تفسير القرطبي
القرطبي ج 17
[ 1 ]
الجامع لاحكام القرآن لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء السابع عشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه - 1985 م بسم الله الرحمن الرحيم سورة ق مكية كلها، وهى خمس وأربعون آية مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، قال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: (ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب). وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين - أو سنة وبعض سنة - وما أخذت (ق والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاضحى والفطر ؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب (ق والقرآن المجيد) و (اقتربت الساعة وانشق القمر). وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب (ق والقرآن المجيد) وكانت صلاته بعد تخفيفا. قوله تعالى: ق والقرءان المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب (2) أءذا متنا وكنا ترابا ذالك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5) قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد) قرأ العامة (قاف) بالجزم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحق ونصر بن عاصم (قاف) بكسر الفاء، لان الكسر أخو الجزم، فلما سكن
[ 2 ]
آخره حركوه بحركة الخفض. وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى أخف الحركات. وقرأ هرون ومحمد بن السميقع (قاف) بالضم، لانه في غالب الامر حركة البناء نحو منذ وقط وقبل وبعد. واختلف في معنى (ق) ما هو ؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالارض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مقبية، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. ورواه أبو الجوزاء عن عبد الله بن عباس. قال الفراء: كان يجب على هذا أن يظهر الاعراب في (ق)، لانه اسم وليس بهجاء. قال: ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه، كقوله القائل: * قلت لها قفي فقالت قاف * أي أنا واقفة. وهذا وجه حسن وقد تقدم أول (البقرة (1)). وقال وهب: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا، فقال له: ما أنت ؟ قال: أنا قاف، قال: فما هذه الجبال حولك ؟ قال: هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الارض، فقال له: يا قاف أخبرني بشئ من عظمة الله، قال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضها بعضا، لولا هي لاحترقت من حر جهنم. [ فهذا يدل على أن جهنم على وجه الارض والله أعلم بموضعها، وأين هي من الارض (2) ]. قال: زدني، قال: إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله ترعد فرائصه، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا: لا إله إلا الله، وهو قوله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا (3)) يعني قول: لا إله إلا الله. وقال الزجاج: قوله (ق) أي قضي الامر، كما قيل في (حم) أي حم الامر. وقال ابن عباس: (ق) اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وعنه أيضا: أنه اسم من أسماء (1) راجع ج 1 ص 155 (2) الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبى. (3) راجع ج 19 ص 184 (*)
[ 3 ]
القرآن. وهو قول قتادة. وقال القرظي: افتتاح أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض. وقال الشعبي: فاتحة السورة. وقال أبو بكر الوراق: معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما. وقال محمد بن عاصم الانطاكي: هو قرب الله من عباده، بيانه (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). وقال ابن عطاء: أقسم الله بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله. (والقرآن المجيد) أي الرفيع القدر. وقيل: الكريم، قاله الحسن. وقيل: الكثير، مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد، من قولهم: كثير فلان في النفوس، ومنه قول العرب في المثل السائر: (في كل شجر نار، وأستمجد المرخ (1) والعفار). أي استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر، قال ابن بحر. وجواب القسم قيل هو: (قد علمنا ما تنقص الارض منهم) على إرادة اللام، أي لقد علمنا. وقيل: هو (إن في ذلك لذكرى) وهو أختيار الترمذي محمد بن علي قال: (ق) قسم بأسم هو أعظم الاسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد، ثم أقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والارضين وأرزاق العباد، وخلق الآدميين، وصفة يوم القيامة والجنة والنار، ثم قال: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال: (ق) أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما أقتصصت في هذه السورة (لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد). وقال ابن كيسان: جوابه (ما يلفظ من قول). وقال أهل الكوفة: جواب هذا القسم (بل عجبوا). وقال الاخفش: جوابه محذوف كأنه قال: (ق والقرآن المجيد) لتبعثن، يدل عليه (أئذا متنا وكنا ترابا). قوله تعالى: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) (أن) في موضع نصب على تقدير لان جاءهم منذر منهم، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، والضمير للكفار. وقيل: للمؤمنين والكفار جميعا. ثم ميز بينهم بقوله تعالى: (فقال الكافرون) ولم يقل فقالوا، بل قبح حالهم وفعلهم ووصفهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فأسمعني المكروه، وقال لي الفاسق (1) المرخ والعفار: شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر، ويسوى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها. (*)
[ 4 ]
أنت كذا وكذا. (هذا شئ عجيب) العجيب الامر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الاعجوبة. وقال قتادة: عجبهم أن دعوا إلى إله واحد. وقيل: من إنذارهم بالبعث والنشور. والذي نص عليه القرآن أولى. قوله تعالى: (أئذا متنا وكنا ترابا) نبعث، ففيه إضمار. (ذلك رجع بعيد) الرجع الرد أي هو رد بعيد أي محال. يقال: رجعته أرجعه رجعا، ورجع هو يرجع رجوعا، وفيه إضمار آخر، أي وقالوا أنبعث إذا متنا. وذكر البعث وإن لم يجرها هنا فقد جرى في مواضع، والقرآن كالسورة الواحدة. وأيضا ذكر البعث منطو تحت قوله: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) لانه إنما ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة. أي ما تأكل من أجسادهم فلا يضل عنا شئ حتى تتعذر علينا الاعادة. وفي التنزيل: (قال فما بال القرون الاولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (1)) وفي الصحيح: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب) وقد تقدم. وثبت أن لانبياء والاولياء والشهداء لا تأكل الارض أجسادهم، حرم الله على الارض أن تأكل أجسادهم. وقد بينا هذا في كتاب (التذكرة) وتقدم أيضا في هذا الكتاب. وقال السدي: النقص هنا الموت يقول قد علمنا منهم من يموت ومن يبقى، لان من مات دفن فكأن الارض تنقص من الناس. وعن ابن عباس: هو من يدخل في الاسلام من المشركين. (وعندنا كتاب حفيظ) أي بعدتهم وأسمائهم فهو فعيل بمعنى فاعل. وقيل: اللوح المحفوظ أي محفوظ من الشياطين أو محفوظ فيه كل شئ. وقيل: الكتاب عبارة عن العلم والاحصاء، كما تقول: كتبت عليك هذا أي حفظته، وهذا ترك الظاهر من غير ضرورة. وقيل: أي وعندنا كتاب حفيظ لاعمال بني آدم لنحاسبهم عليها. قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق) أي القرآن في قول الجميع، حكاه الماوردي. وقال الثعلبي: بالحق القرآن. وقيل: الاسلام. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. (فهم في أمر مريج) (1) راجع ج 11 ص 205 (*)
[ 5 ]
أي مختلط. يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن، قاله الضحاك وابن زيد. وقال قتادة: مختلف. الحسن: ملتبس، والمعنى متقارب. وقال أبو هريرة: فاسد، ومنه مرجت أمانات الناس أي فسدت، ومرج الدبن والامر أختلط، قال أبودواد: مرج الدين فأعددت له * مشرف الحارك محبوك الكتد (1) وقال ابن عباس: المريج الامر المنكر. وقال عنه عمران بن أبي عطاء: (مريج) مختلط. وأنشد (2): فجالت فالتمست به حشاها * فخر كأنه خوط مريج الخوط الغصن. وقال عنه العوفي: في أمر ضلالة وهو قولهم ساحر شاعر مجنون كاهن. وقيل: متغير. وأصل المرج الاضطراب والقلق، يقال: مرج أمر الناس ومرج أمر الدين ومرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال. وفي الحديث: (كيف بك يا عبد الله (3) إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا) وشبك بين أصابعه. أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة). قوله تعالى: أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذالك الخروج (11) (1) الحارك الكاهل. والكتد مجمع الكتفين من الانسان والفرس. (2) البيت للداخل الهذلى، ويروى فرافت بدل فجالت والضمير للبقرة. وبه أي بالهم. (3) هو عبد الله بن عمرو بن العاص كما في مسند أبى داود. (*)
[ 6 ]
قوله تعالى: (أفلم ينظروا الى السماء فوقهم) نظر أعتبار وتفكر، وأن القادر على إيجادها قادر على الاعادة. (كيف بنيناها) فرفعناها بلا عمد (وزيناها) بالنجوم (وما لها من فروج) جمع فرج وهو الشق، ومنه قول امرئ القيس: * تسد به فرجها من دبر (1) * وقال الكسائي: ليس فيها تفاوت ولا أختلاف ولا فتوق. (والارض مددناها وألقينا فيها رواسي) تقدم في (الرعد (2)) بيانه. (وأنبتنا فيها من كل زوج) أي من كل نوع من النبات (بهيج) أي حسن يسر الناظرين، وقد تقدم في (الحج) بيانه. (تبصرة) أي جعلنا ذلك تبصرة لندل به على كمال قدرتنا. وقال أبو حاتم: نصب على المصدر، يعني جعلنا ذلك تبصيرا وتنبيها على قدرتنا (وذكرى) معطوف عليه. (لكل عبد منيب) راجع إلى الله تعالى مفكر في قدرته. قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء) أي من السحاب (ماء مباركا) أي كثير البركة. (فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) التقدير: وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد. هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: هو من باب إضافة الشئ إلى نفسه، كمايقال: مسجد الجامع وربيع الاول وحق اليقين وحبل الوريد ونحوها، قاله الفراء. والاصل الحب الحصيد فحذفت الالف واللام وأضيف المنعوت إلى النعت. وقال الضحاك: حب الحصيد البر والشعير. وقيل: كل حب يحصد ويدخر ويقتات. (والنخل باسقات) نصب على الحال (4) ردا على قوله: (وحب الحصيد) و (باسقات) حال. والباسقات الطوال، قاله مجاهد وعكرمة. وقال قتادة وعبد الله بن شداد: بسوقها استقامتها في الطول. وقال سعيد بن جبير: (1) البيت في وصف فرنه، وصدره: * لها ذنب مثل ذيل العروس * (2) راجع ج 9 ص 280. (3) راجع ج 12 ص 14. (4) هكذا في الاصول، ولعل صواب العبارة أن تكون كما قال السمين: (والنخل) منصوب على العطف أي وأنبتنا النخل، و (باسقات) حال. (*)
[ 7 ]
مستويات. وقال الحسن وعكرمة أيضا والفراء: مواقير حوامل، يقال للشاة بسقت إذا ولدت، قال الشاعر: فلما تركنا الدار ظلت منيفة * بقران فيه الباسقات المواقر والاول في اللغة أكثر وأشهر، [ يقال ] بسق النخل بسوقا إذا طال. قال: لنا خمر وليست خمر كرم * ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا * وفات ثمارها أيدي الجناة ويقال: بسق فلان على أصحابه أي علاهم، وأبسقت الناقة إذا وقع في ضرعها اللبن (1) قبل النتاج فهي مبسق ونوق مباسيق. وقال قطبة بن مالك: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ (باصقات) بالصاد، ذكره الثعلبي. قلت: الذي في صحيح مسلم عن قطبة بن مالك قال: صليت وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (ق والقرآن المجيد) حتى قرأ (والنخل باسقات) قال فجعلت أرددها ولا أدري ما قال، إلا أنه لا يجوز إبدال الصاد من السين لاجل القاف. (لها طلع نضيد) الطلع هو أول ما يخرج من ثمر النخل، يقال: طلع الطلع طلوعا وأطلعت النخلة، وطلعها كفراها قبل أن ينشق. (نضيد) أي متراكب قد نضد بعضه على بعض. وفي البخاري (النضيد) الكفري ما دام في أكمامه ومعناه منضود بعضه على بعض، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد. (رزقا للعباد) أي رزقناهم رزقا، أو على معنى أنبتناها رزقا، لان الانبات في معنى الرزق، أو على أنه مفعول له أي أنبتناها لرزقهم، والرزق ما كان مهيأ للانتفاع به. وقد تقدم القول فيه (2). (وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) أي من القبور أي كما أحيا الله هذه الارض الميتة فكذلك يخرجكم أحياء بعد موتكم، فالكاف في محل رفع على الابتداء. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع (2). وقال (ميتا) لان المقصود المكان ولو قال ميتة لجاز. (1) في ح، ز، ى: اللبأ وهو وزان عنب، أول اللبن عند الولادة. (2) راجع ج 1 ص 177 وص 211 (*)
[ 8 ]
قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون واخوان لوط (13) وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14) أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد (15) قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح) أي كما كذب هؤلاء فكذلك كذب أولئك فحل بهم العقاب، ذكرهم نبأ من كان قبلهم من المكذبين وخوفهم ما أخذهم. وقد ذكرنا قصصهم في غير موضع عند ذكرهم. (كل كذب الرسل) من هذه الامم المكذبة. (فحق وعيد) أي فحق عليهم وعيدي وعقابي. قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الاول) أي أفعيينا به فنعيا بالبعث. وهذا توبيخ لمنكري البعث وجواب قولهم: (ذلك رجع بعيد). يقال: عييت بالامر إذا لم تعرف وجهه. (بل هم في لبس من خلق جديد) أي في حيرة من البعث منهم مصدق ومنهم مكذب، يقال: لبس عليه الامر يلبسه لبسا. قوله تعالى: ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد (18) وجاءت سكرة الموت بالحق ذالك ما كنت منه تحيد (19) قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان) يعني الناس، وقيل أدم. (ونعلم ما توسوس به نفسه) أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. ومن قال: إن المراد بالانسان آدم، فالذي وسوست به نفسه هو الاكل من الشجرة، ثم هو عام لولده. والوسوسة حديث النفس بمنزلة الكلام الخفي. قال الاعشى:
[ 9 ]
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت * كما استعان بريح عشرق زجل (1) وقد مضى في (الاعراف (2)). (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) هو حبل العاتق وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال. روي معناه عن ابن عباس وغيره وهو المعروف في اللغة. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب، أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه، وليس على وجه قرب المسافة. وقيل: أي ونحن أملك به من حبل وريده مع استيلائه عليه. وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه، لانه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب، روي معناه عن مقاتل قال: الوريد عرق يخالط القلب، وهذا القرب قرب العلم والقدرة، وأبعاض الانسان يحجب البعض البعض ولا يحجب علم الله شئ. قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد) أي نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان الموكلان به، أي نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملك يخبر، ولكنهما وكلا به إلزاما للحجة، وتوكيدا للامر عليه. وقال الحسن ومجاهد وقتادة: (المتلقيان) ملكان يتلقيان عملك: أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (3)) عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وقال مجاهد: وكل الله بالانسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره إلزاما للحجة: أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، فذلك قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيد). وقال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب [ العبد ] قال (1) عشرق كز برج: شجر ينفرش على الارض عريض الورق وليس له شوك، وثمرته قشرة إذا هبت الريح فلقت تلك القشرة فتخشخشت فسمعت للوادي الذى تكون به زجلا ولجة تفزع الابل. (2) راجع ج 7 ص 177 (3) راجع ج 10 ص 230 (*)
[ 10 ]
لا تعجل لعله يستغفر الله. وروي معناه من حديث أبي أمامة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات أمين علي كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر). وروي من حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مقعد ملكيك على ثنيتك (1) لسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعنيك فلا تستحي من الله ولا منهما). وقال الضحاك: مجلسهما تحت الثغر. على الحنك. ورواه عوف عن الحسن قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته. وإنما قال: (قعيد) ولم يقل قعيدان وهما أثنان، لان المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الاول لدلالة الثاني عليه. قاله سيبويه، ومنه قول الشاعر (2). نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف وقال الفرزدق: إني ضمنت لمن أتاني ما جنى * وأبى فكان وكنت غير غدور ولم يقل راضيان ولا غدورين. ومذهب المبرد: أن الذي في التلاوة أول أخرا تساعا، وحذف الثاني لدلالة الاول عليه. ومذهب الاخفش والفراء: أن الذي في التلاوة يؤدي عن الاثنين والجمع ولا حذف في الكلام. و (قعيد) بمعنى قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد. وقيل: (قعيد) بمعنى مقاعد مثل أكيل ونديم بمعنى مؤاكل ومنادم. وقال الجوهري: فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، كقوله تعالى: (إنا رسول رب العالمين (3)) وقوله: (والملائكة بعد ذلك (4) ظهير). وقال الشاعر في الجمع، أنشده الثعلبي: ألكني إليها وخير الرسو * ل أعلمهم بنواحي الخبر (5) (1) في رواية أخرى عن على رضى الله عنه: (ان الملكين قاعدان على ناجذى العبد... الخ). (2) هو قيس بن الخطيم. (3) راجع ج 13 ص 93. (4) راجع ج 18 ص 191 (5) الكنى إليها: أرسلني إليها، والاصل في الكنى ألئكنى فحولت كسرة إلى اللام وحذفت الهمزة. (*)
[ 11 ]
والمراد بالقعيد ها هنا الملازم الثابت لاضد القائم. قوله تعالى: (ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد) أي ما يتكلم بشئ إلا كتب عليه، مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم. وفي الرقيب ثلاثة أوجه: أحدها أنه المتبع للامور. الثاني أنه الحافظ، قاله السدي. الثالث أنه الشاهد، قاله الضحاك. وفي العتيد وجهان: أحدهما أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قال الجوهري: العتيد الشئ الحاضر المهيأ، وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم، ومنه قوله تعالى: (وأعتدت لهن متكأ (1)) وفرس عتد وعتد بفتح التاء وكسرها المعد للجري. قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور، ومنه قول الشاعر: لئن كنت مني في العيان مغيبا * فذ كرك عندي في الفؤاد عتيد قال أبوا لجوزاء ومجاهد: يكتب على الانسان كل شئ حتى الانين في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتب إلا ما يؤ جربه أو يؤزر عليه. وقيل: يكتب عليه كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا، نحو أنطلق أقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر، والله أعلم. وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة). وقال علي رضي الله عنه: (إن لله ملائكة معهم صحف بيض فأملوا في أولها وفي أخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك). وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل ابن عبد الله قال: سمعت الاعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الامة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الامة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للاخر فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له فإذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى (ما يلفظ من قول (1) راجع ج 9 ص 178 (*)
[ 12 ]
إلا لديه رقيب عتيد)) غريب من حديث الاعمش عن زيد، لم يروه عنه إلا سهيل. وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الارض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان يا رب فأين نكون فيقول الله تعالى كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني (1) واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة). قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق) أي غمرته وشدته، فالانسان مادام حيا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعانية من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده. وقيل: الحق هو الموت سمي حقا إما لاستحقاقه وإما لا نتقاله إلي دار الحق، فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما، لان السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين. وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى، أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت. وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت، ذكره المهدوي. وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت سكرة الحق بالموت. فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والاخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نقل الحديث. قال أبو بكر الانباري: حدثنا إسمعيل بن إسحق القاضي حدثنا علي بن عبد الله حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر: * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (2) * (1) في ا، ح، ن، ه: (واذ كرانى). (2) صدر البيت: * لعمرك ما يغنى الثراء ولا الغنى * (*)
[ 13 ]
فقال أبو بكر: هلا قلت كما قال الله: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) وذكر الحديث. والسكرة واحدة السكرات. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة - أو علبة - فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات) ثم نصب يده فجعل يقول: (في الرفيق الاعلى) حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة). وقال عيسى بن مريم: (يا معشر الحواريين أدعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة) يعني سكرات الموت. وروي: (إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض). (ذلك ما كنت منه تحيد) أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه. يقال: حاد عن الشئ يحيد حيودا وحيدة وحيدودة مال عنه وعدل. وأصله حيدودة بتحريك الياء فسكنت، لانه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وتقول في الاخبار عن نفسك: حدت عن الشئ أحيد حيدا ومحيدا إذا ملت عنه، قال طرفة: أبا منذر رمت الوفاء فهبته * وحدت كما حاد البعير عن الدحض قوله تعالى: ونفخ في الصور ذالك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22) قوله تعالى: (ونفخ في الصور) هي النفخة الآخرة للبعث (ذلك يوم الوعيد) الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه. وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفى والحمد لله. (1) راجع ج 13 ص 239 وج 15 ص 279 (*)
[ 14 ]
قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) أختلف في السائق والشهيد، فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الايدي والارجل، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: السائق الملك والشهيد العمل. وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها. وقال ابن مسلم: السائق قرينها من الشياطين سمي سائقا لانه يتبعها وإن لم يحثها. وقال مجاهد: السائق والشهيد ملكان. وعن عثمان ابن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) سائق: ملك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها. قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عزوجل له إن الله لا اله غيره إذا أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيا أو سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكا أخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته فإذا جاءه الموت أرتفع ذلك (1) الملكان ثم جاء ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أو دخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة أنحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فأنشطا (2) كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتركبن طبقا عن طبق قال: (حالا بعد حال) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قدامكم أمرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم) خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرد به عنه جابر الجعفي وعنه المفضل. ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور. الثاني أنها خاصة في الكافر، قاله الضحاك. (1) كذا في جميع الاصول والدر المنثور، والظاهر أن يكون (ذانك). (2) أنشط الكتاب: حل عقدته. (*)
[ 15 ]
قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك) قال ابن زيد: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر. وهو أختيار الطبري. وقيل: أي لقد كنت أيها الانسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد، لان هذا لا يعرف إلا بالنصوص الالهية. (فكشفنا عنك غطاءك) أي عماك، وفيه أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد، قاله السدي. الثاني إذا كان في القبر فنشر. وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث وقت العرض في القيامة، قاله مجاهد. الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة. وهذا معنى قول ابن زيد. (فبصرك اليوم حديد) قيل: يراد به بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه، فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الافكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الاشخاص والاجسام. وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد، أي قوي نافذ يرى ما كان محجوبا عنك. قال مجاهد: (فبصرك اليوم حديد) يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك. وقاله الضحاك. وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب. وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرق ويعمى. وقرئ (لقد كنت) (عنك) (فبصرك) بالكسر على خطاب النفس. قوله تعالى: وقال قرينه هذا مالدى عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد مريب (25) الذى جعل مع الله الاهاء اخر فألقياه في العذاب الشديد (26) قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولاكن كان في ضلال بعيد (27) قال لا تختصموا لدى وقد قدمت اليكم بالوعيد (28) ما يبدل القول لدى وما أنا بظالم للعبيد (29)
[ 16 ]
قوله تعالى: (وقال قرينه) يعني الملك الموكل به في قول الحسن وقتادة والضحاك. (هذا ما لدى عتيد) أي هذا ما عندي من كتابة عمله معد محفوظ. وقال مجاهد: يقول هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله. وقيل: المعنى هذا ما عندي من العذاب حاضر. وعن مجاهد أيضا: قرينه الذي قيض له من الشياطين. وقال ابن زيد في رواية ابن وهب عنه: إنه فرينه من الانس، فيقول الله تعالى لقرينه: (ألقيا في جهنم) قال الخليل والاخفش: هذا كلام العرب الفصيح أن تخاطب الواحد بلفظ الاثنين فتقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وخذاه وأطلقاه للواحد. قال الفراء: تقول للواحد قوما عنا، وأصل ذلك أن أدنى، أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره أثنان فجرى كلام الرجل على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي، ثم يقول: يا صاح. قال امرؤ القيس: خليلي مرابي على أم جندب * نقض لبانات الفؤاد المعذب وقال أيضا: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل وقال آخر: فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر * وإن [ تدعاني (1) أحم عرضا ممنعا وقيل: جاء كذلك لان القرين يقع للجماعة والاثنين. وقال المازني: قوله (ألقيا) يدل على ألق ألق. وقال المبرد: هي تثنية على التوكيد، المعنى ألق ألق فناب (ألقيا) مناب التكرار. ويجوز أن يكون (ألقيا) تثنية على خطاب الحقيقة من قول الله تعالى يخاطب به الملكين. وقيل: هو مخاطبة للسائق والحافظ. وقيل: إن الاصل ألقين بالنون الخفيفة تقلب في الوقف ألفا فحمل الوصل على الوقف. وقرأ الحسن (ألقين) بالنون الخفيفة نحو قوله: (وليكونا من الصاغرين (2)) وقوله: (لنسفعا (3)). (كل كفار عنيد) (1) في الاصول: (تدعواني) وما أثبتناه هو ما عليه الرواية في تفسير الطبري والالوسى والفراء وغيرها. اكعل مافى الاصول رواية أخرى. (2) راجع ج 9 ص 184 (3) راجع ج 20 ص 125 (*)
[ 17 ]
أي معاند، قاله مجاهد وعكرمة. وقال بعضهم: العنيد المعرض عن الحق، يقال عند يعند بالكسر عنوداأي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف. (مناع للخير) يعنى الزكاة المفروضة وكل حق واجب. (معتد) في منطقه وسيرته وأمره، ظالم. (مريب) شاك في التوحيد، قاله الحسن وقتادة. يقال: أراب الرجل فهو مريب إذا جاء بالريبة. وهو المشرك يدل عليه قوله تعالى: (الذى جعل مع الله الاها آخر). وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. وأراد بقوله: (مناع للخير) أنه كان يمنع بني أخيه من الاسلام. (فألقياه العذاب الشديد) تأكيد للامر الاول. (قال قرينه ربنا ما أطغيته) يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر العنيد تبرأ منه وكذبه. (ولكن كان في ضلال بعيد) عن الحق وكان طاغيا باختياره وإنما دعوته فاستجاب لي. وقرينه هنا هو شيطانه بغير أختلاف. حكاه المهدوي. وحكى الثعلبي قال ابن عباس ومقاتل: قرينه الملك، وذلك أن الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب سيئاته: رب إنه أعجلني، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما أعجلته. وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر رب إنه زاد علي في الكتابة، فيقول الملك: ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه في الكتابة، فحينئذ يقول الله تعالى: (لا تختصموا لدى) يعني الكافرين وقرناءهم من الشياطين. قال القشيري: وهذا يدل على أن القرين الشيطان. (وقد قدمت اليكم بالوعيد) أي أرسلت الرسل. وقيل: هذا خطاب لكل من أختصم. وقيل: هو للاثنين وجاء بلفظ الجمع. (ما يبدل القول لدى) قيل هو قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها (1)) وقيل هو قوله: (لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين (2)). وقال الفراء: ما يكذب عندي أي ما يزاد في القول ولا ينقص لعلمي بالغيب. (وما أنا بظلام للعبيد) أي ما أنا بمعذب من لم يجرم، قاله ابن عباس. وقد مضى القول في معناه في (الحج (3)) وغيرها. (1) راجع ج 7 ص 150. (2) راجع ج 14 ص 96. (3) راجع ج 12 ص 16 وج 15 ص 370. (*)
[ 18 ]
قوله تعالى: يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد (30) وألفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشى الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلام ذالك يوم الخلود (34) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (35) قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) قرأ نافع وأبو بكر (يوم يقول) بالياء أعتبارا بقوله: (لا تختصموا لدي). الباقون بالنون على الخطاب من الله تعالى وهي نون العظمة (1). وقرأ الحسن (يوم أقول). وعن ابن مسعود وغيره (يوم يقال). وأنتصب (يوم) علي معنى ما يبدل القول لدي يوم. وقيل: بفعل مقدر معناه: وأنذرهم (يوم نقول لجهنم هل أمتلات) لما سبق من وعده إياها أنه يملؤها. وهذا الاستفهام على سبيل التصديق لخبره، والتحقيق لوعده، والتقريع لاعدائه، والتنبيه لجميع عباده. (وتقول) جهنم (هل من مزيد) أي ما بقي في موضع للزيادة، كقوله عليه السلام: (هل ترك لنا عقيل من ربع أو منزل) أي ما ترك، فمعنى الكلام الجحد. ويحتمل أن يكون أستفهاما بمعنى الاستزادة، أي هل من مزيد فأزداد ؟. وإنما صلح هذا للوجهين، لان في الاستفهام ضربا من الجحد. وقيل: ليس ثم قول وإنما هو على طريق المثل، أي إنها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة بذلك، كما قال الشاعر: أمتلا الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملات بطني وهذا تفسير مجاهد وغيره. أي هل في من مسلك قد امتلات. وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح. وهذا أصح على ما بيناه في سورة (الفرقان (2)). وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (1) في ن، ه: (التعظيم). (2) راجع ج 13 ص 10. (*)
[ 19 ]
(لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي (1) بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) لفظ مسلم. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: (وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله يقول لها قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا). قال علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم، يقال: رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، قال الشاعر: فمر بنا رجل من الناس وانزوى * إليهم من الحي اليمانين أرجل قبائل من لخم وعكل وحمير * على آبنى نزار بالعداوة أحفل ويبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى [ كل واحد منهم (2) ] ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد قال الخزنة: قط قط حسبنا حسبنا أي أكتفينا أكتفينا، وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم، ويشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث: (ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) وقد زدنا هذا المعنى بيانا ومهدناه في كتاب الاسماء والصفات من الكتاب الاسنى والحمد لله. وقال النضر بن شميل في معنى قوله عليه السلام: (حتى يضع الجبار فيها قدمه) أي من سبق في علمه أنه من أهل النار. قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) أي فربت منهم. وقيل: هذا قبل الدخول في الدنيا، أي قربت من قلوبهم حين قيل لهم اجتنبوا المعاصي. وقيل: بعد الدخول (1) ينزوى بعضها إلى بعض: أي تنقبض على من فيها، وتشتغل بعذابهم، وتكف عن سؤال هل من مزيد. (هامش مسلم). (2) الزيادة من ن. (*)
[ 20 ]
قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. (غير بعيد) أي منهم وهذا تأكيد. (هذا ما توعدون) أي ويقال لهم هذا الجزاء الذي وعدتم في الدنيا على ألسنة الرسل. وقراءة العامة (توعدون) بالتاء على الخطاب. وقرأ ابن كثير بالياء على الخبر، لانه أتى بعد ذكر المتقين. (لكل أواب حفيظ) أواب أي رجاع إلى الله عن المعاصي، ثم يرجع يذنب ثم يرجع، هكذا قاله الضحاك وغيره. وقال ابن عباس وعطاء: الاواب المسبح من قوله: (يا جبال أوبي معه (1)). وقال الحكم بن عتيبة: هو الذاكر لله تعالى في الخلوة. وقال الشعبي ومجاهد: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. وهو قول ابن مسعود. وقال عبيد بن عمير: هو الذي لا يجلس مجلسا حتى يستغفر الله تعالى فيه. وعنه قال: كنا نحدث أن الاواب الحفيظ الذي إذا قام من مجلسه قال سبحان الله وبحمده، اللهم إني أستغفرك مما أصبت في مجلسي هذا. وفي الحديث: (من قال إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر الله له ما كان في ذلك المجلس). وهكذا كان النبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول. وقال بعض العلماء: أنا أحب أن أقول أستغفرك وأسألك التوبة، ولا أحب أن أقول وأتوب إليك إلا على حقيقته. قلت: هذا استحسان وأتباع الحديث أولى. وقال أبو بكر الوراق: هو المتوكل على الله في السراء والضراء. وقال القاسم: هو الذي لا يشتغل إلا بالله عزوجل. (حفيظ) قال ابن عباس: هو الذي حفظ ذنوبه حتى يرجع عنها. وقال قتادة: حفيظ لما أستودعه الله من حقه ونعمته وأتمنه عليه. وعن ابن عباس أيضا: هو الحافظ لامر الله. مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولنعمه بالشكر. قال الضحاك: هو الحافظ لوصية الله تعالى بالقبول. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أوابا حفيظا) ذكره الماوردي. قوله تعالى: (من خشى الرحمن بالغيب) (من) في محل خفض على البدل من قوله: (لكل أواب حفيظ) أوفي موضع الصفة ل (أواب). ويجوز الرفع على الاستئناف، والخبر (1) راجع ج 14 ص 264 (*)
[ 21 ]
(ادخلوها) على تقدير حذف جواب الشرط والتقدير فيقال لهم: (أدخلوها). والخشية بالغيب أن تخافه ولم تره. وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين لا يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. (وجاء بقلب منيب) مقبل على الطاعة. وقيل: مخلص. وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. قلت: ويحتمل أن يكون القلب المنيب القلب السليم، كما قال تعالى: (إلا من أتى الله بقلب سليم) على ما تقدم (1)، والله أعلم. (ادخلوها) أي يقال لاهل هذه الصفات: (أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود) أي بسلامة من العذاب. وقيل: بسلام من الله وملائكته عليهم. وقيل: بسلامة من زوال النعم. وقال: (أدخلوها) وفي أول الكلام (من خشي)، لان (من) تكون بمعنى الجمع. قوله تعالى: (لهم ما يشاءون فيها) يعني ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. (ولدينا مزيد) من النعم مما لم يخطر على بالهم. وقال أنس وجابر: المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى (2) وزيادة) قال: الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم. وذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام، قالا: أخبرنا المسعودي عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله ابن عتبة عن ابن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله تبارك وتعالى يبرز لاهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب. قال ابن المبارك: على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وقال يحيى بن سلام: لمسارعتهم إلى الجمع في الدنيا، وزاد (فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك). قال يحيى: وسمعت غير المسعودي يزيد فيه قوله تعالى: (ولدينا مزيد). (1) راجع ج 13 ص 114. (2) راجع ج 8 ص 330. (*)
[ 22 ]
قلت: قوله (في كثيب) يريد أهل الجنة، أي وهم على كثب، كما في مرسل الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ينظرون ربهم في كل يوم جمعة على كثيب من كافور) الحديث. وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة). وقيل: إن المزيد ما يزوجون به من الحور العين، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا. قوله تعالى: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) ان في ذالك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37) ولقد خلقنا السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38) قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشد منهم بطشا وقوة. (فنقبوا في البلاد) أي ساروا فيها طلبا للمهرب. وقيل: أثروا في البلاد، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل: دوروا. وقال قتادة: طوفوا. وقال المؤرج تباعدوا، ومنه قول امرئ القيس: وقد نقبت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالاياب ثم قيل: طافوا في أقاصي البلاد طلبا للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصا ؟. وقيل: طوفوافي البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بن حلزة: نقبوا في البلاد من حذرالمو * ت وجالوا في الارض كل مجال وقرأ الحسن وأبو العالية (فنقبوا) بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو الخرق والدخول في الشئ. وقيل: النقب الطريق في الجبل، وكذلك المنقب والمنقبة، عن ابن السكيت. ونقب الجدار نقبا، واسم تلك النقبة نقب أيضا، وجمع النقب النقوب، أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل: أثروا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرأ السلمي يحيى بن يعمر (فنقبوا) بكسر القاف والتشديد على الامر بالتهديد والوعيد، أي طوفوا البلاد وسيروا
[ 23 ]
فيها فانظروا (هل من) الموت (محيص) ومهرب، ذكره الثعلبي. وحكى القشيري (فنقبوا) بكسر القاف مع التخفيف، أي أكثروا السير فيها حتى نقبت دوابهم الجوهري: ونقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، وأنقب الرجل إذا نقب بعيره، ونقب الخف الملبوس أي تخرق. والمحيص مصدر حاص عنه يحيص حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا، أي عدل وحاد. يقال: ما عنه محيص أي محيد ومهرب. والانحياص مثله، يقال للاولياء: حاصوا عن العدو وللاعداء أنهزموا. قوله تعالى: (ان في ذلك لذكرى) أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة (لمن كان له قلب) أي عقل يتدبر به، فكنى بالقلب عن العقل لانه موضعه، قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب، لانه وطنها ومعدن حياتها، كما قال أمرؤ القيس: أغرك مني أن حبك قاتلي * وأنك مهما تأمري القلب يفعل وفي التنزيل: (لينذر من كان حيا (1)). وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان، قلب محتش بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الامور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد أحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. (أو ألقى السمع) أي أستمع القرآن. تقول العرب: ألق إلى سمعك أي أستمع. وقد مضى في (طه (2)) كيفية الاستماع وثمرته. (وهو شهيد) أي شاهد القلب، قال الزجاج: أي قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان: أي لا يكون حاضرا وقلبه غائب. ثم قيل: الآية لاهل الكتاب، قاله مجاهد وقتادة. وقال الحسن: إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال محمد ابن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة. قوله تعالى: (ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) تقدم في (الاعراف (3)) وغيرها. واللغوب التعب والاعياء، تقول منه: لغب (1) راجع ج 15 ص 55 (2) راجع ج 11 ص 176 (3) راجع ج 7 ص 218 (*)
[ 24 ]
يلغب بالضم لغوبا، ولغب بالكسر يلغب لغوبا لغة ضعيفة فيه. وألغبته أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة، زعموا أن الله تعالى خلق السموات والارض في ستة أيام، أولها يوم الاحد وآخرها يوم الجمعة، وأستراح يوم السبت، فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك. قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن اليل فسبحه وأدبار السجود (40) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فاصبر على ما تقولون) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره بالصبر على ما يقوله المشركون، أي هون أمرهم عليك. ونزلت قبل الامر بالقتال فهي منسوخة. وقيل: هو ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وقيل معناه: فاصبر على ما يقوله اليهود من قولهم: إن الله استراح يوم السبت. الثانية - قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) قيل: إنه أراد (1) به الصلوات الخمس. قال أبو صالح: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل الغروب صلاة العصر. ورواه جرير بن عبد الله مرفوعا، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: (أما انكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن أستطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني العصر والفجر ثم قرأ جرير - (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها (2))) متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال ابن عباس: (قبل الغروب) الظهر والعصر. (ومن الليل فسبحه) يعني صلاة العشاءين. وقيل: المراد تسبيحه بالقول تنزيها قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، قاله عطاء الخراساني وأبو الاحوص. وقال بعض العلماء في قوله: (قبل طلوع الشمس) قال ركعتي الفجر (وقبل الغروب) الركعتين قبل المغرب، وقال ثمامة (1) في ح، ه ن: (يراد). (2) راجع ج 11 ص 261. (*)
[ 25 ]
ابن عبد الله بن أنس: كان ذوو الالباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصلون الركعتين قبل المغرب. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري (1) فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلي الركعتين إلا أنسا وأبا برزة الاسلمي. الثالثة - قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وأدبار السجود) فيه أربعة أقوال: الاول - هو تسبيح الله تعالى في الليل، قال أبو الاحوص. الثاني - أنها صلاة الليل كله، قال مجاهد. الثالث - أنها ركعتا الفجر، قاله ابن عباس. الرابع - أنها صلاة العشاء الآخرة، قاله ابن زيد. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح في الليل فيعضده الصحيح (من تعار (2) من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم). وأمامن قال إنها الصلاة بالليل فإن الصلاة تسمى تسبيحا لما فيها من تسبيح الله، ومنه سبحة الضحى. وأما من قال إنها صلاة الفجر أو العشاء فلانهما من صلاة الليل، والعشاء أوضحه. الرابعة - قوله تعالى: (وأدبار السجود) قال عمر وعلي وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والاوزاعي والزهري: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقد رفعه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتان بعد المغرب أدبار السجود) ذكره الثعلبي. ولفظ الماوردي: وروي عن ابن عباس قال: بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: (يا بن عباس ركعتان قبل الفجر أدبار النجوم وركعتان بعد المغرب أدبار السجود). وقال أنس: قال النبي صلى الله (1) ابتدروا السوارى: أي سارعوا إليها، والسوارى جمع السارية وهى العمود، أي يقف كل مصل خلف العمود لئلا يقع المرور بين يديه في صلاته منفردا. (2) تعار: استيقظ. (*)
[ 26 ]
عليه وسلم (من صلى ركعتين بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين). قال أنس فقرأ في الركعة الاولى (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد) قال مقاتل: ووقتها ما لم يغرب الشفق الاحمر. وعن ابن عباس أيضا: هو الوتر. قال ابن زيد: هو النوافل بعد الصلوات، ركعتان بعد كل صلاة مكتوبة، قال النحاس: والظاهر يدل على هذا إلا أن الاولى اتباع الاكثر وهو صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال أبو الاحوص: هو التسبيح في أدبار السجود. قال ابن العربي وهو الاقوى في النظر. وفي صحيح الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذاالجد منك الجد (1)) وقيل: إنه منسوخ بالفرائض فلا يجب على أحد إلا خمس صلوات، نقل ذلك الجماعة. الخامسة - قرأ نافع وابن كثير وحمزة (وإدبار السجود) بكسر الهمزة على المصدر من أدبر الشئ إدبارا إذا ولى. الباقون بفتحها جمع دبر. وهي قراءة علي وابن عباس، ومثالها طنب وأطناب، أو دبر كقفل وأقفال. وقد استعملوه ظرفا نحو جئتك في دبر الصلاة وفي أدبار الصلاة. ولا خلاف في آخر (والطور). (وإدبار النجوم) أنه بالكسر مصدر، وهو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل. قوله تعالى: واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذالك يوم الخروج (42) انا نحن نحى ونمميت والينا المصير (43) يوم تشقق الارض عنهم سراعا ذالك حشر علينا يسير (44) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد (45) (1) (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي لا ينفع ذا الغنى منك غنا (ه وانما ينفعه الايمان والطاعة. (النهاية لاين الاثير). (*)
[ 27 ]
قوله تعالى: (واستمع يوم ينادى المنادى من مكان قريب) مفعول الاستماع محذوف، أي استمع النداء والصوت أو الصيحة وهي صيحة القيامة، وهي النفخة الثانية، والمنادي جبريل. وقيل: إسرافيل. الزمخشري: وقيل إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي، فينادي بالحشر ويقول: هلموا إلى الحساب فالنداء على هذا في المحشر. وقيل: واستمع نداء الكفار بالويل والثبور من مكان قريب، أي يسمع الجميع فلا يبعد أحد عن ذلك النداء. قال عكرمة: ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم. وقيل: المكان القريب صخرة بيت المقدس. ويقال: إنها وسط الارض وأقرب الارض من السماء باثني عشر ميلا. وقال كعب: بثمانية عشر ميلا، ذكر الاول القشيري والزمخشري، والثاني الماوردي. فيقف جبريل أو إسرافيل على الصخرة فينادي بالحشر: أيتها العظام البالية، والاوصال المتقطعة، ويا عظاما نخرة، ويا أكفانا فانية، ويا قلوبا خاوية، ويا أبدانا فاسدة، ويا عيونا سائلة، قومو العرض رب العالمين. قال قتادة: هو إسرافيل صاحب الصور. (يوم يسمعون الصيحة بالحق) يعني صيحة البعث. ومعنى (الخروج) الاجتماع إلى الحساب. (ذلك يوم الخروج) أي يوم الخروج من القبور. (انا نحن نحيى ونميت) نميت الاحياء ونحيي الموتى، أثبت هنا الحقيقة (يوم تشقق الارض عنهم سراعا) إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس. (ذلك حشر علينا يسير) أي هين سهل. وقرأ الكوفيون (تشقق) بتخفيف الشين على حذف التاء الاولى. الباقون بإدغام التاء في الشين. وأثبت ابن محيصن وابن كثير ويعقوب ياء (المنادي) في الحالين على الاصل، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل لا غير، وحذف الباقون في الحالين. قلت: وقد زادت السنة هذه الآية بيانا، فروى الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره، قال وأشار بيده إلى الشام فقال: (من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه) في رواية أخرى (فخذه وكفه) وخرج علي بن معبد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره:
[ 28 ]
ثم يقول - يعني الله تعالى - لاسرافيل: (أنفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الارواح كأمثال النحل قد ملات ما بين السماء والارض فيقول الله عزوجل وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الارواح في الارض إلى الاجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الاجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الارض عنكم وأنا أول من تنشق عنه الارض فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين واللسان يومئذ بالسريانية) وذكر الحديث، وقد ذكرنا جميع هذا وغيره في (التذكرة) مستوفى والحمد لله. قوله تعالى: (نحن أعلم بما يقولون) أي من تكذيبك وشتمك. (وما أنت عليهم بجبار) أي بمسلط تجبرهم على الاسلام، فتكون الآية منسوخة بالامر بالقتال. والجبار من الجبرية والتسلط إذ لا يقال جبار بمعنى مجبر، كما لا يقال خراج بمعنى مخرج، حكاه القشيري. النحاس: وقيل معنى جبار لست تجبرهم، وهو خطأ لانه لا يكون فعال من أفعل. وحكى الثعلبي: وقال ثعلب قد جاءت احرف فعال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبار بمعنى مجبر، ودراك بمعنى مدرك، وسراع بمعنى مسرع، وبكاء بمعنى مبك، وعداء بمعنى معد. وقد قرئ (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (1)) بتشديد الشين بمعنى المرشد وهو موسى. وقيل: هو الله. وكذلك قرئ (أما السفينة فكانت لمساكين (2)) يعني ممسكين. وقال أبو حامد الخار زنجي (3): تقول العرب: سيف سقاط بمعنى مسقط. وقيل: (بجبار) بمسيطر كما في الغاشية (4) (لست عليهم بمصيطر). وقال الفراء: سمعت من العرب من يقول جبره على الامر أي قهره، فالجبار من هذه اللغة بمعنى القهر صحيح. قيل: الجبار من قولهم جبرته على الامر أي أجبرته وهي لغة كنانية وهما لغتان. الجوهري: وأجبرته على الامر أكرهته عليه، وأجبرته أيضا نسبته إلى [ الجبر، كما تقول أكفرته إذا نسبته إلى الكفر (5) ]. (فذ كر بالقرآن من يخاف وعيد) قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) أي ما أعددته لمن عصاني من العذاب، فالوعيد العذاب والوعد الثواب، قال الشاعر: (1) راجع ج 15 ص 310. (2) راجع ج 11 ص 34. (3) الخارزنجى: نسبة إلى خارزنج قرية بنواحي نيسابور. (4) راجع ج 20 ص 37. (5) الزيادة من الصحاح الجوهرى. (*)
[ 29 ]
وإني وإن أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وكان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وأثبت الياء في (وعيدي) يعقوب في الحالين، وأثبتها ورش في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. والله أعلم. تم تفسير سورة (ق) والحمد لله. سورة والذاريات مكية في قول الجميع، وهى ستون آية بسم الله الرحمن الرحيم والذاريات ذروا (1) فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4) انما توعدون لصادق (5) وان الدين لواقع (6) قوله تعالى: (والذاريات ذروا) قال أبو بكر الانباري: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، عن يزيد ابن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: إني مررت برجل (1) يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه، فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما (الذاريات ذروا) فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه، ثم ليقم خطيبا فليقل: إن صبيغا (1) طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن أبن الكواء سأل عليا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المومنين ما (الذاريات ذروا) [ قال ]: ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا (والذاريات ذروا) الرياح (فالحاملات وقرا) السحاب (فالجاريات يسرا) السفن (فالمقسمات أمرا) الملائكة. وروى الحرث عن علي رضي الله عنه (والذاريات ذروا) (1) هو صبيغ - كأمير - بن عسل - بكسر العين - كان يعنت الناس بالغوامض والسؤلات من متشابه القرآن فنفاه عمر إلى البصرة بعد ضربه، وكتب إلى واليها الا يؤويه، ونهى عن مجالسته (التاج). (*)
[ 30 ]
قال: الرياح (فالحاملات وقرا) قال: السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الاربع الوقر (فالجاريات يسرا) قال: السفن موقرة (فالمقسمات أمرا) قال: الملائكة تأتي بأمر مختلف، جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت. وقال الفراء: وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث (1). ويقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل: (والذاريات) وما بعده أقسام، وإذا أقسم الرب بشئ أثبت له شرفا. وقيل: المعنى ورب الذاريات، والجواب (إنما توعدون) أي الذى توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب (لصادق) لاكذب فيه، ومعنى (لصادق) لصدق، وقع الاسم موقع المصدر. (وان الدين لواقع) يعنى الجزاء نازل (2) بكم. ثم ابتدا أقسما آخر فقال: (والسماء ذات الحبك. انكم لفى قول مختلف) وقيل: إن الذاريات النساء الولدات لان في ذرايتهن ذرو الخلق، لانهن يذرين الاولاد فصرن ذاريات، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لامرين: أحدهما لانهن أوعية دون الرجال، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر. الثاني - أن الذرو فيهن أطول زمانا، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. (فالحاملات وقرا) السحاب. وقيل: الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن، يقال: جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه أمرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها، يقال: نخلة موقرة وموقر وموقرة، وحكي موقر وهو على غير القياس، لان الفعل للنخلة. وإنما قيل: موقر بكسر القاف على [ قياس (3) ] قولك أمرأة حامل، لان حمل الشجر مشبه بحمل النساء، فأما موقر بالفتح فشاذ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا: عصب كوارع في خليج محلم * حملت فمنها موقر مكموم (1) في ل، ن: (الخوارق). (2) في ز، ل، ن: (النازل). (3) الزيادة من كتب اللغة. (*)
[ 31 ]
والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الاذن، وقد وقرت أذنه توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في (الانعام (1) القول فيه. (فالجاريات يسرا) السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت. وقيل: السحاب، وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان: أحدهما - إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع. الثاني - هو سهولة تسييرها، وذلك معروف عند العرب، كما قال الاعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها * مشي السحابة لا ريث ولا عجل قوله تعالى: والسماء ذات الحبك (7) انكم لفى قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9) قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسئلون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا الذى كنتم به تستعجلون (14) قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك) قيل: المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الارض. وقيل: السماء المرفوعة. ابن عمر: هي السماء السابعة، ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم. وفي (الحبك) أقوال سبعة: الاول - قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي. وقاله عكرمة، قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الاعرابي: كل شئ أحكمته وأحسنت عمله فقد أحتبكته. والثاني - ذات الزينة، قاله الحسن وسعيد بن جبير، وعن الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع - قال الضحاك: ذات الطرائق، يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء، قال: الحبك تكسر كل شئ كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم (1) راجع ج 6 ص 404. (*)
[ 32 ]
إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك. وفي حديث الدجال: أن شعره حبك. قال زهير: مكلل بأصول النجم تنسجه * ريح خريق لضاحي مائه حبك (1) ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس - ذات الشدة، قاله ابن زيد، وقرأ (وبنينا فوقكم سبعا شدادا (2)). والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره، قال امرؤ القيس: قد غدا يحملني في أنفه * لا حق الاطلين (3) محبوك ممر وقال آخر: مرج الدين فأعددت له * مشرف الحارك محبوك الكتد (4) وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة، أي تشد الازار وتحكمه. السادس - ذات الصفاقة، قاله خصيف، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة. السابع: أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء، سميت بذلك لانها كأثر المجر. و (الحبك) جمع حباك، قال الراجز: كأنما جللها الحواك * طنفسة في وشيها حباك والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: (ذات الحبك) (الحبك) و (الحبك) و (الحبك) والحبك والحبك [ وقرأ أيضا (الحبك) ] كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز (الحبك). و (الحبك) واحدتها حبيكة، (والحبك) مخفف منه. و (الحبك) واحدتها حبكة. ومن قرأ (الحبك) فالواحدة حبكة كبرقة وبرق أو حبكة كظلمة وظلم. ومن قرأ (الحبك) فهو كإبل وإطل (3) و (الحبك) مخففة منه. (1) النجم: كل شئ من النبات ليس له ساق ينبت حول الماء كالا كليل. ريح خريق: شديدة. لضاحى مائه: ماضحا للشمس من الماء أي برز. والبيت في وصف غدير. (2) راجع ج 19 ص 169 (3) الاطل: الخاصرة كلها. وقيل: غير ذلك. (4) البيت لابي دؤاد يصف فرسا. والكتد - بفتح التاء وكسرها -: مجتمع الكتفين من الانسان والفرس. (*)
[ 33 ]
