار " على التوحيد، لان التوحيد يؤدي عن الجمع. وروي عن بعض المكيين " جدر " (بفتح الجيم وإسكان الدال)، وهي لغة في الجدار. ويجوز أن يكون معناه من وراء نخيلهم وشجرهم، يقال: أجدر النخل إذا طلعت رؤوسه في أول الربيع. والجدر: نبت واحدته جدرة. وقرئ " جدر " (بضم الجيم وإسكان الدال) جمع الجدار. ويجوز أن تكون الالف في الواحد كألف كتاب، وفي الجمع كألف ظراف. ومثله ناقة هجان ونوق هجان، لانك تقول في التثنية: هجانان، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى، قاله ابن جني.
[ 36 ]
قوله تعالى: (بأسهم بينهم شديد) يعني عداوة بعضهم لبعض. وقال مجاهد: " بأسهم بينهم شديد " أي بالكلام والوعيد لنفعلن كذا. وقال السدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد. وقيل: " بأسهم بينهم شديد " أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " يعني اليهود والمنافقين، قاله مجاهد. وعنه أيضا يعني المنافقين. الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب. وقال قتادة: " تحسبهم جميعا " أي مجتمعين على أمر ورأي. " وقلوبهم شتى " متفرقة. فأهل الباطل مختلفة آراؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق. وعن مجاهد أيضا: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود، وهذا ليقوي أنفس المؤمنين عليهم. وقال الشاعر: إلى الله أشكو نية شقت العصا * هي اليوم شتى وهي أمس جمع وفي قراءة ابن مسعود " وقلوبهم أشت " يعني أشد تشتيتا، أي أشد اختلافا. (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) أي ذلك التشتيت والكفر بأنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله. قوله تعالى: كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم 15 قال ابن عباس: يعني به قينقاع، أمكن الله منهم قبل بني النضير. وقال قتادة: يعني بني النضير، أمكن الله منهم قبل قريظة. مجاهد: يعني كفار قريش يوم بدر. وقيل: هو عام في كل من انتقم منه على كفره قبل بني الضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى " وبال " جزاء كفرهم. ومن قال: هم بنو قريظة، جعل " وبال أمرهم " نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية. وهو قول الضحاك. ومن قال المراد بنو النضير قال: " وبال أمرهم " الجلاء والنفي. وكان بين النضير وقريظة سنتان. وكانت وقعة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال: " قريبا " وقد قال قوم: غزوة بني النضير بعد وقعة أحد. " ولهم عذاب أليم " (1) في الآخرة. (1) كلمة " أليم " ساقطة من ه. (*)
[ 37 ]
قوله تعالى: كمثل الشيطن إذ قال للانسن اكفر فلما كفر قال إنى برئ منك إنى أخاف الله رب العلمين 16 فكان عقبتهما أنهما في النار خلدين فيها وذلك جزؤا الظلمين 17 قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر) هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف، ولم يقل: وكمثل الشيطان، لان حذف حرف العطف كثير كما تقول: أنت عاقل أنت كريم أنت عالم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الانسان الذي قال له الشيطان اكفر، راهب تركت عنده أمرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفا أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه. ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر خبره مطولا ابن عباس ووهب بن منبه. ولفظهما مختلف. قال ابن عباس في قوله تعالى: " كمثل الشيطان ": كان راهب في الفترة يقال له: برصيصا، قد تعبد في صومعته سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين، حتى أعيا إبليس، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال: ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا ؟ فقال الابيض، وهو صاحب الانبياء، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاء جبريل فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند فذلك قوله تعالى: " ذي قوة عند ذي العرش مكين " (1) [ التكوير: 20 ] فقال: أنا أكفيكه، فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما، ولا يفطر إلا في كل عشره أيام، وكان يواصل العشرة (1) راجع ج 19 ص 238. (*)
[ 38 ]
الايام والعشرين والاكثر، فلما رأى الابيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا من صلاته، رأى الابيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فندم حين لم يجبه، فقال: ما حاجتك ؟ فقال: أن أكون معك، فأتأدب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة، فقال: إني في شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الابيض أيضا على الصلاة، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له: ما حاجتك ؟ فقال: أن تأذن لي فأرتفع إليك. فأذن له فأقام الابيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعين يوما يوما واحدا، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما، وربما مد إلى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه. ثم قال الابيض: عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون، فعلمه إياها. ثم جاء إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. ثم تعرض لرجل فخنقه، ثم قال لاهله - وقد تصور في صورة الآدميين -: إن بصاحبكم جنونا أفأطبه ؟ قالوا نعم. فقال: لا أقوى على جنيته، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الاعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، فجاءوه فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان. ثم جعل الابيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون. فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها. ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت، فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا، قال: فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك فاحتسب فيها. فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية، فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها. وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان فقال: ويحك ! واقعها، فما تجد
[ 39 ]
مثلها ثم تتوب بعد ذلك. فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها. فقال له الشيطان: ويحك ! قد افتضحت. فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح، فإن جاءوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلا، فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب، ورجع برصيصا إلى صلاته. ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال: إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا، فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا: ما فعلت أختنا ؟ فقال: ذهب بها شيطانها، فصدقوه وانصرفوا. ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال: إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف ردائها خارج من التراب، فانطلقوا فوجدوها، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله. فلما صلب قال الشيطان: أتعرفني ؟ قال لا والله قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس فان مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. فقال: كيف أصنع ؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم. قال: وما ذاك ؟ قال تسجد لي سجدة واحدة، فقال: أنا أفعل، فسجد له من دون الله. فقال: يا برصيصا، هذا أردت منك، كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني برئ منك، إني أخاف الله رب العالمين. وقال وهب ابن منبه: إن عابدا كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكرا، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا عند من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم. قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم (1) فقال: أنزلوها في بيت حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا، ينزل إليها الطعام من (1) كذا في الاصول. ولعلها " أطاعهم ". (*)
[ 40 ]
صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها. قال: فلبث بذلك زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والاجر، وقال له: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لاجرك، قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها قال: فلبثت بذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه، وقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة. قال: فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان أنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها، وتخرج الجارية من بيتها، فلبثا زمانا يتحدثان، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها. فلم يزل به حتى فعل. قال: فلبثا زمانا، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل. فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها. فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لاحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها. فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاما، فجاءه إبليس فقال له: أرأيت أن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك ! كيف تصنع ! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك ! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل. فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها
[ 41 ]
وألقاها في الحفيرة مع ابنها، وأطبق عليها صخرة عظيمة، وسوى عليها التراب، وصعد في صومعته يتعبد فيها، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، حتى قفل إخوتها من الغزو، فجاءوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها، وبكى لهم وقال: كانت خير أمة، وهذا قبرها فانظروا إليه. فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها، فكذبه الشيطان وقال: لم يصدقكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعا كما أخبرتكم. قال: وأتى الاوسط في منامه وقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجبا، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى. قال أكبرهم: هذا حلم ليس بشئ، فامضوا بنا ودعوا هذا. قال أصغرهم: لا أمضي حتى أتي ذلك المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا (1) عليه ملكهم، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه. قال: فكفر العابد بالله، فلما كفر خلى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه. قال: ففيه نزلت هذه الآية: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين - إلى قوله - جزاء الظالمين. (1) أي استعانوا به فأنصفهم منه. (*)
[ 42 ]
قال ابن عباس: فضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود. وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي بنى النضير من المدينة، فدس إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون، وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد. فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية (1) والكتمان. وطمع أهل الفسوق والفجور في الاحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أم جريج الراهب، وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس. وقيل: المعنى مثل المنافقين في غدرهم (2) لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني (3) جار لكم " [ الانفال: 48 ] الآية. وقال مجاهد المراد بالانسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم. ومعنى قول تعالى: " إذ قال للانسان اكفر " أي أغواه حتى قال: إني كافر. وليس قول الشيطان: " إنى أخاف الله رب العالمين " حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الانسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: " إني برئ منك " وفتح الياء من " إني " نافع وابن كثير وأبو عمرو. وأسكن الباقون. (فكان عاقبتهما) أي عاقبة الشيطان وذلك الانسان (أنهما في النار خالدين فيها) نصب على الحال. والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان. ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين. ونصب " عاقبتهما " على أنه خبر كان. والاسم " أنهما في النار " وقرأ الحسن " فكان عاقبتهما " بالرفع على الضد من ذلك. وقرأ الاعمش " خالدان فيها " بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر " أن " والظرف ملغي. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا التقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون 18 (1) أي يظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك. (2) في أ: " وعدهم ". (3) راجع ج 8 ص 26. (*)
[ 43 ]
قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله) في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) يعني يوم القيامة. والعرب تكني عن المستقبل بالغد. وقيل: ذكر الغد تنبيها على أن الساعة قريبة، كما قال الشاعر: * وإن غدا للناظرين قريب (1) * وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد. ولا شك أن كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى " ما قدمت " يعني من خير أو شر. (واتقوا الله) أعاد هذا تكريرا، كقولك: اعجل اعجل، ارم ارم. وقيل التقوى الاولى التوبة فيما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. (إن الله خبير بما تعملون) قال سعيد بن جبير: أي بما يكون منكم. والله اعلم. قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنسهم أنفسهم أولئك هم الفسقون 19 قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي تركوا أمره فأنساهم أنفسهم) أن يعلموا لها خيرا، قاله ابن حبان. وقيل: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم، قاله سفيان. وقيل: " نسوا الله " بترك شكره وتعظيمه. " فأنساهم أنفسهم " بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضا، حكاه ابن عيسى. وقال سهل بن عبد الله: " نسوا الله " عند الذنوب " فأنساهم انفسهم " عند التوبة. ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في " أنساهم " إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه الذي تركوه. وقيل: معناه وجدهم تاركين أمره ونهيه، كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا. وقيل: " نسوا الله " في الرخاء (فأنساهم أنفسهم " في الشدائد. (أولئك هم الفاسقون) قال ابن جبير: العاصون. وقال ابن زيد: الكاذبون. وأصل الفسق الخروج، أي الذين خرجوا عن طاعة الله. (1) في فرائد اللال: أن قائل هذا هو فراد بن أجدع للنعمان بن المندز. ولفظ البيت: فإن بك صدر هذا اليوم ولى * فإن غدا لناظره قريب (*)
[ 44 ]
قوله تعالى: لا يستوى أصحب النار وأصحب الجنة أصحب الجنة هم الفائزون 20 قوله تعالى: (لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة) أي في الفضل والرتبة (أصحاب الجنة هم الفائزون) أي المقربون المكرمون. وقيل: الناجون من النار. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في " المائدة " عند قوله تعالى: " قل لا يستوي الخبيث والطيب " (1). [ المائدة: 100 ] وفي سورة " السجدة " عند قوله تعالى: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون " (2) [ السجدة: 18 ]. وفي سورة " ص " " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين (3) كالفجار " [ ص: 28 ] فلا معنى للاعادة، والحمد لله. (4) قوله تعالى: لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثل نضربها للناس لعلهم يتفكرون 21 قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا) حث على تأمل مواعظ القرآن وبين أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي متشققة من خشية الله. والخاشع: الذليل. والمتصدع: المتشقق. وقيل: " خاشعا " لله بما كلفه من طاعته. " متصدعا " من خيشة الله أن يعصيه فيعاقبه. وقيل: هو على وجه المثل للكفار. قوله تعالى: (وتلك الامثال نضربها للناس) أي إنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من (1) راجع ج 6 ص ص 327. (2) راجع ج 14 ص 105. (3) راجع ج 15 ص 101. (4) جملة " والحمد لله " ساقطة من أ. (*)
[ 45 ]
وعيده وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت، وتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتنانا عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. وقيل: إنه خطاب للامة، وأن الله تعالى لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله. والانسان أقل قوة وأكثر ثباتا، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى، لانه موعود بالثواب، ومزجور بالعقاب. قوله تعالى: هو الله الذى لا إله إلا هو علم الغيب والشهدة هو الرحمن الرحيم 22 قوله تعالى: (هو الله الذى لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) قال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل. عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: " الغيب " ما لم يعلم العباد ولا عاينوه. " والشهادة " ما علموا وشاهدوا. (هو الرحمن الرحيم) تقدم (1). قوله تعالى: هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدس السلم المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحن الله عما يشركون 23 قوله تعالى: (هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس) أي المنزه عن كل نقص، والطاهر عن كل عيب. والقدس (بالتحريك): السطل بلغة أهل الحجاز، لانه يتطهر به. ومنه القادوس لواحد الاواني التي يستخرج بها الماء من البئر بالسانية (2). وكان سيبويه يقول: قدوس وسبوح، بفتح أولهما. وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابيا فصيحا يكني أبا الدينار يقرأ " القدوس " بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على (1) راجع ج 1 ص 103. (2) من معنى السانية: الدلو وأدواته. والمراد هنا الادوات إلى يستخرج بها الماء. (*)
[ 46 ]
فعول فهو مفتوح الاول، مثل سفود (1) وكلوب وتنور وسمور وشبوط، إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان. وكذلك الذروح (2) (بالضم) وقد يفتح. (السلام) أي ذو السلامة من النقائص. وقال ابن العربي: اتفق العلماء رحمة الله عليهم على أن معنى قولنا في الله " السلام ": النسبة، تقديره ذو السلامة. ثم اختلفوا في ترجمة النسبة على ثلاثة أقوال: الاول: معناه الذي سلم من كل عيب وبرئ من كل نقصى. الثاني: معناه ذو السلام، أي المسلم على عباده في الجنة، كما قال: " سلام قولا من رب رحيم " [ يس: 58 ]. الثالث: أن معناه الذي سلم الخلق من ظلمه. قلت: وهذا قول الخطابي، وعليه والذي قبله يكون صفة فعل. وعلى أنه البرئ من العيوب والنقائص يكون صفة ذات. وقيل: السلام معناه المسلم لعباده. المؤمن) أي المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب. وقيل: المؤمن الذي يؤمن أولياءه من عذابه ويؤمن عباده من ظلمه، يقال: آمنه من الامان الذي هو ضد الخوف، كما قال تعالى: " وآمنهم من خوف " (3) [ قريش: 4 ] فهو مؤمن، قال النابغة: والمؤمن العائذات الطير يمسحها * ركبان مكة بين الغيل والسند (4) وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقول: " شهد الله أنه لا إله إلا هو " (5) [ آل عمران: 18 ]. وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار. وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي، حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم (1) السفود: حديدة يشوى عليها اللحم، والجمع سفافيد. والكلوب: حديدة معطوفة كالخطاف. والتنور: الكانون يخبز فيه. والسمور: حيوان برى يشبه السنور يتخذ من جلده فراء ثمينة للينها وخفتها وادفائها وحسنها. والشبوط: سمك رقيق الذنب عريض الوسط لين المس صغير الرأس. والجمع شبابيط. (2) الذروح: دويبة حمراء منقطة بسواد تطير، وهى من السموم القاتلة. (3) راجع ج 20 ص 209. (4) العائذات: ما عاذ بالبيت من الطير. والغيل: الشجر الكثير الملتف. والسند: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح. (5) راجع ج 4 ص 40. (*)
[ 47 ]
المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين. (المهيمن العزيز) تقدم الكلام في المهيمن في " المائدة " (1) وفى " العزيز " في غير موضع (2)، (الجبار) قال ابن عباس: هو العظيم. وجبروت الله عظمته. وهو على هذا القول صفة ذات، من قولهم: نخلة جبارة. قال امرؤ القيس: سوامق جبار أثيث فروعه * وعالين قنوانا من البسر أحمرا (3) يعني النخلة التي فاتت اليد. فكان هذا الاسم يدل على عظمة الله وتقديسه عن أن تناله النقائص وصفات الحدث. وقيل: هو من الجبر وهو الاصلاح، يقال: جبرت العظم فجبر، إذا أصلحته بعد الكسر، فهو فعال من جبر إذا أصلح الكسير وأغنى الفقير. وقال الفراء: هو من أجبره على الامر أي قهره. قال: ولم أسمع فعالا من أفعل إلا في جبار ودراك من أدرك. وقيل: الجبار الذي لا تطاق سطوته. (المتكبر) الذي تكبر بربوبيته فلا شئ مثله. وقيل: المتكبر عن كل سوء المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم. وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلة الانقياد. وقال حميد بن ثور: عفت مئل ما يعفو الفصيل فأصبحت * بها كبرياء الصعب وهي ذلول والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار). وقيل: المتكبر معناه العالي. وقيل: معناه الكبير لانه أجل من أن يتكلف كبرا. وقد يقال: تظلم بمعنى ظلم، وتشتم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قر. كذلك المتكبر بمعنى الكبير. وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف بتفعل إذا نسب إلى ما لم يكن منه. ثم نزه نفسه فقال: (سبحان الله) أي تنزيها لجلالته وعظمته " عما يشركون ". (1) راجع ج 6 ص 210. (2) راجع ج 2 ص 131. (3) سوامق: مرتفعات. والاثيث: الملتف. والقنوان: العذق. (*)
[ 48 ]
قوله تعالى: هو الله الخلق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم 24 قوله تعالى: (هو الله الخالق البارئ المصور) " الخالق " هنا المقدر. و " البارئ " المنشئ المخترع. و " المصور " مصور الصور ومركبها على هيئات مختلفه. فالتصوير مرتب على الخلق والبراية (1) وتابع لهما. ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل. وخلق الله الانسان في أرحام الامهات ثلاث خلق: جعله علقة، ثم مضغة، ثم جعله صورة وهو التشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. فتبارك الله أحسن الخالقين. وقال النابغة: الخالق البارئ المصور في ال * أرحام ماء حتى يصير دما وقد جعل بعض الناس الخلق بمعنى التصوير، وليس كذلك، وإنما التصوير آخرا والتقدير أولا والبراية بينهما. ومنه قول الحق: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " (2) [ المائدة: 110 ]. وقال زهير: ولانت تفري ما خلقت وبع * ض القوم يخلق ثم لا يفري يقول: تقدم ما تقدر ثم تفريه، أي تمضيه على وفق تقديرك، وغيرك يقدر ما لا يتم له ولا يقع فيه مراده، إما لقصوره في تصور تقديره أو لعجزه عن تمام مراده. وقد أتينا على هذا كله في " الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى " والحمد لله. وعن حاطب ابن أبي بلتعة أنه قرأ " البارئ المصور " بفتح الواو ونصب الراء، أي الذي يبرأ المصور، أي يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات. ذكره الزمخشري. (له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم) تقدم الكلام فيه (3). وعن أبي هريرة قال: سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الاعظم فقال: (يا أبا هريرة، (1) كذا في نسخ الاصل. والذى في كتب اللغة: " برأ الله الخلق برءا وبروءا ". (2) راجع ج 6 ص 362 (3) راجع ج 1 ص 287 وج 2 ص 131 وج 10 ص 266 (*)
[ 49 ]
عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها) فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي. وقال جابر بن زيد: إن اسم الله الاعظم هو الله لمكان هذه الآية وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر). وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ خواتيم سورة الحشر في ليل أو نهار فقبضه الله في تلك الليلة أو ذلك اليوم فقد أوجب الله له الجنة). سورة الممتحنة مدنية في قول الجميع، وهى ثلاث عشرة آية الممتحنة (بكسر الحاء) أي المختبرة، أضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة " براءة " المبعثرة والفاضحة، لما كشفت من عيوب المنافقين. ومن قال في هذه السورة: الممتحنة (بفتح الحاء) فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال الله تعالى: " فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن " [ الممتحنة: 10 ] الآية (1). وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن. بسم الله الرحمن الرحيم يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهدا في سبيلى وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بمآ أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سوآء السبيل 1 (1) راجع ص 61 من هذا الجزء. (*)
[ 50 ]
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) عدى اتخذ إلى مفعولين وهما " عدوكم أولياء ". والعدو فعول من عدا، كعفو من عفا. ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد. وفى هذه الآية سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم) روى الائمة - واللفظ لمسلم - عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: (ائتوا روضة خاخ (1) فإن بها ظعينة (2) معها كتاب فخذوه منها) فانطلقنا تعادى (3) بنا خيلنا، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة... إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا حاطب ما هذا ؟ قال لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش قال سفيان: كان حليفا لهم، ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الاسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق). فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: (إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ". قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش. وكان في الكتاب: " أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لاظفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره. ذكره بعض المفسرين. (1) موضع بين مكة والمدينة على اثنى عشر ميلا من المدينة. (2) الظعينة: هي المرأة في الهودج. ولا يقال ظعينة إلا وهى كذلك. (3) أي تجرى. (*)
[ 51 ]
وذكر القشيري والثعلبي: أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن، وكان له حلف بمكة في بني أسد بن عبد العزى رهط الزبير بن العوام. وقيل: كان حليفا للزبير بن العوام، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة. وقيل: كان هذا في زمن الحديبية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمهاجرة جئت يا سارة). فقالت لا. قال: (أمسلمة جئت) قالت لا. قال: (فما جاء بك) قالت: كنتم الاهل والموالي والاصل والعشيرة، وقد ذهب الموالي - تعني قتلوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال عليه الصلاة والسلام: (فأين أنت عن شباب أهل مكة) وكانت مغنية، قالت: ما طلب مني شئ بعد وقعة بدر. فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها، فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة، وأتاها حاطب فقال: أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة. وكتب في الكتاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي. وفي رواية: عليا والزبير والمقداد. وفي رواية: أرسل عليا وعمار بن ياسر. وفي رواية: عليا وعمار ا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد - وكانوا كلهم فرسانا - وقال لهم: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فان لم تدفعه لكم فأضربوا عنقها) فأدركوها في ذلك المكان، فقالوا لها: أين الكتاب ؟ فحلفت ما معها كتاب، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا، فهموا بالرجوع فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذبنا ! وسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لاجردنك ولاضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها - وفي رواية من حجزتها (1) - فخلوا سبيلها ورجحوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل إلى حاطب فقال: (1) الحجزة: معقد الازار. وموضع التكة من السراويل. (*)
[ 52 ]
(هل تعرف الكتاب ؟) قال نعم. وذكر الحديث بنحو ما تقدم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم. الثانية - السورة أصل في النهي عن مولاة الكفار. وقد مضى ذلك في غير موضع (1). من ذلك قوله تعالى: " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " [ آل عمران 28 ]. " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " [ آل عمران: 118 ]. " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " [ المائدة: 51 ]. ومثله كثير. وذكر أن حاطبا لما سمع " يا أيها الذين آمنوا " غشي عليه من الفرح بخطاب الايمان. الثالثة - قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة) يعني بالظاهر، لان قلب حاطب كان سليما، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أما صاحبكم فقد صدق) وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. والباء في " بالمودة " زائدة، كما تقول: قرأت السورة وقرأت بالسورة، ورميت إليه ما في نفسي وبما في نفسي. ويجوز أن تكون ثابتة على أن مفعول " تلقون " محذوف، معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. وكذلك " تسرون إليهم بالمودة " أي بسبب المودة. وقال الفراء: " تلقون إليهم بالمودة " من صلة " أولياء " ودخول الباء في المودة وخروجها سواء. ويجوز أن تتعلق ب " لا تتخذوا " حالا من ضميره. وب " أولياء " صفة له، ويجوز أن تكون استئنافا. ومعنى " تلقون إليهم بالمودة " تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم، وقاله الزجاج. الرابعة: من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين. (1) راجع ج 4 ص 57 و 178 وج 6 ص 216. (*)
[ 53 ]
الخامسة - إذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا أم لا ؟ اختلف الناس فيه، فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الامام. وقال عبد الملك: إذا كانت عادته تلك قتل، لانه جاسوس، وقد قال مالك بقتل الجاسوس - وهو صحيح لاضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الارض. ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا لان حاطبا أخذ في أول فعله. والله أعلم. السادسة - فإن كان الجاسوس كافرا فقال الاوزاعي: يكون نقضا لعهده وقال أصبغ: الجاسوس الربي يقتل، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على الاسلام فيقتلان. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان، فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الانصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فخلى سبيله. ثم قال: (إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان). وقوله: " وقد كفروا " حال، إما من " لا تتخذوا " وإما من " تلقون " أي لا تتولوهم أو توادوهم، وهذه حالهم. وقرأ الجحدري " لما جاءكم " أي كفروا لاجل ما جاءكم من الحق. السابعة - قوله تعالى: " يخرجون الرسول " استئناف كلام كالتفسير لكفرهم وعتوهم، أوحال من " كفروا ". " وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم " تعليل ل " يخرجون " المعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لان تؤمنوا بالله أي لاجل إيمانكم بالله. قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقيل: " إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي " شرط وجوابه مقدم. والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. ونصب " جهادا " و " ابتغاء " لانه مفعول له. وقوله: تسرون إليهم بالمودة " بدل من
[ 54 ]
" تلقون " ومبين عنه. والافعال تبدل من الافعال، كما قال تعالى: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب (1) " [ الفرقان: 68 - 69 ]. وأنشد سيبويه: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وقيل: هو على تقدير أنتم تسرون إليهم بالمودة، فيكون استئنافا. وهذا كله معاتبة لحاطب. وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه (2). كما قال: أعاتب ذا المودة من صديق * إذا ما رابني منه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود * ويبقى الود ما بقي العتاب ومعنى " بالمودة " أي بالنصيحة في الكتاب إليهم. والباء زائدة كما ذكرنا، أو ثابتة غير زائدة. قوله تعالى: (وأنا أعلم بما أخفيتم) أضمرتم " وما أعلنتم " أظهرتم. والباء في " بما " زائدة، يقال: علمت كذا وعلمت بكذا. وقيل: وأنا اعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون، فحذف من كل أحد. كما يقال فلان اعلم وأفضل من غيره. وقال ابن عباس: وأنا اعلم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم من الاقرار والتوحيد. (ومن يفعله منكم) أي من يسر إليهم ويكاتبهم منكم (فقد ضل سواء السبيل) أي أخطأ قصد الطريق. قوله تعالى: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون 2 قوله تعالى: (إن يثقفوكم) يلقوكم ويصادفوكم، ومنه المثاقفة، أي طلب مصادفة الغرة في المسايفة وشبهها. وقيل: " يثقفوكم " يظفروا بكم ويتمكنوا منكم (يكونوا لكم (1) راجع ج 13 ص 75. (2) في ح، ز، س: " لحبيب ". (*)
[ 55 ]
أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء) أي أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم. (وودوا لو تكفرون) بمحمد، فلا تناصحوهم فإنهم لا يناصحونكم. قوله تعالى: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولدكم يوم القيمة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير 3 قوله تعالى: (لن تنفعكم أرحامكم) لما اعتذر حاطب بأن له أولادا وأرحاما فيما بينهم، بين الرب عزوجل أن الاهل والاولاد لا ينفعون شيئا يوم القيامة إن عصي من أجل ذلك. (يفصل بينكم) فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكافرين النار. وفي " يفصل " قراءات سبع: قرأ عاصم " يفصل " بفتح الياء وكسر الصاد مخففا. وقرأ حمزة والكسائي مشددا إلا أنه على ما لم يسم فاعله. وقرأ طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد مشددة. وروي عن علقمة كذلك بالنون مخففة. وقرأ قتادة وأبو حيوة " يفصل " بضم الياء وكسر الصاد مخففة من أفصل. وقرأ الباقون " يفصل " بياء مضمومة وتخفيف الفاء وفتح الصاد على الفعل المجهول، واختاره أبو عبيد. فمن خفف فلقوله: " وهو خير الفاصلين " (1) [ الانعام: 57 ] وقوله: " إن يوم الفصل " (2) [ الدخان: 40 ]. ومن شدد فلان ذلك أبين في الفعل الكثير المكرر المتردد. ومن أتى به على ما لم يسم فاعله فلان الفاعل معروف. ومن أتى به مسمى الفاعل رد الضمير إلى الله تعالى. ومن قرأ بالنون فعلى التعظيم. (والله بما تعملون بصير). قوله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العدوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله (1) راجع ج 6 ص 483. (2) ج 16 ص 147. (*)
[ 56 ]
وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير 4 ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم 5 قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم) لما نهى عزوجل عن مولاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار، أي فاقتدوا به وأتموا، إلا في استغفاره لابيه. والاسوة والاسوة ما يتأسى به، مثل القدوة والقدوة. ويقال: هو إسوتك، أي مثلك وأنت مثله. وقرأ عاصم " أسوة " بضم الهمزة لغتان. (والذين معه) يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين. وقال ابن زيد: هم الانبياء (إذ قالوا لقومهم) الكفار (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله) أي الاصنام. وبرآء جمع برئ، مثل شريك وشركاء، وظريف وظرفاء. وقراءة العامة على وزن فعلاء. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق " براء " بكسر الباء على وزن فعال، مثل قصير وقصار، وطويل وطوال، وظريف وظراف. ويجوز ترك الهمزة حتى تقول: برا، وتنون. وقرئ " براء " على الوصف بالمصدر. وقرئ " براء " على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب (1). والآية نص في الامر بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله. وذلك يصحح أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله. (كفرنا بكم) أي بما آمنتم به من الاوثان. وقيل: أي بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن تكونوا على حق. (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) أي هذا دأبنا معكم ما دتم على كفركم (حتى تؤمنوا بالله وحده) فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة (إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفرون للمشركين، فإنه كان عن (1) رخال: جمع رخل، الانثى من أولاد الضأن. والرباب: جمع الربى، الثاة التى وضعت حديثا. وقيل: إذا مات ولدها. (*)
[ 57 ]
موعدة منه له قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لاببه، ثم بين عذره في سورة " التوبة " (1). وفى هذا دلالة على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الانبياء، لانا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (2) " [ الحشر: 7 ] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله. وقيل: هو استثناء منقطع، أي لكن قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك، إنما جرى لانه ظن أنه أسلم، فلما بان له أنه لم يسلم تبرأ منه. وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن، فلم توالوهم. (وما أملك لك من الله من شئ) هذا من قول إبراهيم عليه السلام لابيه، أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به. (ربنا عليك توكلنا) هذا من دعاء إبراهيم عليه السلام وأصحابه. وقيل: علم المؤمنين أن يقولوا هذا. أي تبرءوا من الكفار وتوكلوا على الله وقولوا: " ربنا عليك توكلنا " أي اعتمدنا (وإليك أنبنا) أي رجعنا (وإليك المصير) لك الرجوع في الآخرة (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) أي لا تظهر عدونا علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل: لا تسلطهم علينا فيفتنونا ويعذبونا. (واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم). قوله تعالى: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الاخر ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد 6 عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم 7 قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم) أي في إبراهيم ومن معه من الانبياء والاولياء. (أسوة حسنة) أي في التبرؤ من الكفار. وقيل: كرر للتأكيد. وقيل: نزل الثاني بعد (1) راجع ج 8 ص 274. (2) راجع ص 17 من هذا الجزء. (*)
[ 58 ]
الاول بمدة، وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه. (ومن يتول) أي عن الاسلام وقبول هذه المواعظ (فإن الله هو الغنى) أي لم يتعبدهم لحاجته إليهم. (الحميد) في نفسه وصفاته. ولما نزلت عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين فعلم الله شدة وجد المسلمين في ذلك فنزلت: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) وهذا بأن يسلم الكافر. وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة وخالطهم المسلمون، كأبي سفيان ابن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وقيل: المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلانت عند ذلك (1) عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة. قال ابن عباس: كانت المودة بعد الفتح تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت تحت عبد الله بن جحش، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة. فأما زوجها فتنصر وسألها أن تتابعه على دينه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها، فقال النجاشي لاصحابه: من أولاكم بها ؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص. قال فزوجها من نبيكم. ففعل، وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار. وقيل: خطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فلما زوجه إياها بعث إلى النجاشي فيها، فساق عنه المهر وبعث بها إليه. فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته: ذلك الفحل لا يقدع أنفه. " يقدع " بالدال غير المعجمة، يقال: هدا فحل لا يقدع أنفه، أي لا يضرب أنفه. وذلك إذا كان كريما. قوله تعالى: لا ينهكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين 8 (1) العريكة: الطبيعة. ولانت عريكته: إذا انكسرت نخوته. والشكيمة: الانفة. ومن اللجام: الحديدة المعترضة في الفم. (*)
[ 59 ]
قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) فيه ثلاث مسائل: الاولى - هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد: كان هذا في أول الاسلام عند الموادعة وترك الامر بالقتال ثم نسخ. قال قتادة: نسختها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (1) [ التوبة: 5 ]. وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهو الصلح، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى. وقيل: هي مخصوصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه، قاله الحسن. الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف. وقاله أبو صالح، وقال: هم خزاعة. وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: يعني به النساء والصبيان لانهم ممن لا يقاتل، فأذن الله في برهم. حكاه بعض المفسرين. وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة. واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة ؟ قال: (نعم) خرجه البخاري ومسلم. وقيل: إن الآية فيها نزلت. روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت، إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطا وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأنزل الله تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ". ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره، وخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده. الثانية - قوله تعالى: (أن تبروهم) " أن " في موضع خفض على البدل من " الذين "، أي لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم. وهم خزاعة، صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم، حكاه الفراء. (وتقسطوا إليهم) أي تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة. وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي. (1) راجع ج 8 ص 136. (*)
[ 60 ]
الثالثة - قال القاضى أبو بكر في كتاب الاحكام له: " استدل به بعض من تعقد عليه الخناصر على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر. وهذه وهلة (1) عظيمة، إذ الاذن في الشئ أو ترك النهى عنه لا يدل على وجوبه، وإنما يعطيك الاباحة خاصة. وقد بينا أن إسماعيل بن إسحاق القاضى دخل عليه ذمى فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم ". قوله تعالى: إنما ينهكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون 9 قوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) أي جاهدوكم على الدين (وأخرجوكم من دياركم) وهم عتاة أهل مكة. (وظاهروا) أي عاونوا على إخراجكم وهم مشركو أهل مكة (أن تولوهم) " أن " في موضع جر على البدل على ما تقدم في " أن تبروهم ". (ومن يتولهم) أي يتخذهم أولياء وأنصارا وأحبابا (فأولئك هم الظالمون). قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وءاتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا ءاتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسئلوا مآ أنفقتم وليسئلوا مآ أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم 10 (1) وهل عن الشئ وفى الشئ - بالكسر -: إذا غلط فيه رمها. (*)
[ 61 ]
قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) فيه ست عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات) لما أمر المسلمين بترك مولاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الاسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبين أحكام مهاجرة النساء. قال ابن عباس: جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، فجاءت سعيدة (1) بنت الحارث الاسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد، فأقبل زوجها وكان كافرا - وهو صيفي بن الراهب. وقيل: مسافر المخزومي - فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك ! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها. وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ردها علينا للشرط، فقال صلى الله عليه وسلم: (كان الشرط في الرجال لا في النساء) فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن عروة قال: كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل، يومئ إلى أن الشرط في رد النساء نسخ بذلك. وقيل إن التي جاءت أميمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الشمراخ ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله، قاله زيد بن حبيب. كذا قال الماوردي: أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ. وقال المهدوي: وروى ابن وهب عن خالد أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف. وهي امرأة حسان بن الدحداح، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف. وقال مقاتل: إنها سعيدة (1) زوجة صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة. والاكثر من أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة. (1) في الاصل المطبوع: " سببعة " وهو تحريف. راجع أسد الغابة ج 5 ص 745. (*)
[ 62 ]
الثانية - واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظا أو عموما، فقالت طائفة منهم: قد كان شرط ردهن في عقد المهادنة لفظا صريحا فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه، وبقاه في الرجال على ما كان. وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد رأيه (1) في الاحكام، ولكن لا يقره الله على خطأ. وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظا، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال. فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه. وفرق بينهن وبين الرجال لامرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني - أنهن أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم. فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم. الثالثة - قوله تعالى: (فامتحنوهن) قيل: إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت: سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقوال: الاول: قال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا، بل حبا لله ولرسوله. فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها، فذلك قوله تعالى: " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ". الثاني - أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قاله ابن عباس ايضا. الثالث - بما بينه في السورة بعد من قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات " [ الممتحنة: 12 ] قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن إلا بالآية التي قال الله: " إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " [ الممتحنة: 12 ] رواه معمر عن الزهري عن عائشة. خرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. (1) الاجتهاد: بذل الوسع في طلب الامر. (*)
[ 63 ]
الرابعة - أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عليه الصلاة والسلام عاهد عليه قريشا، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء: كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الامام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما، لان إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز. وهذا مذهب الكوفيين. وعقد الصلح على ذلك جائز عند مالك. وقد احتج الكوفيون لما ذهبوا إليه من ذلك بحديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قوم من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف الدية، وقال " أنا برئ من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى نارهما (1) قالوا: فهذا ناسخ لرد المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب. ومذهب مالك والشافعي أن هذا الحكم غير منسوخ. قال الشافعي: وليس لاحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لانه يلي الاموال كلها. فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود. الخامسة - قوله تعالى: (الله أعلم بإيمانهن) أي هذا الامتحان لكم، والله اعلم بإيمانهن، لانه متولي السرائر. (فإن علمتموهن مؤمنات) أي بما يظهر من الايمان. وقيل: إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان (فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) أي لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة. وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين. وإليه إشارة في مذهب مالك (1) الاصل في " تراءى " تتراءى. والترائى تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وإسناد الترائى إلى النارين مجاز. أي يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذى إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لانهم لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة. (عن نهاية ابن الاثير). (*)
[ 64 ]
بل عبارة. والصحيح الاول، لان الله تعالى قال: " لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " فبين أن العلة عدم الحل بالاسلام وليس باختلاف الدار. والله اعلم. وقال أبو عمر: لا فرق بين الدارين لا في الكتاب ولا في السنة ولا في القياس، وإنما المراعاة في ذلك الدينان، فباختلافهما يقع الحكم وباجتماعهما، لا بالدار. والله المستعان. السادسة - قوله تعالى: (واتوهم ما أنفقوا) أمر الله تعالى إذا أمسكت المرأة المسلمة أن يرد على زوجها ما أنفق وذلك من الوفاء بالعهد، لانه لما منع من أهله بحرمة الاسلام، أمر برد المال إليه حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين: الزوجة والمال. السابعة - ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا. فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع. وإن كان المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لانه لا قيمة له. وللشافعي في هذه الآية قولان: أحدهما: أن هذا منسوخ. قال الشافعي: وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهدنة مسلمة مهاجرة من دار الحرب إلى الامام في دار السلام أو في دار الحرب، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض. وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان: أحدهما - يعطي العوض، والقول ما قال الله عزوجل،. وفيه قول آخر: أنه لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجتة مسلمة العوض. فإن شرط (1) الامام رد النساء كان الشرط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط من شرط رد النساء منسوخا وليس عليه عوض، لان الشرط المنسوخ باطل ولا عوض الباطل. (1) مابين المربعين هكذا ورد في جميع نسخ الاصل، وهو مضطرب. وقد نقل المؤلف رحمه الله هذه المسألة من كتاب الناسخ والمنسوخ لابي جعفر النحاس ونسها فيه: وإن شرط الامام رد النساء كان الشرط متنقضا. ومن قال هذا قال: إن شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل الحديبية فيه إن يرد من جاء منهم، وكان النساء منهم كان شرطا صحيحا، فنسخه الله ورد العوض، فلما قضى الله عزوجل ثم رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يرد النساء كان شرط شرط رد النساء منسوخا وليس عليه أن يعوض، لان شرطه المنسوخ باطل ولا عوض الباطل ". (*)
[ 65 ]
الثامنة - أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الازواج، وأن المخاطب بهذا الامام ينفذ مما بين يديه من بيت المال الذي لا يتعين له مصرف. وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها من المسلمين أحد فليس لزوجها الكافر شئ. وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق. والامر كما قاله. (1) التاسعة - قوله تعالى: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن) يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة. فإن أسلمت قبل الدخول (2) ثبت النكاح في الحال ولها التزوج. العاشرة - قوله تعالى: (إذا آتيتموهن أجورهن) أباح نكاحها بشرط المهر، (3) لان الاسلام فرق بينها وبين زوجها الكافر. الحادية عشرة - قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) قراءة العامة بالتخفيف من الامساك. وهو اختيار أبي عبيد لقوله تعالى: " فأمسكوهن بمعروف " [ البقرة: 231 ]. وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو " ولا تمسكوا " مشددة من التمسك. يقال: مسك يمسك تمسكا، بمعنى أمسك يمسك. وقرئ " ولا تمسكوا " بنصب التاء، أي لا تتمسكوا والعصم جمع العصمة، وهو ما اعتصم به. والمراد بالعصمة هنا النكاح. يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها، فليست له امرأة، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدارين. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك (4) في هذه الآية. فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين: قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة. وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة، فتزوجها أبو جهم بن حذافة وهما على شركهما. فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة لئلا يرى عمر سلبه في بيتك، فأبي معاوية من ذلك. وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى (1) في ح، ز، س: " كما قاله رحمه الله ". (2) مابين لمربعين ساقط من ح، ز، ه. (3) في س: " بشرط الاسلام، لان المهر والاسلام... ". (4) كلمة: " ذلك " ساقطة من ح، س. (*)
[ 66 ]
بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الاسلام بينهما، ثم تزوجها في الاسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار، فحبسها وزوجها خالدا. وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب ابنته - وكانت كافرة - من أبي العاص بن الربيع، ثم أسلمت وأسلم زوجها بعدها. ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال: أسلمت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الاولى، وزوجها أبو العاص بن الربيع عبد العزى مشرك بمكة. الحديث. وفيه: أنه أسلم بعدها. وكذلك قال الشعبي. قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع، فأسلمت ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى زوجها المدينة فأمنته فأسلم فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس: بالنكاح الاول، ولم يحدث شيئا. قال محمد بن عمر في حديثه: بعد ست سنين. وقال الحسن بن علي: بعد سنتين. قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أن الامر فيها منسوخ بقول الله عزوجل: " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " [ البقرة: 228 ] يعني في عدتهن. وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عني به العدة. وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله في قصة زينب هذه: كان قبل أن تنزل الفرائض. وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة " براءة " بقطع العهود بينهم وبين المشركين. والله اعلم. الثانية عشرة - قوله تعالى: (بعصم الكوافر) المراد بالكوافر هنا عبدة الاوثان من لا يجوز ابتداء نكاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب. وقيل: هي عامة، نسخ منها نساء أهل الكتاب. ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحل كافرة بوجه. وعلى القول الاول إذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما. وهذا قول بعض أهل العلم. ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة. فمن قال يفرق بينهما في الوقت ولا ينتظر تمام العدة إذا عرض عليها الاسلام ولم تسلم - مالك بن أنس. وهو قول الحسن وطاوس ومجاهد وعطاء
[ 67 ]
وعكرمة وقتادة والحكم، واحتجوا بقوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر ". وقال الزهري: ينتظر بها العدة. وهو قول الشافعي وأحمد. واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران (1) ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقرا على نكاحهما لان عدتها لم تكن انقضت. قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " لان نساء المسلمين محرمات على الكفار، كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر والوثنيات ولا المجوسيات بقول الله عزوجل: " ولا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " ثم بينت السنة أن مراد الله من قوله هذا أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الباقي منهما في العدة. وأما الكوفيون وهم سفيان وأبو حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا في الكافرين الذميين: إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الاسلام، فإن أسلم وإلا فرق بينهما. قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب أو في دار الاسلام. وإن كان أحدهما في دار الاسلام والآخر في دار الحرب انقطعت العصمة بينهما فراعوا الدار، وليس بشئ. وقد تقدم. الثالثة عشرة - هذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها فلا نعلم اختلافا في انقطاع العصمة بينهما، إذ لا عدة عليها. كذا يقول مالك في المرأة ترتد زوجها مسلم: انقطعت العصمة بينهما. وحجته " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي. ومذهب الشافعي وأحمد أنه ينتظر بها تمام العدة. الرابعة عشرة - فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة ففيها أيضا اختلاف. ومذهب مالك وأحمد والشافعي الوقوف إلى تمام العدة. وهو قول مجاهد. وكذا الوثني تسلم زوجته، إنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل (1) مرالظهران: قرية قرب مكة. (*)
[ 68 ]
أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما، على حديث ابن شهاب. ذكره مالك في الموطأ. قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينه وبينها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما. قال يزيد بن علقمة: أسلم جدي ولم تسلم جدتي ففرق عمر بينهما رضي الله عنه، وهو قول طاوس. وجماعة غيره منهم عطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل عليها إلا بخطبة. الخامسة عشرة - قوله تعالى: (واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها. وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالتين. وكان هذا حكم الله مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الامة، قال ابن العربي. السادسة عشرة - قوله تعالى: (ذلكم حكم الله) أي ما ذكر في هذه الآية، (يحكم بينكم والله عليم حكيم) تقدم في غير موضع (1). قوله تعالى: وإن باتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فأتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون 11 فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإن فاتكم شئ من أزواجكم) في الخبر: أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت: " وإن فاتكم شئ من (1) راج ج 1 ص 287 (*)
[ 69 ]
أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ". وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حكم الله عزوجل بينكم فقال جل ثناؤه: " واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا " فكتب إليهم المسلمون: قد حكم الله عزوجل بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها. فكتبوا إليهم: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا، فإن كان لنا عندكم شئ فوجهوا به، فأنزل الله عزوجل: " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ". وقال ابن عباس في قوله تعالى: " ذلكم حكم الله يحكم بينكم " أي بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم إلى بعض. قال الزهري: ولولا العهد لامسك النساء ولم يرد إليهم صداقا. وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أيعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفئ والغنيمة. وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد. وقالا: ومعنى " فعاقبتم " فاقتصصتم. " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " يعني الصدقات. فهي عامة في جميع الكفار. وقال قتادة أيضا: وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار الذين (1) بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا. ثم نسخ هذا في سورة " براءة ". وقال الزهري: انقطع هذا عام الفتح. وقال سفيان الثوري: لا يعمل به اليوم. وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضا. حكاه القشيري. الثانية - قوله تعالى: (فعاقبتم) قراءة العامة " فعاقبتم " وقرأ علقمة والنخعي وحميد والاعرج " فعقبتم " مشددة. وقرأ مجاهد " فأعقبتم " وقال: صنعتم كما صنعوا بكم. وقرأ الزهري " فعقبتم " خفيفة بغير ألف. وقرأ مسروق وشقيق بن سلمة " فعقبتم " بكسر القاف خفيفة. وقال: غنمتم. وكلها لغات بمعنى واحد. يقال: عاقب وعقب وعقب وأعقب وتعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم. وقال القتبي " فعاقبتم " فغزوتم معاقبين غزوا بعد غزو. وقال ابن بحر: أي فعاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرها من غنائم المسلمين. (1) في ح، ز، س، ط، ل، ه " إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد " بزيادة " ليس ". (*)