ومن قرأ (الحبك) فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور (الحبك) فضم الباء. وقال جميعه المهدوي. قوله تعالى: (انكم لفى قول مختلف) هذا جواب القسم الذي هو (والسماء) أي إنكم يا أهل مكة (في قول مختلف) في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب. وقيل: نزلت في المقتسمين. وقيل: أختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل أفتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الاولين. وقيل: أختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه. وقيل: المراد عبدة الاوثان والاصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. قوله تعالى: (يؤفك عنه من أفك) أي يصرف عن الايمان بمحمد والقرآن من صرف، عن الحسن وغيره. وقيل: المعنى يصرف عن الايمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الاولين. وقيل: المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه أفكا أي قلبه وصرفه عن الشئ، ومنه قوله تعالى: (أجئتنا لتأ فكنا (1)) وقال مجاهد: معنى (يؤفك عنه من أفك) يؤفن عنه من أفن، والافن فساد العقل. الزمخشري: وقرئ (يؤفن عنه من أفن) أي يحرمه من حرم، من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا. وقال قطرب: يخدع عنه من خدع. وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف. قوله تعالى: (قتل الخراصون) في التفسير: لعن الكذابون. وقال ابن عباس: أي قتل المرتابون، يعني الكهنة. وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى (قتل) أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين. وقال الفراء: معنى (قتل) لعن، قال: و (الخراصون) الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون، فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب ساحر شاعر، وهذا دعاء عليهم، لان من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الانباري: علمنا الدعاء عليهم، أي قولوا: (قتل الخراصون) وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب، (1) راجع ج 16 ص 205 (*)
[ 34 ]
يقال: خرص واخترص، وخلق واختلق، وبشك وابتشك، وسرج واسترج، ومان، بمعنى كذب، حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر، يقال: كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. وأصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في (الانعام (1)) ومنه الخريص للخليج، لانه ينقطع إليه الماء، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة، لانقطاعها عن أخواتها، والخرص العود، لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لانه ينقطع به، يقال: خرص الرجل بالكسر فهو خرص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين. وقال ابن عباس: هم المقتسمون الذين أقتسموا أعقاب مكة، واقتسموا القول في نبي الله صلى الله عليه وسلم، ليصرفوا الناس عن الايمان به. قوله تعالى: (الذين هم في غمرة ساهون) الغمرة ما ستر الشئ وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله، ومنه غمرات الموت. (ساهون) أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. قوله تعالى: (يسألون أيان يوم الدين) أي متى يوم الحساب، يقولون ذلك أستهزاء وشكا في القيامة. (يوم هم على النار يفتنون) نصب (يوم) على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء (يوم هم على النار يفتنون) أي يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره، وأصل الفتنة الاختبار. وقيل: إنه مبني بني لاضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدم، أو رفع على البدل من (يوم الدين). وقال الزجاج: يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع. وقال ابن عباس: (يفتنون) يعذبون. ومنه قول الشاعر: كل امرئ من عباد الله مضطهد * ببطن مكة مقهور ومفتون (1) راجع ج 7 ص 71 (*)
[ 35 ]
قوله تعالى: (ذوقوا فتنتكم) أي يقال لهم ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم (الذى كنتم به تستعجلون) في الدنيا. وقال: (هذا) ولم يقل هذه، لان الفتنة هنا بمعنى العذاب. قوله تعالى: ان المتقين في جنات وعيون (15) ءاخذين ما آتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذالك محسنين (16) قوله تعالى: (ان المتقين في جنات وعيون) لما ذكر مآل الكفار ذكر مآل المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. (آخذين) نصب على الحال. (ما آتاهم ربهم) أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات، قاله الضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: (آخذين ما آتاهم ربهم) أي عاملين بالفرائض. (انهم كانوا قبل ذلك) أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا (محسنين) بالفرائض. وقال ابن عباس: المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم. قوله تعالى: كانوا قليلا من اليل ما يهجون (17) وبالاسحار هم يستغفرون (18) وفى أموالهم حق للسائل والمحروم (19) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) معنى (يهجعون) ينامون، والهجوع النوم ليلا، والتهجاع النومة الخفيفة، قال أبو قيس بن الاسلت: قد حصت البيضة رأسي فما * أطعم نوما غير تهجاع وقال عمرو بن معدى كرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة: أمن ريحانة الداعي السميع * يؤرقني وأصحابي هجوع يقال: هجع يهجع هجوعا، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام، قاله الجوهري. وأختلف في (ما) فقيل: صلة زائدة - قاله إبراهيم النخعي - والتقدير كانوا قليلا من الليل
[ 36 ]
يهجعون، أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر (1) يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة (قم الليل إلا قليلا (2)). الاية. وقيل: ليس (ما) صلة بل الوقف عند قوله: (قليلا) ثم يبتدئ (من الليل ما يهجعون) ف (ما) للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: أختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: (كانوا قليلا) معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال: (من الليل ما يهجعون) على معنى من الليل يهجعون، قال ابن الانباري: وهذا فاسد، لان الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلو ابتدأنا (من الليل ما يهجعون) على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم، لان الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون (ما) جحدا. قلت: وعلى ما تأوله بعض الناس - وهو قول الضحاك - من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) أي كان المحسنون قليلا، ثم استأنف فقال: (من الليل ما يهجعون) وعلى التأويل الاول والثاني يكون (كانوا قليلا من الليل) خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على (ما يهجعون)، وكذلك إن جعلت (قليلا) خبر كان وترفع (ما) بقليل، كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. ف (ما) يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل، وانتصاب قوله: (قليلا) إن قدرت (ما) زائدة مؤكدة ب (يهجعون) على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون، وإن لم تقدر (ما) زائدة كان قوله: (قليلا) خبر كان ولم يجز نصبه ب (يهجعون)، لانه إذا قدر نصبه ب (يهجعون) مع تقدير (ما) مصدرا قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلون بين العشاءين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب. وقال مجاهد: (1) في ز، ل، ن: (أبو بكر). (2) راجع ج 19 ص 32 (*)
[ 37 ]
نزلت في الانصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم يمضون إلى قباء. وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن: كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة. وقال ابن عباس ومطرف: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها. الثانية - روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه آت في منامه فأنشده: وكيف تنام الليل عين قريرة * ولم تدر في أي المجالس تنزل وروي عن رجل من الازد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في أخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم، فقلت لهما: أكسواني من حللكما هذا، فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة ! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الاذان والاقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواما على نجائب فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة ؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربالله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب، قال: فصحت في منامي: واها للعابدين، ما أشرف مقامهم ! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف. الثالثة - قوله تعالى: (بالاسحارهم يستغفرون) مدح ثان، أي يستغفرون من ذنوبهم، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في (آل عمران (1)) القول فيه. وقال ابن عمرو مجاهد: أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة أستغفارا. وقال الحسن في قوله تعالى: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) مدوا الصلاة من أول الليل (1) راجع ج 4 ص 38 (*)
[ 38 ]
إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب: هي في الانصار، يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب قالوا: كانوا ينضحون لناس من الانصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الاحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. الرابعة - قوله تعالى: (وفى أموالهم حق للسائل والمحروم) مدح ثالث. قال محمد بن سيربن وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة. وقيل: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلا، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس، لان السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي: والاقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة (سأل سائل): (والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم (1)) والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم، لانه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت. الخامسة - قولة تعالى: (للسائل والمحروم) السائل الذي يسأل الناس لفاقته، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما. (والمحروم) الذي حرم المال. واختلف في تعيينه، فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: المحروم المحارف الذي ليس له في الاسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه، يقال: رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه. وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته. وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: المحروم الذي يجئ بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية (وفي أموالهم). وقال (1) راجع ج 18 ص 291 (*)
[ 39 ]
عكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته. وقال القرظي: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ (إن لمغرمون. بل نحن محرومون) نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: (بل نحن محرومون) وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فأقسموا له. وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا. وقال عبد الرحمن بن حميد: المحروم المملوك. وقيل: إنه الكلب، روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الانساب، لانه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره. وروى ابن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن، لانه يعم جميع الاقوال. وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ أحتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الاحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع، من الحرمان وهو المنع. قال علقمة: ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه * أنى توجه والمحروم محروم وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للاغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لاقربنكم ولابعدنهم) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) ذكره الثعلبي. قوله تعالى: وفى الارض ءايات للموقنين (20) وفى أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفى السماء رزقكم وما توعدون (22) فورب السماء والارض انه لحق مثل ما أنكم تنطقون (23) قوله تعالى: (وفى الارض آيات للموقنين) لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الارض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور، فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه
[ 40 ]
قدرا لاقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالامم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم، خصهم بالذكر لانهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. قوله تعالى: (وفى أنفسكم أفلا تبصرون) قيل: التقدير وفي الارض وفي أنفسكم آيات للموقنين. وقال قتادة: المعنى من سار في الارض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد: المراد سبيل الخلاء والبول. وقال السائب ابن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين، ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط، فتلك الآية في النفس. وقال ابن زيد: المعنى أنه خلقكم من تراب، وجعل لكم السمع والابصار والافئدة (ثم إذا أنتم بشر (1) تنتشرون). السدي: (وفي أنفسكم) أي في حياتكم وموتكم، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن: وفي الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والشيب بعد السواد. وقيل: المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي أختلاف الالسنة والالوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز (2) فيها من العقول، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون، وبالالسن والنطق ومخارج الحروف والابصار والاطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الاعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، وأنه إذا جسا (3) شئ منها جاء العجز، وإذا أسترخى أناخ الذ ل (فتبارك الله أحسن الخالقين (4)). (أفلا تبصرون) يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته. وقيل: إنه نجح العاجز، وحرمان الحازم. قلت: كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة (البقرة (5) أن ما في بدن الانسان الذي هو العالم الصغير شئ إلا وله نظير في العالم الكبير، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر. (1) راجع ج 14 ص 17 (2) في الاصل المطبوع: (وما فيها من العقول). (3) جست اليد تيبست عظامها وقل لحمها. (4) راجع ج 12 ص 110 (5) راجع ج 2 ص 202 (*)
[ 41 ]
قوله تعالى: (وفى السماء رزقكم وما توعدون) قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هناما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير: كل عين قائمة فإنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لاصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم. وقال أهل المعاني: (وفي السماء رزقكم) معناه وفي المطر رزقكم، سمي المطر سماء لانه من السماء ينزل. قال الشاعر (1): إذا سقط السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم، نظيره: (وما من دابة في الارض) إلا على الله رزقها (2)). وقال سفيان الثوري: (وفي السماء رزقكم) أي عند الله في السماء رزقكم. وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال: قرأ واصل الاحدب (وفي السماء رزقكم) فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الارض ! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة (3) رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرأ ابن محيصن ومجاهد (وفي السماء رازقكم) بالالف وكذلك في أخرها (إن الله هو الرازق. (وما توعدون) قال مجاهد: يعني من خير وشر. وقال غيره: من خير خاصة. وقيل: الشر خاصة. وقيل: الجنة، عن سفيان بن عيينة. الضحاك: (وما توعدون) من الجنة والنار. وقال ابن سيرين: (وما توعدون) من أمر الساعة. وقاله الربيع. قوله تعالى: (فورب السماء والارض انه لحق) أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله: (مثل ما أنكم تنطقون) وخص النطق من بين سائر الحواس، لان ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي (1) هومعود الحكماء معاوية بن مالك، وسمى معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة: أعود مثلها الحكماء بعدى * إذا ما الحق في الحدثان نابا (2) راجع ج 9 ص 6 (3) الدوخلة (بتشديد اللام وتخفيفها): سفيفة من خوص يوضع فيها التمرو الرطب. (*)
[ 42 ]
يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الاذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لانه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به. وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره. وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: (فورب السماء والارض إنه لحق). وقال الاصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل ؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الاصمعي ؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت ؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟ قلت: نعم، قال: فآتل علي منه شيئا، فقرأت (والذاريات ذروا) إلى قوله: (وفي السماء رزقكم) فقال: يا أصمعي حسبك ! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: (وفي السماء زرقكم وما توعدون) فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالاعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي وقال: أتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت (والذاريات) حتى وصلت إلى قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) فقال الاعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا ؟ قلت: نعم، يقول الله تبارك وتعالى: (فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) قال فصاج الاعرابي وقال: يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف ! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه. وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شئ فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم
[ 43 ]
فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت) أسنده الثعلبي. وفي سنن ابن ماجة عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: (لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الانسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر (1) ثم يرزقه الله). وروي أن قوما من الاعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لاجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رءوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء ! ثم أنشأت تقول: لو كان في صخرة في البحر راسية * صما ململمة ملسا نواحيها رزق لنفس براها الله لانفلقت * حتى تؤدي إليها كل ما فيها أو كان بين طباق السبع مسلكها * لسهل الله في المرقى مراقيها حتى تنال الذي في اللوح خط لها * إن لم تنله وإلا سوف يأتيها قلت: وفي هذا المعنى قصة الاشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع قوله تعالى: (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ليس الاشعريون بأهون على الله من الدواب، وقد ذكرناه في سورة (هود (2)). وقال لقمان: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة) الآية. وقد مضى في (لقمان (3)) وقد أستوفينا هذا الباب في كتاب (قمع الحرص بالزهد والقناعة) والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شئ، وهو فراغ القلب مع الرب، رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه. قوله تعالى: (مثل من انكم تنطقون) قراءة العامة (مثل) بالنصب أي كمثل (ما أنكم) فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و (ما) زائدة، قاله بعض الكوفيين. وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد، أي لحق حقا مثل (1) القشر هنا الثياب. (2) راجع ج 9 ص 6 (3) راجع ج 14 ص 66 (*)
[ 44 ]
نطقك، فكأنه نعت لمصدر محذوف. وقول سيبويه: انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و (ما) زائدة للتوكيد. المازني: (مثل) مع (ما) بمنزلة شئ واحد فبني على الفتح لذلك. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: ولان من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا، فتقول: قال لي رجل مثلك، ومررت برجل مثلك بنصب [ مثل على معنى كمثل (1) ]. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والاعمش (مثل) بالرفع على أنه صفة لحق، لانه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختص بالاضافة لكثرة الاشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و (مثل) مضاف إلى (أنكم) و (ما) زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر إذ لا فعل معها تكون معه مصدرا. ويجوز أن تكون بدلا من (لحق). قوله تعالى: هل أتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال الا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28) قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين) ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ليبين بها أنه أهلك المكذب بآياته كما فعل بقوم لوط. (هل أتاك) أي ألم يأتك. وقيل: (هل) بمعنى قد، كقوله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر (2)). وقد مضى الكلام في ضيف إبراهيم في (هود (3)) (والحجر (4)). (المكرمين) أي عند الله، دليله قوله تعالى: (بل عباد مكرمون (5)) قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإسرافيل - زاد عثمان بن حصين - ورفائيل عليهم الصلاة والسلام. وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه تسعة. وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر. (1) الزيادة من اعراب القرآن للنحاس. (2) راجع ج 19 ص 116 (3) راجع ج 9 ص 62 (4) راجع ج 10 ص 35 (5) راجع ج 11 ص 281 (*)
[ 45 ]
قال ابن عباس: سماهم مكرمين لانهم غير مذعورين. وقال مجاهد: سماهم مكرمين لخدمة إبراهيم إياهم بنفسه. قال عبد الوهاب: قال لي علي بن عياض: عندي هريسة ما رأيك فيها ؟ قلت: ما أحسن رأيي فيها، قال: امض بنا، فدخلت الدار فنادى الغلام فإذا هو غائب، فما راعني إلا به ومعه القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو علمت يا أبا الحسن أن الامر هكذا، قال: هون عليك فإنك عندنا مكرم، والمكرم إنما يخدم بالنفس، انظر إلى قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين). قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما) تقدم في (الحجر (1)). (قال سلام) أي عليكم سلام. ويجوز بمعنى أمري سلام أوردي لكم سلام. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما (سلم) بكسر السين. (قوم منكرون) أي أنتم قوم منكرون، أي غرباء لا نعرفكم. وقيل: لانه رآهم على غير صورة البشر، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم، فقال: (قوم منكرون). وقيل: أنكرهم لانهم دخلوا عليه من غير آستئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الارض. وقيل: خافهم، يقال: أنكرته إذا خفته، قال الشاعر (2): فأنكرتني وما كان الذي نكرت * من الحوادث إلا الشيب والصلعا قوله تعالى: (فراغ إلى أهله) قال الزجاج: أي عدل إلى أهله. وقد مضى في (والصافات (3)). ويقال: أراغ وارتاغ بمعنى طلب، وماذا تريغ أي تريد وتطلب، وأراغ إلى كذا أي مال إليه سرا وحاد، فعلى هذا يكون راغ وأراغ لغتين بمعنى. (فجاء بعجل سمين) أي جاء ضيفه بعجل قد شواه لهم كما في (هود): (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (4)). ويقال: إن إبراهيم انطلق إلى منزله كالمستخفي (5) من ضيفه، لئلا يظهروا على ما يريد أن يتخذ لهم من الطعام. (1) راجع ج 10 ص 34 (2) هو الاعشى. (3) راجع ج 15 ص 94 (4) راجع ج 9 ص 63 و 68 (5) في ن: (كالمستحي). (*)
[ 46 ]
قوله تعالى: (فقربه إليهم) يعني العجل. (فقال ألا تأكلون) قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر، وأختاره لهم سمينا زيادة في إكرامهم. وقيل: العجل في بعض اللغات الشاة. ذكره القشيري. وفي الصحاح: العجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والانثى عجلة، عن أبي الجراح، وبقرة معجل ذات عجل، وعجل قبيلة من ربيعة. قوله تعالى: (فأوجس منهم خيفة) أي أحس منهم في نفسه خوفا. وقيل: أضمر لما لم يتحرموا بطعامه. ومن أخلاق الناس: أن من تحرم بطعام إنسان أمنه. وقال عمرو ابن دينار: قالت الملائكة لانأ كل إلا بالثمن. قال: كلوا وأدوا ثمنه. قالوا: وما ثمنه ؟ قال: تسمون الله إذا أكلتم وتحمدونه إذا فرغتم. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: لهذا اتخذك الله خليلا. وقد تقدم هذا في (هود). ولما رأوا ما بإبراهيم من الخوف (قالوا لا تخف) وأعلموه أنهم ملائكة الله ورسله. (وبشروه بغلام عليم) أي بولد يولد له من سارة زوجته. وقيل: لما أخبروه أنهم ملائكة لم يصدقهم، فدعوا الله فأحيا العجل الذي قربه إليهم. وروى عون بن أبي شداد: أن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار. ومعنى (عليم) أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله وبدينه. والجمهور على أن المبشر به هو إسحق. وقال مجاهد وحده: هو إسمعيل وليس بشئ فإن الله تعالى يقول: (وبشرناه بإسحق (1)). وهذا نص. قوله تعالى: فأقبلت امراته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذالك قال ربك انه هو الحكيم العليم (30) قوله تعالى: (فأقبلت امرأته في صرة) أي في صيحة وضجة، عن ابن عباس وغيره. ومنه أخذ صرير الباب وهو صوته. وقال عكرمة وقتادة: إنها الرنة والتأوه ولم يكن هذا الاقبال من مكان إلى مكان. قال الفراء: وإنما هو كقولك أقبل يشتمني أي أخذ في شتمي. وقيل: أقبلت في صرة أي في جماعة من النساء (2) تسمع كلام الملائكة. قال (1) راجع ج 15 ص 99 (2) في ن: (الناس). (*)
[ 47 ]
الجوهري: الصرة الضجة والصيحة، والصرة الجماعة، والصرة الشدة من كرب وغيره، قال امرؤ القيس: فألحقه بالهاديات ودونه * جواحرها في صرة لم تزيل (1) يحتمل هذا البيت الوجوه الثلاثة. وصرة القيظ شدة حره. فلما سمعت سارة البشارة صكت وجهها، أي ضربت يدها على وجهها على عادة النسوان عند التعجب، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال ابن عباس: صكت وجهها لطمته. وأصل الصك الضرب، صكه أي ضربه، قال الراجز (2): * يا كروانا صك فاكبأنا * قال الاموي: كبن الظبي إذا لطأ بالارض واكبأن انقبض. (وقالت عجوز عقيم) أي أتلد عجوز عقيم. الزجاج: أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد، كما قالت: (يا ويلتا أألد وأنا عجوز (3)). (قالوا كذلك) أي كما قلنا لك وأخبرناك (قال ربك) فلا تشكي فيه، وكان بين البشارة والولادة سنة، وكانت سارة لم تلد قبل ذلك فولدت وهى بنت تسع وتسعين سنة، وابراهيم يؤمئذ ابن مائة سنة وقد مضى هذا. (انه هو الحكيم العليم) حكيم فيما يفعله عليم بمصالح خلقه. قوله تعالى: قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا انآ أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم (37) (1) ويروى فألحقنا والبيت من معلقته، والهاديات أوائل بقر الوحش، وجواحرها متخلفاتها، ولم تزيل، أي لم تتفرق، يقول: لما لحق هذا الفرس أوائل بقر الوحش بقيت أواخرها لم تتفرق. (2) هو مدرك بن حصن. وتمامه: * فشن بالسلح فلما شنا * (3) راجع ج 9 ص 69 (*)
[ 48 ]
قوله تعالى: (قال فما خطبكم أيها المرسلون) لما تيقن ابراهيم عليه السلام أنهم ملائكة بإحياء العجل والبشارة قال لهم: (فما خطبكم) أي ما شأنكم وقصتكم (أيها المرسلون) (قالوا انا أرسلنا إلى قوم مجرمين) يريد قوم لوط. (لنرسل عليهم حجارة من طين) أي لنرجمهم بها. (مسومة) أي معلمة. قيل: كانت مخططة بسواد وبياض. وقيل: بسواد وحمرة. وقيل: (مسومة) أي معروفة بأنها حجارة العذاب. وقيل: على كل حجر أسم من يهلك به. وقيل: عليها أمثال الخواتيم. وقد مضى هذا كله في (هود (1)). فجعلت الحجارة تتبع مسافريهم وشذاذهم فلم يفلت منهم مخبر. (عند ربك) أي عند الله وقد أعدها لرجم من قضى برجمه. ثم قيل: كانت مطبوخة طبخ الآجر، قاله ابن زيد، وهو معنى قوله تعالى: (حجارة من سجيل) على ما تقدم بيانه في (هود). وقيل: هي الحجارة التي نراها وأصلها طين، وإنما تصير حجارة بإحراق الشمس إياها على مر الدهور. وإنما قال: (من طين) ليعلم أنها ليست حجارة الماء التي هي البرد. حكاه القشيري. قوله تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤ منين) أي لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قومه من المؤمنين، لئلا يهلك المؤمنون، وذلك قوله تعالى: (فأسر بأهلك (1)). (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) يعني لوطا وبنتيه وفيه إضمار، أي فما وجدنا فيها غير أهل بيت. وقد يقال بيت شريف يراد به الاهل. وقوله: (فيها) كناية عن القرية ولم يتقدم لها ذكر، لان المعنى مفهوم. وأيضا فقوله تعالى: (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) يدل على القرية، لان القوم إنما يسكنون قرية. وقيل: الضمير فيها للجماعة. والمؤمنون والمسلمون ها هنا سواء فجنس اللفظ لئلا يتكرر، كما قال: (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله (1)). وقيل: الايمان تصديق القلب، والاسلام الانقياد بالظاهر، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا. فسماهم في الآية الاولى مؤمنين، لانه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. وقد مضى الكلام في هذا المعنى في (البقرة (2)) وغيرها. وقوله: (قالت الاعراب (1) راجع ج 9 ص 82 وص 79 وص 215 (2) راجع ج 1 ص 193 (*)
[ 49 ]
آمنا قل لم تؤمنوا) يدل على الفرق بين الايمان والاسلام وهو مقتضى حديث جبريل عليه السلام في صحيح مسلم وغيره. وقد بيناه في غير موضع. قوله تعالى: (وتركنا فيها آية) أي عبرة وعلامة لاهل ذلك الزمان ومن بعدهم، نظيره: (ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (1)). ثم قيل: الآية المتروكة نفس القرية) الخربة. وقيل: الحجارة المنضودة التي رجموا بها هي الآية. (للذين يخافون) لانهم المنتفعون (2). قوله تعالى: وفى موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم (40) قوله تعالى: (وفى موسى) أي وتركنا أيضا في قصة موسى آية. وقال الفراء: هو معطوف على قوله: (وفي الارض آيات) (وفي موسى). (إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين) أي بحجة بينة وهي العصا. وقيل: أي بالمعجزات من العصا وغيرها. قوله تعالى: (فتولى بركنه) أي فرعون أعرض عن الايمان (بركنه) أي بمجموعه وأجناده، قاله ابن زيد. وهو معنى قول مجاهد، ومنه قوله: (أو آوي إلى ركن (3) شديد) يعني المنعة والعشيرة. وقال ابن عباس وقتادة: بقوته. ومنه قول عنترة: فما أوهى مراس الحرب ركني * ولكن ما تقادم من زماني (4) وقيل: بنفسه. وقال الاخفش: بجانبه، كقوله تعالى: (أعرض ونأى بجانبه (5) وقاله المؤرج. الجوهري: وركن الشئ جانبه الاقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد أي عزة ومنعه. القشيري: والركن جانب البدن. وهذا عبارة عن المبالغة في الاعراض عن الشئ. (1) راجع ج 13 ص 343. (2) في ح (المشفقون). (3) راجع ج 9 ص 78. (4) في رواية: ولا وصلت ال يد الزمان. (5) راجع ج 10 ص 321. (*)
[ 50 ]
(وقال ساحر أو مجنون) (أو) بمعنى الواو، لانهم قالوهما جميعا. قاله المؤرج والفراء، وأنشد بيت جرير: أثعلبة الفوارس أو رياحا * عدلت بهم طهية والخشابا (1) وقد توضع (أو) بمعنى الواو، كقوله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا (2)) والواو بمعنى أو، كقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) وقد تقدم جميع هذا (3). (فأخذناه وجنوده) لكفرهم وتوليهم عن الايمان. (فنبذنا هم) أي طرحناهم (في اليم وهو مليم) يعني فرعون، لانه أتى ما يلام عليه. قوله تعالى: وفى عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شئ أتت عليه الا جعلته كالرميم (42) قوله تعالى: (وفى عاد) أي وتركنا في عاد آية لمن تأمل. (إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) وهي التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، ولا رحمة فيها ولا بركة ولا منفعة، ومنه امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد. ثم قيل: هي الجنوب. روى ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الريح العقيم الجنوب) وقال مقاتل: هي الدبور كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). وقال ابن عباس: هي النكباء. وقال عبيد بن عمير: مسكنها الارض الرابعة وما فتح على عاد منها إلا كقدر منخر الثور. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا أنها الصبا، فالله أعلم. قوله تعالى: (ما تذر من شئ أتت عليه الا جعلته كالرميم) أي كالشئ الهشيم، يقال للنبت إذا يبس وتفتت: رميم وهشيم. قال ابن عباس: كالشئ الهالك البالي، وقاله مجاهد. ومنه قول الشاعر (4): (1) طهية - كسمية -: حى من تميم نسبوا إلى أمهم، والخشاب: بطون من تميم أيضا. (2) راجع ج 19 ص 147 (3) راجع ج 5 ص 17 (4) هو جرير يرثى ابنه. (*)
[ 51 ]
تركتني حين كف الدهر من بصري * وإذ بقيت كعظم الرمة البالي وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات. وقال أبو العالية والسدي: كالتراب المدقوق. قطرب: الرميم الرماد. وقال يمان: ما رمته الماشية من الكلا بمرمتها. ويقال للشفة المرمة والمقمة بالكسر، والمرمة بالفتح لغة فيه. وأصل الكلمة من رم العظم إذا بلي، تقول منه: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم، قال [ الشاعر (1) ]: ورأى عواقب خلف ذاك مذمة * تبقى عليه والعظام رميم والرمة بالكسر العظام البالية والجمع رمم ورمام. ونظير هذه الآية: (تدمر كل شئ) حسب ما (2) تقدم. قوله تعالى: وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون (44) فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين (45) قوله تعالى: (وفى ثمود) أي وفيهم أيضا عبرة وآية حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا (حتى حين) أي إلى وقت الهلاك وهو ثلاثة أيام كما في هود: (3) (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام). وقيل: معنى (تمتعوا) أي أسلموا وتمتعوا إلى وقت فراغ آجالكم. (فعتوا عن أمر ربهم) أي خالفوا أمر الله فعقروا الناقة (فأخذتهم الصاعقة) أي الموت. وقيل: هي كل عذاب مهلك. قال الحسين بن واقد: كل صاعقة في القرآن فهو العذاب. وقرأ عمر بن الخطاب وحميد وابن محيصن ومجاهد والكسائي (الصعقة) يقال صعق الرجل صعقة وتصعاقا أي غشي عليه. وصعقتهم السماء (4) أي ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب وقد مضى في (البقرة (5)) وغيرها. (وهم ينظرون) إليها نهارا. (فما استطاعوا من قيام) قيل: معناه (1) من ن. (2) راجع ج 16 ص 206. (3) راجع ج 9 ص 60. (4) في ح، ز، ل، ن: (إذا ألقت). (5) راجع ج 1 ص 219. (*)
[ 52 ]
من نهوض. وقيل: ما أطاقواأن يستقلوا بعذاب الله وأن يتحملوه ويقوموا به ويدفعوه عن أنفسهم، تقول: لا أقوم لهذا الامر أي لا أطيقه. وقال ابن عباس: أي ذهبت أجسامهم وبقيت أرواحهم في العذاب. (وما كانوا منتصرين) أي ممتنعين من العذاب حين أهلكوا، أي ما كان لهم ناصر. قوله تعالى: وقوم نوح من قبل انهم كانوا قوما فاسقين (46) قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل) قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو (وقوم نوح) بالخفض، أي وفي قوم نوج آية أيضا. الباقون بالنصب على معنى وأهلكنا قوم نوح، أو يكون معطوفا على الهاء والميم في (أخذتهم) أو الهاء في (أخذناه) أي فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح، أو (نبذناهم في اليم) ونبذنا قوم نوح، أو يكون بمعنى اذكر. قوله تعالى: والسماء بنيناها بأييد وانا لموسعون (47) والارض فرشناها فنعم الماهدون (48) ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49) قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) لما بين هذه الآيات قال: وفي السماء آيات وعبر تدل على أن الصانع قادر على الكمال، فعطف أمر السماء على قصة قوم نوح لانهما آيتان. ومعنى (بأيد) أي بقوة وقدرة. عن ابن عباس وغيره. (وانا لموسعون) قال ابن عباس: لقادرون. وقيل: أي وإنا لذو سعة، وبخلقها وخلق غيرها لا يضيق علينا شئ نريده. وقيل: أي وإنا لموسعون الرزق على خلقنا. عن ابن عباس أيضا. الحسن: وإنا لمطيقون. وعنه أيضا: وإنا لموسعون الرزق بالمطر. وقال الضحاك: أغنيناكم، دليله: (على الموسع (1) قدره). وقال القتبي: ذو سعه على خلقنا. والمعنى متقارب. وقيل: جعلنا بينهما وبين الارض سعة. الجوهري: وأوسع الرجل أي صار ذا سعة وغنى، ومنه قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) أي أغنياء قادرون. فشمل جميع الاقوال. (والارض فرشناها) (1) راجع ج 3 ص 203 (*)
[ 53 ]
أي بسطناها كالفراش على وجه الماء ومددناها. (فنعم الماهدون) أي فنعم الماهدون نحن لهم (1). والمعنى في الجمع التعظيم، مهدت الفراش مهدا بسطته ووطأته، وتمهيد الامور تسويتها وإصلاحها. قولع تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين) أي صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي ذكرا وأنثى وحلوا وحامضا ونحو ذلك. مجاهد: يعني الذكر والانثى، والسماء والارض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والانس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالاشياء المختلفة الا لوان من الطعوم والا راييح والاصوات. أي جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الاعادة. وقيل: (ومن كل شئ خلقنا زوجين) لتعلموا أن خالق الازواج فرد، فلا يقدر في صفته حركة ولا سكون، ولا ضياء ولا ظلام، ولا قعود ولا قيام، ولا ابتداء ولا انتهاء، إذ هو عزوجل وتر (ليس كمثله (2) شئ. (لعلكم تذكرون). قوله تعالى: ففروا إلى الله انى لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع الله الاهاءاخر انى لكم منه نذير مبين (51) كذالك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53) قتول عنهم فما أنت بملوم (54) وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين (55) قوله تعالى: (ففروا إلى الله انى لكم منه نذير مبين) لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لانبيائهم وإهلاكهم، لذلك قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا محمد، أي قل لقومك: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) أي فروا من معاصيه إلى طاعته. وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: (ففروا إلى الله) اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين (1) لفظة (لهم) ساقطة من ز. (2) راجع ج 16 ص 8 (*)
[ 54 ]
ابن الفضل: احترزوا من كل شئ دون الله فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال أبو بكر الوراق: فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن. وقال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه. وقال ذو النون المصري: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله. (إني لكم منه نذير مبين) أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية. قوله تعالى: (ولا تجعلوا مع الله الها آخر) أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا للناس وهو النذير. وقيل: هو خطاب من الله للخلق. (انى لكم منه) أي من محمد وسيوفه (نذير) أي أنذركم بأسه وسيفه إن أشركتم بي، قاله ابن عباس. قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول) هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون، كذب من قبلهم وقالوا مثل قولهم. والكاف من (كذلك) يجوز أن تكون نصبا على تقدير أنذركم إنذارا كإنذار من تقدمنى من الرسل الذين أنذروا قومهم، أو رفعا على تقدير الامر كذلك أي كالاول. والاول تخويف لمن عصاه من الموحدين، والثاني لمن أشرك به من الملحدين. والتمام على قوله: (كذلك) عن يعقوب وغيره. قوله تعالى: (أتواصوا به) أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب. وتواطئوا عليه، والالف للتوبيخ والتعجب. (بل هم قوم طاغون) أي لم يوص بعضهم بعضا بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الكفر. قوله تعالى: (فتول عنهم) أي أعرض عنهم وأصفح عنهم (فما أنت بملوم) عند الله لانك أديت ما عليك من تبليغ الرسالة، ثم نسخ هذا بقوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) وقيل: نسخ بآية السيف. والاول قول الضحاك، لانه قد أمر بالاقبال عليهم بالموعظة. وقال مجاهد: (فتول عنهم) فأعرض عنهم (فما أنت بملوم) أي ليس يلومك
[ 55 ]
ربك على تقصير كان منك (وذكر) أي بالعظة فإن العظة (تنفع المؤمنين). قتادة: (وذكر) بالقرآن (فإن الذكرى) به (تنفع المؤمنين). وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله. وخص المؤمنين، لانهم المنتفعون بها. قوله تعالى: وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون (56) مآ أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) ان الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58) فات للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون (59) فويل للذين كفروا من يومهم الذى يوعدون (60) قوله تعالى: (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص. والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والانس إلا ليوحدون. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص على القطع، لان المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة، وقد قال الله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس (1)) ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة، فالآية محمولة على المؤمنين منهم، وهو كقوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا (2)) وإنما قال فريق منهم. ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي. وفي قراءة عبد الله: (وما خلقت الجن والانس من المؤمنين إلا ليعبدون) وقال علي رضي الله عنه: أي وما خلقت الجن ولانس إلا لآمرهم بالعبادة. واعتمد الزجاج على هذا القول، ويدل عليه قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا (3)). فإن قيل: كيف كفروا وقد خلقهم للاقرار بربوبيته والتذلل لامره ومشيئته ؟ قيل: تذللوا لقضائه عليهم، لان قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به، فأما التذلل لقضامه فإنه غير ممتنع منه. وقيل: (إلا ليعدون) أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها، رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة. مجاهد: إلا ليعرفوني. (1) راجع ج 7 ص 324 (2) راجع ج 16 ص 348 (3) راجع ج 8 ص 119 (*)
[ 56 ]
الثعلبي: وهذا قول حسن، لانه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقو (1) لن الله) (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم (1)) وما أشبه هذا من الآيات. وعن مجاهد أيضا: إلا لآمرهم وأنهاهم. زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة، فخلق السعداء من الجن والانس للعبادة، وخلق الاشقياء منهم للمعصية. وعن الكلبي أيضا: إلا ليوحدون، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، يدل عليه قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين (2)) الاية. وقال عكرمة: إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد. وقيل: المعنى إلا لاستعبدهم. والمعنى متقارب، تقول: عبد بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية الخضوع والذل. والتعبيد التذليل، يقال: طريق معبد. قال (3): * وظيفا وظيفا فوق مور معبد * والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا. وكذلك الاعتباد. والعبادة: الطاعة، والتعبد التنسك. فمعنى (ليعبدون) ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا. (ما أريد منهم من رزق) (من) صلة أي رزقا بل أنا الرزاق والمعطي. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم (ان الله هو الرزاق) وقرأ ابن محيصن وغيره (الرازق). (ذو القوة المتين) أي الشديد القوي. وقرأ الاعمش ويحيى بن وثاب والنخعي (المتين) بالجر على النعت للقوة. الباقون بالرفع على النعت ل (الرزاق) أو (ذو) من قوله: (ذو القوة) أو يكون خبر ابتداء محذوف، أو يكون نعتا لاسم إن على الموضع، أو خبرا بعد خبر. قال الفراء: كان (1) راجع ج 16 ص 123 وص 64 (2) راجع ج 14 ص 80 (3) هو طرفة بن العبد، والبيت من معطقته وصدره: * تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت * الوظيف عظم الساق. وقوله أتبعت وظيفا وظيفا أي أتبعت وظيف يدها وظيف رجلها، ويستحب من الناقة أن تجعل رجلها في موضع يدها إذا سارت. والمور: الطريق. (*)
[ 57 ]
حقه المتينة فذكره لانه ذهب بها إلى الشئ المبرم المحكم الفتل، يقال: حبل متين. وأنشد الفراء: لكل دهر قد لبست أثوبا * حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا * من ريطة واليمنة المعصبا * فذكر المعصب، لان اليمنة صنف من الثياب، ومن هذا الباب قوله تعالى: (فمن جاءه موعظة (1)) أي وعظ (وأخذ الذين ظلموا الصيحة (2)) أي الصياح والصوت. قوله تعالى: (فان للذين ظلموا) أي كفروا من أهل مكة (ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم) أي نصيبا من العذاب مثل نصيب الكفار من الامم السالفة. وقال ابن الاعرابي: يقال يوم ذنوب أي طويل الشر لا ينقضي. وأصل الذنوب في اللغة الدلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الانصباء فقيل للذنوب نصيب من هذا، قال الراجز: لنا ذنوب ولكم ذنوب * فإن أبيتم فلنا القليب وقال علقمة: وفي كل يوم قد خبطت بنعمة * فحق لشأس من نداك ذنوب وقال آخر (3): لعمرك والمنايا طارقات * لكل بني أب منها ذنوب الجوهري: والذنوب الفرس الطويل الذنب، والذنوب النصيب، والذنوب لحم أسفل المتن، والذنوب الدلو الملاى ماء. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من المل ء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، والجمع في أدنى العدد أذنبة والكثير ذنائب، مثل قلوص وقلائص. (فلا يستعجلون) أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم، لانهم قالوا: يا محمد (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (4)) فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجل بهم أنتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له (1) راجع ج 3 ص 359 (2) راجع ج 9 ص 61 (3) قائله أبو ذؤيب. (4) راجع ج 7 ص 237 وج 9 ص 27 (*)
[ 58 ]
سورة (والطور) مكية كلها في قول الجميع، وهى تسع وأربعون آية روى الائمة عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت المعمور (4) والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6) ان عذاب ربك لواقع (7) ماله من دافع (8) قوله تعالى: (والطور) الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسمعيل ابن إسحق قال: حدثنا إسمعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة (1)) قيل: فما الا جبل ؟ قال: (جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة [ والجودي (2) جبل من جبال الجنة ]) وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب (التذكرة). قال مجاهد: الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لاحدهما طور سينا والآخر طور زيتا، لانهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام. (1) الملاحم: غزوة بدر وأحد والخندق وخيبر. (2) الزيادة من ن. (*)
[ 59 ]
قلت: ومدين بالارض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور، قاله ابن عباس. وقد مضى في (البقرة (1)) مستوفى. قوله تعالى: (وكتاب مسطور) أي مكتوب، يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون (2)). وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الانبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الاعمال، فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله، نظيره: (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (3)) وقوله: (وإذا الصحف نشرت (4)). وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرءون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الاولياء من المؤمنين، بيانه: (أولئك كتب في قلوبهم الايمان (2)). قلت: وفي هذا القول تجوز، لانه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: (في رق منشور) والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء، والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها، ومنه قول المتلمس: فكأنما هي من تقادم عهدها * رق أتيح كتابها مسطور (5) وأما الرق بالكسر فهو الملك، يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب. قوله تعالى: (والبيت المعمور) قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال (1) راجع ج 1 ص 436. (2) راجع ص 224 وص 308 من هذا الجزء. (3) راجع ج 10 ص 229. (4) راجع ج 19 ص 232. (5) لم تعثر على هذا البيت في ديوان المتلمس. (*)
[ 60 ]
علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة، روى أنس ابن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه) ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الانباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور ؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في (الصحاح): والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاسراء: (ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذ اخرجوا منه لم يعودوا إليه آخر (1) ما عليهم) وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق) الحديث، وفيه: (ثم عرج بنا إلى السابعة (2) فأستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه). وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والارضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات وسبعة في الارضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: البيت المعمور هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول بيت وضعه الله للعبادة في الارض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان (1) (آخر) برفع الراء ونصبها، فالنصب على الظرف والرفع على تقدير ذلك آخر ما عليهم، والرفع أوجه. (هامش مسلم). (2) في ح، ز، ل، ن: (إلى السماء السابعة). (*)
[ 61 ]
في الارض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله عزوجل لابراهيم مكان البيت حيث كان، قال الله تعالى: (وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (1)). (والسقف المرفوع) يعني السماء سماها سقفا، لانها للارض كالسقف للبيت، بيانه: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا (2)). وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. (والبحر المسجور) قال مجاهد: الموقد، وقد جاء في الخبر: (إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا). وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب: إذا شاء طالع مسجورة * ترى حولها النبع والساسما (3) يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والاخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (وإذا البحار (4) سجرت) أي أوقدت، سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد ابن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم ؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: (والبجر المسجور). (وإذا البحار سجرت) مخففة. وقال عبد الله ابن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لانه طبق جهنم. [ وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم، فهذا قول (5) ] وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور، دليله: (وإذا البحار فجرت (4)) أي تنشفها الارض فلا يبقى فيها ماء. (1) راجع ج 13 ص 36 (2) راجع ج 11 ص 285 (3) الساسم غير مهموز: شجر يتخذ منه القصى والسهام، والنبع مثله. (4) راجع ج 19 ص 228 وص 242 (5) مابين المربعين ساقط من ه. (*)
[ 62 ]
وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الاولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح. قلت: وإليه يرجع معنى (فجرت) في أحد التأويلين، أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس. (ان عذاب ربك لواقع) هذا جواب القسم، أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لاسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب (والطور) إلى قوله: (إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع) فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: أنطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ (والطور) حتى بلغ (إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع) فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول (والطور) إلى أن قاله له قل: (إن عذاب ربك لواقع) إن كنت (1) كاذبا، فقالها فخرج فكسر من حينه. قوله تعالى: يوم تمور السماء مورا (9) وتسير الجبال سيرا (10) فويل يومئذ للمكذبين (11) الذين هم في خوض يلعبون (12) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التى كنتم بها تكذبون (14) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15) اصلوها فاصبروا أو لا تبصروا سوآء عليكم انما تجزون ما كنتم تعملون (16) (1) في ن (ان عذاب الله بى لواقع الخ). (*)
[ 63 ]
قوله تعالى: (يوم تمور السماء مورا) العامل في يوم قوله: (واقع) أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشئ يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والاخفش: تكفأ، وأنشد للاعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها * مور السحابة لا ريث ولا عجل وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير: وما زالت القتلى تمور دماؤها * بدجلة حتى ماء دجلة أشكل (1) وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة: *... فوق مور معبد (2) * والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر: * على ظهر موار الملاط حصان * الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار، أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره، قاله ابن بحر. (وتسير الجبال سيرا) قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالارض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا، بيانه (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب (3)). وقد مضى هذا المعنى في (الكهف (4)). (فويل يومئذ للمكذبين) (1) الاشكل: ما فيه بياض وحمرة. (2) البيت من معلقته وتمامه: تبارى عتاقا ناجيات (أتبعت * وظيفا فوق مور معبد تبارى: تعارض. والعتاق: النوق الكرام. والناجيات: السريعات. والوظيف: عظم الساق. والمعبد: المذلل. (3) راجع ج 13 ص 242 (4) راجع ج 10 ص 416 (*)
[ 64 ]
(ويل) كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لان في الكلام معنى المجازاة. (الذين هم في خوض يلعبون) أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في (براءة (1)). قوله تعالى: (يوم يدعون) (يوم) بدل من يومئذ. و (يدعون) معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: (فذلك الذي يدع اليتيم (2)). وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: (هذه النار التى كنتم بها تكذبون) في الدنيا. قوله تعالى: (أفسحر هذا) استفهام معناه التوبيخ والتقريع، أي يقال لهم: (أفسحر هذا) الذي ترون الآن بأعينكم (أم أنتم لا تبصرون). وقيل: (أم) بمعنى بل، أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. قوله تعالى: (اصلوها) أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. (فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم) أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن ف (سواء) خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شئ، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا (3)). (انما تجزون ما كنتم تعملون). قوله تعالى: ان المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بمآ ءاتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين (20) (1) راجع ج 8 ص 201 (2) راجع ج 20 ص 211 (3) راجع ج 9 ص 355 (*)
[ 65 ]
قوله تعالى: (ان المتقين في جنات ونعيم) لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا (فاكهين) أي ذوي فاكهة كثيرة، يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر، أي ذولبن وتمر، قال (1): وغررتني وزعمت أن * ك لابن بالصيف تامر أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره: (فكهين) بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره، يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا: والفكه أيضا الاشر البطر. وفد مضى في (الدخان (2)) القول في هذا. (بما آتاهم) أي أعطاهم (ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم). (كلوا واشربوا) أي يقال لهم ذلك. (هنيئا) الهنئ ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه (هنيئا). وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا. وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم (هنيئا) فهو صفة في موضع المصدر. وقيل: (هنيئا) أي حلالا. وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل: (هنيئا) أي لا تموتون، فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الانسان معه منغص غير هنئ. قوله تعالى: (متكئين على سرر) سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. (مصفوفة) قال ابن الاعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الاخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له، فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. (وزوجناهم بحور عين) أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة، وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عزوجل: (وزوجناهم بحور عين) أي قرناهم بهن، من قول الله تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم (3)) أي وقرناءهم. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين (4). (1) هو الحطيئة. (2) راجع ج 16 ص 139 (3) راجع ج 15 ص 152 (4) راجع ج 16 ص 152 (*)
[ 66 ]
قوله تعالى: والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرى بما كسب رهين (21) وأمدد ناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24) قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) قرأ العامة (وأتبعتهم) بوصل الالف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ عمرو (وأتبعناهم) بقطع الالف وإسكان التاء والعين ونون، أعتبارا بقوله: (ألحقنابهم)، ليكون الكلام على نسق واحد. فأما قوله: (ذريتهم) الاولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون (ذريتهم) على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون (ذريتهم) على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه، فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الاولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في (الناسخ والمنسوخ) له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عزوجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقربهم عينه) ثم قرأ (والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان) الآية. قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون، لان ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه إخبار عن الله عزوجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الاخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم.
[ 67 ]
وعن ابن عباس أيضا أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الايمان، قاله المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى: (بإيمان) في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير (بإيمان) من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله: (بإيمان) حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس: أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والانصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الابناء إل الآباح ء، وإن كان الابناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الابناء، فالاباء داخلون في اسم الذرية، كقوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (1)). وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به). وقالت خديجة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي: (هما في النار) فلما رأى الكراهية في وجهي قال: (لو رأيت مكانهما لابغضتهما) قالت: يارسول الله فولدي منك ؟ قال: (في الجنة) ثم قال: (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار (2)) ثم قرأ (والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان) الآية. (وما ألتناهم من عملهم من شئ) أي ما نقصنا الابناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى: (والذين آمنوا). وقال ابن زيد: المعنى (وأتبعتهم ذريتهم بإيمان) ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل، فالهاء والميم على هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير (وما ألتناهم) بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة (آلتناهم) بالمد، قال ابن الاعرابي: الته يألته ألتا، وآلته يؤلته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه. (1) هذا الحديث كان قبل قوله صلى الله وسلم: (سألت ربى فأعطاني أولاد المشركين خدما لاهل الجنة). (*)
[ 68 ]
وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى ب (الحجرات (1)). (كل امرى بما كسب رهين) قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال: (كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين (2)). وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم. قوله تعالى: (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. قوله تعالى: (يتنازعون فيها كأسا) أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره، فإذا فرغ لم يسم كأسا. وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الاخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني * لا بالحصور ولا فيها بسوار (3) نازعته طيب الراح الشمول وقد * صاح الدجاج وحانت وقعة الساري وقال امرؤ القيس: فلما تنازعنا الحديث وأسمحت * هصرت بغصن ذي شماريخ ميال وقد مضى هذا في (والصافات (4)). (لا لغو فيها) أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو (1) راجع ج 16 ص 348 (2) راجع ج 19 ص 85 (3) مربج: ينحر لضيفانه الربح وهى الفصلان، ويروى: مرتج وهو الذى كأسه ملاى بالخمر فيسكر ولا يتغير عن أخلاقه الحميدة. والحصور الضيق البخيل مثل الحصير. والسوار هو المعربد الوثاب، ويروى بستأر وهو الذى إذا شرب ترك بقية في قعر الاناء. والدجاج هنا المراد به الديكة يريد وقت السحر، يقال هذا دجاج فير يدون الديوك. وهذه دجاج فير يدون الانثى. ووقعة السارى - ويروى وقفة السارى - من وقعت الابل إذا بركت. والسارى هو السائر بالليل. وفى نسخ الاصل كلها: في الكأس نازعنى. والتصحيح كما أثبتناه في صدر الكتاب من ديوان الاخطل طيع اليسوعيين. (4) راجع ج 15 ص 77... ففيها الكلام على الكأس. (*)
[ 69 ]
(ولا تأثيم) ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الاثم، أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لانه مباح لهم. وقيل: (لا لغو فيها) أي في الجنة. قال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله ! (ولا تأثيم) أي ولا كذب، قاله ابن عباس. الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو: (لا لغو فيها ولا تأثيم) بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في (البقرة (1)) عند قوله تعالى: (ولا خلة ولا شفاعة) والحمد لله. قوله تعالى: (ويطوف عليهم غلمان لهم) أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب، ودليله: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب (2))، (يطاف عليهم بكأس من معين (3)). ثم قيل: هم الاطفال من أولادهم الذين سبقوهم، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل: هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي: لا يكبرون أبدا (كأنهم) في الحسن والبياض (لؤ لؤ مكنون) في الصدف، والمكنون المصون. وقوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون (4)). قيل: هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك). وعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه). وعن الحسن أنهم قالوا: يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم ؟ فقال: (ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب). قال الكسائي: كننت الشئ سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد: كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا، تقول: كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها (5) فهي مكنونة ومكنة. (1) راجع ج 3 ص 267 (2) راجع ج 16 ص 111 (3) راجع ج 15 ص 77 (4) راجع ص 202 من هذا الجزء. (5) هذه الكلمة ساقطة من ل. (*)
[ 70 ]
قوله تعالى: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالوا انا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) انا كنامن قبل ندعوه انه هو البر الرحيم (28) قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل: في الجنة (يتساءلون) أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل: يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة ؟ (قالوا انا كنا قبل في أهلنا مشفقين) أي قال كل مسئول منهم لسائله: (إنا كنا قبل) أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله. (فمن الله علينا) بالجنة والمغفرة. وقيل: بالتوفيق والهداية. (ووقانا عذاب السموم) قال الحسن: (السموم) اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل: هو النار كما تقول جهنم. وقيل: نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث، يقال منه: سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار، وقد تستعمل السموم في لفح البرد [ وهو في (1) لفح الحر ] والشمس أكثر، قال الراجز: اليوم يوم بارد سمومه * من جزع اليوم فلا ألومه قوله تعالى: (انا كنا من قبل ندعوه) أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل: (ندعوه) أي نعبده. (انه هو البر الرحيم) وقرأ نافع والكسائي (أنه) بفتح الهمزة، أي لانه. الباقون بالكسر على الابتداء. و (البر) اللطيف (2)، قاله ابن عباس. وعنه أيضا: أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج. (1) الزيادة من ن. (2) تفسير البر بالمحسن أولى كما في روح المعاني وغيره من التفسير. (*)
[ 71 ]
قوله تعالى: فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون (30) قل تربصوا فانى معكم من المتربصين (31) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين (34) قوله تعالى: (فذكر) أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. (فما أنت بنعمة ربك) يعني برسالة ربك (بكاهن) تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. (ولا مجنون) وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم، فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن، فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل: إن معنى (فما أنت بنعمة ربك) القسم، أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسما، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل، أي قد برأك الله من ذلك. قوله تعالى: (أم يقولون شاعر) أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح، يريد سيبويه أن (أم) في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث، كما قال (1): * أتهجر غانية أم تلم * فتم الكلام ثم خرج إلى شئ آخر فقال: * أم الحبل واه بها منجذم * فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. (نتربص به ريب المنون) قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا (1) هو الاعشى. (*)
[ 72 ]
بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الاخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي: هم منعوا حمى الوقبي بضرب * يؤلف بين أشتات المنون (1) أي المنايا، يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الامكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لا تتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: (ريب) في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور (ريب المنون) يعني حوادث الامور، وقال الشاعر (2): تربص بها ريب المنون لعلها * تطلق يوما أو يموت حليلها وقال مجاهد: (ريب المنون) حوادث الدهر، والمنون هو الدهر، قال أبو ذؤيب: أمن المنون وريبه تتوجع * والدهر ليس بمعتب من يجزع وقال الاعشى: أأن رأت رجلا أعشى أضربه * ريب المنون ودهر متبل خبل (3) قال الاصمعي: المنون والليل والنهار، وسميا بذلك لانهما ينقصان الاعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لانه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة: قيل للدهرمنون، لانه مضعف، من قولهم حبل منين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الاصمعي: المنون واحد لاجماعة له. (1) هو من بنى نهشل واسمه علباء بن جوشن. والوقبى. كجمزى ماء لنبى مالك بن مازن مشهور بوقائع عديدة وهو على طريق المدينة من البصرة. (2) الذى في نسخ الاصل: قال ابن عباس وليس بشئ، وفى سائر كتب التفسير قال الشاعر كما أثبتناه. (3) يروى: ودهر مفند. وهى الرواية المشهورة. متبل مسقم أو يذهب بالاهل والولد. وخبل ككتف ملتو على أهله لا يرون فيه سررا. (*)
[ 73 ]
الاخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنث، فمن ذكره جعله الدهر أو الموت ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية. قوله تعالى: (قل تربصوا) أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. (فانى معكم من المتربصين) أي من المنتظرين بكم العذاب، فعذبوا يوم بدر بالسيف. قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم) أي عقولهم (بهذا) أي بالكذب عليك. (أم هم قوم طاغون) أي أم طغوابغير عقول. وقيل: (أم) بمعنى بل، أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل ؟ فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: (أحلامهم) أي أذهانهم، لان العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الامر والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانا النصراني ! فقال: (مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)). وفي حديث ابن عمر: فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله) ذكره الترمذي الحكيم أبو عبد الله بإسناده. (أم يقولون تقوله) أي افتعله وافتراه، يعني القرآن. والتقول تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الامر. ويقال قولتني ما لم أقل ! وأقولتني ما لم أقل، أي ادعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال (1): ومنزلة في دار صدق وغبطة * وما اقتال من حكم علي طبيب فأم الاولى للانكار والثانية للايجاب أي ليس كما يقولون. (بل لا يؤمنون) جحدا واستكبارا. (فليأتوا بحديث مثله) أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم (ان كانوا صادقين) في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري (فليأتوا بحديث مثله) بالاضافة. والهاء في (مثله) للنبي صلى الله (1) هو كعب بن سعد الغنوى. (*)
[ 74 ]
عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لانه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن. قوله تعالى: أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والارض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39) ام تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفرواهم المكيدون (42) أم لهم اله غير الله سبحان الله عما يشركون (43) قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شئ) (أم) صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شئ. قال ابن عباس (1): من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل: من غير أم ولا أب، فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة، ليسوا كذلك ! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة ؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى (من غير شئ) أي لغير شئ ف (من) بمعنى اللام. (أم هم الخالقون) أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لامر الله وهم لا يقولون ذلك، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما الذ ى يمنعهم من الاقرار له بالعبادة دون الاصنام، ومن الاقرار بأنه قادر على البعث. (أم خلقوا السموات والارض) أي ليس الامر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا (بل لا يوقنون) بالحق (أم عندهم خزائن ربك) أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس: خزائن ربك المطر والرزق. وقيل: مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة: النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاءوا. وضرب المثل بالخزائن، لان الخزانة بيت (1) في ل: (قال ابن الكميت). (*)
[ 75 ]
يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر، ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الاجناس فلا نهاية لها. (أم هم المسيطرون) قال ابن عباس: المسلطون الجبارون. وعنه أيضا: المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أم هم المتولون. عطاء: أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء: يقال تسيطرت علي أي أتخذتني خولا لك. وقاله أبو عبيدة. وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر المسلط على الشئ ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله، وأصله من السطر، لان الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر: (أم هم المسيطرون) أي هم الحفظة، مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ماكتب فيه، فصار المسيطر هاهنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفيه ثلاث لغات: الصاد وبها قرأت العامة، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في (الصراط (1)). قوله تعالى: (أم لهم سلم) أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعد ا وسببا (يستمعون فيه) أي عليه الاخبار ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. (فليأت مستمعهم بسلطان مبين) أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك، قال أبو الربيس الثعلبي يصف ناقته: مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها * بسلم غرز في مناخ يعاجله وقال زهير: ومن هاب أسباب المنية يلقها (2) * ولو رام أسباب السماء بسلم وقال آخر: تجنيت لي ذنبا وما إن جنيته * لتتخذي عذرا إلى الهجر سلما (1) راجع ج 1 ص 147 (2) ويروى: * ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * وهى الرواية المشهورة. (*)
[ 76 ]
وقال ابن مقبل في الجمع: لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا * يبنى له في السموات السلاليم الاحجاء النواحي مثل الارجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى: أعناء البلاد، والاعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الاعرابي: واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر، وهم قوم من قبائل شتى. (يستمعون فيه) أي عليه، كقوله تعالى: (في جذوع النخل (1)) أي عليها، قاله الاخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال الزجاج: أي ألهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. قوله تعالى: (أم له البنات ولكم البنون) سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. (أم تسألهم أجرا) أي على تبليغ الرسالة. (فهم من مغرم مثقلون) أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به (مثقلون) مجهدون لما كلفتهم به. (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل: أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أمر القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة: لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى: (أم عندهم الغيب) حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يئول إليه أمره. وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي: يكتبون يحكمون والكتاب الحكم، ومنه قوله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة (2)) أي حكم، وقوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لاحكمن بينكم بكتاب الله) أي بحكم الله. قوله تعالى: (أم يريدون كيدا) أي مكرا بك في دار الندوة. (فالذين كفروا هم المكيدون) أي الممكور بهم (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله (3)) وذلك أنهم قتلوا ببدر. (أم لهم اله غير الله) يخلق ويرزق ويمنع. (سبحان الله عما يشركون) نزه نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل: كل ما في سورة (والطور) من ذكر (أم) فكلمة استفهام وليس بعطف. (1) راجع ج 11 ص 224 (2) راجع ج 6 ص 435 (3) راجع ج 14 ص 358 (*)
[ 77 ]
قوله تعالى: وان يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44) فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذى فيه يصعقون (45) يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (46) قوله تعالى: (وان يروا كسفا من السماء ساقطا) قال ذلك جوابا لقولهم: (فأسقط علينا كسفا من السماء (1))، وقولهم: (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا (2)) فأعلم أنه لو فعل ذلك لقالوا: (سحاب مركوم) أي بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء، وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشئ، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، ويقال في جمعها أيضا: كسف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الاخفش: من قرأ كسفا جعله واحدا، ومن قرأ (كسفا) جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في (سبحان (2)) وغيرها والحمد لله. قوله تعالى: (فذرهم) منسوخ بآية السيف. (حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون) بفتح الياء قراءة العامة، وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء: هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة: يوم يموتون. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: يوم النفخة (3) الاولى. وقيل: يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل: (يصعقون) بضم الياء من أصعقه الله. قوله تعالى: (يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا) أي ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا. (ولاهم ينصرون) من الله. و (يوم) منصوب على البدل من (يومهم الذي فيه يصعقون). قوله تعالى: وان للذين ظلموا عذابا دون ذالك ولاكن أكثرهم لا يعلمون (47) واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا لوسبح بحمد ربك حين تقوم (48) ومن اليل فسبحه وادبار النجوم (49) (1) راجع ح 13 ص 136 (2) راجع ج 10 ص 33 (3) في ن: (وقال غيره عند النفخة الاولى). (*)
[ 78 ]
قوله تعالى: (وان للذين ظلموا) أي كفروا (عذابا دون ذلك) قيل: قبل موتهم. ابن زيد: مصائب الدنيا من الاوجاع والاسقام والبلايا وذهاب الاموال والاولاد. مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس: هو القتل. عنه: عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. ف (دون) بمعنى غير. وقيل: عذابا أخف من عذاب الآخرة. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) [ أن (1) العذاب نازل بهم ] وقيل: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ما يصيرون إليه. قوله تعالى: (واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا). فيه مسألتان: الاولى - (واصبر لحكم ربك) قيل: لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك، ثم نسخ بآية السيف. الثانية - قوله تعالى: (فانك بأعيننا) أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قول تعالى لموسى عليه السلام: (ولتصنع على عيني) أي بحفظي وحراستي وقد تقدم (2). قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وادبار النجوم) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك حين تقوم) اختلف في تأويل قوله: (حين تقوم) فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الاحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه، فيقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيرا ازددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له، ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) قال: حديث (1) الزياة من ز، ل، ن، ه. (2) راجع ج 11 ص 196. (*)
[ 79 ]
حسن صحيح غريب. وفيه عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: (رب أغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور) قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع: المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري: وهذا فيه بعد، فإن قوله: (حين تقوم) لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية: المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفى هذا روايات مختلفات صحاح، منها حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعارفي الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم أغفر لي أو دعا أستجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته) خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت، ومنه عار الظليم يعار عرارا وهو صوته، وبعضهم يقول: عر الظليم يعر عرارا، كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات والارض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والارض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات ولارض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك) متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ العشر الآيات الاواخر من سورة (آل عمران (1)). (1) من قوله تعالى: (ان في خلق السموات والارض...) آية. 19. (*)
[ 80 ]
وقال زيد بن أسلم: المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي: أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك: إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي: وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الاعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي) الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة (الانعام (1)). وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). الثانية - قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وادبار النجوم) تقدم في (ق (2)) مستوفى عند قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وإدبار السجود). وأما (إدبار النجوم) فقال علي وابن عباس وجابر وأنس: يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد: أن قوله: (وإدبار النجوم) يريد به صلاة الصبح وهو اختيار الطبري. وعن أبن عباس: أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في (إدبار النجوم) قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في (ق). وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع (وإدبار) بالفتح، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب، وهو جمع دبر ودبر. ودبر الامر ودبره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب) (1) راجع ج 7 ص 153 (2) راجع ص 65 من هذا الجزء. (*)
[ 81 ]
قال: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب. وسألت محمد بن إسمعيل عن محمد بن فضيل ورشدين بن كريب أيهما أوثق ؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح. قال: وسألت عبد الله بن عبد الرحمن عن هذا فقال: ما أقربهما، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي: والقول ما قال أبو محمد ورشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شئ من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين (1) قبل الصبح. وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها). تم تفسير سورة (والطور) والحمد لله. سورة (والنجم) مكية، وهى احدى وستون آية مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش) الآية. وقيل: اثنتان وستون آية. وقيل: إن السورة كلها مدنية. والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وفي (البخاري) عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس. وعن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا، متفق عليه. الرجل يقال له (2) أمية بن خلف. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت [ رضي الله عنه (3) ] أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة (والنجم إذا هوى) فلم يسجد. وقد مضى في آخر (الاعراف (4)) القول في هذا والحمد لله. (1) في ن: (أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر قبل الصبح). (2) في ل: (هو). (3) الزيادة: من ز، ل. (4) راجع ج 7 ص 357 (*)
[ 82 ]
بسم الله الرحمن الرحيم والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) ان هو الا وحى يوحى (4) علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بلافق الاعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده مآ أوحى (10) قوله تعالى: (والنجم إذا هوى) قال ابن عباس ومجاهد: معنى (والنجم إذا هوى) والثريا إذا سقطت مع الفجر، والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما، يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد (1) خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وفي (الشفا) للقاضي عياض: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل، لانه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع، كقول الراعي: فباتت تعد النجم في مستحيرة * سريع بأيدي الآكلين جمودها وقال عمر بن أبي ربيعة: أحسن النجم في السماء الثريا * والثريا في الارض زين النساء وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدي: إن النجم ههنا الزهرة لان قوما من العرب كانوا يعبدونها. وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقض (1) في ز، ل: (وواحد منها) بزيادة كلمة: (منها). (*)
[ 83 ]
منها شئ فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقض منها شئ فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الامر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: (والنجم إذا هوى) أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت. وقيل: النجم هنا هو النبت الذى ليس له ساق، وهوى أي سقط على الارض. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: (والنجم) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم (إذا هوى) إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة ابن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدا فلا وذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم سلط عليه كلبا من كلابك) وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لاصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الاسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان: من يرجع العام إلى أهله * فما أكيل السبع بالراجع (1) وأصل النجم الطلوع، يقال: نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط، يقال: هوى يهوي هويا مثل مضى يمضي مضيا، قال زهير: فشج بها الاماعز (2) وهي تهوي * هوي الدلو أسلمها الرشاء (1) في: ا (من يرجع الان). (2) شج: علا. والبيت في وصف عير وأثنه، أي لما وجد العير أن صنيبعاث قد انقطع ماؤها انتقل عنها إلى عيرها فجعل يعلو بالاتن الاماعز وهى حزون الارض الكثيرة الحصى. (*)
[ 84 ]
وقال آخر (1): بينما نحن بالبلا كث فالقا * ع سراعا والعيس تهوي هويا خطرت خطرة على القلب من ذك * راك وهنا فما استطعت مضيا الاصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك انهوى في السير إذا مضى فيه، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى، وقد جمعهما الشاعر في قوله: وكم منزل لولاي طحت كما هوى * بأجرامه من قلة النيق منهوي (2) ويقال في الحب: هوي بالكسر يهوى هوى، أي أحب. قوله تعالى: (ما ضل صاحبكم) هذا جواب القسم، أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه. (وما غوى) الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا. وقيل: أي ما تكلم بالباطل. وقيل: أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة، قال الشاعر (3): فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في (الشورى (4)) عند قوله: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان). قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى. ان هو الا وحى يوحى). فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه (ان هو الا وحى يوحى) إليه. وقيل: (عن الهوى) أي بالهوى، قال أبو عبيدة، (1) قائله أبو بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن محرمة كان متوجها إلى الشام فلما كان بالبلا كث - بالمثلثة - تذكر زوجته وكان شغوفا بها فكر راجعا فقال الابيات، وبعد البيتين: قلت لبيك إذ دعاني لك الشو * ق وللحاديين حثا المطيا (2) قائله يزيد بن الحكم الثقفى. وقلة كل شئ: أعلاه. والنيق - بكسر النون -: أرفع. وضع في الجبل. وقيل: الطويل منه. (3) قائله المرقش. (4) راجع ج 16 ص 55 (*)
[ 85 ]
كقوله تعالى: (فاسأل به خبيرا (1)) أي فاسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون (عن) على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عزوجل، لان بعده: (إن هو إلا وحي يوحى). الثانية - قد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معدى كرب (2) في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت (إن هو إلا وحي يوحى) من (ما ضل صاحبكم) قال ابن الانباري: وهذا غلط، لان (إن) الخفيفة لا تكون مبدلة من (ما) الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد. قوله تعالى: (علمه شديد القوى) يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين، سوى الحسن فإنه قال: هو الله عزوجل، ويكون قوله تعالى: (ذو مرة) على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى، وأصله من شدة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. ثم قال: (فاستوى) يعني الله عزوجل، أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: (فاستوى. وهو بالافق الا على) أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع ب (هو). وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه، فيقولون: استوى هو وفلان، وقلما يقولون استوى وفلان، وأنشد الفراء: ألم تر أن النبع يصلب عوده * ولا يستوي والخروع المتقصف (3) أي لا يستوي هو والخروع، ونظير هذا: (أئذا كنا ترابا وآباؤنا (1)) والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وآباؤنا. ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الاسراء بالافق الاعلى. (1) راجع ج 13 ص 63 وص 228 (2) راجع ج 1 ص 37 (3) النبع: شجر في الجبال تؤخذ منه القسى. والخروع معروف. والمتقصف: المتكسر. (*)
[ 86 ]
وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر. وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالافق الاعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى (ذو مرة) في وصفه ذو منطق حسن، قاله ابن عباس. وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي (1)). وقال امرؤ القيس: كنت فيهم أبدا ذاحيلة * محكم المرة مأمون العقد وقد قيل: (ذو مرة) ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الارض السفلى (2)، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدته أيضا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الارض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند. وكان من شدته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الانبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف. وقال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة. قال الشاعر: قد كنت قبل لقاكم ذا مرة * عندي لكل مخاصم ميزانه وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمرة إحدى الطبائع الاربع، والمرة القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قوي ذو مرة. قال: ترى الرجل النحيف فتزدريه * وحشو ثيابه أسد مرير (3) وقال لقيط: حتى أستمرت على شزر مريرته * مر العزيمة لا رتا ولا (4) ضرعا (1) السوى: الصحيح الاعضاء. (2) في ح، س: (من الماء الاسود). (3) قائله العباس بن مرداس. وفى التاج: وفى أثوابه رجل مزير. بالزاى. ويروى: أسد مزير. والمزير كأمير الشديد القلب القوى النافذ في الامور. (4) كذا في الاصول (لارتا) والرتة ردة قبيحة في اللسان من العيب. والذى في ديوان لقيط بآخر كتاب منتهى الطلب: (لا قحما). والقحم: الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف. والضرع: اللبن الذليل. (*)
[ 87 ]
وقال مجاهد وقتادة: (ذو مرة) ذو قوة، ومنه قول خفاف بن ندبة: إني امرؤ ذو مرة فاستبقني * فيما ينوب من الخطوب صليب فالقوة تكون من صفة الله عزوجل، ومن صفة المخلوق. (فاستوى) يعني جبريل على ما بينا، أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد ابن المسيب وابن جبير. وقيل: (فاستوى) أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، لانه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الا دميين كما كان يأتي إلى الانبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الارض ومرة في السماء، فأما في الارض ففي الافق الاعلى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الارض إلى المغرب، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمه إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة). فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: (إن هذا لعظيم) فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وانه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصع. يعنى العصفور الصغير، دليله قوله تعالى: (ولقد رآه بالافق المبين (1)) وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الانبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقول ثالث أن معنى (فاستوى) أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى (فاستوى) فاعتدل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وفيه على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي. قلت: وعلى الاول يكون تمام الكلام (ذو مرة، وعلى الثاني (شديد القوى). وقول خامس أن معناه فارتفع. وفيه على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام (1) راجع ج 19 ص 239 (*)
[ 88 ]
ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفا. الثاني أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج. وقول سادس (فاستوى) يعني الله عزوجل، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في (الاعراف (1)). قوله تعالى: (وهو بالافق الاعلى) جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عاليا، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والافق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفق وأفق مثل عسر وعسر. وقد مضى في (حم السجدة (2)). وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الانثى، قال الشاعر: أرجل لمتي وأجر ذيلي * وتحمل شكتي أفق كميت (3) وقيل: (وهو) أي النبي صلى الله عليه وسلم (بالافق الاعلى) يعني ليلة الاسراء وهذا ضعيف، لانه يقال: استوى هو وفلان، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالافق الاعلى على صورته الاصلية، لانه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملا الافق. قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى) أي دنا جبريل بعد استوائه بالافق الاعلى من الارض (فتدلى) فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وذلك قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده) يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل (قاب قوسين أو أدنى) قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن (1) راجع ج 7 ص 219 وج 1 ص 254 (2) راجع ج 15 ص 374 (3) قائله عمرو بن قنعاس المرادى. والشكة السلاح. وفى اللسان: وتحمل بزتى. والكميت من الخيل ما خلط حمرته سواد غير خالص. (*)
[ 89 ]
ابن عباس أيضا في قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى) أن معناه أن الله تبارك وتعالى (دنا) من محمد صلى الله عليه وسلم (فتدلى). وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. وأصل التدلي النزول إلى الشئ حتى يقرب منه فوضع موضع القرب، قال لبيد (1): فتدليت عليه قافلا * وعلى الارض غيابات الطفل وذهب الفراء إلى أن الفاء في (فتدلى) بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني، لان الشتم والاساءة شئ واحد. وكذلك قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر (2)) المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة. وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا، لان التدلي سبب الدنو. وقال ابن الانباري: ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالافق الاعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلى أي تدلل، كقولك تظني بمعنى تظنن، وهذا بعيد، لان الدلال غير مرضي في صفة العبودية. قوله تعالى: (فكان قاب قوسين أو أدنى) أي (كان) محمد من ربه أو من جبريل (قاب قوسين) أي قدر قوسين عربيتين. قاله ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: (فكان قاب قوسين) قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله (3): * وقد جعلتني من حزيمة إصبعا * (1) البيت في وصف فرس. أراد أنه نزل من مربائه وهو على فرسه راكب. (2) راجع ص 125 من هذا الجزء (3) اختلف في القائل موصدر البيت: * فأدرك ابقاء العرادة ظلعها * وفى ز: (خزيمة) بالخاء المعجمة، وهو تحريف. وحزيمة (بالمهملة): اسم فارس من فرسان العرب. والعرادة: اسم فرس من خيل العرب في الجاهلية. (*)
[ 90 ]
أي ذا مقدار مسافة إصبع (أو أدنى) أي على تقديركم، كقوله تعالى: (أو يزيدون (1)). وفي الصحاح: وتقول بينهما قاب قوس، وقيب قوس وقاد قوس، وقيد قوس، أي قدر قوس. وقرأ زيد بن علي (قاد) وقرئ (قيد) و (قدر). ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى: (قاب قوسين) أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث: (ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها) والقد السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها). وإنما ضرب المثل بالقوس، لانها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: (فكان قاب قوسين أو أدنى) فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والاشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفي، وإنافة المنزلة والقرب من الله، ويتأول فيه ما يتأول في قوله عليه السلام: (من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) قرب بالاجابة والقبول، وإتيان بالاحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: (ثم دنا) جبريل من ربه (فكان قاب قوسين أو أدنى) قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث: (إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام). وقيل: (أو) بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى. وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين. وقال سعيد بن جبير وعطاء (1) راجع ج 15 ص 130 (*)
[ 91 ]
وأبو إسحق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: (فكان قاب قوسين) أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شئ، وهى لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شنوءة أيضا. وقال الكسائي: قوله: (فكان قاب قوسين أو أدنى) أراد قوسا واحدا، كقول الشاعر: ومهمهين قذفين مرتين * قطعته بالسمت لا بالسمتين (1) أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس، وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي وقسي وأقواس وقياس، وأنشد أبو عبيدة: * ووتر الاساور القياسا (2) * والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب، قال الشاعر وذكر امرأة: * لاستفتنتني وذا المسحين في القوس (3) * قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشئ بسرعة ومنه الوحاء (4) الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى. وقيل: المعنى [ (فأوحى إلى عبده) جبريل عليه السلام (ما أوحى (5)) ]. وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة: أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم ؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالايمان به (1) السمت: الطريق ومعناه قطعته على طريق واحد. (2) قائله القلاخ بن حزن. وتمامه: * صغدية تنزع الانفاسا * والاساور: جمع اسوار وهو المقدم من أساورة الفرس. والصغد: جيل من العجم ويقال انه اسم بلد. (مادة قوس). (3) قائله جرير. وصدره: * لا وصل إذ صرقت هند ولو وقفت * (4) يمد ويقصر فالمقصور الوحى كالوغى ومعناه البدار البدار. راجع ج 4 ص 85 وج 10 ص 133 في معنى الوحى والقول فيه. (5) مابين المربعين ساقط من ح، ز، ل، ه. (*)
[ 92 ]
على الجملة، أو هو معلوم مفسر ؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال: أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيما فآويتك ! ألم أجدك ضالا فهديتك ! ألم أجدك عائلا فأغنيتك ! (ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك). وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الانبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الامم حتى تدخلها أمتك. قوله تعالى: ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رأه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من ءايات ربه الكبرى (18) قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية. وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر. والاول مروي عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذر وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لابراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في (الانعام (1)) عند قوله: (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار). وروى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك ؟ قال: (رأيته بفؤادي مرتين) ثم قرأ: (ما كذب الفؤاد ما رأى). وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته، قاله الحسن. وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال: (رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت (1) راجع ج 7 ص 54. (*)
[ 93 ]
وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك). وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال: (نور أني أراه) المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودل على هذا الرواية الاخرى (رأيت نورا). وقال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وقرأ هشام عن ابن عامر وأهل الشام (ما كذب) بالتشديد أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدقه. ف (ما) مفعوله بغير حرف مقدر، لانه يتعدى مشددا بغير حرف. ويجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. الباقون مخففا، أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى، فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه: لو كنت صادقة الذي حدثتني * لنجوت منجا الحارث بن هشام أي في الذي حدثتني. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. ويجوز أن يكون بمعنى الذي، أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى. قوله تعالى: (أفتما رونه على ما يرى) قرأ حمزة والكسائي (أفتمرونه) بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. واختاره أبو عبيد، لانه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا، قال الشاعر: لئن هجرت (1) أخا صدق ومكرمة * لقد مريت أخا ما كان يمريكا أي جحدته. وقال المبرد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك، أي رضي عنك. وقرأ الاعرج ومجاهد (أفتمرونه) بضم التاء من غير ألف من أمريت، أي تريبونه وتشككونه. الباقون (أفتمارونه) بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله، والمعنيان متداخلان، لان مجادلتهم جحود. وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد، قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدم (2). (1) وروى: هجوت. (2) راجع ج 10 ص 209. (*)
[ 94 ]
قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى) (نزلة) مصدر في موضع الحال كأنه قال: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. قال ابن عباس: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بقلبه. روى مسلم عن أبي العالية عنه قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) (ولقد رآه نزلة أخرى) قال: رآه بفؤاده مرتين، فقوله: (نزلة أخرى) يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان له صعود ونزول مرارا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة وعلى هذا قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى) أي ومحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات. وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى) أنه جبريل. ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم. وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل بالافق الاعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت) ذكره المهدوي. قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى) (عند) من صلة (رآه) على مابينا. والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة. والحديث بهذا في صحيح مسلم، الاول ما رواه مرة عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الارض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال: فراش (1) من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات (2). الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات) لفظ الدارقطني. والنبق بكسر الباء: ثمر السدر الواحد نبقة. ويقال: نبق بفتح النون وسكون (1) ويروى: (جراد من ذهب). والفراش: دويبة ذات جناحين تهافت في ضوء السراج واحدتها فراشة. (2) المقحمات: الذنوب العظام التى تقحم أصحابها في النار، أي تلقيهم فيها. (*)
[ 95 ]
الباء، ذكرهما يعقوب في الاصلاح وهي لغة المصريين، والاولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد ذكر له سدرة المنتهى - قال: (يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب - شك يحيى - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. قلت: وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس (ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عزوجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها). واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة: الاول - ما تقدم عن أبن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. الثاني - أنه ينتهي علم الانبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها، قاله ابن عباس. الثالث - أن الاعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك. الرابع - لانتهاء الملائكة والانبياء إليها ووقوفهم عندها، قاله كعب. الخامس - سميت سدرة المنتهى لانها ينتهي إليها أرواح الشهداء، قاله الربيع بن أنس. السادس - لانه تنتهي (1) إليها أرواح المؤمنين، قاله قتادة. السابع - لانه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا. الثامن - هي شجرة على رءوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق، قاله كعب أيضا. قلت: يريد - والله أعلم - أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رءوس حملة العرش، ودليله ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رءوس حملة العرش. والله أعلم. التاسع - سميت بذلك لان من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة. وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، (1) في ب، ح، ز، س، ه: (لانه تأوى إليها). (*)
[ 96 ]
وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، والورقة منها تغطي الامة كلها، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: (عندها جنة المأوى) تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى. وقرأ علي وأبو هريرة وأنس وأبو سبرة الجهني وعبد الله بن الزبير ومجاهد (عندها جنة المأوى) يعني جنه المبيت. قال مجاهد: يريد أجنه. والهاء للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الاخفش: أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه. وقراءة العامة (جنة المأوى) قال الحسن: هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: إنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء، قاله ابن عباس. وهى عن يمين العرش. وقيل: هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة (1). وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى. وإنما قيل لها: جنة المأوى لانها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها. وقيل: لان جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها. والله أعلم. قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله. وقال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت. قال القشيري: وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيها ؟ قال: (فراش من ذهب). وفي خبر آخر (غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها). وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح [ الله تعالى (2) ] وذلك قوله: (إذ يغشى السدرة ما يغشى)) ذكره (1) في ب، ح، ز، ل،: (الرابعة) وكذا هو في حاشية الجمل عن القرطبى. (2) ساقطة من ز، ل، ه. (*)
[ 97 ]
المهدوي والثعلبي (1). وقال أنس بن مالك: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا. وقال مجاهد: إنه رفرف أخضر. وعنه عليه السلام: (يغشاها رفرف من طير خضر). وعن ابن عباس: يغشاها رب العزة، أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا: (فلما غشيها من أمر الله ما غشي). وقيل: هو تعظيم الامر، كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته. وهكذا قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى) ومثله: (الحاقة ما الحاقة (2)). وقال الماوردي في معاني القرآن له: فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الامر دون غيرها من الشجر ؟ قيل: لان السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الايمان الذي يجمع قولا وعملا ونية، فظلها من الايمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو داود في سننه قال: حدثنا نصر ابن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد ابن جبير بن مطعم عن عبد الله بن حبشي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار) وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار. قوله تعالى: (ما زاغ البصر ومأ طغى) قال ابن عباس: أي ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا تجاوز الحد الذي رأى. وقيل: ما جاوز ما أمر به. وقيل: لم يمد بصره إلى غير ما رأى (1) بعد هذا نقل الجمل عن القرطبى في تفسيره ما يأتي: وقيل ملائكة تغشاها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين زائرين كما يزور الناس الكعبة، وروى في حديث المعراج عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذهب بى جبر يل إلى سدرة المنتهى وأو راقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كقلان هجر) قال: (فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى قدر أن ينعتها من حسنها فأوحى إلى ما أوحى ففرض على خمسين صلاة في كل يوم وليلة) وقيل: يغشاها أنوار الله تعالى لان النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الانوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرك الشجرة، وخر موسى صعقا ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أبهمه تعظيما له. والغشيان يكون بمعنى التغطية. (2) راجع ج 18 ص 256 (*)
[ 98 ]
من الآيات. وهذا وصف أدب للنبي (1) صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، إذ لم يلتفت يمينا ولا شمالا. قوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) قال ابن عباس: رأى رفرفا سد الافق. وذكر البيهقي عن عبد الله قال: (رأى من آيات ربه الكبرى) قال ابن عباس: رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. وعنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة رفرف أخضر، قد ملا ما بين السماء والارض. قال البيهقي: قوله في الحديث (رأى رفرفا) يريد جبريل عليه السلام في صورته في رفرف، والرفرف البساط. ويقال: فراش. ويقال: بل هو ثوب كان لباساله، فقد روي أنه رآه في حلة رفرف. قلت: خرجه الترمذي عن عبد الله قال: (ما كذب الفؤاد ما رأى) قال: رأى وسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة من رفرف قد ملا ما بين السماء والارض). قال: هذا حديث حسن صحيح. قلت: وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: (دنا فتدلى) أنه على التقديم والتأخير، أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. قال: (فارقني جبريل وانقطعت (2) عني الاصوات وسمعت كلام ربي) فعلى هذا الرفرف ما يقعد ويجلس عليه كالبساط وغيره. وهو بالمعنى الاول جبريل. قال عبد الرحمن بن زيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل عليه السلام في صورته التي يكون فيها في السموات، وكذا في صحيح مسلم عن عبد الله قال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. ولا يبعد مع هذا أن يكون في حلة رفرف وعلى رفرف. والله أعلم. وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى. وعن ابن مسعود: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب، حكاه الماوردي. وقيل: رأى المعراج. وقيل: هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه، وهو أحسن، دليله: (لنريه من آياتنا (3)) و (من) يجوز أن تكون للتبعيض، وتكون (الكبرى) مفعولة ل (رأى) وهي في الاصل صفة الآيات ووحدت لرءوس (1) في ب، ز، ح، س، ل، وه: (أدب للنبى). (2) في ب، ح، س: (وارتفعت). (3) راجع ج 10 ص 204 (*)
[ 99 ]
الآيات. وأيضا يجوز نعت الجماعة بنعت الانثى، كقوله تعالى: (ولي فيها مآرب (1) أخرى). وقيل: (الكبرى) نعت لمحذوف، أي رأى من آيات ربه الكبرى. ويجوز أن تكون (من) زائدة، أي رأى آيات ربه الكبرى. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي رأى الكبرى من آيات ربه. قوله تعالى: أفرءيتم اللات والعزى (19) ومناوة الثالثة الاخرى (20) ألكم الذكر وله الانثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الاخرى) لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين إذ عبدوا مالا يعقل وقال (2): أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد. وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال (3). وقال هشام: فكانت مناة لهذيل وخزاعة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضى الله عنه فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع [ منارة (4) ] مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات، اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها (5) الصوت. قال ابن هشام: وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: (1) راجع ج 11 ص 187 (2) في ب، ح، ز، س، ل، ه: (وقيل). (3) اتفقت نسخ الاصل على القول بأن مناة لبنى هلال ولم نره لغير المؤلف. (4) الزيادة من كتاب الاصنام لابن الكلبى. (5) في كتاب الاصنام (فيه) بدل (منها). (*)
[ 100 ]
(ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الاولى) فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: (هل رأيت شيئا) قال: لا. قال: (فأعضد الثانية) فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل رأيت شيئا) قال: لا. قال: (فاعضد الثالثة) فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها، وخلفها دبية (1) السلمى وكان سادنها فقال: يا عز كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (تلك العزى [ ولن تعبد أبدا ]) وقال ابن جبير: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه. قتادة: نبت (2) كان ببطن نخلة. ومناة: صنم لخزاعة. وقيل: إن اللات فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ (3) الله، والعزى من العزيز، ومناة من منى الله الشئ إذا قدره. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح (اللات) بتشديد التاء وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج - ذكره البخاري عن ابن عباس - فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق. أبو صالح: إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه. مجاهد: كان رجل في رأس جبل له غنيمة يسلي (4) منها السمن ويأخذ منها الاقط ويجمع رسلها، ثم يتخذ منها حيسا (5) فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم. وقيل: إنه عامر بن ظرب العدواني. قال (6) الشاعر: لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف ينصركم من ليس ينتصر (1) دبية بالدال المهملة بن حرمس ويروى ابن حرمى ثم السلمى. (2) في ب، ز، ه ول: (بيت). (3) في ب، ح، ز، س، ل، ه: (اسم الله). (4) يسلى: يجمع. الاقط لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. والرسل اللبن. (5) الحيس: الطعام المتخذ من التمر والا قط والسمن. (6) هو شداد بن عارض الجشمى قاله في أبيات حين هدمت اللات وحرقت، ينهى ثقيفا عن العود إليها، والغضب لها (*)
[ 101 ]
والقراءة الصحيحة (اللات) بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء. قال الفراء: وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الاسدي (1) فقال ذاه لذات [ ولاه للات ] وقرأ (أفرأيتم اللاه) وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير (اللاه) بالهاء في الوقف، ومن قال: إن (اللات) من الله وقف بالهاء أيضا. وقيل: أصلها لاهة مثل شاة [ أصلها شاهة ] وهي من لاهت أي اختفت، قال الشاعر: لاهت فما عرفت يوما بخارجة * يا ليتها خرجت حتى رأيناها وفي الصحاح: اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء، قال الاخفش: سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع، فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه، لان الالف واللام التان في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين، وأما ما سمعنا من الاكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه لانها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل كان من الامر كيت وكيت، وكذلك هيهات في لغة من كسرها، إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات، لان التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الالف، وإن جعلت الالف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد. قوله تعالى: (ومناة الثالثة الاخرى) قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي والاعشى عن أبي بكر (ومناءة) بالمد والهمز. والباقون بترك الهمز لغتان. وقيل: سمي بذلك، لانهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وكان الكسائي وابن كثير وابن محيصن يقفون بالهاء على الاصل. (1) الذى ذكره النحاس في اعراب قوله تعالى: (ولات حين مناص) أن الفراء قال عن الكسائي: أحسبه أنه سأل أبا السمال كيف يقرأ فيقف على (ولات) فوقف عليها بالها. وعبارة الفراء في هذه السورة من تفسيره: وكان الكسائي يقف عليها بالهاء وأنا أقف على التاء. ا ه. ولم يذكر أبا فقعس. (*)
[ 102 ]
الباقون بالتاء أتباعا لخط المصحف. وفي الصحاح: ومناة اسم صنم كان [ لهذيل وخزاعة (1) ] بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة، والنسبة إليها منوي. وعبد مناة بن أد بن طابخة، وزيد مناة بن تميم بن مريمد ويقصر، قال هوبر الحارثي: ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة * على الشن ء فيما بيننا ابن تميم قوله تعالى: (الاخرى) العرب [ لا (2) ] تقول للثالثة أخرى وإنما الاخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رءوس الآي، كقوله: (مآرب أخرى) ولم يقل أخر. وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير مجازها أفرأيتم اللات والعزى الاخرى ومناة الثالثة. وقيل: إنما قال (ومناة الثالثة الاخرى) لانها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى فالكلام على نسقه. وقد ذكرنا عن [ ابن (3) ] هشام: أن مناة كانت أولا في التقديم، فلذلك كانت مقدمة عندهم في التعظيم، والله أعلم. وفي الآية حذف دل عليه الكلام، أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله. ثم قال على جهة التقريع والتوبيخ: (ألكم الذكر وله الانثى) ردا عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والاصنام بنات الله. قوله تعالى: (تلك إذا) يعني هذه القسمة (قسمة ضيزى) أي جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضاز حقه يضيزه ضيزا - عن الاخفش - أي نقصه وبخسه. قال: وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا وأنشد: فإن تنا عنا ننتقصك وإن تقم (4) * فقسمك مضئوز وأنفك راغم وقال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزا، وضاز يضوز ضوزا، وضأز يضأز ضأزا إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص، قال الشاعر (5): ضازت بنو أسد بحكمهم * إذ يجعلون الرأس كالذنب (1) الزيادة من الصحاح واللسان. (2) زيادة يقتضيها السياق. (3) من ب، ح، ز، س، ل ه. (4) في الاصل (وان تغب) والتصويب عن اللسان. وروى فحظك بدل فقسمك. (5) قائله امرؤ القيس. (*)
[ 103 ]
قوله تعالى: (قسمة ضيزى) أي جائرة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى، وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء، لانه ليس في الكلام فعلى صفة، وإنما هو من بناء الاسماء كالشعرى والدفلى. قال الفراء: وبعض العرب تقول ضوزى وضئزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد: أنه سمع العرب تهمز (ضيزى). قال غيره: وبها قرأ ابن كثير، جعله مصدرا مثل ذكرى وليس بصفة، إذ ليس في الصفات فعلى ولا يكون أصلها فعلى، إذ ليس فيها ما يوجب القلب، وهي من قولهم ضأزته أي ظلمته. فالمعنى قسمة ذات ظلم. وقد قيل هما لغتان بمعنى. وحكى فيها أيضا سواهما ضيزى وضازى وضوزى وضؤزى. وقال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض بيض والاصل بوض، مثل حمر وصفر وخضر. فأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى. قوله تعالى: ان هي الا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ان يتبعون الا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاء هم من ربهم الهدى (23) أم للانسان ما تمنى (24) فلله الاخرة والاولى (25) وكم من مللك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى (26) قوله تعالى: (ان هي الا أسماء سميتموها) أي ما هي يعني هذه الاوثان (إلا أسماء سميتموها) يعنى نحتموها وسميتموها آلهة. (أنتم وآباؤكم) أي قلد تموهم في ذلك. (ما أنزل الله بها من سلطان) أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان. (ان يتبعون الا الظن) عاد من الخطاب إلى الخبر أي ما يتبع هؤلاء إلى الظن. (وما تهوى الانفس) أي تميل إليه. وقراءة العامة (يتبعون) بالياء. وقرأ عيسى بن عمرو أيوب وابن السميقع
[ 104 ]
(تتبعون) بالتاء على الخطاب. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس. (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) أي البيان من جهة الرسول أنها ليست بآلهة. (أم للانسان ما تمنى) أي اشتهى أي ليس ذلك له. وقيل: (للانسان ما تمنى) من البنين، أي يكون له دون البنات. وقيل: (أم للانسان ما تمنى) من غير جزاء ! ليس الامر كذلك. وقيل: (أم للانسان ما تمنى) من النبوة أن تكون فيه دون غيره. وقيل: (أم للانسان ما تمنى) من شفاعة الاصنام، نزلت في النضر بن الحرث. وقيل: في الوليد بن المغيرة. وقيل: في سائر الكفار. (فلله الاخرة والاولى) يعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا ما تمنى أحد. قوله تعالى: (وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والاصنام، وزعم أن ذلك يقربه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لاتشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الاخفش: الملك واحد ومعناه جمع، وهو كقوله تعالى: (فما منكم من أحد عنه حاجزين (1)). وقيل: إنما ذكر ملكا واحدا، لان كم تدل على الجمع. قوله تعالى: ان الذين لا يؤمنون بالاخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى (27) وما لهم به من علم ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا (28) فأعرض عن من يولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا (29) ذالك مبلغهم من العلم ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30) قوله تعالى: (ان الذين لا يؤمنون بالاخرة) هم الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله والاصنام بنات الله. (ليسمون الملائكة تسمية الانثى) أي كتسمية الانثى، أي (1) راجع ج 18 ص 276. (*)
[ 105 ]
يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. (وما لهم به من علم) أي إنهم لم يشاهدوا خلقه الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه في كتاب. (ان يتبعون) أي ما يتبعون (الا الظن) في أن الملائكة إناث. (وان الظن لا يغنى من الحق شيئا). قوله تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا) يعني القرآن والايمان. وهذا منسوخ بآية السيف. (ولم يرد الا الحياة الدنيا) نزلت في النضر. وقيل: في الوليد. (ذلك مبلغهم من العلم) أي إنما يبصرون أمر دنياهم ويجهلون أمر دينهم. قال الفراء: صغرهم وازدرى بهم، أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: أن جعلوا الملائكة والاصنام بنات الله. (ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) أي حاد عن دينه (وهو أعلم بمن اهتدى) فيجازي كلا بأعمالهم. قوله تعالى: ولله مافى السموات وما في الارض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى (31) الذين يجتنبون كبائر الاثم الفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض واذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32) قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الارض ليجزى الذين أساء وابما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسن) اللام متعلقة بالمعنى الذي دل عليه (ولله ما في السموات وما في الارض) كأنه قال: هو مالك ذلك يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته. وقيل: (لله ما في السموات وما في الارض) معترض في الكلام، والمعنى: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي. وقيل: هي
[ 106 ]
لام العاقبة، أي ولله ما في السموات وما في الارض، أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسئ ومحسن، فللمسئ السوءى وهي جهنم، وللمحسن الحسنى وهي الجنة. قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللمم) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش) هذا نعت للمحسنين، أي هم لا يرتكبون كبائر الاثم وهو الشرك، لانه أكبر الآثام. وقرأ الاعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (كبير) على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك. (والفواحش) الزنى: وقال مقاتل: (كبائر الاثم) كل ذنب ختم بالنار. (والفواحش) كل ذنب فيه الحد. وقد مضى في (النساء (1)) القول في هذا. ثم استثنى استثناء منقطعا وهي: المسألة الثانية - فقال: (إلا اللمم) وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه (2) الله وحفظه. وقد اختلف في معناها، فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: (اللمم) كل ما دون الزنى. وذكر مقاتل بن سليمان: أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار، كان له حانوت يبيع فيه تمرا، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! ما من شئ يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع، فقال: (لعل (3) زوجها غاز) فنزلت هذه الآية، وقد مضى في آخر (هود (3)) وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطئ من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: زنى العينين النظر، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج، فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب (1) راجع ج 5 ص 158 (2) في ب: (سلمه الله). (3) راجع ج 9 ص 111، ففيه بيان الاجمال في هذا الحديث برواية أخرى. (*)
[ 107 ]
على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الاثم. والله أعلم. وفي رواية أبي صالح [ عن أبي (1) هريرة ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والاذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه). خرجه مسلم. وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الاذن واليد والرجل، وزاد فيه بعد العينين واللسان: (وزنى الشفتين القبلة). فهذا قول. وقال ابن عباس أيضا: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب. قال: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن يغفر الله يغفرجما * وأي عبد لك لا ألما رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس (2). قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا. وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عزوجل (إلا اللمم) قال: هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده، قال الشاعر (3): إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما وكذا قال مجاهد والحسن: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري، قال: اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أو يشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا (4) لذنوبهم) الآية. ثم قال: (أولئك جزاؤهم مغفرة من (4) ربهم) فضمن لهم المغفرة، كما قال عقيب اللمم: (1) من ب، ى. (2) روى هذا الحديث الترمذي بهذا الاسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. (3) هو أمية بن الصلت قاله عند احتضار. (4) راجع ج 4 ص 209 وص 215. (*)
[ 108 ]
(إن ربك واسع المغفرة) فعلى هذا التأويل يكون (إلا اللمم) استثناء متصل. قال عبد الله ابن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقيل: اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة. ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس. وقال الكلبي: اللمم على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الانسان المرة بعد المرة فيتوب منه. وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به. وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كنتم بالامس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه (1)، وهو كقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف (2)). وقيل: اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة، قاله نفطويه. قال: والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما، أي في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل، لان العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الانسان لا إذا هم ولم يفعله. وفي الصحاح: وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة. وأنشد غير الجوهري: بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب * وقل إن تملينا فما ملك القلب أي اقرب. وقال عطاء بن أبي رباح: اللمم عادة النفس الحين بعد الحين. وقال سعيد ابن المسيب: هو ما ألم على القلب، أي خطر. وقال محمد بن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم. ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن للشيطان لمة وللملك لمة) الحديث. وقد مضى في (البقرة (3)) عند قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر). وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل اللمم والالمام ما يعمله الانسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه (1) في ا: (وأبوه) وما أثبتناه يوافق ما في تفسير أبى حيان والطبري). (2) راجع ج 5 ص 116 (3) راجع ج 3 ص 329 (*)
[ 109 ]
ولا يقيم عليه، يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمما وإلماما: أي الحين بعد الحين. وإنما زيارتك إلمام، ومنه إلمام الخيال، قال الاعشى: ألم خيال من قتيلة بعد ما * وهى حبلها من حبلنا فتصرما وقيل: إلا بمعنى الواو. وأنكر هذا الفراء وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب. وقيل: اللمم النظرة التي تكون فجأة. قلت: هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به، لانه يقع من غير قصد واختيار، وقد مضى في (النور (1)) بيانه. واللمم أيضا طرف من الجنون، ورجل ملموم أي به لمم. ويقال أيضا: أصابت فلانا لمة من الجن وهي المس والشئ القليل، قال الشاعر (2): فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن * إلا كلمة حالم بخيال الثالثة - قوله تعالى: (ان ربك واسع المغفرة) لمن تاب من ذنبه واستغفر، قاله ابن عباس. وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة، فقلت: لمن هذه ؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا، فقلت: وكيف ذلك ؟ فقالوا: إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة. فقال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت. قوله تعالى: (هو أعلم بكم) من أنفسكم (إذ أنشأكم من الارض) يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع. قال الترمذي أبو عبد الله: وليس هو كذلك عندنا، بل وقع الانشاء على التربة التي رفعت من الارض، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الاصلاب مع ذرو النفوس على اختلاف هيئتها، ثم استخرجها من صلبها على اختلاف الهيئات، منهم كالدر يتلالا، وبعضهم أنور من بعض، وبعضهم أسود كالحممة، وبعضهم أشد سوادا من بعض، فكان الانشاء واقعا علينا وعليه. حدثنا عيسى (1) راجع ج 12 ص 227. (2) هو ابن مقبل. والواو في (وذلك) زائدة كقول أبى كبير الهذلى: فإذا وذلك ليس الا حينه * وإذا مضى شئ كأز لم يفعل (*)
[ 110 ]
ابن حماد العسقلاني قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الاوزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرض علي الاولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة) فقال قائل: يا رسول الله ! ومن مضى من الخلق ؟ قال: (نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق (1) أحد) قالوا: ومن في أصلاب الرجال وبطون الامهات ؟ قال: (نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الاسماء كلها). قلت: وقد تقدم في أول (الانعام (2)) أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها. (واذ أنتم أجنة) جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينا لاجتنانه واستتاره. قال عمرو بن كلثوم: * هجان اللون لم تقرأ جنينا (3) وقال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقى، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقى ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخا - لا أبالك ! - فما بعد هذا ننتظر ؟ !. وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الانصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صديق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد) فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: (هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض) إلى آخرها. ونحوه عن عائشة: (كان اليهود). بمثله. (فلا تزكوا أنفسكم) أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع. (هو أعلم بمن اتقى) أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله، عن الحسن وغيره. قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة. وقد مضى في (النساء) الكلام في معنى هذه الآية عند قوله (1) كذا في ا، ز. وفى ح، ه، س (فهل كان أحد). وفى ب: (فهل كان قبله أحد). (2) راجع ج 6 ص 388. (3) وصدره: * ذراعي حرة أدماء بكر * وهى رواية أبى عبيدة. أي لم تضم في رحمها ولدا قط. (*)
[ 111 ]
تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم (1)) فتأمله هناك. وقال ابن عباس: ما من أحد من هذه الامة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: أفرءيت الذى تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35) قوله تعالى: (أفرأيت الذى تولى. وأعطى قليلا وأكدى) [ الايات (2) ] لما بين جهل المشركين في عبادة الاصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قداتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الاشياخ وضللتهم (3) وزعمت أنهم في النار ؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن [ له (4) ] ثم بخل ومنعه فانزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل: (وأعطى قليلا) أي من الخير بلسانه (وأكدى) أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الايمان ثم تولى فنزلت: (أفرأيت الذي تولى) الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك ألا يبقى لك شئ. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه ! فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع [ من الصدقة (4) ] فأنزل الله تعالى: (أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى) فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي. وقال السدي أيضا: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه (1) راجع ج 5 ص 246 (2) من ب ول. (3) في ب وس وه: (مللهم). (4) الزيادة من أسباب النزول للواحدي. (*)
[ 112 ]
كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل ابن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الاخلاق، فذلك قوله تعالى: (وأعطى قليلا وأكدى). وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه. وأصل (أكدى) من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. وقال الحطيئة: فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه * ومن يبذل المعروف في الناس يحمد قال الكسائي وغيره: أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى إذا بلغ إلى الصلب. ويقال: كديت أصابعه إذا كلت (1) من الحفر. وكديت (2) يده إذا كلت فلم تعمل شيئا. وأكدى النبت إذا قل ريعه، وكدت الارض تكدو كدوا [ وكدوا ] فهي كادية إذا أبطأ نباتها، عن أبى زيد. وأكديت الرجل عن الشئ رددته عنه. وأكدى الرجل إذا قل خيره. وقوله: (وأعطى قليلا وأكدى) أي قطع القليل. قوله تعالى: (أعنده علم الغيب فهو يرى) أي أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب ؟. (فهو يرى) أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة، وما يكون من أمره حتى يضمن حمل العذاب عن غيره، وكفى بهذا جهلا وحمقا. وهذه الرؤية هي المتعدية إلى مفعولين والمفعولان محذوفان، كأنه قال: فهو يرى الغيب مثل الشهادة. قوله تعالى: أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وابراهيم الذى وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للانسان الا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزآء الاوفى (41) وان إلى ربك المنتهى (42) (1) في ب، ح، ز، س، ه: (إذا محلت). (2) في النسخ السابقة: (وكدت يده). (*)
[ 113 ]
قوله تعالى: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وابراهيم) أي صحف (ابراهيم الذى وفى) كما في سورة (الاعلى (1)) (صحف إبراهيم وموسى) أي لا تؤخذ نفس بد لا عن أخرى، كما قال: (أن لا تزر وازرة وزر أخرى) وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر، لانه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة (2) أخيه وأبنه وأبيه، قاله الهذيل بن شرحبيل. (وأن) هذه المخففة من الثقيلة وموضعها جر بدلا من (ما) أو يكون في موضع رفع على اضمار هو. وقرأ سعيد بن جبير وقتادة (وفى) خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة (وفي) بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا. وقد مضى في (البقرة (3)) عند قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) والتوفية الاتمام. وقال أبو بكر الوراق: قام بشرط ما ادعى، وذلك أن الله تعالى قال له: (أسلم قال أسلمت لرب العالمين (3)) فطالبه الله بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده (4) وافيا بذلك، فذلك قوله: (وإبراهيم الذي وفى) أي ادعى الاسلام ثم صحح دعواه. وقيل: وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار، رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه (ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم (الذي وفى) لانه كان يقول كلما أصبح وأمسى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (5))) الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: (وفى) أي وفى ما أرسل به، وهو قوله: (أن لا تزر وازرة وزر أخرى) قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة، فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى: (أن لا تزر وازرة وزر أخرى). وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى (وفى): عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه. وهذا أحسن، لانه عام. وكذا قال مجاهد: (وفى) بما فرض عليه. وقال أبو مالك (1) راجع ج 20 ص 13. (2) في ل: (بجريمة). (3) راجع ج 2 ص 98 وص 134 (4) في ز، ل: (فوجد وافيا). (5) راجع ج 14 ص 14. (*)
[ 114 ]
الغفاري قوله تعالى: (أن لا تزر وازرة وزر أخرى) إلى قوله: (فبأي آلاء ربك تتمارى) في صحف إبراهيم وموسى، وقد مضى في آخر (الانعام (1)) القول في (ولا تزر وازرة وزر أخرى) مستوفى. قوله تعالى: (وأن ليس للانسان الا ما سعى) روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم (2)) فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الابناء والابناء في الآباء، يدل على ذلك قوله تعالى: (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا (3)). وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد، وأجمعوا أنه لا يصلي أحد عن أحد. ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت، إلا أنه قال: إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه. وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت أفأتصدق عنها ؟ قال: (نعم) قال: فأي الصدقة أفضل ؟ قال: (سقي الماء). وقد مضى جميع هذا مستوفى في (البقرة (4)) و (آل عمران (5)) (والاعراف (6)). وقد قيل: إن الله عزوجل إنما قال: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) ولام الخفض معناها في العربية الملك والايجاب فلم يجب (7) للانسان إلا ما سعى، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شئ إلا أن الله عزوجل يتفضل عليه بما لا يجب له، كما يتفضل على الاطفال بادخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره. قلت: وكثير من الاحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها، وليس في الصدقة اختلاف، كما في صدر (1) راجع ج 7 ص 157 وص 215. (2) راجع ص 66 من هذا الجزء. (3) راجع ج 5 ص 74. (4) راجع ج 3 ص 428. (5) راجع ج 4 ص 151. (6) هكذا في الاصول ولم نعثر على هذا المعنى في السورة المذ كورة. (7) في ب، ح، ز، س، ل وه: (فليس يجب). (*)
[ 115 ]
كتاب مسلم عن عبد الله بن المبارك. وفي الصحيح: (إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاث) وفيه (أو ولد صالح يدعو له) وهذا كله تفضل من الله عزوجل، كما أن زيادة الاضعاف فضل منه، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة، كما قيل لابي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة) فقال سمعته يقول: (إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة) فهذا تفضل. وطريق العدل (أن ليس للانسان إلا ما سعى). قلت: ويحتمل أن يكون قوله: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) خاص في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة). وقال أبو بكر الوراق: (إلا ما سعى) إلا ما نوى، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: (يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم). قوله تعالى: (وأن سعيه سوف يرى) أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة (ثم يجزاه) أي يجزى به (الجزاء الاوفى). قال الاخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما، قال الشاعر: إن أجز علقمة بن سعد سعيه * لم أجزه ببلاء يوم واحد فجمع بين اللغتين. قوله تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) أي المرجع والمراد والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الامان. وعن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأن إلى ربك المنتهى) قال: (لا فكرة في الرب). وعن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذ ذكر الله تعالى فانته).
[ 116 ]
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته) وقد تقدم في آخر (الاعراف (1)). ولقد أحسن من قال: ولا تفكرن (2) في ذي العلا عز وجهه * فإنك تردى إن فعلت وتخذل ودونك مصنوعاته فاعتبر بها * وقل مثل ما قال الخليل المبجل قوله تعالى: وانه هو أضحك وأبكى (43) وأنه هو أمات وأحيا (44) وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) قوله تعالى: (وأنه هو أضحك وأبكى) ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا والله ما قال رسول الله قط إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: (إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى). وعنها قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) فنزل عليه جبريل فقال: يا محمد ! إن الله يقول لك: (وأنه هو أضحك وأبكى). فرجع إليهم فقال: (ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: (هو أضحك وأبكى) أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء ابن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن، لان الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال: نعم ! والايمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدم هذا المعنى في (النمل (3)) و (براءة (4)). قال الحسن: (1) راجع ج 7 ص 348. (2) من أفكر لغة في فكر بالتضعيف. (3) راجع ج 13 ص 175. (4) راجع ج 8 ص 217. (*)
[ 117 ]
أضحك الله أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. الضحاك: أضحك الارض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل: أضحك الاشجار بالنوار، وأبكى السحاب بالامطار. وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبد الله: أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد ابن علي الترمذي: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبد الله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد: السن تضحك والاحشاء تحترق * وإنما ضحكها زور ومختلق يا رب باك بعين لا دموع لها * ورب ضاحك سن ما به رمق وقيل: إن الله تعالى خص الانسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الانسان. وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وإن الابل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة ؟ فقال: ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم. (وأنه هو أمات وأحيا) أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خلق الموت والحياة كما قال: (الذي خلق الموت والحياة (1)) قاله ابن بحر. وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالايمان، قال الله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه (2)) الآية. وقال: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) على ما تقدم (2)، وإليه يرجع قول عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال: أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل: أمات النطفة وأحيا النسمة. وقيل: أمات الآباء وأحيا الابناء. وقيل: يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل: أنام وأيقظ. وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث. (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى) أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة. (1) راجع ج 18 ص 206 (2) راجع ج 7 ص 78 وج 6 ص 418 (*)
[ 118 ]
والنطفة الماء القليل، مشتق من نطف الماء إذا قطر. (تمنى) تصب في الرحم وتراق، قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبى رباح. يقال: منى الرجل وأمنى من المني، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل: (تمنى) تقدر، قاله أبو عبيدة. يقال: منيت الشئ إذا قدرته، ومني له أي قدر له، قال الشاعر (1): * حتى تلاقي ما يمني لك الماني * أي ما يقدر لك القادر. قوله تعالى: وأن عليه النشأة الاخرى (47) وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه هو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الاولى (50) وثمودا فما أبقى (51) وقوم نوح من قبل انهم كانوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤ تفكة أهوى (53) فغشاها ما غشى (54) فبأئ الاء ربك تتمارى (55) قوله تعالى: (وأن عليه النشأة الاخرى) أي إعادة الارواح في الاشباح للبعث. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (النشأة) بفتح الشين والمد، أي وعد ذلك ووعده صدق. (وأنه هو أغنى وأقنى) قال ابن زيد: أغنى من شاء وأفقر من شاء، ثم قرأ (يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له (2)) وقرأ (يقبض ويبسط (3)) واختاره الطبري. وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن: (أغنى) مول (وأقنى) أخدم. وقيل: (أقنى) جعل (1) قائله أبو قلابة الهذلى. وصدره: * ولا تقولن لشئ سوف أفعله * وقيل هو لسويد بن عامر المصطلقى. وقبله: لا تأمن الموت في حل وفى حرم * ان النمايا توافي كل انسان واسلك طريقك فيها غير محتشم * حتى الخ............... (2) راجع ج 14 ص 307 (3) راجع ج 3 ص 237 (*)
[ 119 ]
لكم قنية تقتنونها، وهو معنى أخدم أيضا. وقيل: معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه، قاله ابن عباس. وقال الجوهري: قني الرجل يقنى قنى، مثل غني يغنى غنى، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القنية والنشب. وأقناه [ الله ] أيضا أي رضاه. والقنى الرضا، عن أبي زيد، قال وتقول العرب: من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القنى، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى، ومن أعطى مائة من الابل فقد أعطي المنى. ويقال: أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه. وقيل: (أغنى وأقنى) أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه، قاله سليمان التيمي. وقال سفيان: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا. وقال الاخفش: أقنى أفقر. قال ابن كيسان: أولد. وهذا راجع لما تقدم. (وأنه هو رب الشعرى) (الشعرى) الكوكب المضئ الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، وهما الشعريان العبور التي في الجوزاء والشعرى الغميصاء التي في الذراع، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان ربا لغيره، لان العرب كانت تعبده، فأعلمهم الله عزوجل أن الشعرى مربوب وليس برب. وأختلف فيمن كان يعبده، فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم، وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة ! وقال أبو سفيان يوم الفتح وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم، قال الشاعر: مضى أيلول وارتفع الحرور * وأخبت نارها الشعرى العبور وقيل: إن العرب تقول في خرافاتها: إن سهيلا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيا، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت
[ 120 ]
لفقد سهيل حتى غمصت عيناه، فسميت غميصاء لانها أخفى من الاخرى. (وأنه أهلك عادا الاولى) سماها الاولى لانهم كانوا من قبل ثمود. وقيل: إن ثمود من قبل (1) عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الاولى لانها أول أمة أهلكت بعد نوح عليه السلام. وقال ابن إسحق: هما عادان فالاولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الاخرى فأهلكت بالصيحة. وقيل: عاد الاولى هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، وعاد الثانية من ولد عاد الاولى، والمعنى متقارب. وقيل: إن عاد الآخرة الجبارون وهم قوم هود. وقراءة العامة (عادا الاولى) ببيان التنوين والهمز. وقرأ نافع وابن محيصن وأبو عمرو (عادا الاولى) بنقل حركة الهمزة إلى اللام وإدغام التنوين فيها، إلا أن قالون والسوسي يظهران الهمزة الساكنة. وقلبها الباقون واوا على أصلها، والعرب تقلب هذا القلب فتقول: قم الان عنا وضم لثنين أي قم الآن وضم الاثنين (وثمود فما أبقى) ثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة. قرئ (ثمودا) (وثمود) وقد تقدم (2). وانتصب على العطف على عاد. (وقوم نوح من قبل) أي وأهلك قوم نوج من قبل عاد وثمود (انهم كانوا هم أظلم وأطغى) وذلك لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه فينطلق إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل: إن الكناية ترجع إلى كل من ذكر من عاد وثمود وقوم نوح، أي كانوا أكفر من مشركي العرب وأطغى. فيكون فيه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يقول له: فاصبر أنت أيضا فالعاقبة الحميدة لك. (والمؤتفكة أهوى) يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال: أفكته أي قلبته وصرفته. (أهوى) أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء، رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الارض. وقال المبرد: جعلها تهوي. ويقال: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط (1) في ب، ح س وه: (من نسل عاد). (2) راجع ج 7 ص 238. (*)
[ 121 ]
و (أهوى) أي أسقط. (فغشاها ما غشى) أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة، قال الله تعالى: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل (1)) وقيل: إن الكناية ترجع إلى جميع هذه الامم، أي غشاها من العذاب ما غشاهم، وأبهم لان كلا منهم أهلك بضرب غير ما أهلك به الآخر. وقيل: هذا تعظيم الامر. (فبأى آلاء ربك تتمارى) أي فبأي نعم ربك تشك. والمخاطبة للانسان المكذب. والآلاء النعم واحدها ألى وإلى وإلي. وقرأ يعقوب (تمارى) بإدغام إحدى التاءين في الاخرى والتشديد. قوله تعالى: هذا نذير من النذر الاولى (56) أزفت الازفة (57) ليس لها من دون الله كاشفة (58) أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62) قوله تعالى: (هذا نذير من النذر الاولى) قال ابن جريج ومحمد بن كعب: يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الانبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة. وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الاولى. وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الامم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الامة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر، والنذر في قول العرب بمعنى الانذار كالنكر بمعنى الانكار، أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الامم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم) إلى قوله: (هذا نذير من النذر الاولى) كل هذه في صحف إبراهيم وموسى. (1) راجع ج 10 ص 542 (*)
[ 122 ]
قوله تعالى: (أزفت الازفة) أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده، كما قال: (يرونه بعيدا ونراه قريبا (1)). وقيل: سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها، لان كل ما هو آت قريب. قال: أزف الترحل غير أن ركابنا * لما تزل برحالنا وكأن قد وفي الصحاح: أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وأفد، ومنه قوله تعالى: (أزفت الآزفة) يعني القيامة، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد: قلت لاعرابي ما المحبنطئ ؟ قال: المتكأكئ. قلت: ما المتكأكئ ؟ قال: المتآزف. قلت: ما المتآزف ؟ قال: أنت أحمق وتركني ومر. (ليس لها من دون الله كاشفة) أي ليس لهامن دون الله من يؤخرها أو يقدمها. وقيل: كاشفة أي أنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله، فالكاشفة اسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية، كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل: أي لا أحد يرد ذلك، أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف، أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل: إن (كاشفة) بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية. قوله تعالى: (أفمن هذا الحديث) يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ (تعجبون) تكذيبا به (وتضحكون) استهزاء (ولا تبكون) انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما روى بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة: لما نزلت (أفمن هذا الحديث تعجبون) قال أهل الصفة: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار من بكى من (1) راجع ج 18 ص 284.