[ 70 ]
الثالثة - قوله تعالى: (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) قال ابن عباس: يقول إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم، فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: يعطي من مال الفئ. وعنه يعطى من صداق من لحق بنا. وقيل: أي إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم فخذوا ذلك منهم. قال الاعمش: هي منسوخة. وقال عطاء: بل حكمها ثابت. وقد تقدم جميع هذا. القشيري: والآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض ابن غنم القرشي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الاسلام. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: هن ست نسوة رجعن عن الاسلام ولحقن بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن أبي شداد الفهري (1). وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب، فلما هاجر عمر أبت وارتدت. وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. وعبدة بنت عبد العزى، كانت تحت هشام بن العاص. وأم كلثوم بنت جرول تحت عمر بن الخطاب. وشهبة بنت غيلان. فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. (واتقوا الله) احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به. قوله تعالى: يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيأ ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولدهن ولا يأتين ببهتن يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم 12 فيها ثماني مسائل (1) هو عياض بن غنم بن زهير بن أبى شداد القرشى الفهرى. (*)
[ 71 ]
الاولى - قوله تعالى: (يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك (1)) لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جاء نساء أهل مكة يبايعنه، فأمر أن يأخذ عليهن ألا يشركن. وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بقول الله تعالى: " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين " إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقن فقد بايعتكن) ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله عزوجل، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن (قد بايعتكن كلاما). وروي أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن. وقيل: لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه، فجعل يشترط على النساء البيعة وعمر يصافحهن. وروي أنه كلف امرأة وقفت على الصفا فبايعتهن. ابن العربي: وذلك ضعيف، وإنما ينبغي التعويل على ما في الصحيح. وقالت أم عطية: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الانصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، ألا تشركن بالله شيئا. فقلن نعم. فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمس يده فيه ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه. الثانية: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (على ألا يشركن بالله شيئا) قالت هند بنت عتبة وهي منتقبة خوفا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعته بحمزة يوم أحد: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان بايع الرجال (1) ما بين المربعين ساقط من ل، ز. (*)
[ 72 ]
يومئذ على الاسلام والجهاد فقط - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يسرفن) فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتنا. فقال أبو سفيان: هو لك حلال. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها وقال: (أنت هند) ؟ فقالت: عفا الله عما سلف. ثم قال: (ولا يزنين) فقالت هند: أو تزني الحرة ! ثم قال: (ولا يقتلن أولادهن) أي لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الاجنة. فقالت هند: ربينا هم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر. وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، وأنتم وهم اعلم. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. وكان حنظلة بن أبي سفيان وهو بكرها قتل يوم بدر. ثم قال: " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف " قيل: معنى " بين أيديهن " ألسنتهن بالنميمة. ومعنى بين " أرجلهن " فروجهن. وقيل: ما كان بين أيديهن من قبلة أو جسة، وبين أرجلهن الجماع وقيل: المعنى لا يلحقن برجالهن ولدا من غيرهم. وهذا قول الجمهور. وكانت المرأة تلتقط ولدا فتلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك. فكان هذا من البهتان والافتراء. وقيل: ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد، لان بطنها الذي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها. وهذا عام في الاتيان بولد وإلحاقه بالزوج وإن سبق النهي عن الزنى. وروي أن هندا لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لامر قبيح، ما تأمر إلا بالارشد ومكارم الاخلاق !. ثم قال: " ولا يعصينك في معروف " قال قتادة: لا ينحن. ولا تخلو امرأة منهن إلا بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب، ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم: هو إلا يخمشن وجها. ولا يشققن جيبا، ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم. وروت أم عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في النوح. وهو قول ابن عباس. وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ولا يعصينك في معروف " فقال: (هو النوح). وقال مصعب بن نوج: أدركت عجوزا ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثتني عنه عليه الصلاة والسلام في قول: " ولا يعصينك في معروف " فقال:
[ 73 ]
(النوح). وفي صحيح مسلم عن أم عطية لما نزلت هذه الاية: " يبايعنك على إلا يشركن بالله شيئا - إلى قوله - ولا يعصينك في معروف " قال: (كان منه النياحة) قالت: فقلت يا رسول الله، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال، رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا آل فلان). وعنها قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة إلا ننوح، فما وفت منا أمرأة إلا خمس: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ. وقيل: إن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله، قاله ميمون بن مهران. وقال بكر بن عبد الله المزني: لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن الكلبي: هو عام في كل معروف أمر الله عزوجل ورسوله به. فروي أن هندا قالت عند ذلك: ما جلسنا في مجلسا هذا وفي أنفسا أن نعصيك في شئ. الثالثة: ذكر الله عزوجل ورسوله عليه الصلاة والسلام في صفة البيعة خصالا شتى، صرح فيهن بأركان النهي في الدين ولم يذكر أركان الامر. وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة. وذلك لان النهي دائم في كل الازمان وكل الاحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد. وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها ولا يحجزهن عنها شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا. ونحو منه قوله عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس: (وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت) (1) فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي، لانها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها. (1) الدباء: هو القرع اليابس. والحنتم: الجرة. والنقير: أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء. والمزفت: الاناء الذى طلى بالزفت. قال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية: " عن أبى بكرة قال: أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت. وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر. وأما المزفت فهى الاوعية التى فيها الزفت... ومعنى النهى عن الانتباذ في هذه الاوعية بخصوصها لانه يسرع إليها الاسكار فربما يشرب منها من إلا يشعر بذلك. ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهى عن شرب كل مسكر ". (*)
[ 74 ]
الرابعة: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة: (ولا يسرقن) قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن آخذ ما يكفيني وولدي ؟ قال (لا إلا بالمعروف) فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع أو تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (لا) ألا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف، يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة. قال ابن العربي وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجابه ولا يضبط عليه بقفل فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه كانت سارقة تعصى به وتقطع يدها الخامسة: قال عبادة بن الصامت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: (إلا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا يعضه بعضكم بعضا ولا تعصوا في معروف أمركم به). معنى " يعضه " يسحر. والعضه: السحر. ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى: " ولا يأتين ببهتان " إنه السحر. وقال الضحاك: هذا نهى عن البهتان، أي لا يعضهن رجلا ولا امرأة " ببهتان " أي بسحر. والله اعلم. " يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " والجمهور على أن معنى " ببهتان " بولد يفترينه بين أيديهن " ما أخذته لقيطا. " وأرجلهن " ما ولدته من زنى. وقد تقدم. السادسة - قوله تعالى: " ولا يعصينك في معروف " في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: " ولا يعصينك في معروف " قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء. واختلف في معناه على ما ذكرنا. والصحيح أنه عام في جميع ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وينهى عنه، فيدخل فيه النوح وتخريق الثياب وجز الشعر والخلوة بغير محرم إلى غير ذلك. وهذه كلها كبائر ومن أفعال الجاهلية. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الاشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) فذكر منها النياحة. وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين وصفا عن اليسار ينبحن كما تنبح الكلاب في يوم
[ 75 ]
كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يؤمر بهن إلى النار). وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة (1)) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها. فقيل: يا أمير المومنين، المرأة المرأة ! قد وقع خمارها. فقال: إنها لا حرمة لها. أسند جميعه الثعلبي رحمه الله. أما تخصيص قوله: " في معروف " مع قوة قوله: " ولا يعصينك " ففيه قولان: أحدهما - أنه تفسير للمعنى على التأكيد، كما قال تعالى: " قال رب احكم (2) بالحق " [ الانبياء: 112 ] لانه لو قال احكم لكفى. الثاني - إنما شرط المعروف في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون تنبيها على أن غيره أولى بذلك وألزم له وأنفى للاشكال. السابعة - روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إتبايعوني على إلا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا) قرأ آية النساء. وأكثر لفظ سفيان قرأ في الآية (فمن وفى منكم فأجر ه على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له منها). وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني انظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " - حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ -: أنتن على ذلك) ؟ فقالت: امرأة واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله، لا يدري الحسن (3) من هي. قال: (فتصدقن) وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ (4) والخواتيم في ثوب بلال. لفظ البخاري. (1) الارنان: الصيحة الشديدة والصوت الحزين عند الغناء أو البكاء، يقال: رنت المرأة ترن رنينا، وأرنت، صاحت. (2) راجع ج 11 ص 350 (3) هو الحسن بن مسلم راوي الحديث. (4) الفتخ (بفتحات وآخره خاء معجمة): الخواتيم العظام، أو حلق من فضة لا فص فيها. (*)
[ 76 ]
الثامنة - قال المهدوي: أجمع المسلمون على أنه ليس للامام أن يشترط عليهن هذا، والامر بذلك ندب لا إلزام. وقال بعض أهل النظر: إذا احتيج إلى المحنة من أجل تباعد الدار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الاخرة كما يئس الكفار من أصحب القبور 13 قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم) يعني اليهود. وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ويواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم فنهوا عن ذلك. (قد يئسوا من الآخرة) يعني اليهود قاله ابن زيد. وقيل: هم المنافقون. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. قال ابن مسعود: معناه أنهم تركوا العمل للآخرة وآثروا الدنيا. وقيل: المعنى يئسوا من ثواب الآخرة، قاله مجاهد. ومعنى (كما يئس الكفار) أي الاحياء من الكفار. (من أصحاب القبور) أن يرجعوا إليهم، قاله الحسن وقتادة. قال ابن عرفة: وهم الذين قالوا: " وما يهلكنا إلا الدهر (1) " [ الجاثية 24 ]. وقال مجاهد: المعنى كما يئس الكفار الذين في القبور أن يرجعوا إلى الدنيا. وقيل: إن الله تعالى ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار، وهى خطاب لحاطب بن أبى بلتعة وغيره. قال ابن عباس: " يأيها الذين آمنوا لا تتولوا " أي لا توالوهم ولا تناصحوهم، رجع تعالى بطوله وفضله على حاطب بن أبى بلتعة. يريد أن كفار قريش قد يئسوا من خير الآخرة كما يئس الكفار المقبورون من حظ يكون لهم في الآخرة من رحمة الله تعالى. وقال القاسم بن أبى بزة في قوله تعالى " قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور " قال: من مات من الكفار يئس من الخير. والله أعلم. (1) راجع ج 16 ص 170 (*)
[ 77 ]
سورة الصف مدنية في قول الجميع، فيما ذكر الماوردي. وقيل: إنها مكية، ذكره النحاس عن ابن عباس. وهي أربع عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم 1 تقدم (1). قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون 2 كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون 3 فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محسد بن كثير عن الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الاعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه، فأنزل الله تعالى: " سبح لله ما في السماوات وما في الارض وهو العزيز الحكيم " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " حتى ختمها. قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الاوزاعي وقرأها علينا (2) محمد. وقال ابن عباس قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الاعمال إلى الله (1) راجع ج 17 ص 235 (2) هذا الحديث كما ورد في مسند الدارمي. وقد ذكر في الاصول مضطربا. (*)
[ 78 ]
لعملناه، فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون يا رسول الله، لو نعلم أحب الاعمال إلى الله لسارعنا إليها، فنزلت " هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (1) " [ الصف: 10 ] فمكثوا زمانا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالاموال والانفس والاهلين، فدلهم الله تعالى عليها بقول: " تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم " [ الصف: 11 ] الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا، فنزلت تعيرهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: اللهم أشهد ! لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد فعيرهم الله بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون نحن جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا. وقال صهيب: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته. فقال رجل يا نبي الله، إني قتلت فلانا، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فقال عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف: يا صهيب، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلانا ! فإن فلانا انتحل قتله، فأخبره فقال: (أكذلك يا أبا يحيى) ؟ قال نعم، والله يا رسول الله، فنزلت الآية في المنتحل. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين، كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا، فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. الثانية - هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها. وفي صحيح مسلم عن أبي (2) موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الامد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ب " براءة " فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها " لو كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى واديا ثالثا ولا يملا جوف ابن آدم إلا التراب ". وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني (1) راجع ص 87 من هذه السورة. (2) الذى في صحيح مسلم: حدثنى سويد بن سعيد حدثنا على ابن مسحر ؟ عن داود عن أبى حرب بن أبى الاسود عن أبيه قال: بعث أبو موسى... الخ ". (*)
[ 79 ]
حفظت منها: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين. أما قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة. وأما قول: " شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة " فمعنى ثابت في الدين، فإن من التزم شيئا لزمه شرعا. والملتزم على قسمين: أحدهما: النذر، وهو على قسمين، نذر تقرب مبتدأ كقول: لله علي صلاة وصوم وصدقة، ونحوه من القرب. فهذا يلزم الوفاء به إجماعا. ونذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة، يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لانها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة. وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الاقدام على فعل. قلنا: القرب الشرعية مشقات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا (1). فهذا لازم إجماعا من الفقهاء. وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه (2). وتعلقوا بسبب الآية، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الاعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهو حديث لا بأس به. وقد روي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل. والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. (1) زيادة عن ابن العربي. (2) في ابن العربي: " بمطلقه ". (*)
[ 80 ]
قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه. وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي (1) إليكم، فإن هذا يلزمه. وأما أن يقول نعم أنا أفعل، ثم يبدو له، فلا أرى عليه ذلك. قلت: أي لا يقضي عليه بذلك، فأما في مكارم الاخلاق وحسن المروءة فنعم. وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره فقال: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا (2) " [ البقرة: 177 ]، وقال تعالى: " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد " [ مريم: 54 ] وقد تقدم بيانه (3). الثالثة - قال النخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " (4) [ البقرة: 44 ]، " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " (5) [ هود: 88 ]، " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ". وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت (6) قلت: (من هؤلاء يا جبريل) ؟ قال: (هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون). وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا، فسكت. ثم قيل له: حدثنا. فقال: أترونني (7) أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله !. الرابعة - قوله تعالى: (لم تقولون ما لا تفعلون) استفهام على جهة الانكار والتوبيخ، على أن يقول الانسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم. وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى: " لم تقولون ما لا تفعلون " أي لم تقولون ما ليس الامر فيه إليكم، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون. فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول. (1) كذا في أ، وفى ح، س: " من أين "، ولعل صوابها: " وهبت له ما يؤدى إليكم ". (2) راجع ج 2 ص 239 (3) راجع ج 11 ص 114 (4) راجع ج 1 ص 365 (5) راجع ج 9 ص 89 (6) وفت: تت وطللت. (7) في أ، ط، ه: " تأمروتى " وفى ح، س: " تأمرونني ". (*)
[ 81 ]
الخامسة - قوله تعالى: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) قد يحتج به في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولى الشافعي. و " أن " وقع بالابتداء وما قبلها الخبر، وكأنه قال: قولكم ما لا تفعلون مذموم، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف. الكسائي: " أن " في موضع رفع، لان " كبر " فعل بمنزلة بئس رجلا أخوك. و " مقتا " نصب بالتمييز، المعنى كبر قولهم ما لا يفعلون مقتا. وقيل: هو حال. والمقت والمقاتة مصدران، يقال: رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبه الناس. قوله تعالى: إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله صفا كأنهم بنين مرصوص 4 فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) أي يصفون صفا: والمفعول مضمر، أي يصفون أنفسهم صفا. (كأنهم بنيان مرصوص) قال الفراء: مرصوص بالرصاص. وقال المبرد: هو من رصصت البناء إذا لاءمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة. وقيل: هو من الرصيص وهو انضمام الاسنان بعضها إلى بعض. والتراص التلاصق، ومنه وتراصوا في الصف. ومعنى الآية: يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء. وقال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم. الثانية - وقد استدل بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لان الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. المهدوي: وذلك غير مستقيم، لما جاء في فضل الفارس في الاجر والغنيمة. ولا يخرج الفرسان من معنى الآية، لان معناه الثبات. الثالثة - لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للانسان، أو في رسالة يرسلها الامام، أو في منفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها. وفي الخروج عن
[ 82 ]
الصف للمبارزة خلاف على قولين أحدهما: أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو، وطلبا للشهادة وتحريضا على القتال. وقال أصحابنا: لا يبرز أحد طالبا لذلك، لان فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو. وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر، كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وفي غزوة خيبر، وعليه درج السلف. وقد مضى القول مستوفى في هذا في " البقرة " عند قوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (1) " [ البقرة: 195 ]. قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوآ أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفسقين 5 قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه) لما ذكر أمر الجهاد بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله، وحل العقاب بمن خالفهما، أي واذكر لقومك يا محمد هذه القصة. قوله تعالى: (يا قوم لم تؤذونني) وذلك حين رموه بالادرة، حسب ما تقدم في آخر سورة " الاحزاب " (2). ومن الاذى ما ذكر في قصة قارون: إنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور (3). ومن الاذى قولهم: " اجعل لنا إلها كما لهم (4) آلهة " [ الاعراف: 138 ]. وقولهم: " فاذهب أنت وربك فقاتلا " (5) [ المائدة: 24 ]. وقولهم: إنك قتلت هارون. وقد تقدم (6) هذا. (وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم) والرسول يحترم ويعظم. ودخلت " قد " على " تعلمون " للتأكيد، كأنه قال: وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه. (فلما زاغوا) أي مالوا عن الحق (أزاغ الله قلوبهم) أي أمالها عن الهدى. وقيل: " فلما زاغوا " عن الطاعة " أزاغ الله قلوبهم " عن الهداية. (1) راجع ج 2 ص 361 (2) راجع ج 14 ص 250 (3) راجع ج 13 ص 210 (4) راجع ج 7 ص 273 (5) راجع ج 6 ص 12 8 (6) راجع ج 7 ص 294 (*)
[ 83 ]
وقيل: " فلما زاغوا " عن الايمان " أزاغ الله قلوبهم " عن الثواب. وقيل: أي لما تركوا ما أمروا به من احترام الرسول عليه السلام وطاعة الرب، خلق الله الضلالة في قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم. قوله تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يبنى إسراءيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين 6 قوله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم) أي واذكر لهم هذه القصة أيضا. وقال: " يا بني إسرائيل " ولم يقل " يا قوم " كما قال موسى، لانه لا نسب له فيهم فيكونون قومه. (إنى رسول الله إليكم) أي بالانجيل. (مصدقا لما بين يدى من التوراة) لان في التوراة صفتي، وأني لم آتكم بشئ يخالف التوراة فتنفروا عني. (ومبشرا برسول) مصدقا. " ومبشرا " نصب على الحال، والعامل فيها معنى الارسال. و " إليكم " صلة الرسول. (يأتي من بعدى اسمه أحمد) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " من بعدي " بفتح الياء. وهي قراءة السلمي وزر بن حبيش وأبي بكر عن عاصم. واختاره أبو حاتم لانه اسم، مثل الكاف من بعدك، والتاء من قمت. الباقون بالاسكان. وقرئ " من بعدي اسمه أحمد " بحذف الياء من اللفظ. و " أحمد " اسم نبينا صلى الله عليه وسلم. وهو اسم علم منقول من صفة لا من فعل، فتلك الصفة أفعل التي يراد بها التفضيل. فمعنى " أحمد " أي أحمد الحامدين لربه. والانبياء صلوات الله عليهم كلهم حامدون الله، ونبينا أحمد أكثرهم حمدا. وأما محمد فمنقول من صفة أيضا، وهي في معنى محمود، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار. فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. كما أن المكرم من الكرم مرة بعد مرة. وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه سماه قبل أن يسمي به نفسه. فهذا علم
[ 84 ]
من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو محمود في الدنيا لما هدى إليه ونفع به من العلم والحكمة. وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ. ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى عليه السلام فقال: " اسمه أحمد ". وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لان حمده لربه كان قبل حمد الناس له. فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل. وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الناس لربه ثم يشفع فيحمد على شفاعته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمي في التوراة أحيد لاني أحيد أمتي عن النار واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الاوثان واسمي في الانجيل أحمد واسمي في القرآن محمد لاني محمود في أهل السماء والارض). وفي الصحيح (لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي تحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). وقد تقدم (1). (فلما جاءهم بالبينات) قيل عيسى. وقيل: محمد صلى الله عليهما وسلم. (قالوا هذا سحر مبين) قرأ الكسائي وحمزة " ساحر " نعتا للرجل وروي أنها قراءة ابن مسعود. الباقون " سحر " نعتا لما جاء به الرسول. قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلم والله لا يهدى القوم الظلمين قوله تعالى: (ومن أظلم) أي لا أحد أظلم (ممن افترى على الله الكذب) تقدم في غير موضع (2). (وهو يدعى إلى الاسلام) هذا تعجب ممن كفر بعيسى ومحمد بعد المعجزات التي ظهرت لهما. وقرأ طلحة بن مصرف " وهو يدعي " بفتح الياء والدال وشدها وكسر العين، أي ينتسب. ويدعي وينتسب سواء. (والله لا يهدى القوم الظالمين أي من كان في حكمه أنه يختم له بالضلالة. (1) راجع ج 14 ص 200 (2) راجع ج 6 ص 401 وج 7 ص 39 (*)
[ 85 ]
قوله تعالى: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره وله كره الكفرون 8 قوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) الاطفاء هو الاخماد، يستعملان في النار، ويستعملان فيما يجري مجراها من الضياء والظهور. ويفترق الاطفاء والاخماد من وجه، وهو أن الاطفاء يستعمل في القليل والكثير، والاخماد إنما يستعمل في الكثير دون القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال أخمدت السراج. وفي " نور الله " هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنه القرآن، يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول، قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: إنه الاسلام، يريدون دفعه بالكلام، قاله السدي الثالث - أنه محمد صلى الله عليه وسلم، يريدون هلاكه بالاراجيف، قاله الضحاك. الرابع: حجج الله ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم، قاله ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب، أي من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلا ممتنعا فكذلك من أراد إبطال الحق، حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما، فقال كعب بن الاشرف: يا معشر اليهود، أبشروا ! فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية واتصل الوحي بعدها، حكى جميعه الماوردي رحمه الله. (والله متم نوره) أي بإظهاره في الآفاق. وقرأ (1) ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم " والله متم نوره " بالاضافة على نية الانفصال، كقوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت " [ آل عمران: 185 ] وشبهه، حسب ما تقدم بيانه في " آل عمران (2) ". الباقون " متم نوره " لانه فيما يستقبل، فعمل. (ولو كره الكافرون) من سائر الاصناف. (1) كلمة " وقرأ " ساقطة من ج، س. (2) راجع ج 4 ص 297 (*)
[ 86 ]
قوله تعالى: هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون 9 قوله تعالى: (هو الذى أرسل رسوله بالهدى) أي محمدا بالحق والرشاد. (ليظهره على الدين كله) أي بالحجج. ومن الظهور الغلبة باليد في القتال، وليس المراد بالظهور ألا يبقى دين آخر من الاديان، بل المراد يكون أهل الاسلام عالين غالبين. ومن الاظهار ألا يبقى دين سوى الاسلام في آخر الزمان. قال مجاهد: وذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الارض دين إلا دين الاسلام. وقال أبو هريرة: " ليظهره على الدين كله " بخروج عيسى. وحينئذ لا يبقى كافر إلا أسلم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص (1) فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد). وقيل: " ليظهره " أي ليطلع محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الاديان، حتى يكون عالما بها عارفا بوجوه بطلانها، وبما حرفوا وغيروا منها. " على الدين " أي الاديان، لان الدين مصدر يعبر به عن جمع. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجرة تنجيكم من عذاب أليم 10 تؤمنون بالله ورسوله وتجهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون 11 يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم 12 وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين 13 (1) القلاص (بكسر القاف): الناقة الشابة. (*)
[ 87 ]
فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة) قال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الاسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس منى). فقال عثمان: والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها، فنزلت. وقيل: " أدلكم " أي سأدلكم. والتجارة الجهاد، قال الله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم " [ التوبة: 111 ] الآية. (1) وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل: لاهل الكتاب. الثانية - قوله تعالى: (تنجيكم) أي تخلصكم (من عذاب أليم) أي مؤلم. وقد تقدم (2). وقراءة العامة " تنجيكم " بإسكان النون من الانجاء. وقرأ الحسن وابن عامر أبو حيوة " تنجيكم " مشددا من التنجية. ثم بين التجارة وهى المسألة: الثالثة - فقال: (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) ذكر الاموال أولا لانها التي يبدأ بها في الانفاق. (ذلكم) أي هذا الفعل (خير لكم) من أموالكم وأنفسكم (إن كنتم تعلمون). و " تؤمنون " عند المبرد والزجاج في معنى آمنوا، ولذلك جاء " يغفر لكم " مجزوما على أنه جواب الامر. وفي قراءة عبد الله " آمنوا بالله " وقال الفراء " يغفر لكم " جواب الاستفهام، وهذا إنما يصح على الحمل على المعنى، وذلك أن يكون " تؤمنون بالله، وتجاهدون " عطف بيان على قوله: " هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم " كأن التجارة لم يدر ما هي، فبينت بالايمان والجهاد، فهي هما في المعنى. فكأنه قال: هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم. الزمخشري: وجه قول الفراء أن متعلق الدلالة (1) راجع ج 8 ص 267 (2) راجع ج 1 ص 198 (*)
[ 88 ]
هو التجارة والتجارة مفسرة بالايمان والجهاد. كأنه قيل: هل تتجرون بالايمان والجهاد يغفر لكم. قال المهدوي: فإن لم تقدر هذا التقدير لم تصح المسأله، لان التقدير يصير إن دللتم يغفر لكم، والغفران إنما نعت بالقبول والايمان لا بالدلالة. قال الزجاج: ليس إذا دلهم على ما ينفعهم يغفر لهم، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقرأ زيد بن علي " تؤمنوا "، و " تجاهدوا " على إضمار لام الامر، كقوله: محمد تفد نفسك كل نفس * إذا ما خفت من شئ تبالا (1) أراد لتفد. وأدغم بعضهم فقال: " يغفر لكم " والاحسن ترك الادغام، لان الراء حرف متكرر قوي فلا يحسن إدغامه في اللام، لان الاقوى لا يدغم في الاضعف. الرابعة - قوله تعالى: (ومساكن طيبة) خرج أبو الحسين الآجري عن الحسن قال: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير هذه الآية " ومساكن طيبة " فقالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله صلى الله عيله وسلم عنها فقال: (قصر من لؤلؤة في الجنة فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبر جدة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي الله تبارك وتعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله). " في جنات عدن " أي إقامة. (ذلك الفوز العظيم) أي السعادة الدائمة الكبيرة. وأصل الفوز الظفر بالمطلوب. الخامسة - قوله تعالى: (وأخرى تحبونها) قال الفراء والاخفش: " أخرى " معطوفة على " تجارة " فهي في محل خفض. وقيل: محلها رفع أي ولكم خصلة أخرى وتجارة أخرى تحبونها (نصر من الله) أي هو نصر من الله، ف " نصر " على هذا تفسير (1) اختلف في قائله، فقيل إنه لحسان، وقيل لابي طالب عم الرسول صلوات الله عليه، وقيل للاعشى. (راجع خزانة الادب في الشاهد الثمانين بعد السمائة). والتبال: سوء العاقبة، وهو بمعنى الوبال. وقد ورد صدر هذا البيت في ح، وز، وس، ط مضطربا وغير واضح. (*)
[ 89 ]
" وأخرى ". وقيل: رفع على البدل من " أخرى " أي ولكم نصر من الله. (وفتح قريب) أي غنيمة في عاجل الدنيا، وقيل فتح مكة. وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. (وبشر المؤمنين) برضا الله عنهم. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا كونوآ أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحوارين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فأمنت طائفة من بنى إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظهرين 14 أكد أمر الجهاد، أي كونوا حوارى نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواري عيسى على من خالفهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع " أنصارا لله " بالتنوين. قالوا: لان معناه اثبتوا وكونوا أعوانا لله بالسيف على أعدائه وقرأ الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام " أنصار الله " بلا تنوين، وحذفوا لام الاضافة من اسم الله تعالى. واختاره أبو عبيدة لقوله: " نحن أنصار الله " ولم ينون، ومعناه كونوا أنصارا لدين الله. ثم قيل: في الكلام إضمار، أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله، أي كونوا أنصارا كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين. والحواريون خواص الرسل. قال معمر: كان ذلك بحمد الله، أي نصروه وهم سبعون رجلا، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة. وقيل: هم من قريش. وسماهم قتادة: أبا بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة - واسمه عامر - وعثمان بن مظعون وحمزة بن عبد المطلب، ولم يذكر سعيدا فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. (كما قال عيسى بن مريم للحواريين) وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلا، وقد مضت أسماؤهم في " آل عمران " (1)، وهم أول من آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: (1) راجع ج 4 ص 97، ويلاحظ أنه لم تذكر أسماؤهم، بل ذكر سبب تسميتهم. (*)
[ 90 ]
قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون (1) فاسألهم النصرة، فأتاهم عيسى وقال: من أنصاري إلى الله ؟ قالوا: نحن ننصرك. فصدقوه ونصروه. ومعنى من أنصارى إلى الله أي من أنصاري مع الله، كما تقول: الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود. وقيل: أي من أنصاري فيما يقرب إلى الله. " وقد مضى هذا في آل عمران (1) " (فآمنت طائفة من بنى إسرائيل وكفرت طائفة) والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء، على ما تقدم في " آل عمران " بيانه. " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم الذين كفروا بعيسى. " فأصبحوا ظاهرين " أي غالبين. قال ابن عباس: أيد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار. وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى. وقيل أيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين، من قال كان الله فارتفع، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه، لان عيسى بن مريم لم يقاتل أحدا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال. وقال زيد بن علي وقتادة: " فأصبحوا ظاهرين " غالبين بالحجة والبرهان، لانهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل !. وقيل: نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام. قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والاتباع فطرس وبولس إلى رومية، واندراييس ومثى إلى الارض التي يأكل أهلها الناس. وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق. وفيلبس إلى قرطاجنة وهي أفريقية. ويحنس إلى دقسوس قرية أهل الكهف. ويعقوبس إلى أو ريشلم وهي بيت المقدس،. وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز. وسيمن إلى أرض البربر. ويهودا وبردس إلى الاسكندرية وما حولها (2). فأيدهم الله بالحجة. " فأصبحوا ظاهرين " أي عالين، من قولك: ظهرت على الحائط أي علوت عليه. والله سبحانه وتعالى اعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. (3) (1) القصار: محور الثياب ومبيضها راجع ج 4 ص 97 وص 100 (2) يلاحظ أن هذه الاسماء وردت محرفة في نسخ الاصل، وأئبتناها كما وردت في تاريخ الطبري (ج 3 قسم أول ص 737 طبع أوربا). (3) ما بين المربعين ساقط من ح، ز، س، ط (*)
[ 91 ]
سورة الجمعة مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة). وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الاولون (1) يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة (2) بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال - يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى). بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السموات وما في الارض الملك القدوس العزيز الحكيم 1 تقدم الكلام فيه. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم " الملك القدوس العزيز الحكيم " كلها رفعا، أي هو الملك. قوله تعالى: هو الذى بعث في الامين رسولا منهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلل مبين 2 قوله تعالى: (هو الذى بعث في الاميين رسولا منهم) قال ابن عباس: الاميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لانهم لم يكونوا أهل كتاب. وقيل: الاميون (1) زيادة عن صحيح مسلم. (2) " بيد ": بمعنى غير. (*)
[ 92 ]
الذين لا يكتبون. وكذلك كانت قريش. وروى منصور عن إبراهيم قال: الامي الذي يقرأ ولا يكتب. وقد مضى في " البقرة " (1). (رسولا منهم) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا حي تغلب، فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم فلم يجعل لهم عليه ولادة. وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم. قال الماوردي: فإن قيل ما وجه الامتنان فإن بعث نبيا أميا ؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: لموافقته ما تقدمت به بشارة الانبياء. الثاني: لمشاكلة حال لاحوالهم، فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها. قلت: وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته. قوله تعالى: (يتلو عليهم آياته) يعني القرآن (ويزكيهم) أي يجعلهم أزكياء القلوب بالايمان، قاله ابن عباس. وقيل: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب، قاله ابن جريج ومقاتل. وقال السدي: يأخذ زكاة أموالهم (ويعلمهم الكتاب) يعني القرآن (والحكمة) السنة، قاله الحسن. وقال ابن عباس: " الكتاب " الخط بالقلم، لان الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط. وقال مالك بن أنس: " الحكمة " الفقه في الدين. وقد مضى القول في هذا في " البقرة ". (1) (وإن كانوا من قبل) أي من قبله وقبل أن يرسل إليهم. (لفى ضلال مبين) أي في ذهاب عن الحق. قوله تعالى: وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم 3 قوله تعالى: (وآخرين منهم) هو عطف على " الاميين " أي بعث في الاميين وبعث في آخرين منهم. ويجوز أن يكون منصوبا بالعطف على الهاء والميم في " يعلمهم ويزكيهم "، (1) راجع ج 2 ص 5 وص 136 (*)
[ 93 ]
أي يعلمهم ويعلم آخرين من المؤمنين، لان التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مسندا إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه. (لما يلحقوا بهم) أي لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم. قال ابن عمرو سعيد بن جبير: هم العجم. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة " الجمعة " فلما قرأ " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله ؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا. قال وفينا سلمان الفارسي. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الايمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). في رواية (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال - من أبناء فارس حتى يتناوله لفظ مسلم. وقال عكرمة: هم التابعون. مجاهد: هم الناس كلهم، يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقاله ابن زيد ومقاتل ابن حيان. قالا: هم من دخل في الاسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. وروى سهل بن سعد الساعدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في أصلاب أمتي رجالا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب - ثم تلا - " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ". والقول الاول أثبت. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيتني أسقي غنما سودا ثم اتبعتها غنما عفرا أولها يا أبا بكر) فقال: يا رسول الله، أما السود فالعرب، وأما الغفر فالعجم تتبعك بعد العرب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذا أولها الملك) يعني جبريل عليه السلام. رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله تعالى: ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم 4 قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش. وقيل: يعنى الاسلام، فضل الله يؤتيه من يشاء، قاله الكلبي. وقيل: يعنى الوحي والنبوة، قاله مقاتل. وقول رابع: إنه المال
[ 94 ]
ينفق في الطاعة، وهو معنى قول أبي صالح. وقد روى مسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم. فقال: (وما ذاك) ؟ قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة). قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الاموال بما فلعنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء). وقول خامس: أنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته. والله اعلم. قوله تعالى: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بأيات الله والله لا يهدى القوم الظلمين 5 ضرب مثلا لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. " حملوا التوراة " أي كلفوا العمل بها، عن ابن عباس. وقال الجرجاني: هو من الحمالة بمعنى الكفالة، أي ضمنوا أحكام التوراة. (كمثل الحمار يحمل أسفارا) هي جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، لانه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل، (1) فهكذا اليهود. وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه، لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء. وقال الشاعر: (2) (1) في ح، ز، س، ه: " أم ز بل ". (2) هو مروان بن سليمان بن يحيى بن أبى حفصة، يهجو قوما من رواة الشعر. (*)
[ 95 ]
زوامل للاسفار لا علم عندهم * وبجيدها إلا كعلم الاباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا * بأوساقه أو راح ما في الغرائر (2) وقال يحيى بن يمان: يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب. وقال الشاعر: إن الرواة على جهل بما حملوا * مثل الجمال عليها يحمل الودع لا الودع ينفعه حمل الجمال له * ولا الجمال بحمل الودع تنتفع وقال منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله فأحسن: انعق بما شئت تجد أنصارا * ووزم أسفارا تجد حمارا يحمل ما وضعت من أسفار * يحمله كمثل الحمار يحمل أسفارا له وما درى * إن كان ما فيها صوابا وخطا (3) إن سئلوا قالوا كذا روينا * ما إن كذبنا ولا اعتدينا كبيرهم يصغر عند الحفل * لانه قلد (4) أهل الجهل " ثم لم يحملوها " أي لم يعملوا بها. شبههم - والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها - بالحمار يحمل كتبا وليس له إلا ثقل الحمل من غير فائدة. و " يحمل " في موضع نصب على الحال، أي حاملا. ويجوز أن يكون في موضع جر على الوصف، لان الحمار كاللئيم. قال: ولقد أمر على اللئيم يسبني (5) * (بئس مثل القوم) المثل الذي ضربناه لهم، فحذف المضاف. (والله لا يهدى القوم الظالمين) أي من سبق في علمه أنه يكون كافرا. (1) الوسق (بفتح الواو وسكون السين): حمل البعير. (2) الغرائر: جمع الغرارة (بالكسر) الجوالق. (3) كذا في الاصول، مع هذه الزيادة التى يستقيم بها الوزن. ويحتمل أن يكون صوابه: * أكان ما فيها جمانا أو بري * والجمان (بالضم): اللؤلؤ. والبرى: التراب. (4) في نسخة: " قدر ". (5) وتمامه: * فضيت ثمت قلت لا يعنينى * (*)
[ 96 ]
قوله تعالى: قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صدقين 6 ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين 7 لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: " نحن أبناء الله وأحباؤه " [ المائدة: 18 ] قال الله تعالى: " إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس " فللاولياء عند الله الكرامة. (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم) أي أسلفوه من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، فلو تمنوه لماتوا، فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية. وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: (والذي نفس محمد بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات). وفى هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد مضى معنى هذه الآية في " البقرة " في قوله تعالى -: " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (1) " [ البقرة: 94 ]. قوله تعالى: قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملقيكم هم تردون إلى علم الغيب والشهدة فينبئكم بما كنتم تعملون 8 قال الزجاج: لا يقال: إن زيدا فمنطلق، وها هنا قال: " فإنه ملاقيكم " (2) لما في معنى " الذي " من الشرط والجزاء، أي إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا يفنع الفرار منه. قال زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أسباب السماء بسلم قلت: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله قوله: " الذي تفرون منه " ثم يبتدئ " فإنه ملاقيكم ". وقال طرقة: (1) راجع ج 2 ص 33 (2) ما بين المربعين ساقط من ح، س. (*)
[ 97 ]
وكفى بالموت فاعلم واعظا * لمن الموت عليه قد قدر فاذكر الموت وحاذر ذكره * إن في الموت لذي اللب عبر كل شئ سوف يلقى حتفه * في مقام أو على ظهر سفر والمنايا حوله ترصده * ليس ينجيه من الموت الحذر قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون 9 فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة) قرأ عبد الله بن الزبير والاعمش وغيرهما " الجمعة " بإسكان الميم على التخفيف. وهما لغتان. وجمعهما جمع وجمعات. قال الفراء: يقال الجمعة (بسكون الميم) والجمعة (بضم الميم) والجمعة (بفتح الميم) فيكون صفة اليوم، أي تجمع الناس. كما يقال: ضحكة للذي يضحك. وقال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرءوها جمعة، يعني بضم الميم. وقال الفراء وأبو عبيد: والتخفيف أقيس وأحسن، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وحجرة وحجر. وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وعن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سميت جمعة لان الله جمع فيها خلق آدم). وقيل: لان الله تعالى فرغ فيها من خلق كل شئ فاجتمعت فيها المخلوقات. وقيل: لتجتمع الجماعات فيها. وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة. و " من " بمعنى " في "، أي في يوم، كقوله تعالى: " أروني ماذا خلقوا من الارض (1) " [ فاطر: 40 ] أي في الارض. الثانية: قال أبو سلمة: أول من قال: " أما بعد " كعب بن لوي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة. وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة. وقيل: أول من سماها جمعة الانصار. (1) راجع ج 15 ص 58 (*)
[ 98 ]
قال ابن سيرين: جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، وذلك أنهم قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه، في كل سبعة أيام يوم وهو السبت. وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الاحد فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه - ونستذكر - أو كما قالوا - فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الاحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة (أبو أمامة رضي الله عنه) فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا. فذبح لهم أسعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم. فهذه أول جمعه في الاسلام. قلت: وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلا على ما يأتي. وجاء في هذه الرواية: أن الذي جمع بهم وصلى أسعد بن زرارة، وكذا في حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب على ما يأتي. وقال البيهقي: وروينا عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أن مصعب ابن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه. والله اعلم. وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا حتى نزل بقباء، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول حين اشتد الضحى. ومن تلك السنة يعد التاريخ. فأقام بقباء إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا، فجمع بهم وخطب. وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها: (الحمد لله. أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسول، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع
[ 99 ]
من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الاجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد. ومن يعص الله ورسول فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا. أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. واحذروا ما حذركم الله من نفسه، فإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر (1) الآخرة. ومن يصلح الذي بينه وبين ربه من أمره في السر والعلانية، لا ينوي به إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. " ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد (2) " [ آل عمران: 30 ]. وهو الذي صدق قول، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول تعالى: " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد " (3) [ ق: 29 ]. فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " (4) [ الطلاق: 5 ]. ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما. وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه. وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله تعالى، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس. ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه. الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). وأول جمعة جمعت بعدها جمعة بقرية يقال لها: " جواثي " من قرى البحرين. وقيل: إن أول من سماها الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب، كما تقدم. والله اعلم. (1) زيادة عن تاريخ الطبري والبداية والنهاية. (2) ج 4 ص 59 (3) ج 17 ص 17 (4) ص 166 من هذا الجزء. (*)
[ 100 ]
الثالثة: خاطب الله المومنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما فقال: " يا أيها الذين آمنوا " ثم خصه بالنداء، وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: " وإذا ناديتم إلى الصلاة (1) " [ المائدة: 58 ] ليدل على وجوبه وتأكيد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة ها هنا معلوم بالاجماع لا من نفس اللفظ قال ابن العربي: وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة وهي قول: " من يوم الجمعة " وذلك يفيده، لان النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة. فأما غيرها فهو عام في سائر الايام. ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة. الرابعة: فقد تقدم حكم الاذان في سورة " المائدة " مستوفي. (2) وقد كان الاذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سائر الصلوات، يؤذن واحد إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر. وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة. ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثا (3) على داره التي تسمى " الزوراء (4) " حين كثر الناس بالمدينة. فإذا سمعوا أقبلوا، حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخطب عثمان. خرجه ابن ماجة في سننه من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد، إذا خرج أذن وإذا نزل أقام. وأبو بكر وعمر كذلك. فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها " الزوراء "، فإذا خرج أذن وإذا نزل أقام. خرجه البخاري من طرق بمعناه. وفي بعضها: أن الاذان الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الامام. وقال الماوردي: فأما الاذان الاول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها. وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن (1) آية 58 سورة المائدة. (2) راجع ج 6 ص 224 وما بعدها. (3) أي أول الوقت عند الزوال. وسماه ثالثا باعتبار كونه مزيدا على الاذان بين يدى الامام والاقامة للصلاة. فهو أول باعتبار الوجود، ثالث باعتبار مشروعية عثمان له باجتهاده وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الانكار. (4) الزوراء: موضع بالسوق بالمدينة، قيل إنه مرتفع كالمنارة. وقيل: حجر كبير عند باب المسجد. (*)
[ 101 ]
يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قال ابن العربي. وفي الحديث الصحيح: أن الاذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا، فلما كان زمن عثمان زاد الاذان الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث ثالثا لانه أضافه إلى الاقامة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء) يعني الاذان والاقامة. ويتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم. ورأيتهم يؤذنون بمدينة السلام بعد أذان المنار بين يدي الامام تحت المنبر في جماعة.، كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية. وكل ذلك محدث. الخامسة - قوله تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله) أختلف في معنى السعي ها هنا على ثلاثة أقوال: أولها: القصد. قال الحسن: والله ما هو بسعي على الاقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. الثاني: أنه العمل، كقوله تعالى: " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن " (1) [ الاسراء: 19 ]، وقوله: " إن سعيكم لشتى " (2) [ الليل: 4 ]، وقوله: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " (3) [ النجم: 39 ]. وهذا قول الجمهور. وقال زهير: * سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم (4) * وقال أيضا: سعى ساعيا غيظ بن مرة بعد ما * تبزل ما بين العشيرة بالدم (5) أي فاعملوا على المضي إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتطهير والتوجه إليه. الثالث: أن المراد به السعي على الاقدام. وذلك فضل وليس بشرط. ففي البخاري: أن (1) راجع ج 10 ص 235 (2) راجع ج 20 ص 82 (3) راجع ج 17 ص 114 (4) وعجزه: * فلم يفعلوا ولم يلاموا ولم يألوا * (5) في شرح ديوان زهير: " الساعيان ": الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، سعيا في الديات. وقيل: خارجة بن سنان والحارث بن عوف، " سعيا " أي عملا حسنا. و " غيظ بن مرة ": حى من غطفان بن سعد. و " تبزل بالدم ": أي تشقق. يقول: كان بينهم صلح فتشقق بالدم. يقول: سعيا بعد ما تشقق فأصلحا. (*)
[ 102 ]
أبا عبس بن جبر - واسمه عبد الرحمن وكان من كبار الصحابة - مشى إلى الجمعة راجلا وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار). ويحتمل ظاهره رابعا: وهو الجري والاشتداد قال ابن العربي: وهو الذي أنكره الصحابة الاعلمون والفقهاء الاقدمون. وقرأها عمر: " فامضوا إلى ذكر الله " فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل على الظاهر. وقرأ ابن مسعود كذلك وقال: لو قرأت " فاسعوا " لسعيت حتى يسقط ردائي. وقرأ ابن شهاب: " فامضوا إلى ذكر الله سالكا تلك السبيل ". وهو كله تفسير منهم، لا قراءة قرآن منزل. وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير. قال أبو بكر الانباري: وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود، وأن خرشة بن الحر قال: رآني عمر رضي الله عنه ومعي قطعة فيها " فاسعوا إلى ذكر الله " فقال لي عمر: من أقرأك هذا ؟ قلت أبي. فقال: إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ. ثم قرأ عمر " فامضوا إلى ذكر الله ". حدثنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم عن خرشة، فذكره. وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: ما سمعت عمر يقرأ قط إلا " فامضوا إلى ذكر الله ". وأخبرنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أن عبد الله بن مسعود قرأ " فامضوا إلى ذكر الله " وقال: لو كانت " فاسعوا " لسعيت حتى يسقط ردائي. قال أبو بكر: فاحتج عليه بأن الامة أجمعت على " فاسعوا " برواية ذلك عن الله رب العالمين ورسوله صلى الله عليه وسلم. فأما عبد الله بن مسعود فما صح عنه " فامضوا " لان السند غير متصل، إذ إبراهيم النخعي لم يسمع عن عبد الله بن مسعود شيئا، وإنما ورد " فأمضوا " عن عمر رضي الله عنه. فإذا انفرد أحد بما يخالف الآية والجماعة كان ذلك نسيانا منه. والعرب مجمعة على أن السعي يأتي بمعنى المضي، غير أنه لا يخلو من الجد والانكماش. قال زهير: سعى ساعيا غيظ بمرة بعد ما * تبزل ما بين العشيرة بالدم
[ 103 ]
أراد بالسعي المضي بجد وانكماش، ولم يقصد للعدو والاسراع في الخطو. وقال الفراء وأبو عبيدة: معنى السعي في الآية المضي. واحتج الفراء بقولهم: هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله، معناه هو يمضي بجد واجتهاد. واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر: أسعى على جل بني مالك * كل امرئ في شأنه ساعي فهل يحتمل السعي في هذا البيت إلا مذهب المضي بالانكماش، ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود على فصاحته وإتقان عربيته. قلت: ومما يدل على أنه ليس المراد ها هنا العدو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة). قال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الاقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك. وهذا حسن، فإنه جمع الاقوال الثلاثة. وقد جاء في الاغتسال للجمعة والتطيب والتزين باللباس أحاديث مذكورة في كتب الحديث. السادسة: قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمكلفين بإجماع. ويخرج منه المرضى والزمني والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجممة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد) خرجه الدار قطني وقال علماؤنا رحمهم الله: ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه منه الاتيان إليها، مثل المرض الحابس، أو خوف الزيادة في المرض، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع. ولو يره مالك عذرا له، حكاه المهدوي. ولو تخلف عنها متخلف على ولي حميم له قد حضرته الوفاة، ولم يكن عنده من يقوم بأمره رجا أن يكون في سعة. وقد فعل ذلك ابن عمر.