[ 123 ]
خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم). وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا ؟ قال: هذا فلان، فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. قوله تعالى: (وأنتم سامدون) أي لاهون معرضون. عن ابن عباس، رواه الوالبي والعوفي عنه. وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حمير، يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد، قال (1): * سوامد الليل خفاف الازواد * يقول: ليس في بطونها علف. وقال ابن الاعرابي: سمدت سمودا علوت. وسمدت الابل في سيرها جدت. والسمود اللهو، والسامد اللاهي، يقال للقينه: أسمدينا، أي ألهينا بالغناء. وتسميد الارض أن يجعل فيها السماد وهو سراجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى (سامدون) أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة. وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الامام، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال: (مالي أراكم سامدين) حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما [ ينتظرونه ] فقال: (مالكم سامدون) قاله المهدوي. والمعروف في اللغة: سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض. وقال المبرد: سامدون خامدون، قال الشاعر: أتى الحدثان نسوة آل حرب * بمقدور سمدن له سمودا (1) قائله رزبة بن العجاج يصف ابلا. (*)
[ 124 ]
وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون) لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صلى الله عليه وسلم. ذكره النحاس. قوله تعالى: (فاسجدوا لله واعبدوا) قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن. وهو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل: إنما سجد معه المشركون لانهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله: (أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الاخرى) وأنه قال: تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضي، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدم بيانه في (الحج (1)). فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا، فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر، كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. والاول أصح وقد مضى القول فيه آخر (الاعراف (2)) مبينا والحمد لله رب العالمين. تم تفسير سورة (والنجم). (1) هذه الاخبار من المفتريات على المعصوم سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أن ينطق بما هو نقيض القرآن، ولا يمكن أن ينطق على لسانه الشيطان. وكل ماكان من هذا المعنى فهو باطل وضعته الملاحدة للدخول به إلى الطعن في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أوفى الوحى أو في القران وهو الذى لا ينطق عن الهوى. راجع ما كتبه المصنف عن هذا الحديث في ج 12 ص 80. (2) راجع ج 7 ص 357. (*)
[ 125 ]
سورة القمر مكية كلها في قول الجمهور. وقال مقاتل: الا ثلاث آيات من قوله تعالى: (أم يقولون نحن جميع منتصر) إلى قوله: (والساعة أدهى وأمر) ولا يصح على ما يأتي. وهى خمس وخمسون آية. بسم الله الرحمن الرحيم اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وان يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3) ولقد جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5) فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر (6) خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر (8) قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر) (اقتربت) أي قربت مثل أزفت الآزفة (1)) على ما بيناه. فهى بالاضافة إلى ما مضى قريبة، لانه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال: (ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى) وما نرى من الشمس إلا يسيرا. وقال كعب ووهب: الدنيا ستة ألاف سنة. قال وهب: قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة. ذكره النحاس. ثم قال تعالى: (وأنشق القمر) أي وقد انشق القمر. وكذا قرأ حذيفة (اقتربت الساعة وقد انشق القمر) بزيادة (قد) وعلى هذا الجمهور من العلماء، ثبت ذلك في صحيح (1) راجع ص 122 من هذا الجزء. (*)
[ 126 ]
البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مطعم وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أنس قال: سأل أهل مكه النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت: (أقتربت الساعة وانشق القمر) إلى قوله: (سحر مستمر) يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ البخاري عن أنسى قال: انشق القمر فرقتين. وقال قوم: لم يقع انشقاق القمر بعد وهو منتظر، أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر، وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره. وكذا قال القشيري. وذكر الماوردي: أن هذا قول الجمهور، وقال: لانه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه، لانه آية والناس في الآيات سواء. وقال الحسن: اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية. وقيل: (وانشق القمر) أي وضح الامر وظهر، والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح، قال: أقيموا بني أمي صدور مطيكم * فإني إلى حي سواكم لاميل فقد حمت الحاجات والليل مقمر * وشدت لطيات مطايا وأرحل وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق (1) الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها، كما يسمى الصبح فلقا، لانفلاق الظلمة عنه. وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة: فلما أدبروا ولهم دوي * دعانا عند شق الصبح داع قلت: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها، لانها كانت آية ليلية، وأنها كانت باستدعاء النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدي. فروي أن حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضبا من سب أبي جهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن يريه آية يزداد بها يقينا في إيمانه. وقد تقدم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: هو على (1) في تفسير الجمل نقلا عن القرطبى: (زوال الظلمة). (*)
[ 127 ]
التقديم والتأخير، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة، قاله ابن كيسان. وقد مر عن الفراء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدم وتؤخر عند قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى (1)). قوله تعالى: (وان يروا آية يعرضوا) هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر. قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن فعلت تؤمنون) قالوا: نعم ؟ وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: (يا فلان يا فلان اشهدوا). وفي حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا من سحر ابن أبي كبشة، سحركم فاسألوا السفار، فسألوهم فقالوا: قد رأينا القمر انشق فنزلت: (اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا) أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضوا عن الايمان (ويقولوا سحر مستمر) أي ذاهب، من قولهم: مر الشئ واستمر إذا ذهب، قاله أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة، واختاره النحاس. وقال أبو العالية والضحاك: محكم قوي شديد، وهو من المرة وهي القوة، كما قال لقيط: حتى استمرت على شزر مريرته * مر العزيمة لا [ قحما (2) ] ولا ضرعا وقال الاخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله. وقيل: معناه مر من المرارة. يقال: أمر الشئ صار مرا، وكذلك مر الشئ [ يمر ] بالفتح مرارة فهو مر، وأمره غيره ومره. وقال الربيع: مستمر نافذ. يمان: ماض. أبو عبيدة: باطل. وقيل: دائم. قال (3): * وليس على شئ قويم بمستمر * (1) راجع ص 89 من هذا الجزء. (2) راجع هامش ص 86 من هذا الجزء في شرح البيت. (3) البيت لامرى القيس وصدره: * الا انما الدنيا ليال وأعصر * (*)
[ 128 ]
أي بدائم. وقيل: يشبه بعضه بعضا، أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا يأتي بشئ له حقيقة بل الجميع تخييلات. وقيل: معناه قد مر من الارض إلى السماء. (وكذبوا) نبينا (واتبعوا أهواءهم) أي ضلالاتهم واختياراتهم. (وكل أمر مستقر) أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار. وقرأ شيبة (مستقر) بفتح القاف، أي لكل شئ وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقد روي عن أبي جعفر بن القعقاع (وكل أمر مستقر) بكسر القاف والراء جعله نعتا لامر و (كل) على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وكل أمر مستقر في أم الكتاب كائن. ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة، المعنى: اقتربت الساعة وكل أمر مستقر، أي اقترب استقرار الامور يوم القيامة. ومن رفعه جعله خبرا عن (كل). قوله تعالى: (ولقد جاءهم من الانباء) أي من بعض الانباء، فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه، وأن لهم فيه شفاء. وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك، وذلك قوله تعالى: (ولقد جاءهم من الانباء) أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الامم الخالية (ما فيه مزدجر) أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه. وأصله مزتجر فقلبت التاء دالا، لان التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور، فأبدل من التاء دالا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر. و (مزدجر) من الزجر وهو الانتهاء، يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف، كما قال: فأصبح ما يطلب الغانيا * ت مزدجرا عن هواه ازدجارا وقرئ (مزجر) بقلب تاء الافتعال زايا وإدغام الزاي فيها، حكاه الزمخشري. (حكمة بالغة) يعني القران وهو بدل من (ما) من قوله: (ما فيه مزدجر). ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، أي هو حكمة. (فما تغن النذر)
[ 129 ]
إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى: (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (1)) ف (ما) نفي أي ليست تغني عنهم النذر. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ، أي فأي شئ تغني النذر عنهم وهم معرضون عنها. و (النذر) يجوز أن تكون بمعنى الانذار، ويجوز أن تكون جمع نذير. قوله تعالى: (فتول عنهم) أي أعرض عنهم. قيل: هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو تمام الكلام. ثم قال: (يوم يدع الداع) العامل في (يوم) (يخرجون من الاجداث) أو (خشعا) أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم. وقيل: على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الامر، تقديره: فتول عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي. وقيل: تول عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي. وقيل: أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، فإنهم يدعون (إلى شئ نكر) وينالهم عذاب شديد. وهو كما تقول: لا تسأل عما جرى على فلان إذا أخبرته بأمر عظيم. وقيل: أي وكل أمر مستقر يوم يدعوا الداعي. وقرأ ابن كثير (نكر) بإسكان الكاف، وضمها الباقون وهما لغتان كعسر وعسر وشغل وشغل، ومعناه الامر الفظيع العظيم وهو يوم القيامة. والداعي هو إسرافيل عليه السلام. وقد روي عن مجاهد وقتادة أنهما قرأا (إلى شئ نكر) بكسر الكاف وفتح الراء على الفعل المجهول. (خشعا أبصارهم) الخشوع في البصر الخضوع والذلة، وأضاف الخشوع إلى الابصار لان أثر العز والذل يتبين في ناظر الانسان، قال الله تعالى: (أبصارها خاشعة (2)) وقال تعالى: (خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي (3)). ويقال: خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره أي غضه. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو (خاشعا) بالالف ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو: (خاشعا أبصارهم) والتأنيث نحو: (خاشعة أبصارهم (4)) ويجوز الجمع نحو: (خشعا أبصارهم) قال (5): وشباب حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد (1) راجع ج 8 ص 386 (2) راجع ج 19 ص 194 (3) راجع ج 15 ص 45. (4) راجع ج 18 ص 248 (5) هو الحرث بن دوس الايادي، ويروى لابي دؤاد الايادي. (*)
[ 130 ]
و (خشعا) جمع خاشع والنصب فيه على الحال من الهاء والميم في (عنهم) فيقبح الوقف على هذا التقدير على (عنهم). ويجوز أن يكون حالا من المضمرفي (يخرجون) فيوقف على (عنهم). وقرئ (خشع أبصارهم) على الابتداء والخبر، ومحل الجملة النصب على الحال، كقوله: * [ وجدته (1) ] حاضراه الجود والكرم * (يخرجون من الاجداث) أي القبور واحدها جدث. (كأنهم جراد منتشر. مهطعين إلى الداع). وقال في موضع آخر: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث (2)) فهما صفتان في وقتين مختلفين، أحدهما - عند الخروج من القبور، يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها [ الثاني (3) ] - فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر، لان الجراد له جهة يقصدها. و (مهطعين) معناه مسرعين، قاله أبو عبيدة. ومنه قول الشاعر: بدجلة دارهم (4) ولقد أراهم * بدجلة مهطعين إلى السماع الضحاك: مقبلين. قتادة: عامدين. ابن عباس: ناظرين. عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت. والمعنى متقارب. يقال: هطع الرجل يهطع هطوعا إذا أقبل على الشئ ببصره لا يقلع عنه، وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه. قال الشاعر (5): تعبدني نمر بن سعد وقد أرى * وونمر بن سعد لي مطيع ومهطع وبعير مهطع: في عنقه تصويب خلقة. وأهطع في عدوه أي أسرع. (يقول الكافرون هذا يوم عسر) يعني يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة. (1) الزيادة من اعراب القرآن للسمين. (2) راجع ج 20 ص 165. (3) الزيادة من مفصل اعراب القرآن وغيره. (4) في اللسان: (أهلها). (5) قائله تبع. (*)
[ 131 ]
قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجرى بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركناها ءاية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (17) قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح) ذكر جملا من وقائع الامم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. (قبلهم) أي قبل قومك. (فكذبوا عبدنا) يعني نوحا. الزمخشري: فإن قلت ما معنى قوله: (فكذبوا) بعد قوله: (كذبت) ؟ قلت: معناه كذبوا فكذبوا عبدنا، أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لانه من جملة الرسل. (وقالوا مجنون) أي هو مجنون (وازدجر) أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل. وقيل إنما قال: (وازدجر) بلفظ ما لم يسم فاعله لانه رأس آية. (فدعا ربه) أي دعا عليهم حينئذ نوح وقال: رب (أنى مغلوب) أي غلبوني بتمردهم (فانتصر) أي فانتصر لي. وقيل: إن الانبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عزوجل لهم فيه. (ففتحنا أبواب السماء) أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء (بماء منهمر) أي كثير، قاله السدي. قال الشاعر: أعيني جودا بالدموع الهوامر * على خير باد من معد وحاضر وقيل: إنه المنصب المتدفق، ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا:
[ 132 ]
راح تمريه الصبا ثم انتحى * فيه شؤبوب جنوب منهمر (1) الهمر الصب، وقد همر الماء والدمع يهمر همرا. وهمر أيضا إذا أكثر الكلام وأسرع. وهمر له من ماله أي أعطاه. قال ابن عباس: ففتحنا أبواب السماء بماء [ منهمر (2) ] من غير سحاب لم يقلع أربعين يوما. وقرأ ابن عامر ويعقوب: (ففتحنا) مشددة على التكثير. الباقون (ففتحنا) مخففا. ثم قيل: إنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. وقيل: إنه المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر، قاله علي رضي الله عنه. (فجرنا الارض عيونا) قال عبيد ابن عمير: أوحى الله إلى الارض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة. (فالتقى الماء) أي ماء السماء وماء الارض (على أمر قد قدر) أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر، حكاه ابن قتيبة. أي كان ماء السماء والارض سواء. وقيل: (قدر) بمعنى قضي عليهم. قال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. وقال محمد بن كعب: كانت الاقوات قبل الاجساد، وكان القدر قبل البلاء، وتلا هذه الآية. وقال: (التقى الماء) والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا، لان الماء يكون جمعا وواحدا. وقيل: لانهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا. وقرأ الجحدري: (فالتقى الماءان). وقرأ الحسن: (فالتقى الماوان) وهما خلاف المرسوم. القشيري: وفي بعض المصاحف (فالتقى الماوان) وهي لغة طئ. وقيل: كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الارض حارا مثل الحميم. (وحملناه على ذات ألواح) أي على سفينة ذات ألواح. (ودسر) قال قتادة: يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت، وقاله القرظي وابن زيد وابن جبير، ورواه الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة: هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لانها تدسر الماء أي تدفعه، والدسر الدفع والمخر، ورواه العوفي عن ابن عباس قال: الدسر كلكل (3) السفينة. (1) راح: أي عاد في الرواح، كأن المطر كان في أول النهار ثم عاد في آخره. وتمريه: تستدره، وأصله من مرى الضرع وهو مسحه ليدر. والشؤبوب: الدفعة من المطر. وخص الصبا لانهم يمطرون بها. (2) الزيادة من ط. (3) الكلكل: الصدر. (*)
[ 133 ]
وقال الليث: الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة. وفي الصحاح: الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة، ويقال: هي المسامير، وقال تعالى: (على ذات ألواح ودسر). ودسر أيضا مثل عسر وعسر. والدسر الدفع، قال ابن عباس في العنبر: إنما هو شئ يدسره البحر دسرا أي يدفعه. ودسره بالرمح. ورجل مدسر. (تجرى بأعيننا) أي بمرأى منا. وقيل: بأمرنا. وقيل: بحفظ منا وكلاءة: وقد مضى في (هود (1)). ومنه قول الناس للمودع: عين الله عليك، أي حفظه وكلاءته. وقيل: بوحينا. وقيل: أي بالاعين النابعة من الارض. وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه. وقيل: أي تجري بأوليائنا، كما في الخبر: مرض عين من عيوننا فلم تعده. (جزاء لمن كان كفر) أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به، فاللام في (لمن) لام المفعول له، وقيل: (كفر) أي جحد، ف (من) كناية عن نوح. وقيل: كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب، أي عقابا لكفرهم بالله تعالى. وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد (جزاء لمن كان كفر) بفتح الكاف والفاء بمعنى: كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق (2)، كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك، ونجاه من الغرق. (ولقد تركناها آية) يريد هذه الفعلة عبرة. وقيل: أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل. قال قتادة: أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الامة، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا. (فهل من مدكر) متعظ خائف، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر، فثقلت على الالسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها. (فكيف كان عذابي ونذر) أي إنذاري، (1) راجع ج 9 ص 30. (2) عوج بن عنق هو المشهور والذى صوبه صاحب القاموس هو ابن عوق لاعنق. (*)
[ 134 ]
قال الفراء: إلانذار والنذر مصدران. وقيل: (نذر) جمع نذير ونذير بمعنى الانذار كنكير بمعنى الانكار. (ولقد ولقد يسرنا القرآن للذكر) أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر [ مأخوذ (1) ] من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه، قال: وقمت إليه باللجام ميسرا * هنالك يجزيني الذي كنت أصنع وقال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن، وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرءون التوراة إلا نظرا، غير موسى وهرون ويوشع ابن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت، على ما تقدم بيانه في سورة (براءة (2)) فيسر الله تعالى على هذه الامة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه، أي يفتعلوا الذكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب. فيهم. (فهل من مدكر) قارئ يقرؤه. وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكرر في هذه السورة للتنبيه والافهام. وقيل: إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الامة أنباء الامم وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الامم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين (3)، فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو ادكر، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله: (فهل من مدكر) لان (هل) كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم، فاللام من (هل) للاستعراض (4) والهاء للاستخراج. قوله تعالى: كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) انآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (22) (1) الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبى. (2) راجع ج 8 ص 117. (3) في ط، ل: المسلمين، وما أثبتناه في ا وب وج وه. (4) في ى: (للاستغراق). (*)
[ 135 ]
قوله تعالى: (كذبت عاد) هم قوم هود. (فكيف كان عذابي ونذر) وقعت (نذر) في هذه السورة في ستة أما كن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبته في الحالين، وورش في الوصل لا غير، وحذف الباقون. ولا خلاف في حذف الياء من قوله: (فما تغن النذر) والواو من قوله: (يدع) فأما الياء من (الداع) الاول فأثبتها في الحالين ابن محيصن ويعقوب وحميد والبزي، وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل، وحذفها الباقون. وأما (الداع) الثانية فأثبتها يعقوب وابن محيصن وابن كثير في الحالين، وأثبتها أبو عمرو ونافع في الوصل، وحذفها الباقون. (انا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا) أي شديدة البرد، قاله قتادة والضحاك. وقيل: شديدة الصوت. وقد مضى في (حم السجدة (1)). (في يوم نحس مستمر) أي في يوم كان مشئوما عليهم. وقال ابن عباس: أي في يوم كانوا يتشاءمون به. الزجاج: قيل في يوم أربعاء. ابن عباس: كان آخر أربعاء في الشهر أفنى صغيرهم وكبيرهم. وقرأ هرون الاعور (نحس) بكسر الحاء وقد مضى القول فيه في حم السجدة (في أيام نحسات). و (في يوم نحس مستمر) أي دائم الشؤم استمر عليهم بنحوسه، واستمر عليهم فيه العذاب إلى الهلاك. وقيل: استمر بهم إلى نار جهنم. وقال الضحاك: كان مرا عليهم. وكذا حكى الكسائي أن قوما قالوا هو من المرارة، يقال: مر الشئ وأمر أي كان كالشئ المر تكرهه النفوس. وقد قال: (فذوقوا) والذي يذاق قد يكون مرا. وقد قيل: هو من المرة بمعنى القوة. أي في يوم نحس مستمر مستحكم الشؤم كالشئ المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه. فإن قيل: فإذا كان يوم الاربعاء يوم نحس مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء ؟ وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر. وقد مضى في (البقرة (2)) حديث جابر بذلك. فالجواب - والله أعلم - ما جاء في خبر يرويه مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل فقال إن الله يأمرك أن تقضي باليمين مع الشاهد وقال يوم الاربعاء يوم نحس مستمر) (1) راجع ج 15 ص 347. (2) راجع ج 2 ص 313. (*)
[ 136 ]
ومعلوم أنه لم يرد بذلك أنه نحس على الصالحين (1)، بل أراد أنه نحس على الفجار والمفسدين، كما كانت الايام النحسات المذكورة في القرآن، نحسات على الكفار من قوم عاد لا على نبيهم والمؤمنين به منهم، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يمهل الظالم من أول يوم الاربعاء إلى أن تزول الشمس، فإذا أدبر النهار ولم يحدث رجعة استجيب دعاء المظلوم عليه، فكان اليوم نحسا على الظالم، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان على الكفار، وقول جابر في حديثه (لم ينزل بي أمر غليظ) إشارة إلى هذا. والله أعلم. قوله تعالى: (تنزع الناس) في موضع الصفة للريح أي تقلعهم من مواضعهم. قيل: قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. وقال مجاهد: كانت تقلعهم من الارض، فترمي بهم على رؤوسهم فتندق أعناقهم وتبين رؤوسهم عن أجسادهم. وقيل: تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتزعت الريح الناس من قبورهم). وقيل: حفروا حفرا ودخلوها فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل [ قد (2) ] هلك ما كان فيها فتبقى مواضعها منقعرة. يروى أن سبعة منهم حفروا حفرا وقاموا فيها ليردوا الريح. قال ابن إسحق: لما هاجت الريح قام نفر سبعة من عاد سمي لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم عمرو بن الحلى والحرث بن شداد والهلقام وابنا تقن وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تجعفهم (3) رجلا رجلا، فقالت امرأة من عاد: ذهب الدهر بعمرو ب * ن حلي والهنيات ثم بالحرث والهل * قام طلاع الثنيات والذي سد مهب الر * يح أيام البليات (1) في ى: (المصلحين). (2) زيادة من ى. (3) جعفه: صرعه وضرب به الارض. (*)
[ 137 ]
الطبري: في الكلام حذف، والمعنى تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل منقعر، فالكاف في موضع نصب بالمحذوف. الزجاج: الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى تنزع الناس مشبهين بأعجاز نخل. والتشبيه قيل إنه للحفر التى كانوا فيها. والاعجاز جمع عجز وهو مؤخر الشئ، وكانت عاد موصوفين بطول القامة، فشبهوا بالنخل انكبت لوجوهها. وقال: (أعجاز نخل منقعر) للفظ النخل وهو من الجمع الذي يذكر ويؤنث. والمنقعر: المنقلع من أصله، قعرت الشجرة قعرا قلعتها من أصلها فانقعرت. الكسائي: قعرت البئر أي نزلت حتى أنتهيت إلى قعرها، وكذلك الاناء إذا شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره. وأقعرت البئر جعلت لها قعرا. وقال أبو بكر بن الانباري: سئل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها، فقيل له: ما الفرق بين قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة (1)) و (جاءتها ريح (2) عاصف)، وقوله: (كأنهم أعجاز نخل خاوية (3)) و (أعجاز نخل منقعر) ؟ فقال: كلما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا، أو إلى المعنى تأنيثا. وقيل: إن النخل والنخيل بمعنى يذكر ويؤنث كما ذكرنا. (فكيف كان عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ تقدم (4) ]. قوله تعالى: كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنآ إذا لفى ضلال وسعر (24) أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الاشر (26) قوله تعالى: (كذبت ثمود بالنذر) هم قوم صالح كذبوا الرسل ونبيهم، أو كذبوا بالآيات التي هي النذر (فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه) وندع جماعة. وقرأ أبو الاشهب وابن السميقع وأبو السمال العدوي (أبشر) بالرفع (واحد) كذلك رفع بالابتداء والخبر (نتبعه). الباقون بالنصب على معنى أنتبع بشرا منا واحدا نتبعه. وقرأ أبو السمال (5): (1) راجع ج 11 ص 321. (2) راجع ج 8 ص 325. (3) راجع ج 18 ص 261. (4) من ب، ى. (5) هذه رواية أخرى عن أبى السمال كما في (روح المعاني) وغيره وفى ب، ز، ول (أبو السماك) بالكاف وليس بصحيح. (*)
[ 138 ]
(أبشر) بالرفع (منا واحدا) بالنصب، رفع (أبشر) بإضمار فعل يدل عليه (أؤلقي) كأنه قال: أينبأ بشر منا، وقوله: (واحدا) يجوز أن يكون حالا من المضمر في (منا) والناصب له الظرف، والتقدير أينبأ بشر كائن منا منفردا، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في (نتبعه) منفردا لا ناصر له. (انا إذا لفى ضلال) أي ذهاب عن الصواب (وسعر) أي جنون، من قولهم: ناقة مسعورة، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، ذكره ابن عباس. قال الشاعر يصف ناقته: تخال بها سعرا إذا السفر هزها * ذميل وإيقاع من السير متعب [ الذميل (1) ضرب من سير الابل. قال أبو عبيد: إذا ارتفع السير عن العنق قليلا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل، ثم الرسيم، يقال: ذمل يذمل ويذمل ذميلا. قال الاصمعي: ولا يذمل بعير يوما وليلة إلا مهري قاله ج ]. وقال ابن عباس أيضا: السعر العذاب، وقاله الفراء. مجاهد: بعد الحق. السدي: في احتراق. قال (2): أصحوت اليوم أم شاقتك هر * ومن الحب جنون مستعر أي متقد ومحترق. أبو عبيدة: هو جمع سعير وهو لهيب النار. والبعير (3) المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة. ومعنى الآية: إنا إذا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا. قوله تعالى: (أؤلقى الذكر عليه من بيننا) أي خصص بالرسالة من بين آل ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا ؟ ! وهو استفهام معناه الانكار. (بل هو كذاب أشر) أي ليس كما يدعيه، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق. والاشر المرح والتجبر والنشاط. يقال: فرس أشر إذا كان مرحا نشيطا، قال امرؤ القيس يصف كلبا: فيدركنا فغم داجن * سميع بصير طلوب نكر (4) ألص (5) الضروس حني الضلوع * تبوع أريب نشيط أشر (1) زيادة من ب، ه. (2) هو طرفة. (3) في ا، ز، ل: السعير. (4) الفغم: المولع بالصيد الحريص عليه. داجن: ألوف للصيد. وفكر أي منكر عالم. وقيل نكر أي كريه الصورة. (5) الالص الذى التصقت أسنانه بعضها إلى بعض. (*)
[ 139 ]
وقيل: (أشر) بطر. والاشر البطر، قال الشاعر: أشرتم بلبس الخز لما لبستم * ومن قبل ما تدرون من فتح القرى وقد أشر بالكسر يأشر أشرا فهو أشر وأشران، وقوم أشارى مثل سكران وسكارى، قال الشاعر (1): وخلت وعولا أشارى بها * وقد أزهف الطعن أبطالها وقيل: إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها، والمعنى واحد. وقال ابن زيد وعبد الرحمن ابن حماد: الاشر الذي لا يبالي ما قال. وقرأ أبو جعفر وأبو قلابة (أشر) بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا. (سيعلمون غدا) أي سيرون العذاب يوم القيامة، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب. الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم. وقوله: (غدا) على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدا، قال: للموت فيها سهام غير مخطئة * من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا وقال الطرماح: ألا عللاني قبل نوح النوائح * وقبل اضطراب النفس بين الجوانح وقبل غد يا لهف نفسي على غد * إذا راح أصحابي ولست برائح وإنما أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. (من الكذاب الاشر) وقرأ أبو قلابة (الاشر) بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الاصل. قال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالاشر والاخير إلا في ضرورة الشعر، كقول رؤبة: * بلال خير الناس وابن الاخير * (1) هي مية بنت ضرار الضبى ترثى أخاها. وأزهف الطعن أبطالها أي صرعها. وقبل البيت: تراه على الخيل ذا قدمة * إذا سربل الدم أكفالها (*)
[ 140 ]
وإنما يقولون هو خير قومه، وهو شر الناس، قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس (1)) وقال: (فسيعلمون من هو شر مكانا (2)). وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء. وعن مجاهد وسعيد بن جبير ضم الشين والراء والتخفيف، قال النحاس: وهو معنى (الاشر) ومثله رجل حذر وحذر. قوله تعالى: انا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب مختصر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) انآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (32) قوله تعالى: (انا مرسلوا الناقة) أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها، فروي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء [ وبراء (3) ]. (فتنة لهم) أي اختبارا وهو مفعول له. (فارتقبهم) أي انتظر ما يصنعون. (واصطبر) أي اصبر على أذاهم، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الاطباق. (ونبئهم): أي أخبرهم (أن الماء قسمة بينهم) أي بين آل ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما قال تعالى: (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (4)). قال ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء وتسقيهم لبنا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا. وإنما قال: (بينهم) لان العرب إذا أخبروا عن بني آدم مع البهائم غلبوا بني آدم. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، قال: (أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عزوجل (1) راجع ج 4 ص 170. (2) راجع ج 11 ص 144. (3) في الاصول جرداء والذى في قصص الانبياء للثعلبي وغيره من كتب التفسير (وبراء) فلذا أثبتناه. (4) راجع ج 13 ص 127. (*)
[ 141 ]
إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها) وهو معنى قوله تعالى: (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم). (كل شرب مختضر) الشرب - بالكسر - الحظ من الماء، وفي المثل: (آخرها أقلها شربا) وأصله في سقي الابل، لان آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى (محتضر) أي يحضره من هو له، فالناقة تحضر الماء يوم وردها، وتغيب عنهم يوم وردهم، قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون. قوله تعالى: (فنادوا صاحبهم) يعني بالحض على عقرها (فعقر) ها ومعنى تعاطى تناول الفعل، من قولهم: عطوت أي تناولت، ومنه قول حسان: كلتاهما حلب العصير فعاطني * بزجاجة أرخاهما للمفصل قال محمد بن إسحق: فكمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاءة واحدة تحدر سقبها من بطنها ثم نحرها، وانطلق سقبها حتى أتى صخرة في رأس جبل فرغا ثم لاذ بها، فأتاهم صالح عليه السلام، فلما رأى الناقة قد عقرت بكى وقال: قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. وقد مضى في (الاعراف (1)) بيان هذا المعنى. قال ابن عباس: وكان الذي عقرها أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. ويقال في اسمه قدار بن سالف. وقال الافوه الاودي: أو قبله (2) كقدار حين تابعه * على الغواية أقوام فقد بادوا والعرب تسمي الجزار قدارا تشبيها بقدار بن سالف مشئوم آل ثمود، قال مهلهل: إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم * ضرب القدار نقيعة القدام (3) (1) راجع ج 7 ص 241. (2) الذى في شعراء النصرانية: (أو بعده). (3) القدار: الجزار. والنقيعة: ما ينحر للضياقة. والقدام: القادمون من سفر جمع قادم. وقيل: القدام الملك. ويروى: * انا لنضرب بالصوارم هامهم * (*)
[ 142 ]
وذكره زهير فقال: فتنتح لكم غلمان أشأم كلهم * كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم (1) يريد الحرب، فكنى عن ثمود بعاد. قوله تعالى: (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) يريد صيحة جبريل عليه السلام، وقد مضى في (هود (2)). (فكانوا كهشيم المحتظر) وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية (المحتظر) بفتح الظاء أرادوا الحظيرة. الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة. وفي الصحاح: والمحتظر الذي يعمل الحظيرة. وقرئ (كهشيم المحتظر) فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحة جعله المفعول به. ويقال للرجل القليل الخير: إنه لنكد الحظيرة. قال أبو عبيد: أراه سمى أمواله حظيرة لانه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. المهدوي: من فتح الظاء من (المحتظر) فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون (المحتظر) هو الشجر المتخذ منه الحظيرة. قال ابن عباس: (المحتظر) هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك، فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. قال: أثرن عجاجة كدخان نار * تشب بغرقد بال هشيم وعنه: كحشيش تأكله الغنم. وعنه أيضا: كالعظام النخرة المحترقة، وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري: هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا، وهو فعيل بمعنى مفعول. وقال ابن زيد: العرب تسمي كل شئ كان رطبا فيبس هشيما. والحظر المنع، والمحتظر المفتعل يقال منه: احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله، قال الشاعر: ترى جيف المطي بجانبيه * كأن عظامها خشب الهشيم (1) تنتج لكم يعنى الحرب. (غلمان أشأم) في معنى غلمان شؤم أو كلهم في الشؤم كأحمر عاد. (ثم ترضع فتفطم) يريد أنه يتم أمر الحرب، كالمرأة إذا أرضعت ثم فطمت فقد تممت. (2) راجع ج 9 ص 61. (*)
[ 143 ]
وعن ابن عباس: أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم، فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه، والهشيم فتات السنبلة والتبن. (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) قوله تعالى: كذبت قوم لوط بالنذر (33) انآ أرسلنا عليهم حاصبا الاءال لوط نجيناهم بسحر (34) نعمة من عندنا كذالك نجزى من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر (40) قوله تعالى: (كذبت قوم لوط بالنذر) أخبر عن قوم لوط أيضا لما كذبوا لوطا. (انا أرسلنا عليهم حاصبا) أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحصى، قال النضر: الحاصب الحصباء في الريح. وقال أبو عبيدة: الحاصب الحجارة. وفي الصحاح: والحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء وكذلك الحصبة، قال لبيد: جرت عليها أن خوت من أهلها * أذيالها كل عصوف حصبه عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وقال الفرزدق: مستقبلين شمال الشام تضربنا * بحاصب كنديف القطن منثور (الا آل لوط) يعني من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه (نجيناهم بسحر) قال الاخفش: إنما أجراه لانه نكرة، ولو أراد سحر يوم بعينه لما أجراه، ونظيره: (اهبطوا مصرا (1)) لما نكره، فلما عرفه في قوله: (ادخلوا مصر إن شاء (2) الله) لم يجره، وكذا قال الزجاج: (سحر) إذا كان نكرة يراد به سحر من الاسحار يصرف، تقول أتيته سحرا، فإذا أردت سحر يومك (1) راجع ج 1 ص 429. (2) راجع ج 9 ص 263. (*)
[ 144 ]
لم تصرفه، تقول: أتيته سحر يا هذا، وأتيته بسحر. والسحر: هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار، لان في هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. (نعمة من عندنا) إنعاما منا على لوط وابنتيه، فهو نصب لانه مفعول به. (كذلك نجزى من شكر) أي من آمن بالله وأطاعه. (ولقد أنذرهم) يعني لوطا خوفهم (بطشتنا) عقوبتنا وأخذنا إياهم بالعذاب (فتماروا بالنذر) أي شكوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تفاعل من المرية. (ولقد راودوه عن ضيفه) أي أرادوا منه تمكينهم ممن كان أتاه من الملائكة في هيئة الاضياف طلبا للفاحشة على ما تقدم (1). يقال: راودته على، كذا مراودة وروادا أي أردته. وراد الكلا يروده رودا وريادا، وارتاده أرتيادا بمعنى أي طلبه، وفي الحديث: (إذا بال أحدكم فليرتد لبوله) أي يطلب مكانا لينا أو منحدرا. (فطمسنا أعينهم) يروى أن جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه فعموا. وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الاعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل: لا، بل أعماهم الله مع صحة أبصارهم فلم يروهم. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل، فقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا ؟ فرجعوا ولم يروهم. (فذوقوا عذابي ونذر) أي فقلنا لهم ذوقوا، والمراد من هذا الامر الخبر، أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط. (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) أي دائم عام استقر فيهم حتى يفضي بهم إلى عذاب الآخرة. وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم وجعل أعلاها أسفلها. و (بكرة) هنا نكرة فلذلك صرفت. (فذوقوا عذابي ونذر) العذاب الذي نزل بهم من طمس الاعين غير العذاب الذي أهلكوا به فلذلك حسن التكرير. (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ تقدم (2) ] قوله تعالى: ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا باياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42) (1) راجع ج 9 ص 73. (2) زيادة من ى. (*)
[ 145 ]
قوله تعالى: (ولقد جاء آل فرعون النذر) يعني القبط و (النذر) موسى وهرون. وقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. (كذبوا بآياتنا) معجزاتنا الدالة على توحيدنا ونبوة أنبيائنا، وهى العصا، واليد، والسنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقيل: (النذر) الرسل، فقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل: (النذر) الانذار. (فأخذناهم أخذ عزيز) أي غالب في انتقامه (مقتدر) أي قادر على ما أراد. قوله تعالى: أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولون الدبر (45) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (46) قوله تعالى: (أكفاركم خير من أولئكم) خاطب العرب. وقيل: أراد كفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: استفهام، وهو استفهام إنكار ومعناه النفي، أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الامم الذين أهلكوا بكفرهم. (أم لكم براءة في الزبر) أي في الكتب المنزلة على الانبياء بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس: أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب. (أم يقولون نحن جميع منتصر) أي جماعة لا تطاق لكثرة عددهم وقوتهم، ولم يقل منتصرين اتباعا لرءوس الآي، فرد الله عليهم فقال: (سيهزم الجمع) أي جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وقراءة العامة (سيهزم) بالياء على ما لم يسم فاعله (الجمع) بالرفع. وقرأ رويس عن يعقوب (وسنهزم) بالنون وكسر الزاي (الجمع) نصبا. (ويولون الدبر) قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم. وقرأ عيسى وابن إسحق ورويس عن يعقوب (وتولون) بالتاء على الخطاب. و (الدبر) اسم جنس كالدرهم
[ 146 ]
والدينار فوحد والمراد الجمع لاجل رءوس الآي. وقال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فأنزل الله تعالى: (نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع ويولون الدبر). وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقاص: لما نزل قوله تعالى: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) كنت لا أدرى أي الجمع ينهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: اللهم إن قريشا جاءتك تحادك وتحاد رسولك بفخرها و [ خيلائها (1) ] فأخنهم الغداة - ثم قال - (سيهزم الجمع ويولون الدبر) فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لانه أخبر عن غيب فكان كما أخبر. أخنى عليه الدهر: أي أتى عليه وأهلكه، ومنه قول النابغة: * أخنى عليه الذي أخنى على لبد * وأخنيت عليه: أفسدت. قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين، فالآية على هذا مكية. وفى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: (أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا) فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يارسول الله فقد ألححت على ربك، وهوفي الدرع فخرج وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم) يريد القيامة. (والساعة أدهى وأمر) أي أدهى وأمر مما لحقهم يوم بدر. و (أدهى) من الداهية وهي الامر العظيم، يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا. وقال ابن السكيت: دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها. (1) في الاصول: (نجيلها) وهو تحريف والتصويب من سيرة ابن هشام. (*)
[ 147 ]
قوله تعالى: ان المجرمين في ضلال وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) انا كل شئ خلقناه بقدر (49) قوله تعالى: (ان المجرمين في ضلال وسعر) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ان المجرمين في ضلال وسعر) أي في حيدة عن الحق و (سعر) أي احتراق. وقيل: جنون على ما تقدم في هذا لسورة. (يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر) في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: (يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر. إنا كل شئ خلقناه بقدر) خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شئ بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شئ بقدر حتى العجز والكيس - أو - الكيس والعجز وهذا إبطال لمذهب القدرية. (ذوقوا) أي يقال لهم ذوقوا، ومسها ما يجدون من الالم عند الوقوع فيها. و (سقر) اسم من أسماء جهنم لا ينصرف، لانه اسم مؤنث معرفة، وكذالظى وجهنم. وقال عطاء: (سقر) الطبق السادس من جهنم. وقال قطرب: (سقر) من سقرته الشمس وصقرته لوحته. ويوم مسمقر ومصمقر: شديد الحر. الثانية - قوله تعالى: (انا كل شئ) قراءة العامة (كل) بالنصب. وقرأ أبو السمال (كل) بالرفع على الابتداء. ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين، لان إن تطلب الفعل فهي به أولى، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى، لانك لو حذفت (خلقناه) المفسر وأظهرت الاول لصار إنا خلقنا كل شئ بقدر. ولا يصح كون خلقناه صفة لشئ، لان الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.
[ 148 ]
الثالثة - الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الاشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الاعمال إلينا والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: الاعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: (إنا كل شئ خلقناه بقدر) فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا ؟ فقال: (أنتم خصماء الله يوم القيامة). الرابعة - روى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مجوس هذه الامة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم). خرجه ابن ماجه في سننه. وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي ليس لهم في الاسلام نصيب أهل الارجاء والقدر). وأسند النحاس: وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد بن ميسرة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني) وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر، ثم أكد هذا بقوله: والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لاحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله (1)) وهذا واضح. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الايمان بالقدر يذهب الهم والحزن). (1) راجع ج 8 ص 163. (*)
[ 149 ]
قوله تعالى: وما أمرنا الا واحدة كلمح بالبصر (50) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شئ فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر (53) ان المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55) قوله تعالى: (وما أمرنا الا واحدة) أي إلا مرة واحدة. (كلمح بالبصر) أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح النظر بالعجلة، يقال: لمح البرق ببصره. وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمح البرق والنجم لمحا أي لمع. قوله تعالى: (لقد أهلكنا أشياعكم) أي أشباهكم في الكفر من الامم الخالية. وقيل: أتباعكم وأعوانكم. (فهل من مدكر) أي من يتذكر. أي جميع ما فعلته الامم قبلهم من خير أو شركان مكتوبا عليهم، وهذا بيان قوله: (إنا كل شئ خلقناه بقدر). (في الزبر) أي في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتب الحفظة. وقيل: في أم الكتاب. (وكل صغير وكبير مستطر) أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله (1) ليجازى به، ومكتوب إذا فعله، سطر يسطر سطرا كتب، واستطر مثله. قوله تعالى: (ان المتقين في جنات ونهر) لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا. (ونهر) يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللبن، قاله ابن جريج. ووحد لانه رأس الآية، ثم الواحد قد ينبئ عن الجميع. وقيل: في (نهر) في ضياء وسعة، ومنه النهار لضيائه، ومنه أنهرت الجرح، قال الشاعر (2): ملكت بها كفي فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها (1) في ب، ح، س، ه: (قبل أن يفعلوه ليجازوا ومكتوب إذا فعلوه). (2) هو قيس بن الخطيم يصف طعنة. وملكت أي شددت وقويت. (*)
[ 150 ]
وقرأ أبو مجلز وأبو نهيك والاعرج وطلحة بن مصرف وقتادة (ونهر) بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم، كسحاب وسحب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب: إن تلك ليليا فإني نهر * متى أرى الصبح فلا أنتظر أي صاحب النهار. وقال آخر: لولا الثريدان هلكنا بالضمر * ثريد ليل وثريد بالنهر (في مقعد صدق) أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة (عند مليك مقتدر) أي يقدر على ما يشاء. و (عند) هاهنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال الصادق: مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وقرأ عثمان البتي (في مقاعد صدق) بالجمع، والمقاعد مواضع قعود الناس في الاسواق وغيرها. قال عبد الله بن بريدة: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى، فيقرءون القران على ربهم تبارك وتعالى، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه، على منابر من الدر والياقوت والزبرجد والذهب والفضة بقدر أعمالهم، فلا تقر أعينهم بشئ قط كما تقر بذلك، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد. وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا، فيقولون: إلى أين ؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا. فيقولون: فما بغيتكم ؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر. وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى، ففي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عزوجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا ؟ فيقولون إلى الجنة. فيقولون: إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا، فيقولون: وما بغيتكم ؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) والله أعلم. تم تفسير سورة (القمر) والحمد لله.
[ 151 ]
سورة الرحمن [ عزوجل (1) ] مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: (يسأله من في السموات والارض) الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها. والقول الاول أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن. علم القرآن) ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد ؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح بنخلة، فقرأ سورة (الرحمن) ومر النفر من الجن فآمنوا به. وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة (الرحمن) من أولها إلي آخرها فسكتوا، فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا لا بشئ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) قال: هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة (الرحمان) فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل شئ عروس وعروس القرآن سورة الرحمن). (1) في ز. (*)
[ 152 ]
بسم الله الرحمن الرحيم الرحمان (1) علم القرءان (2) خلق الانسان (3) علمه البيان (4) الشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9) والارض وضعها للانام (10) فيها فاكهة والنخل ذات الا كملم (11) والحب ذوالعصف والريحان (12) فبأئ الاء ربكما تكذبان (13) قوله تعالى: (الرحمان. علم القرآن) قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي: (الرحمن) فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى (الر) و (حم) و (ن) فيكون مجموع هذه (الرحمن). (علم القرآن) أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا: وما الرحمن ؟ وقيل: نزلت جوابا لاهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله تعالى: (الرحمان). علم القرآن). وقال الزجاج: معنى (علم القرآن) أي سهله لان يذكر ويقرأ كما قال: (ولقد يسرنا القرآن للذكر). وقيل: جعله علامة لما تعبد الناس به. (خلق الانسان) قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. (علمه البيان) أسماء كل شئ. وقيل: علمه اللغات كلها. وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان: الانسان هاهنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال. وقيل: ما كان وما يكون، لانه بين عن الاولين والآخرين ويوم الدين. وقال الضحاك: (البيان) الخير والشر. وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره، وقاله قتادة. وقيل: (الانسان) يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و (البيان) على هذا الكلام والفهم، وهو مما فضل به الانسان على
[ 153 ]
سائر الحيوان. وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره: (علم بالقلم. علم الانسان ما (1) لم يعلم). (الشمس والقمر بحسبان) أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن كيسان: يعني أن بهما تحسب الاوقات والآجال الاعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله أو نهارا. وقال السدي: (بحسبان) تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، نظيره: (كل يجري لاجل مسمى (2)). وقال الضحاك: بقدر. مجاهد: (بحسبان) كحسبان الرحى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حسبا وحسبانا، مثل الغفران والكفران والرجحان، وحسابة أيضا أي عددته. وقال الاخفش: ويكون جماعة الحساب مثل شهاب وشهبان. والحسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار، وقد مضى في (الكهف (3)) الواحدة حسبانة، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة، تقول منه: حسبته إذا وسدته، قال (4): *... لثويت غير محسب * أي غير موسد يعني غير مكرم ولا مكفن (والنجم والشجر يسجدان) قال ابن عباس وغيره: النجم مالا ساق له والشجر ماله ساق، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي: لقد أنجم القاع الكبير عضاهه * وتم به حيا تميم ووائل وقال زهير بن أبي سلمى: مكلل بأصول النجم تنسجه * ريح الجنوب لضاحي مائه حبك (1) راجع ج 20 ص 120. (2) راجع ج 9 ص 279. (3) راجع ج 10 ص 408. (4) هو نهيك الفزارى يخاطب عامر بن الطفيل، والبيت بتمامه: لتقيت بالوجعاء طعنة مرهف * مران أو لئويت غير محسب الوجعاء الاست. يقول: لو طعنتك لوليتني دبرك واتقيت طعنتي بوجعائك، ولئويت هالكا غير مكرم. (*)
[ 154 ]
واشتقاق النجم من نجم الشئ ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلا لهما (1)، قاله الضحاك. وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفئ. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: (يتفيأ ظلاله (2)). وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله، وهو أختيار الطبري، حكاه المهدوي. وقيل: سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها، حكاه الماوردي. وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع، والمعني به آثار الحدوث، حكاه القشيري. النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فهو من الموات كلها استسلامها لامر الله عزوجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال (3): فباتت تعد النجم في مستحيرة * سريع بأيدي الآ كلين جمودها (والسماء رفعها) وقرأ أبو السمال (والسماء) بالرفع على الابتداء واختار ذلك لما عطف على الجملة التي هي: (والنجم والشجر يسجدان) فجعل المعطوف مركبا من مبتدإ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. (ووضع الميزان) أي العدل، عن مجاهد وقتادة والسدي، أي وضع في الارض العدل الذي أمر به، يقال: وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه، وقيل: على هذا الميزان القرآن، لان فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة - أيضا - والضحاك: هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الامر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: (وأقيموا الوزن بالقسط) والقسط العدل. وقيل: هو الحكم. وقيل: أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الاعمال. وأصل ميزان موزان وقد مضى في (الاعراف (4)) القول فيه. (ألا تطغوا في الميزان) موضع (أن) يجوز أن يكون نصبا (1) في ب، ح، س، ه: (وسجودهما سجود..). (2) راجع ج 10 ص 111. (3) قائله الراعى. (4) راجع ج 7 ص 166. (*)
[ 155 ]
على تقدير حذف حرف الجر كأنه قال: لئلا تطغوا، كقوله تعالى: (يبين الله لكم أن تضلوا (1)). ويجوز ألا يكون ل (أن) موضع من الاعراب فتكون بمعنى أي و (تطغوا) على هذا التقدير مجزوما، كقوله تعالى: (وانطلق الملا منهم أن (2) امشوا) [ أي امشوا (3) ]. والطغيان مجاوزة الحد. فمن قال: الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ابن عباس: أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي ! وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان. ومن قال إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل: فيه إضمار، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه. (وأقيموا الوزن بالقسط) أي افعلوه مستقيما بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ابن (4) عيينة: الاقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية. وقيل: هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. (ولا تحسروا الميزان) ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن، وهذا كقوله: (ولا تنقصوا المكيال والميزان (5)). وقال قتادة في هذه الآية: اعدل يا بن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس. وقيل: المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رءوس الآي. وقيل: التكرير للامر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة (تخسروا) بضم التاء وكسر السين. وقرأ بلال بن أبي بردة وأبان عن عثمان (تخسروا) بفتح التاء والسين وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل: (تخسروا) بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجر، والمعنى ولا تخسروا في الميزان. (والارض وضعها للانام) الانام الناس، عن ابن عباس. الحسن: الجن والانس. الضحاك: كل ما دب على وجه الارض، وهذا عام. (فيها فاكهة) أي كل (1) راجع ج 6 ص 29. (2) راجع ج 15 ص 151. (3) الزيادة من ب، ح، س، ه. (4) في حاشية الجمل نقلا عن القرطبى (أبو عبيدة) بدل ابن عيينة. (5) راجع ج 9 ص 85. (*)
[ 156 ]
ما يتفكه به الانسان من ألوان الثمار. (والنخل ذات الا كمام) الا كمام جمع كم بالكسر. قال الجوهري: والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام والا كاميم أيضا. وكم الفصيل إذا أشفق عليه فستر حتى يقوى، قال العجاج: بل لو شهدت الناس إذ تكموا * بغمة لو لم تفرج غموا وتكموا أي أغمي عليهم وغطوا. وأكمت [ النخلة (1) ] وكممت أي أخرجت أكمامها. والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض، تقول منه: بعير مكموم أي محجوم. وكممت الشئ غطيته. والكم ما ستر شيئا وغطاه، ومنه كم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة، مثل حب وحببة. والكمة القلنسوة المدورة، لانها تغطي الرأس. قال: فقلت لهم كيلو بكمة بعضكم * دراهمكم إني كذلك أكيل قال الحسن: (ذات الاكمام) أي ذات الليف فإن النخلة قد تكمم بالليف، وكمامها ليفها الذي في أعناقها. ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة: ذات الاحمال. (والحب ذو العصف والريحان) الحب الحنطة والشعير ونحوهما، والعصف التبن، عن الحسن وغيره. مجاهد: ورق الشجر والزرع. ابن عباس: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح. سعيد بن جبير: بقل الزرع أي أول ما ينبت منه، وقاله الفراء. والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك. وكذا في الصحاح: وعصفت الزرع أي جززته قبل أن يدرك. وعن ابن عباس أيضا: العصف ورق الزرع الاخضر إذا قطع رؤوسه ويبس، نظيره: (فجعلهم كعصف (2) مأكول). الجوهري، وقد أعصف الزرع، ومكان معصف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الاسلت الانصاري: إذا جمادى منعت قطرها * زان جنابي عطن معصف (1) الزيادة من الصحاح للجوهري. (2) راجع ج 20 ص. (*)
[ 157 ]
والعصف أيضا الكسب، ومنه قول الراجز (1): * بغير ما عصف ولا اصطراف * وكذلك الاعتصاف. والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وقال الهروي: والعصف والعصيفة ورق السنبل. وحكى الثعلبي: وقال ابن السكيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم. قال علقمة بن عبدة: تسقي مذانب قد مالت عصيفتها * حدورها من أتى الماء مطموم وفي الصحاح: والجل بالكسر قصب الزرع إذا حصد. والريحان الرزق، عن ابن عباس ومجاهد. الضحاك: هي لغة حمير. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشم، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: أنه خضرة الزرع. وقال سعيد ابن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي: إن العصف الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب المأكول. وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا، لان الانسان يراح لها رائحة طيبة. أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة، وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شئ له روح. قال ابن الاعرابي: يقال شئ روحاني وريحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فيعلان فأصله ريوحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهين ولين، ثم ألزم التخفيف لطوله ولحاق الزائدتين الالف والنون، والاصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي الصحاح: والريحان نبت معروف، والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، قال النمر بن تولب: سلام الاله وريحانه * ورحمته وسماء درر وفي الحديث: (الولد من ريحان الله). وقولهم: سبحان الله وريحانه، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيها له واسترزاقا. وأما قوله: (والحب ذو العصف والريحان) فالعصف (1) قائله العجاج. وصدر البيت: * قد يكسب المال الهدان الجافي * والهدان الاحمق. (*)
[ 158 ]
ساق الزرع، والريحان ورقه، عن الفراء. وقراءة العامة (والحب ذو العصف والريحان) بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفا على الارض. وقيل: بإضمار فعل، أي وخلق الحب ذا العصف والريحان، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على (ذات الاكمام). وجر حمزة والكسائي (الريحان) عطفا على العصف، أي فيها الحب ذو العصف والريحان، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق، فيكون كأنه قال: والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقا، لان العصف رزق للبهائم، والريحان رزق للناس، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم. قوله تعالى: (فبأى آلاء ربكما تكذبان) خطاب للانس والجن، لان الانام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي وفيه (للجن أحسن منكم (1) ردا). وقيل: لما قال: (خلق الانسان) (وخلق الجان) دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال: (سنفرغ لكم أيها الثقلان) وهو خطاب للانس والجن وقد قال في هذه السورة: (يا معشر الجن والانس). وقال الجرجاني: خاطب الجن مع الانس وإن لم يتقدم للجن ذكر، كقوله تعالى: (حتى توارت بالحجاب (2)). وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالانس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل: الخطاب للانس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية، حسب ما تقدم من القول في (ألقيا في جهنم (3)). وكذلك قوله: * قفا نبك (4)... * و * خليلي مرابي (5)... * (1) رواية الترمذي المتقدمة تخالف هذه الرواية في اللفظ وهذه رواية الحاكم. (2) راجع ج 15 ص 195. (3) راجع ص 16 من هذا الجزء. (4) البيت مطلع معلقة امرى القيس وتمامه: قفانبك من ذكرى حبيب وكنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل (5) البيت مطلع قصيدة لامرى القيس أيضا والبيت بتمامه: خليلي مرابى على أم جندب * نقض لبانات الفؤاد المعذب (*)
[ 159 ]
فأما ما بعد (خلق الانسان) و (خلق الجان) فإنه خطاب للانس والجن، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى: (والارض وضعها للانام) والآلاء النعم، وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا، وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال: وفي واحد (آناء الليل) ثلاث تسقط منها المفتوحة الالف المسكنة اللام، وقد مضى في (الاعراف (1)) و (النجم (2)). وقال ابن زيد: إنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي، وقال: هذه السورة من بين السور علم القرآن، والعلم إمام الجند والجند تتبعه، وإنما صارت علما لانها سورة صفة الملك والقدرة، فقال: (الرحمن. علم القرآن) فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الاسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال: (الرحمن. علم القرآن) ثم ذكر الانسان فقال: (خلق الانسان) ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الاشياء مما نجم وشجر، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الارض للانام، فخاطب هذين الثقلين الجن والانس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الاوثان وكل معبود اتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الاشياء بها إليهم، فقال سائلا لهم: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الاشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الانسان من صلصال، وذكر خلق الجان من مارج من نار، ثم سألهم فقال: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق. وقال القتبي: إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع (1) راجع ج 7 ص 237. (2) راجع ص 121 من هذا الجزء. (*)
[ 160 ]
كل خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره: ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا ؟ ! ألم تكن صرورة (1) فحججت بك أفتنكر هذا ! ؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا ؟ ! والتكرير حسن في مثل هذا. قال: * كم نعمة كانت لكم كم كم وكم * وقال آخر: لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة * إياك من دمه إياك إياك وقال آخر: لا تقطعن الصديق ما طرفت * عيناك من قول كاشح أشر ولا تملن من زيارته زره * وزره وزر وزر وزر وقال الحسين بن الفضل: التكرير طردا للغفلة، وتأكيدا للحجة. قوله تعالى: خلق الانسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجآن من مارج من نار (15) فبأئ الاء ربكما تكذبان (16) رب المشرقين ورب المغربين (17) فبأئ الاء ربكما تكذبان (18) قوله تعالى: (خلق الانسان) لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والارض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال: (خلق الانسان) باتفاق من أهل التأويل يعنى آدم. (من صلصال كالفخار) الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، شبهه بالفخار الذي طبخ. وقيل: هو طين خلط برمل. وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن، وقد مضى في (الحجر (2)). وقال هنا: (من صلصال كالفخار) وقال هناك: (من صلصال من حمإ مسنون). وقال: (إنا خلقناهم من طين (1) الصرورة: الذى لم يحج قط. (2) راجع ج 10 ص 21. (*)
[ 161 ]
لازب (1)). وقال: (كمثل آدم خلقه (2) من تراب) وذلك متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الارض فعجنه فصار طينا، ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. (وخلق الجان من مارج من نار) قال الحسن: الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل: الجان واحد الجن، والمارج اللهب، عن ابن عباس، وقال: خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر، ونحوه عن مجاهد، وكله متقارب المعنى. وقيل: المارج كل أمر مرسل غير ممنوع، ونحوه قول المبرد، قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج خلط النار، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالاخرى، فأكلت إحداهما الاخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري: والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول، كقوله: (ماء دافق (3)) و (عيشة راضية (4)) والمعنى ذو مرج، قال الجوهري في الصحاح: و (مارج من نار) نار لا دخان لها خلق منها الجان. فبأى آلاء ربكما تكذبان). قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين) أي هو رب المشرقين. وفي الصافات (ورب المشارق) وقد مضى الكلام في ذلك هنالك (1). قوله تعالى: مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأئ الاء ربكما تكذبان (21) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فبأئ الاء ربكما تكذبان (23) (1) راجع ج 15 ص 63 وص 68. (2) راجع ج 4 ص 102. (3) راجع ج 20 ص 4. (4) راجع ج 18 ص 270.
[ 162 ]
قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان) (مرج) أي خلى وأرسل وأهمل، يقال: مرج السلطان الناس إذا أهملهم. وأصل المرج الاهمال كما تمرج الدابة في المرعى. ويقال: مرج خلط. وقال الاخفش: ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى. (البحرين) قال ابن عباس: بحر السماء وبحر الارض، وقاله مجاهد وسعيد بن جبير. (يلتقيان) في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: إنه البحر المالح والانهار العذبة. وقيل: بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهم. وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان. (بينهما برزخ) أي حاجز فعلى القول الاول ما بين السماء والارض، قاله الضحاك. وعلى القول الثاني الارض التي بينهما وهي الحجاز، قاله الحسن وقتادة. وعلى غيرهما من الاقوال القدرة الالهية على ما تقدم في (الفرقان (1)). وفي الخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله تعالى كلم الناحية الغربية فقال: إني جاعل فيك عبادا لي يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ فقالت: أغرقهم يا رب. قال: إني أحملهم على يدي، وأجعل بأسك في نواحيك. ثم كلم الناحية الشرقية فقال: إني جاعل فيك عبادا يسبحوني ويكبروني ويهللوني ويمجدوني فكيف أنت لهم ؟ قالت: أسبحك معهم إذا سبحوك، وأكبرك معهم إذا كبروك، وأهللك معهم إذا هللوك، وأمجدك معهم إذا مجدوك، فأثابها الله الحلية وجعل بينهما برزخا، وتحول أحدهما ملحا أجاجا، وبقي الآخر على حالته عذبا فراتا) ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم أبو عبد الله قال: حدثنا صالح بن محمد، حدثنا القاسم العمري عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة: (لا يبغيان) قال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم، جعل بينهما وبين الناس يبسا (2). وعنه أيضا ومجاهد: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. ابن زيد: المعنى (لا يبغيان) أن يلتقيا، وتقدير الكلام: مرج البحرين يلتقيان، لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا. وقيل: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، أي بينهما مدة قدرها الله وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان، فإذا أذن الله في أنقضاء الدنيا صار البحران (1) راجع ج 13 ص 58. (2) في ب، ح، ز، س، ل، ه: (اليبس). (*)
[ 163 ]
شيئا واحدا، وهو كقوله وتعالى: (وإذا البحار فجرت (1)). وقال سهل بن عبد الله: البحران طريق الخير والشر، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة. قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) [ أي يخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان (2) ]، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان. وقرأ نافع وأبو عمر (يخرج) بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. الباقون (يخرج) بفتح الياء وضم الراء على أن اللؤلؤ هو الفاعل. وقال: (منهما) وإنما يخرج من الملح لا العذب لان العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما، كقوله تعالى: (يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل (3) منكم) وإنما الرسل من الانس دون الجن، قاله الكلبي وغيره. قال الزجاج: قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شئ فقد خرج منهما، وهو كقوله تعالى: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن (4) نورا) والقمر في سماء الدنيا ولكن أجمل ذكر السبع فكأن ما في إحداهن فيهن. وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف، أي من أحداهما، كقوله: (على رجل من القريتين (5) عظيم) أي من إحدى القريتين. وقال الاخفش سعيد: زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب. وقيل: هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان. ابن عباس: هما بحرا السماء والارض. فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤا فصار خارجا منهما، وقاله الطبري. قال الثعلبي: ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدفة، فأصابت القطرة بعض النواة ولم تصب البعض، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وقيل: إن العذب والملح قد يلتقيان، فيكون العذب كاللقاح للملح، فنسب إليهما كما ينسب الولد إلى الذكر والانثى وإن ولدته الانثى، لذلك قيل: إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والملح. وقيل: المرجان عظام اللؤلؤ وكباره، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما. واللؤلؤ صغاره. وعنهما أيضا بالعكس: إن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره، وقاله الضحاك وقتادة. وقال ابن مسعود وابو مالك: المرجان الخرز الاحمر. (1) راجع ج 19 ص 242 (2) مابين المربعين ساقط من ز، ل. (3) راجع ج 7 ص 85 (4) راجع ج 18 ص 304 (5) راجع ج 16 ص 82 (*)
[ 164 ]
قوله تعالى: وله الجوار المنشئات في البحر كالا علام (24) فبأئ الاء ربكما تكذبان (25) قوله تعالى: (وله الجوار) يعنى السفن. (المنشآت) قراءة العامة (المنشئات) بفتح الشين، قال قتادة: أي المخلوقات للجري مأخوذ من الانشاء. وقال مجاهد: هي السفن التي رفع قلعها، قال: وإذا لم يرفع قلعها فليست بمنشئات. وقال الاخفش: إنها المجريات. وفي الحديث: أن عليا رضي الله عنه رأى سفنا مقلعة، فقال: ورب هذه الجواري المنشئآت ما قتلت عثمان ولا مالات في قتله. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه (المنشئات) بكسر الشين أي المنشئات السير، أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع. وقيل: الرافعات الشرع أي القلع. ومن فتح الشين قال: المرفوعات الشرع. (كالا علام) أي كالجبال، والعلم الجبل الطويل، قال (1): * إذا قطعن علما بدا علم * فالسفن في البحر كالجبال في البر، وقد مضى في (الشورى) بيانه (2). وقرأ يعقوب (الجوارى) بياء في الوقف، وحذف الباقون. قوله تعالى: كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والا كرام (27) فبأئ الاء ربكما تكذبان (28) قوله تعالى: (كل من عليها فان) الضمير في (عليها) للارض، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى: (والارض وضعها للانام) وقد يقال: هو أكرم من عليها، (1) قائله جرير، وتمام البيت: * حتى تناهين بنا إلى الحكم * وبعده: خليفة الحجاج غير المتهم * في ضئضئ المجد وبؤبؤ الكرم (2) راجع ج 16 ص 23 (*)
[ 165 ]
يعنون الارض وإن لم يجر لها ذكر. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الارض فنزلت: (كل شئ هالك إلا وجهه (1)) فأيقنت الملائكة بالهلاك، وقاله مقاتل. ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الاقدام. وقيل: وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب. (ويبقى وجه ربك) أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه، قال الشاعر: قضى على خلقه المنايا * فكل شئ سواه فاني وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا: ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم. وقال ابن عباس: الوجه عبارة عنه كما قال: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) وقال أبو المعالي: وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى، وهو الذي ارتضاه شيخنا. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) والموصف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى. وقد مضى في (البقرة (2)) القول في هذا عند قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) وقد ذكرناه في الكتاب الاسنى مستوفى. قال القشيري: قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تكيف، يحصل بها الاقبال على من أراد الرب تخصيصه بالاكرام. والصحيح أن يقال: وجهه وجوده وذاته، يقال: هذا وجه الامر ووجه الصواب وعين الصواب. وقيل: أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الانسان بوجهه. وقيل: وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله. (ذو الجلال) الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يقال: جل الشئ أي عظم وأجللته أي عظمته، والجلال اسم من جل. (والا كرام) أي هو أهل لان يكرم عمالا يليق به من الشرك، كما تقول: أنا أكرمك عن هذا، ومنه إكرام الانبياء والاولياء. وقد أتينا على هذين، الاسمين لغة ومعنى في الكتاب الاسنى مستوفى. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألظوا بياذا الجلال والاكرام). وروي أنه من قول ابن مسعود، ومعناه: الزموا ذلك في الدعاء. قال أبو عبيد: (1) راجع ج 13 ص 322. (2) راجع ج 2 ص 83. (*)
[ 166 ]
الالظاظ لزوم الشئ والمثابرة عليه. ويقال: الالظاظ الالحاح. وعن سعيد المقبري. أن رجلا ألح فجعل يقول: اللهم يا ذاالجلال والاكرام ! اللهم يا ذا الجلال والاكرام ! فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك ؟ قوله تعالى: يسئله من في السماوات والارض كل يوم هو في شأن (29) فبأئ الاء ربكما تكذبان (30) قوله تعالى: (يسأله من في السموات والارض) قيل: المعنى يسأله من في السموات الرحمة، ومن في الارض الرزق. وقال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الارض يسألونهما جميعا. وقال ابن جريج: وتسأل الملائكة الرزق لاهل الارض، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الارض لاهل الارض. وفي الحديث: (إن من الملائكة ملكا له أربعة أوجه [ وجه (1) ] كوجه الانسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الاسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير). وقال ابن عطاء: إنهم سألوه القوة على العبادة. (كل يوم هو في شأن) هذا كلام مبتدأ. وانتصب (كل يوم) ظرفا، لقوله: (في شأن) أو ظرفا للسؤال، ثم يبتدئ (هو في شأن). وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل يوم هو في شأن) قال: (من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما (2) ويضع آخرين). وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عزوجل: (كل يوم هو في شأن) قال: (يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا). وقيل: من شأنه أن يحيى ويميت، ويعز ويذل، ويرزق ويمنع. وقيل: أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة. قال ابن بحر: الدهر كله يومان، أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالامر والنهى والاحياء والاماتة والاعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب، (1) الزيادة من ب، ح ز، س، ل، ه. (2) في ب، ح، ز، س، ل، ه: (اقواما). (*)
[ 167 ]
والثواب والعقاب. وقيل: المراد بذلك الاخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر. والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشئون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى: (ثم يخرجكم (1) طفلا). وقال الكلبي: شانه سوق المقادير إلى المواقيت. وقال عمرو ابن ميمون في قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) من شأنه أن يميت حيا، ويقر في الارحام ما شاء، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا. وسأل بعض الامراء وزيره عن قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزله فقال له غلام له أسود: ما شأنك ؟ فأخبره. فقال له: عد إلى الامير فإني أفسرها له، فدعاه فقال: أيها الامير ! شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافى مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام، فقال: يا مولاي ! هذا من شأن الله تعالى. وعن عبد الله ابن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: (فأصبح من النادمين (2)) وقد صح أن الندم توبة. وقوله: (كل يوم هو في شأن) وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى (3)) فما بال الاضعاف ؟ فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الامة، ويكون توبة في هذه الامة، لان الله تعالى خص هذه الامة بخصائص لم تشاركهم فيها الامم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله. وأما قوله: (كل يوم هو في شأن) فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها. وأما قوله: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه. (1) راجع ج 15 ص 330 (2) راجع ج 6 ص 143 (3) راجع ج 17 ص (*)
[ 168 ]
قوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأئ الاء ربكما تكذبان (32) يا معشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والارض فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان (33) فبأئ الاء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35) فبأئ الاء ربكما تكذبان (36) قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيه الثقلان) يقال: فرغت من الشغل أفرغ فروغا وفراغا وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرغ لك أي أقصدك. وفرغ بمعنى قصد، وأنشد ابن الانباري في مثل هذا لجرير: ألان وقد فرغت إلى نمير * فهذا حين كنت لها عذابا يريد وقد قصدت. وقال أيضا (1) وأنشده النحاس: * فرغت إلى العبد المقيد في الحجل * وفى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الانصار ليلة العقبة، صاح الشيطان: يأهل الجباجب (2) ! هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا إزب العقبة (3) أما والله يا عدوالله لاتفرغن لك) أي أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا أختيار القتبي والكسائي وغيرهما. وقيل: إن الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: (سنفرغ لكم) مما وعدناكم ونوصل كلا إلى ما وعدناه، أي أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن ومقاتل وابن زيد. وقرأ عبد الله وأبي (سنفرغ إليكم) وقرأ الاعمش وإبراهيم (1) أي جرير. (2) الجباجب: منازل منى (3) الازب: ضبطه الحلبي في سيرته بكسر الهمزة واسكان الزاى، وهو هنا اسم شيطان. (*)
[ 169 ]
(سيفرغ لكم) بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله. وقرأ ابن شهاب والاعرج (سنفرغ لكم) بفتح النون والراء، قال الكسائي: هي لغة تميم يقولون فرغ يفرغ، وحكى أيضا فرغ يفرغ ورواهما هبيرة عن حفص عن عاصم. وروى الجعفي عن أبي عمرو (سيفرغ) بفتح الياء والراء، ورويت عن ابن هرمز. وروي عن عيسى الثقفي (سنفرغ لكم) بكسر النون وفتح الراء، وقرأ حمزة والكسائي (سيفرغ لكم) بالياء. الباقون بالنون وهي لغة تهامة. والثقلان الجن والانس، سميا بذلك لعظم شأنهما بالاضافة إلى ما في الارض من غيرهما بسبب التكليف. وقيل: سموا بذلك لانهم ثقل على الارض أحياء وأمواتا، قال الله تعالى: (وأخرجت الارض أثقالها (1)) ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه. وقال بعض أهل المعاني: كل شئ له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل. ومنه قيل لبيض النعام ثقل، لان واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به. وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين، لانهما مثقلان بالذنوب. وقال: (سنفرغ لكم) فجمع، ثم قال: (أيه الثقلان) لانهما فريقان وكل فريق جمع، وكذا قوله تعالى: (يا معشر الجن والانس إن استطعتم) ولم يقل إن استطعتما، لانهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى: (فإذا هم فريقان يختصمون (2)) و (هذان خصمان اختصموا (3) في ربهم) ولو قال: سنفرغ لكما (4)، وقال: إن استطعتما لجاز. وقرأ أهل الشام (أية الثقلان) بضم الهاء. الباقون بفتحها وقد تقدم (3). مسألة - هذه السورة و (الاحقاف) و (قل أوحي) دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالانس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شئ من ذلك. قوله تعالى: (يح امعشر الجن والانس) الاية. ذكر ابن المبارك: وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب، فينزلون إلى الارض فيحيطون بالارض ومن فيها، ثم يأمر الله السماء التي تليها (1) راجع ج 20 ص 147. (2) راجع ج 13 ص 214. (3) راجع ج 12 ص 25 وص 238 وج 16 ص 97 (4) أي في غير القرآن. (*)
[ 170 ]
كذلك فينزلون فيكونون صفامن خلف (1) ذلك الصف، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة، فينزل الملك الاعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم، فيسمعون زفيرها وشهيقها، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، فذلك قوله تعالى: (يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنقذون إلا بسلطان) والسلطان العذر. وقال الضحاك أيضا: بينما الناس في أسواقهم أنفتحت السماء، ونزلت الملائكة، فتهرب الجن والانس، فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله تعالى: (لا تنفذون إلا بسلطان) ذكره النحاس. قلت. فعلى هذا يكون في الدنيا، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة. وعن الضحاك أيضا: إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا. وقال ابن عباس: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الارض فأعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى. وعنه أيضا أن معنى: (لا تنقذون إلا بسلطان) لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك. وقيل: لا تنفذون إلا إلى سلطان (2)، الباء بمعنى إلى، كقوله تعالى: (وقد أحسن (3) بي) أي إلى. قال الشاعر (4): أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة * لدينا ولا مقلية إن تقلت وقوله: (فانفذوا) أمر تعجيز. قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ. وقيل: ليس هذا متعلقا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابا بالنار. وقيل: أي بآلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب. وقيل: يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون (يا معشر الجن والانس)، فتلك النار قوله: (يرسل عليكما شواظ من نار) (1) في ب، ز، ح، س، د: (في جوف ذلك الصف). (2) في ب: (إلى سلطاني). (3) راجع ج 9 ص 267. (4) هو كثير عزة. (*)
[ 171 ]
والشواظ في قول ابن عباس وغيره اللهب الذي لا دخان له. والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت رضي الله عنه، كذا وقع في تفسير الثعلبي والماوردي بن أبي الصلت، وفي (الصحاح) و (الوقف والابتداء) لابن الباري: أمية بن خلف قال: ألا من مبلغ حسان عني * مغلغلة تدب إلى عكاظ أليس أبوك فينا كان فينا * لدى القينات فسلا في الحفاظ يمانيا يظل يشد كيرا * وينفخ دائبا لهب الشواظ فأجابه حسان رضي الله عنه فقال: هجوتك فاختضعت لها بذل * بقافية تأجج كالشواظ (1) وقال رؤبة: إن لهم من وقعنا أقياظا * ونار حرب تسعر الشواظا وقال مجاهد: الشواظ اللهب الاخضر المنقطع من النار. الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب. وقاله سعيد بن جبير. وقد قيل: إن الشواظ النار والدخان جميعا، قاله أبو عمرو وحكاه الاخفش عن بعض العرب. وقرأ ابن كثير (شواظ) بكسر الشين. الباقون بالضم وهما لغتان، مثل صوار وصوار لقطيع البقر. (ونحاس) قراءة العامة (ونحاس) بالرفع عطف على (شواظ). وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو (ونحاس) بالخفض عطفا على النار. قال المهدوي: من قال إن الشواظ النار والدخان جميعا فالجر في (نحاس) على هذا بين. فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: (يرسل عليكما (1) وفى التاج بدل هذا البيت: مجللة تعممه شنارا * مضرمة تأجج كالشواظ والفسل من الرجال: الرذل الذى لا مروءة له ولا جلد. والمفسول مثله. (*)
[ 172 ]
شواظ من نار) وشئ من نحاس، فشئ معطوف على شواظ، ومن نحاس جملة هي صفة لشئ، وحذف شئ، وحذفت من لتقدم ذكرها في (من نار) كما حذفت على من قولهم: على من تنزل أنزل [ أي (1) ] عليه. فيكون (نحاس) على هذا مجرورا بمن المحذوفة. وعن مجاهد وحميد وعكرمة وأبي العالية (ونحاس) بكسر النون لغتان كالشواظ والشواظ. والنحاس بالكسر أيضا الطبيعة والاصل، يقال: فلان كريم النحاس والنحاس أيضا بالضم أي كريم النجار (2). وعن مسلم بن جندب (ونحس) بالرفع. وعن حنظلة بن مرة بن النعمان الانصاري (ونحس) بالجر عطف على نار. ويجوز أن يكون (ونحاس) بالكسر جمع نحس كصعب وصعاب (ونحس) بالرفع عطف على (شواظ) وعن الحسن (ونحس) بالضم [ فيهما (3) ] جمع نحس. ويجوز أن يكون أصله ونحوس فقصر بحذف واوه حسب ما تقدم عند قوله: (وبالنجم هم يهتدون (4)). وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة (ونحس) بفتح النون وضم الحاء وتشديد السين من حس يحس حسا إذا استأصل، ومنه قوله تعالى: (إذ تحسونهم بإذنه (5)) والمعنى ونقتل بالعذاب. وعلى القراءة الاولى (ونحاس) فهو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، قاله مجاهد وقتادة، وروي عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا وسعيد ابن جبير أن النحاس الدخان الذي لا لهب فيه، وهو معنى قول الخليل، وهو معروف في كلام العرب بهذا المعنى، قال نابغة بني جعدة: يضئ كضوء سراج السلي * ط لم يجعل الله فيه نحاسا قال الاصمعي: سمعت أعرابيا يقول السليط دهن السمسم بالشام ولا دخان فيه. وقال مقاتل: هي خمسة أنهار من صفر مذاب، تجري من تحت العرش على رءوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار. وقال ابن مسعود: النحاس المهل. وقال الضحاك: هو دردي الزيت المغلي. وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة. (فلا تنتصران) أي لا ينصر بعضكم بعضا يعني الجن والانس. (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) النجار - بكسر النون وضمها - الاصل والحسب. (3) الذى في الاصول: (بالضم فيهن) وما أثبتناه هو ما عليه كتب التفسير أي بضمتين وكسر السين. (4) راجع ج 10 ص 91. (5) راجع ج 4 ص 233. (*)
[ 173 ]
قوله تعالى: فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأئ الاء ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه انس ولا جآن (39) فبأئ الاء ربكما تكذبان (40) قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء) أي انصدعت يوم القيامة (فكانت وردة كالدهان) الدهان الدهن، عن مجاهد والضحاك وغيرهما. والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن، والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء. وقيل: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل: الدهان الجلد الاحمر الصرف، ذكره أبو عبيد والفراء. أي تصير السماء حمراء كالاديم لشدة حر النار. ابن عباس: المعنى فكانت كالفرس الورد، يقال للكميت: ورد إذا كان يتلون بألوان مختلفة. قال ابن عباس: الفرس الورد، في الربيع كميت أصفر، وفي أول الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد الشتاء كان كميتا أغبر. وقال الفراء: أراد الفرس الوردية، تكون في الربيع وردة إلى الصفرة، فإذا أشتد البرد كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل. وقال الحسن: (كالدهان) أي كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانا. وقال زيد ابن أسلم: المعنى أنها تصير كعكر الزيت، وقيل: المعنى أنها تمر وتجئ. قال الزجاج: أصل الواو والراء والدال للمجئ والاتيان. وهذا قريب مما قدمناه من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها. وقال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر، حكاه الثعلبي. وقال الماوردي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الازرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحا فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء، لانه أصل لونها. والله أعلم.
[ 174 ]
هذا مثل قوله تعالى: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (1)) وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض، وهذا قول عكرمة. وقيل: المعنى لا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لان الله حفظها عليهم، وكتبتها عليهم الملائكة. رواه العوفي عن ابن عباس. وعن الحسن ومجاهد أيضا: المعنى لا تسأل الملائكة عنهم، لانهم يعرفونهم بسيماهم، دليله ما بعده. وقاله مجاهد عن ابن عباس. وعنه أيضا في قوله تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين (2)) وقوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) وقال: لا يسألهم ليعرف ذلك منهم، لانه أعلم بذلك منهم، ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ. وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم. وقال قتادة: كانت المسألة قبل، ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت الجوارح شاهدة عليهم. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال: (فيلقي العبد فيقول أي فل (3) ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والابل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقي الثاني فيقول له مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ها هنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك فيفتكر في نقسه من هذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه) وقد مضى هذا الحديث في (حم السجدة) وغيرها (4). (1) راجع ج 13 ص 316 (2) راجع ج 10 ص 59 (3) أي فل: معناه يا فلان وليس ترخيماله، وانما هي صيغة ارتجلت في النداء، ولا تقال الا بسكون اللام. وقال قوم: انه ترخيم فلان. (4) راجع ج 15 ص 48 وص 350 (*)
[ 175 ]
قوله تعالى: يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصى والاقدام (41) فبأئ الاء ربكما تكذبان (42) هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون (43) يطوفون بينها وبين حميم ءان (44) فبأئ الاء ربكما تكذبان (45) قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم) قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الاعين، قال الله تعالى: (ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (1)) وقال تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه (2)). (فيؤخذ بالنواصى والاقدام) أي تأخذ الملائكة بنواصيهم، أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار. والنواصي جمع ناصية. وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره. وعنه: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصية حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار. وقيل: يفعل ذلك به ليكون أشد لعذابه وأكثر لتشويهه. وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه. قوله تعالى: (هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون) أي يقال لهم هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم. (يطوفون بينها وبين حميم آن) قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: (آن) ثلاثة أوجه، أحدها أنه الذي انتهى حره وحميمه. قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني: وتخضب لحية غدرت وخانت * بأحمرمن نجيع الجوف آن قال قتادة: (آن) طبخ منذ خلق الله السموات والارض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك. وقال كعب: (آن) واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل (1) راجع ج 11 ص 244. (2) راجع ج 4 ص 166. (3) نجيع الجوف: يعنى الدم الخالص. وقبل البيت: فان يقدر عليك أبو قبيس * تمط بك المعيشة في هوان (*)
[ 176 ]
النار فيغمسون بأغلالهم فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: (يطوفون بينها وبين حميم آن). وعن كعب أيضا: أنه الحاضر. وقال مجاهد: إنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته. والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى على شاب في الليل يقرأ (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك يافتى مثلها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك (1)). قوله تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فبأئ الاء ربكما تكذبان (47) قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) فيه مسألتان: الاولى - لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعد للابرار. والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية. ف (مقام) مصدر بمعنى القيام. وقيل: خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه، بيانه قوله تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت (2)). وقال مجاهد وإبراهيم النخعي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه. الثانية - هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله وحياء منه. وقال به سفيان الثوري وأفتى به. وقال محمد بن علي الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته. وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض. وقيل: المقام الموضع، أي خاف مقامه بين يدي ربه للحساب كما تقدم. ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله، وهو كالاجل في قوله: (فإذا جاء أجلهم (3)) وقوله في موضع آخر: (1) في ب، ح، ز، س، ل، ه: (من بكائك). (2) راجع ج 9 ص 322. (3) راجع ج 7 ص 202. (*)
[ 177 ]
(إن أجل الله إذا (1) جاء لا يؤخر). (جنتان) أي لمن خاف جنتان على حدة، فلكل خائف جنتان. وقيل: جنتان لجميع الخائفين، والاول أظهر. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجنتان بستانان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور (2) وليس منها شئ إلا يهتز نغمة وخضرة، قرارها ثابت وشجرها ثابت) ذكره المهدوي والثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة. وقيل: إن الجنتين جنته التي خلقت له وجنة ورثها. وقيل: إحدى الجنتين منزله والاخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا. وقيل: إن إحدى الجنتين مسكنه والاخرى بستانه. وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور والاخرى أعاليها. وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم. وقال الفراء: إنما هي جنة واحدة، فثنى لرءوس الآي. وأنكر القتبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون إنما قال تسعة عشر لمراعاة رءوس الآي. وأيضا قال: (ذواتا أفنان). وقال أبو جعفر النحاس: قال الفراء قد تكون جنة فتثنى في الشعر، وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله عزوجل، يقول الله عزوجل: (جنتان) ويصفهما بقوله: (فيهما) فيدع الظاهر ويقول: يجوز أن تكون جنة ويحتج بالشعر ! وقيل: إنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبنا على ظمإ فأعجبه، فسأل عنه فأخبر أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال: (رحمك الله لقد أنزلت فيك آية) وتلا عليه هذه الآية. قوله تعالى: ذواتا أفنان (48) فبأئ الاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان تجريان (50) فبأئ الاء ربكما تكذبان (51) (1) راجع ج 18 ص 299 (2) في ز، ل: (نور على نور). (*)
[ 178 ]
قوله تعالى: (ذواتا أفنان) قال ابن عباس وغيره: أي ذواتا ألوان من الفاكهة الواحد فن. وقال مجاهد: الافنان الاغصان واحدها فنن، قال النابغة: بكاء حمامة تدعو هديلا * مفجعة على فنن تغني (1) وقال آخر يصف طائرين: باتا على غصن بان في ذرى فنن * يرددان لحونا ذات ألوان أراد باللحون اللغات. وقال آخر: ما هاج شوقك من هديل حمامة * تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف ضاريا * ذا مخلبين من الصقور قطاما والفنن جمعه أفنان ثم الافانين، وقال يصف رحى: * لها زمام من أفانين الشجر * وشجرة فناء أي ذات أفنان وفنواء أيضا على غير قياس. وفي الحديث: (أن أهل الجنة مرد مكحلون أولو أفانين) يريد أولو فنن وهو جمع أفنان، وأفنان جمع فنن [ وهو الخصلة (2) ] من الشعر شبه بالغصن. ذكره الهروي. وقيل: (ذواتا أفنان) أي ذواتا سعة وفضل على ما سواهما، قاله قتاده. وعن مجاهد أيضا وعكرمة: إن الافنان ظل الاغصان على الحيطان. قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان) أي في كل واحدة منهما عين جارية. قال ابن عباس: تجريان ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة. وعن ابن عباس أيضا والحسن: تجريان بالماء الزلال، إحدى العينين التسنيم والاخرى السلسبيل. وعنه أيضا: (1) قبل هذا البيت: أسائلها وقد سفحت دموعي * كأن مفيضهن غروب شن (2) الزيادة من النهاية لابن الاثير. (*)
[ 179 ]
عينان مثل الدنيا أضعافا مضاعفة، حصباؤهما الياقوت الاحمر والزبرجد الاخضر، وترابهما الكافور، وحمأتهما المسك الاذفر، وحافتاهما الزعفران. وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والاخرى من خمر لذة للشاربين. وقيل: تجريان من جبل من مسك. وقال أبو بكر الوراق: فيهما عنيان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عزوجل. قوله تعالى: فيهما من كل فاكهة زوجان (52) فبأئ الاء ربكما تكذبان (53) متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأئ الاء ربكما تكذبان (55) قوله تعالى: (فيهما من كل فاكهة زوجان) أي صنفان وكلاهما حلو يستلذ به. قال ابن عباس: ما في الدنيا شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو. وقيل: ضربان رطب ويابس لا يقصر هذا عن ذلك في الفضل والطيب. وقيل: أراد تفضيل هاتين الجنتين على الجنتين اللتين دونهما، فإنه ذكرهاهنا عينين جاريتين، وذكر ثم عينين تنضخان بالماء والنضخ دون الجري، فكأنه قال: في تينك الجنتين من كل فاكهة نوع، وفي هذه الجنة من كل فاكهة نوعان. قوله تعالى: (متكئين على فرش) هو نصب على الحال. والفرش جمع فراش. وقرأ أبو حيوة (فرش) بإسكان الراء. (بطائنها) جمع بطانة وهي التي تحت الظهارة. والاستبرق ما غلظ من الديباج وخشن، أي إذا كانت البطانة التي تلي الارض هكذا فما ظنك بالظهارة، قاله ابن مسعود وأبو هريرة. وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر ؟ قال: هذا مما قال الله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة (1) أعين). وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ظواهرها نور يتلالا). وعن الحسن: بطائنها من إستبرق، وظواهرها من نور جامد. وعن الحسن أيضا: البطائن هي الظواهر، (1) راجع ج 14 ص 103 (*)
[ 180 ]
وهو قول الفراء، وروي عن قتادة. والعرب تقول للظهر بطنا، فيقولون: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء، لظاهرها الذي نراه. وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوما، كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء. (وجنى الجنتين دان) الجنى ما يجتنى من الشجر، يقال: أتانا بجناة طيبة لكل ما يجتنى. وثمر جني على فعيل حين جني، وقال (1): هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه وقرئ (جنى) بكسر الجيم. (دان) قريب. قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، لايرد يده بعد ولا شوك. قوله تعالى: فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان (56) فبأئ الاء ربكما تكذبان (57) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فيهن قاصرات الطرف) قيل: في الجنتين المذ كورتين. قال الزجاج: وانما قال: (فيهن) ولم يقل فيهما، لانه عنى الجنتين وما أعد لصاحبهما من النعيم. وقيل: (فيهن) يعود على الفرش التي بطائنها من إستبرق، أي في هذه الفرش (قاصرات الطرف) أي نساء قاصرات الطرف، قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم. وقد مضى في (والصافات (2)) ووحد الطرف مع الاضافة إلى الجمع لانه في معنى المصدر، من طرفت عينه تطرف طرفا، ثم سميت العين بذلك فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم: قوم عدل وصوم. (1) هو عمرو بن عدى اللخمى ابن أخت جذيمة الابرش، وهو مثل يضرب للرجل يؤثر صاحبه بخيار ما عنده. (2) راجع ج 15 ص 80 (*)
[ 181 ]
الثانية - قوله تعالى: (لم يطمثهن) أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن هؤلاء أحد. الفراء: والطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية، طمثها يطمثها ويطمثها طمثا إذا افتضها. ومنه قيل: امرأة طامث أي حائض. وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطئها على أي الوجوه كان. إلا أن قول الفراء أعرف وأشهر. وقرأ الكسائي (لم يطمثهن) بضم الميم، يقال: طمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. وطمثت بالكسر لغة فهي طامث، وقال الفرزدق: وقعن (1) إلي لم يطمثن قبلي * وهن أصح من بيض النعام وقيل: (لم يطمثن) لم يمسهن، قال أبو عمرو: والطمث المس وذلك في كل شئ يمس. ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبلنا أحد، وما طمث هذه الناقة حبل، أي ما مسها عقال. وقال المبرد: أي لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث التذليل. وقرأ الحسن (جأن) بالهمزة. الثالثة - في هذه الآية دليل على أن الجن تغشى كالانس، وتدخل الجنة ويكون لهم فيها جنيات. قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور العين، فالانسيات للانس، والجنيات للجن. وقيل: أي لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجن في الجنة من الحور العين من الجنيات جن، ولم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الانس في الجنة من الحور العين من الانسيات إنس، وذلك لان الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري. قلت: قد مضى في (النمل (2)) القول في هذا وفي (سبحان (3)) أيضا، وأنه جائز أن تطأ بنات آدم. وقد قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) وذلك بأن الله تبارك وتعالى وصف الحور العين بأنه لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برئن من هذا العيب ونزهن، والطمث الجماع. ذكره بكماله الترمذي الحكيم، وذكره المهدوي أيضا والثعلبي وغيرهما والله أعلم. (1) في ب: (دفعن). (2) راجع ج 13 ص 211 (3) راجع ج 10 ص 289 (*)
[ 182 ]
قوله تعالى: كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأئ الاء ربكما تكذبان (59) هل جزاء الاحسان الا الاحسان (60) فبأئ الاء ربكما تكذبان (61) قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان) روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها) وذلك بأن الله تعالى يقول: (كأنهن الياقوت والمرجان) فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاثم استصفيته لاريته [ من ورائه (1) ] ويروى موقوفا. وقال عمرو بن ميمون: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك، كما يرى الشراب الاحمر في الزجاجة البيضاء. وقال الحسن: هن في صفاء الياقوت، وبياض (2) المرجان. قوله تعالى: (هل جزاء الاحسان الا الاحسان) (هل) في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى قد كقوله تعالى: (هل أتى على الاحسان حين من الدهر (3))، وبمعنى الاستفهام كقوله تعالى: (فهل وجدتم ما وعد ربكم (4) حقا)، وبمعنى الامر كقوله تعالى: (فهل أنتم منتهون (5))، وبمعنى ما في الجحد كقوله تعالى: (فهل على الرسل إلا البلاغ (6))، و (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان). قال عكرمة: أي هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. ابن عباس: ما جزاء من قال لا إله إلا اله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة. وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قاله ابن زيد. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) ثم قال: (هل تدرون ماذا قال ربكم) قالوا الله ورسوله أعلم، قال: (يقول ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة). وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (1) الزيادة من صحيح الترمذي. (2) كذا في الاصول، والعهود أن المرجان أحمر. (3) راجع ج 19 ص 306 (4) راجع ج 7 ص 209 (5) راجع ج 6 ص 292 (6) راجع ج 10 ص 103 (*)
[ 183 ]
هذه الآية فقال: (يقول الله هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي) وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت عليه في الازل إلا حفظ الاحسان عليه في الابد. وقال محمد ابن الحنفية والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة. قوله تعالى: ومن دونهما جنتان (62) فبأئ الاء ربكما تكذبان (63) مدهامتان (64) فبأئ الاء ربكما تكذبان (65) قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان) أي وله من دون الجنتين الاوليين جنتان أخريان. قال ابن عباس: ومن دونهما في الدرج. ابن زيد: ومن دونهما في الفضل. ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الاوليين النخل والشجر، وفي الاخريين الزرع والنبات وما انبسط. الماوردي: ويحتمل أن يكون (ومن دونهما جنتان) لاتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته، إحداهما للحور العين، والاخرى للولدان المخلدين، ليتميز بهما الذكور عن الاناث. وقال ابن جريج: هي أربع: جنتان منها للسابقين المقربين (فيهما من كل فاكهة زوجان) و (عينان تجريان)، وجنتان لاصحاب اليمين (فيهما فاكهة ونخل ورمان) و (فيهما عينان نضاختان). وقال ابن زيد: إن الاوليين من ذهب للمقربين، والاخريين من ورق لاصحاب اليمين. قلت: إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب (منهاج الدين له)، واحتج بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (ولمن خاف مقام ربه جنتان) إلى قوله: (مدهامتان) قال: تانك للمقربين، وهاتان لاصحاب اليمين. وعن أبي موسى الاشعري نحوه. ولما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما فقال في الاوليين: (فيهما عينان تجريان)، وفي الاخريين: (فيهما عينان نضاختان) أي فوارتان ولكنهما ليستا كالجاريتين لان النضخ دون الجري. وقال في الاوليين: (فيهما من كل فاكهة زوجان) فعم ولم يخص. وفي الاخريين: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) ولم يقل كل فاكهة، وقال
[ 184 ]
في الاوليين: (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق) وهو الديباج، وفي الاخريين (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخباء، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء. وقال في الاوليين في صفة الحور: (كأنهن الياقوت والمرجان)، وفي الاخريين (فيهن خيرات حسان) وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقال في الاوليين: (ذواتا أفنان) وفي الاخريين (مدهامتان) أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الاوليين بكثرة الاغصان، والاخريين بالخضرة وحدها، وفي هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدنا بقوله (ومن دونهما جنتان) ولعل ما لم يذكر من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر. فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الاوليين ؟ قيل: الجنان الاربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب، فالجنتان الاوليان لاعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى، والجنتان الاخريان لمن قصرت حاله في الخوف من الله تعالى. ومذهب الضحاك أن الجنتين الاوليين من ذهب وفضة، والاخريين من ياقوت وزمرد وهما أفضل من الاوليين، وقوله: (ومن دونهما جنتان) أي ومن أمامهما ومن قبلهما. وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول) فقال: ومعنى (ومن دونهما جنتان) أي دون هذا إلى العرش، أي أقرب وأدنى إلى العرش، وأخذ يفضلهما على الاوليين بما سنذكره عنه. وقال مقاتل: الجنتان الاوليان جنة عدن وجنة النعيم، والاخريان جنة الفردوس وجنة المأوى. قوله تعالى: (مدهامتان) أي خضروان من الري، قاله ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: مسودتان. والدهمة في اللغة السواد، يقال: فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء أي أشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك حتى اشتد السواد فهو جون. وادهم الفرس ادهماما أي صار أدهم. وادهام الشئ ادهيماما أي اسواد، قال الله
[ 185 ]
تعالى: (مدهامتان) أي سوداوان من شدة الخضرة من الري، والعرب تقول لكل أخضر أسود. وقال لبيد يرثي قتلى هوازن: وجاءوا (1) به في هودج ووراءه * كتائب خضر في نسيج السنور السنور لبوس من قد كالدرع. وسميت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها. ويقال لليل المظلم: أخضر. ويقال: أباد الله خضراءهم أي سوادهم. قوله تعالى: فيهما عينان نضاختان (66) فبأئ الاء ربكما تكذبان (67) فيهما فاكهة ونخل ورمان (68) فبأئ الاء ربكما تكذبان (69) قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان) أي فوارتان بالماء، عن ابن عباس. والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء. وعنه أن المعنى نضاختان بالخير والبركة، وقاله الحسن ومجاهد. ابن مسعود وابن عباس أيضا وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر. وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء. الترمذي: قالوا بأنواع الفواكه والنعم (2) والجواري المزينات والدواب المسرجات والثياب الملونات. قال الترمذي: وهذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري. وقيل: تنبعان ثم تجريان. قوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) فيه مسألتان. الاولى - قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لان الشئ لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره. وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: (1) وجاءوا به: يعنى قتادة بن مسلمة الحنفي. (2) في ب. (النعيم). (*)
[ 186 ]
(حافظوا على الصلوات (1) والصلاة الوسطى) وقوله: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال (2)) وقد تقدم. وقيل: إنما كررهما لان النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لان النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات (3)، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لان النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله، وهى المسألة: الثانية - إذا حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه والناس. قال ابن عباس: الرمانة في الجنة مثل البعير المقتب. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكرانيفها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لاهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه عجم (4). قال: وحدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا. قوله تعالى: فيهن خيرات حسان (70) فبأئ الاء ربكما تكذبان (71) قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان) يعني النساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير. وقيل: (خيرات) بمعنى خيرات فخفف، كهين ولين. ابن المبارك: حدثنا (1) راجع ج 3 ص 208 (2) راجع ج 2 ص 36 (3) في حاشية الجمل نقلا عن القرطبى: والرمان كالشراب الخ. (4) العحم - بالتحريك -: النوى (*)
[ 187 ]
الاوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن عامر قال: لو أن خيرة من (خيرات حسان) اطلعت من السماء لاضاءت لها، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف (1) تكساه خيرة خير من الدنيا وما فيها. (حسان) أي حسان الخلق، وإذا قال الله تعالى: (حسان) فمن ذاالذي يقدر أن يصف حسنهن ! وقال الزهري وقتادة: (خيرات) الاخلاق (حسان) الوجوه. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة. وقال أبو صالح: لانهن عذارى أبكار. وقرأ قتادة وابن السميقع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي (خيرات) بالتشديد على الاصل. وقد قيل: أن خيرات جمع خير والمعنى ذوات خير. وقيل: مختارات. قال الترمذي: فالخيرات ما أختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين. ثم قال: (حسان) فوصفهن بالحسن فإذا وصف خالق الحسن شيئا بالحسن فانظر ما هناك. وفي الاوليين ذكر بأنهن (قاصرات الطرف) و (كأنهن الياقوت والمرجان) فانظر كم بين الخيرة وهي مختارة الله، وبين قاصرات الطرف. وفي الحديث: (إن الحور العين يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بأحسن منها ولا بمثلها نحن الراضيات فلا نسخط أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن خيرات حسان حبيبات لازواج كرام). خرجه الترمذي بمعناه من حديث علي رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهن المؤمنات من نساء أهل الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن. فقالت عائشة رضي الله، عنها: فغلبنهن والله. الثانية - وأختلف أيهما أكثر حسنا وأبهر جمالا الحور أو الآدميات ؟ فقيل: الحور لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة، ولقوله عليه الصلاة والسلام في دعائه على الميت (1) هو الخمار وقيل المعجر النهاية. (*)
[ 188 ]
في الجنازة: (وأبدله زوجا خيرا من زوجه). وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، وروي مرفوعا. وذكر ابن المبارك: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم (1) عن حيان ابن أبي جبلة، قال: إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وقد قيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري. والمشهور أن الحور العين لسن، من نساء أهل الدنيا وإنما هن مخلوقات في الجنة، لان الله تعالى قال: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أقل ساكني الجنة النساء) فلا يصيب كل واحد منهم امرأة، ووعد الحور العين لجماعتهم، فثبت أنهن من غير نساء الدنيا. قوله تعالى: حور مقصورات في الخيام (72) فبأئ الاء ربكما تكذبان (73) لم يطمثهن انس قبلهم ولا جآن (74) فبأئ الاء ربكما تكذبان (75) قوله تعالى: (حور مقصورات في الخيام) (حور) جمع حوراء، وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها وقد تقدم (2). (مقصورات) محبوسات مستورات (في الخيام) في الحجال لسن بالطوافات في الطرق، قاله ابن عباس. وقال عمر رضي الله عنه: الخيمة درة مجوفة. وقاله ابن عباس. وقال: هي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في قوله تعالى (حور مقصورات في الخيام): بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطئ الانهار سعتها أربعون ميلا وليس لها باب، حتى إذا دخل (3) ولي الله الجنة (1) هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم (بفتح أوله وسكون النون وضم المهملة). (2) راجع ج 15 ص 80 (3) في ب: (حتى إذا أحل ولى الله بالخيمة). (*)
[ 189 ]
انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين. والله أعلم. وقال في الاوليين: (فيهن قاصرات الطرف) قصرن طرفهن على الازواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدل على أن المقصورات أعلى وأفضل. وقال مجاهد: (مقصورات) قد قصرن على أزواجهن فلا يردن بذلا منهم. وفي الصحاح: وقصرت الشئ أقصره قصرا حبسته، ومنه مقصورة الجامع، وقصرت الشئ على كذا إذا لم تجاوز إلى غيره، وامرأة قصيرة وقصورة أي مقصورة في البيت لا تترك أن تخرج، قال كثير: وأنت التي حببت كل قصيرة * إلي وما تدري بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد * قصار الخطا شر النساء البحاتر (1) وأنشده الفراء قصورة، ذكره ابن السكيت. وروى أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي في الجنة بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه السلام عليك يا رسول الله فقلت: يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء جوار من الحور العين استأذن ربهن في أن يسلمن عليك فأذن لهن فقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا أزواج رجال كرام) ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (حور مقصورات في الخيام) أي محبوسات حبس صيانة وتكرمة. وروي عن أسماء بنت يزيد (2) الاشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الاجر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا أحسنتن (3) تبعل أزواجكن وطلبتن مرضاتهم). قوله تعالى: (لم يطمثهن) أي لم يمسسهن على ما تقدم قبل. وقراءة العامة (يطمثهن) بكسر الميم. وقرأ أبو حيوة الشامي وطلحة بن مصرف والاعرج والشيرازي عن الكسائي (1) البحاتر: جمع بحترة بضم الباء القصيرة المجتمعة الخلق. (2) في نسخ الاصل بنت عبيد والتصحيح من التهذيب. (3) مصاحبتهم في الزوجية والعشرة (*)
[ 190 ]
بضم الميم في الحرفين. وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الاخرى ويخير في ذلك، فإذا رفع الاولى كسر الثانية وإذا كسر الاولى رفع الثانية. وهي قراءة أبي إسحق السبيعي. قال أبو إسحق: كنت أصلي خلف أصحاب علي فيرفعون الميم، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فيكسرونها، فاستعمل الكسائي الاثرين. وهما لغتان طمث وطمث مثل يعرشون ويعكفون، فمن ضم فللجمع بين اللغتين، ومن كسر فلانها اللغة السائرة. وإنما أعاد قوله: (لم يطمثهن، ليبين أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة الحور القاصرات الطرف. يقول: إذا [ قصرن (1) ] كانت لهن الخيام في تلك الحال. قوله تعالى: متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان (76) فبأى ءالاء ربكما تكذبان (77) تبارك اسم ربك ذى الجلال والاكرام (78) قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر) الرفرف المحابس (2). وقال ابن عباس: الرفرف فضول الفرش والبسط. وعنه أيضا: الرفرف المحابس يتكئون على فضولها، وقاله قتادة. وقال الحسن والقرظي: هي البسط. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرافق، وقاله الحسن أيضا. وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب. وقال الليث: ضرب من الثياب الخضر تبسط. وقيل: الفرش المرتفعة. وقيل: كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف. قال ابن مقبل: وإنا لنزالون تغشى نعالنا * سواقط من أصناف ريط ورفرف وهذه أقوال متقاربة. وفي الصحاح: والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة رفرفة. وقال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا: الرفرف رياض الجنة، واشتقاق الرفرف (1) في الاصول كلها: إذا ضجرن الخ والضجر لا يجوز في الجنة ولذا أثبثنا بدل ضجرن قصرن. (2) المحابس: جمع محبس كمقعد ثوب يطرح على ظهر الفراش النوم عليه. وفى ل: المجالس وكلا المغيين صحيح كما في اللغة. (*)
[ 191 ]