[ 104 ]
ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الامام أعاد، ولا يجزيه أن يصلي قبله. وهو في تخلفه عنها مع إمكانه لذلك عاص لله بفعله. السابعة: قوله تعالى: " إذا نودي للصلاة " يختص بوجوب الجمعة على (1) القريب الذي يسمع النداء، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب. واختلف فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي، فقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس: تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال. وقال ربيعة: أربعة أميال. وقال مالك والليث: ثلاثة أميال. وقال الشافعي: اعتبار سماع الاذان أن يكون المؤذن صيتا، (2) والاصوات هادئة، والريح ساكنة وموقف المؤذن عند سور البلد. وفي الصحيح عن عائشة: أن الناس كانوا ينتابون (3) الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في الغبار (4) ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو اغتسلتم ليومكم هذا) قال علماؤنا: والصوت إذا كان منيعا والناس في هدوء وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال. والعوالي من المدينة أقربها على ثلاثة أميال. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: تجب الجمعة على من سمع النداء. وروى الدار قطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الجمعة على من سمع النداء). وقال أبو حنيفة وأصحابه تجب على من في المصر، سمع النداء أو لم يسمعه، ولا تجب على من هو خارج المصر وإن سمع النداء. حتى سئل: وهل تجب الجمعة على أهل زبارة - بينها وبين الكوفة مجرى نهر - ؟ فقال لا. وروي عن ربيعه أيضا: أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. وقد روي عن الزهري: أنها تجب عليه إذا سمع الاذان. الثامنة: قوله تعالى: " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت، بدليل قوله (1) التكملة عن ابن العربي. (2) رجل صيت: شديد الصوت عاليه. (3) أي يحضرونها نوبا. وفى رواية " يتناوبون ". (4) في ح، ز، س " في العباء " بفتح العين المهملة والمد، جمع عباءة. (*)
[ 105 ]
عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليومكما أكبر كما) قاله لمالك ابن الحويرث وصاحبه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وقد روي عن أبي الصديق وأحمد بن حنبل أنها تصلي قبل الزوال. وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الاكوع: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظل. وبحديث ابن عمر: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. ومثله عن سهل. خرجه مسلم. وحديث سلمة محمول على التبكير. رواه هشام بن عبد الملك عن يعلي بن الحارث عن إياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه. وروى وكيع عن يعلي عن إياس عن أبيه قال: كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفئ. وهذا مذهب الجمهور من الخلف والسلف، وقياسا على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسهل، دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة. وقد رأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. وتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الاولى فكأنما قرب بدنة...) الحديث بكماله إنه كان في ساعة واحدة. وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه. ابن العربي: وهو أصح، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها. التاسعة: فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم، ردا على من يقول: إنها فرض على الكفاية، ونقل عن بعض الشافعية. ونقل عن مالك من لم يحقق: أنها سنة. وجمهور الامة والائمة أنها فرض على الاعيان، لقول الله تعالى: " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ". وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين). وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها. وفي سنن ابن ماجه عن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها
[ 106 ]
طبع الله على قلبه). إسناده صحيح. وحديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه). ابن العربي: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم). العاشرة: أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات، لقوله عز وجل: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " [ المائدة: 6 ] الآية. (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور). وأغربت طائفة فقالت: إن غسل الجمعة فرض. ابن العربي: وهذا باطل، لما روى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة (2) فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى (3) فقد لغا (4) وهذا نص. وفي الموطأ: أن رجلا دخل يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب... - الحديث (5) إلى أن قال: - ما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا ؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. فأمر (6) عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع، فدل على أنه محمول على الاستحباب. فلم يمكن وقد تلبس بالفرض - وهو الحضور والانصات للخطبة - أن يرجع عنه إلى السنة، وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالي عمر، وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. (1) راجع ج 6 ص 6 (2) ما بين المربعين لم يرد في صحيح مسلم. (3) أي سواه للسجود غير مرة في الصلاة. (4) اللغو: الكلام المطرح الساقط. (5) الحديث كما ورد في الموطا وشرحه: " دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد يوم الجمعة وعمر يخطب. فقال عمر: أية ساعة هذه ؟ (إشارة إلى أن هذه الساعة ليست من ساعات الرواح إلى الجمعة لانه وقت طويت فيه الصحف) - فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت - (اعتذار منه على أنه لم يشتغل بغير الفرض مبادرة إلى سماع الخطبة والذكر) - فقال عمر: الوضوء أيضا ! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. (معناه أنك مع ما فاتك من التهجير فاتتك فضيلة الغسل الذى قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر به) (6) في الاصول: " فأقر " بالقاف. والتصويب عن ابن العربي. (*)
[ 107 ]
الحادية عشرة - لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد، خلافا لاحمد بن حنبل فإنه قال: إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة، لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها. وتعلق في ذلك بما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لاهل العوالي (1) أن يتخلفوا عن الجمعة. وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه. والامر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الايام. وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: ب " سبح اسم ربك الاعلى " [ الاعلى. 1 ] و " هل أتاك حديث الغاشية " [ الغاشية: 1 ] قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. الثانية عشرة - قوله تعالى: (إلى ذكر الله) أي الصلاة. وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير. ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة. وبه قال علماؤنا، إلا عبد الملك بن الماجشون فإنه رآها سنة. والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته، لان المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبحا لله بفعله. الزمخشري: فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك ! قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله. فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك، فهو من ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (وذروا البيع) منع الله عزوجل منه عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها. والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله تعالى: " سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم " (2) [ النحل 81 ]. وخص البيع لانه أكثر ما يشتغل به أصحاب الاسواق. ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء. (1) العوالي: أما كن بأعلى أراضي المدينة وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية. (2) راجع ج 10 ص 160 (*)
[ 108 ]
وفي وقت التحريم قولان: إنه من بعد الزوال إلى الفراغ منها، قاله الضحاك والحسن وعطاء. الثاني - من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة، قاله الشافعي. ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع في ذلك الوقت. ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا: وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. ابن العربي: والصحيح فسخ الجميع، لان البيع إنما منع منه للاشتغال به. فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا. المهدوي. ورأى بعض العلماء البيع في الوقت المذكور جائزا، وتأول النهي عنه ندبا، واستدل بقوله تعالى: " ذلكم خير لكم ". قلت: - وهذا مذهب الشافعي، فإن البيع ينعقد عنده ولا يفسخ. وقال الزمخشري في تفسيره: إن عامة العلماء على أن ذلك لا يؤدي فساد البيع. قالوا: لان البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الارض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب. وعن بعض الناس أنه فاسد. قلت: والصحيح فساده وفسخه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد). أي مردود. والله اعلم. قوله تعالى: فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 10 قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض) هذا أمر إباحة، كقوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " (1) [ المائدة: 2 ]. يقول: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الارض للتجارة والتصرف في حوائجكم. (وابتغوا من فضل الله) أي من رزقه. وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت (1) راجع ج 6 ص 44 (*)
[ 109 ]
فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. وقال جعفر ابن محمد في قوله تعالى: " وابتغوا من فضل الله " إنه العمل في يوم السبب. وعن الحسن ابن سعيد بن المسيب: طلب العلم. وقيل: صلاة التطوع. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شئ من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة الاخ في الله تعالى. قوله تعالى: (واذكروا الله كثيرا) أي بالطاعة واللسان، وبالشكر على ما به أنعم عليكم من التوفيق لاداء الفرائض. (لعلكم تفلحون) كي تفلحوا. قال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح. وقد مضى هذا مرفوعا في " البقرة ". (1) قوله تعالى: وإذا رأوا تجرة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجرة والله خير الرزقين 11 فيه سبع عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة، فجاءت عير (2) من الشام فانفتل (2) الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا - في رواية أنا فيهم - فانزلت هذه الآية التي في الجمعة " وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما ". في رواية: فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد ذكر الكلبي وغيره: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت، (3) وضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا. وقيل: أحد عشر رجلا. قال الكلبي: وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليها، وبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال، حكاه الثعلبي عن ابن عباس، وذكر (1) راجع ج 2 ص 171 (2) العير - بكسر العين -: الابل محمل الميرة، ثم غلب على كل قافلة. وانفئل الناس: انصرفوا. (3) أحجار الزيت: مكان في سوق المدينة. (*)
[ 110 ]
الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع، (1) فالتفتوا إليها وانفضوا إلها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا أربعون رجلا أنا فيهم. قال: وأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما). قال الدارقطني: لم يقل في هذا الاسناد " إلا أربعين رجلا " غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين فقالوا: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لاضرم الله عليهم الوادي نارا)، ذكره الزمخشري. وروي في حديث مرسل أسماء الاثني عشر رجلا، رواه أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد. وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن ابن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد وبلال، وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين. وفي الرواية الاخرى عمار بن ياسر. قلت: لم يذكر جابرا، وقد ذكر مسلم أنه كان فيهم، والدار قطني أيضا. فيكونون ثلاثة عشر. وإن كان عبد الله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر. وقد ذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لانفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقا بفضلهم ألا يفعلوا، فقال: حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الوليد قال أخبرني أبو معاذ بكر بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل، رجل فقال: إن دحية بن خليفة الكلبي قدم بتجارة، (2) وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شئ، فأنزل الله عز وجل: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ". فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة. وكان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، يشير إليه (1) البقيع: مقبرة بالمدينة. (2) في س، ز، ط، ل، ه: " قدم بتجارته ".
[ 111 ]
بأصبعه التي تلي الابهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده. فكان من المنافقين من ثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، وكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج، فأنزل الله تعالى: " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا (1) " [ النور: 63 ] الآية. قال السهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحا. وقال قتادة: وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات، كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة. وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارته ونظرهم إلى العير تمر، لهو لا فائدة فيه، إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على غير ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الاعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته، غلظ وكبر ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ما يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه). الحديث. وقد مضى في سورة (الانفال " (2) فلله الحمد. وقال جابر بن عبد الله: كانت الجواري إذا نكحن يمررن (3) بالمزامير والطبل فانفضوا إليها، فنزلت وإنما رد الكنابة إلى التجارة لانها أهم. وقرأ طلحة بن مصرف " وإذا رأوا التجار واللهو انفضوا إليها ". وقيل: المعنى وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه فحذف لدلالته. كما قال: نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف وقيل: الاجود في العربية أن يجعل الراجع في الذكر للآخر من الاسمين. الثانية - واختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال، فقال الحسن: تنعقد الجمعة باثنين. وقال الليث وأبو يوسف، تنعقد بثلاثة. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: بأربعة. وقال ربيعة: باثني عشر رجلا. وذكر النجاد أبو بكر أحمد بن سليمان (4) قال: حدثنا أبو خالد يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق، حدثنا صبح بن دينار قال حدثنا (1) راجع ج 12 ص 322 (2) راجع ج 8 ص 35 (3) في أ: " يزمرن ". (4) في بعض المصادر: " سلمان ". (*)
[ 112 ]
المعافي بن عمران حدثنا معقل بن عبيد الله عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ، فجمع بهم وهم اثنا عشر رجلا ذبح لهم يومئذ شاة. وقال الشافعي: بأربعين رجلا. وقال أبو إسحاق الشيرازي في (كتاب التنبيه على مذهب الامام الشافعي): كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمين، لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة، وأن يكونوا حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة وجبت عليهم الجمعة. ومال أحمد وإسحاق إلى هذا القول ولم يشترطا هذه الشروط. وقال مالك: إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد. وكتب عمر بن عبد العزيز: أي قرية اجتمع فيها ثلاثون بيتا فعليهم الجمعة وقال أبو حنيفة: لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى، لا يجوز لهم إقامتها فيها. واشترط في وجوب الجمعة وانعقادها: المصر الجامع والسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري. واحتج بحديث علي: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ورفقة تعينهم. (1) وهذا يرده حديث ابن عباس، قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثي. وحجة الامام الشافعي في الاربعين حديث جابر المذكور الذي خرجه الدارقطني. وفي سنن ابن ماجة والدارقطني أيضا ودلائل النبوة للبيهقي عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الاذان، صلى على أبي أمامة واستغفر له - قال - فمكث كذلك حينا لا يسمع الاذان بالجمعة إلا فعل ذلك، فقلت له: يا أبة، استغفارك لابي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة، ما هو ؟ قال: أي بني، هو أول من جمع بالمدينة في هزم (2) من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخضمات، قال قلت: كم أنتم يومئذ ؟ قال أربعون رجلا. وقال جابر بن عبد الله: (1) ما بين المربعين كذا ورد في نسخ الاصل. (2) الهزم: ما اطمأن من الارض. وحرة بنى بياضة: قرية على ميل من المدينة. و " بياضة ": بطن من الانصار. (*)
[ 113 ]
مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا، وذلك أنهم جماعة. خرجه الدار قطني. وروى أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد: قرئ على عبد الملك ابن محمد الرقاشي وأنا أسمع حدثني رجاء بن سلمة قال حدثنا أبي قال حدثنا روح بن غطيف الثقفي قال حدثني الزهري عن أبي سلمة قال: قلت لابي هريرة على كم تجب الجمعة من رجل ؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قرئ على عبد الملك بن محمد وأنا أسمع قال حدثنا رجاء بن سلمة قال حدثنا عباد ابن عباد المهلبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تجب الجمعة على خمسين رجلا ولا تجب على من دون ذلك). قال ابن المنذر: وكتب عمر بن عبد العزيز: أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليصلوا الجمعة. وروى الزهري عن أم عبد الله الدوسية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة). يعني بالقرى: المدائن. لا يصح هذا عن الزهري. في رواية (الجمعة واجبة على أهل كل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثه رابعهم إمامهم). الزهري (1) لا يصح سماعه من الدوسية. والحكم (2) هذا (1) متروك. الثالثة - وتصح الجمعة بغير إذن الامام وحضوره. وقال أبو حنيفة: من شرطها الامام أو خليفته. ودليلنا أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما فصلى ابن مسعود بالناس من غير إذنه. وروي أن عليا صلى الجمعة يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه. وروي أن سعيد بن العاصي والي المدينة لما خرج من المدينة صلى أبو موسى بالناس الجمعة من غير استئذان. وقال مالك: إن لله فرائض في أرضه لا يضيعها، وليها وال أو لم يلها. الرابعة - قال علماؤنا: من شرط أدائها المسجد المسقف. قال ابن العربي: ولا اعلم وجهه. (1) الزيادة عن الدار قطني. (2) هو الحكم بن عبد الله، أحد رجال سند هذا الحديث. (*)
[ 114 ]
قلت: وجهه قوله تعالى: " وطهر بيتي للطائفين " (1) [ الحج: 26 ]، وقوله: " في بيوت أذن الله أن ترفع " (1) [ النور: 36 وحقيقة البيت أن يكون ذا حيطان وسقف. هذا العرف، والله اعلم. الخامسة - قوله تعالى: (وتركوك قائما) شرط في قيام الخطيب على المنبر إذا خطب. قال علقمة: سئل عبد الله أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا ؟ فقال: أما تقرأ " وتركوك قائما ". وفي صحيح مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا فقال: انظروا إلى هذا الخبيث، يخطب قاعدا وقال الله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ". وخرج عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة. وعلى هذا جمهور الفقهاء وأئمة العلماء. وقال أبو حنيفة: ليس القيام بشرط فيها. ويروى أن أول من خطب قاعدا معاوية. وخطب عثمان قائما حتى رق فخطب قاعدا. وقيل: إن معاوية إنما خطب قاعدا لسنه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم ولا يتكلم في قعدته. رواه جابر بن سمرة. ورواه ابن عمر في كتاب البخاري. السادسة: والخطبة شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن: هي مستحبة. وكذا فال ابن الماجشون: إنها سنة وليست بفرض. وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك الركعتين من صلاة الظهر. والدليل على وجوبها قوله تعالى: " وتركوك قائما ". وهذا ذم، والواجب هو الذي يذم تاركه شرعا، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا بخطبة. السابعة: ويخطب متوكئا على قوس أو عصا. وفي سنن ابن ماجة قال حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد قال حدثني أبي عن أبيه عن جده (1) راجع ج 12 ص 36. وص 265 (*)
[ 115 ]
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا. الثامنة: ويسلم إذا صعد المنبر على الناس عند الشافعي وغيره. ولم يره مالك. وقد روى ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم. التاسعة: فإن خطب على غير طهارة الخطبة كلها أو بعضها أساء عند مالك، ولا إعادة عليه إذا صلى طاهرا. وللشافعي قولان في إيجاب الطهارة، فشرطها في الجديد ولم يشترطها في القديم. وهو قول أبي حنيفة. العاشرة: وأقل ما يجزي في الخطبة أن يحمد الله ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ويوصي بتقوى الله ويقرأ آية من القران. ويجب في الثانية أربع كالاولى، إلا أن الواجب بدلا من قراءة الآية في الاولى الدعاء، قال أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة: لو اقتصر على التحميد أو التسبيح أو التكبير أجزأه. وعن عثمان رضي الله عنه أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله، وارتج عليه فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل فصلى. وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر عليه أحد. وقال أبو يوسف ومحمد: الواجب ما تناوله اسم خطبة. وهو قول الشافعي. قال أبو عمر بن عبد البر: وهو أصح ما قيل في ذلك. الحادية عشرة: في صحيح مسلم عن يعلى بن أمية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر " ونادوا يا مالك " (1) [ الزخرف: 77 ]. وفيه عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة قالت: ما أخذت " ق والقرآن المجيد " [ ق: 1 ] إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة. وقد مضى في أول (2) " ق ". وفي مراسيل أبي داود عن الزهري قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم (الحمد لله. نحمده ونستعينه ونستغفره، (1) راجع ج 16 ص 116 (2) راجع ج 17 ص 1 (*)
[ 116 ]
ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونديرا بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله). وعنه قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب: (كل ما هو آت قريب، و (1) لا بعد لما هو آت. لا يعجل الله لعجلة أحد، (2) ولا يخف لامر الناس. ما شاء الله لا ما شاء الناس. يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس. ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله. لا يكون شئ إلا بإذن الله عز وجل. وقال جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب فيقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه: (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات. والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم). وقد تقدم ما خطب به عليه الصلاة والسلام أول جمعة عند قدومه المدينة. الثانية عشرة: السكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سنة. والسنة أن يسكت لها من يسمع ومن لم يسمع، وهما إن شاء الله في الاجر سواء. ومن تكلم حينئذ لغا، ولا تفسد صلاته بذلك. وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والامام يخطب فقد لغوت). الزمخشري: وإذا قال المنصت لصاحبه صه، فقد لغا، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغيا ؟ نعوذ بالله من غربة الاسلام ونكد الايام. (1) زيادة عن مراسيل أبى داود. (2) في الاصول: " لعجله آت " والتصويب عن مراسيل أبى داود. (*)
[ 117 ]
الثالثة عشرة: ويستقبل الناس الامام إذا صعد المنبر، لما رواه أبو داود مرسلا عن أبان بن عبد الله قال: كنت مع عدي بن ثابت يوم الجمعة، فلما خرج الامام - أو قال صعد المنبر - استقبله وقال: هكذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن ماجة عن عدي بن ثابت عن أبيه، فزاد في الاسناد: عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم. قال ابن ماجة: أرجو أن يكون متصلا. قلت: وخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا عبد الله بن محمد ابن ناجية قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا محمد بن الفضل الخراساني عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا. تفرد به محمد بن الفضل بن عطية عن منصور. الرابعة عشرة: ولا يركع من دخل المسجد والامام يخطب، عند مالك رحمه الله. وهو قول ابن شهاب رحمه الله وغيره. وفي الموطأ عنه: فخروج الامام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. وهذا مرسل. وفي صحيح مسلم من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز (1) فيهما). وهذا نص في الركوع. وبه يقول الشافعي وغيره. الخامسة عشرة:...... (2) ابن عون عن ابن سيرين قال: كانوا يكرهون النوم والامام يخطب ويقولون فيه قولا شديدا. قال ابن عون: ثم لقيني بعد ذلك فقال: تدري ما يقولون ؟ قال: يقولون مثلهم كمثل سرية أخفقوا، ثم قال: هل تدري ما أخفقوا ؟ لم تغنم شيئا. وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نعس أحدكم فليتحول إلى مقعد صاحبه وليتحول صاحبه إلى مقعده). (1) أي وليخفف أداءهما. (2) بياض في أ. (*)
[ 118 ]
السادسة عشرة: نذكر فيها من فضل الجمعة وفرضيتها ما لم نذكره. روى الائمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه) وأشار بيده يقللها. (1) وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هي ما بين أن يجلس الامام إلى أن تقضى الصلاة). وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ علينا ذات يوم، فلما خرج قلنا: احتبست ! قال: (ذلك أن جبريل أتاني بكهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة فيها خير لك ولامتك وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطئوها وهداكم الله لها قلت يا جبريل ما هذه النكتة السوداء قال هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه أو ادخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وإنه خير الايام عند الله وإن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد). وذكر الحديث. وذكر ابن المبارك ويحيى ابن سلام قالا: حدثنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبى عبيده بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لاهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب (2) من كافور أبيض، فيكونون منه في القرب - قال ابن المبارك - على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا. وزاد فيحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك. قال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه: وهو قوله تعالى: " ولدينا مزيد " (3) [ ق: 35 ]. قلت: قوله " في كثيب " يريد أهل الجنة. أي وهم على كثيب، كما روى الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه وفيه نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن (1) أي يشير إلى قلة تلك الساعة وعدم امتدادها. (2) الكثيب: الرمل المستطيل. (3) راجع ج 17 ص 21 (*)
[ 119 ]
أصوات سمعها الاولون والآخرون فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد ما شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله لهم في كل جمعة) ذكره يحيى بن سلام. وعن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلة أسري بي رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل مدائنكم (1) هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدسونه ويقولون في تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة) ذكره الثعلبي. وخرج القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح عن أبي موسى الاشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يبعث الايام يوم القيامة على هيئتها ويبعث الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضئ لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضا، وريحهم يسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون). (2) وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال (الجمعة إلى الجمعة كفارة ما بينهما ما لم تغش الكبائر) خرجه مسلم بمعناه. وعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها). وعن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا. وبادروا بالاعمال الصالحة قبل أن تشغلوا. وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتؤجروا. واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له (1) في: ح، س، ط، ل، ه: " مثل دنياكم ". (2) أي الطالبون وجه الله وثوابه. (*)
[ 120 ]
في أمره. ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له. ألا ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه. ألا لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه). وقال ميمون بن أبي شيبة: أردت الجمعة مع الحجاج فتهيأت للذهاب، ثم قلت: أين أذهب أصلي خلف هذا الفاجر ؟ فقلت مرة: أذهب، ومرة لا أذهب، ثم أجمع رأيي على الذهاب، فناداني مناد من جانب البيت " يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " [ الجمعة: 9 ]. السابعة عشرة - قوله تعالى: (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) فيه وجهان: أحدهما: ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. الثاني: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم. وقرأ أبو رجاء العطاردي: " قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا ". (والله خير الرازقين) أي خير من رزق وأعطى، فمنه فاطلبوا، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. سورة المنافقون مدنية في قول الجميع، وهى إحدى عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنفقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنفقين لكذبون 1 قوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: " لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا ". وقال: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز
[ 121 ]
منها الاذل " فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل: " إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - هم الذين يقولون لا تنفقوا علي من عند رسول الله - إلى قوله - ليخرجن الاعز منها الاذل " فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (إن الله قد صدقك) خرجه الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي الترمذي عن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الاعراب فكنا نبد الماء، وكان الاعراب يسبقونا إليه فيسبق الاعرابي أصحابه فيملا الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع (1) عليه حتى تجئ أصحابه. قال: فأتى رجل من الانصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع حجرا (2) فغاض الماء، فرفع الاعرابي خشبة فضرب بها رأس الانصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله - يعني الاعراب - وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده. ثم قال لاصحابه: لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل. قال زيد: وأنا ردف (3) عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد. قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني. قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك والمنافقون. (4) قال: فوقع علي من جرأتهم ما لم يقع (5) على أحد. قال: فبينما أنا أسير مع رسول (1) بساط من جلد. (2) في الترمذي: " فانتزع قباض الماء ". (3) في الترمذي: " وأنا ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم ". (4) في الترمذي: " والمسلمون ". (5) في الترمذي: " فوفع على من الهم ما لم...... ". (*)
[ 122 ]
الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال أبشر ! ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لابي بكر. فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وسئل حذيفة بن اليمان عن المنافق، فقال: الذي يصف الاسلام ولا يعمل به. وهو اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان). وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر). أخبر عليه السلام أن من جمع هذه الخصال كان منافقا، وخبره صدق. وروي عن الحسن أنه ذكر له هذا الحديث فقال: إن بني يعقوب حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وأتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الانذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال، شفقا أن تقضي بهم إلى النفاق. وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق. وقد مضى في سورة " براءة " القول في هذا مستوفي والحمد لله. (1) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المؤمن إذا حدث صدق وإذا وعد أنجز وإذا ائتمن وفى). والمعنى: المؤمن الكامل إذا حدث صدق. والله اعلم. قوله تعالى: (قالوا نشهد إنك لرسول الله) قيل: معنى " نشهد " نحلف. فعبر عن الحلف بالشهادة، لان كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لامر مغيب (2) ومنه قول قيس بن ذريح. وأشهد عند الله أني أحبها * فهذا لها عندي فما عندها ليا (1) راجع ج 8 ص 212 (2) في أ: " لامر معين ". (*)
[ 123 ]
ويحتمل أن يكون ذلك محمولا على ظاهره أنهم يشهدون أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافا بالايمان ونفيا للنفاق عن أنفسهم، وهو الاشبه. (والله يعلم إنك لرسوله) كما قالوه بألسنتهم. (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) أي فيما أظهروا من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم. وقال الفراء: " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " بضمائرهم، فالتكذيب راجع إلى الضمائر. وهذا يدل على أن الايمان تصديق القلب، وعلى أن الكلام الحقيقي كلام القلب. ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب. وقد مضى هذا المعنى في أول " البقرة " مستوفي (1) وقيل: أكذبهم الله في أيمانهم وهو قوله تعالى: " يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم " (2) [ التوبة: 56 ]. قوله تعالى: اتخذوا أيمنهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون 2 فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (اتخذوا أيمانهم جنة) أي سترة. وليس يرجع إلى قوله " نشهد إنك لرسول الله " وإنما يرجع إلى سبب الآية التي نزلت عليه، حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن ابن أبي أنه حلف ما قال وقد قال. وقال الضحاك: يعني حلفهم بالله " إنهم لمنكم " وقيل: يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة " براءة " إذ قال: " يحلفون بالله ما قالوا " (2) [ التوبة: 74 ]. الثانية - من قال أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله أو أشهدت بالله أو أعزمت بالله أو أحلفت بالله، فقال في ذلك كله " بالله " فلا خلاف أنها يمين. وكذلك عند مالك وأصحابه إن قال: أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف، ولم يقل " بالله "، إذا أراد " بالله ". وإن لم يرد " بالله " فليس بيمين. وحكاه الكيا عن الشافعي، قال الشافعي: إذا قال أشهد بالله ونوى اليمين كان يمينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو قال (1) راجع ج 1 ص 192 (2) راجع ج 8 ص 164 وص 206 (*)
[ 124 ]
أشهد بالله لقد كان كذا كان يمينا، ولو قال أشهد لقد كان كذا دون النية كان يمينا لهذه الآية، لان الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال: " اتخذوا أيمانهم جنة ". وعند الشافعي لا يكون ذلك يمينا وإن نوى اليمين، لان قوله تعالى: " اتخذوا أيمانهم جنة " ليس يرجع إلى قوله: " قالوا نشهد " وإنما يرجع إلى ما في " براءة " من قوله تعالى: " يحلفون بالله ما قالوا " [ التوبة: 74 ]. الثالثة - قوله تعالى: (فصدوا عن سبيل الله) أي أعرضوا، وهو من الصدود. أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم الله عليهم من القتل والسبي وأخذ الاموال، فهو من الصد، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا ويقتدي بهم غيرهم. وقيل: فصدوا اليهود والمشركين عن الدخول في الاسلام، بإن يقولوا ها نحن كافرون بهم، ولو كان محمد حقا لعرف هذا منا، ولجعلنا نكالا. فبين الله أن حالهم لا يخفي عليه، ولكن حكمه أن من أظهر الايمان أجرى عليه في الظاهر حكم الايمان. (إنهم ساء ما كانوا يعملون) أي بئست أعمالهم الخبيئة - من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة وصدهم عن سبيل الله - أعمالا. قوله تعالى: ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون 3 هذا إعلام من الله تعالى بأن المنافق كافر. أي أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب. وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم أرتدوا (فطبع على قلوبهم) أي ختم عليها بالكفر (فهم لا يفقهون) الايمان ولا الخير. وقرأ زيد بن علي " فطبع الله على قلوبهم ". قوله تعالى: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قتلهم الله أنى يؤفكون 4 قوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) أي هيئاتهم ومناظرهم. (وإن يقولوا تسمع لقولهم) يعني عبد الله بن أبي. قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبي وسيما
[ 125 ]
جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. وصفه الله بتمام الصورة وحسن الابانة. وقال الكلبي: المراد ابن أبى وجد بن قيس ومعتب ابن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وفي صحيح مسلم: وقوله " كأنهم خشب مسندة " قال: كانوا رجالا أجمل شئ كأنهم خشب مسندة، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام. وقيل: شبههم بالخشب التي قد تأكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها. وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي " خشب " بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد، لان واحدتها خشبة. كما تقول: بدنة وبدن، وليس في اللغة فعلة يجمع على فعل. ويلزم من ثقلها أن تقول: البدن، فتقرأ " والبدن ". وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء، كقوله عز وجل: " وحدائق غلبا " واحدتها حديقة غلباء. وقرأ الباقون بالتثقيل وهي رواية البزي عن ابن كثير وعياش عن أبي عمرو، وأكثر الروايات عن عاصم. واختاره أبو حاتم، كأنه جمع خشاب وخشب، نحو ثمرة وثمار ثمر. وإن شئت جمعت خشبة على خشبة كما قالوا: بدنة وبدن وبدن. وقد روي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في " خشب ". قال سيبويه: خشبة وخشب، مثل بدنة وبدن، قال: ومثله بغير هاء أسد وأسد ووثن ووثن وتقرأ خشب وهو جمع الجمع، خشبة وخشاب وخشب، مثل ثمرة وثمار وثمر. والاسناد الامالة، تقول: أسندت الشئ أي أملته. و " مسندة " للتكثير، أي استندوا إلى الايمان بحقن دمائهم. قوله تعالى: (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو) أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو. ف " هم العدو " في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه. يصفهم بالجبن والخور. قال مقاتل والسدي: أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون، لما في قلوبهم من الرعب. كما قال الشاعر وهو الاخطل: ما زلت تحسب كل شئ بعدهم * خيلا تكر عليهم ورجالا
[ 126 ]
وقيل: " يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو " كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد، وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم، لان للريبة خوفا. ثم استأنف الله خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: " هم العدو " وهذا معنى قول الضحاك وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم، فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم، ويهتك به أستارهم. وفي هذا المعنى قول الشاعر: فلو أنها عصفورة لحسبتها * مسومة تدعو عبيدا وأزنما بطن من بني، يربوع. ثم وصفهم الله بقوله: " هم العدو فاحذرهم " حكاه عبد الرحمن ابن أبي حاتم. وفي قوله تعالى: " فاحذرهم " وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. الثاني - فاحذر مما يلتهم لاعدائك وتخذيلهم لاصحابك. (قاتلهم الله) أي لعنهم الله قاله ابن عباس وأبو مالك. وهي كلمة ذم وتوبيخ. وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره ! فيضعونه موضع التعجب. وقيل: معنى " قاتلهم الله " أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر، لان الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى. (إنى يؤفكون) أي يكذبون، قاله ابن عباس. قتادة: معناه يعدلون عن الحق. الحسن: معناه يصرفون عن الرشد. وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل، وهو من الافك وهو الصرف. و " أن " بمعنى كيف، وقد تقدم. (1) قوله تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون 5 قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله) لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم. فلووا رؤوسهم، أي حركوها استهزاء وإباء، قاله ابن عباس. وعنه أنه كان (1) راجع ج 3 ص 92 وج 4 ص 79 (*)
[ 127 ]
لعبد الله بن أبي موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان: فأته يستغفر لك، فأبى وقال: لا أذهب إليه. وسبب نزول هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له " المريسيع " من ناحية " قديد " إلى الساحل، فأزدحم أجير لعمر يقال له: " جهجاه " مع حليف لعبد الله بن أبي يقال له: " سنان " على ماء " بالمشلل "، فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالانصار، فلطم جهجاه سنانا فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوها ! والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الاول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز - يعني أبيا - الاذل، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم قال لقومه: كفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه. فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله - أنت والله الذليل المنتقص في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا. فقال عبد الله: اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولا مني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات. خرجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه. وقد تقدم أول السورة. وقيل: " يستغفر لكم " يستتبكم من النفاق، لان التوبة استغفار. (ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الايمان. وقرأ نافع " لووا " بالتخفيف. وشدد الباقون، واختاره أبو عبيد وقال: هو فعل لجماعة. النحاس: وغلط في هذا، لانه نزل في عبد الله بن أبي لما قيل له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك رأسه استهزاء. فإن قيل: كيف أخبر عنه بفعل الجماعة ؟ قيل له: العرب تفعل هذا إذا كنت عن الانسان. أنشد سيبويه لحسان: ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتم * وفينا رسول عنده الوحي واضعه وإنما خاطب حسان ابن الابيرق في شئ سرقه بمكة. وقصته مشهورة.
[ 128 ]
وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله. وقيل: قال ابن أبي لمالوى رأسه: أمرتموني أن أو من فقد آمنت، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقى إلا أن أسجد لمحمد !. قوله تعالى: سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفسقين 6 قوله تعالى: (سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) يعنى كل ذلك سواء، لا ينفع استغفارك شيئا، لان الله لا يغفر لهم. نظيره: " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " (1) [ البقر 6 ]، " سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين " (2) [ الشعراء: 136 ]. وقد تقدم. (إن الله لا يهدى القوم الفاسقين) أي من سبق في علم الله أنه يموت فاسقا. قوله تعالى: هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموت والارض ولكن المنفقين لا يفقهون 7 ذكرنا سبب النزول فيما تقدم. وابن أبي قال: لا تنفقوا علي من عند محمد حتى ينفضوا، حتى يتفرقوا عنه. فاعلمهم الله سبحانه أن خزائن السموات والارض له، ينفق كيف يشاء. قال رجل لحاتم الاصم: من أين تأكل فقال: " ولله خزائن السموات والارض ". وقال الجنيد: خزائن السموات الغيوب، وخزائن الارض القلوب، فهو علام الغيوب ومقلب القلوب. وكان الشبلي يقول: " ولله خزائن السموات والارض " فأين تذهبون. (ولكن المنافقين لا يفقهون) أنه إذا أراد أمرا يسره. (1) راجع ج 1 ص 184 (2) راجع ج 13 ص 125 (*)
[ 129 ]
قوله تعالى: يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنفقين لا يعلمون 8 القائل ابن أبي كما تقدم. وقيل: إنه لما قال: " ليخرجن الاعز منها الاذل " ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسه قميصه، فنزلت هذه الآية: " لن يغفر الله لهم ". وقد مضى بيانه هذا كله في سورة " براءة " مستوفى. وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال لابيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الاعز وأنا الاذل، فقاله. توهموا أن العزة بكثرة الاموال والاتباع، فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أمولكم ولآ أولدكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخسرون 9 حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون إذ قالوا - للشح بأموالهم -: لا تنفقوا على من عند رسول الله. " عن ذكر الله " أي عن الحج والزكاة. وقيل: عن قراءة القرآن. وقيل: عن إدامة الذكر. وقيل: عن الصلوات الخمس، قاله الضحاك. وقال الحسن: جميع الفرائض، كأنه قال عن طاعة الله. وقيل: هو خطاب للمنافقين، أي آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب. " ومن يفعل ذلك " أي من يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه " فأولئك هم الخاسرون ". قوله تعالى: وأنفقوا من ما رزقنكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولآ أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين 10 ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون 11 (1) راجع ج 8 ص 218 (*)
[ 130 ]
فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلا. وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها الثانية - قوله تعالى: (فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا. وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا بن عباس، اتق الله، إنما سأل الرجعة الكفار. فقال: سأتلو عليك بذلك قرانا: " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين إلى قوله والله خبير بما تعملون " قال: فما يوجب الزكاة ؟ قال: إذا بلغ المال (1) مائتين فصاعدا. قال: فما يوجب الحج ؟ قال: الزاد والراحلة. " قلت ": ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسين بن الحسن في كتاب (منهاج الدين) مرفوعا فقال: وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده مال يبلغه الحج... الحديث، فذكره. وقد تقدم في " آل عمران " (2) لفظه. الثالثة - قال ابن العربي: " أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل، فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين. وأما القول في الحج ففيه إشكال، لانا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء، فلا تخرج الآية عليه. وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح، لان من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات. وأما تقدير الامر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء. وليس لكلام ابن عباس (1) جملة " إذا بلغ المال " ساقطة من س، ح. (2) راجع ج 4 ص 153 (*)
[ 131 ]
فيه مدخل، لاجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما يدخل في المتفق عليه. والصحيح تناوله للواجب من الانفاق كيف تصرف بالاجماع أو بنص القرآن، لاجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد. الرابعة - قوله تعالى: " لولا " أي هلا، فيكون استفهاما. وقيل: " لا " صلة، فيكون الكلام بمعنى التمني. " فأصدق " نصب على جواب التمني بالفاء. " وأكون " عطف على " فأصدق " وهي قراءة أبى عمرو وابن محيصن ومجاهد. وقرأ الباقون " وأكن " بالجزم عطفا على موضع الفاء، لان قوله: " فأصدق " لو لم تكن الفاء لكان مجزوما، أي أصدق. ومثله: " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم " (1) [ الاعراف: 186 ] فيمن جزم. قال ابن عباس: هذه الآية أشد على أهل التوحيد، لانه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. (والله خبير بما تعملون) من خير وشر. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي بالياء، على الخبر عمن مات وقال هذه المقالة. " تمت السورة بحمدالله وعونه (2) " سورة التغابن مدنية في قول الاكثرين. وقال الضحاك: مكية. وقال الكلبي: هي مكية ومدنية. وهي ثماني عشرة آية. وعن ابن عباس أن " سورة التغابن " نزلت بمكة، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الاشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " [ التغابن: 14 ] إلى آخر السورة. وعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة " سورة التغابن ". (1) راجع ج 7 ص 334 (2) مابين المربعين ساقط من ز، ب. (*)
[ 132 ]
بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السموت وما في الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير 1 تقدم في غير موضع. قوله تعالى: هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير 2 قال ابن عباس: إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال: (يولد الناس على طبقات شتى. يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا. ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا). وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا). وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع. وفي صحيح مسلم عن سهل ابن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة). قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الازلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الاحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك
[ 133 ]
الكفر. وقيل في الكلام محذوف: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن وقال غيره: لا حذف فيه، لان المقصود ذكر الطرفين. وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا: وتمام الكلام " هو الذي خلقكم ". ثم وصفهم فقال: " فمنكم كافر ومنكم مؤمن " كقوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه " (1) [ النور: 45 ] الآية. قالوا: فالله خلقهم، والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله " فمنكم كافر ومنكم مؤمن ". واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) الحديث. وقد مضى في " الروم " مستوفى (2). قال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه. وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني في شأن الانواء. وقال الزجاج - وهو أحسن الاقوال، والذي عليه الائمة والجمهور من الامة -: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الايمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه، لان الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه، لان وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جعل، ولا يليقان بالله تعالى. وفي هذا سلامة من الجبر والقدر، كما قال الشاعر: يا ناظرا في الدين ما الامر * لا قدر صح ولا جبر وقال سيلان: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر ؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. (1) راجع ج 12 ص 290 (2) راجع ج 14 ص 24 (*)
[ 134 ]
قوله تعالى: خلق السموت والارض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير 3 قوله تعالى: (خلق السموات والارض بالحق) تقدم (1) في غير موضع، أي خلقها حقا يقينا لا ريب فيه. وقيل: الباء بمعنى اللام أي خلقها للحق وهو أن يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. (وصوركم فأحسن صوركم) يعني آدم عليه السلام، خلقه بيده كرامة، له، قاله مقاتل. الثاني: جميع الخلائق. وقد مضى معنى التصوير، وأنه التخطيط والتشكيل (2). فإن قيل: كيف أحسن صورهم ؟ قيل له: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه صورة بدليل أن الانسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب، كما قال عز وجل: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " (3) [ التين: 4 ] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (وإليه المصير) أي المرجع، فيجازي كلا بعمله. قوله تعالى: يعلم ما في السموت والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور 4 تقدم في غير موضع. فهو عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شئ قوله تعالى: ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم 5 الخطاب لقريش أي ألم يأتكم خبر كفار الامم الماضية. (فذاقوا وبال أمرهم) أي عوقبوا. (ولهم) في الآخرة (عذاب أليم) أي موجع. وقد تقدم (4) (1) راجع ج 6 ص 384 وج 7 ص 19 (2) راجع ص 48 من هذا الجزء. (3) راجع ج 20 ص 113 (4) راجع ج 1 ص 198 (*)
[ 135 ]
قوله تعالى: ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينت فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد 6 قوله تعالى: (ذلك) أي هذا العذاب لهم بكفرهم بالرسل تأتيهم (بالبينات) أي بالدلائل الواضحة. (فقالوا أبشر يهدوننا) أنكروا أن يكون الرسول من البشر. وارتفع " أبشر " على الابتداء. وقيل: بإضمار فعل، والجمع على معنى بشر، ولهذا قال: " يهدوننا " ولم يقل يهدينا. وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس، وواحده إنسان لا واحد له من لفظه. وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد، نحو قوله تعالى: " ما هذا بشرا " [ يوسف: 31 ]. (فكفروا) أي بهذا القول، إذ قالوه استصغارا ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده. وقيل: كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الايمان والموعظة. (واستغنى الله) أي بسلطانه عن طاعة عباده، قاله مقاتل. وقيل: استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية. قوله تعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير 7 قوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) أي ظنوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح: لكل شئ كنية وكنية الكذب زعموا. قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب حسب ما تقدم بيانه في آخر سورة " مريم " (1)، ثم عمت كل كافر. (قل) يا محمد (بلى وربى لتبعثن) أي لتخرجن من قبوركم أحياء. (ثم لتنبؤن) لتخبرن. (بما عملتم) أي بأعمالكم. (وذلك على الله يسير) إذا لاعادة أسهل من الابتداء. قوله تعالى: فأمنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا والله بما تعملون خبير 8 (1) راجع ج 11 ص 145. (*)
[ 136 ]
قوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله) أمرهم بالايمان بعد أن عرفهم قيام الساعة. (والنور الذى أنزلنا) وهو القرآن، وهو نور يهتدي به من ظلمة الضلال. (والله بما تعملون خبير). قوله تعالى: يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيأته ويدخله جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم 9 فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يوم يجمعكم ليوم الجمع) العامل في " يوم " " لتنبؤن " أو " خبير " لما فيه من معنى الوعد، كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار اذكر. والغبن: النقص. يقال: غبنه غبنا إذا أخذ الشئ منه بدون قيمته. وقراءة العامة " يجمعكم " بالياء، لقوله تعالى: " والله بما تعلمون خبير " فاخبر. ولذكر اسم الله أولا. وقرأ نصر وابن أبي إسحاق والجحدري ويعقوب وسلام " نجمعكم " بالنون، اعتبارا بقوله: " والنور الذي أنزلنا ". ويوم الجمع يوم يجمع الله الاولين والآخرين والانس والجن وأهل السماء وأهل الارض. وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله. وقيل: لانه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم. وقيل: لانه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. وقيل: لانه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي. (ذلك يوم التغابن) أي يوم القيامة. قال: وما أرتجي بالعيش في دار فرقة * ألا إنما الراحات يوم التغابن وسمى يوم القيامة يوم التغابن، لانه غبن فيه أهل الجنة أهل النار. أي أن أهل الجنة أخذوا الجنة، وأخذ أهل النار النار على طريق المبادلة، فوقع الغبن لاجل مبادلتهم الخير بالشر، والجيد بالردئ، والنعيم بالعذاب. يقال: غبنت فلانا إذا بايعته أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة لك. وكذا أهل الجنة وأهل النار، على ما يأتي بيانه. ويقال: غبنت
[ 137 ]
الثوب وخبنته إذا طال عن مقدارك فخطت منه شيئا، فهو نقصان أيضا. والمغابن: ما انثنى من الخلق نحو الابطين والفخذين. قال المفسرون: فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الايمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الاحسان وتضييعه الايام. قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته. الثانية - فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها. قيل له: هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع، كما قال تعالى: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " (1) [ البقرة: 16 ]. ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، وذكر أيضا أنهم غبنوا، وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة. وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا. وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين: فريقا للجنة وفريقا للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار. فقد يسبق الخذلان على العبد - كما بيناه في هذه السورة وغيرها - فيكون من أهل النار، فيحصل الموفق على منزل المخذول ومنزل الموفق في النار للمخذول، فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والامثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن. وذلك كله مجموع من نشر الآثار وقد جاءت مفرقة في هذا الكتاب. وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في " قد أفلح المؤمنون " (2) [ المؤمنون: 1 ] والله اعلم. وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد، ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته. وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علما فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلمه منه فنجا به. ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه، وفرط في طاعة ربه بسببه، ولم يعمل فيه خيرا، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه. ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية وبه فشقي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين فيقول الرجل يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم (1) راجع ج 1 ص 210 (2) راجع ج 12 ص 108 (*)
[ 138 ]
يطلبون ذلك ولم يبق لي ما أوفي به فتقول المرأة يا رب وما عسى أن أقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا فيقول الله تعالى قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به) فذلك يوم التغابن. الثالثة - قال ابن العربي: استدل علماؤنا بقوله تعالى: " ذلك يوم التغابن " على أنه لا يجوز الغبن في المعاملة الدنيوية، لان الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة فقال: " ذلك يوم التغابن " وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث. واختاره البغداديون واحتجوا عليه (1) بوجوه: منها قوله صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ: " إذا بايعت فقل لا خلابة (2) ولك الخيار ثلاثا ". وهذا فيه نظر طويل بيناه في مسائل الخلاف. نكتته أن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين، إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه لاحد، فمضى في البيوع (3)، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا، لانه لا يخلو منه، حتى إذا كان كثيرا أمكن الاحتراز منه فوجب الرد به. والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم، فقدر علماؤنا الثلث لهذا الحد، إذ رأوه في الوصية وغيرها. ويكون معنى الآية على هذا: ذلك يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل. أو ذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا، لان تغابن الدنيا يستدرك بوجهين: إما برد في بعض الاحوال، وإما بربح في بيع آخر وسلعة أخرى. فأما من خسر الجنة فلا درك له أبدا. وقد قال بعض علماء الصوفية: إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين، فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا، لانه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب. وفي الاثر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن، وإن كان محسنا إن لم يزدد). (1) في ابن العربي: " عليها " (2) الخلابة: الخديعة. (3) في ابن العربي: " في الشرع ". (*)
[ 139 ]
قوله تعالى: (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا نكفر عنه سيئاته وندخله جنات) قرأ نافع وابن عامر بالنون فيهما، والباقون بالياء. قوله تعالى: والذين كفروا وكذبوا بأيتنآ أولئك أصحب النار خلدين فيها وبئس المصير 10 قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) يعني القرآن (أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) لما ذكر ما للمؤمنين ذكر ما للكافرين كما تقدم في غير موضع. قوله تعالى: مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم 11 قوله تعالى: (ما اصاب من مصيبة إلا بإذن الله) أي بإرادته وقضائه. وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله. وقيل: سبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه. قوله تعالى: (ومن يؤمن بالله) أي يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. (يهد قلبه) للصبر والرضا. وقيل: يثبته على الايمان. وقال أبو عثمان الجيزي: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " عند المصيبة فيقول: " إنا لله وإنا إليه راجعون " [ البقرة: 156 ]، قاله ابن جبير. وقال ابن عباس: هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الكلبي: هو إذا أبتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقيل: يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة. وقراءة العامة " يهد " بفتح الياء وكسر الدال، لذكر اسم الله أولا. وقرأ السلمي وقتادة " يهد قلبه " بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول ورفع الباء، لانه اسم فعل لم يسم فاعله.
[ 140 ]
وقرأ طلحة بن مصرف والاعرج " نهد " بنون على التعظيم " قلبه " بالنصب. وقرأ عكرمة " يهدأ قلبه " بهمزة ساكنة ورفع الباء، أي يسكن ويطمئن. وقرأ مثله مالك بن دينار، إلا أنه لين الهمزة. (والله بكل شئ عليم) لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لامره، ولا كراهة من كرهه. قوله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلغ المبين 12 الله لآ إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون 13 أي هونوا على أنفسكم المصائب، واشتغلوا بطاعة الله، واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول في العمل بسنته، فإن توليتم عن الطاعة فليس على الرسول إلا التبليغ. (الله لا إله إلا هو) أي لا معبود سواه، ولا خالق غيره، فعليه توكلوا. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوآ إن من أزوجكم وأولدكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم 14 فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الاشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فنزلت. ذكره النحاس. وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة " التغابن " كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات: " يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " نزلت في عوف بن مالك الاشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا ؟ فيرق فيقيم، فنزلت: " يأيها الذين آمنوا
[ 141 ]
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الاشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية " يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " - قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " الآية. هذا حديث حسن صحيح. الثانية - قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الايمان فقال له أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة). وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة. والثاني - بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب، قال الله تعالى: " وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم " (1) [ فصلت: 25 ]. وفي حكمة عيسى عليه السلام: من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس (2) عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس (1) راجع ج 15 ص 354 (2) قوله: " تعس " هلك. و " الخميصة ": كساء أسود مربع له أعلام وخطوط. و " القطيفة ": دثار له أهداب. " رانتكس " عاوده المرض كما بدأ به. أو انقلب على رأسه، وهو دعاه عليه بالخيبة. و " شيك ": أصابته شوكة. و " فلا انتقش " أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش. (*)
[ 142 ]
وإذا شيك فلا انتقش). ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد. الثالثة - كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله: " من أزواجكم " يدخل فيه الذكر والانثى لدخولهما في كل آية. والله اعلم. الرابعة - قوله تعالى: (فاحذروهم) معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به. الخامسة - قوله تعالى: (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) روى الطبري عن عكرمة في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " قال: كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله: أين تذهب وتدعنا ؟ قال: فإذا أسلم وفقه قال: لارجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الامر، فلا فعلن ولافعلن، قال: فأنزل الله عز وجل: " وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ". وقال مجاهد في قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " قال: ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الانسان بسبب الاهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم (1) الحكم. قوله تعالى: إنما أمولكم وأولدكم فتنة والله عنده أجر عظيم 15 قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) أي بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله. وفي الحديث (يؤتى برجل يوم القيامة (1) لفظة " عموم " ساقطة من ح، س. (*)
[ 143 ]
فيقال أكل عياله حسناته). وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي: " فتنة " أي إغرام، يقال: فتن الرجل بالمرأة أي شغف بها وقيل: " فتنة " محنة. ومنه قول الشاعر: لقد فتن الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شرا طويلا وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى: " إن من أزواجكم ": أدخل " من " للتبعيض، لان كلهم ليسوا بأعداء. ولم يذكر " من " في قوله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " لانهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما السلام - وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) ثم أخذ في خطبته. (والله عنده أجر عظيم) يعني الجنة، فهي الغاية، ولا أجر أعظم منها في قول المفسرين. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري - عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لاهل الجنة يأهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شئ أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا). وقد تقدم ولا شك في أن الرضا غاية الآمال. وأنشد الصوفية في تحقيق ذلك: امتحن الله به خلقه * فالنار والجنة في قبضته فهجره أعظم من ناره * ووصله أطيب من جنته
[ 144 ]
قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 16 إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم 17 قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم) فيه خمس مسائل: الاولى - ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: " اتقوا الله حق تقاته (1) " [ آل عمران: 102 ] منهم قتادة والربيع بن أنس والسدي وابن زيد. ذكر الطبري: وحدثني يونس بن عبد الاعلى قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران: 102 ] قال: جاء أمر شديد، قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه ؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الاخرى فقال: " فاتقوا الله ما استطعتم ". وقيل: هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس: قوله تعالى: " اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران: 102 ] إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم. (1) الثانية - فإن قيل: فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة التغابن: " فاتقوا الله ما استطعتم " وكيف يجوز اجتماع الامر باتقاء الله حق تقاته والامر باتقائه ما استطعنا. والامر باتقائه حق تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط، والامر باتقائه ما استطعنا أمر باتقائه موصولا بشرط. قيل له: قوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " بمعزل مما دل عليه قوله تعالى: " اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران: 102 ] وإنما عنى بقوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم (1) راجع ج 4 ص 157 (*)
[ 145 ]
وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الاسلام، فتتركوا الهجرة ما استطعتم، بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " إلى قوله " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " (1) [ النساء: 97 - 99 ]. فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالاقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله: " فاتقوا الله ما أستطعتم " في الهجرة من دار الشرك إلى دار الاسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " عقيب قوله: " يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ". ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الاسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك، حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل: " فاتقوا الله ما استطعتم " فيما تطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل قوله تعالى: " اتقوا الله حق تقاته " [ آل عمران: 102 ] اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم: " فاتقوا الله ما استطعتم " فنسخت الاولى، قاله ابن جبير. قال الماوردي: ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لانه لا يستطيع أتقاءها. الثالثة - قوله تعالى: (واسمعوا وأطيعوا) أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه. وقال مقاتل: " اسمعوا " أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وهو الاصل في السماع. " وأطيعوا " لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة: عليهما بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. وقيل: " واسمعوا " أي اقبلوا ما تسمعون، وعبر عنه بالسماع لانه فائدته. (1) راجع ج 5 ص 354. (*)
[ 146 ]
قلت: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبد الملك بن مروان فقال: " فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا " هي لعبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية، والله لو أمرت رجلا أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه. وكذب في تأويلها بل هي للنبي صلى الله عليه وسلم أولا ثم لاولي الامر من بعده. دليله " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم " (1) [ النساء: 59 ]. الرابعة - قوله تعالى: (وأنفقوا) قيل: هو الزكاة، قاله ابن عباس. وقيل: هو النفقة في النفل. وقال الضحاك: هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن: هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي: وإنما أوقع قائل هذا قوله: " لانفسكم " وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه، قال الله تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها " (2) [ الاسراء: 7 ]. وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: عندي دينار ؟ قال: (أنفقه على نفسك) قال: عندي آخر ؟ قال: (أنفقه على عيالك) قال: عندي آخر ؟ قال: (أنفقه على ولدك) قال: عندي آخر ؟ قال: (تصدق به) فبدأ بالنفس والاهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الاصل في الشرع. الخامسة - قوله تعالى: (خيرا لانفسكم) " خيرا " نصب بفعل مضمر عند سيبويه، دل عليه " وأنفقوا " كأنه قال: ايتوا في الانفاق خيرا لانفسكم، أو قدموا خيرا لانفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والفراء نعت لمصدر محذوف، أي أنفقوا إنفاقا خيرا لانفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة، أي يكن خيرا لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب ب " أنفقوا ". قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) تقدم الكلام فيه (3). وكذا (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم) تقدم الكلام فيه أيضا في " البقرة " (4) وسورة (1) راجع ج 5 ص 258. (2) راجع ج 10 ص 227. (3) راجع ص 29 من هذا الجزء. (4) راجع ج 3 ص 237 وج 17 ص 242 (*)
[ 147 ]
" الحديد ". (ويغفر لكم والله شكور حليم) تقدم معنى الشكر في " البقرة " (1). والحليم: الذي لا يعجل. قوله تعالى: علم الغيب والشهدة العزيز الحكيم 18 قوله تعالى (عالم الغيب والشهادة) أي ما غاب وحضر. وهو (العزيز) أي الغالب القاهر. فهو من صفات الافعال، ومنه قوله عزوجل: " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " (2) [ الجاثية: 2 ]. أي من الله القاهر المحكم خالق الاشياء. وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عز يعز (بكسر العين) فيتناول معنى العزيز على هذا أنه لا يعادله شئ وأنه لا مثل له. والله اعلم. (الحكيم) في تدبير خلقه. وقال ابن الانباري: " الحكيم " هو المحكم لخلق الاشياء، صرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله عزوجل: " الر تلك آيات الكتاب الحكيم " (3) [ يونس: 1 ] معناه المحكم، فصرف عن مفعل إلى فعيل. والله اعلم. سورة الطلاق مدنية في قول الجميع. وهى إحدى عشرة آية، أو اثنتا عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا 1 (1) راجع ج 1 ص 397 (2) راجع ج 15 ص 232 (3) راجع ج 8 ص 305 (*)
[ 148 ]
فيه أربع عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (يأيها النبي إذا طلقتم النساء (1)) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما. وفي سنن ابن ماجه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها. وروى قتادة عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى عليه: " يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ". وقيل له: راجعها فإنها قوامة صوامة، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي. زاد القشيري: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى: " لا تخرجوهن، من بيوتهن ". وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة، فنزلت الآية. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقد قيل: إن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم. قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الاول أمثل. والاصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. وقد قيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة، كما قال: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة " (2) [ يونس: 22 ]. تقديره: يأيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وهذا هو قولهم،: إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لا طفه بقوله: " يأيها النبي ". فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال: " يأيها الرسول ". (1) لفظة: " النساء " ساقطة من ح، س. (2) راجع ج 8 ص 324. (*)
[ 149 ]
قلت: ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الانصارية. ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقيل: المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما، ثم ابتدأ فقال: " إذا طلقتم النساء "، كقوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام " [ المائدة: 90 ] الآية. (1) فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم، ثم افتتح فقال: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام " الآية. الثانية - روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق). وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش). وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عزوجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات). وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق). أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه. وروى الدار قطني قال: حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن ابن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الارض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الارض (2) أبغض من الطلاق. فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استئناء له. وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله (2) فله استثناؤه ولا طلاق عليه). حدثنا محمد بن موسى بن علي قال: حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد: قال لي يزيد بن هارون: وأي حديث لو كان حميد بن مالك معروفا ؟ قلت: (1) راجع ج 6 ص 285. (2) زيادة عن سنن الدارقطني. (*)
[ 150 ]
هو جدي. قال يزيد: سررتني سررتني ! الآن صار حديثا. حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد حدثنا حميد بن مالك اللخمي حدثنا مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق فمن طلق واستثنى فله ثنياه). قال ابن المنذر: اختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق، فقالت طائفة: ذلك جائز. وروينا هذا القول عن طاوس. وبه قال حماد الكوفي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والاوزاعي. وهذا قول قتادة في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الاول أقول. الثالثة - روى الدار قطني من حديث عبد الرزاق أخبرني عمي وهب بن نافع قال سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس يقول: الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان ووجهان حرامان، فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا. الرابعة - قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) في كتاب أبي داود عن أسماء بنت يزيد ابن السكن الانصارية أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله سبحانه حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقد تقدم. الخامسة: قوله تعالى: " لعدتهن " يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الازواج، لان غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها " (1) [ الاحزاب: 49 ]. السادسة: من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة. وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة. وقال سعيد بن المسيب في آخرى: (2) لا يقع الطلاق في الحيض (1) راجع ج 14 ص 202. (2) في ط " في أخر " وكلنا هما غير واضحة. (*)
[ 151 ]
لانه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة. وفي الصحيحين - واللفظ للدار قطني - عن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله). وكان عبد الله بن عمر طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هي واحدة). وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم. السابعة: عن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها. رواه الدارقطني عن الاعمش عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن عبد الله. قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا، لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة. وقال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا: يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه، ولا تبعه طلاق في عدة، ولا يكون الطهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء). وتعلق الامام الشافعي بظاهر قوله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن " وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لان النبي صلى الله عليه وسلم علمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي: " وهذه غفلة عن الحديث
[ 152 ]
الصحيح، فإنه قال: (مره فليراجعها) وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا ؟ قال حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك: " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ". وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء، وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي: إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. أما نصه فقد قدمناه، وأما معناه فلانه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به، فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع، لانه يسقط الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له. قلت: وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني عن سلمة ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف طلق أمرأته تماضر بنت الاصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب ذلك. قال: وحدثنا سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة، فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه. واحتج أيضا بحديث عو يمر العجلاني لما لا عن قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاث. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انفصل علماؤنا عن هذا أحسن انفصال. بيانه في غير هذا الموضع. وقد ذكرناه في كتاب (المقتبس من شرح موطأ مالك بن أنس). وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل بطلاق السنة (1) فخالف. الثامنة: قال الجرجاني: اللام في قوله تعالى: " لعدتهن " بمعنى في، كقوله تعالى: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر " (2) [ الحشر: 2 ]. (1) في ط: " فخالف السنة ". (2) راجع ص 1 من هذا الجزء. (*)
[ 153 ]
أي في أول الحشر. فقوله: " لعدتهن " أي في عدتهن، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن. وحصل الاجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه. ففيه دليل على أن القرء هو الطهر. وقد مضى القول فيه في " البقرة " (1) فإن قيل: معنى " فطلقوهن لعدتهن " أي في قبل (2) عدتهن، أو لقبل عدتهن. وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره. فقبل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض (3)، قيل له: هذا هو الدليل الواضح لمالك ومن قال بقوله، على أن الاقراء هي الاطهار. ولو كان كما قال الحنفي ومن تبعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض، لان الحيض لم يقبل بعد. وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض. ولو كان إقبال الشئ إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل مغيب الشمس، إذ الليل يكون مقبلا في إدبار النهار قبل انقضاء النهار. ثم إذا طلق في آخر الطهر فبقية الطهر قرء، ولان بعض القرء يسمى قرءا لقوله تعالى: " الحج أشهر معلومات " [ البقرة: 197 ] يعني شوالا وذا القعدة وبعض ذي الحجة، لقوله تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " [ البقرة: 203 ] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني. وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفى (4). التاسعة - قوله تعالى: (وأحصوا العدة) يعني في المدخول بها، لان غير المدخول بها لا عدة عليها، وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطاب. ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. العاشرة - قوله تعالى: " وأحصوا العدة " معناه احفظوها، أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (4) [ البقرة: 228 ] حلت للازواج. وهذا يدل على أن العدة هي الاطهار وليست بالحيض. ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم " لقبل عدتهن " وقبل الشئ بعضه لغة وحقيقة، بخلاف استقباله فإنه يكون غيره. (1) راجع ج 3 ص 113 (2) أي في إقباله وأوله حين يمكنها الدخول في العدة والشروع فيها فتكون لها محسوبة، وذلك في حالة الطهر. (3) في: ح، س " الطهر ". (4) راجع ج 3 ص 1 وص 112 (*)
[ 154 ]
الحادية عشرة: من المخاطب بأمر الاحصاء ؟ وفيه ثلاث أقوال: أحدها - أنهم الازواج. الثاني - أنهم الزوجات. الثالث - أنهم المسلمون. ابن العربي: " والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الازواج، لان الضمائر كلها من " طلقتم " و " أحصوا " و " لا تخرجوهن " على نظام واحد يرجع إلى الازواج، ولكن الزوجات داخلة فيه بالالحاق بالزوج، لان الزوج يحصي ليراجع، وينفق أو يقطع، وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع. وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك. وكذلك الحاكم يفتقر إلى الاحصاء للعدة للفتوى عليها، وفصل الخصومة عند المنازعة فيها. وهذه فوائد الاحصاء المأمور به ". الثانية عشرة - قوله تعالى: (واتقوا الله ربكم) أي لاتعصوه. (لا تخرجوهن من بيوتهن) أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن، كقوله تعالى: " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة " (1) [ الاحزاب: 34 ]، وقوله تعالى: " وقرن في بيوتكن " (1) [ الاحزاب: 33 ] فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله: " لا تخرجوهن " يقتضي أن يكون حقا في الازواج. ويقتضي قوله: " ولا يخرجن " أنه حق على الزوجات. وفي صحيح الحديث عن جابر بن عبد الله قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد (2) نخلها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا). خرجه مسلم. ففي هذا الحديث دليل لمالك والشافعي وابن حنبل والليث على قولهم: إن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل. وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة. وقال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلا ولا نهارا، وإنما تخرج نهارا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفي عنها زوجها، وأما المطلقة (1) راجع ج 14 ص 182 (2) الجداد (بفتح الجيم وكسرها): صرام النخل، وهو قطع ثمرها. (*)
[ 155 ]
فلا تخرج لا ليلا ولا نهارا. والحديث يرد عليه. وفي الصحيحين أن أبا حفص (1) بن عمرو خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطلقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها: والله مالك من نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما. فقال: (لا نفقة لك)، فاستأذنته في الانتقال فأذن لها، فقالت: أين يا رسول الله ؟ فقال: (إلى ابن أم مكتوم)، وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلي الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قببصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته. فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله عزوجل: " لا تخرجوهن من بيوتهن " الآية، قالت: هذا لمن كانت له رجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا، فعلام تحبسونها ؟ لفظ مسلم. فبين أن الآية في تحريم الاخراج والخروج إنما هو في الرجعية. وكذلك استدلت فاطمة بأن الآية التي تليها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية، لانها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في أرتجاعها ما دامت في عدتها، فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت. وأما البائن فليس له شئ من ذلك، فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة، أو خافت عورة منزلها، كما أباح لها النبي صلي الله عليه وسلم ذلك. وفي مسلم - قالت فاطمة يا رسول الله، زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت وفي البخاري عن عائشة أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبي صلي الله عليه وسلم لها. وهذا كله يرد على الكوفي قوله. وفي حديث فاطمة: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، فهو حجة لمالك وحجة على الشافعي. وهو أصح من حديث سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاث تطليقات في كلمة، على ما تقدم. (1) ويقال فيه: " أبو عمرو بن حفص ". راجع كتاب الاصابة ج 7 ص 44، 136 (طبع الشرفية). (*)
[ 156 ]
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد: هو الزنى، فتخرج ويقام عليها الحد. وعن ابن عباس أيضا والشافعي: أنه البذاء على أحمائها، فيحل لهم إخراجها. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنتقل. وفي كتاب أبي داود قال سعيد: تلك امرأة فتنت (1) الناس، إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الاعمى. قال عكرمة: في مصحف أبي " إلا أن يفحشن عليكم ". ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله فإنك تعلمين لم أخرجت ؟ وعن ابن عباس أيضا: الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الاهل. وهو أختيار الطبري. وعن ابن عمر أيضا والسدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق، أي لو خرجت كانت عاصية. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتتحول عن بيته. قال ابن العربي: أما من قال إنه الخروج للزنى، فلا وجه له، لان ذلك الخروج هو خروج القتل والاعدام: وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام. وأما من قال: إنه البذاء، فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس. وأما من قال: إنه كل معصية، فوهم لان الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الاخراج ولا الخروج. وأما من قال: إنه الخروج بغير حق، فهو صحيح. وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (وتلك حدود الله) أي هذه الاحكام التي بينها أحكام الله على العباد، وقد منع التجاوز عنها، فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك. (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) الامر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها. وقال جميع المفسرين: أراد بالامر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول: التحريض على (1) قوله " فتنت الناس " يريد أنها فتنت الناس بذكرها حديثها أن النبي عليه السلام أمرها أن تنتقل من بيت مطلقها على وجه يوقع الناس في الخطا. وقوله " لسنة " بكسر السين: أي كانت تأخذ الناس وتجرحهم بلسانها. وقوله " فوضعت " أي أخرجت من بيت زوجها وجعلت كالوديعة عند ابن أم مكتوم. (*)
[ 157 ]
طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلا. وقال مقاتل: " بعد ذلك " أي بعد طلقة أو طلقتين " أمرا " أي المراجعة من غير خلاف. قوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهدة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا 2 ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بلغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا 3 قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) أي قاربن انقضاء العدة، كقوله تعالى: " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن " (1) [ البقرة: 231 ] أي قربن من انقضاء الاجل. (فأمسكوهن بمعروف) يعني المراجعة بالمعروف، أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها. كما تقدم في " البقرة ". (1) (أو فارقوهن بمعروف) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن. وفي قوله تعالى: " فإذا بلغن أجلهن " ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا أدعت ذلك، على ما بيناه في سورة " البقرة " عند قوله تعالى: " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " [ البقرة: 228 ] الآية. (1) قوله تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وأشهدوا " أمر بالاشهاد (2) على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء. وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الاشهاد مندوب إليه عند (1) راجع ج 3 ص 155 وص 118 (2) في أ: " أمر باملاء الاشهاد... ". (*)
[ 158 ]
أبي حنيقة، كقوله تعالى: " وأشهدوا إذا تبايعتم " (1) [ البقرة: 282 ]. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الاشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية (2) ليرث. الثانية - الاشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة. وقالوا: والنظر إلى الفرج رجعة. وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة. وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها. وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان ما لك يقول: إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطئ فاسد، ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الاولى، وليس له رجعة في هذا الاستبراء. الثالثة - أوجب الاشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه، والشافعي كذلك لظاهر الامر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول، فلم تفتقر إلى الاشهاد كسائر الحقوق، وخصوصا حل الظهار بالكفارة. قال ابن العربي: وركب أصحاب الشافعي على وجوب الاشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول: كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الاقرار بالرجعة، ومن شرط الرجعة الاشهاد فلا تصح دونه. وهذا فاسد مبني على أن الاشهاد في الرجعة تعبد. ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول: إنه موضع للتوثق، وذلك موجود في الاقرار كما هو موجود في الانشاء. الرابعة: من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينة أنه أرتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك، (1) راجع ج 3 ص 377. (2) في ح، س " نبوت الرجعية ". (*)
[ 159 ]
وكانت زوجته، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الاول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما - أن الاول أحق بها. والاخرى - أن الثاني أحق بها. فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للاول إليها. الخامسة - قوله تعالى: " ذوي عدل منكم قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم. وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الاناث، لان " ذوي " مذكر. ولذلك قال علماؤنا: لا مدخل للنساء فيما عدا الاموال. وقد مضى ذلك في سورة " البقرة ". (1) السادسة - قوله تعالى: (وأقيموا الشهادة لله) أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. وقد مضى في سورة " البقرة معناه عند قوله تعالى: " وأقوم للشهادة " (2) [ البقرة: 282 ]. قوله تعالى: (ذلكم يوعظ به) أي يرضى به. (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ. قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج ؟ فتلاها. وقال ابن عباس والشعبى والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة وعن ابن عباس أيضا " يجعل له مخرجا " ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه، قاله علي بن صالح. وقال الكلبي: " ومن يتق الله " بالصبر عند المصيبة. " يجعل له مخرجا " من النار إلى الجنة. وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه. وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة. الربيع ابن خيثم: " يجعل له مخرجا " من كل شئ ضاق على الناس. الحسين بن الفضل: " ومن يتق الله " في أداء الفرائض، " يجعل له مخرجا " من العقوبة. (ويرزقه) الثواب (1) راجع ج 3 ص 394 (2) راجع ج 3 ص 401 (*)
[ 160 ]
(من حيث لا يحتسب) أي يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبد الله: " ومن يتق الله " في أتباع السنة " يجعل له مخرجا " من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب. وقيل: " ومن يتق الله " في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية. وقال عمر بن عثمان الصدفي: " ومن يتق الله " فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة. " ويرزقه من حيث لا يحتسب " من حيث لا يرجو. وقال ابن عيينة: هو البركة في الرزق. وقال أبو سعيد الخدري: ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم. وقال أبو ذر: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (إنى لاعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم - ثم تلا - " ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب "). فما زال يكررها ويعيدها. وقال ابن عباس: قرأ النبي صلي الله عليه وسلم " ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب " قال: (مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة). وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي: إنها نزلت في عوف بن مالك الاشجعي. روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الاشجعي إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت الام. وعن جابر بن عبد الله: نزلت في عوف بن مالك الاشجعي أسر المشركون أبنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله صلي الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الام، فما تأمرني ؟ فقال عليه السلام: (أتق الله وأصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله). فعاد إلى بيته وقال لا مرأته: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا به. فجعلا يقولان، فغفل العدو عن أبنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية، وجعل النبي صلي الله عليه وسلم تلك الاغنام له. في رواية: أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا. قال
[ 161 ]
الكلبي: أصاب خمسين بعيرا. وفي رواية: فأفلت أبنه من الاسر وركب ناقة للقوم، ومر في طريقه بسرح لهم فأستاقه وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلي الله عليه وسلم: أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني ؟ قال: (نعم). ونزلت: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ". فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها). وقال الزجاج: أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب). قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه. وقيل: أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية. ولم يرد الدنيا، لان المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل. (إن الله بالغ أمره) قال مسروق: (1) أي قاض (2) أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقراءة العامة " بالغ " منونا. " أمره " نصبا. وقرأ عاصم " بالغ أمره " بالاضافة وحذف التنوين استخفافا وقرأ المفضل " بالغا أمره " على أن قوله: " قد جعل الله " خبر " إن " و " بالغا " حال. وقرأ داود بن أبي هند " بالغ أمره " بالتنوين ورفع الراء. قال الفراء: أي أمره بالغ. وقيل: " أمره " مرتفع " ب " بالغ " والمفعول محذوف، والتقدير: بالغ أمره ما أراد. (قد جعل الله لكل شئ قدرا) أي لكل شئ من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. وقيل تقديرا. وقال السدي: هو قدر الحيض في الاجل والعدة. وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " قال أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم: فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه، فنزلت: " إن الله بالغ أمره (1) ما بين المربعين ساقط من ح، س. (2) في الاصول: " يعنى قاض " (*)
[ 162 ]
فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: " ومن يؤمن بالله يهد (1) قلبه " [ التغابن: 11 ]. " ومن يتوكل على الله (1) فهو حسبه " [ الطلاق: 3 ]. " إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم " (1) [ التغابن: 17 ]. " ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم " (2) [ آل عمران: 101 ]. " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " (3) [ البقرة: 186 ]. قوله تعالى: والئى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلثة أشهر والئى لم يحضن وأولت الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا 4 ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا 5 قوله تعالى: (واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) فيه سبع مسائل: الاولى: قوله تعالى: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم " لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الاقراء، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة " البقرة " في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شئ: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: " واللائي يئسن " الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " [ البقرة: 228 ] (4) قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة (1) راجع ص 139 وص 161، 146 من هذا الجزء. (2) راجع ج 4 ص 156 (3) راجع ج 2 ص 308 (4) ج 3 ص 112 (*)
[ 163 ]
الحبلى ؟ فنزلت: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم " يعنى قعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية. والله أعلم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة. الثانية - قوله تعالى: " إن أرتبتم " أي شككتم، وقيل تيقنتم. وهو من الاضداد، يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. وقال الزجاج: إن أرتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري: وفي هذا نظر، لانا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول، أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قول: غالب نساء عشيرة المرأة. وقال مجاهد: قوله " إن أرتبتم " للمخاطبين، يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه. وقيل: المعنى إن أرتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر. وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في أول الشهر مرارا وفي الاشهر مرة. وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تخرجوهن من بيوتهن إن أرتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه. الثالثة - المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم أرتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للازواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والامة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الاشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق. فإن كانت المرأة شابة وهي:
[ 164 ]
المسألة الرابعة - استؤني بها هل هي حامل أم لا، فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي أرتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الاياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي: وهذا الاصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق، لان الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، والمرتابة ليست آيسة. الخامسة - وأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع، فمكثت سنة لا تحيض لاجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه، لانها ليست من القواعد ولا من الصغار، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة. السادسة - ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة، على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن أرتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة، على أختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام، فإن تجاوزتها حلت. وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح، لانه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله. السابعة - وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنة. وهو مشهور قول علمائنا، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها،
[ 165 ]
وميزت ذلك أو لم تميزه، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة، منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والاثر. قوله تعالى: (واللائى لم يحضن) - يعني الصغيرة - فعدتهن ثلاثة أشهر، فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالاشهر لعدم الاقراء فيها عادة، والاحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات، فهي تعتد بالاشهر. فإذا رأت الدم في زمن أحتماله عند النساء أنتقلت إلى الدم لوجود الاصل، وإذا وجد الاصل لم يبق للبدل حكم، كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم أرتفع عادت إلى الاشهر. وهذا إجماع. قوله تعالى: (وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن) فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: " وأولات الاحمال أجلهن " وضع الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لانه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك، لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في " البقرة " القول فيه مستوفى. (1) الثانية - إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة " البقرة " (1) وسورة " الرعد " (2) والحمد لله. قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) قال الضحاك: أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل: ومن يتق الله في أجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. (ذلك أمر الله) أي الذي ذكر من الاحكام (1) راجع ج 3 ص 174 (2) راجع ج 9 ص 284 (*)
[ 166 ]
أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. (ومن يتق الله) أي يعمل بطاعته. (يكفر عنه سيئاته) من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. (ويعظم له أجرا) أي في الآخرة. قوله تعالى: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولت حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى 6 فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل، لقوله تعالى: " أسكنوهن ". فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم " يعني المطلقات اللاتي بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لانها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لان ذلك لازم لازواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل. وإنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن، قال الله تعالى: " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " فجعل عزوجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة قد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.
[ 167 ]
قلت: أختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال فمذهب مالك والشافعي: أن لها السكنى ولا نفقة لها. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على حديث فاطمة بنت قيس، قالت: دخلت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة ؟ قال: (بل لك السكنى ولك النفقة). قال: إن زوجها طلقها ثلاثا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة). فلما قدمت الكوفة طلبني الاسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. خرجه الدار قطني. ولفظ مسلم عنها: أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لاعلمن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإن كان لى نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: (لا نفقة لك ولا سكنى). وذكر الدار قطني عن الاسود قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الاسود بن يزيد فقال. يا شعبي، أتق الله وأرجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة. قلت: لا أرجع عن شئ حدثتني به (1) فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. قلت: ما أحسن هذا. وقد قال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية، لقوله تعالى: " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " [ الطلاق: 1 ]، وقوله تعالى: " اسكنوهن " راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية. والله أعلم. ولان السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها، فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى. وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى: " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " وترك النفقة من أكبر الاضرار. وفي إنكار عمر على فاطمة (1) زيادة عن سنن الدار قطني. (*)
[ 168 ]
قولها ما يبين هذا، ولانها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولانها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة. ودليل مالك قوله تعالى: " وإن كن أولات حمل " الآية. على ما تقدم بيانه. وقد قيل: إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله: " ذوي عدل منكم " [ الطلاق: 2 ] ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الاشهر وغير ذلك. وهو عام في كل مطلقة، فرجع ما بعد ذلك من الاحكام إلى كل مطلقة. الثانيه - قوله تعالى: " من وجدكم " أي من سعتكم، يقال وجدت في المال أجد وجدا ووجدا ووجدا وجدة. والوجد (1): الغنى والمقدرة. وقراءة العامة بضم الواو. وقرأ الاعرج والزهرى بفتحها، ويعقوب بكسرها. وكلها لغات فيها. الثالثة - قوله تعالى: (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) قال مجاهد: في المسكن. مقاتل: في النفقة، وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها. الرابعة - قوله تعالى: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل منهن حتى تضع حملها. فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان والضحاك: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: (2) لا ينفق عليها إلا من نصيبها. وقد مضى في " البقرة " بيانه. (3) قوله تعالى: " فإن أرضعن لكم " فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فإن أرضعن لكم) - يعني المطلقات - أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية (1) الواو مثلثة. (2) في أ، وط: " وأصحابه. (3) راجع ج 3 ص 185. (*)
[ 169 ]
ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن. ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في " البقرة " و " النساء " مستوفى (1) ولله الحمد. الثانية - قوله تعالى: (وأتمروا بينكم بمعروف) هو خطاب للازواج والزوجات، أي وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الاجرة عليها للارضاع. وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار. وقيل: هو الكسوة والدثار. وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده. الثالثة - قوله تعالى: (وإن تعاسرتم) أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الام رضاعها وأبت الام أن ترضعه فليس له إكراهها، وليستأجر مرضعة غير أمه. وقيل: معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها، وهو خبر في معنى الامر. وقال الضحاك: إن أبت الام أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالاجر. وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال: قال علماؤنا: رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية، إلا لشرفها وموضعها فعلى الاب رضاعه يومئذ في ماله. الثاني - قال أبو حنيفة: لا يجب على الام بحال. الثالث - يجب عليها في كل حال. الرابعة - فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الارضاع. فإن اختلفا في الاجر فإن دعت إلى أجر مثلها وأمتنع الاب إلا تبرعا فالام أولى بأجر المثل إذا لم يجد الاب متبرعا. وإن دعا الاب إلى أجر المثل وامتنعت الام لتطلب شططا فالاب أولى به. فإن أعسر الاب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها. (1) راجع ج 3 ص 160 وج 5 ص 108 (*)
[ 170 ]
قوله تعالى: لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآءاته الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتها سيجعل الله بعد عسر يسرا 7 فيه أربع مسائل: الاولى: قوله تعالى: " لينفق " أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق، فإن أحتملت الحالة أمضاها عليه، فإن أقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله. وقال الامام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه: النفقة مقدرة محددة، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها. قالوا: فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس. فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان، وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد. واستدلوا بقوله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته " الآية. فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها، ولان الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فيؤدي إلى الخصومة، لان الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذى تطلب تطلبه قدر كفايتها، فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة. والاصل في هذا عندهم قوله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته " - كما ذكرنا - وقوله: " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " [ البقرة: 236 ]. والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره. وهذا مسلم. فأما إنه لا أعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه، وقد قال الله تعالى: " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " [ البقرة: 233 ] (1) وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما، لانه لم يخص في ذلك واحدا منهما. وليس من (1) راجع ج 3 ص 160. (*)
[ 171 ]
المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لهند: (خدى ما يكفيك وولدك بالمعروف). فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها، ولم يقل لها لا أعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شئ مقدر، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم. ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف، والآية لا تقتضيه. الثانية - روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم، وفرض له عثمان خمسين درهما. ابن العربي: " وأحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب أختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس، وقد روي محمد بن هلال المزني قال: حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لاهله: ما لي لا أرى فلانة ؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة، فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية. (1) ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة. وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ (2) ففرض له مائة. قال ابن العربي: (هذا الفرض قبل الفطام مما أختلف فيه العلماء، فمنهم من رآه مستحبا لانه داخل في حكم الآية، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته، وبه أقول. ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام. وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال: إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدي حنطة وقسطي خل وقسطي زيت. زاد غيره: وقال إنا قد أجرينا (3) لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا، فدعا عليه. قال أبو الدرداء: كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلي الله عليه وسلم ! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والادام، وقد درسا بعرف أخر. (1) الشقيقة: تصغير شقة، وهى جنس من الثياب. وقيل هي نصف ثوب. والسنبلانى (من الثياب): السابغ الطويل الذى قد أسبل. وسنبل ثوبه: إذا أسبله وجره من خلفه أو أمامه. (2) المنبوذ: اللقيط، وسمى اللقيط منبوذا لان أمه رمته على الطريق. (3) في ابن العربي: " أجزنا ". (*)
[ 172 ]
فأما المد فدرس إلى الكيلجة. وأما القسط فدرس إلى الكيل، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الادام. وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الاصل، ويتزيد بحسب الاحوال والعادة ". الثالثة - هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الام، خلافا لمحمد بن المواز يقول: إنها على الابوين على قدر الميراث. ابن العربي: ولعل محمدا أراد أنها على الام عند عدم الاب. وفي البخاري عن النبي صلي الله عليه وسلم (تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق على واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني) فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة. الرابعة - قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. " سيجعل الله بعد عسر يسرا " أي بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة. قوله تعالى: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبنها حسابا شديدا وعذبنها عذابا نكرا 8 فذاقت وبال أمرها وكان عقبة أمرها خسرا 9 أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يأولى الالبب الذين ءامنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا 10 رسولا يتلوا عليكم ءايت الله مبينت ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصلحت من الظلمت إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صلحا يدخله جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا 11
[ 173 ]
قوله تعالى: (وكأين من قرية) لما ذكر الاحكام ذكر وحذر مخالفة الامر، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم. وقد مضى القول في " كأين " في " آل عمران " (1) والحمد لله. (عتت عن أمر ربها) أي عصت، يعني القرية والمراد أهلها. (فحاسبناها حسابا شديدا) أي جاز يناها بالعذاب في الدنيا (وعذبناها عذابا نكرا) في الآخرة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. والنكر: المنكر. وقرئ مخففا ومثقلا، وقد مضى في سور " الكهف ". (2) (فذاقت وبال أمرها) أي عاقبة كفرها (وكان عاقبة أمرها خسرا) أي هلاكا في الدنيا بما ذكرنا، والآخرة بجهنم. وجئ بلفظ الماضي كقوله تعالى: " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " (3) [ الاعراف: 44 ] ونحو ذلك، لان المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة، وما هو كائن فكأن قد. (أعد الله لهم عذابا شديدا) بين ذلك الخسر وأنه عذاب جهنم في الآخرة. (فاتقوا الله يا أولى الالباب) أي العقول. (الذين آمنوا) بدل من " أولي الالباب " أو نعت لهم، أي يا أولي الالباب الذين آمنتم بالله اتقوا الله الذي أنزل عليكم القرآن، أي خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه. وقد تقدم. (رسولا) قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا. وقيل: إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا، " رسولا " نعت للذكر على تقدير حذف المضاف. وقيل: إن رسولا معمول للذكر لانه مصدر، والتقدير: قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا. ويكون ذكره الرسول قوله: " محمد رسول الله " [ الفتح: 29 ]. ويجوز أن يكون " رسولا " بدل من ذكر، على أن يكون " رسولا " بمعنى رسالة، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى، كأنه قال: قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا، فيكون من باب بدل الشئ من الشئ وهو هو. ويجوز أن ينتصب " رسولا " على الاغراء كأنه قال: اتبعوا رسولا. وقيل: الذكر هنا الشرف، نحو قوله تعالى: (1) راجع ج 4 ص 228 (2) يلا حظ أن الذى مضى هو في سورة " القمر " لا في سورة الكهف. راجع ج 17 ص 129 (3) را جع ج 7 ص 209 (*)
[ 174 ]
" لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " (1) [ الانبياء: 10 ]، وقوله تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك " [ الزخرف: 44 ] (2)، ثم بين هذا الشرف، فقال: " رسولا ". والاكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلي الله عليه وسلم. وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعا منزلين. (يتلو عليكم آيات الله) نعت لرسول. و " آيات الله " القرآن. (مبينات) قراءة العامة بفتح الياء، أي بينها الله. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الاحكام. والاولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: " قد بينا لكم الآيات " [ الحديد: 17 ]. (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي من سبق له ذلك في علم الله. (من الظلمات) أي من الكفر. (إلى النور) الهدى والايمان. قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وأضاف الاخراج إلى الرسول لان الايمان يحصل منه بطاعته. قوله تعالى: (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات تجرى من تحتها الانهار). قرأ نافع وابن عامر بالنون، والباقون بالياء. (قد أحسن الله له رزقا) أي وسع الله له في الجنات. قوله تعالى: الله الذى خلق سبع سموت ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموآ أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما 12 قوله تعالى: (الله الذى خلق سبع سموت ومن الارض مثلهن) دل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة. ولا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض، دل على ذلك حديث الاسراء (3) وغيره. ثم قال: " ومن الارض مثلهن " يعنى سبعا. وأختلف فيهن على قولين: أحدهما - وهو قول الجمهور - أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض، (1) راجع ج 11 ص 273. (2) راجع ج 16 ص 39. (3) راجع ج 10 ص 205 (*)
[ 175 ]
بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: " ومن الارض مثلهن " أي سبعا من الارضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والاول أصح، لان الاخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في " البقرة ". (1) وقد خرج أبو نعيم قال: حدثنا محمد ابن علي بن حبيش قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق السراج، (ح) (2) وحدثنا أبو محمد (3) بن حبان قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا حفص ابن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الارضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها). قال أبو نعيم: هذا حديث ثابت من حديث موسى ابن عقبة تفرد به عن عطاء. روي عنه ابن أبي الزناد وغيره. وفي صحيح مسلم عن سعيد ابن زيد قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبرا من الارض ظلما فأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين) ومثله حديث عائشة، وأبين منهما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يأخذ أحد شبرا من الارض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة). قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض تختص دعوة أهل الاسلام بأهل الارض العليا، ولا تلزم من في (4) غيرها من الارضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما - أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وهذا قول من جعل الارض مبسوطة. والقول الثاني - أنهم لا يشاهدون السماء، (1) راجع ج 1 ص 258 (2) جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد " ح " وهى حاء مهملة مفردة، (راجع مقدمة النووي على صحيح مسلم). (3) في ح، س " وحدثنا محمد... ". (4) في ا، ح، س، ط، ه: " فيمن ". (*)
[ 176 ]
وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدونه. وهذا قول من جعل الارض كالكرة. وفي الآية قول ثالث حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة، ليس: بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء. فعلى هذا إن لم يكن لاحد من أهل الارض وصول إلى أرض أخرى أختصت دعوة الاسلام بأهل هذه الارض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى أحتمل أن تلزمهم دعوة الاسلام عند إمكان الوصول إليهم، لان فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، وأحتمل ألا تلزمهم دعوة الاسلام لانها لو لزمتهم لكان النص بها وأردا، ولكان صلي الله عليه وسلم بها مأمورا. والله أعلم ما استأثر بعلمه، وصواب ما أشتبه على خلقه. ثم قال: (يتنزل الامر بينهن) قال مجاهد: يتنزل الامر من السموات السبع إلى الارضين السبع. وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر. والامر هنا الوحي، في قول مقاتل وغيره. وعليه فيكون قوله: " بينهن " إشارة إلى بين هذه الارض العليا التي، هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: الامر القضاء والقدر. وهو قول الاكثرين. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: " بينهن " إشارة إلى ما بين الارض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: " يتنزل الامر بينهن " بحياة بعض وموت بعض وغنى قوم وفقر قوم. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على أختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة وأتساعها، كما يقال للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوها. (لتعلموا أن الله على كل شئ قدير) يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكن، وإن استوى كل ذلك، في مقدوره ومكنته. (1) (وأن الله قد أحاط بكل شئ علما) فلا يخرج شئ عن علمه وقدرته. ونصب " علما " على المصدر المؤكد، لان " أحاط " بمعنى علم. وقيل: بمعنى وأن الله أحاط إحاطة علما. (ختمت السورة بحمد الله وعونه (2). (1) قوله: " ومكنته " يريد " وإمكانه " ولم ترد في كتب اللغة. (2) مابين المربعين ساقط من ح، ط. (*)
[ 177 ]
سورة التحريم مدنية في قول الجميع، وهي اثنتا عشرة آية. وتسمى سورة " النبي ". بسم الله الرحمن الرحيم يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغى مرضات أزوجك والله غفور رحيم 1 قوله تعالى: (يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) فيه خمس مسائل: الاولى: قوله تعالى: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلي الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير ! (1) أكلت مغافيرا ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: (بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له). فنزل: " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا: (لعائشة وحفصة)، " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " [ التحريم 30 ] لقوله: (بل شربت عسلا). وعنها أيضا قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلي العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فأحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلي الله عليه وسلم منه شربة. فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لسودة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح ؟ - وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه (1) سيذكر المؤلف رحمه الله معنى هذه الكلمة والكلمات الآتية في هذا الحديث. (*)
[ 178 ]
سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل. فقولي له: جرست نحله العرفط. وسأقول ذلك له، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة - قالت: تقول سودة والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي، وإنه لعلى الباب، فرقا (1) منك. فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير ؟ قال: (لا) قالت: فما هذه الريح ؟ قال: (سقتني حفصة شربة عسل) قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك. فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه. قال (لا حاجة لي به) قالت: تقول سودة سبحان الله ! والله لقد حرمناه. (2) قالت: قلت لها اسكتي. ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة. وفي الاولى زينب. وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وقد قيل: إنما هي أم سلمة، رواه أسباط عن السدي. وقاله عطاء بن أبي مسلم. ابن العربي: وهذا كله جهل أو تصور بغير علم. فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير. والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مغفور، وجرست: أكلت. والعرفط: نبت له ريح كريح الخمر. وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك. فهذا قول. وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلي الله عليه وسلم فلم يقبلها لاجل أزواجه، قاله ابن عباس وعكرمة. والمرأة أم شريك. وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الاسكندرية. قال ابن أسحاق: هي من كورة أنصنا (3) من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة. روي الدار قطني عن ابن عباس عن عمر قال دخل رسول الله صلي الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له: تدخلها بيتي ! (1) قولها: " أن أبادثه "، أي أبدؤه وأناديه وهو لدى الباب لم يدن منى بعد بالكلام الذى علمتنيه. و " فرقا " أي خوفا من لومك. (2) أي منعناه شربة عسل. (3) أنصنا (بالفتح ثم السكون وكسر الصاد المهملة والنون، مقصور): مدينة من نواحى الصعيد على شرقي النيل. (*)
[ 179 ]
ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: (لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها) قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (لا تذكريه لاحد). فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة، فأنزل الله عزوجل " لم تحرم ما أحل الله لك " الآية. الثانية - أصح هذه الاقوال أولها. وأضعفها أوسطها. قال ابن العربي: " أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته، وأما ضعفه في معناه فلان رد النبي صلي الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها، لان من رد ما وهب له لم يحرم عليه، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل. وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنه لم يدون في الصحيح. وروي مرسلا. وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله صلي الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال: (أنت علي حرام والله لا آتينك). فأنزل الله عزوجل في ذلك: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وروي مثله ابن القاسم عنه. وروي أشهب عن مالك قال: راجعت عمر امرأة من الانصار في شئ فاقشعر من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا ! قالت: بلى، وقد كان أزواج النبي صلي الله عليه وسلم يراجعنه. فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ قالت: نعم، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم هجر نساءه قال: رغم أنف حفصة. وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك. ونزلت الاية في الجميع. الثالثة - قوله تعالى: " لم تحرم " إن كان النبي صلي الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرم قول الرجل: " هذا علي حرام " شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة: إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس، وكانت يمينا توجب
[ 180 ]
الكفارة. وقال زفر: هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعول المخالف على أن النبي صلي الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى: " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " [ التحريم: 2 ] فسماه يمينا. ودليلنا قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " [ المائدة: 87 ]، (1) وقوله تعالى: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون " (2) [ يونس: 59 ]. فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج: ليس لاحد أن يحرم ما أحل الله. ولم يجعل لنبيه صلي الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته: أنت علي حرام، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والاماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك. وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة. الرابعة - وأختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته: " أنت علي حرام " على ثمانية عشر قولا: أحدها - لا شئ عليه. وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ. وهو عندهم كتحريم الماء والطعام، قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة: 87 ] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله. وقال تعالى: " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام " (3) [ النحل: 116 ]. وما لم يحرمه الله فليس لاحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حراما. ولم يثبت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام. وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله: (والله لا أقربها بعد اليوم) فقيل له: لم تحرم ما أحل الله لك، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين. يعني أقدم عليه وكفر. (1) راجع ج 6 ص 260 (2) راجع ج 8 ص 354 (3) راجع ج 10 ص 195 (*)
[ 181 ]
ثانيها - أنها يمين يكفرها، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم - والاوزاعي، وهو مقتضى الآية قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها. وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، يعني أن النبي صلي الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى: " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا. خرجه الدار قطني. وثالثها - أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه، وفي هذا القول نظر. والآية ترده على ما يأتي. ورابعها - هي ظهار، ففيها كفارة الظهار، قاله عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق. وخامسها - أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا. وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين. وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، قاله الشافعي. وسادسها - أنها طلقة رجعية، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون. وسابعها - أنها طلقة بائنة، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت. ورواه ابن خويز منداد عن مالك. وثامنها - أنها ثلات تطليقات، قاله علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة. وتاسعها - هي في المدخول بها ثلاث، وينوي في غير المدخول بها، قاله الحسن وعلي ابن زيد والحكم. وهو مشهور مذهب مالك. وعاشرها - هي ثلاث، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل، (1) قاله عبد الملك في المبسوط، وبه قال ابن أبي ليلى. (1) كلمة " وإن لم يدخل " ليست في ابن العربي. وعبارة البحر لابي حيان (ج 8 ص 289): " هي ثلاث في الوجهين ولا ينوى في شئ " ونسبه أيضا لعبد الملك بن الماجشون وابن أبى ليلى. (*)
[ 182 ]
وحادي عشرها - هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم. (1) وثاني عشرها - أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى. فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا. فإن نوى ثنتين فواحدة. فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وبمثله قال زفر، إلا أنه قال: إذا نوى اثنتين ألزمناه. وثالث عشرها - أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا، قاله ابن القاسم. ورابع عشرها - قال يحيى بن عمر: يكون طلاقا، فإن أرتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار. وخامس عشرها - إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده. وإن نوى واحدة فهي رجعية. وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين. وسادس عشرها - إن نوى ثلاثا فثلاثا، وإن واحدة فواحدة. وإن نوى يمينا فهي يمين. وإن لم ينو شيئا فلا شئ عليه. وهو قول سفيان. وبمثله قال الاوزاعي وأبو ثور، إلا أنهما قالا: إن لم ينو شيئا فهي واحدة. وسابع عشرها - له نيته ولا يكون أقل من واحدة، قاله ابن شهاب. وإن لم ينو شيئا لم يكن شئ، قاله ابن العربي. ورأيت لسعيد بن جبير وهو: الثامن عشر - أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا. ولست أعلم لها وجها ولا يبعد (2) في المقالات عندي. قلت: قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال: حدثنا سفيان الثوري عن سالم الافطس (1) في ى: " محمد بن الحكم ". (2) في ابن العربي: " ولا يتعدد ". (*)
[ 183 ]
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما. فقال: كذبت ! ليست عليك بحرام، ثم تلا " يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " عليك أغلظ الكفارات: عتق رقبة. وقد قال جماعة من أهل التفسير: إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة، وعاد إلى مارية صلي الله عليه وسلم، قاله زيد بن أسلم وغيره. الخامسة - قال علماؤنا: سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة، فتجاذبها العلماء لذلك. فمن تمسك بالبراءة الاصلية فقال: لا حكم، فلا يلزم بها شئ. وأما من قال إنها يمين، فقال: سماها الله يمينا. وأما من قال: تجب فيها كفارة وليست بيمين، فبناه على أحد أمرين: أحدهما - أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن (1) لم تكن يمينا. والثاني - أن معنى اليمين عنده التحريم، فوقعت الكفارة على المعنى. وأما من قال: إنها طلقة رجعية، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه، والرجعية محرمة الوطئ كذلك، فيحمل اللفظ عليه. وهذا يلزم مالكا، لقوله: إن الرجعية محرمة الوطئ. وكذلك وجه من قال: إنها ثلاث، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث. وأما من قال: إنه ظهار، فلانه أقل درجات التحريم، فإنه تحريم لا يرفع النكاح. وأما من قال: إنه طلقة بائنة، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة، وأن الطلاق البائن يحرمها. وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة. ابن العربي: " وهذا لا يصح، لانه جمع بين المتضادين، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل. وأما من قال: إنه ينوى في التي لم يدخل بها، فلان الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا. وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته: إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالاجماع، فيكفي أخذا بالاقل المتفق عليه. وأما من قال: إنه ثلاث فيهما، فلانه أخذ بالحكم الاعظم، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها (1) في ابن العربي: " ولم تكن ". (*)
[ 184 ]
نفوذها في التي دخل بها. ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم ". والله أعلم. وهذا كله في الزوجة. وأما في الامة فلا يلزم فيها شئ من ذلك، إلا أن ينوي به العتق عند مالك. وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين. ابن العربي. والصحيح أنها طلقة واحدة، لانه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده. كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالاكثر، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج، فهذا نص على المراد. قلت: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلي الله عليه وسلم في بيتها بجاريته، ذكره الثعلبي. وعلى هذا فكأنه قال: لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا. فكأنه قال: لم يحرم عليك ما حرمته، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين. وهذا صحيح، فإن النبي صلي الله عليه وسلم حرم ثم حلف، كما ذكره الدارقطني. وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد ابن عمير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل: أكلت مغافير ؟ إني لاجد منك ريح مغافير ! قال: (لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا). يبتغي مرضات أزواجه. فيعني بقوله: (ولن أعود له على جهة التحريم. وبقوله: (حلفت) أي بالله، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى: " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " يعني العسل المحرم بقوله: (لن أعود له). " تبتغي مرضات أزواجك " أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن. " والله غفور رحيم " غفور لما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة. وقد قيل: إن ذلك كان ذنبا من الصغائر. والصحيح أنه معاتبة على ترك الاولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.