من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء. وربما سموا الظليم رفرافا بذلك، لانه يرفرف بجناحيه ثم يعدو. ورفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشئ يريد أن يقع عليه. والرفرف أيضا كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها، الواحدة رفرفة. وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة [ تخشخش (1) ] أي رفع طرف الفسطاط. وقيل: اصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضا نضيرا، حكاه الثعلبي. وقال القتبي: يقال للشئ إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى كاد يهتز: رف يرف رفيفا، حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرفرف شئ إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذذ به مع أنيسته، قاله الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول) وقد ذكرناه في (التذكرة). قال الترمذي: فالرفرف اعظم خطرا من الفرش فذكره في الاوليين (متكئين على فرش بطائنها من إستبرق) وقال هنا: (متكئين على رفرف خضر) فالرفرف هو شئ إذا استوى عليه الولي رفرف به، أي طار به هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح، وأصله من رفرف بين يدي الله عزوجل، روي لنا في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى مسند العرش، فذكر أنه قال: (طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي بين يدي ربي) ثم لما حان الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الامور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الانبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لاهل الجنتين الدانيتين هو متكأهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الانهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان. ثم قال: (وعبقري حسان) فالعبقري ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر !. وقرأ عثمان رضي الله عنه والجحدري والحسن وغيرهم (متكئين على رفارف) بالجمع غير مصروف كذلك (1) زيادة من كتب اللغة. (*)
[ 192 ]
(وعباقرى حسان) جمع رفرف وعبقري. و (رفرف) اسم للجمع و (عبقري) واحد يدل على الجمع المنسوب إلى عبقر. وقد قيل: إن واحد رفرف وعبقري رفرفة وعبقرية، والرفارف والعباقر جمع الجمع. والعبقري الطنافس الثخان منها، قاله الفراء. وقيل: الزرابي، عن ابن عباس وغيره. الحسن: هي البسط. مجاهد: الديباج. القتبي: كل ثوب وشئ عند العرب عبقري. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي فينسب إليها كل وشي حبك. قال ذو الرمة: حتى كأن رياض القف ألبسها * من وشي عبقر تجليل وتنجيد ويقال: عبقر قرية بناحية اليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الانباري: إن الاصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل. وقال الخليل: كل جليل نافس فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه) وقال أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم (فلم أر عبقريا يفري فريه) فقال: رئيس قوم وجليلهم. وقال زهير: بخيل عليها جنة عبقرية * جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا وقال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد: * كهول وشبان كجنة عبقر (1) * ثم نسبوا إليه كل شئ يعجبون من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا: عبقري وهو واحد وجمع. وفي الحديث: (إنه كان يسجد على عبقري) وهو هذه البسط التي فيها الاصباغ والنقوش حتى قالوا: ظلم عبقري وهذا عبقري قوم للرجل القوي. وفي الحديث: (فلم أر عبقريا يفري فريه) ثم خاطبهم الله بما تعارفوه فقال: (وعبقري حسان) وقرأه بعضهم (1) صدر البيت: * ومن فاد من اخوانهم وبنيهم * (*)
[ 193 ]
(عباقري) وهو خطأ لان المنسوب لا يجمع على نسبته، وقال قطرب: ليس بمنسوب وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي. وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ (متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان) ذكره الثعلبي. وضم الضاد من (خضر) قليل. قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذى الجلال والاكرام) (تبارك) تفاعل من البركة وقد تقدم (1). (ذي الجلال) أي العظمة. وقد تقدم (والاكرام (2)). وقرأ عامر (ذو الجلال) بالواو وجعله وصفا للاسم، وذلك تقوية لكون الاسم هو المسمى. الباقون (ذي الجلال) جعلوا (ذي) صفة ل (ربك). وكأنه يريد الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: (الرحمن) فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الانسان والجن (3)، وخلق السموات والارض وصنعه، وأنه (كل يوم هو في شأن) ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفة النار ثم ختمها بصفة الجنان. ثم قال في آخر السورة: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام (أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والارض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه ثم قال: (ذي الجلال والاكرام) جليل في ذاته، كريم في أفعاله. ولم يختلف القراء في إجراء النعت على الوجه بالرفع في أول السورة، وهو يدل على أن المراد به وجه الله الذي يلقى المؤمنون عندما ينظرون إليه، فيستبشرون بحسن الجزاء، وجميل اللقاء، وحسن العطاء. والله أعلم. (1) راجع ج 13 ص 1 (2) راجع ص 165 من هذا الجزء. (3) في ب: (والشياطين). (*)
[ 194 ]
سورة الواقعة مكية، وهى سبع وتسعون آية مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون). وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات، منها آيتان (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) نزلتا في سفره إلى مكة، وقوله تعالى: (ثلة من الاولين. وثلة من الاخرين) نزلتا في سفره إلى المدينة. وقال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الاولين والاخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. وذكر أبو عمر ابن عبد البر في (التمهيد) و (التعليق) والثعلبي أيضا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي ؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي ؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو لك طبيبا ؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر لك بعطائك ؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه لي عند مماتي ؟ قال: يكون لبناتك من بعدك. قال: أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي ؟ إنى أمرتهن أن يقرأن سورة (الواقعة) كل ليلة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا. بسم الله الرحمن رحيم إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الارض رجا (4) وبست الجبال بسا (5) فكانت هباء منبثا (6) قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة) أي قامت القيامة، والمراد النفخة الاخيرة. وسميت واقعة لانها تقع عن قرب. وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وفيه إضمار، أي اذكروا
[ 195 ]
إذا وقعت الواقعة. وقال الجرجاني: (إذا) صلة، أي وقعت الواقعة، كقوله: (اقتربت الساعة (1)) و (أتى أمر الله (2)) وهو كما يقال: قد جاء الصوم أي دنا واقترب. وعلى الاول (إذا) للوقت، والجواب قوله: (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة). (ليس لوقعتها كاذبة) الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر، كقوله تعالى: (لا تسمع فيها لا (3) غية) أي لغو، والمعنى لا يسمع (4) لها كذب، قاله الكسائي. ومنه قول العامة: عائذا بالله أي معاذ الله، وقم قائما أي قم قياما. ولبعض نساء العرب ترقص أبنها: قم قائما قم قائما * أصبت عبدا نائما وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة، أو نفس كاذبة، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق. وقال الزجاج: (ليس لوقعتها كاذبة) أي لا يردها شئ. ونحوه قول الحسن وقتادة. وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي (5) أيضا: ليس لها تكذيب، أي ينبغي ألا يكذب بها أحد. وقيل: إن قيامها جد لا هزل فيه. قوله تعالى: (خافضة رافعة) قال عكرمة ومقاتل والسدي: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت من نأى، يعني أسمعت القريب والبعيد. وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين. وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت أقواما إلى طاعة الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواما كانوا في الدنيا مخفوضين. وقال ابن عطاء: خفضت أقواما بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل. والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة (1) راجع ج 10 ص 65 (2) راجع ص 125 من هذا الجزء. (3) راجع ج 20 ص 33 (4) في ب: (ليس لها كذب). (5) في ب: (الحسن). (*)
[ 196 ]
توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل، يقولون: ليل نائم ونهار صائم. وفي التنزيل: (بل مكر الليل والنهار (1)) والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي (خافضة رافعة) بالنصب. الباقون بالرفع على إضمار مبتدإ، ومن نصب فعلى الحال. وهو عند الفراء على إضمار فعل، والمعنى: إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة - وقعت: خافضة رافعة. والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقواما وتضع آخرين على ما بيناه. قوله تعالى: (إذا رجت الارض رجا) أي زلزلت وحركت عن مجاهد وغيره، يقال: رجه يرجه رجا أي حركه وزلزله. وناقة رجاء أي عظيمة السنام. وفي ب الحديث: (من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له) يعنى إذا اضطربت أمواجه. قال الكلبي: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها أضطربت فرقا من الله تعالى. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شئ عليها من الجبال وغيرها. وعن ابن عباس الرجة الحركة الشديدة يسمع لها صوت. وموضع (إذا) نصب على البدل من (إذا وقعت). ويجوز أن ينتصب ب (خافضة رافعة) أي تخفض وترفع وقت رج الارض وبس الجبال، لان عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض. وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجت الارض، قاله الزجاج والجرجاني. وقيل: أي اذكر (إذا رجت الارض رجا) مصدر وهو دليل على تكرير الزلزلة. قوله تعالى: (وبست الجبال بسا) أي فتتت، عن أبن عباس. مجاهد: كما يبس الدقيق أي يلت. والبسيسة السويق أو الدقيق يلت بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادا. قال الراجز: لا تخبزا خبزا وبسابسا * ولا تطيلا بمناخ حبسا (1) راجع ج 14 ص 302 (*)
[ 197 ]
وذكر أبو عبيدة: أنه لص من غطفان أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن ذلك فأكله عجينا. والمعنى أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت بشئ من الماء. أي تصير الجبال ترابا فيختلط البعض بالبعض. وقال الحسن: وبست قلعت من أصلها فذهبت، نظيره: (ينسفها ربي نسفا (1)). وقال عطية: بسطت كالرمل والتراب. وقيل: البس السوق أي سيقت الجبال. قال أبو زيد: البس السوق، وقد بسست الابل أبسها بالضم بسا. وقال أبو عبيد: بسست الابل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بس بس. وفي الحديث: (يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) ومنه الحديث الآخر: (جاءكم أهل اليمن يبسون عيالهم (2)) والعرب تقول: جئ به من حسك وبسك. ورواهما أبو زيد بالكسر، فمعنى من حسك من حيث أحسسته، وبسك من حيث بلغه مسيرك. وقال مجاهد: سألت سيلا. عكرمة: هدت هدا. محمد بن كعب: سيرت سيرا، ومنه قول الاغلب العجلي (3): وقال الحسن: قطعت قطعا. والمعنى متقارب. قوله تعالى: (فكانت هباء منبثا) قال علي رضي الله عنه: الهباء المنبث الرهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك. وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار. وروي نحوه عن ابن عباس. وعنه أيضا: هو ما تطاير من النار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئا. وقال عطية. وقد مضى في (الفرقان) عند قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (5)) وقراءة العامة (منبثا) بالثاء المثلثة أي متفرقا من قوله تعالى: (وبث فيها من كل دابة (6)) أي فرق ونشر. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة (منبتا) بالتاء المثناة أي منقطعا من قولهم: بته الله أي قطعه، ومنه البتات. (1) راجع ج 11 ص 245 (2) أي يسوقون عيالهم. (3) بياض بالاصول في موضع الشاهد من قول الاغلب العجلى الراجز ولم نعثر عليه. (4) الرهج بالفتح وبالاسكان الغبار. (5) راجع 13 ص 22 (6) راجع ج 2 ص 196 (*)
[ 198 ]
قوله تعالى: وكنتم أزواجا ثلاثة (7) فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة مآ أصحاب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10) أولائك المقربون (11) في جنات النعيم (12) قوله تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة) أي أصنافا ثلاثة كل، صنف يشا كل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بين من هم فقال: (فأصحاب الميمنة) (وأصحاب المشأمة) و (السابقون)، فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قاله السدي. والمشأمة الميسرة وكذلك الشأمة. يقال: قعد فلان شأمة. ويقال: يا فلان شائم بأصحابك، أي خذ بهم شأمة أي ذات الشمال. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الشمال الاشأم. وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن، ولما جاء عن الشمال الشؤم. وقال ابن عباس والسدي: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الايمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الايسر. وقال عطاء ومحمد بن كعب: أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله. وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالاعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة المشائيم علي أنفسهم بالاعمال السيئة القبيحة. وفي صحيح مسلم من حديث الاسراء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة - قال - فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى - قال - فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح - قال - قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الاسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والاسودة التي عن شماله أهل النار) وذكر الحديث. وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة
[ 199 ]
أصحاب التأخر. والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي أجعلني من المتقدمين ولا تجعلنا من المتأخرين. والتكرير في (ما أصحاب الميمنة). و (ما أصحاب المشأمة) للتفخيم والتعجيب، كقوله: (الحاقة ما الحاقة) و (القارعة ما القارعة) كما يقال: زيد ما زيد ! وفي حديث أم زرع رضي الله (1) عنها: مالك وما مالك ! والمقصود تكثير ما لاصحاب الميمنة من الثواب ولاصحاب المشأمة من العقاب. وقيل: (أصحاب) رفع بالابتداء والخبر (ما أصحاب الميمنة) كأنه قال: (فأصحاب الميمنة) ما هم، المعنى: أي شئ هم. وقيل: يجوز أن تكون (ما) تأكيدا، والمعنى فالذين يعطون (2) كتابهم بأيمانهم هم أصحاب التقدم وعلو المنزلة. قوله تعالى: (والسابقون السابقون) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لانفسهم) ذكره المهدوي. وقال محمد بن كعب القرظي: إنهم الانبياء. الحسن وقتادة: السابقون إلى الايمان من كل أمة. ونحوه عن عكرمة. محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، دليله قوله تعالى: (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار (3)). وقال مجاهد وغيره: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة. وقال علي رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. الضحاك: إلى الجهاد. سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البر، قال الله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من (4) ربكم) ثم أثنى عليهم فقال: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها (5) سابقون). وقيل: إنهم أربعة، منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قاله ابن عباس، حكاه الماوردي. وقال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه (1) حديث أم زرع رواه مسلم في فضائل الصحابة عن عائشة رضى الله عنها أنه: جلس احدى عشرة امرأة قتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، فقالت احداهن: زوجي مالك وما مالك ! مالك خير من ذلك...... الخ. الحديث. (2) في ب، ز، ح، س، ل، ه: (يؤتون كتابهم). (3) راجع ج 8 ص 235 (4) راجع ج 4 ص 203 (5) راجع ج 12 ص 133 (*)
[ 200 ]
داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وقيل: هم كل من سبق إلى شئ من أشياء الصلاح. ثم قيل: (السابقون) رفع بالابتداء والثاني توكيد له والخبر (أولئك المقربون). وقال الزجاج: (السابقون) رفع بالابتداء والثاني خبره، والمعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله (أولئك المقربون) من صفتهم. وقيل: إذا خرج رجل من السابقين المقربين من منزله في الجنة كان له ضوء يعرفه به من دونه. قوله تعالى: ثلة من الاولين (13) وقليل من الاخرين (14) على سرر موضونة (15) متكئين عليها متقابلين (16) قوله تعالى: (ثلة من الاولين) أي جماعة من الامم الماضية. (وقليل من الآخرين) أي ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال الحسن: ثلة ممن قد مضى قبل هذه الامة، وقليل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا منهم بكرمك. وسموا قليلا بالاضافة إلى من كان قبلهم، لان الانبياء المتقدمين كثروا فكثر السابقون إلى الايمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا. وقيل: لما نزل هذا شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: (ثلة من الاولين. وثلة من الآخري) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لارجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني) رواه أبو هريرة، ذكره الماوردي وغيره. ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. وكأنه أراد أنها منسوخة والاشبه أنها محكمة لانها خبر، ولان ذلك في جماعتين مختلفتين. قال الحسن: سابقو من مضي أكثر من سابقينا، فلذلك قال: (وقليل من الآخرين) وقال في أصحاب اليمين وهم سوى السابقين: (ثلة من الاولين. وثلة من الآخرين) ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لارجو
[ 201 ]
أن تكون أمتي شطر أهل الجنة) ثم تلا قوله تعالى: (ثلة من الاولين. وثلة من الآخرين) [ قال مجاهد: كل من هذه الامة. وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الثلتان جميعا من أمتي) يعني (ثلة من الاولين. وثلة من الآخرين). وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو بكر رضي الله (1) ] عنه: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله (2)). وقيل: (ثلة من الاولين) أي من أول هذه الامة. (وقليل من الآخرين) يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الاولين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم قرني) ثم سوى في أصحاب اليمين بين الاولين والآخرين. والثلة من ثللت الشئ أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة، قاله الزجاج. قوله تعالى: (على سرر موضونة) أي السابقون في الجنة (على سرر)، أي مجالسهم على سررجمع سرير. (موضونة) قال ابن عباس: منسوجة بالذهب. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وعن ابن عباس أيضا: (موضونة) مصفوفة، كما قال في موضع آخر: (على سرر مصفوفة (2)). وعنه أيضا وعن مجاهد: مرمولة (3) بالذهب. وفي التفاسير: (موضونة أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد. والوضن النسج المضاعف والنضد، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النسج مثل مصفوفة، قال الاعشى: ومن نسج داود موضونة * تساق مع الحي عيرا فعيرا وقال أيضا: وبيضاء كالنهي موضونة * لها قونس فوق جيب البدن (1) مابين المربعين ساقط من ح، ز، س، ل، ه. (2) راجع ج 14 آية 32 (2) راجع ص 65 من هذا الجزء. (3) مرمولة: منسوجة. (*)
[ 202 ]
والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج، ومنه الوضين: بطان من سيور ينسج فيدخل بعضه في بعض، ومنه قوله: * إليك تعدو قلقا وضينها (1) * (متكئين عليها) أي على السرر (متقابلين) أي لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الاسرة، وهذا في المؤمن وزوجته وأهله، أي يتكئون متقابلين. قاله مجاهد وغيره. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت. قوله تعالى: يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفاكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثال اللؤلؤ المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (24) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (25) الا قيلا سلاما سلاما (26) قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون) أي غلمان لا يموتون، قاله مجاهد. الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس: وهل ينعمن إلا سعيد مخلد * قليل الهموم ما يبيت بأوجال وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، يقال للقرط الخلدة ولجماعة الحلي الخلدة. وقيل: مسورون ونحوه عن الفراء، قال الشاعر: ومخلدات باللجين كأنما * أعجازهن أقاوز (2) الكثبان (1) الضمير يعود على الناقة، أراد أنها قد هزلت ودقت للسير عليها. (2) الاقاوز جمع قوز وهو كثيب من الرمل صغير، شبه به أرداف النساء، فالاضافة البيان. (*)
[ 203 ]
وقيل: مقرطون يعني ممنطقون من المناطق. وقال عكرمة: (مخلدون) منعمون. وقيل: على سن واحدة أنشأهم الله لاهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة. وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالانسان. (بأكواب وأباريق) أكواب جمع كوب وقد مضى في (الزخرف (1)) وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم، والاباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق، سمي بذلك لانه يبرق لونه من صفائه. (وكأس من معين) مضى في (والصافات (2)) القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون. وقيل: الظاهرة للعيون فيكون (معين) مفعولا من المعاينة. وقيل: هو فعيل من المعن وهو الكثرة. وبين أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلف ومعالجة. قوله تعالى: (لا يصدعون عنها) أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. (ولا ينزفون) تقدم في (والصافات) أي لا يسكرون فتذهب عقولهم. وقرأ مجاهد: (لا يصدعون) بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون، كقوله تعالى: (يومئذ (3) يصدعون). وقرأ أهل الكوفة (ينزفون) بكسر الزاي، أي لا ينفد شرابهم ولا تقنى خمرهم، ومنه قول الشاعر (4): لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم * لبئس الندامى كنتم آل أبجرا (1) راجع ج 16 ص 112 (2) راجع ج 15 ص 77 (3) راجع ج 14 ص 42 (4) هو الحطيئة وقد تقدم البيت في ج 15 ص 79 (*)
[ 204 ]
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقئ والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. قوله تعالى: (وفاكهة مما يتخيرون) أي يتخيرون ما شاءوا لكثرتها. وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. (ولحم طير مما يشتهون) روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر ؟ قال: (ذاك نهر أعطانيه الله تعالى - يعني في الجنة - أشد بياضا من اللبن أحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزر) قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلتها أحسن منها (1)) قال: حديث حسن. وخرجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها يا ولي الله رعيت في مروج تحت العرش وشربت من عيون التسنيم فكل مني فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء) فقال عمر: يا نبي الله إنها لنا عمة. فقال: (آكلها أنعم منها). وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لطيرا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير). قوله تعالى: (وحور عين) قرئ بالرفع والنصب والجر، فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفا على (بأكواب) وهو محمول على المعنى، لان المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور، قاله الزجاج. وجاز أن يكون معطوفا على (جنات) أي هم في (جنات النعيم) وفي حور على تقدير حذف المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة (1) في نسخ الاصل: أكلتها أنعم منها. وما أثبتناه هو في صحيح الترمذي. (*)
[ 205 ]
حور. الفراء: الجر على الاتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لان الحور لا يطاف بهن، قال الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوما * وزججن الحواجب والعيونا والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال آخر: ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا وقال قطرب: هو معطوف على الاكواب والاباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الاشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي وكذلك هو في مصحف أبي، فهو على تقدير إضمار فعل، كأنه قال: ويزوجون حورا عينا. والحمل في النصب على المعنى أيضا حسن، لان معنى يطاف عليهم به يعطونه. ومن رفع وهم الجمهور - وهو أختيار أبي عبيد وأبي حاتم - فعلى معنى وعندهم حور عين، لانه لا يطاف عليهم بالحور. وقال الكسائي: ومن قال: (وحور عين) بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في فاكهة ولحم، لان ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها. وقال الاخفش: يجوز أن يكون محمولا على المعنى، لان المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفا على (ثلة) و (ثلة) ابتداء وخبره (على سرر موضونة) وكذلك (وحور عين) وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. (كأمثال) أي مثل أمثال (اللؤلؤ المكنون) أي الذي لم تمسه الايدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء وتلالؤا، أي هن في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر: كأنما خلقت في قشر لؤلؤة * فكل أكنافها وجه لمرصاد (جزاء بما كانوا يعملون) أي ثوابا ونصبه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر، لان معنى (يطوف عليهم ولدان مخلدون) يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في (والطور (1)) وغيرها. وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الحور العين (1) راجع ص 65 من هذا الجزء وج 16 ص 152 (*)
[ 206 ]
من الزعفران) وقال خالد بن الوليد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لاخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة) فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجب ولا ينقص من التفاحة ؟ قال: نعم كالسراج الذي يوقد منه سراج آخر وسرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الاذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الاشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الابيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق (1) النعمان، إذا أقبلت يتلالا وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لاهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الاذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الاولياء (جزاء بما كانوا يعملون). قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) قال ابن عباس: باطلا ولا كذبا. واللغو ما يلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أثمته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: (ولا تأثيما) أي لا يؤثم بعضهم بعضا. مجاهد: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) شتما ولا مأثما. (الا قيلا سلاما سلاما) (قيلا) منصوب ب (يسمعون) أو أستئناء منقطع أي لكن يقولون قيلا أو يسمعون. و (سلاما سلاما) منصوبان بالقول، أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما. أو يكون وصفا ل (قيلا)، والسلام الثاني بدل من الاول، والمعنى إلا قيلا يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ابن عباس: أي يحيي بعضهم بعضا. وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عزوجل. (1) شقائق النعمان: نبات أحمر الزهر. الواحدة شقيقة النعمان. (*)
[ 207 ]
قوله تعالى: وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين (28) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) وماء مسكوب (31) وفاكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34) انآ أنشأناهن انشآء (35) فجعلناهن أبكارا (36) عربا أترابا (37) لاصحاب اليمين (38) ثلة من الاولين (39) وثلة من الاخرين (40) قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه. (في سدر مخضود) أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قاله ابن عباس وغيره. وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الاعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: يارسول الله ! لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما هي) قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صلى الله عليه وسلم: (أو ليس يقول (في سدر مخضود) خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر). وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج (وهو (1) واد بالطائف مخصب) فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة: إن الحدائق في الجنان ظليلة * فيها الكواعب سدرها مخضود وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: (في سدر مخضود) وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة (1) الذى في اللسان: وج موضع بالبادية. وقيل: بلد بالطائف، وقيل هي الطائف. (*)
[ 208 ]
(النجم (1)) عند قوله تعالى: (عند سدرة المنتهى) وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (وطلح منضود) الطلح شجر الموز واحده طلحة. قاله أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم. وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب. وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة (2) وهو الجعدي: بشرها دليلها وقالا * غدا ترين الطلح والاحبالا (3) فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه. وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان [ له (4) ] نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي بن أبي طالب رضي عنه الله: (وطلع منضود) بالعين وتلا هذه الآية (ونخل طلعها هضيم (5)) وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه (وطلح منضود) فقال: ما شأن الطلح ؟ إنما هو (وطلع منضود) ثم قال: (لها طلع نضيد) فقيل له: أفلا نحولها ؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قاله القشيري. وأسنده أبو بكر الانباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي - شك مجالد - (وطلح منضود) فقال علي رضي الله عنه: ما بال الطلح ؟ أما تقرأ (وطلع) ثم قال: (لها طلع نضيد) فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف ؟ (1) راجع ص 94 وص 5 من هذا الجزء. (2) كذا في الاصول (الحداة) بالحاء المهملة والذى في تفسير الطبري (الجداة) بالجيم. (3) الاحبال جمع حبلة بالضم: ثمر السلم والبال والسمر أو ثمر العضاه عامة. (4) زيادة يقتضيها السياق. (5) راجع ج 13 ص 127 (*)
[ 209 ]
فقال: [ لا (1) ] لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قوله. والمنضود المتراكب الذي [ قد (1) نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة: خلت سبيل أتى كان يحبسه * ورفعته إلى السجفين فالنضد وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها. قوله تعالى: (وظل ممدود) أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) وذلك بالغداة وهي ما بين الاسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك (2). والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش. وقال عمرو بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشئ الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد: غلب العزاء وكنت غير مغلب * دهر طويل دائم ممدود وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم (وظل ممدود). (وماء مسكوب) أي جار لا ينقطع وأصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب أنصبابه، يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الانهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الاشجار وظلالها، والمياه والانهار واطرادها. (1) زيادة من ب. (2) راجع ج 13 ص 37. (*)
[ 210 ]
قوله تعالى: (وفاكهة كثيرة) أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم (لا مقطوعة) أي في وقت من الاوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء (ولا ممنوعة) أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا. وقيل: (ولا ممنوعة) أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد [ ولا (1) ] حائط، بل إذا أشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال الله تعالى: (وذللت قطوفها تذليلا (2)). وقيل: ليست مقطوعة بالازمان، ولا ممنوعة بالاثمان. والله أعلم. قوله تعالى: (وفرش مرفوعة) روى الترمذي [ عن أبي سعيد (1) ] عن النبي صلى الله وسلم في قوله تعالى: (وفرش مرفوعة) قال: (ارتفاعها لكما بين السماء والارض مسيرة خمسمائة سنة) قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد. وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والارض. وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عزوجل: (وفرش مرفوعة) دال، لانها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الاقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: (انا أنشأناهن انشا) أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: (هن لباس لكم (3)). ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة. وقيل: المراد نساء بني آدم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الاعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لانهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولان الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاء) قال: (منهن البكر والثيب). وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا. عربا أترابا) فقال: (يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء) أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن (1) زيادة من ب. (2) راجع ج 19 ص 137. (3) راجع ج 2 ص 316. (*)
[ 211 ]
موسى بن عبيدة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رفعه (إنا أنشأناهن إنشاء) قال: (هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا). وقال المسيب بن شريك: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (إنا أنشأناهن إنشاء) [ الآية (1) ] قال: (هن عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا) فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه ! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس هناك وجع). (عربا) جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لازوجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد: وفى الخباء (2) عروب غير فاحشة * ريا الروادف يعشى دونها البصر وهي الشكلة (3) بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام. وقيل: إنها الحسنة التبعل (4) لتكون ألذ استمتاعا. وروى جعفر بن محمد عن أببه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عربا) قال: (كلامهن عربي). وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم (عربا) بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. (أترابا) على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر. وقيل: (أترابا) أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الاخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. قيل: الحور العين للسابقين، والاتراب العرب لاصحاب اليمين. قوله تعالى: (ثلة من الاولين. وثلة من الآخرين) رجع الكلام إلى قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) أي هم (ثلة من الاولين. وثلة من الآخرين) وقد مضى الكلام في معناه. وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك: (1) زيادة من ب. (2) في الديوان: (وفى الحروج) جمع الحرج، وهو الهودج. (3) الشكلة (بفتح الشبن وكسر الكاف): ذات الدل. (4) أي مطاوعة لزوجها محبة له. (*)
[ 212 ]
(ثلة من الاولين) يعني من سابقي هذه الامة (وثلة من الاخرين) من هذه الامة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية (ثلة من الاولين. وثلة من الآخرين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هم جميعا من أمتي). وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان نصف من الامم الماضية ونصف من هذه الامة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الامة وأربعون من سائر الامم). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و (ثلة) رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لاصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والاولون الامم الماضية، والآخرون هذه الامة على القول الثاني. قوله تعالى: وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) انهم كانوا قبل ذالك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون (47) أو أآباؤنا الاولون (48) قل ان الاولين والاخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (50) ثم انكم أيها الضالون المكذبون (51) لاكلون من شجر من زقوم (52) فمالئون منها البطون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56)
[ 213 ]
قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لانهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: (ما أصحاب الشمال. في سموم) والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. (وحميم) أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في (القتال (1)) (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم). (وظل من يحموم) أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار. وقيل: هو مأخوذ من الحمم وهو الفحم. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء. وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. (لا بارد) بل حارلانه من دخان شفير جهنم. (ولا كريم) عذب، عن الضحاك. وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل مالا خير فيه فليس بكريم. وقيل: (وظل من يحموم) أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم (2) ظلل). (انهم كانوا قبل ذلك مترفين) أي إنما استحقوا هذه العقوبة لانهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: (مترفين) أي مشركين. (وكانوا يصرون على الخنث العظيم) أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد. وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يبرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لابعث، وأن الاصنام أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت (3)). وفي الخبر: (1) راجع ج 16 ص 237. (2) راجع ج 15 ص 243. (3) راجع ج 10 ص 15. (*)
[ 214 ]
كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. (وكانوا يقولون أئذا متنا) هذا استبعاد منهم لامر البعث وتكذيب له، فقال الله تعالى: (قل) لهم يا محمد (ان الاولين) من آبائكم (والآخرين) منكم (لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قول تعالى: (لمجموعون) هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل (ثم انكم أيها الضالون) عن الهدى (المكذبون) بالبعث (لآكلون من شجر من زقوم) وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة (والصافات (1)). (فمالئون منها البطون) أي من الشجرة، لان المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون (من) الاولى زائدة، ويحوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: (لآكلون من شجر من زقوم) طعاما. وقوله: (من زقوم) صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر. قوله تعالى: (فشاربون عليه) أي على الزقوم أو على الاكل أو على الشجر، لانه يذكر ومؤنث. (من الحميم) وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حرما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلى. قوله تعالى: (فشاربون شرب الهيم) قراءة نافع وعاصم وحمزة (شرب) بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لان كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم. وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالاكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الابل العطاش التي (1) راجع ج 15 ص 85. (*)
[ 215 ]
لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الابل المراض. الضحاك: الهيم الابل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والانثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح: يقال به داء الهيام أصابه * وقد علمت نفسي مكان شفائها وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الابل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد: أجزت إلى معارفها بشعث (1) * وأطلاح من العيدي هيم (2) وقال الضحاك والاخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الارض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل مالا يروى من الابل والرمل أهيم وهيماء. وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الابل فتهيم في الارض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الابل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى. قوله تعالى: (هذا نزلهم يوم الدين) أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للاضياف تكرمة لهم، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب (3) أليم) وكقول أبي السعد الضبي: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا * جعلنا القنا والمرهفات له نزلا وقرأ يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو (هذا نزلهم) بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر (آل عمران (3)) القول فيه. (يوم الدين) يوم الجزاء، يعني في جهنم (1) شعث: رجال ساءت حالهم من الجهد والسفر. وأطلاح: ابل مهازيل والواحد طليح. والعيدي: ابل منسوبة إلى فحل، ويقال منسوبة إلى قوم يقال لهم العيد. (2) أي خففت وكسرت الهاء لاجل الياء. (3) راجع ج 8 ص 128 (4) راجع ج 4 ص 321 (*)
[ 216 ]
قوله تعالى: نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرءيتم ما تمنون (58) ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في مالا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون (62) قوله تعالى: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) أي فهلا تصدقون بالبعث ؟ لان الاعادة كالابتداء. وقيل: المعنى نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا ؟ قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون) أي ما تصبونه من المني في أرحام النساء. (أأنتم تخلقونه) أي تصورون منه الانسان (أم نحن الخالقون) المقدرون المصورون. وهذا احتجاج عليهم وبيان للآية الاولى، أي إذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث. وقرأ أبو السمال ومحمد بن السميقع وأشهب العقيلي: (تمنون) بفتح التاء وهما لغتان أمنى ومنى، وأمذى ومذى، يمني ويمني ويمذي ويمذي. الماوردي: ويحتمل أن يختلف معناها عندي، فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن الاحتلام. وفي تسمية المني منيا وجهان: أحدهما لامنائه وهو إراقته. الثاني لتقديره، ومنه المنا الذي يوزن به لانه مقدار لذلك، كذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة. قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت) أحتجاج أيضا، أي الذي يقدر على الاماتة يقدر على الخلق، وإذا قدر على الخلق قدر على البعث. وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير (قدرنا) بتخفيف الدال. الباقون بالتشديد، قال الضحاك: أي سوينا بين أهل السماء وأهل الارض. وقيل: قضينا. وقيل: كتبنا، والمعنى متقارب، فلا أحد يبقى غيره عزوجل. (وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم) أي إن أردنا أن نبدل أمثالكم لم يسبقنا أحد، أي لم يغلبنا. (وما نحن بمسبوقين) معناه بمغلوبين. وقال الطبري: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين
[ 217 ]
في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر ولا يتأخر متقدم. (وننشئكم فيما لا تعلمون) من الصور والهيئات. قال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم. وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، فيجمل المؤمن ببياض وجهه، ويقبح الكافر بسواد وجهه. سعيد بن جبير (1): قوله تعالى: (فيما لا تعلمون) يعني في حواصل طير سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد في اليمن. وقال مجاهد: (فيما لا تعلمون) في أي خلق شئنا. وقيل: المعنى ننشئكم في عالم لا تعلمون، وفي مكان لا تعلمون. قوله تعالى: (ولقد علمتم النشأة الاولى) أي إذ خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولم تكونوا شيئا، عن مجاهد وغيره. قتادة والضحاك: يعني خلق آدم عليه السلام. (فلولا تذكرون) أي فهلا تذكرون. وفى الخبر: عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الاخرى وهو يرى النشأة الاولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار. وقراءة العامة (النشأة) بالقصر. وقرأ مجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو: (النشاءة) بالمد، وقد مضى في (العنكبوت (2)) بيانه. قوله تعالى: أفرءيتم ما تحرثون (63) ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) انا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون) هذه حجة أخرى، أي أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر، أنتم تنبتونه وتحصلونه زرعا فيكون فيه السنبل والحب أم نحن نفعل ذلك ؟ وإنما منكم البذر وشق الارض، فإذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب ليس إليكم، فكيف تنكرون إخراج الاموات من الارض وإعادتهم ؟ ! وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى، لان الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله تعالى (1) في ب: (سعيد بن المسيب). (2) راجع ج 13 ص 337 (*)
[ 218 ]
وينبت على اختياره لا على اختيارهم. وكذلك ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت فإن الزارع هو الله) قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله تعالى: (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون). والمستحب لكل من يلقي البذر في الارض أن يقرأ بعد الاستعاذة (أفرأيتم ما تحرثون) الآية، ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صلي على محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، وأجعلنا لانعمك من الشاكرين، ولآلائك من الذاكرين، وبارك لنا فيه يا رب العالمين. ويقال: إن هذا القول أمان لذلك الزرع من جميع الآفات: الدود والجراد وغير ذلك، سمعناه من ثقة وجرب فوجد كذلك. ومعنى (أأنتم تزرعونه) أي تجعلونه [ زرعا (1) ]. وقد يقال: فلان زراع كما يقال حراث، أي يفعل ما يئول إلى أن يكون زرعا يعجب الزراع. وقد يطلق لفظ الزرع على بذر الارض وتكريبها تجوزا. قلت: فهو نهي إرشاد [ وأدب (2) ] لا نهي حظر وإيجاب، ومنه قوله عليه السلام: (لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي) وقد مضى في (يوسف (3)) القول فيه. وقد بالغ بعض العلماء فقال: لا يقل حرثت فأصبت، بل يقل: أعانني الله فحرثت، وأعطاني بفضله ما أصبت. قال الماوردي: وتتضمن هذه الآية أمرين، أحدهما - الامتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني - البرهان الموجب للاعتبار، لانه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذره، وانتقاله إلى استواء حاله من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر، ثم جعله قويا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أخف عليه وأقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قال (لو نشاء لجعلناه حطاما) أي متكسرا يعني الزرع. والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبه بذلك أيضا على أمرين: أحدهما - ما أولاهم به من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاما ليشكروه. الثاني - ليعتبروا بذلك في أنفسهم، كما أنه يجعل (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) الزيادة: من ب، ز، ح، س، ل، ه. (3) راجع ج 9 ص 194 (*)
[ 219 ]
الزرع حطاما إذا شاء، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. (فظلتم تفكهون) أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم، قاله الحسن وقتادة وغيرهما. وفي الصحاح: وتفكه أي تعجب، ويقال: تندم، قال الله تعالى: (فظلتم تفكهون) أي تندمون. وتفكهت بالشئ تمتعت به. وقال يمان: تندمون على نفقاتكم، دليله: (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق (1) فيها). وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم. ابن كيسان: تحزنون، والمعنى متقارب. وفيه لغتان: تفكهون وتفكنون: قال الفراء: والنون لغة عكل. وفي الصحاح: التفكن التندم على ما فات. وقيل: التفكه التكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فكاهة بالضم، فأما الفكاهة بالفتح فمصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. وقراءة العامة (فظلتم) بفتح الظاء. وقرأ عبد الله (فظلتم) بكسر الظاء ورواها هرون عن حسين عن أبي بكر. فمن فتح فعلى الاصل، والاصل ظللتم فحذف اللام الاولى تخفيفا، ومن كسر نقل كسرة اللام الاولى إلى الظاء ثم حذفها. (انا لمغرمون) وقرأ أبو بكر والمفضل (أئنا) بهمزتين على الاستفهام، ورواه عاصم عن زربن حبيش. الباقون بهمزة واحدة على الخبر، أي يقولون (إنا لمغرمون) أي معذبون، عن ابن عباس وقتادة قالا: والغرام العذاب، ومنه قول ابن المحلم: وثقت بأن الحفظ مني سجية * وأن فؤادي متبل بك مغرم وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب: سلا عن تذكره تكتما (2) * وكان رهينا بها مغرما يقال: أغرم فلان بفلانة، أي أولع بها ومنه الغرام وهو الشر اللازم. وقال مجاهد أيضا: لملقون شرا. وقال مقاتل بن حيان: مهلكون. النحاس: (إنا لمغرمون) مأخوذ من الغرام وهو الهلاك، كما قال (3): يوم النسار ويوم الجفا * ركانا عذابا وكانا غراما (1) راجع ج 10 ص 409 (2) تكتم: اسم من يشبب بها. (3) قائله بشر بن أبى خازم. النسار موضع وقيل: هو ماء لبنى عامر. والجفار: موضع وقيل: هو ماء لبنى تميم. ويوم النسار ويوم الجفار: يومان من أيام العرب مشهوران. (*)
[ 220 ]
الضحاك وابن كيسان: هومن الغرم، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، أي غرمنا الحب الذي بذرناه. وقال مرة الهمداني: محاسبون. (بل نحن محرومون) أي حرمنا ما طلبنا من الريع. والمحروم الممنوع من الرزق. والمحروم ضد المرزوق وهو المحارف في قول قتادة. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأرض الانصار فقال: (ما يمنعكم من الحرث) قالوا: الجدوبة، فقال: (لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر) ثم تلا (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون). قلت: وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه، وأباه الجمهور من العلماء، وقد ذكرنا ذلك في (الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى). قوله تعالى: أفرءيتم الماء الذى تشربون (68) ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (70) أفرءيتم النار التى تورون (71) ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74) قوله تعالى: (أفرأيتم الماء الذى تشربون) لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لان الشراب إنما يكون تبعا للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدما في الاية قبل، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء: إذا سقيت ضيوف الناس محضا * سقوا أضيافهم شبما زلالا (1) وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة. (أأنتم أنزلتموه من المزن) أي السحاب، الواحدة مزنة، فقال الشاعر: فنحن كماء المزن ما في نصابنا * كهام ولا فينا يعد بخيل (2) (1) المحض: اللبن الخالص: والماء الشبم: البارد. (2) نصاب كل شئ: أصله. ورجل كهام وكهيم: ثقيل، لاغناء عنده. (*)
[ 221 ]
وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب. وعن ابن عباس أيضا والثوري: المزن السماء والسحاب. وفي الصحاح: أبو زيد: المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن، والمزنة المطرة، قال: ألم ترأن الله أنزل مزنة * وعفر الظباء في الكناس تقمع (1) (أم نحن المنزلون) أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي ؟ ولم تنكرون قدرتي على الاعادة ؟. (لو نشاء جعلناه أجاجا) أي ملحا شديد الملوحة، قاله ابن عباس. الحسن: مرا قعاعا (2) لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما. (فلولا) أي فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم. قوله تعالى: (أفرأيتم النار التى تورون) أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب (أأنتم أنشأتم شجرتها) يعني التي تكون منها الزناد وهى المرخ والعفار، ومنه قولهم: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، أي استكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. ويقال: لانهما يسرعان الوري. يقال: أوريت النار إذا قدحتها. وورى الزند يري إذا أنقدح منه النار. وفيه لغة أخرى: ووري الزند يري بالكسر فيهما. (أم نحن المنشئون) أي المخترعون الخالقون، أي فإذا عرفتم قدرتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث. قوله تعالى: (نحن جعلناها تذكرة) يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى، قال قتادة. ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم) فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية، قال: (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها). (ومتاعا للمقوين) قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر. الفراء: إنما يقال (1) البيت لاوس بن حجر. وتقمع: تحرك رؤوسها لتطرد القمعة وهى ذباب أزرق يدخل في أنوف الدواب. (2) في ل: (زعاقا) ومعنا هما واحد، وهو الماء الشديد المرارة والملوحة. (*)
[ 222 ]