[ 185 ]
قوله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمنكم والله مولكم وهو العليم الحكيم 2 فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم أستباحة المحلوف عليه، وهو قوله تعالى في سورة " المائدة ": " فكفارته إطعام عشرة مساكين " (1) [ المائدة: 89 ]. ويتحصل من هذا أن من حرم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا، لان الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شئ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه، فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها، أو زوجة فعلى الايلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن. وكذلك إن نوى ثنتين أو ثلاثا. وإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يدين في القضاء بإبطال الايلاء. وإن قال: كل حلال عليه حرام، فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء (2) وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، على ما تقدم بيانه. فإن حلف إلا يأكله حنث ويبر بالكفارة. الثانية - فإن حرم أمته أو زوجته فكفارة يمين، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم للرجل عليه امرأته، فهي يمين يكفرها. وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. الثالثة - قيل: إن النبي صلي الله عليه وسلم كفر عن يمينه. وعن الحسن: لم يكفر، لان النبي صلي الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الامة. والاول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلي الله عليه وسلم. (1) راجع ج 6 ص 264. (2) زيادة عن الكشاف يقتضيها السياق. (*)
[ 186 ]
ثم إن الامة تقتدي به في ذلك. وقد قدمنا عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كفر بعتق رقبة. وعن مقاتل أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية. والله أعلم. وقيل: أي قد فرض الله لكم تحليل ملك اليمين، فبين في قوله تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله (1) له " [ الاحزاب: 38 ] أي فيما شرعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الايمان، فلم تحرم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك. وقيل: تحلة اليمين الاستثناء، أي فرض الله لكم الاستثناء المخرج عن اليمين. ثم عند قوم يجوز الاستثناء من الايمان متى شاء وإن تحلل مدة. وعند المعظم لا يجوز إلا متصلا، فكأنه قال: استثن بعد هذا فيما تحلف عليه. وتحلة اليمين تحليلها بالكفارة، والاصل تحللة، فأدغمت. وتفعلة من مصادر فعل، كالتسمية والتوصية. فالتحلة تحليل اليمين. فكأن اليمين عقد والكفارة حل. وقيل: التحلة الكفارة، أي إنها تحل للحالف ما حرم على نفسه، أي إذا كفر صار كمن لم يحلف. (والله مولاكم) وليكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة. قوله تعالى: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير 3 قوله تعالى: (وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) أي واذكر إذ أسر النبي إلى حفصة حديثا " يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك. وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي، وقاله ابن عباس. قال: أسر أمر الخلافة بعده إلى حفصة فذكرته حفصة. روي الدارقطني في سننه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: " وإذ أسر النبي إلى بعض (1) راجع ج 14 ص 195 (*)
[ 187 ]
أزواجه حديثا " قال: اطلعت حفصة على النبي صلي الله عليه وسلم مع أم إبراهيم فقال: (لا تخبري عائشة) وقال لها (إن أباك وأباها سيملكان أو سيليان بعدي فلا تخبري عائشة) قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض. قال أعرض عن قوله: (إن أباك وأباها يكونان بعدي). كره رسول الله صلي الله عليه وسلم أن ينشر ذلك في الناس. (فلما نبأت به) أي أخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على نساء النبي صلي الله عليه وسلم. (وأظهره الله عليه) أي أطلعه الله على أنها قد نبأت به. وقرأ طلحة بن مصرف " فلما أنبأت " وهما لغتان: أنبأ ونبأ. ومعنى " عرف بعضه وأعرض عن بعض " عرف حفصة بعض ما أوحي إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرض عن بعض تكرما، قاله السدي. وقال الحسن: ما أستقصى كريم قط، قال الله تعالى " عرف بعضه وأعرض عن بعض ". وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو حديث أم ولده ولم يخبرها ببعض وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكر وعمر سيملكان بعده. وقراءة العامة " عرف " مشددا، ومعناه ما ذكرناه. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، يدل عليه قوله تعالى: " وأعرض عن بعض " أي لم يعرفها إياه. ولو كانت مخففة لقال في ضده وأنكر بعضا. وقرأ علي وطلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة والكلبي والكسائي والاعمش عن أبي بكر " عرف " مخففة. قال عطاء: كان أبو عبد الرحمن السلمي إذا قرأ عليه الرجل " عرف " مشددة حصبه بالحجارة. قال الفراء: وتأويل قوله عزوجل: " عرف بعضه " بالتخفيف، أي غضب فيه وجازى عليه، وهو كقولك لمن أساء إليك: لا عرفن لك ما فعلت، أي لاجازينك عليه. وجازاها النبي صلي الله عليه وسلم بأن طلقها طلقة واحدة. فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم طلقك. فأمره جبريل بمراجعتها وشفع فيها. وأعتزل النبي صلي الله عليه وسلم نساءه شهرا، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم حتى نزلت آية التحريم على ما تقدم. وقيل: هم بطلاقها حتى قال له جبريل: (لا تطلقها فإنها صوامة
[ 188 ]
قوامة وإنها من نسائك في الجنة) فلم يطلقها. (فلما نبأها به) أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. (قالت من أنبأك هذا) يا رسول الله عني. فظنت أن عائشة أخبرته، فقال عليه السلام: (نبأنى العليم الخبير) أي الذي لا يخفى عليه شئ. و " هذا " سد مسد مفعولي " أنبأ ". و " نبأ " الاول تعدى إلى مفعول، و " نبأ " الثاني تعدى إلى مفعول واحد، لان نبأ وأنبأ إذا لم يدخلا على المبتدأ والخبر جاز أن يكتفى فيهما بمفعول واحد وبمفعولين، فإذا دخلا على الابتداء والخبر تعدى كل واحد منهما إلى ثلاثة مفعولين. ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث، لان الثالث هو خبر المبتدأ في الاصل فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر. قوله تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظهرا عليه فإن الله هو موله وجبريل وصلح المؤمنين والملئكة بعد ذلك ظهير 4 قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله) يعني حفصة وعائشة، حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم. (فقد صغت قلوبكما) أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحبتا ما كره النبي صلي الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحب العسل والنساء. قال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ماكرهه رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقيل: فقد مالت قلوبكما إلى التوبة. وقال: " فقد صغت قلوبكما " ولم يقل: فقد صغى قلبا كما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما، لانه لا يشكل. وقد مضى هذا المعنى في " المائدة " في قوله تعالى: " فاقطعوا أيديهما " (1) [ المائدة: 38 ]. وقيل: كلما ثبتت الاضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به، لانه أمكن وأخف. وليس قوله: " فقد صغت (1) راجع ج 6 ص 173 (*)
[ 189 ]
قلوبكما " جزاء للشرط، لان هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به. أي إن تتوبا كان خيرا لكما، إذ قد صغت قلوبكما. قوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) أي تتظاهرا وتتعاونا على النبي صلي الله عليه وسلم بالمعصية والايذاء. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجع فكنا ببعض الطريق عدل إلى الاراك (1) لحاجة له، فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلي الله عليه وسلم من أزواجه ؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله إن كنت لاريد أن سألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك... وذكر الحديث. (فإن الله هو مولاه) أي وليه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منهما. (وجبريل وصالح المؤمنين) قال عكرمة وسعيد بن جبير: أبو بكر وعمر، لانهما أبوا عائشة وحفصة، وقد كانا عونا له عليهما. وقيل: صالح المؤمنين علي رضي الله عنه. وقيل: خيار المؤمنين. وصالح: اسم جنس كقوله تعالى: " والعصر. إن الانسان لفي خسر " [ العصر: 2 ]، قاله الطبري. وقيل: " صالح المؤمنين " هم الانبياء، قاله العلاء بن زيادة وقتادة وسفيان. وقال ابن زيد: هم الملائكة. السدي: هم أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم. وقيل: " صالح المؤمنين " ليس لفظ الواحد وإنما هو صالحو المؤمنين: فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وكتب بغير واو على اللفظ لان لفظ الواحد والجمع واحد فيه. كما جاءت أشياء في المصحف متنوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمربن الخطاب رضي الله عنه قال: لما أعتزل نبي الله صلي الله عليه وسلم نساءه قال دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون (2) بالحصى ويقولون: طلق رسول الله صلي الله عليه (3) وسلم نساءه - وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب - فقال عمر: (1) الاراك: الشجر، واحدته أراكة. (2) أي يضربون به الارض، كفعل المهموم المفكر. (3) مابين المربعين ساقط من أ، ح، س. (*)
[ 190 ]
فقلت لا علمن ذلك اليوم، قال فدخلت على عائشة فقلت: يا بنة أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم ! فقالت: مالي ومالك يابن الخطاب ! عليك بعيبتك ! (1) قال فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلي الله عليه وسلم ! والله لقد علمت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلي الله عليه وسلم. فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلي الله عليه وسلم قاعدا على أسكفة (2) المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم وينحدر. فناديت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح، استأذن لي عندك على رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله صلي الله عليه وسلم بضرب عنقها لاضربن عنقها، ورفعت صوتي فأومأ إلي أن أرقه، فدخلت على رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلي الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق (3) معلق - قال - فابتدرت عيناي. قال: (ما يبكيك يا بن الخطاب) ؟ قلت يا نبي الله، ومالي لا أبكى وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والانهار وأنت رسول الله صلي الله عليه وسلم (1) أي عليك بوعظ بنتك حفصة. والعيبة: وعاه يجعل الانسان فيه أفضل ثيابه ونفيس متاعه، فثبهت ابنته بها. (2) الاسكفة: العتبة. (3) الافيق: هو الجلد الذى لم يتم دباغه. (*)
[ 191 ]
وصفوته، وهذه خزانتك ! فقال: (يابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا) قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله عزوجل يصدق قولي الذي أقول (1) ونزلت هذه الآية، آية التخيير: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " [ التحريم: 5 ]. " وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير ". وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء رسول الله صلي الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله، أطلقتهن ؟ قال: (لا). قلت: يا رسول الله، إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون: طلق رسول الله صلي الله عليه وسلم نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال: (نعم إن شئت). فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر (2) فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله صلي الله عليه وسلم ونزلت، فنزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلي الله عليه وسلم كأنما يمشي على الارض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله، إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين. قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلي الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: " وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه (3) منهم " [ النساء: 83 ]. فكنت أنا استنبطت ذلك الامر، وأنزل الله آية التخيير. قوله تعالى: " وجبريل " فيه لغات تقدمت في سورة " البقرة ". (4) ويجوز أن يكون معطوفا على " مولاه " والمعنى: الله وليه وجبريل وليه، فلا يوقف على " مولاه " ويوقف على " جبريل " ويكون " وصالح المؤمنين " مبتدأ " والملائكة " معطوفا عليه. و " ظهير " خبرا، (1) زيادة من صحيح مسلم. (2) أي أبدى أسنانه تبسما. (3) راجع ج 5 ص 291 (4) راجع ج 2 ص 37 (*)
[ 192 ]
وهو بمعنى الجمع. وصالح المؤمنين أبو بكر، قاله المسيب بن شريك. وقال سعيد بن جبير: عمر. وقال عكرمة: أبو بكر وعمر. وروي شقيق عن عبد الله عن النبي صلي الله عليه وسلم في قول الله تعالى: " فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين " قال: إن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. وقيل: هو علي. عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (" وصالح المؤمنين " علي بن أبي طالب). وقيل غير هذا مما تقدم القول فيه. ويجوز أن يكون " وجبريل " مبتدأ وما بعده معطوفا عليه. والخبر " ظهير " وهو بمعنى الجمع أيضا. فيوقف على هذا على " مولاه ". ويجوز أن يكون " جبريل وصالح المؤمنين " معطوفا على " مولاه " فيوقف على " المؤمنين " ويكون " والملائكة بعد ذلك ظهير " ابتداء وخبرا. ومعنى " ظهير " أعوان. وهو بمعنى ظهراء، كقوله تعالى: " وحسن أولئك، رفيقا " (1) [ النساء: 69 ]. وقال أبو علي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله تعالى: " ولا يسأل حميم حميما. يبصرونهم " (2) [ المعارج: 10 - 1 1 ]. وقيل: كان التظاهر منهما في التحكم على النبي صلي اله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهرا وأعتزلهن. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلي الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لاحد منهم، قال: فأذن لابي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلي الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا - قال - فقال لاقولن شيئا أضحك النبي صلي الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلي الله عليه وسلم ما ليس عنده ! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: " يأيها النبي قل لازواجك " حتى بلغ " للمحسنات منكن أجرا عظيما " [ الاحزاب: 28 - 29 ] الحديث. وقد ذكراه في سورة (3) " الاحزاب ". (1) راجع ج 5 ص 271 (2) راجع ص 284 من هذا الجزء. (3) راجع ج 14 ص 163 (*)
[ 193 ]
قوله تعالى: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزوجا خيرا منكن مسلمت مؤمنت قنتت تئبت عبدت سئحت ثيبت وأبكارا 5 قوله تعالى: (عسى ربه إن طلقكن) قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه. (1) ثم قيل: كل " عسى " في القرآن واجب إلا هذا. وقيل: هو واجب ولكن الله عزوجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن. (أن يبدله أزواجا خيرا منكن) لانكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال معناه السدي. وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلي الله عليه وسلم، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن. وقرئ " أن يبدله " بالتشديد والتخفيف. والتبديل والابدال بمعنى، كالتنزيل والانزال. والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن. وهو كقوله تعالى: " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم " (2) [ محمد: 38 ]. وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم. قوله تعالى: (مسلمات) يعني مخلصات، قاله سعيد بن جبير. وقيل: معناه مسلمات لامر الله تعالى وأمر رسوله. (مؤمنات) مصدقات بما أمرن به ونهين عنه. (قانتات) مطيعات. والقنوت: الطاعة. وقد تقدم. (3) (تائبات) أي من ذنوبهن، قاله السدي. وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن. (عابدات) أي كثيرات العبادة لله تعالى. وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد. (سائحات) صائبات، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير. وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان: مهاجرات. قال زيد: وليس في أمة محمد صلي الله عليه وسلم (1) راجع ص 191 من هذا الجزء. (2) راجع ج 16 ص 258 (3) راجع ج 2 ص 86 وج 3 ص 213 (*)
[ 194 ]
سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الارض. وقال الفراء والقتبي وغيرهما: سمي الصائم سائحا لان السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام. وقيل: ذاهبات في طاعة الله عزوجل، من ساح الماء إذا ذهب. وقد مضى في سورة " براءة " (1) والحمد لله. (ثيبات وأبكارا) أي منهن ثيب ومنهن بكر. وقيل: إنما سميت الثيب ثيبا لانها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، أو إلى غيره إن فارقها. وقيل: لانها ثابت إلى بيت أبويها. وهذا أصح، لانه ليس كل ثيب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء، سميت بكرا لانها على أول حالتها التي خلقت بها. وقال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنة عمران. قلت: وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن. والله أعلم. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا قوآ أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملئكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون 6 فيه مسألة واحدة - وهي الامر بوقاية الانسان نفسه وأهله النار. قال الضحاك: معناه قوا أنفسكم، وأهلوكم فليقوا أنفسهم نارا. وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيهم الله بكم. وقال علي رضي الله عنه وقتادة ومجاهد: قوا أنفسكم بأفعالكم وقوا أهليكم بوصيتكم. ابن العربي: وهو الصحيح، والفقه الذي يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل، كقوله: * علفتها تبنا وماء باردا (2) * (1) راجع ج 8 ص 269. (2) رجز مشهور لم يعرف قائله. وتمامه: * حتى شتت همالة عيناها * راجع كتاب الانصاف وشرح الشواهد. وج 6 ص 95. (*)
[ 195 ]
وكقوله: ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية. ففي صحيح الحديث أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالامام الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم). وعن هذا عبر الحسن في هذه الآية بقوله: يأمرهم وينهاهم. وقال بعض العلماء لما قال: " قوا أنفسكم " دخل فيه الاولاد، لان الولد بعض منه. كما دخل في قوله تعالى: " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم " (1) [ النور: 61 ] فلم يفردوا بالذكر إفراد سائر القرابات. فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الاحكام. وقال عليه السلام: (حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويزوجه إذا بلغ). وقال عليه السلام: (ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن). وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلي الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع). خرجه جماعة من أهل الحديث. وهذا لفظ أبي داود. وخرج أيضا عن سمرة بن جندب قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فأضربوه عليها). وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة ووجوب الصيام ووجوب الفطر إذا وجب، مستندا في ذلك إلى رؤية الهلال. وقد روى مسلم أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا أوتر يقول: (قومي فأوتري يا عائشة). وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله فإن لم تقم رش وجهها بالماء. رحم الله امرأة قامت من الليل تصلى وأيقظت زوجها فإذا لم يقم رشت على وجهه من الماء). ومنه قوله صلي الله عليه وسلم: (أيقظوا صواحب الحجر). ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى " (2) [ المائدة: 2 ]. وذكر القشيري أن عمر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية: يا رسول (1) راجع ج 12 ص 314 (2) راجع ج 6 ص 46 (*)
[ 196 ]
الله، نقي أنفسنا، فكيف لنبأ هلينا ؟. فقال: (تنهونهم عما نها كم الله وتأمرونهم بما أمر الله). وقال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه وولده وأهله وعبيده وإمائه. قال الكيا: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الادب. وهو قوله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر (1) عليها " [ طه: 132 ]. ونحو قوله تعالى للنبي صلي الله عليه وسلم: " وأنذر عشيرتك (2) الاقربين ". [ الشعراء: 214 ]. وفي الحديث: " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع ". (وقودها الناس والحجارة) تقدم في سورة " البقرة " القول فيه (3). (عليها ملائكة غلاظ شداد) يعني الملائكة الزبانية غلاظ القلوب لا يرحمون إذا أسترحموا، خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب. " شداد " أي شداد الابدان. وقيل: غلاظ الاقوال شداد الافعال. وقيل غلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم. يقال: فلان شديد على فلان، أي قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب. وقيل: أراد بالغلاظ ضخامة أجسامهم، وبالشدة القوة. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا عبد الرحمن بن زيد قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في خزنة جهنم: (ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب). قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم) أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. (ويفعلون ما يؤمرون) أي في وقته، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. وقيل أي لذتهم في أمتثال أمر الله، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة، ذكره بعض المعتزلة. وعندهم أنه يستحيل التكليف غدا. ولا يخفى معتقد أهل الحق في أن الله يكلف العبد اليوم وغدا، ولا ينكر التكليف في حق الملائكة. ولله أن يفعل ما يشاء. (1) راجع ج 11 ص 263 (2) راجع ج 13 ص 143 (3) راجع ج 1 ص 235 (*)
[ 197 ]
قوله تعالى: يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون 7 قوله تعالى: (يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) فإن عذركم لا ينفع. وهذا النهي لتحقيق اليأس. (إنما تجزون ما كنتم تعملون) في الدنيا. ونظيره: " فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون " [ الروم: 57 ]. وقد تقدم. (1) قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر يوم لا يخزى الله النبي والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمنهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير 8 قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله " أمر بالتوبة وهي فرض على الاعيان في كل الاحوال وكل الازمان. وقد تقدم بيانها والقول فيها في " النساء " وغيرها. (2) " توبة نصوحا " أختلفت عبارة العلماء وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولا، فقيل: هي التي لا عودة بعدها كمالا يعود اللبن إلى الضرع، وروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضى الله عنهم. ورفعه معاذ إلى النبي صلي الله عليه وسلم. وقال قتادة: النصوح الصادقة الناصحة. وقيل الخالصة، يقال: نصح أي أخلص له القول. وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقيل: هي التي لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها. وقيل: هي التي لا يحتاج (1) راجع ج 14 ص 49 (2) راجع ج 5 ص 90 (*)
[ 198 ]
معها إلى توبة. وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والاقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود.. وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات. وقال سعيد بن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم. وقال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، وإقلاع بالابدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سئ الخلان. وقال سفيان الثوري: علامة التوبة النصوح أربعة: القلة والعلة والذلة والغربة. وقال الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذنب بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه. ونحوه عن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك. وقال أبو بكر الوراق: هو أن تضيق عليك الارض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك، كالثلاثة الذين خلفوا. (1) وقال أبو بكر الواسطي: هي توبة لا لفقد عوض، لان من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة، فتوبته على حفظ نفسه لا لله. وقال أبو بكر الدقاق المصري: التوبة النصوح هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. وقال رويم: هو أن تكون لله وجها بلا قفا، كما كنت له عند المعصية قفا بلا وجه. وقال ذوالنون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام. وقال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة، لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال سري السقطي: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين، لان من صحب توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدا، لان من صحت توبته صار محبا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله. وقال ذو الاذنين: (2) هو أن يكون (1) الثلاثة الذين خلفوا هم: كعب بن مالك، مرارة بن ربيعة العامري، هلال بن أمية الواقفى. راجع ج 8 ص 282 وج 2 ص 907 من سيرة ابن هشام طبع أو ربا. (2) ذو الاذنين: لقب أنس بن مالك رضى الله عنه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قيل: معناه الحض على حسن الاستماع والوعى. وقيل: إن هذا القول من جملة مزحه صلوات الله وسلامه عليه. (*)
[ 199 ]
لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح. وقال فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ. وقال سهل بن عبد الله التستري: هي التوبة لاهل السنة والجماعة، لان المبتدع لا توبة له، بدليل قوله صلي الله عليه وسلم: (حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب). وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. وأصل التوبة النصوح من الخلوص، يقال: هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع. وقيل: هي مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان: أحدهما - لانها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته ويوثقه. والثاني - لانها قد جمعت بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم، كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض. وقراءة العامة " نصوحا " بفتح النون، على نعت التوبة، مثل امرأة صبور، أي توبة بالغة في النصح. وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم، وتأويله على هذه القراءة: توبة نصح لانفسكم. وقيل: يجوز أن يكون " نصوحا "، جمع نصح، وإن يكون مصدرا، يقال: نصح نصاحة ونصوحا. وقد يتفق فعالة وفعول في المصادر، نحو الذهاب والذهوب. وقال المبرد: أراد توبة ذات نصح، يقال: نصحت نصحا ونصاحة ونصوحا. الثانية - في الاشياء التي يتاب منها وكيف التوبة منها. قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقا لله أو للآدميين. فإن كان حقا لله كترك صلاة فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها. وهكذا إن كان ترك صوم أو تفريطا في الزكاة. وإن كان ذلك قتل نفس بغير حق فأن يمكن من القصاص إن كان عليه وكان مطلوبا به. وإن كان قذفا يوجب الحد فيبذل ظهره للجلد إن كان مطلوبا به. فإن عفي عنه كفاه الندم والعزم على ترك العود بالاخلاص. وكذلك إن عفي عنه في القتل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجدا له، قال الله تعالى: " فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " (1) [ البقرة: 178 ]. وإن كان ذلك حدا من حدود الله كائنا ما كان فإنه (1) راجع ج 2 ص 253 (*)
[ 200 ]
إذا تاب إلى الله تعالى بالندم الصحيح سقط عنه. وقد نص الله تعالى على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم. وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم، حسب ما تقدم بيانه (1). وكذلك الشراب والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام فلا ينبغي له أن يحدهم. وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا، لم يتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غلبوا. هذا مذهب الشافعي. فإن كان الذنب من مظالم العباد فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه - عينا كان أو غيره - إن كان قادرا عليه، فإن لم يكن قادرا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان أضر بواحد من المسلمين وذلك الواحد لا يشعر به أو لا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه ويستغفر له، فإذا عفا عنه فقد سقط الذنب عنه. وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه - عرفه بعينه أو لم يعرفه - فذلك صحيح. وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزعه بغير حق، أو غمه أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط فألمه، ثم جاءه مستعفيا نادما على ما كان منه، عازما على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب. وهكذا إن كان شانه بشتم لا حد فيه. قوله تعالى: (عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم) " عسى " من الله واجبة. وهو معنى قوله عليه السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). و " أن " في موضع رفع اسم عسى. (2) قوله تعالى: (ويدخلكم) معطوف على " يكفر ". وقرأ أبن أبي عبلة " ويدخلكم " مجزوما عطفا على محل عسى أن يكفر. كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار. (يوم لا يخزى الله النبي) العامل في " يوم ": " يدخلكم " أو فعل مضمر. ومعنى " يخزي " هنا يعذب، أي لا يعذبه ولا يعذب الذين آمنوا معه. (1) راجع ج 6 ص 174 (2) ما بين المربعين من ط. وبياض فيما هداها (*)
[ 201 ]
(نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) تقدم في سورة " الحديد " (1). (يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، حسب ما تقدم بيانه في سورة " الحديد ". (2) قوله تعالى: يأيها النبي جهد الكفار والمنفقين واغلظ عليهم ومأوهم جهنم وبئس المصير 9 قوله تعالى: (يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) فيه مسألة واحدة - وهو التشديد في دين الله. فأمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة، وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين. وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود. وكانت الحدود تقام عليهم. (ومأواهم جهنم) يرجع إلى الصنفين. (وبئس المصير) أي المرجع. قوله تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صلحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الدخلين 10 ضرب الله تعالى هذا المثل تنبيها على أنه لا يغني أحد في الآخرة عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين. وكان اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة، قاله مقاتل. وقال الضحاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واغلة واسم امرأة لوط والهة. (فخانتاهم) قال عكرمة (1) راجع ج 17 ص 243 (2) راجع ج 17 ص 245 (*)
[ 202 ]
والضحاك. بالكفر. وقال سليمان بن رقية (1) عن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه. وعنه: ما بغت امرأة نبي قط. وهذا إجماع من المفسرين فيما ذكر القشيري. إنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك. وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف، لما كانوا عليه من إتيان الرجال. (فلم يغنيا عنهما من الله شيئا) أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما - لما عصتا - شيئا من عذاب الله، تنبيها بذلك على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة. ويقال: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إن محمدا صلي الله عليه وسلم يشفع لنا، فبين الله تعالى أن شفاعته لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا تنفع شفاعة نوح لامرأته وشفاعة لوط لامرأته، مع قربهما لهما لكفرهما. وقيل لهما: " ادخلا النار مع الداخلين " في الآخرة، كما يقال لكفار مكة وغيرهم. ثم قيل: يجوز أن تكون " امرأة نوح " بدلا من قوله: " مثلا " على تقدير حذف المضاف، أي ضرب الله مثلا مثل امرأة نوح. ويجوز أن يكونا مفعولين. قوله تعالى: وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا في الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظلمين 11 قوله تعالى: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون) وأسمها آسية بنت مزاحم. قال يحيى بن سلام: قوله " ضرب الله مثلا للذين كفروا " مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلي الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنة عمران، ترغيبا في التمسك بالطاعة والثبات على الدين. (1) في ل: " قتة ". وفى تفسير الطبري: " قيس ". (*)
[ 203 ]
وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون. وكانت آسية آمنت بموسى. وقيل: هي عمة موسى آمنت به. قال أبو العالية: اطلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملا فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟ فأثنوا عليها. فقال لهم: إنها تعبد ربا غيري. فقالوا له: أقتلها. فأوتد لها أوتادا وشديديها ورجليها فقالت: (رب ابن لى عندك بيتا في الجنة) ووافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة. فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها ! إنا نعذبها وهي تضحك، فقبض روحها. وقال سلمان الفارسي فيما روى عنه عثمان النهدي: كانت تعذب بالشمس، فإذا أذاها حر الشمس أظلتها الملائكة بأجنحتها. وقيل: سمر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى، فأطلعها الله. حتى رأت مكانها في الجنة. وقيل: لما قالت: " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة " أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل: إنه من درة، عن الحسن. ولما قالت: (ونجنى) نجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب وتتنعم. ومعنى (من فرعون وعمله تعني بالعمل الكفر. وقيل: من عمله من عذابه وظلمه وشماتته. وقال ابن عباس: الجماع. (ونجنى من القوم الظالمين) قال الكلبي: أهل مصر. مقاتل: القبط. قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب. قوله تعالى: ومريم ابنت عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمت ربها وكتبه وكانت من القنتين 12 قوله تعالى: (ومريم ابنة عمران) أي واذكر مريم. وقيل: هو معطوف على امرأة فرعون. والمعنى: وضرب الله مثلا لمريم بنة عمران وصبرها على أذى اليهود. (التى أحصنت فرجها) أي عن الفواحش. وقال المفسرون: إنه أراد بالفرج هنا الجيب لانه قال: " فنفخنا فيه من روحنا " وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها. وهي
[ 204 ]
في قراءة أبي " فنفخنا في جيبها من روحنا ". وكل خرق في الثوب يسمى جيبا، ومنه قوله تعالى: " وما لها من فروج " (1) [ ق: 6 ]. ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. ومعنى " فنفخنا " أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها " من روحنا " أي روحا من أرواحنا وهي روح عيسى. وقد مضى في آخر سورة " النساء " بيانه مستوفى (2) والحمد لله. (وصدقت بكلمات ربها) قراءة العامة " وصدقت " بالتشديد. وقرأ حميد والاموي " وصدقت " بالتخفيف. " بكلمات ربها " قول جبريل لها: " إنما أنا رسول ربك " [ مريم: 19 ] الآية. (3) وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى وأنه نبي وعيسى كلمة الله. وقد تقدم. (4) وقرأ الحسن وأبو العالية " بكلمة ربها وكتابه " وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم " وكتبه " جمعا. وعن أبي رجاء " وكتبه " مخفف التاء. والباقون " بكتابه " على التوحيد. والكتاب يراد به الجنس، فيكون في معنى كل كتاب أنزل الله تعالى. (وكانت من القانتين) أي من المطيعين. وقيل: من المصلين بين المغرب والعشاء. وإنما لم يقل من القانتات، لانه أراد وكانت من القوم القانتين. ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها، فإنهم كانوا مطيعين لله. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها: " أتكرهين ما قد نزل بك ولقد جعل الله في الكره خيرا فإذا قدمت على ضراتك (5) فأقرئيهن مني السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة (6) - أو قال حكيمة (7) - بنت عمران أخت موسى بن عمران). فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله. وروى قتادة عن أنس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (حسبك من نساء العالمين أربع مريم بنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم). وقد مضى في (آعمران) الكلام في هذا مستوفى والحمد لله. (1) راجع ج 17 ص 6. (2) راجع ج 6 ص 22 (3) راجع ج 11 ص 91 (4) راجع ج 4 ص 83 (5) أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوجنى في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى ". (6) في ب، ح، ز، س، ط، ل، ه: " كلمة ". في ب، ح، ز، س، ط، ل، ه: " حليمة ". (*)
[ 205 ]
سورة الملك مكية في قول الجميع. وتسمى الواقية والمنجية. وهي ثلاثون آية روى الترمذي عن ابن عباس قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة " الملك " حتى ختمها، فأتى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة " الملك " حتى ختمها ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر). قال: حديث حسن غريب. وعنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (وددت أن " تبارك الذي بيده الملك " في قلب كل مؤمن) ذكره الثعلبي. وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة " تبارك "). خرجه الترمذي بمعناه، وقال فيه: حديث حسن. وقال ابن مسعود: إذا وضع الميت في قبره فيؤتى من قبل رجليه، فيقال: ليس لكم عليه سبيل، فإنه كان يقوم بسورة " الملك " على قدميه. ثم يؤتى من قبل رأسه، فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل، إنه كان يقرأ بي سورة " الملك " ثم قال: هي المانعة من عذاب الله، وهي في التوراة سورة " الملك " من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب. وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: تبرك الذى بيده الملك وهو على كل شئ قدير 1 " تبارك " تفاعل من البركة وقد تقدم. (1) وقال الحسن: تقدس. وقيل دام. فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه. (الذى بيده الملك) أي ملك السموات (1) راجع ج 7 ص 223 (*)
[ 206 ]
والارض في الدنيا والآخرة. وقال ابن عباس: بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع. وقال محمد بن إسحاق: له ملك النبوة التي أعز بها من اتبعه وذل بها من خالفه. (وهو على كل شئ قدير) من إنعام وانتقام. قوله تعالى: الذى خلق الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور 2 فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (الذى خلق الموت والحياة) قيل: المعنى خلقكم للموت والحياة، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدم الموت على الحياة، لان الموت إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين فقال: " يهب لمن يشاء (1) إناثا " [ الشورى: 49 ]. وقيل: قدمه لانه أقدم، لان الاشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوه. وقال قتادة: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء). وعن أبي الدرداء أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت وإنه مع ذلك لو ثاب). المسألة الثانية: " الموت والحياة " قدم الموت على الحياة، لان أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لانه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم (2) قال العلماء: الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. والحياة عكس ذلك. وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل: أن الموت والحياة جسمان، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشئ ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء - وهي التي كان جبريل والانبياء عليهم السلام يركبونها - خطوتها مد البصر، فوق الحمار ودون البغل، (1) راجع ج 16 ص 48 (2) هذه عبارة الكشأف أيضا. وعبارة الخطيب الشربينى في تفسيره: " وقيل إنما قدم الموت على الحياة لان من نصب الموت بين عينيه كان أقوى الدواعى إلى العمل. (*)
[ 207 ]
لا تمر بشئ يجد ريحها إلا حيي، ولا تطأ على شئ إلا حيي. وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي. (1) حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس. والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي. قلت: وفي التنزيل " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل (2) بكم "، [ السجدة: 11 ]، " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة " (3) [ الانفال: 50 ] ثم " توفته رسلنا " (4) [ الانعام: 61 ]، ثم قال: " الله يتوفى الانفس حين موتها " (5) [ الز مر: 42 ]. فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على ا لحقيقة، وإنما يمثل الموت بالكبش في الآخرة ويذبح على الصراط، حسب ما ورد به الخبر الصحيح. وما ذكر عن ابن عباس يحتاج إلى خبر صحيح يقطع العذر. والله أعلم. وعن مقاتل أيضا: خلق الموت، يعني النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة، يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا. قلت: وهذا قول حسن، يدل عليه قوله تعالى " ليبلوكم أيكم احسن عملا " وتقدم الكلام فيه في سورة " الكهف ". (6) وقال السدي في قوله تعالى: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي أكثر كم للموت ذكرا وأحسن استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا. وقال ابن عمر: تلا النبي صلي الله عليه وسلم " تبارك الذي بيده الملك - حتى بلغ - أيكم أحسن عملا " فقال: (أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله). وقيل: معنى " ليبلوكم " ليعاملكم معا ملة المختبر، أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره. وقيل: خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء. فاللام في " ليبلوكم " تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت، ذكره الزجاج. وقال الفراء والزجاج أيضا: لم تقع البلوى على " أي " لان فيما بين البلوى و " أي " إضمار فعل، كما تقول: بلوتكم لانظر أيكم أطوع. ومثله قوله تعالى: " سلهم أيهم بذلك زعيم " (7) [ القلم: 40 ] أي سلهم ثم انظر أيهم. ف " أيكم " رفع بالابتداء و " أحسن " خبره. والمعنى: ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا. (وهو العزيز) في أنتقامه ممن عصاه. (الغفور) لمن تاب. (1) راجع ج 11 ص 239 (2) راجع ج 14 ص 93 (3) راجع ج 8 ص 28 (4) راجع ج 7 ص 7 (5) راجع ج 15 ص 260 (6) راجع ج 10 ص 395 (7) راجع ص 247 من هذا الجزء. (*)
[ 208 ]
قوله تعالى: الذى خلق سبع سموت طباقا ما ترى في فخلق الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور 3 قوله تعالى: (الذى خلق سبع سموات طباقا) أي بعضها فوق بعض. والملتزق منها أطرافها، كذا روي عن ابن عباس. و " طباقا " نعت ل " سبع " فهو وصف بالمصدر. وقيل: مصدر بمعنى المطابقة، أي خلق سبع سموات وطبقها تطبيقا أو مطابقة. أو على طوبقت طباقا. وقال سيبويه: نصب " طباقا " لانه مفعول ثان. قلت: فيكون " خلق " بمعنى جعل وصير. وطباق جمع طبق، مثل جمل وجمال. وقيل: جمع طبقة. وقال أبان بن تغلب: سمعت بعض الاعراب يذم رجلا فقال: شره طباق، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن سبع سموات طباق، بالخفض على النعت لسموات. ونظيره " وسبع سنبلات خضر " (1) [ يوسف: 46 ]. (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) قراءة حمزة والكسائي " من تفوت " بغير ألف مشددة. وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. الباقون " من تفاوت " بألف. وهما لغتان مثل التعاهد والتعهد، والتحمل والتحامل، والتظهر والتظاهر، وتصاغر وتصغر، وتضاعف وتضعف، وتباعد وتبعد، كله بمعنى. وأختار أبو عبيد " من تفوت " واحتج بحديث عبد الرحمن بن أبي بكر: " أمثلي يتفوت عليه في بناته " ! (2) النحاس: وهذا أمر مردود على أبي عبيد، لان يتفوت يفتات: بهم " وتفاوت " في الآية أشبه. كما يقال تباين يقال: تفاوت الامر إذا تباين وتباعد أي فات بعضها بعضا. ألا ترى أن قبله قوله تعالى: " الذي خلق سبع سموات طباقا ". والمعنى: ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين - بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها - وإن أختلفت صوره وصفاته. وقيل: المراد بذلك السموات خاصة، أي ما ترى في خلق السموات من عيب. وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شئ شيئا فيقع الخلل لقلة استوائها، (1) راجع ج 9 ص 201 (2) أي يفعل في شأنين شئ بغير أمره. قال هذا عند ما علم أن أخته السيدة عائشة زوجت ابنه وهو غائب من المنذر بن الزبير. والرواية في الحديث: " أمثل بفتات " بدل " يتفوت ". (*)
[ 209 ]
يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنه: من تفرق. وقال أبو عبيدة: يقال: تفوت الشئ أي فات. ثم أمر بأن ينظروا في خلقه ليعتبروا به فيتفكروا في قدرته: فقال: (فارجع البصر هل ترى من فطور) أي أردد طرفك إلى السماء. ويقال: قلب البصر في السماء. ويقال: اجهد بالنظر إلى السماء. والمعنى متقارب. وإنما قال: " فأرجع بالفاء وليس قبله فعل مذكور، لانه قال: " ما ترى ". والمعنى أنظر ثم أرجع البصر هل ترى من فطور، قاله قتادة. والفطور: الشقوق، عن مجاهد والضحاك. وقال قتادة: من خلل. السدي: من خروق. ابن عباس: من وهن. وأصله من التفطر والانفطار وهو الانشقاق. قال الشاعر: بنى لكم بلا عمد سماء * وزينها فما فيها فطور وقال آخر: شققت القلب ثم ذررت فيه * هواك فليم فالتأم الفطور تغلغل حيث لم يبلغ شراب * ولا سكر ولم يبلغ سرور قوله تعالى: ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير 4 قوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين) " كرتين " في موضع المصدر، لان معناه رجعتين، أي مرة بعد أخرى. وإنما أمر بالنظر مرتين لان الانسان إذا نظر في الشئ مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى. فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها، فذلك قوله تعالى: " ينقلب إليك البصر خاسئا " أي خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك. يقال: خسأت الكلب أي أبعدته وطردته. وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وخسأ بصره خسأ وخسوءا أي سدر، (1) ومنه قوله تعالى: " ينقلب إليك البصر خاسئا ". وقال ابن عباس: (1) لم يكد يبصر. (*)
[ 210 ]
الخاسئ الذي لم ير ما يهوى. (وهو حسير) أي قد بلغ الغاية في الاعياء. فهو بمعنى فاعل، من الحسور الذي هو الاعياء. ويجوز أن يكون مفعولا من حسره بعد الشئ، وهو معنى قول ابن عباس. ومنه قول الشاعر: من مد طرفا إلى ما فوق غايته * ارتد خسان منه الطرف قد حسرا يقال: قد حسربصره يحسر حسورا، أي كل وانقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضا. قال: نظرت إليها بالمحصب من منى * فعاد إلي الطرف وهو حسير وقال آخر يصف ناقة: * فشطرها نظر العينين محسور (1) * نصب " شطرها " على الظرف، أي نحوها. وقال آخر: والخيل شعث ما تزال جيادها * حسرى تغادر بالطريق سخالها وقيل: إنه النادم. ومنه قول الشاعر: ما أنا اليوم على شئ خلا * يا بنة القين تولى بحسر المراد ب " كرتين " ها هنا التكثير. والدليل على ذلك: " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " وذلك دليل على كثرة النظر. قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصبيح وجعلنها رجوما للشيطين وأعتدنا لهم عذاب السعير 5 وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير 6 قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) جمع مصباح وهو السراج. وتسمى الكواكب مصابيح لاضاءتها. (وجعلناها رجوما) أي جعلنا شهبها، فحذف المضاف. (1) هذا عجز بيت لقيس بن خويلد الهذلى. وصدره: * إن العسير بها داه مخامرها * والعسير: الناقة التى لم ترض (لم تذلل). (*)
[ 211 ]
دليله " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " (1) [ الصافات: 10 ]. وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها. وقيل: إن الضمير راجع إلى المصابيح على أن الرجم من أنفس الكواكب، ولا يسقط الكوكب نفسه إنما ينفصل منه شئ يرجم به من غير أن ينقص ضوءه ولا صورته. قاله أبو علي جوابا لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم لا تبقى. قال المهدوي: وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكواكب. والتقدير الاول على أن يكون الاستراق من الهوى الذي هو دون موضع الكواكب. القشيري: وأمثل من قول أبي علي أن نقول: هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين. والرجوم جمع رجم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به. قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر والاوقات. فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى وظلم. وقال محمد بن كعب: والله ما لاحد من أهل الارض في السماء نجم، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا (2) ويتخذون النجوم علة. (وأعتدنا لهم عذاب السعير) أي أعتدنا للشياطين أشد الحريق، يقال: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل. (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير). قوله تعالى: إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور 7 قوله تعالى: (إذا ألقوا فيها) يعني الكفار. (سمعوا لها شهيقا) أي صوتا. قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها، تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وقيل: الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار قاله عطاء. والشهيق في الصدر، والزفير في الحلق. وقد مضى في سورة " هود ". (3) (وهى تفور) أي تغلي، ومنه قول حسان: تركتم قدركم لا شئ فيها * وقدر القوم حامية تفور (1) راجع ج 15 ص 66 (2) كلمة " سبيلا " ساقطة من ح، ز، س، ل، ه. (3) راجع ج 9 ص 98 (*)
[ 212 ]
قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير. وقال ابن عباس: تغلي بهم على المرجل، وهذا من شدة لهب النار من شدة الغضب، كما تقول فلان يفور غيظا. قوله تعالى: تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في ضلل كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحب السعير (10) فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحب السعير (11) قوله تعالى: (تكاد تميز من الغيظ) يعني تتقطع وينفصل بعضها من بعض، قاله سعيد ابن جبير. وقال ابن عباس والضحاك وابن زيد: تتفرق. " من الغيظ " من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى. وقيل: " من الغيظ " من الغليان. وأصل " تميز " تتميز. (كلما ألقى فيها فوج) أي جماعة من الكفار. (سألهم خزنتها) على جهة التوبيخ والتقريع (ألم يأتكم نذير) أي رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم حتى تحذروا. (قالوا بلى قد جاءنا نذير) أنذرنا وخوفنا. (فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ) أي على ألسنتكم. (إن أنتم) يا معشر الرسل. (إلا في ضلال كبير) اعترفوا بتكذيب الرسل، ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا وهم في النار: (لو كنا نسمع) من النذر - يعنى الرسل - ما جاءوا به (أو نقعل) عنهم. قال ابن عباس: لو كنا نسمع الهدى أو نعقله، أو لو كنا نسمع سماع من يعي ويفكر، أو نعقل عقل من يميز وينظر. ودل هذا على أن الكافر لم يعط من العقل شيئا. وقد مضى في " الطور " (1) بيانه والحمد لله. (ما كنا في اصحاب السعير) يعني ما كنا من أهل النار. وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: " لقد ندم الفاجر يوم القيامة قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا (1) راجع ج 17 ص 73 (*)
[ 213 ]
في أصحاب السعير فقال الله تعالى فاعترفوا بذنبهم " أي بتكذيبهم الرسل. والذنب ها هنا بمعنى الجمع، لان فيه معنى الفعل. يقال: خرج عطاء الناس أي أعطيتهم. (فسحقا لاصحاب السعير) أي فبعدا لهم من رحمة الله. وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال له السحق. وقرأ الكسائي وأبو جعفر " فسحقا " بضم الحاء، ورويت عن علي. الباقون بإسكانها، وهما لغتان مثل السحت والرعب. الزجاج: وهو منصوب على المصدر، أي أسحقهم الله سحقا، أي باعدهم بعدا. قال أمرؤ القيس: يجول بأطراف البلاد مغربا * وتسحقه ريح الصبا كل مسحق وقال أبو علي: القياس إسحاقا، فجاء المصدر على الحذف، كما قيل: * وإن أهلك فذلك كان قدري * أي تقديري. وقيل: إن قوله تعالى: " إن أنتم إلا في ضلال كبير " من قول خزنة جهنم لاهلها. قوله تعالى: إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير 12 قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب) نظيره: " من خشي الرحمن بالغيب " [ ق: 33 ] وقد مضى الكلام (1) فيه. أي يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو بالغيب، وهو عذاب يوم القيامة. (لهم مغفرة) لذنوبهم (وأجر كبير) وهو الجنة. قوله تعالى: وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور 13 ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير 14 قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به) اللفظ لفظ الامر والمراد به الخبر، يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلي الله عليه وسلم أو جهرتم به ف " إنه عليم بذات الصدور " (1) راجع ج 17 ص 20 (*)
[ 214 ]
يعني بما في القلوب من الخير والشر. ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلي الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد، فنزلت: " وأسروا قولكم أو أجهروا به ". يعني: أسروا قولكم في أمر محمد صلي الله عليه وسلم. وقيل في سائر الاقوال. أو أجهروا به، أعلنوه. (إنه عليم بذات الصدور) ذات الصدور ما فيها، كما يسمى ولد المرأة وهو جنين " ذا بطنها ". ثم قال: (ألا يعلم من خلق) يعني ألا يعلم السر من خلق السر. يقول أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت " من " اسما للخالق جل وعز، ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه. وإن شئت جعلته اسما للمخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق. ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه. قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل: أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق ؟ فنودي من جانب الغيضة (1) بصوت عظيم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم، منها " العليم " ومعناه تعميم جميع المعلومات. ومنها " الخبير " ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون. ومنها " الحكيم " ويختص بأن يعلم دقائق الاوصاف. ومنها " الشهيد " ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ومعناه ألا يغيب عنه شئ. ومنها " الحافظ " ويختص بأنه لا ينسى. ومنها " المحصي " ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم، مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الاوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة. وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق ! وقد قال: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ". قوله تعالى: هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور 15 قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الارض ذلولا) أي سهلة تستقرون عليها. والذلول المنقاد الذي يذل لك والمصدر الذل وهو اللين والانقياد. أي لم يجعل الارض بحيث يمتنع (1) الغيضة: الشجر الكثير الملتف. (*)
[ 215 ]
المشي فيها بالحزونة والغلظة. وقيل: أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها، ولو كانت تتكفأ متمائلة لما كانت منقادة لنا. وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والانهار وحفر الآبار. (فامشوا في مناكبها) هو أمر إباحة، وفيه إظهار الامتنان. وقيل: هو خبر بلفظ الامر، أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها. وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب: " في مناكبها " في جبالها. وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتني ما مناكب الارض فأنت حرة ؟ فقالت: مناكبها جبالها. فصارت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. مجاهد: في أطرافها. وعنه أيضا: في طرقها وفجاجها. وقاله السدي والحسن. وقال الكلبي: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه. وأصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل. والريح النكباء. وتنكب فلان عن فلان. يقول: أمشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع. وحكى قتادة عن أبي الجلد: أن الارض أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان أثنا عشر ألفا، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف. (وكلوا من رزقه) أي مما أحله لكم، قاله الحسن. وقيل: مما أتيته لكم. (وإليه النشور) المرجع. وقيل: معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والارض ذلولا قادر على أن ينشركم. قوله تعالى: ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض فإذا هي تمور 16 قال ابن عباس: أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الاله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الارض. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. (1) (1) كلمة " العذاب " ساقطة من ح، س، ه. (*)
[ 216 ]
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الارض كما خسفها بقارون. (فإذا هي تمور) أي تذهب وتجئ. والمور: الاضطراب بالذهاب والمجئ. قال الشاعر: رمين فأقصدن القلوب ولن ترى * دما مائرا إلا جرى في الحيازم جمع حيزوم وهو وسط الصدر. وإذا خسف بإنسان دارت به الارض فهو المور. وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء، كقوله: " فسيحوا في الارض " (1) [ التوبة: 2 ] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير. وقيل: معناه أمنتم من على السماء، كقوله تعالى: " ولا صلبنكم في جذوع النخل " (2) [ طه: 71 ] أي عليها. ومعناه أنه مديرها ومالكها، كما يقال: فلان على العراق والحجاز، أي وإليها وأميرها. والاخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند. والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالاماكن والجهات والحدود لانها صفات الاجسام. وإنما ترفع الايدي بالدعاء إلى السماء لان السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولانه خلق الامكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان. وقرأ قنبل عن ابن كثير " النشور وامنتم " بقلب الهمزة الاولى واوا وتخفيف الثانية. وقرأ الكوفيون والبصريون وأهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين، وخفف الباقون. وقد تقدم جميعه. قوله تعالى: أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير 17 (1) راجع ج 8 ص 64 (2) راجع ج 11 ص 224 (*)
[ 217 ]
قوله تعالى: (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل. وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء. وقيل: سحاب فيه حجارة. (فستعلمون كيف نذير) أي إنذاري. وقيل: النذير بمعنى المنذر. يعني محمدا صلي الله عليه وسلم فستعلمون صدقه وعاقبة تكذيبكم. قوله تعالى: ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير 18 قوله تعالى: (ولقد كذب الذين من قبلهم) يعني كفار الامم، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وأصحاب الرس وقوم فرعون. (فكيف كان نكير) أي إنكاري وقد تقدم. (1) وأثبت ورش الياء في " نذيري، ونكيري " في الوصل. وأثبتها يعقوب في الحالين. وحذف الباقون اتباعا للمصحف. قوله تعالى: أو لم يروا إلى الطير فوقهم صفت ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير 19 قوله تعالى: " أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات " أي كما ذلل الارض للآدمي ذلل الهواء للطيور. و " صافات " أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، لانهن إذا بسطنها صففن قوائمها صفا. " ويقبضن " أي يضربن بها جنوبهن. قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبه: قابض، لانه يقبضهما. قال أبو خراش: يبادر جنح الليل فهو موائل (2) * يحث الجناح بالتبسط والقبض (1) راجع ج 12 ص 73 (2) كذا في نسخ الاصل. وواءل الطائر: لجأ وخلص. والى المكان: بادر. والذى في ديوان أشعار الهذلبين وكتب اللغة: " فهو مهابذ " والمهابذة: الاسراع. (*)
[ 218 ]
وقيل: ويقبض أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران. وهو معطوف على " صافات " عطف المضارع على أسم الفاعل، كما عطف أسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: بات يعشيها بعضب باتر * يقصد في أسوقها وجائر (1) " ما يمسكهن " أي ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عزوجل. " إنه بكل شئ بصير ". قوله تعالى: أمن هذا الذى هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكفرون إلا في غرور (20) قوله تعالى: (أمن هذا الذى هو جند لكم) قال ابن عباس: حزب ومنعة لكم. (ينصركم من دون الرحمن) فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد، ولهذا قال: " هذا الذي هو جند لكم " وهو استفهام إنكار، أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله " من دون الرحمن " أي من سوى الرحمن. (إن الكافرون إلا في غرور) من الشياطين، تغرهم بأن لا عذاب ولا حساب. قوله تعالى: أمن هذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور (21) قوله تعالى: (أمن هذا الذى يرزقكم) أي يعطيكم منافع الدنيا. وقيل المطر من آلهتكم. (إن أمسك) يعني الله تعالى رزقه. (بل لجوا) أي تمادوا وأصروا. (في عتو) طغيان (ونفور) عن الحق. (1) لم يعلم قائله، وهو من الرجز المسدس. و " يعشيها " أي يطعمها العشاء. ويروى: " يغشيها " بالغين المعجمة من الغشاء كالغطاء، أي يشملها ويعمها. وضمير المؤنث للابل، وهو في وصف كريم بادر بعقر إبله لضيوفه. والعضب: السيف. و " يقصد ": من القصد وهو ضد الجور. و " أسوقها ": جمع ساق، وهو ما بين الركبة إلى القدم. و " جائر " من جار إذا ظلم. أي يجور. (راجع خزانة الادب في الشاهد السادس والخمسين بعد الثلثمائة). (*)
[ 219 ]
قوله تعالى: أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صرط مستقيم 22 قوله تعالى: (أفمن يمشى مكبا على وجهه) ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر (1) " مكبا " أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه. كمن يمشي سويا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله. قال ابن عباس: هذا في الدنيا، ويجوز أن يريد به الاعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف، (2) فلا يزال ينكب على وجهه. وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدى له. وقال قتادة: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه. وقال ابن عباس والكلبي: عنى بالذي يمشى مكبا على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقيل أبو بكر. وقيل حمزة. وقيل عمار بن ياسر، قاله عكرمة. وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن، أي أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل. أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر للطريق وهو " على صراط مستقيم " وهو الاسلام. ويقال: أكب الرجل على وجهه، فيما لا يتعدى بالالف. فإذا تعدى قيل: كبه الله لوجهه، بغير ألف. قوله تعالى: قول هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والابصر والافئدة قليلا ما تشكرون 23 قوله تعالى: (قل هو الذى أنشأكم) أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم بأن الله خلقهم. (وجعل لكم السمع والابصار والافئدة) يعني القلوب (قليلا ما تشكرون) أي لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى. تقول: قلما أفعل كذا، أي لا أفعله. قوله تعالى: قل هو الذى ذرأكم في الارض وإليه تحشرون 24 ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين 25 (1) مابين المربعين ساقط من س، ه. (2) الاعتساف: ركوب المفازة وقطعها بغير قصد ولا هداية، ولا توخى قصد ولا طريق مسلوك. (*)
[ 220 ]
قوله تعالى: (قل هو الذى ذرأكم في الارض) أي خلقكم في الارض، قاله ابن عباس. وقيل: نشركم فيها وفرقكم على ظهرها، قاله ابن شجرة. (وإليه تحشرون) حتى يجازي كلا بعمله. (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) أي متى يوم القيامة ! ومتى هذا العذاب الذي تعدوننا به وهذا استهزاء منهم. وقد تقدم. (1) قوله تعالى: قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين 26 قوله تعالى: (قل إنما العلم عند الله) أي قل لهم يا محمد علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره. نظيره: " قل إنما علمها عند ربي " [ الاعراف: 187 ] الآية. (2) (وإنما أنا نذير مبين) أي مخوف و معلم لكم. قوله تعالى: فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذى كنتم به تدعون 27 قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة) مصدر بمعنى مزدلفا أي قريبا، قاله مجاهد. الحسن عيانا. وأكثر المفسرين على أن المعنى: فلما رأوه يعني العذاب، وهو عذاب الآخرة. وقال مجاهد: يعني عذاب بدر. وقيل: أي رأوا ما وعدوا من الحشر قريبا منهم. ودل عليه " تحشرون ". وقال ابن عباس: لما رأوا عملهم السيئ قريبا. (سيئت وجوه الذين كفروا) أي فعل بها السوء. وقال الزجاج: تبين فيها السوء أي ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم، كقوله تعالى: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " (3) [ آل عمران: 106 ]. وقرأ نافع وابن محيصن وابن عامر والكسائي " سئت " بإشمام الضم. وكسر الباقون بغير إشمام طلبا للخفة. ومن ضم لاحظ الاصل. (وقيل هذا الذى كنتم به تدعون) قال الفراء: " تدعون " تفتعلون من الدعاء وهو قول أكثر العلماء أي تتمنون وتسألون. (1) راجع ج 8 ص 349 (2) راجع ج 7 ص 335 (3) راجع ج 4 ص 166 (*)
[ 221 ]
وقال ابن عباس: تكذبون، وتأويله: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الاباطيل والاحاديث، قاله الزجاج. وقراءة العامة " تدعون " بالتشديد، وتأويله ما ذكرناه. وقرأ قتادة وابن أبي إسحاق والضحاك ويعقوب " تدعون " مخففة. قال قتادة: هو قولهم " ربنا عجل لنا قطنا (1) " [ ص: 16 ]. وقال الضحاك: هو قولهم " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " (2) [ الانفال: 32 ] الآية. وقال أبو العباس: " تدعون " تستعجلون، يقال: دعوت بكذا إذا طلبته، وادعيت أفتعلت منه. النحاس: " تدعون وتدعون " بمعنى واحد، كما يقال: قدر وأقتدر، وعدى واعتدى، إلا أن في " أفتعل " معنى شئ بعد شئ، و " فعل " يقع على القليل والكثير. قوله تعالى: قل أرءيتم إن أهلكني الله ومن معى أو رحمنا فمن يجير الكفرين من عذاب أليم 28 قوله تعالى: " قل أرأيتم إن أهلكني الله " أي (3) قل لهم يا محمد - يريد مشركي مكة، وكانوا يتمنون موت محمد صلي الله عليه وسلم، كما قال تعالى: " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " (4) [ الطور: 30 ] - أرأيتم إن متنا أو رحمنا فأخرت آجالنا فمن يجيركم من عذاب الله، فلا حاجة بكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة. وأسكن الياء في " أهلكني " ابن محيصن والمسيبي وشيبة والاعمش وحمزة. وفتحها الباقون. وكلهم فتح الياء في " ومن معي " إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها. وفتحها حفص كالجماعة. قوله تعالى: قل هو الرحمن ءامنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلل مبين 29 قوله تعالى: " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون " قرأ الكسائي بالياء على الخبر، ورواه عن علي. الباقون بالتاء على الخطاب. وهو تهديد لهم. ويقال: لم أخر مفعول (1) راجع ج 15 ص 157 (2) راجع ج 7 ص 398 (3) كلمة " أي " ساقطة من ح، س. (4) راجع ج 17 ص 71 (*)
[ 222 ]
" آمنا " وقدم مفعول " توكلنا " فيقال: لوقوع " آمنا " تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم. كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم. ثم قال " وعليه توكلنا " خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم، قاله الزمخشري. قوله تعالى: قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين 30 قوله تعالى: (قل أرايتم) يا معشر قريش (إن أصبح مأوكم غورا) أي غائرا ذاهبا في الارض لا تناله الدلاء. وكان ماؤهم من بئرين: بئر زمزم وبئر ميمون. (فمن يأتيكم بماء معين) أي جار، قاله قتادة والضحاك. فلا بد لهم من أن يقولوا لا يأتينا به إلا الله، فقل لهم لم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم. يقال: غار الماء يغور غورا، أي نضب. والغور: الغائر، وصف بالمصدر للمبالغة، كما تقول: رجل عدل ورضا. وقد مضى في سورة " الكهف " (1) ومضى القول في المعنى في سورة " المؤمنون " (2) والحمد لله. وعن ابن عباس: " بماء معين " أي ظاهر تراه العيون، فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء أي كثر، فهو على هذا فعيل. وعن ابن عباس أيضا: أن المعنى فمن يأتيكم بماء عذب. والله أعلم. (3) تفسير سورة " ن القلم " مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: من أولها إلى قوله تعالى: " سنسمه على الخرطوم " [ القلم: 16 ] (4) مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: " أكبر لو كانوا يعلمون " (5) [ القلم: 33 ] مدني. ومن بعد ذلك إلى قوله: " يكتبون " (6) [ القلم: 47 ] مكي. ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: " من الصالحين " (7) [ القلم: 50 ] مدني، وما بقي مكي. قاله الماوردى (1) راجع ج 10 ص 409 (2) راجع ج 2 ص 112 (3) في ه: " ختمت السورة والحمد الله رب العالمين ". (4) آية 16 (5) آية 33 (6) آية 47 (7) آية 50 (*)
[ 223 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ن والقلم وما يسطرون 1 ما أنت بنعمة ربك بمجنون 2 وإن لك لاجرا غير ممنون 3 قوله تعالى: " ن والقلم " أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب. والباقون بالاظهار. وقرأ عيسى ابن عمر بفتحها، كأنه أضمر فعلا. وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف، القسم. وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء. واختلف في تأويله، فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (ن لوح من نور). وروى ثابت البناني أن " ن " الدواة. وقاله الحسن وقتادة. وروى الوليد بن مسلم قال: حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قول تعالى: " ن والقلم " ثم قال له اكتب قال: وما أكتب قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة - قال - ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبار ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لاكملنك فيمن أحببت ولانقصنك فيمن أبغضت) قال: ثم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته). وعن مجاهد قال: " ن " الحوت الذي تحت الارض السابعة. قال: " والقلم " الذي كتب به الذكر. وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الحراساني والسدي والكلبي: إن النون هو الحوت الذي عليه الارضون. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء، ثم خلق النون فبسط الارض
[ 224 ]
على ظهره، فمادت الارض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الارض. ثم قرأ ابن عباس " ن والقلم الآية. وقال الكلبي ومقاتل: اسمه البهموت. (1) قال الراجز: مالي أراكم كلكم سكوتا * والله ربي خلق البهموتا وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثا. وقال كعب: لوثوثا. وقال: بلهموثا. (2) وقال كعب: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الارضون فوسوس في قلبه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والارضين وغيرها، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع، فهم ليوثا أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه، فضج الحوت إلى الله عزوجل منها فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشئ من ذلك عادت كما كانت. وقال الضحاك عن ابن عباس: إن " ن " آخر حروف من حروف الرحمن. قال: الر، وحم، ون، الرحمن تعالى متقطعة. وقال ابن زيد هو قسم أقسم تعالى به. وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة. وقيل: أسم السورة. وقال عطاء وأبو العالية: هو أفتتاح أسمه نصير ونور وناصر. وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين، وهو حق. بيانه قوله تعالى: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (3) [ الروم: 47 ] وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون. وقيل: هو المعروف من حروف المعجم، لانه لو كان غير ذلك لكان معربا، وهو أختيار القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره. قال: لان " ن " حرف لم يعرب، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. وعلى هذا قيل: هو أسم السورة، أي هذه السورة " ن ". ثم قال: " والقلم " أقسم بالقلم لما فيه من البيان (1) ضبطه الالوسى في تفسيره فقال: " اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ". (2) اضطربت الاصول والمراجع التى بين أيدينا في هذه الاسماء. وقد خرج المؤلف رحمه الله عما اشترطه في مقدما كتابه (ص 3) حيث قال: "... وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين... " الخ. (3) راجع ج 14 ص 43 (*)
[ 225 ]
كاللسان، وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الارض، ومنه قول أبي الفتح البستي: إذا أقسم الابطال يوما بسيفهم * وعدوه مما يكسب المجد والكرم كفى قلم الكتاب عزا ورفعة * مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة، ما ذكرناه أعلاها. وقال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والارض. ويقال. خلق الله القلم ثم نظر إليه فأنشق نصفين، فقال: أجر، فقال: يا رب بم أجري ؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ. وقال الوليد بن عبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني، اتق الله، وأعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب فقال يا رب وما أكتب فقال أكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الابد) وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن، فكتب فيما كتب " تبت يدا أبي لهب " [ المسد: 1 ]. وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده. قال غيره: فخلق الله القلم الاول فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الارض، على ما يأتي بيانه في سورة " اقرأ باسم ربك " (1) [ العلق: 1 ]. قوله تعالى: (وما يسطرون) أي وما يكتبون. يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم، قاله ابن عباس: وقيل: وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به. وقال ابن عباس: ومعنى " وما يسطرون " وما يعلمون. و " ما " موصولة أو مصدرية، أي ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة، على الخلاف. (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) هذا جواب القسم وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلي الله عليه وسلم إنه مجنون، به شيطان. (1) راجع ج 20 ص 117. (*)
[ 226 ]
وهو قولهم: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (1) " [ الحجر: 6 ] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " أي برحمة ربك. والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانيا - أن النعمة ها هنا قسم، وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون، لان الواو والباء من حروف القسم. وقيل هو كما تقول: ما أنت بمجنون، والحمد لله. وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي والحمد لله. ومنه قول لبيد: وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي * وفارقني جار بأربد نافع أي وهو أربد. (2) وقال النابغة: لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم * طفحت عليك بناتق مذكار أي هو ناتق. والباء في " بنعمة ربك " متعلقة " بمجنون " منفيا، كما يتعلق بغافل مثبتا. كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل. ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك. (وإن لك لاجرا) أي ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوة. (غير ممنون) أي غير مقطوع ولا منقوص، يقال: مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. قال الشاعر: * غبسا كواسب لا يمن طعامها (3) * أي لا يقطع. وقال مجاهد: " غير ممنون " محسوب. الحسن: " غير ممنون " غير مكدر بالمن. الضحاك: أجرا بغير عمل. وقيل: غير مقدر وهو التفضل، لان الجزاء مقدر والتفضل غير مقدر، ذكره الماوردي، وهو معنى قول مجاهد. (1) راجع ج 10 ص 4 (2) الربدة (بضم فسكون): الغيره. ورواية الديوان في هذا البيت: وقد كنت في أكناف جار مضنة * ففارقني..... الخ. و " جار مضنة ": جار يضن به. (3) هذا عجز للبيد. واختلف في صدره. راجع مادة (متن) في اللسان. والغبسة: لون الرماد. (*)
[ 227 ]
قوله تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم 4 فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: " وإنك لعلى خلق عظيم " قال ابن عباس ومجاهد على خلق، على دين عظيم من الاديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة: أن خلقه كان القرآن. وقال علي رضي الله عنه وعطية: هو أدب القرآن. وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه. وقيل: أي إنك على طبع كريم. الماوردي: وهو الظاهر. وحقيقة الخلق في اللغة: هو ما يأخذ به الانسان نفسه من الادب يسمى خلقا، لانه يصير كالخلقة فيه. وأما ما طبع عليه من الادب فهو الخيم (بالكسر): السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه. وخيم: اسم جبل. فيكون الخلق الطبع المتكلف. والخيم الطبع الغريزي. وقد أوضح الاعشى ذلك في شعره فقال: وإذا ذو الفضول ضن على المو * لى وعادت لخيمها الاخلاق أي رجعت الاخلاق إلى طبائعها. قلت: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الاقوال. وسئلت أيضا عن خلقه عليه السلام، فقرأت " قد أفلح المؤمنون " (1) [ المؤمنون: 1 ] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك قال الله تعالى " وإنك لعلى خلق عظيم ". ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلي الله عليه وسلم منه الحظ الاوفر. وقال الجنيد: سمي خلقه عظيما لانه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الاخلاق فيه، يدل عليه قوله عليه السلام: (إن الله بعثني لاتمم مكارم الاخلاق). وقيل: لانه أمتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " (2) [ الاعراف: 199 ]. وقد روي عنه عليه السلام (1) راجع ج 12 ص 103. (2) راجع ج 7 ص 433. (*)
[ 228 ]
أنه قال: (أدبني ربي تأديبا حسنا إذ قال: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " [ الاعراف: 199 ] فلما قبلت ذلك منه قال: " إنك لعلى خلق عظيم ". الثانية - روى الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). قال حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ما شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذئ). قال: حديث حسن صحيح. وعنه قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: (ما من شئ يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم). قال: حديث غريب من هذا الوجه. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال: (تقوى الله وحسن الخلق). وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ؟ فقال: (الفم والفرج) قال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبد الله ابن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الاذى. وعن جابر: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا - قال - وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون). قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون (1) والمتشدقون، فما المتفيهقون ؟ قال: (المتكبرون). قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (2) قوله تعالى: فستبصر ويبصرون 5 بأييكم المفتون 6 إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين 7 (1) المتشدق: الذى يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم. (2) زيادة عن صحيح الترمذي. (*)
[ 229 ]
قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون) قال ابن عباس: معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. وقيل: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. (بأيكم المفتون) الباء زائدة، أي فستبصر ويبصرون أيكم المفتون. أي الذي فتن بالجنون، كقوله تعالى: " تنبت بالدهن " (1) [ المؤمنون: 20 ] و " يشرب بها عباد الله " (2) [ الانسان: 6 ]. وهذا قول قتادة وأبي عبيد والاخفش. وقا الراجز: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج * نضرب بالسيف ونرجو بالفرج (3) وقيل: الباء ليست بزائدة، والمعنى: " بأيكم المفتون " أي الفتنة. وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه الفتون، كما قالوا: ما لفلان مجلود ولا معقول، أي عقل ولا جلادة. وقاله الحسن والضحاك وابن عباس. وقال الراعي: حتى إذا لم يتركوا لعظامه * لحما ولا لفؤاده معقولا أي عقلا. وقيل في الكلام تقدير حذف مضاف، والمعنى: بأيكم فتنة المفتون. وقال الفراء: الباء بمعنى في، أي فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون، أبا لفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الاخرى. والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: المفتون المعذب. من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته. ومنه قوله تعالى: " يوم هم على النار يفتنون " (4) [ الذاريات: 13 ] أي يعذبون. ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي جهل. وقيل: المفتون هو الشيطان، لانه مفتون في دينه. وكانوا يقولون: إن به شيطانا، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى: فسيعلمون غدا بأيهم المجنون، أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل. (1) راجع ج 12 ص 114 (2) راجع ج 19 ص 124 (3) الفلج (بفتح الفاء واللام): مدينة بأرض اليمامة لبنى جعدة. ويجوز فيه: * نحن بنى... * بالنصب على الاختصاص. (راجع الشاهد التاسع والثمانين بعد السبعماثة في خزانة الادب). (4) راجع ج 17 ص 31 (*)
[ 230 ]
(إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) أي إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه. (وهو أعلم بالمهتدين) أي الذين هم على الهدى فيجازي كلا غدا بعمله. قوله تعالى: فلا تطع المكذبين 8 نهاه عن (1) ممايلة المشركين، وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن مما يلتهم كفر. وقال تعالى: " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " (2) [ الاسراء: 74 ]. وقيل: أي فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث. نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه. قوله تعالى: ودوا لو تدهن فيدهنون 9 قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس أيضا: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والادهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين، قاله الفراء. وقال مجاهد: المعنى ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيما لئونك. وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الامر فيذهبون معك. الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضا: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون، قاله أبو جعفر. وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم، قاله القتبي. وعنه: طلبوا منه أن يعبد ألهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه آثنا عشر قولا. ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة والمعنى. أمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون. (1) مايلة ممايلة: ما لاه. (2) راجع ج 10 ص 300
[ 231 ]
قلت: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الادهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو ممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول. قال الشاعر: لبعض الغشم أحزم في أمور * تنوبك من مداهنة العده وقال المفضل: النفاق وترك المناصحة. فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الاول غير مذمومة، وكل شئ منها لم يكن. قال المبرد: يقال أدهن في دينه وداهن في أمره، أي خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت، قاله الجوهري. وقال: " فيدهنون " فساقه على العطف، ولو جاء به جواب النهي لقال فيدهنوا. وإنما أراد: إن تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك، عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير. قوله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين 10 هماز مشآء بنميم 11 مناع للخير معتد أثيم 12 عتل بعد ذلك زنيم 13 يعني الاخنس بن شريق، في قول الشعبي والسدي وابن إسحاق. وقيل: الاسود ابن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الاسود، قاله مجاهد. وقيل: الوليد بن المغيرة، عرض على النبي صلي الله عليه وسلم مالا وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه، قاله مقاتل. وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. والحلاف: الكثير الحلف. والمهين: الضعيف القلب، عن مجاهد. ابن عباس: الكذاب. والكذاب مهين. وقيل: المكثار في الشر، قاله الحسن وقتادة. وقال الكلبي: المهين الفاجر العاجز. وقيل: معناه الحقير عند الله. وقال ابن شجرة: إنه الذليل. الرماني: المهين الوضيع لاكثاره من القبيح. وهو فعيل من المهانة بمعنى القلة. وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. أو هو فعيل بمعنى مفعل، والمعنى مهان. (هماز) قال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم. واللماز باللسان. وقال
[ 232 ]
الحسن: هو الذي يهمز ناحية في المجلس، كقول تعالى: " همزة ". [ الهمزة: 1 ]. وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم. واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، قاله أبو العالية وعطاء ابن أبي رباح والحسن أيضا. وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة الذي يغتاب بالغيبة. واللمزة الذي يغتاب في الوجه. وقال مرة: هما سواء. وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. ونحوه عن ابن عباس وقتادة. قال الشاعر: تدلي بود إذا لاقيتني كذبا * وإن أغب فأنت الهامز اللمزة (مشاء بنميم) أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم. يقال: نم ينم نما ونميما ونميمة، أي يمشي ويسعى بالفساد. وفي صحيح مسلم عن حذيفة أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة نمام). وقال الشاعر: ومولى كبيت النمل لا خير عنده * لمولاه إلا سعيه بنميم قال الفراء: هما لغتان. وقيل: النميم جمع نميمة. (مناع للخير) أي للمال أن ينفق في وجوهه. وقال ابن عباس: يمنع عن الاسلام ولده وعشيرته. وقال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشئ أبدا. (معتد) أي على الناس في الظلم، متجاوز للحد، صاحب باطل. (أثيم) أي ذي إثم، ومعناه أثوم، (1) فهو فعيل بمعنى فعول. (عتل بعد ذلك زنيم) العتل الجافي الشديد في كفره. وقال الكلبي والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: إنه الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب. مأخوذ من العتل وهو الجر، ومنه قوله تعالى: " خذوه فاعتلوه " (2) [ الدخان: 47 ]. وفي الصحاح: وعتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل (بالكسر). وقال يصف (3) فرسا: * نفرعه فرعا ولسنا نعتله * قال ابن السكيت: عتله وعتنه، باللام والنون جميعا. والعتل الغليظ الجافي. والعتل أيضا: (1) في الاصول: " مأثوم ". (2) راجع ج 16 ص 15 (3) هو أبو النجم الراجز. وفرع فرسه فرعا: كبحه وكفه. (*)
[ 233 ]
الرمح الغليظ. ورجل عتل (بالكسر) بين العتل، أي سريع إلى الشر. ويقال: لا أنعتل معك، أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير: العتل الاكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا. وقال علي بن أبي طالب والحسن: العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر: هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر: بعتل من الرجال زنيم * غير ذي نجدة وغير كريم وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة - قالوا بلى قال - كل ضعيف متضعف (1) لو أقسم على الله لابره. ألا أخبركم بأهل النار - قالوا بلى قال - كل عتل جواظ مستكبر). في رواية عنه (كل جواظ زنيم متكبر). الجواظ: قيل هو الجموع المنوع. وقيل الكثير اللحم المختال في مشيته. وذكر الماوردي عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، ورواه ابن مسعود أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم). فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (الجواظ الذي جمع ومنع. والجعظري الغليظ. والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف المصحح الاكول الشروب الواجد للطعام الظلوم للناس). وذكره الثعلبي عن شداد بن أوس: (لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم) سمعتهن من النبي صلي الله عليه وسلم قلت: وما الجواظ ؟ قال: الجماع المناع. قلت: وما الجعظري ؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: وما العتل الزنيم ؟ قال: الرحيب الجوف الوثير الخلق الاكول الشروب الغشوم الظلوم. قلت: فهذا التفسير من النبي صلي الله عليه وسلم في العتل قد أربى على أقوال المفسرين. ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجواظ أنه الفظ الغليظ. ذكره من حديث حارثه بن وهب (1) روى بكسر العين وفتحها. والمشهور الفتح. ومعناه: يستضعفه الناس ويحنقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا. ورواية الكسر معناها: متواضع متذلل خامل واضع من نفسه. قال القاضى: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للايمان. (*)
[ 234 ]
الخزاعي قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة الجواظ ولا الجعظري) قال: والجواظ الفظ الغليظ. ففيه تفسيران مرفوعان حسب ما ذكرناه أولا. وقد قيل: إنه الجا في القب وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: " عتل بعد ذلك زنيم " قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه ورحب جوفه وأعطاه من الدنيا بعضا فكان للناس ظلوما فذلك العتل الزنيم. وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الارض تقله). والزنيم الملصق بالقوم الدعي، عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر: زنيم تداعاه الرجال زيادة * كما زيد في عرض الاديم الاكارع وعن ابن عباس أيضا: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة. وروى عنه ابن جبير. أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة: هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل: إنه الذي يعرف بالابنة. وهو مروي عن ابن عباس أيضا. وعنه أنه الظلوم. فهذه ستة أقوال. وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام له إصبع زائدة. وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنى الملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد (1) دعيا في قريش ليس من سنخهم، (2) ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده. قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه * بغي الام ذو حسب لئيم وقال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد قلت: وهذا هو القول الاول بعينه. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه الذي لا أصل له، والمعنى واحد. وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده). وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إن أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير). وقالت ميمونة: سمعت النبي (1) هو الوليد بن المغيرة المخزومى. (2) السنخ (بالكسر والخاء المعجمة): الاصل. (*)
[ 235 ]
صلي الله عليه وسلم يقول: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى أو شك أن يعمهم الله بعقاب). وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنى قحط المطر. قلت: أما الحديث الاول والثاني فما أظن لهما سندا يصح، وأما حديث ميمونة وما قاله عكرمة ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلي الله عليه وسلم قالت: خرج النبي صلي الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: (لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعيه الابهام والتي تليها. قالت فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث) خرجه البخاري. وكثرة الخبث ظهور الزنى وأولاد الزنى، كذا فسره العلماء. وقول عكرمة " قحط المطر " تبيين لما يكون به الهلاك. وهذا يحتاج إلى توقيف، وهو أعلم من أين قاله. ومعظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيسا (1) ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحد بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر. ولا يعطي المسكين درهما واحدا فقيل: " مناع للخير ". وفيه نزل: " وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة " (2) [ فصلت: 6 - 7 ]. وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الاخنس بن شريق، لانه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيما. وقال ابن عباس: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة. قوله تعالى: أن كان ذا مال وبنين 14 إذا تتلى عليه ءايتنا قال أسطير الاولين 15 (1) الحيس: الطعام المتخذ من التمر والاقط (الجبن المتخذ من اللين الحامض) والسمن. (2) راجع ج 15 ص 340 (*)
[ 236 ]
قوله تعالى: (أن كان ذا مال وبنين) قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو حيوة والمغيرة والاعرج " آن كان " بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام. وقرأ المفضل وأبو بكر وحمزة " أأن كان " بهمزتين محققتين. وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر، فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين فهو أستفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على " زنيم "، ويبتدئ " أن كان " على معنى ألان كان ذا مال وبنين تطيعه. ويجوز أن يكون التقدير: ألان كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا: أساطير الاولين ! ! ويجوز أن يكون التقدير: ألان كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر. ودل عليه ما تقدم من الكلام فصار كالمذكور بعد الاستفهام. ومن قرأ " أن كان " بغير استفهام فهو مفعول من أجله والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لان كان ذا مال وبنين. ودل على هذا الفعل: " إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين " ولا يعمل في " أن ": " تتلى " ولا " قال " لان ما بعد " إذا " لا يعمل فيما قبلها، لان " إذا " تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. و " قال " جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذا حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط فيصير مقدما مؤخرا في حال. ويجوز أن يكون المعنى لا تطعه لان كان ذايسار وعدد. قال ابن الانباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على " زنيم " لان المعنى لان كان وبأن كان، ف " أن " متعلقة بما قبلها. قال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله: " مشاء بنميم " والتقدير يمشي بنميم لان كان ذا مال وبنين. وأجاز أبو علي أن يتعلق ب " عتل ". وأساطير الاولين: أباطيلهم وترهاتهم وخرافاتهم. (1) وقد تقدم. (2) قوله تعالى: سنسمه على الخرطوم 16 فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " سنسمه " قال ابن عباس: معنى " سنسمه " سنخطمه بالسيف. قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوما إلى أن مات. (1) في الاصول: " وخرار يقهم " بالقاف. (2) راجع ج 6 ص 4 05 (*)
[ 237 ]
وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، يقال: وسمته وسما وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكي. وقد قال تعالى: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " (1) [ آل عمران: 106 ] فهذه علامة ظاهرة. وقال تعالى: " ونحشر المجرمين يومئذ (2) زرقا " [ طه: 102 ] وهذه علامة أخرى ظاهرة. فأفادت هذه الآية علامة ثالثة وهي الوسم على الانف بالنار، وهذا كقوله تعالى: " يعرف المجرمون بسيماهم " (3) [ الرحمن: 41 ] قاله الكلبي وغيره. وقال أبو العالية ومجاهد: " سنسمه على الخرطوم " أي على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه. والخرطوم: الانف من الانسان. ومن السباع: موضع الشفة. وخراطيم القوم: ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لان بعض الشئ يعبر به عن الكل. وقال الطبري: نبين أمره تبيانا واضحا حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل: المعنى سنلحق به عارا وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسم سوء، أي الصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها. قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي * وعلى البعيث (4) جدعت أنف الاخطل أراد به الهجاء. قال: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة. ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحدما بلغه منه، فألحقه به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، كالوسم على الخرطوم. وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار، قاله ابن بحر. واستشهد بقول الاعشى: فدعها وما يغنيك وأعمد لغيرها * بشعرك وأعلب (5) أنف من أنت واسم (1) راجع ج 4 ص 166 (2) راجع ج 11 ص 244 (3) راجع ج 17 ص 175 (4) البعيث: هو خداش بن بشر (ويقال بشير) من بنى مجاشع، كان يهاجى جريرا. (5) عليه يعلبه علبا وعلوبا: أثر فيه ووسمه أو خدشه. (*)
[ 238 ]
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه خراطيم، قال الشاعر: تظل يومك في لهو وفي طرب * وأنت بالليل شراب الخراطيم قال الراجز: (1) * صهباء خرطوما عقارا قرقفا (2) * وقال آخر: أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه * ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا الثانية - قال ابن العربي: " كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديما عند الناس، حتى أنه روي - كما تقدم - أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا منه بالضرب وتحميم (3) الوجه، وهذا وضع باطل. ومن الوسم الصحيح في الوجه: ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور، علامة على قبح المعصية وتشديدا لمن يتعاطاها لغيره ممن يرجى تجنبه بما يرجى من عقوبة شاهد الزور وشهرته (4)، فقد كان عزيزا بقول الحق وقد صار مهينا بالمعصية. وأعظم الاهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا (5) لخيرة الابد والتحريم له على النار، فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، حسب ما ثبت في الصحيح. قوله تعالى: إنا بلونهم كما بلونآ أصحب الجنة إذ أقسموا ليصر منها مصبحين 17 ولا يستثنون 18 فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون 19 (1) هو العجاج. (2) كل هذا من أسماه الخمر. وقبله: * فغمها حولين ثم استودفا * وغممت الشئ: غطيته. واستودف اللين: صبه في الافاء. (3) تحميم الوجه: تسخيمه بالفحم. (4) عبارة ابن العربي في أحكامه: "... لغيره لمن يرجى تجنبه يمن يرى من عقوبة... ". (5) في ابن العربي: " سببا لحياة الابد " (*)
[ 239 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " إنا بلوناهم " يريد أهل مكة. والابتلاء الاختبار. والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين - وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها، فلما مات صارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان، ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم. وقيل: هي جنة بضوران، وضوران على فرسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير - وكانوا بخلاء - فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين، فغدوا عليها فإذا هي قد أقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم، أي كالليل. ويقال أيضا للنهار صريم. فإن كان أراد الليل فلا سوداد موضعها. وكأنهم وجدوا موضعها حمأة. وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الارض منه. وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتعلها. فيقال: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت الطائف. وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والاعناب والماء غيرها. وقال البكري في المعجم: سميت الطائف لان رجلا من الصدف (1) يقال له الدمون، بنى حائطا وقال: قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم، فسميت الطائف. والله أعلم. الثانيه - قال بعض العلماء: على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسى منها من حضره، وذلك معنى قوله: " وآتوا حقه يوم حصاده " [ الانعام: 141 ] وأنه (2) غير الزكاة على ما تقدم في " الانعام " بيانه (3). وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون. وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم (1) الصدف (بالفتح ثم الكسر): مخلاف من اليمن منسوب إلى القبيلة. (2) في ط: " عين ". (3) راجع ج 7 ص 99. (*)
[ 240 ]
من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل. فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. وتأول من قال هذا الآية التي في سورة " ن والقلم ". وقيل: إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهو ام الارض. قلت: الاول أصح، والثاني حسن. وإنما قلنا الاول أصح لان العقوبة كانت بسبب، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى. روى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا، فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين ! تعالوا فلندلج فنصر منها قبل أن يعلم المساكين، ولم يستثنوا، فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا: (1) لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، فذلك قوله تعالى: " إذ أقسموا " يعني حلفوا فيما بينهم " ليصر منها مصبحين " يعني لنجذنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين، ولا يستثنون، يعني لم يقولوا إن شاء الله. وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شئ سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زرعهم فكل شئ تعداه المنجل فهو للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شئ انتثر، فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والارامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم. فقالوا: قل المال وكثر العيال، فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصر منها ولا تعرف المساكين. وهو قوله: " إذ أقسموا " أي حلفوا " ليصر منها " ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة (2) من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة. وأصرم النخل أي حان وقت صرامه. مثل أركب المهر وأحصد الزرع، أي حان ركوبه وحصاده. (ولا يستثنون) أي ولم يقولوا إن شاء الله. " فتنادوا مصبحين " ينادى بعضهم بعضا. (1) الخفت (بوزن السبت): إسرار المنطق. (2) السدقة: الظلمة، والضوء. وطائفة من الليل. وقيل: اختلاط الضوء والظلمة جميعا. (*)
[ 241 ]
" أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين " عازمين على الصرام والجداد. قال قتادة: حاصدين زرعكم. وقال الكلبى: ماكان في جنتهم من زرع ولا نخيل. وقال مجاهد: كان حرثهم عنبا ولم يقولوا إن شاء الله. وقال أبو صالح: كان استثناؤهم قولهم سبحان الله ربنا وقيل: معنى " ولا يستثنون " أي لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة. فجاءوها ليلا فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل: الطائف جبريل عليه السلام، على ما تقدم ذكره. وقال ابن عباس: أمر من ربك. وقال قتادة: عذاب من ربك. ابن جريج: عنق من نار خرج من وادي جهنم. والطائف لا يكون إلا بالليل، قاله الفراء. الثالثه - قلت: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الانسان، لانهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " (1) [ الحج: 25 ]. وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه). وقد مضى مبينا في سورة " آل عمران " عند قوله تعالى: " ولم يصروا على ما فعلوا " (2) [ آل عمران: 135 ]. قوله تعالى: فأصبحت كالصريم 20 فتنادوا مصبحين 21 أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صرمين 22 قوله تعالى: (فأصبحت كالصريم) أي كالليل المظلم عن ابن عباس والفراء وغيرهما. قال الشاعر: تطاول ليلك الجون البهيم * فما ينجاب عن صبح بهيم (3) (1) راجع ج 12 ص 34 (2) راجع ج 4 ص 215 (3) في اللسان مادة صرم: * فما ينجاب عن ليل صريم * (*)
[ 242 ]
أي احترقت فصارت كالليل الاسود. وعن ابن عباس أيضا: كالرماد الاسود. قال: الصريم الرماد الاسود بلغة خزيمة. الثوري: كالزرع المحصود فالصريم بمعنى المصروم أي المقطوع ما فيه. وقال الحسن: صرم عنها الخير أي قطع، فالصريم مفعول أيضا. وقال المؤرج: أي كالرملة أنصرمت من معظم الرمل. يقال: صريمة وصرائم، فالرملة لا تنبت شيئا ينتفع به. وقال الاخفش: أي كالصبح أنصرم من الليل. وقال المبرد: أي كالنهار، فلا شئ فيها. قال شمر: الصريم الليل والصريم النهار، أي ينصرم هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: سمي الليل صريما لانه يقطع بظلمته عن التصرف، ولهذا يكون فعيل بمعنى فاعل. قال القشيري: وفي هذا نظر، لان النهار يسمى صريما ولا يقطع عن تصرف. قوله تعالى: فانطلقوا وهم يتخفتون 23 أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين 24 وغدوا على حرد قدرين 25 قوله تعالى: (فانطلقوا وهم يتخافتون) أي يتسارون، أي يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة. وهو من خفت يخفت إذا سكن ولم يبين. كما قال دريد بن الصمة: وإني لم أهلك سلالا ولم أمت * خفاتا وكلا ظنه بي عودي وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام. (وغدوا على حرد قادرين) أي على قصد وقدرة في أنفسهم ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم. قال معناه ابن عباس وغيره. والحرد القصد. حرد يحرد (بالكسر) حردا قصد. تقول: حردت حردك، أي قصدت قصدك. ومنه قول الراجز: أقبل سيل جاء من عند الله * يحرد حرد الجنة المغلة أنشده النحاس: قد جاء سيل جاء من أمر الله * يحرد حرد الجنة المغله
[ 243 ]
قال المبرد: المغلة ذات الغلة. وقال غيره: المغلة التي يجري الماء في غللها (1) أي في أصولها. ومنه تغللت بالغالية. ومنه تغليت، أبدل من اللام ياء. ومن قال تغلفت فمعناه عنده جعلتها غلافا. وقال قتادة ومجاهد: " على حرد " أي على جد. الحسن: على حاجة وفاقة. وقال أبو عبيدة والقتيبي: على حرد على منع، من قولهم حاردت الابل حرادا أي قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر. وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال السدي وسفيان: " على حرد " على غضب. والحرد الغضب. قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الاصمعي: وهو مخفف، وأنشد شعرا: إذا جياد الخيل جاءت تردي * مملوءة من غضب وحرد وقال ابن السكيت: وقد يحرك تقول منه: حرد (بالكسر) حردا، فهو حارد وحردان. ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد. وقيل: " على حرد " على انفراد. يقال: حرد يحرد حرودا، أي تنحى عن قومه ونزل منفردا ولم يخالطهم. وقال أبو زيد: رجل حريد من قوم حرداء. وقد حرد يحرد حرودا، إذا ترك قومه وتحول عنهم. وكوكب حريد، أي معتزل عن الكواكب. قال الاصمعي: رجل حريد، أي فريد وحيد. قال والمنحرد المنفرد في لغة هذيل. وأنشد لابي ذؤيب: * كأنه كوكب في الجو منحرد * ورواه أبو عمرو بالجيم، وفسره: منفرد. قال: وهو سهيل. وقال الازهري: حرد اسم قريتهم. السدي: اسم جنتهم، وفيه لغتان: حرد وحرد. وقرأ العامة بالاسكان. وقرأ أبو العالية وابن السميقع بالفتح، وهما لغتان. ومعنى " قادرين " قد قدروا أمرهم وبنوا عليه، قاله الفراء. وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم وقال الشعبي: " قادرين " يعني على المساكين. وقيل: معناه من الوجود، أي منعوا وهم واجدون. (1) الذى في كتب اللغة: الغلل: الماء الذى يجرى في أصول الشجر، أو الماء الظاهر الجارى. (*)
[ 244 ]
قوله تعالى: فلما رأوها قالوآ إنا لضالون 26 بل نحن محرومون 27 قوله تعالى: (فلما رأوها قالوا إنا لضالون) أي لما رأوها محترقة لا شئ فيها قد صارت كالليل الاسود ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها. وقال بعضهم لبعض: " إنا لضالون " أي ضللنا الطريق إلى جنتنا، قاله قتادة. وقيل: أي إنا لضالون عن الصواب في غدونا وعلى نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا. (بل نحن محرومون) أي حرمنا جنتنا بما صنعنا. روى أسباط عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا كان هئ له - ثم تلا - " فطاف عليها طائف من ربك " [ القلم: 19 ]) الآيتين. قوله تعالى: قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون 28 قالوا سبحن ربنا إنا كنا ظلمين 29 فأقبل بعضهم على بعض يتلومون 30 قولوا يويلنآ إنا كنا طغين 31 عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منهآ إنآ إلى ربنا رغبون 32 قوله تعالى: (قال أو سطهم) أي أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم. (ألم أقل لكم لولا تسبحون) أي هلا تستثنون. وكان استثناؤهم تسبيحا، قال مجاهد وغيره. وهذا يدل على أن هذا الاوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله. فقال لهم: هلا تسبحون الله، أي تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عزوجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله، لان المعنى تنزيه الله عزوجل أن يكون شئ إلا بمشيئته. وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقامه من المجرمين (قالوا سبحان ربنا) اعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالما فيما فعل. قال ابن عباس في قولهم: " سبحان ربنا " أي نستغفر الله من ذنبنا. (إنا كنا ظالمين) لانفسنا
[ 245 ]
في منعنا المساكين. (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) أي يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا. (قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين) أي عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. (عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها) تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا، فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر (1) من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقال ابن مسعود: إن القوم أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا واحدا. وقال اليماني أبو خالد: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الاسود القائم. وقال الحسن: قول أهل الجنة (إنا إلى ربنا راغبون) لا أدري إيمانا كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة، فيوقف في كونهم مؤمنين. وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار ؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. والمعظم يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا، حكاه القشيري. وقراءة العامة " يبدلنا " بالتخفيف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو بالتشديد، وهما لغتان. وقيل: التبديل تغيير الشئ أو تغيير حاله وعين الشئ قائم. والابدال رفع الشئ ووضع آخر مكانه. وقد مضى في سورة " النساء " القول في هذا. (2) قوله تعالى: كذلك العذاب ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون 33 قوله تعالى: (كذلك العذاب) أي عذاب الدنيا وهلاك الاموال، عن ابن زيد. وقيل: إن هذا وعظ لاهل مكة بالرجوع إلى الله لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلي الله عليه وسلم، أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا (ولعذاب الاخرة أكبر (1) زغر: بضم الزاى وفتح الغين المعجمة وآخرها راء. (2) راجع ج 5 ص 245 (*)
[ 246 ]
لو كانوا يعلمون) وقال ابن عباس: هذا مثل لاهل مكة حين خرجوا إلى بدر وحلفوا ليقتلن محمدا صلي الله عليه وسلم وأصحابه، وليرجعن (1) إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الحنة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. ثم قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين يحتمل أنه كان واجبا عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعا، والاول أظهر، والله أعلم. وقيل: السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحط، وعلى قتال بدر. قوله تعالى: إن للمتقين عند ربهم جنت النعيم 34 أفنجعل المسلمين كالمجرمين 35 ما لكم كيف تحكمون 36 أم لكم كتب فيه تدرسون 37 إن لكم فيه لما تخيرون 38 أم لكم أيمن علينا بلغة إلى يوم القيمة إن لكم لما تحكمون 39 قوله تعالى: (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم) تقدم القول فيه، أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. فقال: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) أي كالكفار. وقال ابن عباس وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون، فنزلت " أفنجعل المسلمين كالمجرمين ". ثم ونجهم فقال: (مالكم كيف تحكمون) هذا الحكم الاعوج، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين. (أم لكم كتاب فيه تدرسون) أي لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصي. (إن لكم فيه لما تخيرون) تختارون وتشتهون. والمعنى: أن لكم (بالفتح) ولكنه كسر لدخول اللام، تقول علمت أنك عاقل (بالفتح)، وعلمت (1) في ح. ز، ط، ل، ه " وليرجعوا ". (*)
[ 247 ]
إنك لعاقل (بالكسر). فالعامل في " إن لكم فيه لما تخيرون " " تدرسون " في المعنى. ومنعت اللام من فتح " إن ". وقيل: تم الكلام عند قوله: " تدرسون " ثم ابتدأ فقال: " إن لكم فيه لما تخيرون " أي إن لكم في هذا الكتاب إذا ما تخيرون، أي ليس لكم ذلك. والكناية في " فيه " الاولى والثانية راجعة إلى الكتاب. ثم زاد في التوبيخ فقال: (أم لكم أيمان) أي عهود ومواثيق. (علينا بالغة) مؤكدة. والبالغة المؤكدة بالله تعالى. أي أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. (إن لكم لما تحكمون) كسرت " إن " لدخول اللام في الخبر. وهي من صلة " أيمان "، والموضع النصب ولكن كسرت لاجل اللام، تقول: حلفت إن لك لكذا. وقيل: تم الكلام عند قوله: " إلى يوم القيامة " ثم قال: " إن لكم لما تحكمون " إذا، أي ليس الامر كذلك. وقرأ ابن هرمز " أين لكم فيه لما تخيرون " أين لكم لما تحكمون "، بالاستفهام فيهما جميعا. وقرأ الحسن البصري " بالغة " بالنصب على الحال، إما من الضمير في " لكم " لانه خبر عن " أيمان " ففيه ضمير منه. وإما من الضمير في " علينا " إن قدرت " علينا " وصفا للايمان لا متعلقا بنفس الايمان، لان فيه ضميرا منه، كما يكون إذا كان خبرا عنه. ويجوز أن يكون حالا من " أيمان " وإن كانت نكرة، كما أجازوا نصب " حقا " على الحال من " متاع " في قوله تعالى: " متاع بالمعروف حقا على المتقين " (1) [ البقرة: 241 ]. وقرأ العامة " بالغة " بالرفع نعت ل " أيمان ". قوله تعالى: سلهم أيهم بذلك زعيم 40 أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صدقين 41 قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم) أي سل يا محمد هؤلاء المتقولين علي: أيهم كفيل بما تقدم ذكره. وهو أن لهم من الخير (2) ما للمسلمين. والزعيم: الكفيل والضمين، قاله ابن عباس وقتادة. وقال ابن كيسان: الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى. وقال الحسن: (1) راجع ج 3 ص 228. (2) زيادة يقتضيها السياق. (*)
[ 248 ]
الزعيم الرسول. (أم لهم شركاء) أي ألهم والميم صلة. " شركاء " أي شهداء. (فليأتوا بشركائهم) يشهدون على ما زعموا. (إن كانوا صادقين) دعواهم. وقيل: أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم، فهو أمر معناه التعجيز. قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون 42 خشعة أبصرهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سلمون 43 قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) يجوز أن يكون العامل في " يوم " " فليأتوا " أي فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق ليشفع الشركاء لهم. ويجوز أن ينتصب بإضمار فعل، أي اذكر يوم يكشف عن ساق، فيوقف على " صادقين " ولا يوقف عليه على التقدير الاول. وقرئ " يوم نكشف " بالنون. " وقرأ " ابن عباس " يوم تكشف عن ساق " بتاء مسمى الفاعل، أي تكشف الشدة أو القيامة. عن ساقها، كقولهم: شمرت الحرب عن ساقها. قال الشاعر: فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا (1) وقال الراجز: قد كشفت عن ساقها فشدوا * وجدت الحرب بكم فجدوا وقال آخر: عجبت من نفسي ومن إشفاقها * ومن طراد الطير عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها * حمراء تبري اللحم عن عراقها (2) وقال آخر: كشفت لهم عن ساقها * وبدا من الشر الصراح (1) البيت لحاتم الطائى. ويروى: أخو الحرب. وأخا الحرب. (2) العراق بضم العين: العظم بغير لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق بفتحها. (*)
[ 249 ]
وعن ابن عباس أيضا والحسن وأبي العالية " تكشف " بتاء غير مسمى الفاعل. وهذه القراءة راجعة إلى معنى " يكشف " وكأنه قال: يوم تكشف القيامة عن شدة. وقرئ " يوم تكشف " بالتاء المضمومة وكسر الشين، من أكشف إذا دخل في الكشف. ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف، إذا انقلبت شفته العليا. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق " قال: عن كرب وشدة. أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال: شدة الامر وجده. وقال مجاهد: قال ابن عباس هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الحرب والامر قيل: كشف الامر عن ساقه. والاصل فيه أن من وقع في شئ يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. وقيل: ساق الشئ أصله الذي به قوامه، كساق الشجرة وساق الانسان. أي يوم يكشف عن أصل الامر فتظهر حقائق الامور وأصلها. وقيل: يكشف عن ساق جهنم. وقيل: عن ساق العرش. وقيل: يريد وقت أقتراب الاجل وضعف البدن، أي يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه، ويدعوه المؤذن إلى الصلاة فلا يمكنه أن يقوم ويخرج. فأما ما روي أن الله يكشف عن ساقه فإنه عزوجل يتعالى عن الاعضاء والتبعيض وأن يكشف ويتغطى. ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عزوجل. وروى أبو موسى عن النبي صلي الله عليه وسلم في قوله تعالى: " عن ساق " قال: (يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا). وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن منيع قال حدثنا هدبة قال حدثنا حماد بن سلمة عن عدي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحد فيقال لهم ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره - قال - وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون نعم فيقال فكيف تعرفونه ولم تروه قالوا إنه لا شبيه له
[ 250 ]
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي (1) البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " فيقول الله تعالى عباد ي أرفعوا رءوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار). قال أبو بردة: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث ؟ فحلف له ثلاثة أيمان، فقال عمر: ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا. وقال قيس بن السكن: حدث عبد الله بن مسعود عند عمر بن الخطاب فقال: إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاما، ثم ينادي مناد: أيها الناس، أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبد تم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا ؟ قالوا: نعم. قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال لهم: ألا تذهبون قد ذهب الناس ؟ فيقولون حتى يأتينا ربنا، فيقال لهم: أو تعرفونه ؟ فيقولون: إن اعترف (2) لنا عرفناه. قال فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلي لهم فيخر من كان يعبده مخلصا ساجدا، ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد (3)، فيذهب بهم إلى النار، ويدخل هؤلاء الجنة، فذلك قوله تعالى: " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ". (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة متواضعة، ونصبها على الحال. (ترهقهم ذلة) وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج. وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار. قلت: معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره. (1) صياصى البقر: قرونها. (2) أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها. (3) السفافيد: جمع السفود (وزن التنور): الحديدة التى يشوى بها اللحم. (*)
[ 251 ]
قوله تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود) أي في الدنيا. (وهم سالمون) معافون أصحاء. قال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالاذان والاقامة فيأبونه. وقال سعيد ابن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون. وقال كعب الاحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقيل: أي بالتكليف الموجه عليهم في الشرع، والمعنى متقارب. وقد مضى في سورة " البقرة " الكلام في وجوب صلاة الجماعة. (1) وكان الربيع بن خيثم قد فلج وكان يهادى (2) بين الرجلين إلى المسجد، فقيل: يا أبا يزيد، لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة. فقال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا. وقيل لسعيد بن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فتغيب. فقال: أبحيث لا يقدر الله علي ؟ فقيل له: اجلس في بيتك. فقال: أسمع حي على الفلاح، فلا أجيب ! قوله تعالى: فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون 44 وأملى لهم إن كيدى متين 45 قوله تعالى: (فذرني) أي دعني. (ومن يكذب) " من " مفعول معه أو معطوف على ضمير المتكلم. (بهذا الحديث) يعني القرآن، قاله السدي. وقيل: يوم القيامة. وهذا تسلية للنبي صلي الله عليه وسلم، أي فأنا أجازيهم وأنتقم منهم. ثم قال (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) معناه سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون، فعذبوا يوم بدر. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر. وقال الحسن: كم مستدرج بالاحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه. وقال أبو روق: أي كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال ابن عباس: سنمكر بهم. وقيل: هو أن نأخذهم قليلا ولا نباغتهم. وفي حديث (أن رجلا من بني إسرائيل قال يا رب كم أعصيك (1) راجع ج 1 ص 348. (2) أي يمشى بينهما معتمدا عليهما لضعفه وتمايله، من " تهادت المرأة في مشيتها ": إذا تمايلت. (*)
[ 252 ]
وأنت لا تعاقبني - قال - فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر. إن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت). والاستدراج: ترك المعاجلة. وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج. ومنه قيل درجة، وهي منزلة بعد منزلة. واستدرج فلان فلانا، أي استخرج ما عنده قليلا. ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه بمعنى، أي أدناه منه على التدريج فتدرج هو. (وأملى لهم) أي أمهلهم وأطيل لهم المدة. والملاوة: (1) المدة من الدهر. وأملى الله له أي أطال له. والملوان: الليل والنهار. وقيل: " وأملي لهم " أي لا أعاجلهم بالموت، والمعنى واحد. وقد مضى في " الاعراف " بيان هذا. (2) (إن كيدى متين) أي إن عذابي لقوي شديد فلا يفوتني أحد. قوله تعالى: أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون 46 عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى: " أم لهم شركاء " [ القلم: 41 ]. أي أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الايمان بالله ؟ فهم من غرامة ذلك مثقلون لما يشق عليهم من بذل المال، أي ليس عليهم كلفة، بل يستولون بمتابعتك على خزائن الارض ويصلون إلى جنات النعيم. قوله تعالى: أم عندهم الغيب فهم يكتبون 47 قوله تعالى: (أم عندهم الغيب) أي علم ما غاب عنهم. (فهم يكتبون) وقيل: أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون. وعن ابن عباس: الغيب هنا اللوح المحفوظ فهم يكتبون مما فيه يخاصمونك به، ويكتبون أنهم أفضل منكم، وأنهم لا يعاقبون. وقيل: " يكتبون " يحكمون لانفسهم بما يريدون. قوله تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم 48 (1) مثلث الميم. (2) راجع 7 ص 329 (*)
[ 253 ]
قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربك) أي لقضاء ربك. والحكم هنا القضاء. وقيل: فأصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة. وقال ابن بحر: فأصبر لنصر ربك. قال قتادة: أي لا تعجل ولا تغاضب فلا بد من نصرك. وقيل: إنه منسوخ بآية السيف. (ولا تكن كصاحب الحوت) يعني يونس عليه السلام. أي لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صلي الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت، وقد مضى خبره في سورة " يونس، (1) والانبياء، (2) والصافات " (3) والفرق بين إضافة ذي وصاحب في سورة " يونس " فلا معنى للاعادة. (إذ نادى) أي حين دعا في بطن الحوت فقال: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [ الانبياء: 87 ]. (وهو مكظوم) أي مملوء غما. وقيل: كربا. الاول قول ابن عباس ومجاهد. والثاني قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب، والكرب في الانفاس. وقيل: مكظوم محبوس. والكظم الحبس، ومنه قولهم: فلان كظم غيظه، أي حبس غضبه، قاله ابن بحر. وقيل: إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المبرد. وقد مضى هذا وغيره في " يوسف ". (4) قوله تعالى: لولا أن تدركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم 49 فاجتبه ربه فجعله من الصلحين 50 قوله تعالى: (لولا أن تداركه نعمة من ربه) قراءة العامة " تداركه ". وقرأ ابن هرمز والحسن " تداركه " بتشديد الدال، وهو مضارع أدغمت التاء منه في الدال وهو على تقدير حكاية الحال، كأنه قال: لولا أن كان يقال فيه تتداركه نعمة. ابن عباس وابن مسعود: " تداركته " وهو خلاف المرسوم. و " تداركه " فعل ماض مذكر حمل على معنى (1) راجع ج 8 ص 383 (2) راجع ج 11 ص 239 (3) راجع ج 15 ص 121 (4) راجع ج 9 ص 259 (*)
[ 254 ]
النعمة، لان تأنيث النعمة غير حقيقي. و " تداركته " على لفظها. واختلف في معنى النعمة هنا، فقيل النبوة، قاله الضحاك. وقيل عباد ته التي سلفت، قاله ابن جبير. وقيل: نداؤه " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " [ الانبياء: 87 ]، قاله ابن زيد. وقيل: نعمة الله عليه إخراجه من بطن الحوت، قاله ابن بحر. وقيل: أي رحمة من ربه، فرحمه وتاب عليه. (لنبذ بالعراء وهو مذموم) أي لنبذ مذموما ولكنه نبذ سقيما غير مذموم. ومعنى " مذموم " في قول ابن عباس: مليم. قال بكر بن عبد الله: مذنب. وقيل: " مذموم " مبعد من كل، خير. والعراء: الارض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ولا شجر يستر. وقيل: ولولا فضل الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما. يدل عليه قوله تعالى: " فلولا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " (1) [ الصافات: 143 - 144 ]. (فاجتباه ربه) أي اصطفاه وأختاره. " فجعله من الصالحين " قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه وفي قومه، وقبل توبته، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون. قوله تعالى: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصرهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون 51 " قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا) " إن " هي المخففة من الثقيلة. " ليزلقونك " أي يعتانونك. (بأبصارهم) أخبر بشدة عداوتهم النبي صلي الله عليه وسلم، وأرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المكتل (2) والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت (1) راجع ج 15 ص 123 (2) المكتل: زبيل يعمل من الخوص يحمل فيه التمر وغيره. (*)
[ 255 ]
فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الابل أو الغنم فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ! فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلي الله عليه وسلم بالعين فأجابهم، فلما مر النبي صلي الله عليه وسلم أنشد: قد كان قومك يحسبونك سيدا * وإخال أنك سيد معيون فعصم الله نبيه صلي الله عليه وسلم ونزلت: " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك ". وذكر نحوه الماوردي. وأن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا - يعني في نفسه وماله - تجوع ثلاثة أيام، ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر منه ولا أحسن، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال القشيري: وفي هذا نظر، لان الاصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والاعجاب لا مع الكراهية والبغض، ولهذا قال: (ويقولون إنه لمجنون) أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن. قلت: أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله. ولا يمنع كراهة الشئ من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والاعمش وأبو وائل ومجاهد " ليزلقونك " أي ليهلكونك. وهذه قراءة على التفسير، من زهقت نفسه وأزهقها. وقرأ أهل المدينة " ليزلقونك " بفتح الياء. وضمها الباقون، وهما لغتان بمعنى، يقال: زلقه يزلقه وأزلقه يزلقه إزلاقا إذا نحاه وأبعده. وزلق رأسه يزلقه زلقا إذا حلقه. وكذلك أزلقه وزلقه تزليقا. ورجل زلق وزملق - مثال هدبد - وزمالق وزملق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، حكاه الجوهري وغيره. فمعنى الكلمة إذا التنحية والازالة، وذلك لا يكون في حق النبي صلي الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته. قال الهروي: أراد ليعتانونك بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك. وقال ابن عباس: ينفذونك بأبصارهم، يقال: زلق السهم وزهق إذا نفذ،
[ 256 ]
وهو قول مجاهد. أي ينفذونك من شدة نظرهم. وقال الكلبي: يصرعونك. وعنه أيضا والسدي وسعيد بن جبير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. وقال العوفي يرمونك. وقال المؤرج: يزيلونك. وقال النضر بن شميل والاخفش: يفتنونك. وقال عبد العزيز ابن يحيى: ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد. وقال ابن زيد: ليمسونك. وقال جعفر الصادق: ليأكلونك. وقال الحسن وابن كيسان: ليقتلونك. وهذا كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه. قال الشاعر: ترميك مزلقة العيون بطرفها * وتكل عنك نصال نبل الرامي وقال آخر: يتقارضون إذا التقوا في مجلس * نظرا يزل (1) مواطئ الاقدام وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك بالعداوة حتى كادوا يسقطونك. وهذا كله راجع إلى ما ذكرنا، وأن المعنى الجامع: يصيبونك بالعين. والله أعلم. قوله تعالى: وما هو إلا ذكر للعلمين 52 أي وما القرآن إلا ذكر للعالمين. وقيل: أي وما محمد إلا ذكر للعالمين يتذكرون به. وقيل: معناه شرف، أي القرآن. كما قال تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك " (2) [ الزخرف: 44 ] والنبي صلي الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضا. شرفوا باتباعه والايمان به صلى الله عليه وسلم. سورة الحاقة مكية في قول الجميع. وهى إحدى وخمسون آية روى أبو الزاهرية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال. ومن قرأها كانت له نورا يوم القيامة من فوق رأسه إلى قدمه). (1) في اللسان " يزيل " وكلاهما صحيح. (2) راجع 16 ج ص 99 (*)
[ 257 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: الحاقة 1 ما الحاقة 2 وما أدرك ما الحاقة 3 قوله تعالى: (الحاقة. ما الحاقة) يريد القيامة، سميت بذلك لان الامور تحق فيها قاله الطبري. كأنه جعلها من باب " ليل نائم ". وقيل: سميت حاقة لانها تكون من غير شك. وقيل: سميت بذلك لانها أحقت لاقوام الجنة، وأحقت لاقوام النار. وقيل: سميت بذلك لان فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله. وقال الازهري: يقال حاققته فحققته أحقه، أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لانها تحق كل محاق في دين الله بالباطل، أي كل مخاصم. وفي الصحاح: وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق، فإذا غلبه قيل حقه. ويقال للرجل إذا خاصم في صغار الاشياء: إنه لنزق الحقاق. ويقال: ماله فيه حق ولا حقاق، أي خصومة. والتحاق التخاصم. والاحتقاق: الاختصام. والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى. وقال الكسائي والمورج: الحاقة يوم الحق. وتقول العرب: لما عرف الحقة مني هرب. والحاقة الاولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو " ما الحاقة " لان معناها ما هي. واللفظ استفهام، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها، كما تقول: زيد ما زيد ! على التعظيم لشأنه. (وما أدراك ما الحاقه) استفهام أيضا، أي أي شئ أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلي الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة فقيل تفخيما لشأنها: وما أدراك ما هي، كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شئ في القرآن " وما أدراك " فقد أدراه إياه وعلمه. وكل شئ قال: " وما يدريك " فهو مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شئ قال فيه: " وما أدراك " فإنه أخبر به، وكل شئ قال فيه: " وما يدريك " فإنه لم يخبر به. قوله تعالى: كذبت ثمود وعاد بالقارعة 4 ذكر من كذب بالقيامة. والقارعة القيامة، سميت بذلك لانها تقرع الناس بأهوالها. يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي أهواله وشدائده. ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه
[ 258 ]
وقوارص لسانه، جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الانسان إذا فزع من الجن أو الانس، نحو آية الكرسي، كأنها تقرع الشيطان. وقيل: القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين، قاله المبرد. وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح، وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز. قال محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى، وكانوا عربا. وأما عاد فقوم هود، وكانت منازلهم بالاحقاف. والاحقاف: الرمل بين عمان إلى حضرموت واليمن كله، وكانوا عربا ذوي خلق وبسطة، ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم. (1) قوله تعالى: فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية 5 فيه إضمار، أي بالفعلة الطاغية. وقال قتادة: أي بالصيحة الطاغية، أي المجاوزة للحد، أي لحد الصيحات من الهول. كما قال: " إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر " (2) [ القمر: 31 ]. والطغيان: مجاوزة الحد، ومنه: " إنا لما طغى الماء " [ الحاقة: 11 ] أي جاوز الحد. وقال الكلبي: بالطاغية بالصاعقة. وقال مجاهد: بالذنوب. وقال الحسن: بالطغيان، فهي مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية. أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم. وقيل: إن الطاغية عاقر الناقة، قاله ابن زيد. أي أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة، وكان واحدا، وإنما هلك الجميع لانهم رضوا بفعله ومالئوه. وقيل له طاغية كما يقال: فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة. قوله تعالى: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية 6 سخرها عليهم سبع ليال وثمنية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية 7 (1) راجع ج 7 ص 236 (2) راجع ج 17 ص 142 (*)
[ 259 ]
قوله تعالى: " وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر " أي باردة تحرق ببردها كإحراق النار، مأخوذ من الصر وهو البرد، قاله الضحاك. وقيل: إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة السموم. " عاتية " أي عتت على خزانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبها، غضبت لغضب الله. وقيل: عتت على عاد فقهرتهم. روى سفيان الثوري عن موسى ابن المسيب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (ما أرسل الله من نسمة (1) من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل - ثم قرأ - إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية " والريح لما كان يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل - ثم قرأ - " بريح صرصر عاتية "). (سخرها عليهم) أي أرسلها وسلطها عليهم. والتسخير: استعمال الشئ بالاقتدار. (سبع ليال وثمانية أيام حسوما) أي متتابعة لا تفتر ولا تنقطع، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. قال الفراء: الحسوم التباع، من حسم الداء إذا كوي صاحبه، لانه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه. قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي: ففرق بين بينهم (2) زمان * تتابع فيه أعوام حسوم وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشئ إذا قطعته وفصلته عن غيره. وقيل: الحسم الاستئصال. ويقال للسيف حسام، لانه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته. وقال الشاعر: حسام إذا قمت معتضدا به * كفى العود منه البدء ليس بمعضد (3) والمعنى أنها حسمتهم، أي قطعتهم وأذهبتهم. فهي القاطعة بعذاب الاستئصال. قال ابن زيد: حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعنه أنها حسمت الليالي والايام حتى استوعبتها. (1) وردت هذه الكلمة في نسخ الاصل: " نسفة " بالفاء. والذى في الزمخشري: " سفية ". (2) البين: من الاضداد، يطلق على الوصل وعلى الفرقة. (3) المعضد والمعضاد (بكسر الميم): من السيوف الممتهن في قطع الشجر. (*)
[ 260 ]
لانها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم. وقال الليث: الحسوم الشؤم. ويقال: هذه ليالي الحسوم، أي تحسم الخير عن أهلها، وقاله في الصحاح. وقال عكرمة والربيع بن أنس: مشائيم، دليله قوله تعالى: " في أيام نحسات " (1) [ فصلت: 16 ]. عطية العوفي: " حسوما " أي حسمت الخير عن أهلها. وأختلف في أولها، فقيل: غداة يوم الاحد، قاله السدي. وقيل: غداة يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس. وقيل: غداة يوم الاربعاء، قاله يحيى بن سلام ووهب بن منبه. قال وهب: وهذه الايام هي التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد وريح شديدة، وكان أولها يوم الاربعاء وآخرها يوم الاربعاء، ونسبت إلى العجوز لان عجوزا من عاد دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن. وقيل: سميت أيام العجوز لانها وقعت في عجز الشتاء. وهي في آذار من أشهر السريانيين. ولها أسام مشهورة، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر: (2) كسع (3) الشتاء بسبعة غبر * أيام شهلتنا (4) من الشهر فإذا انقضت أيامها ومضت (5) * صن وصنبر مع الوبر وبآمر وأخيه مؤتمر * ومعلل وبمطفئ الجمر ذهب الشتاء موليا عجلا (6) * وأتتك واقدة من النجر (7) و " حسوما " نصب على الحال. وقيل على المصدر. قال الزجاج: أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم، وهو مصدر مؤكد. ويجوز أن يكون مفعولا له، أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال، أي لقطعهم واستئصالهم. ويجوز أن يكون جمع حاسم. وقرأ السدي " حسوما " بالفتح، حالا من الريح، أي سخرها عليهم مستأصلة. (1) راجع ج 15 ص 346 (2) في اللسان مادة كسع أنه أبو شبل الاعرابي. (3) الكسع: شدة المر. وكسعه بكذا وكذا إذا جعله تابعا له ومذهبا به. (4) الشهلة: العجوز. (5) في اللسان: فإذا انقضت أيام شهلتنا. (6) في اللسان: " هربا ". (7) النجر: الحر. (*)
[ 261 ]
قوله تعالى: (فترى القوم فيها) أي في تلك الليالي والايام. (صرعى) جمع صريع، يعني موتى. وقيل: " فيها " أي في الريح. (كأنهم أعجاز) أي أصول. (نخل خاويه) أي بالية، قاله أبو الطفيل. وقيل: خالية الاجواف لا شئ فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر: " كأنهم أعجاز نخل منقعر " (1) [ القمر: 20 ] فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الاصول دون الجذوع، أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف. وقال ابن شجرة: كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام، إنما قال " خاوية " لان أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية. ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع، كما قال تعالى: " فتلك بيوتهم خاوية " (2) [ النمل: 52 ] أي خربة لا سكان فيها. ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا، لانها إذا بليت خلت أجوافها. فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية. قوله تعالى: فهل ترى لهم من باقيه 8 أي من فرقة باقية أو نفس باقية. وقيل: من بقية. وقيل: من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر، نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون أسما، أي هل تجد لهم أحدا باقيا. وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله عز وجل: " فهل ترى لهم من باقية "، وقوله عز وجل: " فأصبحوا " لا يرى إلا مساكنهم " (3) [ الاحقاف: 25 ]. قوله تعالى: وجاء فرعون ومن قبله والمؤتكف بالخاطئه قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله) قرأ أبو عمرو والكسائي " ومن قبله " بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا (1) راجع ج 17 ص 137 (2) راجع ج 13 ص 218 (3) راجع ج 16 ص 207 (*)
[ 262 ]
بقراءة عبد الله وأبي " ومن معه ". وقرأ أبو موسى الاشعري " ومن تلقاءه ". الباقون " قبله " بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن تقدمه من القرون الخالية والامم الماضية. (والمؤتفكات) أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالالف. وقرأ الحسن والجحدري " والمؤتفكة " على التوحيد. قال قتادة: إنما سميت قرى قوم لوط " مؤتفكات " لانها ائتفكت بهم، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظى قال: خمس قريات: صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم، وهي القرية (1) العظمى. (بالخاطئة) أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر. وقال مجاهد: بالخطايا التي كانوا يفعلونها. وقال الجرجاني: أي بالخطأ العظيم، فالخاطئة مصدر. قوله تعالى: فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية 10 قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم) قال الكلبي: هو موسى. وقيل: هو لوط لانه أقرب وقيل: عنى موسى ولوطا عليهما السلام، كما قال تعالى " فقولا إنا رسول رب العالمين " (2) [ الشعراء: 16 ]. وقيل: " رسول " بمعنى رسالة. وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، قال الشاعر: (3) لقد كذب الواشون ما بحت عندهم * بسر ولا أرسلتهم برسول (فأخذهم أخذة رابية) أي عالية زائدة على الاخذات وعلى عذاب الامم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال: ربا الشئ يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد: شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة. قوله تعالى: إنا لما طغا الماء حملنكم في الجارية 11 لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن وعية 12 (1) راجع تاريخ الطبري ص 343 من القسم الاول طبع أوربا. (2) راجع ج 13 ص 93. (3) هو كثير عزة. (*)
[ 263 ]
قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء) أي أرتفع وعلا. وقال علي رضي الله عنه: طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة: زاد على كل شئ خمسة عشر ذراعا. وقال ابن عباس: طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدرواكم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الامم وذكر ما حل بهم من العذاب: زجر هذه الامة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله: " حملناكم " أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. (في الجارية) أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكل من على وجه الارض من نسل أولئك. (لنجعلها لكم تذكرة) يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الامة حتى أدركها أوائلهم، في قول قتادة. قال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. والمعنى: أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح، وإنجاء الله آباءكم، وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شئ. وقيل: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم، ولهذا قال الله تعالى: (وتعيها أذن واعية) أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج: ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي، أعيه وعيا. ووعيت العلم، ووعيت ما قلت، كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك: " أوعيته " بالالف، ولما حفظته في نفسك " وعيته " بغير ألف. وقرأ طلحة وحميد والاعرج " وتعيها " بإسكان العين، تشبيها بقوله: " أرنا " (1) [ البقرة: 128 ]. وأختلف فيها عن عاصم وابن كثير. الباقون بكسر العين، ونظير قوله تعالى: " وتعيها أذن واعية "، " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " (2) [ ق: 37 ]. وقال قتادة: الاذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من (1) في قوله تعالى: " وأرنا مناسكا " راجع ج 2 ص 127 (2) راجع ج 17 ص 23 (*)
[ 264 ]
كتاب الله عز وجل. وروى مكحول أن النبي صلي الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: (سألت ربي أن يجعلها أذن علي). قال مكحول: فكان علي رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته. ذكره الماوردي. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال: لما نزلت " وتعيها أذن واعية " قال النبي صلي الله عليه وسلم: (سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي) قال علي: فوالله ما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى. وقال أبو برزة الاسلمي قال النبي صلي الله عليه وسلم لعلي: (يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق على الله أن تعي). قوله تعالى: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة 13 قال ابن عباس: هي النفخة الاولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير " نفخ " لان تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل: إن هذه النفخة هي الاخيرة. وقال: " نفخة واحدة " أي لا تثنى. قال الاخفش: ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل: نفخة. ويجوز " نفخة " نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال: أقتصر على الاخبار عن الفعل كما تقول: ضرب ضربا. وقال الزجاج: " في الصور " يقوم مقام ما لم يسم فاعله. قوله تعالى: وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة 14 قوله تعالى: (وحملت الارض والجبال) قراءة العامة بتخفيف الميم، أي رفعت من أماكنها. (فدكتا) أي فتتا وكسرتا. (دكة واحدة) لا يجوز في " دكة " إلا النصب لارتفاع الضمير في " دكتا ". وقال الفراء: لم يقل فدككن لانه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة، والارض كالجملة الواحدة. ومثله: " أن السموات والارض كانتا رتقا " (1) [ الانبياء: 30 ] ولم يقل كن. وهذا الدك كالزلزلة، كما قال تعالى: " إذا زلزلت الارض زلزالها " [ الزلزلة: 1 ]. وقيل: " دكتا " (1) راجع ج 11 ص 282 (*)
[ 265 ]
أي بسطتا بسطة واحدة، ومنه أندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وقد مضى في سورة " الاعراف " (1) القول فيه. وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر " وحملت الارض والجبال " بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني. كانه في الاصل وحملت قدرتنا أو ملكا من ملائكتنا الارض والجبال، ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جئ بالمفعول الاول لاسند الفعل إليه، فكأنه قال: وحملت قدرتنا الارض. وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال: حملت الارض الملك، كقولك: ألبس زيد الجبة، وألبست الجبة زيدا. قوله تعالى: فيومئذ وقعت الواقعة 15 وانشقت السماء فهى يومئذ واهية 16 والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمنية 17 قوله تعالى: (فيومئذ وقعت الواقعة) أي قامت القيامة. (وأنشقت السماء) أي أنصدعت وتفطرت. وقيل: تنشق لنزول ما فيها من الملائكة، دليله قوله تعالى: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " [ الفرقان: 25 ] وقد تقدم. (2) (فهى يومئذ واهبة) أي ضعيفة. يقال: وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدا. ويقال: كلام واه، أي ضعيف. فقيل: إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا. وقيل: لهول يوم القيامة. وقيل: " واهية " أي متخرقة، قاله ابن شجرة. مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرق. ومن أمثالهم: خل سبيل من وهى سقاؤه * ومن هريق بالفلاة ماؤه أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. (والملك) يعني الملائكة، اسم للجنس. (على أرجائها) أي على أطرافها حين تنشق، لان السماء مكانهم، عن ابن عباس. الماوردي: ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم ينشق منها. (1) راجع ج 7 ص 278 (2) راجع ج 13 ص 23 (*)
[ 266 ]
يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها. وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي ينزلون إلى الارض ويحرسون أطرافها. وقيل: إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم، فيندوا كما تند الابل، فلا يأتون قطرا من أقطار الارض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاءوا. وقيل: " على أرجائها " ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه: " ونزل الملائكة تنزيلا " [ الفرقان: 25 ] وقوله تعالى: " يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض " (1) [ الرحمن: 33 ] على ما بيناه هناك. والارجاء النواحي والاقطار بلغة هذيل، واحدها رجا مقصور، وتثنيته رجوان، مثل عصا وعصوان. قال الشاعر: فلا يرمى بي الرجوان أني * أقل القوم من يغني مكاني ويقال ذلك لحرف البئر والقبر. قوله تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، ثمانية أم ثمانية آلاف. وعن النبي صلي الله عليه وسلم (أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية). ذكره الثعلبي. وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية). وقال العباس بن عبد الملك: هم ثمانية أملاك على صورة الاوعال. (2) ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث (إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس). ولما أنشد بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت: (1) راجع ج 17 ص 169 (2) الوعل - بكسر العين - التيس الجبلى. (*)
[ 267 ]
رجل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للاخرى وليث مرصد والشمس تطلع (1) كل آخر ليلة * حمراء يصبح (2) لونها يتورد ليست (3) بطالعة لهم في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد قال النبي صلي الله عليه وسلم: (صدق). وفي الخبر (أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش). ذكره القشيري وخرجه الترمذي من حديث العباس بن عبد المطلب. وقد مضى في سورة " البقرة " بكماله. (4) وذكر نحوه الثعلبي ولفظه. وفي حديث مرفوع (أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الاوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطائر المسرع). وفي تفسير الكلبي: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة. وعنه: ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة. ثم ذكر عدة الملائكة بما يطول ذكره. حكى الاول عنه الثعلبي والثاني القشيري. وقال الماوردي عن ابن عباس: ثمانية أجزاء من تسعة وهم الكروبيون. (5) والمعنى ينزل بالعرش. ثم إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكنى، فكذلك العرش. ومعنى: " فوقهم " أي فوق رؤوسهم. قال السدي: العرش تحمله الملائكة الحملة فوقهم ولا يحمل حملة العرش إلا الله. وقيل: " فوقهم " أي إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها. وقيل: " فوقهم " أي فوق أهل القيامة. قوله تعالى: يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية 18 قوله تعالى: (يومئذ تعرضون) أي، على الله، دليله: " وعرضوا على ربك صفا " وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الاعمال عليهم للمجازاة. وروى الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (يعرض (1) في الاصول هنا: " تصبح ". (2) في الاغانى ج 4 ص 130 طبعة دار الكتب المصرية: * حمراء مطلع لونها متورد (3) في الاغانى: * تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * (4) راجع ج 1 ص 259 (5) الكروبيون: سادة الملائكة، وهم المقربون، مأخوذ من الكرب وهو القرب. (*)
[ 268 ]
الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الايدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله). خرجه الترمذي قال: ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. (لا تخفى منكم خافية) أي هو عالم بكل شئ من أعمالكم. ف " خافية " على هذا بمعنى خفية، كانوا يخفونها من أعمالهم، قاله ابن شجرة. وقيل: لا يخفى عليه إنسان، أي لا يبقى إنسان لا يحاسب. وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص: لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البر من الفاجر. وقيل: لا تستتر منكم عورة، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة). وقرأ الكوفيون إلا عاصما " لا يخفى " بالياء، لان تأنيث الخافية غير حقيقي، نحو قوله تعالى: " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " (1) [ هود: 67 ] واختاره أبو عبيد، لانه قدحال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجار والمجرور. الباقون بالتاء. واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية. قوله تعالى: فأما من أوتى كتبه بيمينه فيقول هآؤم اقرءوا كتبيه 19 إنى ظننت أنى ملق حسابيه 20 فهو في عيشة راضية 21 في جنة عالية 22 قطوفها دانية 23 كلوا واشربوا هنيا بمآ أسلفتم في الايام الخالية 24 وأما من أوتى كتبه بشماله فيقول يليتنى لم أوت كتبيه 25 ولم أدر ما حسابيه 26 يليتها كانت القاضية 27 مآ أغنى عنى ماليه 28 هلك عنى سلطنيه 29 خذوه فغلوه 30 ثم الجحيم صلوه 31 ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه 32 إنه كان لا يؤمن بالله العظيم 33 ولا يحض على طعام المسكين 34 (1) راجع ج 9 ص 61 (*)
[ 269 ]
قوله تعالى: (فأما من أوتى كتابه بيمينه) إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقال ابن عباس: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الامة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس. قيل له: فأين أبو بكر ؟ فقال هيهات هيهات ! زفته الملائكة إلى الجنة. ذكره الثعلبي. وقد ذكرناه مرفوعا من حديث زيد بن ثابت بلفظه ومعناه في كتاب " التذكرة ". والحمد لله. " فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه " أي يقول ذلك ثقة بالاسلام وسرورا بنجاته، لان اليمين عند العرب من دلائل الفرح، والشمال من دلائل الغم. قال الشاعر: (1) أبيني أفي يمنى يديك جعلتني * فأفرح أم صيرتني في شمالك ومعنى: " هاؤم " تعالوا، قاله ابن زيد. وقال مقاتل: هلم. وقيل: أي خذوا، ومنه الخبر في الربا (إلا هاء وهاء) أي يقول كل واحد لصاحبه: خذ. قال ابن السكيت والكسائي: العرب تقول هاء يا رجل اقرأ، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال، وللمرأة هاء (بكسر الهمزة) وهاؤما وهاؤمن. والاصل ها كم فأبدلت الهمزة من الكاف، قاله القتيبي. (2) وقيل: إن " هاؤم " كلمة وضعت لاجابة الداعي عند النشاط والفرح. روي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلي الله عليه وسلم " هاؤم " يطول صوته. " وكتابيه " منصوب ب " هاؤم " عند الكوفيين. وعند البصريين ب " اقرءوا " لانه أقرب العاملين. والاصل " كتابي " فأدخلت الهاء لتبين فتحة الياء، وكان الهاء للوقف، وكذلك في أخواته: " حسابيه "، وماليه، وسلطانيه وفي القارعة " ماهيه ". وقراءة العامة بالهاء فيهن في الوقف والوصل معا، لانهن وقعن في المصحف بالهاء فلا تترك. وأختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد ويعقوب بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف فيهن جمع. ووافقهم حمزة في " ماليه وسلطانيه "، و " ماهيه " في القارعة. وجملة هذه الحروف سبعة. وأختار أبو حاتم قراءة يعقوب ومن معه إتباعا للغة. ومن قرأهن في الوصل بالهاء (1) هو ابن الدمينة. (2) وفيها لغات أخرى فارجع إليها في كتب اللغة. (*)
[ 270 ]
فهو على نية الوقف. (إنى ظننت) أي أيقنت وعلمت، عن ابن عباس وغيره. وقيل: أي إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي عذبني (1) فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين. ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين، وظن الدنيا شك. وقال الحسن في هذه الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل. (أنى ملاق حسابيه) أي في الآخرة ولم أنكر البعث، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب، لانه تيقن أن الله يحاسبه فعمل للآخرة. (فهو في عيشة راضيه) أي في عيش يرضاه لا مكروه فيه. وقال أبو عبيدة والفراء: " راضية " أي مرضية، كقولك: ماء دافق، أي مدفوق. وقيل: ذات رضا، أي يرضى بها صاحبها. مثل لابن وتامر، أي صاحب اللبن والتمر. وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم (أنهم يعيشون فلا يموتون أبدا ويصحون فلا يمرضون أبدا وينعمون فلا يرون بؤسا أبدا ويشبون فلا يهرمون أبدا). (في جنة عاليه) أي عظيمة في النفوس. (قطوفها دانيه) أي قريبة التناول، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع على ما يأتي بيانه في سورة " الانسان ". (2) والقطوف جمع قطف (بكسر القاف) وهو ما يقطف من الثمار. والقطف (بالفتح المصدر. والقطاف (بالفتح والكسر) وقت القطف. (كلوا واشربوا) أي يقال لهم ذلك. (هنيئا) لا تكدير فيه ولا تنغيص. (بما أسلفتم) قدمتم من الاعمال الصالحة. (في الايام الخالية) أي في الدنيا. وقال: " كلوا " بعد قوله: " فهو في عيشة راضية " لقوله: " فأما من أوتي " و " من " يتضمن معنى الجمع. وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الاسد المخزومي، وقاله مقاتل. والآية التي تليها في أخيه الاسود بن عبد الاسد، في قول ابن عباس والضحاك أيضا، قاله الثعلبي. ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات. ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة وأهل السعادة، يدل عليه قوله تعالى: " كلوا وأشربوا ". وقد قيل: (1) كذا في نسخ الاصل. ولعلها " فيعذبني " وقد أورد الخطيب في تفسيره هذا القول ولم يذكر فيه هذه الكلمة. (2) راجع ج 19 ص 134. (*)
[ 271 ]
إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر. فإذا كان الرجل رأسا في الخير، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه، دعي بأسمه وأسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه سيئاتك وقد غفرت لك " فيفرح عند ذلك فرحا شديدا، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا، حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه حسناتك قد ضوعفت لك " فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام، ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا. فإذا أدبر قال: هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه. قال الله تعالى: " فهو في عيشة راضية " أي مرضية قد رضيها " في جنة عالية " في السماء " قطوفها " ثمارها وعناقيدها. " دانية " أدنيت منهم. فيقول لاصحابه: هل تعرفوني ؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة، من أنت ؟ فيقول: أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا. " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية " أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأسا في الشر، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه حسناتك وقد ردت عليك " فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا، ولا يزداد وجهه إلا سوادا، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه " هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك " أي يضاعف عليه العذاب. ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل - قال - فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فينطلق وهو يقول: " يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. يا ليتها كانت القاضية " يتمنى الموت.
[ 272 ]
" هلك عنى سلطانيه " تفسير ابن عباس: هلكت عنى حجتي. وهو قول مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. وقال ابن زيد: يعني سلطانيه في الدنيا الذي هو الملك. وكان هذا الرجل مطاعا في أصحابه، قال الله تعالى (خذوه فغلوه) قيل: يبتدره مائة ألف ملك ثم تجمع يده إلى عنقه وهو قوله عزوجل: " فغلوه " أي شدوه بالاغلال (ثم الجحيم صلوه) أي اجعلوه يصلى الجحيم (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا) الله أعلم بأي ذراع، قاله الحسن. وقال ابن عباس: سبعون ذراعا بذراع الملك. وقال نوف: كل ذراع سبعون باعا، وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة. وكان في رحبة الكوفة. وقال مقاتل: لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص. وقال كعب: إن حلقة من السلسلة التي قال الله تعالى ذرعها سبعون ذراعا - أن حلقة منها - مثل جميع حديد الدنيا. (فاسلكوه) قال سفيان: بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. وقاله مقاتل. والمعنى ثم أسلكوا فيه سلسلة. وقيل: تدخل عنقه فيها ثم يجربها. وجاء في الخبر: أنها تدخل من دبره وتخرج من منخريه. وفي خبر آخر: تدخل من فيه وتخرج من دبره، فينادي أصحابه هل تعرفوني ؟ فيقولون لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت ؟ فينادي أصحابه أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا. قلت: وهذا التفسير أصح ما قيل في هذه الآية، يدل عليه قوله تعالى: " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " (1) [ الاسراء: 71 ]. وفي الباب حديث أبي هريرة بمعناه خرجه الترمذي. وقد ذكرناه في سورة " سبحان " (1) فتأمله هناك. (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين) أي على الاطعام، كما يوضع العطاء موضع الاطاء. قال الشاعر: أكفرا بعد رد الموت عني * وبعد عطائك المائة الرتاعا (2) (1) راجع ج 10 ص 396 (2) البيت من قصيدة للقطامي مدح بها زفر بن الحارث الكلابي. قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء: " كان القطامى أسره زفر في الحرب التى كانت بين قيس وتغلب فأرادت قيس قتله فحال زفر بينهم ومن عليه وأعطاه مائة من الابل وأطلقه، فقال: أكفرا الخ ". والرتاع (بكسر الراء): التى ترتع. (راجع خزانة الادب في الشاهد التاسع والتسعين بعد الخمسمائة). (*)
[ 273 ]
أراد بعد إعطائك. فبين أنه عذب على ترك الاطعام وعلى الامر بالبخل، كما عذب بسبب الكفر. والحض: التحريض والحث. وأصل " طعام " أن يكون منصوبا بالمصدر المقدر. والطعام عبارة عن العين، وأضيف للمسكين للملابسة التي بينهما. ومن أعمل الطعام كما يعمل الاطعام فموضع المسكين نصب. والتقدير على إطعام المطعم المسكين، فحذف الفاعل وأضيف المصدر إلى المفعول. قوله تعالى: فليس له اليوم ههنا حميم 35 ولا طعام إلا من غسلين 36 لا يأكله إلا الخطئون 37 قوله تعالى: (فليس له اليوم ها هنا حميم) خبر " ليس " قوله: " له " ولا يكون الخبر قوله: " ها هنا " لان المعنى يصير: ليس ها هنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك، لان ثم طعاما غيره. و " ها هنا " متعلق بما في " له " من معنى الفعل. والحميم ها هنا القريب. أي ليس له قريب يرق له ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار، كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والغسلين فعلين من الغسل، فكأنه ينغسل من أبدانهم، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم، عن ابن عباس. وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار. والغسل (بالكسر): ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. الاخفش: ومنه الغسلين، وهو ما أنغسل من لحوم أهل النار ودمائهم. وزيد فيه الياء والنون كما زيد في عفرين. وقال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه. ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا الزقوم. وقال في موضع آخر: " ليس لهم طعام إلا من ضريع " (1) [ الغاشية: 6 ] يجوز أن يكون الضريع من الغسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين، ويكون الماء الحار. " ولا طعام " أي وليس لهم طعام ينتفعون به. (لا يأكله إلا الخاطئون) أي المذنبون. وقال ابن عباس: يعني المشركين. وقرئ (1) راجع ج 20 ص 29 (*)
[ 274 ]
" الخاطيون " بإبدال الهمزة ياء، و " الخاطون " بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطون ! كلنا نخطو. وروى أبو الاسود الدؤلي: ما الخاطون ؟ إنما هو الخاطئون. ما الصابون ! إنما هو الصابئون. ويجوز أن يراد الذي يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عزوجل. قوله تعالى: فلا أقسم بما تبصرون 38 وما لا تبصرون 39 إنه لقول رسول كريم 40 قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون. وما لا تبصرون) المعنى أقسم بالاشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. و " لا " صلة. وقيل: هو رد لكلام سبق، أي ليس الامر كما يقوله المشركون. وقال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل: شاعر. وقال عقبة: كاهن، فقال الله عزوجل: " فلا أقسم " أي أقسم. وقيل: " لا " ها هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. (إنه) يعني القرآن (لقول رسول كريم) يريد جبريل، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله: " إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش " (1) [ التكوير: 19 - 20 ]. وقال الكلبي أيضا والقتبي: الرسول ها هنا محمد صلي الله عليه وسلم، لقوله: " وما هو بقول شاعر " وليس القرآن قول الرسول صلي الله عليه وسلم، إنما هو من قول الله عزوجل ونسب القول إلى الرسول لانه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك. قوله تعالى: وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون 41 ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون 42 (1) راجع ج 19 ص 238 (*)
[ 275 ]
قوله تعالى: (وما هو بقول شاعر) لانه مباين لصنوف الشعر كلها. (ولا بقول كاهن) لانه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. و " ما " زائدة في قوله: " قليلا ما تؤمنون "، " قليلا ما تذكرون "، والمعنى: قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله. ولا يجوز أن تكون " ما " مع الفعل مصدرا وتنصب " قليلا " بما بعد " ما "، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول، لان ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب " ما يؤمنون "، و " يذكرون " بالياء. الباقون بالتاء لان الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله: " تبصرون " وأما بعده: " فما منكم " الآية. قوله تعالى: تنزيل من رب العلمين 43 قوله تعالى: (تنزيل) أي هو تنزيل. (من رب العالمين) وهو عطف على قوله: " إنه لقول رسول كريم " [ الحاقة: 40 ]، أي إنه لقوله رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين. قوله تعالى: ولو تقول علينا بعض الاقاويل 44 لاخذنا منه باليمين 45 ثم لقطعنا منه الوتين 46 قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الاقاويل) " تقول " أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرئ " ولو تقول " على البناء للمفعول. (لاخذنا منه باليمين) أي بالقوة والقدرة، أي لاخذناه بالقوة. و " من " صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لان قوة كل شئ في ميامنه، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ: إذ ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين أي بالقوة. عرابة أسم رجل (1) من الانصار من الاوس. وقال آخر: (1) هو عرابة بن أوس بن قيظى الاوسي الحارثى الانصاري. من سادات المدينة الاجواد المشهورين. أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم صغيرا وتوفى بالمدينة نحو سنة ستين. (*)
[ 276 ]
ولما رأيت الشمس أشرق نورها * تناولت منها حاجتي بيميني وقال السدي والحكم: " باليمين " بالحق. قال: * تلقاها عرابة باليمين * أي بالاستحقاق. وقال الحسن: لقطعنا يده اليمين. وقيل: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف، قاله نفطويه. وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الاذلال على عادة الناس في الاخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه. أي لامرنا بالاخذ بيده وبالغنا في عقابه. (ثم لقطعنا منه الوتين) يعني نياط القلب، أي لاهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا أنقطع مات صاحبه، قاله ابن عباس وأكثر الناس. قال: إذا بلغتني وحملت رحلي * عرابة فاشرقي (1) بدم الوتين وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والموتون الذي قطع وتينه. وقال محمد بن كعب: إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي: إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء: عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق. وقال عكرمة: إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف، ولا إن شبع عرف. قوله تعالى: فما منكم من أحد عنه حجزين 47 وإنه لتذكرة للمتقين 48 قوله تعالى: (فما منكم من أحد عنه حاجزين) " ما " نفي و " أحد " في معنى الجمع، فلذلك نعته بالجمع، أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى: " لا نفرق بين أحد من رسله " (2) [ البقرة: 285 ] هذا جمع، لان " بين " لا تقع إلا على اثنين فما زاد. قال النبي صلي الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لاحد سود الرؤوس قبلكم). لفظه واحد ومعناه الجمع. و " من " زائدة. (1) شرق (من باب طرب): غص. (2) راجع ج 3 ص 424 (*)
[ 277 ]
والحجز: المنع. و " حاجزين " يجوز أن يكون صفة لاحد على المعنى كما ذكرنا، فيكون في موضع جر. والخبر " منكم ". ويجوز أن يكون منصوبا على أنه خبر و " منكم " ملغى، ويكون متعلقا ب " حاجزين ". ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا، كما لم يمتنع الفصل به في " إن فيك زيدا راغب ". قوله تعالى: (وإنه) يعني القرآن (لتذكرة للمتقين) أي للخائفين الذين يخشون الله. ونظيره: " فيه هدى للمتقين " [ البقرة: 2 ] على ما بيناه أول سورة (1) البقرة. وقيل: المراد محمد صلي الله عليه وسلم، أي هو تذكرة ورحمة ونجاة. قوله تعالى: وإنا لنعلم أن منكم مكذبين 49 وإنه لحسرة على الكفرين 50 وإنه لحق اليقين 51 فسبح باسم ربك العظيم 52 قوله تعالى: (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) قال الربيع: بالقرآن. (وإنه لحسرة) يعني التكذيب. والحسرة: الندامة. وقيل: أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. (وإنه لحق اليقين) يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عزو جل، فهو لحق اليقين. وقيل: أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا " وإنه لحسرة " أي لتحسر، فهو مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره. وقال ابن عباس: إنما هو كقولك: لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول: هذا رجل الظريف. وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. (فسبح باسم ربك العظيم) أي فصل لربك، قاله ابن عباس. وقيل: أي نزه الله عن السوء والنقائص. (1) راجع ج 1 ص 161 (*)
[ 278 ]
سورة المعارج وهي مكية باتفاق. وهي أربع وأربعون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع 1 للكفرين ليس له دافع 2 من الله ذى المعارج 3 تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 4 قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع) قرأ نافع وابن عامر " سال سايل " بغير همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة، ويجوز أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب، عن ابن عباس وغيره. يقال: دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب. ويقال: دعوت زيدا، أي التمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة، كقوله تعالى: " تنبت بالدهن " (1) [ المؤمنون: 20 ]، وقوله. " وهزي إليك بجذع النخلة " (2) [ مريم: 25 ] فهي تأكيد. أي سأل سائل عذابا واقعا. (للكافرين) أي على الكافرين. وهو النضر ابن الحارث حيث قال: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " (3) [ الانفال: 32 ] فنزل سؤاله، وقتل يوم بدر صبرا (4) هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبرا غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري. وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلي الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالابطح ثم قال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله (1) راجع ج 12 ص 114 (2) راجع ج 11 ص 94 (3) راجع ج 81 ص 398 (4) الصبر: نصب الانسان للقتل. (*)
[ 279 ]
إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك، ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك، وأن نحج فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا ! أفهذا شئ منك أم من الله ؟ ! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله) فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله، فنزلت: " سأل سائل بعذاب واقع " الآية. وقيل: إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك، قاله الربيع. وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش. وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين. وقيل: هو رسول الله صلي الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة. وأمتد الكلام إلى قوله تعالى: " فاصبر صبرا جميلا " [ المعارج: 5 ] أي لا تستعجل فإنه قريب. وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع. قال الله تعالى: " فاسأل به خبيرا " (1) [ الفرقان: 59 ] أي سل عنه. وقال علقمة: فإن تسألوني بالنساء فإنني * بصير بأدواء النسا طبيب أي عن النساء. ويقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله: " للكافرين ". قال أبو علي وغيره: وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر، فيكون التقدير سأل سائل النبي صلي الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش، تقول العرب: سال يسال، مثل نال ينال وخاف يخاف. والثاني أن يكون من السيلان، ويؤيده قراءة ابن عباس " سال سيل ". قال عبد الرحمن بن زيد: سال واد من أودية جهنم يقال له: (1) راجع ج 13 ص 63. (*)
[ 280 ]
سائل، وهو قول زيد بن ثابت. قال الثعلبي: والاول أحسن، كقول الاعشى (1) في تخفيف الهمزة: سالتاني الطلاق إذ رأتاني * قل مالي قد جئتماني بنكر وفي الصحاح: قال الاخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال: سال يسال. وقال: ومرهق سال إمتاعا بأصدته * لم يستعن وحوامي الموت تغشاه (2) المرهق: الذي أدرك ليقتل. والاصدة بالضم: قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي: من قرأ " سال " جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الالف منقلبة عن واو على لغة من قال: سلت أسال، كخفت أخاف. النحاس: حكى سيبويه سلت أسال، مثل خفت أخاف، بمعنى سألت. وأنشد: سالت هذيل رسول الله فاحشة * ضلت هذيل بما سالت ولم تصب (3) ويقال: هما يتساولان. المهدوي: وجاز أن تكون مبدلة من ياء، من سال يسيل. ويكون سايل واديا في جهنم، فهمزة سايل على القول الاول أصلية، وعلى الثاني بدل من واو، وعلى الثالث بدل من ياء. القشيري: وسائل مهموز، لانه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا، نحو قائل وخائف، لان العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس، فكان بالقلب إلى الهمزة، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. " واقع " أي يقع بالكفار بين (1) لم تجد البيت في شعر الاعشين. وفى كتاب سيبويه (ج 1 ص 291، ج 2 ص 170) أنه لزيد بن عمرو ابن نفيل القرشى. وعلق عليه الاعلم الشنتمرى أنه يروى لنبيه بن الحجاج. (2) لم يستعن، أي لم يحلق عانته. وحوامى الموت وحوائمه: أسبابه. قال ابن برى: أنشده أبو على الباهلى غيث بن عبد الكريم لبعض العرب يصف رجلا شريفا، أرتث في بعض المعارك فسألهم أن يمتعوه بقميصه، أي لا يسلب. (3) البيت لحسان بن ثابت. (*)
[ 281 ]
أنه من الله ذي المعارج. وقال الحسن أنزل الله تعالى: " سأل سائل بعذاب واقع " فقال لمن هو ؟ فقال للكافرين، فاللام في الكافرين متعلقة ب " واقع ". وقال الفراء: التقدير بعذاب للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على، والمعنى: واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك. وقيل: بمعنى عن، أي ليس له دافع عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم، قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معارج الملائكة، لان الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك. وقيل: المعارج الغرف، أي إنه ذو الغرف، أي جعل لاوليائه في الجنة غرفا. وقرأ عبد الله " ذي المعاريج " بالياء. يقال: معرج ومعراج ومعارج ومعاريج، مثل مفتاح ومفاتيح. والمعارج الدرجات، ومنه: " ومعارج عليها يظهرون " (1) [ الزخرف: 33 ]. (تعرج الملائكة والروح) أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي " يعرج " بالياء على إرادة الجمع، ولقوله: ذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. " والروح " جبريل عليه السلام، قاله ابن عباس. دليله قوله تعالى: " نزل به الروح الامين " (2) [ الشعراء: 193 ]. وقيل: هو ملك آخر عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. قال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض. " إليه " أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء، لانها محل بره وكرامته. وقيل: هو كقول إبراهيم " إني ذاهب إلى ربي " (3) [ الصافات: 99 ]. أي إلى الموضع الذي أمرني به. وقيل: " إليه " أي إلى عرشه. (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنه) قال وهب والكلبي ومحمد ابن إسحاق: أي عروج الملائكة إلى المكان الذى هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم (1) راجع ج 16 ص 85 (2) راجع ج 13 ص 138 (3) راجع ج 15 ص 97 (*)
[ 282 ]
لو صعد خمسين ألف سنة. وقال وهب أيضا: ما بين أسفل الارض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد. وجمع بين هذه الآية وبين قوله: " في يوم كان مقداره ألف سنة " في سورة السجدة، (1) فقال: " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " من منتهى أمره من أسفل الارضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة. وقوله تعالى في (آلم تنزيل): " في يوم كان مقداره ألف سنة " [ السجدة: 5 ] يعني بذلك نزول الامر من سماء الدنيا إلى الارض، ومن الارض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لان ما بين السماء إلى الارض مسيرة خمسمائة عام. وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة. لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عزوجل. وقيل: المراد يوم القيامة، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب. يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة. وقال الحسن: هو يوم القيامة، ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين. وقال يمان: هو يوم القيامة، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة. وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، ثم يدخلون النار للاستقرار. قلت: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ". فقلت: ما أطول هذا ! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا). واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل لم يؤد زكاة ماله إلا جعل شجاعا (2) من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس). (1) راجع ج 14 ص 86. (2) الشجاع (بالضم والكسر): الحية الذكر. (*)
[ 283 ]
قال: فهذا يدل على أنه يوم القيامة. وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين). ذكره الماوردي. وقيل: بل يكون الفراغ لنصف يوم، كقوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " (1) [ الفرقان: 24 ]. وهذا على قدر فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة، قال الله تعالى: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " (2) [ لقمان: 28 ]. وعن ابن عباس أيضا أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله تعالى: " في يوم كان مقداره ألف سنة " [ السجدة: 5 ] فقال: أيام سماها الله عزوجل هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. وقيل: معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر، قال الشاعر: ويوم كظل الرمح قصر طوله * دم الزق عنا واصطفاق المزاهر (3) وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى ما اخترناه، والموفق إلاله. قوله تعالى: فاصبر صبرا جميلا 5 إنهم يرونه بعيدا 6 ونره قريبا 7 (1) راجع ج 13 ص 22. (2) راجع ج 14 ص 78. (3) قال ابن برى: نسب الجوهرى هذا البيت ليزيد بن الطثرية، وصوابه لشبرمة بن الطفيل. (انظر لسان العرب مادة صفق). والزق: وعاء من جلد. ويريد بدم الزق الخمر. والمزاهر: العيدان. واصطفقت المزاهر: جاوب بعضها بعضا. (*)
[ 284 ]
قوله تعالى: (فاصبر صبرا جميلا) أي على أذى قومك. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. وقيل: هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو. والمعنى متقارب. وقال ابن زيد: هي منسوخة بآية السيف. (إنهم يرونه بعيدا) يريد أهل مكة يرون العذاب بالنار بعيدا، أي غير كائن. (ونراه قريبا) لان ما هو آت فهو قريب. وقال الاعمش: يرون البعث بعيدا لانهم لا يؤمنون كأنهم يستبعدونه على جهة الاحالة. كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد لا يكون ! وقيل: أي يرون هذا اليوم بعيدا " ونراه " أي نعلمه، لان الرؤية إنما تتعلق بالموجود. وهو كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا. قوله تعالى: يوم تكون السماء كالمهل 8 وتكون الجبال كالعهن 9 ولا يسئل حميم حميما 10 قوله تعالى: (يوم تكون السماء كالمهل) العامل في " يوم " " واقع "، تقديره يقع بهم العذاب يوم. وقيل: " نراه " أو " يبصرونهم " أو يكون بدلا من قريب. والمهل: دردي الزيت وعكره، في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود: ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة. وقال مجاهد: " كالمهل " كقيح من دم وصديد. وقد مضى في سورة " الدخان "، و " الكهف " القول (1) فيه. (وتكون الجبال كالعهن) أي كالصوف المصبوغ. ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن: " وتكون الجبال كالعهن " وهو الصوف الاحمر، وهو أضعف الصوف. ومنه قول زهير: كأن فتات العهن في كل منزل * نزلن به حب الفنا لم يحطم (2) (1) راجع ج 10 ص 394 وج 16 ص 149 (2) الفنا (مقصور والواحدة فناة): عنب الثعلب. وقيل: هو شجر دو حب أحمر ما لم يكسر يتخذ منه قرار يط يوزن بها، كل حبة قيراط. وقيل: يتخذ منه القلائد. وقوله: " لم يحطم " أراد أن حب الفنا صحيح، لانه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة. (*)
[ 285 ]
الفتات القطع. والعهن الصوف الاحمر، واحده عهنة. وقيل: العهن الصوف ذو الالوان، فشبه الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى: أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع. وقيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا (1) مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا. (ولا يسأل حميم حميما) أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه، قاله قتادة. كما قال تعالى: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " (2) [ عبس: 37 ]. وقيل: لا يسأل حميم عن حميم، فحذف الجار ووصل الفعل. وقراءة العامة " يسأل " بفتح الياء. وقرأ شيبة والبزي عن عاصم " ولا يسأل بالضم على ما لم يسم فاعله، أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يسأل عن عمله. نظيره: " كل نفس بما كسبت (2) رهينة " [ المدثر: 38 ]. قوله تعالى: يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه 11 وصحبته وأخيه 12 وفصيلته التى تويه 13 ومن في الارض جميعا ثم ينجيه 14 قوله تعالى: (يبصرونهم) أي يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والانس. فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه، لاشتغالهم بأنفسهم. وقال ابن عباس: يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة. وفي بعض الاخبار: أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم. وقال ابن عباس أيضا: " يبصر ونهم " يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض. فالضمير في " يبصرونهم " على هذا للكفار، والميم للاقرباء. وقال مجاهد: المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة، فالضمير في يبصرونهم " للمؤمنين، والهاء والميم للكفار. ابن زيد: المعنى يبصر الله (1) المهيل: الذى يحرك أسفله فينهال عليه من أعلاه. (2) راجع ج 19 ص 222 وص 84 (*)
[ 286 ]
الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا، فالضمير في " يبصرونهم " للتابعين، والهاء والميم للمتبوعين. وقيل: إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله. وقيل: " يبصرونهم " يرجع إلى الملائكة، أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم. وتم الكلام عند قوله: " يبصرونهم ". ثم قال: (يود المجرم) أي يتمنى الكافر. (لو يفتدى من عذاب يومئذ) يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال: (ببنيه. وصاحبته) زوجته. (وأخيه. وفصيلته) أي عشيرته. (التى تؤويه) تنصره، قاله مجاهد وابن زيد. وقال مالك: أمه التي تربيه. حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب. وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤه الادنون. وقال المبرد: الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد، وهي دون القبيلة. وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه. وقد مضى في سورة " الحجرات " القول في القبيلة وغيرها. (1) وهنا مسألة، وهي: إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن أدعى العموم حمله على العشيرة، ومن أدعى الخصوص حمله على الآباء، الادنى فالادنى. والاول أكثر في النطق. والله أعلم. ومعنى: " تؤويه " تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به. (ومن في الارض جميعا) أي ويود لو فدي بهم لافتدى (ثم ينجيه) أي يخلصه ذلك الفداء. فلا بد من هذا الاضمار، كقوله: " وإنه لفسق " (2) أي وإن أكله لفسق. وقيل: " يود المجرم " يقتضي جوابا بالفاء، كقوله: " ودوا لو تدهن فيدهنون " (3) [ القلم: 9 ]. والجواب في هذه الآية " ثم ينجيه " لانها من حروف العطف، أي يود المجرم لو يفتدى فينجيه الافتداء. قوله تعالى: كلآ إنها لظى 15 نزاعة للشوى 16 تدعوا من أدبر وتولى 17 وجمع فأوعى 18 (1) راجع ج 16 ص 345 (2) راجع ج 7 ص 74 (3) راجع ص 230 من هذا الجزء. (*)
[ 287 ]
قوله تعالى: (كلا) تقدم القول في " كلا " وأنها تكون بمعنى حقا، وبمعنى (1) لا. وهي هنا تحتمل الامرين، فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام " ينجيه ". وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها، أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ثم قال: (إنها لظى) أي هي جهنم، أي تتلظى نيرانها، كقوله تعالى: " فأنذرتكم نارا (2) تلظى " [ الليل: 14 ] واشتقاق لظى من التلظي. والتظاء النار التهابها، وتلظيها تلهبها. وقيل: كان أصلها " لظظ " أي ما دامت لدوام عذابها، فقلبت إحدى الظائين ألفا فبقيت لظى. وقيل: هي الدركة الثانية من طبقات جهنم. وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف. (نزاعة للشوى) قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والاعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي " نزاعة " بالرفع. وروى أبو عمرو عن عاصم " نزاعة " بالنصب. فمن رفع فله خمسة أوجه: أحدها أن تجعل " لظى " خبر " إن " وترفع " نزاعة " بإضمار هي، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على " لظى ". والوجه الثاني أن تكون " لظى " و " نزاعة " خبران لان. كما تقول إنه خلق مخاصم. والوجه الثالث أن تكون " نزاعة " بدلا من " لظى " و " لظى " خبر " إن ". والوجه الرابع أن تكون " لظى " بدلا من أسم " إن " و " نزاعة " خبر " إن ". والوجه الخامس أن يكون الضمير في إنها للقصة و " لظى " مبتدأ و " نزاعة " خبر الابتداء والجملة خبر " إن " والمعنى: أن القصة والخبر لظى نزاعة للشوى ومن نصب " نزاعة " حسن له أن يقف على " لظى " وينصب " نزاعة " على القطع من " لظى " إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة. ويجوز نصبها على الحال المؤكدة، كما قال: " وهو الحق مصدقا " (3) [ البقرة: 91 ]. ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة، أي في حال نزعها للشوى. والعامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي. ويجوز أن يكون حالا، على أنه حال للمكذبين بخبرها. ويجوز نصبها (1) راجع ج 11 ص 147. (2) راجع ج 20 ص 86. (3) راجع ج 2 ص 29. (*)
[ 288 ]
على القطع، كما تقول: مررت بزيد العاقل الفاضل. فهذه خمسة أوجه للنصب أيضا. والشوى. جمع شواة وهي جلدة الرأس. قال الاعشى: قالت قتيلة ماله * قد جللت شيبا شواته وقال آخر: لاصبحت هدتك الحوادث هدة * لها فشواة الرأس باد قتيرها القتير: الشيب. وفي الصحاح: " والشوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس ". والشوى: اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل. قال الهذلي: فإن من القول التي لا شوى لها * إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتها يقول: إن من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل. قال الاعشى: قالت قتيلة ماله * قد جللت شيبا شواته قال أبو عبيد: أنشدها أبو الخطاب الاخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له: " صحفت ! إنما هو سراته، أي نواحيه (1) فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا: بل هو صحف، إنما هو شواته ". وشوى الفرس: قوائمه، لانه يقال: عبل (2) الشوى، ولا يكون هذا للرأس، لانهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته. والشوى: رذال المال. والشوى: هو الشئ الهين اليسير. وقال ثابت البناني والحسن: " نزاعة للشوى " أي لمكارم وجهه. أبو العالية: لمحاسن وجهه. قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه. وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. وقال الكسائي: هي المفاصل. وقال بعض الائمة: هي القوائم والجلود. قال أمرؤ القيس: سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا * له حجبات مشرفات على الفال (3) (1) الزيادة من لسان العرب. (2) أي غليظ القوائم. (3) الشظى: عظم لازق بالذراع. وقيل: انشقاق العصب. و " عبل الشوى " غليظ اليدين والرجلين. و " الشنج " محركة: تقبض الجلد والاصابع. و " النسا " مقصور: عرق في الفخذ، وفرس شنج النسا: منقبضه، وهو مدح له. و " الحجبات ": رءوس عظام الوركين. و " الفال ": لغة في الفائل وهو اللحم الذى على الورك. (*)
[ 289 ]
وقال أبو صالح: أطراف اليدين والرجلين. قال الشاعر: إذا نظرت عرفت الفخر منها * وعينيها ولم تعرف شواها يعني أطرافها. وقال الحسن أيضا: الشوى الهام. (تدعو من أدبر وتولى) أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الايمان. ودعاؤها أن تقول: إلي يا مشرك، إلي يا كافر. وقال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إلي يا كافر، إلي يا منافق، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال ثعلب: " تدعو " أي تهلك. تقول العرب: دعاك الله، أي أهلكك الله. وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء " تعالوا " ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم. وقيل: الداعي خزنة جهنم، أضيف دعاؤهم إليها. وقيل هو ضرب مثل، أي إن مصير من أدبر وتولى إليها، فكأنها الداعية لهم. ومثله قول الشاعر: ولقد هبطنا الواديين فواديا * يدعو الانيس به العضيض (1) الابكم العضيض الابكم: الذباب. وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه. قلت: القول الاول هو الحقيقة، حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والاخبار الصحيحة. القشيري: ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو، وخوارق العادة غدا كثيرة. (وجمع فأوعى) أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى، فكان جموعا منوعا. قال الحكم: كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول: " وجمع فأوعى ". قوله تعالى: إن الانسن خلق هلوعا 19 إذا مسه الشر جزوعا 20 وإذا مسه الخير منوعا 21 قوله تعالى: (إن الانسان خلق هلوعا) يعني الكافر، عن الضحاك. والهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه. وكذلك قال قتادة ومجاهد وغيرهما. وقد هلع (بالكسر) يهلع فهو هلع وهلوع، على التكثير. والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما (1) وردت هذه الكلمة في نسخ الاصل مضطربة، ففى ح، ط: " العضيض " بالعين المهملة والضاد المعجمة. وفى ل: " الفصيص " بالفاء والصاد المهملة وفى ز: " الفضيض " بالفاء والضاد،. وفى ه: " العصيص " بالعين والصاد المهملتين. ولم نهتد إلى المعنى الذى ذكره لواحد من هذه الكلمات في كتب اللغة. (*)
[ 290 ]
ما لا ينبغي. عكرمة: هو الضجور. الضحاك: هو الذي لا يشبع. والمنوع: هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى. وقال ابن كيسان: خلق الله الانسان يحب ما يسره ويرضيه، ويهرب مما يكرهه ويسخط، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وقال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضر لم يصبر، قاله ثعلب. وقال ثعلب أيضا: قد فسر الله الهلوع، وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: (شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن خالع). والعرب تقول: ناقة هلواعة وهلواع، إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال: (1) صكاء ذعلبة إذا استدبرتها * حرج إذا استقبلتها هلواع الذعلب والذعلبة الناقة السريعة. و " جزوعا " و " منوعا " نعتان لهلوع. على أن ينوي بهما التقديم قبل " إذا ". وقيل: هو خبر كان مضمرة. قوله تعالى: إلا المصلين 22 الذين هم على صلاتهم دائمون 23 والذين في أمولهم حق معلوم 24 للسائل والمحروم 25 والذين يصدقون بيوم الدين 26 والذين هم من عذاب ربهم مشفقون 27 إن عذاب ربهم غير مأمون 28 والذين هم لفروجهم حفظون 29 إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين 30 فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون 31 والذين هم لامنتهم وعهدهم رعون 32 والذين هم بشهدتهم قائمون 33 والذين هم على صلاتهم يحافظون 34 أولئك في جنت مكرمون 35 (1) في اللسان مادة هلع: " وأنشد الباهلى للمسيب بن علس يصف ناقة شبهها بالنعامة " وذكر البيت. قال الباهلى: قوله " صكاء " شبهها بالنعامة، " ثم وصف النعامة بالصكك وليس الصكاء من وصف الناقة ". (*)
[ 291 ]
قوله تعالى: (إلا المصلين) دل على أن ما قبله في الكفار، فالانسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى: " إن الانسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا " [ العصر: 2 - 3 ]. قال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدون الصلاة المكتوبة. ابن مسعود: الذين يصلونها لوقتها، فأما تركها فكفر. وقيل: هم الصحابة. وقيل: هم المؤمنون عامة، فإنهم يغلبون فرط الجزع بثقتهم بربهم ويقينهم (الذين هم على صلاتهم دائمون) أي على مواقيتها. وقال عقبة ابن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا. والدائم الساكن، ومنه: نهي عن البول في الماء الدائم، أي الساكن. وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التطوع منها. (والذين في أموالهم حق معلوم) يريد الزكاة المفروضة، قاله قتادة وابن سيرين. وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: صلة رحم وحمل كل. (1) والاول أصح، لانه وصف الحق بأنه معلوم، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما هو على قدر الحاجة، وذلك يقل ويكثر. " للسائل والمحروم " تقدم في " الذاريات " (2). (والذين يصدقون بيوم الدين) أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة. وقد مضى في سورة " الفاتحة " القول فيه. (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) أي خائفون. (إن عذاب ربهم غير مأمون) قال ابن عباس: لمن أشرك أو كذب أنبياءه. وقيل: لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) تقدم القول فيه في سورة " قد أفلح المؤمنون ". (4) (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) تقدم أيضا. (والذين هم بشهاداتهم قائمون) على من كانت عليه (5) من قريب أو بعيد، يقومون بها عند (1) الكل - بالفتح -: الثقل من كل ما يتكلف. والكل: العيال. والكل: اليتيم. (2) راجع ج 17 ص 38 (3) راجع ج 1 ص 141 (4) راجع ج 12 ص 102 (5) زيادة عن الخطيب الشربينى. (*)
[ 292 ]
الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها. وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة " البقرة ". (1) وقال ابن عباس: " بشهاداتهم " أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وقرئ " لامانتهم على التوحيد. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن. فالامانة اسم جنس، فيدخل فيها أمانات الدين، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده. ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع، وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة " النساء " (2). وقرأ عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب " بشهاداتهم " جمعا. الباقون " بشهادتهم " على التوحيد، لانها تؤدي عن الجمع. والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع، كقوله تعالى: " إن أنكر الاصوات لصوت الحمير ". (3) [ لقمان: 19 ] وقال الفراء: ويدل على أنها " بشهادتهم " توحيدا قوله تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " [ الطلاق: 2 ]. (والذين هم على صلاتهم يحافظون) قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: التطوع. وقد مضى في سورة " المؤمنون " (4). فالدوام خلاف المحافظة. فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشئ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الاحباط باقتراب المأثم. فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. (أولئك في جنات مكرمون) أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات. قوله تعالى: فمال الذين كفروا قبلك مهطعين 36 عن اليمين وعن الشمال عزين 37 أيطمع كل امرى منهم أن يدخل جنة نعيم 38 كلا إنا خلقنهم مما يعلمون 39 قوله تعالى: (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) قال الاخفش: مسرعين. قال: بمكة أهلها ولقد أراهم * إليه مهطعين إلى السماع (1) راجع ج 3 ص 415 (2) راجع ج 5 ص 255 (3) راجع ج 14 ص 71 (4) راجع ج 12 ص 107 (*)
[ 293 ]
والمعنى: ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم. وقيل: أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك. وقيل: أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزئوا بك. وقال عطية: مهطعين: معرضين. الكلبي: ناظرين إليك تعجبا. وقال قتادة: عامدين. والمعنى متقارب، أي ما بالهم مسرعين عليك، ما دين أعناقهم، مدمني النظر إليك. وذلك من نظر العدو. وهو منصوب على الحال. نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به. و " قبلك " أي نحوك. (عن اليمين وعن الشمال عزين) أي عن يمين النبي صلي الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات. والعزين: جماعات في تفرقة، قاله أبو عبيدة. ومنه حديث النبي صلي الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرآهم حلقا فقال: (مالي أراكم عزين ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها - قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال -: يتمون الصفوف الاول ويتراصون في الصف) خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر: ترانا عنده والليل داج * على أبوابه حلقا عزينا أي متفرقين. وقال الراعي: أخليفة الرحمن إن عشيرتي * أمسى سراتهم إليك عزينا أي متفرقين. وقال آخر: كأن الجماجم من وقعها * خناطيل (1) يهوين شتى عزينا أي متفرقين. وقال آخر: فلما أن أتين على أضاخ * ضرحن حصاه أشتاتا عزينا (2) وقال الكميت: ونحن وجندل باغ تركنا * كتائب جندل شتى عزينا (1) الخناطيل: لا واحد لها من جنسها، وهى جماعات من الوحش والطير في تفرقة. (2) أضاخ (بالضم): جبل يذكر ويؤنث. وقيل: هو موضع بالبادية يصرف ولا يصرف. ومعنى " ضرحن " نحين ودفعن. (*)
[ 294 ]
وقال عنترة: وقرن قد تركت لذي ولي * عليه الطير كالعصب العزين وواحد عزين عزة، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها. وأصلها عزهة، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة. وقيل: أصلها عزوة، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره. فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الاخرى، والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح: " والعزة الفرقة من الناس، والهاء عوض من الياء، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم، ولم يقولوا عزات كما قالوا ثبات ". قال الاصمعي: يقال في الدار عزون، أي أصناف من الناس. و " عن اليمين وعن الشمال " متعلق ب " مهطعين " ويجوز أن يتعلق ب " عزين " على حد قولك: أخذته عن زيد. (أيطمع كل امرى منهم أن يدخل جنة نعيم) قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلي الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه، ويستهزئون بأصحابه ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه، فنزلت: " أيطمع " الآية. وقيل: كان المستهزئون خمسة أرهط. وقرأ الحسن طلحة بن مصرف والاعرج " أن يدخل " بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل. ورواه المفضل عن عاصم. الباقون " أن يدخل " على الفعل المجهول. (كلا) لا يدخلونها. ثم ابتدأ فقال: " إنا خلقناهم مما يعلمون " أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالايمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم. فقال: " إنا خلقناهم مما يعلمون " من القذر، فلا يليق بهم هذا التكبر. وقال قتادة في هذه الآية: إنما خلقت يا بن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب ابن أبي صفرة يتبختر في مطرف (1) خز وجبة خز فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها (1) المطرف (بكسر الميم وضمها): واحد المطارف، وهى أردية من خز مربعة لها أعلام. (*)
[ 295 ]
الله ؟ ! فقال له: أتعرفني ؟ قال نعم، أو لك نطفة مذرة، (1) وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك (2) تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. نظم الكلام محمود الوراق فقال: عجبت من معجب بصورته * وكان في الاصل نطفة مذره وهو غدا بعد حسن صورته * يصير في اللحد جيفة قذره وهو على تيهه ونخوته * ما بين ثوبيه يحمل العذرة وقال آخر: هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة * وهو بخمس من الاوساخ مضروب أنف يسيل وأذن ريحها سهك (3) * والعين مرمصة والثغر ملهوب يابن التراب ومأكول التراب غدا * قصر فإنك مأكول ومشروب وقيل: معناه من أجل ما يعلمون، وهو الامر والنهي والثواب والعقاب. كقول الشاعر وهو الاعشى: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا * وشطت على ذي هوى أن تزارا أي من أجل ليلى. قوله تعالى: فلا أقسم برب المشرق والمغرب إنا لقدرون 40 على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين 41 قوله تعالى: (فلا أقسم) أي أقسم. و " لا " صلة. (برب المشارق والمغارب) هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد مضى الكلام فيها. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد " برب المشرق والمغرب " على التوحيد. (إنا لقادرون. على أن نبدل خيرا منهم) يقول: نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجئ بخير منهم في الفضل والطوع والمال. (وما نحن بمسبوقين) أي لا يفوتنا شئ ولا يعجزنا أمر نريده. (1) المذر: الفساد. (2) زيادة عن الخطيب الشربينى. (3) السهك - محركة - ريح كريهة تجدها من الانسان إذا عرق. (*)
[ 296 ]
قوله تعالى: فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذى يوعدون 42 أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم، فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد " حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون ". وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قوله تعالى: يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون 43 " يوم " بدل من " يومهم " الذي قبله، وقراءة العامة " يخرجون " بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل. وقرأ السلمي والمغيرة والاعشى عن عاصم " يخرجون " بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. والاجداث: القبور، واحدها جدث. وقد مضى في سورة " يس ". (1) " سراعا " حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي، وهو نصب على الحال " كأنهم إلى نصب يوفضون " قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف، والضعف. الجوهري: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذلك النصب بالضم، وقد يحرك. قال الاعشى: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * لعافية والله ربك فاعبدا أراد " فأعبدن " فوقف بالالف، كما تقول: رأيت زيدا. والجمع الانصاب. وقوله: " وذا النصب " بمعنى إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى: " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " (1) [ ص: 41 ]. وقال الاخفش والفراء: النصب جمع النصب مثل رهن ورهن، والانصاب جمع نصب، فهو جمع الجمع. وقيل: النصب والانصاب واحد. وقيل: (1) راجع ج 15 ص 40 وص 207. (*)
[ 297 ]
النصب جمع نصاب، هو حجر أو صنم يذبح عليه، ومنه قوله تعالى: " وما ذبح على النصب " (1) [ المائدة: 3 ]. وقد قيل: نصب ونصب ونصب بمعنى واحد، كما قيل عمر وعمر وعمر. ذكره النحاس. قال ابن عباس: " إلى نصب " إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك. وقال الكلبي: إلى شئ منصوب، علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم. (يوفضون) يسرعون والايفاض الاسراع. قال الشاعر: فوارس ذبيان تحت الحدي * د كالجن يوفضن من عبقر عبقر: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد: * كهول وشبان كجنة عبقر (2) * وقال الليث: وفضت الابل تفض وفضا، وأوفضها صاحبها. فالايفاض متعد، والذي في الآية لازم. يقال: وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع. قوله تعالى: خشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذى كانوا يوعدون 44 قوله تعالى: (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. (ترهقهم ذلة) أي يغشاهم الهوان. قال قتادة: هو سواد الوجوه. والرهق: الغشيان، ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه (بالكسر) يرهقه رهقا أي غشيه، ومنه قوله تعالى: " ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة " (3) [ يونس: 26 ]. (ذلك اليوم الذى كانوا يوعدون) أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لان ما وعد الله به يكون ولا محالة. (1) راجع ج 6 ص 57. (2) هذا عجز بيت، وصدره: * ومن فاد من إخوانهم وبنيهم * (3) راجع ج 8 ص 330 (*)
[ 298 ]
سورة نوح مكية، وهى ثمان وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم 1 قد مضى القول في " الاعراف " (1) أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الارض). فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الارض جميعا. وهو نوح بن لامك ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابن ثلثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة " العنكبوت " (2) القول فيه. والحمد لله. (أن أنذر قومك) أي بأن أنذر قومك، فموضع " أن " نصب بإسقاط الخافض. وقيل: موضعها جر لقوة خدمتها مع " أن ". ويجوز " أن " بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الاعراب، لان في الارسال معنى الامر، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبد الله " انذر قومك " بغير " أن " بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الانذار في أول " البقرة ". (3) (من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) قال ابن عباس: يعنى عذاب النار في الآخرة. وقال الكلبي: هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل: أي أنذرهم العذاب الاليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى (1) راجع ج 7 ص 232 (2) راجع ج 13 ص 332 (3) راجع ج 1 ص 184 (*)
[ 299 ]
منهم مجيبا، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول (رب أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وقد مضى هذا مستوفى في سورة " العنكبوت " (1) والحمد لله. قوله تعالى: قال يقوم إنى لكم نذير مبين 2 أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون 3 يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون 4 قوله تعالى: (قال يا قوم إنى لكم نذير) أي مخوف. (مبين) أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. (أن اعبدوا الله واتقوه) و " أن " المفسرة على ما تقدم في " أن أنذر ". " اعبدوا " أي وحدوا. واتقوا: خافوا. (وأطيعون) أي فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. (يغفر لكم من ذنوبكم) جزم " يغفر " بجواب الامر. و " من " صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي. وقيل: لا يصح كونها زائدة، لان " من " لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل: هي لبيان الجنس. وفيه بعد، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد ابن أسلم: المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها (ويؤخركم إلى أجل مسمى) قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية، فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم. وقال: الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل: " أجل مسمى " عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا، ذكره الفراء. وعلى القول الاول " أجل مسمى " عند الله. (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الاجل (1) راجع ج 13 ص 332 (*)
[ 300 ]
إليه سبحانه لانه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم " [ النحل: 61 ] لانه مضروب لهم. و " لو " بمعنى " إن " أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن: معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر. قوله تعالى: قال رب أنى دعوت قومي ليلا ونهارا 5 فلم يزدهم دعاءى إلا فرارا 6 قوله تعالى: (قال رب إنى دعوت قومي ليلا ونهارا) أي سرا وجهرا. وقيل: أي واصلت الدعاء. (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) أي تباعدا من الايمان. وقراءة العامة بفتح الياء من " دعائي " وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو. قوله تعالى: وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصبعهم فئ ذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا 7 قوله تعالى: (وإنى كلما دعوتهم) أي إلى سبب المغفرة، وهي الايمان بك والطاعة لك. (جعلوا أصابعهم في آذانهم) لئلا يسمعوا دعائي (واستغشوا ثيابهم) أي غطوابها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت، أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. (وأصروا) أي على الكفر فلم يتوبوا. (واستكبروا) عن قبول الحق، لانهم قالوا: " أنؤمن لك واتبعك الارذلون " (1) [ الشعراء: 111 ]. (استكبارا) تفخيم. قوله تعالى: ثم إنى دعوتهم جهارا 8 ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا 9 (1) راجع ج 13 ص 119. (*)
[ 301 ]
قوله تعالى: (ثم إنى دعوتهم جهارا) أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب ب " دعوتهم " نصب المصدر، لان الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد، لكونها أحد أنواع القعود، أو لانه أراد ب " دعوتهم " جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، أي دعاء جهارا، أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال، أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. (ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، " وأسررت لهم إسرارا ". بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل: " أسررت لهم " أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من " إني أعلنت لهم " الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون. قوله تعالى: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا 10 يرسل السماء عليكم مدرارا 11 ويمددكم بأمول وبنين ويجعل لكم جنت ويجعل لكم أنهرا 12 فيه ثلاث مسائل الاولى - قوله تعالى: (فقلت استغفروا ربكم) أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الايمان. (إنه كان غفارا) وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة ابن اليمان عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: (الاستغفار ممحاة للذنوب). وقال الفضيل: يقول العبد أستغفر الله، وتفسيرها أقلني. الثانية - قوله تعالى: (يرسل السماء عليكم مدرارا) أي يرسل ماء السماء، ففيه إضمار. وقيل: السماء المطر، أي يرسل المطر. قال الشاعر: (1) إذا سقط السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا (1) هو معود الحكماء، معاوية بن مالك. (*)
[ 302 ]
و " مدرارا " ذا غيث كثير. وجزم " يرسل " جوابا للامر. وقال مقاتل: لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت مواشيهم وزروعهم، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال " أستغفروا ربكم إنه كان غفارا " أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الايمان: " يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لكم أنهارا ". قال قتادة: علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: (هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة). الثالثة - في هذه الآية والتي في " هود " (1) دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والامطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت ؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح (2) السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: " استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا ". وقال الاوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: " ما على المحسنين من سبيل " (3) التوبة: 91 ] وقد أقررنا بالاساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ؟ ! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا ! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك ؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا، إن الله تعالى يقول في سورة " نوح ": " استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. (1) راجع ج 9 ص 51 (2) قال ابن الاثير: " المجاديح " واحدها مجدح والياء زائدة للاشباع. والقياس أن يكون واحدها مجداح. والمجدح: نجم من النجوم، وهو عند العرب من الانواء الدالة على المطر. فجعل الاستغفار مشبها بالانواء مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قولا بالانواء. وجاء بلفظ الجمع لانه أراد الانواء جميعها التى يزعمون أن من شأنها المطر. (3) راجع ج 8 ص 227. (*)
[ 303 ]
ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " وقد مضى في سورة " آل عمران " (1) كيفية الاستغفار، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الاصل في الاجابة. قوله تعالى: مالكم لا ترجون لله وقارا 13 وقد خلقكم أطوارا 14 قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء ابن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا. وقال الوالبي والعوفي عنه: ما لكم لا تعلمون لله عظمة. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. والوقار: العظمة. والتوقير: التعظيم. وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة، كأن المعنى ما لكم لا ترجون لله عاقبة الايمان. وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد: مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. وقيل: مالكم لا توحدون الله، لان من عظمه فقد وحده. وقيل: إن الوقار الثبات لله عزوجل، ومنه قوله تعالى: " وقرن في بيوتكن " (2) [ الاحزاب: 33 ] أي اثبتن. ومعناه ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه، قاله ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال: (وقد خلقكم أطوارا) أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس: " أطوارا " يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة، أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر في سورة " المؤمنون ". (3) والطور في اللغة: المرة، أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل: " أطوارا " صبيانا، ثم شبابا، ثم شيوخا وضعفاء، ثم أقوياء. (1) راجع ج 4 ص 39. (2) راجع ج 14 ص 178. (3) راجع ج 12 ص 108. (*)
[ 304 ]
وقيل: أطوارا أي أنواعا: صحيحا وسقيما، وبصيرا وضريرا، وغنيا وفقيرا. وقيل: إن " أطوارا " أختلافهم في الاخلاق والافعال. قوله تعالى: ألم تروا كيف خلق الله سبع سموت طباقا 15 وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا 16 قوله تعالى: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا) ذكر لهم دليلا آخر، أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد ! ومعنى " طباقا " بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الاخرى كالقباب، قاله ابن عباس والسدي. وقال الحسن: خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين، بين كل أرض وأرض، وسماء وسماء خلق وأمر. وقوله: " ألم تروا " على جهة الاخبار لا المعانية، كما تقول: ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا. و " طباقا " نصب على أنه مصدر، أي مطابقة طباقا. أو حال بمعنى ذات طباق، فحذف ذات وأقام طباقا مقامه. (وجعل القمر فيهن نورا) أي في سماء الدنيا، كما يقال: أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم، قاله الاخفش. قال ابن كيسان: إذا كان في إحداهن فهو فيهن. وقال قطرب: " فيهن " بمعنى معهن، وقاله الكلبي. أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والارض. وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس: وهل ينعمن من كان آخر (1) عهده * ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال " في " بمعنى مع. النحاس: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال: جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن، كما تقول: أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وجواب آخر: أنه يروى أن وجه القمر إلى السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسموات، ومعنى " نورا " أي لاهل الارض، قاله السدي. (1) الذى في ديوان امرى القيس ص 50 ط هندية " أحدث ". (*)
[ 305 ]
وقال عطاء: نورا لاهل السماء والارض. وقال ابن عباس وابن عمر: وجهه يضئ لاهل الارض وظهره يضئ لاهل السماء. (وجعل الشمس سراجا) يعني مصباحا لاهل الارض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم. وفي إضاءتها لاهل السماء القولان الاولان، حكاه الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أن الشمس وجهها في السموات وقفاها في الارض. وقيل: على العكس. وقيل لعبد الله بن عمر: ما بال الشمس تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا ؟ فقال: إنها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن، ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شئ. قوله تعالى: والله أنبتكم من الارض نباتا 17 ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا 18 يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الارض كلها، قاله ابن جريج. وقد مضى في سورة " الانعام (1) والبقرة " بيان ذلك. وقال خالد بن معدان: خلق الانسان من طين، فإنما تلين القلوب في الشتاء. و " نباتا " مصدر على غير المصدر، لان مصدره أنبت إنباتا، فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. وقد مضى بيانه في سورة " آل عمران " (2) وغيرها. وقيل: هو مصدر محمول على المعنى، لان معنى: " أنبتكم " جعلكم تنبتون نباتا، قاله الخليل والزجاج. وقيل: أي أنبت لكم من الارض النبات. ف " نباتا " على هذا نصب على المصدر الصريح. والاول أظهر. وقال ابن جريج: (3) أنبتهم في الارض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر. (ثم يعيدكم فيها) أي عند موتكم بالدفن. (ويخرجكم إخراجا) بالنشور للبعث يوم القيامة. قوله تعالى: والله جعل لكم الارض بساطا 19 لتسلكوا منها سبلا فجاجا 20 (1) راجع ج 6 ص 279 (2) راجع ج 4 ص 69 (3) في ح، ز، ل: " وقال ابن بحر ". (*)
[ 306 ]
قوله تعالى: (والله جعل لكم الارض بساطا) أي مبسوطة. (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) السبل: الطرق. والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسعة، قاله الفراء. وقيل: الفج المسلك بين الجبلين. وقد مضى في سورة " الانبياء (1) والحج ". قوله تعالى: قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا 21 شكاهم إلى الله تعالى، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الايمان. وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الابناء بعد الآباء، فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون، ثم دعا عليهم بعد الاياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين، حكاه الماوردي. " واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا " يعني كبراءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة. وقرأ أهل المدنية والشام وعاصم " وولده " بفتح الواو واللام. الباقون " ولده " بضم الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد. ويجوز أن يكون جمعا للولد، كالفلك فإنه واحد وجمع. وقد تقدم. (2) قوله تعالى: ومكروا مكرا كبارا 22 أي كبيرا عظيما. يقال: كبير وكبار وكبار، مثل عجيب وعجاب وعجاب بمعنى، ومثله طويل وطوال وطوال. يقال: رجل حسن وحسان، وجميل وجمال، وقراء للقارئ، ووضاء للوضئ. وأنشد ابن السكيت: بيضاء تصطاد القلوب (3) وتستبي * وبالسحن قلب المسلم القراء (1) راجع ج 11 ص 285 وج 12 ص 40 (2) راجع ج 2 ص 194 (3) في اللسان (مادة قرأ): " الغوى " بالغين المعجمه. (*)
[ 307 ]
وقال آخر: والمرء يلحقه بفتيان الندى * خلق الكريم وليس بالوضاء وقال المبرد: " كبارا " (بالتشديد) للمبالغة. وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد " كبارا بالتخفيف. وأختلف في مكرهم ما هو ؟ فقيل: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح. وقيل: هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد، حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد. وقيل: مكرهم كفرهم. وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لاتباعهم: " لا تذرن ألهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ". قوله تعالى: وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا 23 وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الضالمين إلا ضلالا 24 قال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور، كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب. وهذا قول الجمهور. وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم. وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى: " لا تذرن آلهتكم ". ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لاتباعهم: " لا تذرن ألهتكم " قالت العرب لاولادهم وقومهم: لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام. وعلى القول الاول، الكلام كله منسوق في قوم نوح. وقال عروة بن الزبير وغيره: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وكان ود أكبرهم وأبرهم به. قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه. قالوا: أفعل. فصوره في المسجد من صفر ورصاص. ثم مات آخر،
[ 308 ]
فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم. وتنقصت الاشياء كما تتنقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين. فقال لهم الشيطان: مالكم لا تعبدون شيئا ؟ قالوا: وما نعبد ؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون في مصلاكم. فعبدوها من دون الله، حتى بعث الله نوحا فقالوا: " لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا " الآية. وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس: بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها، فصورهم. فلما ماتواهم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا ! هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها ؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر. فعبدوها فابتدئ عبادة الاوثان من ذلك الوقت. قلت: وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها (1) بالحبشة تسمى مارية، فيها تصاوير لرسول (2) الله صلي الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال: هذه الاصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم تذكروهم بها، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله. وذكر أيضا عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام، كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند، فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصور لكم مثله تطوفون به، فصور لهم هذه الاصنام الخمسة وحملهم على عبادتها. فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال الماوردي: فأما ود (1) قوله: " رأيتها " بنون الجمع على أن أقل الجمع اثنان. أو على أنه كان معهما غيرهما من النسوة. (القسطلانى). (2) قوله " لرسول الله صلى الله عليه وسلم " متعلق ب " ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (*)
[ 309 ]
فهو أول صنم معبود، سمي ودا لودهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل، في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل. وفيه يقول شاعرهم: حياك ود فإنا لا يحل لنا * لهو النساء وإن الدين قد عزما وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، في قولهم. وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ، في قول قتادة. وقال المهدوي. لمراد ثم لغطفان. الثعلبي: وأخذت أعلى وأنعم - وهما من طئ - وأهل جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى (1) وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي ببنى الحارث بن كعب من خزاعة. وقال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أحرد (2)، ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل، فيضربون عليه بناء ينزلون حوله. وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع، (3) في قول عكرمة وقتادة وعطاء. ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه، الاكبر فالاكبر (1) حتى صار إلى همدان. وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني: يريش الله في الدنيا ويبري * ولا يبري يعوق ولا يريش وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير، في قول قتادة، ونحوه عن مقاتل. وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير، فالله أعلم. وقرأ نافع " ولا تذرن ودا " بضم الواو. وفتحها الباقون. قال الليث: ود (بفتح الواو) صنم كان لقوم نوح. (1) زيادة عن تفسير الثعلبي. (2) الحرد (بالتحريك): داء في القوائم إذا مشى البعير نفض قوائمه فضرب بهن الارض كثيرا. (3) موضع باليمن. (*)
[ 310 ]
وود (بالضم) صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح: والود (بالفتح) الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول أمرئ القيس: تظهر الود إذا ما أشجذت * وتواريه إذا ما تعتكر (1) قال ابن دريد: هو اسم جبل: وود صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل، ومنه سموه عبد ود وقال: " لا تذرن آلهتكم " ثم قال: " ولا تذرون ودا ولا سواعا " الآية. خصها بالذكر، لقوله تعالى: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن (2) نوح " [ الاحزاب: 7 ]. (وقد أضلوا كثيرا) هذا من قول نوح، أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم، فهو عطف على قوله: " ومكروا مكرا كبارا ". وقيل: إن الاصنام " أضلوا كثيرا " أي ضل بسببها كثير، نظيره قول إبراهيم: " رب إنهن أضللن كثيرا من (3) الناس " [ إبراهيم: 36 ] فأجرى عليهم وصف ما يعقل، لاعتقاد الكفار فيهم ذلك. (ولا تزد الظالمين إلا ظلالا) أي عذابا، قاله ابن بحر. وأستشهد بقوله تعالى: " إن المجرمين في ضلال (4) وسعر " [ القمر: 47 ]. وقيل إلا خسرانا. وقيل إلا فتنة بالمال والولد. وهو محتمل. قوله تعالى: مما خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا 25 قوله تعالى: (مما خطاياهم (5) أغرقوا) " ما " صلة مؤكدة، والمعنى من خطاياهم وقال الفراء: المعنى من أجل خطاياهم، فأدت " ما " هذا المعنى. قال: و " ما " تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو " خطاياهم " على جمع التكسير، الواحدة خطية. وكان (1) الضمير في " تظهر " للديمة (المطر) في البيت قبل هذا. والود (بالفتح) الوتد. و " أشجذت " أقلعت وسكنت. و " تعتكر " تشتد، يقال: اعتكر المطر إذا اشتد. ويروى: " تشتكر " أي تحتفل. يريد: أن هذه السحابة توارى أوتاد البيوت إذا اشتدت وتبديها إذا كفت وأقلعت. (2) راجع ج 14 ص 127. (3) راجع ج 9 ص 368. (4) راجع ج 17 ص 147. (5) هكذا في نسخ الاصل، وهى قراءة. (*)
[ 311 ]
الاصل في الجمع خطائي على فعائل، فلما أجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لان قبلها كسرة ثم أستثقلت والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك، فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الاولى ياء لخفائها بين الالفين. الباقون " خطيئاتهم " على جمع السلامة. قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات، يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات. وقال قوم: خطايا وخطيات واحد، جمعان مستعملان في الكثرة والقلة، واستدلوا بقوله تعالى: " ما نفدت كلمات (1) الله " [ لقمان: 27 ] وقال الشاعر: (2) لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى * وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وقرئ " خطيئاتهم " (3) و " خطياتهم " بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو ابن عبيد والاعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي " خطيئتهم " على التوحيد، والمراد الشرك. (فأدخلوا نارا) أي بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كما قال تعالى: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " (4) [ غافر: 46 ]. وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله: (البحر نار في نار). وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: " أغرقوا فأدخلوا نارا " قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الانباري: الخلق مجتمع طورا ومفترق * والحادثات فنون ذات أطوار لا تعجبن لاضداد إن أجتمعت * فالله يجمع بين الماء والنار (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) أي من يدفع عنهم العذاب. (1) راجع ج 14 ص 77 (2) هو حسان بن ثابت. (3) في ا، ح: " خطاياهم ". (4) راجع ج 15 ص 319 (*)
[ 312 ]
قوله تعالى: وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكفرين ديارا 26 إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا 27 فيه أربع مسائل: الاولى: دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه. وقال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه: " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " (1) [ هود: 36 ] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته، وهذا كقول النبي صلي الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب (2) وهازم الاحزاب أهزمهم وزلزلهم). وقيل: سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال: (احذر هذا فإنه يضلك). فقال: يا أبت أنزلني، فأنزله فرماه فشجه، فحينئذ غضب ودعا عليهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل: بأربعين. قال قتادة: ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم، ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب، بدليل قوله تعالى: " وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم " (3) [ الفرقان: 37 ]. الثانية - قال ابن العربي: " دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلي الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه، لان مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلي الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما، لعلمه بمالهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم ". قلت: قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة " البقرة " (4) والحمد لله. (1) راجع ج 9 ص 29 (2) الزيادة عن ابن العربي. (3) راجع ج 13 ص 31 (4) راجع ج 2 ص 188 (*)
[ 313 ]
الثالثة: قال ابن العربي: " إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة ؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان: أحدهما - أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة، والشفاعة تكون عن رضا ورقة، فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالامس وتشفع لهم اليوم. الثاني - أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك، فخاف الدرك (1) فيه يوم القيامة، كما قال موسى عليه السلام: (إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها). قال: وبهذا أقول ". قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له: " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " [ هود: 36 ]. فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك، كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال: (اللهم عليك بهم) لما أعلم عواقبهم، وعلى هذا يكون فيه معنى الامر بالدعاء. والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: (ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) أي من يسكن الديار، قاله السدي. وأصله ديوار على فيعال من دار يدور، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الاخرى. مثل القيام، أصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا. وقال القتبي: أصله من الدار، أي نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار، أي أحد. وقيل: الديار صاحب الدار. قوله تعالى: رب اغفر لي ولولدي ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنت ولا تزد الظلمين إلا تبارا 28 قوله تعالى: (رب اغفر لي ولوالدي) دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما: لمك (2) بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش، ذكره القشيرى والثعلبي. وحكى الماوردي في أسم أمه منجل. (1) الدرك (يسكن ويحرك): التبعة. (2) في حاشيه الجمل " لمك " بفتحتين أو بفتح فسكون. و " متوشلخ " بضم الميم وفتح التاء والواو وسكون الشين وكسر اللام. و " شمخى " بوزن سكرى. (*)
[ 314 ]
وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير " لوالدي " بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. (ولمن دخل بيتى مؤمنا) أي مسجدي ومصلاي مصليا مصدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الانبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة. وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم أغفر له اللهم أرحمه) الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس: " بيتي " مسجدي، حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني، فالبيت بمعنى الدين، حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي، حكاه الماوردي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. (وللمؤمنين والمؤمنات) عامة إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد صلي الله عليه وسلم. وقيل: من قومه، والاول أظهر. (ولا تزد الظالمين) أي الكافرين. (إلا تبارا) إلا هلاكا، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك. وقيل: الخسران، حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى: " إن هؤلاء متبر ما هم فيه " (2) [ الاعراف: 139 ]. وقيل: التبار الدمار، والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب. (1) راجع ج 1 ص 351 (2) راجع ج 7 ص 273 (*) تم بعون الله الجزء الثامن عشر من تفسير القرطبي، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر، وأوله: على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. (ولمن دخل بيتى مؤمنا) أي مسجدي ومصلاي مصليا مصدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الانبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة. وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم أغفر له اللهم أرحمه) الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس: " بيتي " مسجدي، حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني، فالبيت بمعنى الدين، حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي، حكاه الماوردي. وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. (وللمؤمنين والمؤمنات) عامة إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد صلي الله عليه وسلم. وقيل: من قومه، والاول أظهر. (ولا تزد الظالمين) أي الكافرين. (إلا تبارا) إلا هلاكا، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك. وقيل: الخسران، حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى: " إن هؤلاء متبر ما هم فيه " (2) [ الاعراف: 139 ]. وقيل: التبار الدمار، والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب. (1) راجع ج 1 ص 351 (2) راجع ج 7 ص 273 (*) تم بعون الله الجزء الثامن عشر من تفسير القرطبي، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع عشر، وأوله: " سورة (الجن). بعون الله وجميل توفيقه، قد تم طبع الجزء الثامن عشر من " تفسير القرطبي " بمطبعة دار الكتب والوثائق القومية فى شهر صفر سنة 1386 ه (مايوستة 1966) محمد حمدى جنيدي رئيس المطبعة