للمسافرين: مقوين إذا نزلوا القي وهي الارض القفر التي لا شئ فيها. وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر، ومنزل قواء لا أنيس به، يقال: أقوت الدار وقويت أيضا أي خلت من سكانها، قال النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الامد وقال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده * أقوى وأقفر بعد أم الهيثم ويقال: أقوى أي قوي وقوي أصحابه، وأقوى إذا سافر أي نزل القواء والقي. وقال مجاهد: (للمقوين) المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ابن زيد: للجائعين في، إصلاح طعامهم. يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئا، وبات فلان القواء وبات القفر إذا بات جائعا على غير طعم، قال الشاعر (1): وإني لاختار القوى طاوي الحشى * محافظة من أن يقال لئيم وقال الربيع والسدي: (المقوين) المنزلين [ الذين (2) ] لا زناد معهم، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها ؟ ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال قطرب: المقوي من الاضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني، يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي: والآية تصلح للجميع، لان النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الاول. القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لان انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لان أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم. قوله تعالى: (فسبح باسم ربك العظيم) أي فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الانداد، والعجز عن البعث. (1) هو حاتم طى. (2) زيادة من ب. (*)
[ 223 ]
قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وانه لقسم لو تعلمون عظيم (76) انه لقرءان كريم (77) في كتاب مكنون (78) لا يمسه الا المطهرون (89) تنزيل من العالمين (80) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فلا أقسم) (لا) صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى فأقسم، بدليل قوله: (وانه لقسم). وقال الفراء: هي نفي، والمعنى ليس الامر كما تقولون، ثم أستأنف (أقسم). وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم. أي ليس الامر كما ذكرت، بل هو كذا. وقيل: (لا) بمعنى إلا للتنبيه كما قال (1): * ألا عم صباحا أيها الطلل البالي * ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا. وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر (فلاقسم) بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلانا أقسم بذلك. ولو أريد به الاستقبال للزمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ. الثانية - قوله تعالى: (بمواقع النجوم) مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره. عطاء بن أبي رباح: منازلها. الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة. الضحاك: هي الانواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا. الماوردي: ويكون قوله تعالى: (فلا أقسم) مستعملا على حقيقته من نفي القسم. القشيري: هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة. (1) قائله امرؤ القيس، وتمامة: * وهل ينهمن من كان في العصر الخالى * (*)
[ 224 ]
قلت: يدل على هذا قراءة الحسن (فلاقسم) وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه. وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو ينزله على الاحداث من أمته، حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي. وقال أبو بكر الانباري: حدثنا إسمعيل ابن إسحق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الارضى نجوما، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. انه لقرآن كريم). وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. وقرأ حمزة والكسائي (بموقع) على التوحيد، وهي قراءة عبد الله ابن مسعود والنخعي والاعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب. الباقون على الجمع، فمن أفرد فلانه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع، ومن جمع فلاختلاف أنواعه. الثالثة - قوله تعالى: (انه لقرآن كريم) قيل: إن الهاء تعود على القرآن، أي إن القرآن لقسم عظيم، قال ابن عباس وغيره. وقيل: ما أقسم الله به عظيم (إنه لقرآن كريم) ذكر المقسم عليه، أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لانه كلام ربهم، وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء، لانه تنزيل ربهم ووحيه. وقيل: (كريم) أي غير مخلوق. وقيل: (كريم) لما فيه من كريم الاخلاق ومعاني الامور. وقيل: لانه يكرم حافظه، ويعظم قارئه. الرابعة - قوله تعالى: (في كتاب مكنون) مصون عند الله تعالى. وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل. والكتاب هنا كتاب في السماء، قاله ابن عباس. وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: التوراة والانجيل فيهما ذكر
[ 225 ]
القرآن ومن ينزل عليه. السدي: الزبور. مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا. الخامسة - قوله تعالى: (لا يمسه الا المطهرون) اختلف في معنى (لا يمسه) هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلف في (المطهرون) من هم ؟ فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله (لا يمسه إلا المطهرون) أنها بمنزلة الآية التي في (عبس وتولى) (فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة (1)) يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة (عبس). وقيل: معنى (لا يمسه) لا ينزل به (إلا المطهرون) أي الرسل من الملائكة على الرسل من الانبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل لان الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك. وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الاظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: (من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد) وكان في كتابه: ألا يمس القرآن إلا طاهر. وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر). وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: (لا يمسه (1) راجع ج 19 ص 213 (*)
[ 226 ]
إلا المطهرون) فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة (طه (1)). وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: (لا يمسه إلا المطهرون) من الاحداث والانجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا. وقيل: معنى (لا يمسه) لا يقرؤه (إلا المطهرون) إلا الموحدون، قاله محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة: كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن. وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا). وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الامر. وقد مضى هذا المعنى في سورة (البقرة (2)). المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة السين ضمة بناء والفعل مجزوم. السادسة - واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد ابن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. أبن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه، لان حريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو (1) راجع ج 11 ص 163 (2) راجع ج 3 ص 91 (*)
[ 227 ]
ابن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بملاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز، لانه لو منع لم يحفظ القرآن، لان تعلمه (1) حال الصغر، ولان الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لان النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا. السابعة - قوله تعالى: (تنزيل من رب العالمين) أي منزل، كقولهم: ضرب الامير ونسج اليمن. وقيل: (تنزيل) صفة لقوله تعالى: (إنه لقرآن كريم). وقيل: أي هو تنزيل. قوله تعالى: أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82) فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولاكن لا تبصرون (85) فلو لا ان كنتم غير مدينين (86) ترجعونها ان كنتم صادقين (87) قوله تعالى: (أفبهذا الحديث) يعني القرآن (أنتم مدهنون) أي مكذبون، قاله ابن عباس وعطاء وغيرهما. والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهره. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون، نظيره: (ودوا لو تدهن فيدهنون (2)). وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره، (1) في ب، ح، ز، س، ه: (لان حال تعلمه حال الصغر). (2) راجع ج 18 ص 230 (*)
[ 228 ]
والادهان والمداهنة التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر، وقال أبو قيس بن الاسلت: الحزم والقوة خير من * الا دهان والفهة والهاع (1) وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غششت. وقال الضحاك: (مدهنون) معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن. قوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) قال ابن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عدي: أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان ؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره، لان شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى. فقيل: (وتجعلون رزقكم) أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم (أنكم تكذبون) بالرزق أن تضعون الكذب مكان الشكر، كقوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية (2)) أي لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسبابا، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا. وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) حقيقة. وعن ابن عباس أيضا: أن المراد به الاستسقاء بالانواء، وهو قول العرب: مطرنا بنوء كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا (1) الفهة: العى. والهاع هنا: سوء الحرص مع ضعف. (2) راجع ج 7 ص 400 (*)
[ 229 ]
هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: (فلا أقسم بمواقع النجوم - حتى بلغ - (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)). وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم أن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون هذا المطر بنوء كذا) فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الانواء. فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) أي شكركم لله على رزقه إياكم (أنكم تكذبون) بالنعمة وتقولون سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا. وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر (1) سماء كانت من الليل، فلما أنصرف أقبل على الناس وقال: (أتدرون ماذا قال ربكم) قالوا: الله ورسول أعلم، قال: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك مؤمن بالكوكب كافر بي). قال الشافعي رحمه الله: لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما تقول مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن الله سبحانه: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عزوجل فذلك كافر كفرا صريحا (2) يجب استتابته عليه وقتله [ إن (3) أبى ] لنبذه الاسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن (1) على اثر سماء: أي بعد مطر. وفى (اثر) لغتان: كسر الهمزة وسكون الثاء وفتحهما. (2) في ب: (صراحا). (3) زيادة يقتضيها السياق. (*)
[ 230 ]
يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجها مباحا، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عزوجل، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة بنوء كذا، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شئ من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النوء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها (1)) قال أبو عمر: وهذا عندي نحو قول وسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطرنا بفضل الله ورحمته). ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب حين استسقى به: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الافق سبعا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا، فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه أخرج أم بقيت منه بقية ؟. وروى سفيان بن عيينة عن إسمعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول: مطرنا ببعض عثانين الاسد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذبت بل هو سقيا الله عزوجل) قال سفيان: عثانين الاسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة (تكذبون) من التكذيب. وقرأ المفضل عن عاصم ويحيي بن وثاب (تكذبون) بفتح التاء مخففا. ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطرنا بنوء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الاحساب والنياحة والانواء) ولفظ مسلم في هذا (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة). قوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم. ولم يتقدم لها ذكر، لان المعنى معروف، قال حاتم. أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (1) راجع ج 14 ص 321 (*)
[ 231 ]
وفي حديث: (إن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق يجمعون الروح شيئا فشيئا حتى ينتهى بها إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت). (وأنتم حينئذ تنظرون) أمرى وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميت لا تقدرون له على شئ. وقال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه. ثم قيل: هو رد عليهم في قولهم لاخوانهم (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا (1)) أي فهل ردوا روح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم. وقيل: المعنى فهلا إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردا لقولهم: (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر (2)). وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع، أي إن لم يك ما بك من الله فهلا حفظت على نفسك الروح. (ونحن أقرب إليه منكم) أي بالقدرة والعلم والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظر إلى شئ إلا رأيت الله تعالى أقرب إلى منه. وقيل: أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه (أقرب إليه منكم) (ولكن لا تبصرون) أي لا ترونهم. قوله تعالى: (فلولا ان كنتم غير مدينين) أي فهلا إن كنتم غير محاسبين ولامجزيين بأعمالكم، ومنه قوله تعالى: (إنا لمدينون) أي مجزيون محاسبون. وقد تقدم (3). وقيل: غير مملوكين ولا مقهورين. قال الفراء وغيره: دنته ملكته، وأنشد للحطيئة: لقد دنيت أمر بنيك حتى * تركتهم أدق من الطحين يعنى ملكت. ودانه أي أذله واستعبده، يقال: دنته فدان. وقد مضى في (الفاتحة (5)) القول في هذا عند قوله تعالى: (يوم الدين). (ترجعونها) ترجعون الروح إلى الجسد. (ان كنتم صادقين) أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين. و (ترجعونها) جواب لقوله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم) ولقوله: (فلولا إن كنتم غير مدينين) (1) راجع ج 4 ص 246 (2) راجع ج 16 ص 170 (3) راجع ج 15 ص 82 (4) ويروى سوست، يخاطب أمه. (5) راجع ج 1 ص 143. (*)
[ 232 ]
أجيبا بجواب واحد، قاله الفراء. وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (1)) أجيبا بجواب واحد وهما شرطان. وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلا إن كنتم غير مدينين ترجعونها، تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم. قوله تعالى: فأما ان كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأمآ ان كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأمآ ان كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية حجيم (94) ان هذا لهو حق اليقين (95) فسبح بالسم ربك العظيم (96) قوله تعالى: (فأما ان كان من المقربين) ذكر طبقات الخلق عند الموت وعند البعث، وبين درجاتهم فقال: (فأما إن كان) هذا المتوفى (من المقربين) وهم السابقون. (فروح وريحان وجنة نعيم) وقراءة العامة (فروح) بفتح الراء ومعناه عند ابن عباس وغيره: فراحة من الدنيا. وقال الحسن: الروح الرحمة. الضحاك: الروح الاستراحة. القتبي: المعنى له في القبر طيب نسيم. وقال أبو العباس بن عطاء: الروح النظر إلى وجه الله، والريحان الاستماع لكلامه ووحيه، (وجنة نعيم) هو ألا يحجب فيها عن الله عزوجل. وقرأ الحسن وقتادة ونصر بن عاصم والجحدري ورويس وزيد عن يعقوب (فروح) بضم الراء، ورويت عن ابن عباس. قال الحسن: الروح الرحمة، لانها كالحياة للمرحوم. وقالت عائشة رضي الله عنها: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (فروح) بضم الراء ومعناه فبقاء له وحياة (1) راجع ج 1 ص 327 (*)
[ 233 ]
في الجنة وهذا هو الرحمة. (وريحان) قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي رزق. قال مقاتل: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، قال النمر بن تولب: سلام الاله وريحانه * ورحمته وسماء درر وقال قتادة: إنه الجنة. الضحاك: الرحمة. وقيل هو الريحان المعروف الذي يشم. قاله الحسن وقتادة أيضا. الربيع بن خيثم: هذا عند الموت والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث. أبو الجوزاء: هذا عند قبض روحه يتلقى بضبائر الريحان. أبو العالية: لا يفارق أحد روحه من المقربين في الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان فيشمهما ثم يقبض روحه فيهما، وأصل ريحان واشتقاقه تقدم في أول سورة (الرحمن (1)) فتأمله. وقد سرد الثعلبي في الروح والريحان أقوالا كثيرة سوى ما ذكرنا من أرادها وجدها هناك. قوله تعالى: (وأما ان كان من أصحاب اليمين) أي (إن كان) هذا المتوفى (من أصحاب اليمين) (فسلام لك من أصحاب اليمين) أي لست ترى منهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم لهم، فإنهم يسلمون من عذاب الله. وقيل: المعنى سلام لك منهم، أي أنت سالم من الاغتمام لهم. والمعنى واحد. وقيل: أي إن أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم. وقيل: المعنى إنهم يسلمون عليك يا محمد. وقيل: معناه سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين، فحذف إنك. وقيل: إنه يحيا بالسلام إكراما، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت، قاله الضحاك. وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقد مضى هذا في سورة (النحل (2)) عند قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين). الثاني عند مساءلته في القبر يسلم عليه منكر ونكير. الثالث عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها. (1) راجع ص 157 من هذا الجزء. (2) راجع ج 10 ص 101 (*)
[ 234 ]
قلت: وقد يحتمل أن تسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراما بعد إكرام. والله أعلم. وجواب (إن) عند المبرد محذوف التقدير مهما يكن من شئ (فسلام لك من أصحاب اليمين) إن كان من أصحاب اليمين (فسلام لك من أصحاب اليمين) فحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه، كما حذف الجواب في نحو قولك أنت ظالم إن فعلت، لدلالة ما تقدم عليه. ومذهب الاخفش أن الفاء جواب (أما) و (إن)، ومعنى ذلك أن الفاء جواب (أما) وقد سدت مسد جواب (إن) على التقدير المتقدم، والفاء جواب لهما على هذا الحد. ومعنى (أما) عند الزجاج: الخروج من شئ إلى شئ، أي دع ما كنا فيه وخذ في غيره. قوله تعالى: (وأما ان كان من المكذبين) بالبعث (الضالين) عن الهدى وطريق الحق (فنزل من حميم) أي فلهم رزق من حميم، كما قال: (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون) وكما قال: (ثم إن لهم عليها لشوبا من (1) حميم) (وتصلية جحيم) إدخال في النار. وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لانواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه، أي جعله يصلاها والمصدر ههنا أضيف إلى المفعول، كما يقال: لفلان إعطاء مال أي يعطى المال. وقرئ (وتصلية) بكسر التاء أي ونزل من تصلية جحيم. ثم أدغم أبو عمرو التاء في الجيم وهو بعيد. (ان هذا لهو حق اليقين) أي هذا الذي قصصناه محض اليقين وخالصه. وجاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما. قال المبرد: هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين، فهو من باب إضافة الشئ إلى نفسه عند الكوفيين. وعند البصريين حق الامر اليقين أو الخبر اليقين. وقيل: هو توكيد. وقيل: أصل اليقين أن يكون نعتا للحق فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز، كقوله: (ولدار الآخرة (2)) وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. (فسبح باسم ربك العظيم) أي نزه الله تعالى عن السوء. والباء زائدة أي سبح اسم ربك، والاسم المسمى. وقيل: (1) راجع ج 15 ص 87 (2) راجع ج 9 ص 275 (*)
[ 235 ]
(فسبح) أي فصل بذكر ربك وبأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك العظيم وسبحه. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت (فسبح بأسم ربك العظيم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم) ولما نزلت (سبح اسم ربك الاعلى) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم) خرجه أبو داود. والله أعلم. سورة الحديد مدنية في قول الجميع، وهى تسع وعشرون آية عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بالمسبحات قبل أن يرقد ويقول: (إن فيهن آية أفضل من ألف آية) يعني بالمسبحات (الحديد) و (الحشر) و (الصف) و (الجمعة) و (التغابن). بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم (1) له ملك السماوات والارض يحى ويميت وهو على كل شئ قدير (2) هو الاول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم (3) قوله تعالى: (سبح لله ما في السموات والارض) أي مجد الله ونزهه عن السوء. وقال ابن عباس: صلى لله (ما في السموات) ممن خلق من الملائكة (والارض) من شئ فيه روح أولا رو فيه. وقيل: هو تسبيح الدلالة. وأنكر الزجاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم (1)) وإنما هو تسبيح مقال. وأستدل بقوله تعالى: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن (2)) فلو كان هذا تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود ؟ ! (1) راجع ج 10 ص 266 (2) راجع ج 11 ص 307 (*)
[ 236 ]
قلت: وما ذكره هو الصحيح، وقد مضى بيانه والقول فيه في (سبحان (1)) عند قوله تعالى: (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) (وهو العزيز الحكيم). قوله تعالى: أي أنفرد بذلك. والملك عبارة عن الملك ونفوذ الامر فهو سبحانه الملك القادر القاهر. وقيل: أراد خزائن المطرو النبات وسائر الرزق. (يحيى ويميت) يميت الاحياء في الدنيا ويحيى الاموات للبعث. وقيل: يحيي النطف وهي موات ويميت الاحياء. وموضع (يحيي ويميت) رفع على معنى وهو يحيى ويميت. ويجوز أن يكون نصبا بمعنى (له ملك السموات والارض) محييا ومميتا على الحال من المجرور في (له) والجار عاملا فيها. (وهو على كل شئ قدير) أي الله لا يعجزه شئ. قوله تعالى: (هو الاول والاخر والظاهر والباطن) أختلف في معاني هذه الاسماء وقد بيناها في الكتاب الاسنى. وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (اللهم أنت الاول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم. (وهو كل شئ عليم) بما كان أو يكون فلا يخفى عليه شئ. قوله تعالى: هو الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السماوات والارض والى الله ترجع الامور (5) يولج اليل في النهار ويولج النهار في اليل وهو عليم بذات الصدور (6) (1) راجع ج 10 ص 266 فما بعد. (*)
[ 237 ]
قوله تعاى: (هو الذى خلق السموات والارض في ستة أيام ثم على العرش) تقدم في (الاعراف (1)) مستوفى. قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الارض) أي يدخل فيها من مطر وغيره (وما يخرج منها) من نبات وغيره (وما ينزل من السماء) من رزق ومطر وملك (وما يعرج فيها) يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد (وهو معكم) يعني بقدرته وسلطانه وعلمه (أينما كنتم والله بما تعملون بصير) يبصر أعمالكم ويراها ولا يخفى عليه شئ منها. وقد جمع في هذه الآية بين (استوى على العرش) وبين (وهو معكم) والاخذ بالظاهرين تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل، والاعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض. وقد قال الامام أبو المعالي: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء لم يكن بأقرب إلى الله عزوجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم. قوله تعالى: (له ملك السموات والارض) هذا التكرير للتأكيد أي هو المعبود على الحقيقة (والى الله ترجع الامور) أي أمور الخلائق في الآخرة. وقرأ الحسن والاعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والاعمش وحمزة والكسائي وخلف (ترجع) بفتح التاء وكسر الجيم. الباقون (ترجع). قوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) تقدم في (آل عمران (2)). (وهو عليم بذات الصدور) أي لا تخفى عليه الضمائر، ومن كان بهذه الصفة فلا يجوز أن يعبد من سواه. (1) راجع ج 7 ص 218. (2) راجع ج 4 ص 56. (*)
[ 238 ]
قوله تعالى: ءامنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم ان كنتم مؤمنين (8) هو الذى ينزل على عبده ءايت بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وان الله بكم لرءوف رحيم (9) قوله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله) أي صدقوا أن الله واحد وأن محمدا رسوله (وأنفقوا) تصدقوا. وقيل أنفقوا في سبيل الله. وقيل: المراد الزكاة المفروضة. وقيل: المراد غيرها من وجوه الطاعات وما يقرب منه (مما جعلكم مستخلفين فيه) دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة. فمن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الانفاق منها، كما يهون عل الرجل، النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل والاجر العظيم. وقال الحسن: (مستخلفين فيه) بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم. وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم. (فالذين آمنوا) وعملوا الصالحات (منكم وأنفقوا) في سبيل الله (لهم أجر كبير) وهو الجنة. قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله) استفهام يراد به التوبيخ. أي أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل ؟ ! (والرسول يدعوكم) بين بهذا أنه لا حكم قبل ورود الشرائع. وقرأ أبو عمرو: (وقد أخذ ميثاقكم) على غير مسمى الفاعل. والباقون على مسمى الفاعل، أي أخذ الله ميثاقكم. قال مجاهد: هو الميثاق الاول الذي كان وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. وقيل: أخذ ميثاقكم بأن ركب فيكم العقول، وأقام عليكم الدلائل والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول (ان كنتم مؤمنين) أي إذ كنتم. وقيل:
[ 239 ]
أي إن كنتم مؤمنين بالحجج والدلائل. وقيل: أي إن كنتم مؤمنين بحق يوما من الايام، فالآن أحرى الاوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والاعلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقد صحت براهينه. وقيل: إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم. وكانوا يعترفون بهذا. وقيل: هو خطاب لقوم آمنوا وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقهم فارتدوا. وقوله: (إن كنتم مؤمنين) أي إن كنتم تقرون بشرائط الايمان. قوله تعالى: (هو الذى ينزل على عبده آيات بيغات) يريد القرآن. وقيل: المعجزات، أي لزمكم الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما معه من المعجزات، والقرآن أكبرها وأعظمها. (ليخرجكم) أي بالقرآن. وقيل: بالرسول. وقيل: بالدعوة. (من الظلمات) وهو الشرك والكفر (إلى النور) وهو الايمان. (وان الله بكم لرءوف رحيم). قوله تعالى: وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولائك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله) أي شئ يمنعكم من الانفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى. فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الانفاق. (ولله ميراث السموات والارض) أي إنهما راجعتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له. الثانية - قوله تعالى: (لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة:
[ 240 ]
كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الاخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. وفي الكلام حذف، أي (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لان حاجة الناس كانت أكثر لضعف الاسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والاجر على قدر النصب. والله أعلم. الثالثة - روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) وقال الكلبي: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لانه أول من أسلم. وعن ابن مسعود: أول من أظهر الاسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ولانه أول من أنفق على نبي الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبن عمر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عبادة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا نبي الله ! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ؟ فقال: (قد أنفق علي ماله قبل الفتح) قال: فإن الله يقول لك اقرأ على أبي بكر السلام وقل له أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر إن الله عزوجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط) ؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربي ؟ إني عن ربي لراض ! إني عن ربي لراض ! إني عن ربي لراض ! قال: (فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض) فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة، ولهذا قدمته الصحابة عل أنفسهم، وأقروا له بالتقدم والسبق. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صلى الله عليه وسلم وصلى (1) أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة. فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ. (1) السابق: الاول. والمصلى: الثاني. (*)
[ 241 ]
الرابعة - التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) الحديث. وقال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) وقال: (وليؤمكما أكبركما) من حديث مالك بن الحويرث وقد تقدم. وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء للكبر) ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقا. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة، لانه إذا أجتمع العلم والسن في خيرين قدم العلم، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا. وفي الآثار: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه). ومن الحديث الثابت في الافراد: (ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه). وأنشدوا (1): يا عائبا للشيوخ من أشر * داخله في الصبا ومن بذخ اذكر إذا شئت أن تعيرهم * جدك واذكر أباك يا بن أخ وأعلم بأن الشباب منسلخ * عنك وما وزره بمنسلخ من لا يعز الشيوخ لا بلغت * يوما به سنه إلى الشيخ الخامسة - قوله تعالى: (وكلا وعد الله الحسنى) أي المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر (وكل) بالرفع، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام. الباقون (وكلا) بالنصب على ما في مصافحهم، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى. ومن رفع فلان المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل، والهاء محذوفة من وعده. (1) هو لابن عبد الصمد السرقسطى كما في (أحكام القرآن) لابن العربي. (*)
[ 242 ]
قوله تعالى: من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11) يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيما نهم بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ذالك هو الفوز العظيم (12) قوله تعالى: (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا) ندب إلى الانفاق في سبيل الله. وقد مضى في (البقرة (1)) القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا: قد أقرض، كما قال (2): وإذا جوزيت قرضا فاجزه * إنما يجزي الفتى ليس الجمل وسمي قرضا، لان القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالاضعاف الكثيرة. قال الكلبي: (قرضا) أي صدقة (حسنا) أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. (فيضاعفه له) ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الاضعاف. وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، رواه سفيان عن أبي (3) حيان. وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الاهل. الحسن: التطوع بالعبادات. وقيل: إنه عمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الردئ فيخرجه، لقوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون (4)) (1) راجع ج 3 ص 237 (2) قائله لبيد، ومعنى البيت: إذا أسدى اليك معروف فكافى عليه. (3) كل نسخ الاصل بلفظ أبى حيان والظاهر أن صوابه: ابن حيان. (4) راجع ج 3 ص 325 (*)
[ 243 ]
وأن يتصدق في حال يأمل الحياة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال: (أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا) وأن يخفي صدقته، لقوله تعالى: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم (1)) وألا يمن، لقوله تعالى: (ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى (1)) وأن يستحقر كثير ما يعطي، لان الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحب أمواله، لقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما (2) تحبون) وأن يكون كثيرا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها). (فيضاعفه له) وقرأ ابن كثير وابن عامر (فيضعفه) بإسقاط الالف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة (فيضاعفه) بالالف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفناء. ورفع الباقون عطفا على (يقرض). وبالنصب جوابا على الاستفهام. وقد مضى في (البقرة (1)) القول في هذا مستوفى. (وله أجر كريم) يعني الجنة. قوله تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات) العامل في (يوم) (وله أجر كريم)، وفي الكلام حذف أي (وله أجر كريم) في (يوم ترى) فيه (المؤمنين والمومنات يسعى نورهم) أي يمضى على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه (بين أيديهم) أي قدامهم. (وبأيمانهم) قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك: (نورهم) هداهم (وبأيمانهم) كتبهم، واختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على (بين أيديهم) ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرأ سهل ابن سعد الساعدي وأبو حيوة (وبأيمانهم) بكسر الالف، أراد الايمان الذي هو ضد الكفر. (1) راجع ج 3 ص 332 وص 311 (2) راجع ج 4 ص 132 (*)
[ 244 ]
وعطف ما ليس بظرف على الظرف، لان معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كائنا (بين أيديهم) وكائنا (بأيمانهم)، وليس قوله: (بين أيديهم) متعلقا بنفس (يسعى). وقيل: أراد بالنور القرآن. وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من المؤمنين من يضئ نوره كما بين المدينة وعدن أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضئ نوره إلا موضع قدميه) قال الحسن: ليستضيئوا به على الصراط كما تقدم. وقال مقاتل: ليكون دليلا لهم إلى الجنة. والله أعلم. قوله تعالى: (بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الانهار) التقدير يقال لهم: (بشراكم اليوم) دخول جنات. ولا بد من تقدير حذف المضاف، لان البشرى حدث، والجنة عين فلا تكون هي هي. (تجري من تحتها الانهار) أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. (خالدين فيها) حال من الدخول المحذوف، التقدير (بشراكم اليوم) دخول جنات (تجري من تحتها الانهار) مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم، لان فيه فصلا بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى، كأنه قال: تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو (اليوم) خبرا عن (بشراكم) و (جنات) بدلا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و (خالدين) حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب (جنات) على الحال على أن يكون (اليوم) خبرا عن (بشراكم) وهو بعيد، إذ ليس في (جنات) معنى الفعل. وأجاز أن يكون (بشراكم) نصبا على معنى يبشرونهم بشرى وينصب (جنات) بالبشرى وفيه تفرقة بين الصلة والموصول.
[ 245 ]
قوله تعالى: يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين ء امنوا انظرونا نقتس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب يبنهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولاكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الامانى حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير (15) قوله تعالى: (يوم يقول المنافقون) العامل في (يوم) (ذلك هو الفوز العظيم).. وقيل: هو بد ل من اليوم الاول. (انظرونا نقتبس) قراءة العامة بوصل الالف مضمومة الظاء من نظر، والنظر الانتظار أي انتظرونا. وقرأ الاعمش وحمزة ويحيى بن وثاب (أنظرونا) بقطع الالف وكسر الظاء من الانظار. أي أمهلونا وأخرونا، أنظرته أخرته، واستنظرته أي أستمهلته. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أنتظرني، وأنشد لعمرو بن كلثوم: أبا هند فلا تعجل علينا * وأنظرنا نخبرك اليقينا أي انتظرنا. (نقتبس من نوركم) أي نستضئ من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة - قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء - ثم يعطون نورا يمشون فيه. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم، دليله قوله تعالى: (وهو خادعهم (1)). وقيل: إنما يعطون النور، لان جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه، قاله ابن عباس. وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي: بل يستضئ المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون (1) راجع ج 5 ص 421. (*)
[ 246 ]
إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قوله تعالى: (ربنا أتمم لنا نورنا (1)) يقوله المؤمنون، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: (أنظرونا نقتبس من نوركم). (قيل ارجعوا وراءكم) أي قالت لهم الملائكة (ارجعوا). وقيل: بل هو قول المؤمنين لهم (أرجعوا وراءكم) إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لانفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور (ضرب بينهم بسور). وقيل: أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. (بسور) أي سور، والباء صلة. قال الكسائي. والسور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. (باطنه فيه الرحمة) يعني ما يلي منه المؤمنين (وظاهره من قبله العذاب) يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الاحبار: هو الباب الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة. وقال عبد الله بن عمرو: إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد (وظاهره من قبله العذاب) يعني جهنم. ونحوه عن ابن عباس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة ابن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى، وقال: من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار (باطنه فيه الرحمة) يعني الجنة (وظاهره من قبله العذاب) يعني جهنم. وقال مجاهد: إنه حجاب كما في (الاعراف) وقد مضى القول فيه (1). وقد قل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين. قوله تعالى: (ينادونهم) أي ينادي المنافقون المؤمنين (ألم نكن معكم) في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزوا مثل ما تغزون، ونفعل مثل ما تفعلون (قالوا بلى) أي يقول المؤمنون (بلى) قد كنتم معنا في الظاهر (ولكنكم فتنتم أنفسكم) أي استعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق. وقيل: بالمعاصي، قاله أبو سنان. وقيل: بالشهوات واللذات، (1) راجع ج 7 ص 211 (*)
[ 247 ]
رواه أبو نمير الهمداني. (وتربصتم وارتبتم) أي (تربصتم) بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر. وقيل: (تربصتم) بالتوبة (وار تبتم) أي شككتم في التوحيد والنبوة (وغرتكم الامانى) أي الاباطيل. وقيل: طول الامل. وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال قتادة: الاماني هنا خدع الشيطان. وقيل: الدنيا، قاله عبد الله بن عباس (1). وقال أبو سنان: هو قولهم سيغفر لنا. وقال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة. (حتى جاء أمر الله) يعني الموت. وقيل: نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: إلقاؤهم في النار. (وغركم) أي خدعكم (بالله الغرور) أي الشيطان، قاله عكرمة. وقيل: الدنيا، قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالاول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الامنية، ومن أطال الامل نسي العمل، وغفل عن الاجل. وجاء (الغرور) على لفظ المبالغة للكثرة. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع وسماك بن حرب (الغرور) بضم الغين يعني الاباطيل وهو مصدر. وعن ابن عباس: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خط لنا خطوطا، وخط منها خطا ناحية فقال: (أتدرون ما هذا هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت). وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال: (هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الاعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا). قوله تعالى: (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية) أيها المنافقون (ولا من الذين كفروا) أيأسهم من النجاة. وقراءة العامة (يؤخذ) بالياء، لان التأنيث غير. حقيقي، ولانه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرأ ابن عامر ويعقوب (تؤخذ) بالتاء وأختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والاول (1) في ب، ز، س، ل، ه: (عبد الله بن عياش). (*)
[ 248 ]
أختيار أبي عبيد، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى. (مأواكم النار) أي مقامكم ومنزلكم (هي مولا كم) أي أولى بكم، والمولى من يتولى مصالح الانسان، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشئ. وقيل: أي النار تملك أمرهم، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من (1) مزيد). (وبئس المصير) أي ساءت مرجعا ومصيرا. قوله تعالى: ألم يأن للذين ء امنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون (16) اعلموا أن الله يحى الارض بعد موتها قد بينا لكم الايات لعلكم تعقلون (17) قوله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا) أي يقرب ويحين، قال الشاعر: ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا * وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا وماضيه أنى بالقصر يأنى. ويقال: آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي حان، مثل أنى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ابن السكيت: ألما يئن لي أن تجلى عمايتي * وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا فجمع بين اللغتين. وقرأ الحسن (ألما يأن) وأصلها (ألم) زيدت (ما) فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا، و (لم) نفي لقوله: كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) إلا أربع سنين. قال الخليل: العتاب مخاطبة الا دلال ومذاكرة الموجدة، تقول عاتبته معاتبة (أن تخشع) أي تذل وتلين (قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) (1) راجع ص 18 من هذا الجزء. (*)
[ 249 ]
روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم بالخشوع) فقالوا عند ذلك: خشعنا. وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت: (الر تلك آيات الكتاب (1) المبين) إلى قوله: (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الاول فنزلت: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السدي وغيره: (ألم يأن للذين آمنوا) بالظاهر وأسروا الكفر (أن تخشع قلوبهم لذكر الله). وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: (نحن نقص عليك) فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: (الله نزل أحسن (2) الحديث) فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: (ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا ؟ قال الحسن: أستبطأهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لانه قال عقيب هذا: (والذين آمنوا بالله ورسله) أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والانجيل أن تلين قلوبهم للقران، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى، إذ طال عليهم الامد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم. قوله تعالى: (ولا يكونوا) أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على (أن تخشع). وقيل: مجزوم على النهي، مجازه ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب (لا تكونوا) بالتاء، وهي قراءة عيسى وابن اسحق. يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى، أعطوا التوراة والانجيل فطالت الازمان بهم. قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل (1) راجع ج 9 ص 118. (2) راجع ج 15 ص 248. (*)
[ 250 ]
لما طال عليهم الامد قست قلوبهم، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم. ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن أبى قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في [ قرن وعلقه (1) في ] عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا ؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القرن. قال عبد الله: ومن يعش منكم فسيرى منكرا، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان (2): يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الامد واستبطئوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع. وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم. وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله. وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى، فأرحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. وهذه الآية (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله (1) الزيادة من تفسير الطبري. (2) في بعض التفاسير: مقاتل بن سليمان وهو المفسر. (*)
[ 251 ]
تعالى. ذكر أبو المطرف عبد الرحمن بن مروان القلاني قال: حدثنا أبو محمد الحسن ابن رشيق، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا ابن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين (1) السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الانسان - يعني العود الذي بيده - ويقول: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) قلت: بلى والله ! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود: ألم يأن لي منك أن ترحما * وتعص العواذل واللوما وترثي لصب بكم مغرم * أقام على هجركم مأتما يبيت إذا جنه ليله * يراعي الكواكب والانجما وماذا على الظبي لو أنه * أحل من الوصل ما حرما وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعه من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه ! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني ! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام. (1) هكذا في الاصول ولم نقف عليها بعد البحث. (*)
[ 252 ]
قوله تعالى: (اعلموا أن الله يحيى الارض بعد موتها) أي (يحيي الارض) الجدبة (بعد موتها) بالمطر. وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر ابن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل: المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الايمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل: كذلك يحيي الله الموتى من الامم، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. (قد بينا لكم الايات لعلكم تعقلون) أي إحياء الله الارض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى. قوله تعالى: قوله تعالى: ان المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (18) والذين ء امنوا بالله ورسله أولائك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا باياتنآ أولائك أصحاب الجحيم (19) قوله تعالى: (ان المصدقين والمصدقات) قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى. الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد، وكذلك في مصحف أبى. وهو حث على الصدقات، ولهذا قال: (وأقرضوا الله قرضا حسنا) بالصدقة والنفقة في سبيل الله. قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع. وقيل: هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا. وإنما عطف بالفعل على الاسم، لان ذلك الاسم في تقدير الفعل، أي إن الذين صدقوا وأقرضوا (يضاعف لهم) أمثالها. وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله. وقرأ الاعمش (يضاعفه) بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب (يضعف) بفتح العين وتشديدها. (ولهم أجر كريم) يعني الجنة.
[ 253 ]
قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولائك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم) أختلف في (الشهداء) هل هو مقطوع مما قبل أو متصل به. فقال مجاهد وزيد ابن أسلم: إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون وأنه متصل، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوقف على هذا على قوله: (الصديقون) وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية. قال القشيري قال الله تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين (1)) فالصديقون هم الذين يتلون الانبياء، والشهداء هم الذين يتلون الصديقين، والصالحون يتلون الشهداء، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل، أعني (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء). ويكون المعنى بالشهداء من شهد لله بالوحدانية، فيكون صديق فوق صديق في الدرجات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنات العلا ليراهم من دونهم كما يرى أحدكم الكوكب الذي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما (2)) وروي عن ابن عباس ومسروق أن الشهداء غير الصديقين. فالشهداء على هذا منفصل مما قبله والوقف على قوله: (الصديقون) حسن. والمعنى والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم) أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. وفيهم قولان أحدهما - أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب، قاله الكلبي، ودليله قوله تعالى: (وجئنا بك على هؤلاء (1) شهيدا). الثاني - أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة، وفيما يشهدون به قولان: أحدهما - أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية. وهذا معنى قول مجاهد. الثاني - يشهدون لانبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم، قاله الكلبي. وقال مقاتل قولا ثالثا: إنهم القتلى في سبيل الله تعالى. ونحوه عن ابن عباس أيضا قال: أراد شهداء المؤمنين. والواو واو الابتداء. والصديقون على هذا القول مقطوع من الشهداء. (1) راجع ج 5 ص 271. وص 197. (2) (أنعما) أي زادا وفضلا. وقيل معناه: صارا إلى النعيم ودخلا فيه. (*)
[ 254 ]
وقد أختلف في تعيينهم، فقال الضحاك: هم ثمانية نفر، أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة. وتابعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحقه الله بهم لما صدق نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل بن حيان: الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل ولم يكذبوهم طرفة عين، مثل مؤمن آل فرعون، وصاحب آل ياسين، وأبي بكر الصديق، وأصحاب الاخدود. قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) أي بالرسل والمعجزات (أولئك أصحاب الجحيم) فلا أجر لهم ولا نور. قوله تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفى الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور (20) سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين ء امنوا بالله ورسله ذالك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم (21) قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) وجه الاتصال أن الانسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل، وخوفا من لزوم الموت، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و (ما) صلة تقديره: اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي. وقال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. وقيل: إنه على المعهود من اسمه، قال مجاهد: كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى
[ 255 ]
في (الانعام (1)) وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة، أي شغل عنها. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء. (وزينة) الزينة ما يتزين به، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. (وتفاخر بينكم) أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالانساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الاحساب) الحديث. وقد تقدم جميع هذا. (وتكاثر في الاموال والاولاد) لان عادة الجاهلية أن تتكاثر بالابناء والاموال، وتكاثر المؤمنين بالايمان والطاعة. قال بعض المتأخرين: (لعب) كلعب الصبيان (ولهو) كلهو الفتيان (وزينة) كزينة النسوان (وتفاخر) كتفاخر الاقران (وتكاثر) كتكاثر الدهقان (2). وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الاشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال: (كمثل غيث) أي مطر (أعجب الكفار نباته) الكفار هنا: الزراع لانهم يغطون البذر (3). والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الامطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في (يونس (4)) و (الكهف (5)). وقيل: (1) راجع ج 6 ص 414 (2) الدهقان - بكسر الدال وضمها -: التاجر، فارسي معرب. (3) مأخوذ من الكفر - بفتح الكاف - وهو التغطية. (4) راجع ج 8 ص 327 (5) راجع ج 10 ص 412 (*)
[ 256 ]
الكفار هنا الكافرون بالله عزوجل، لانهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن، فإن أصل الاعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. (ثم يهيج) أي يجف بعد خضرته (فتراه مصفرا) أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. (ثم يكون حطاما) أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر. (وفى الاخرة عذاب شديد) أي للكافرين. والوقف عليه حسن، ويبتدئ (ومغفرة من الله ورضوان) أي للمؤمنين. وقال الفراء: (وفى الآخرة عذاب شديد ومغفرة) تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على (شديد). (وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور) هذا تأكيد ما سبق، أي تغر الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا، وترغيبا في العمل للآخرة. قوله تعالى: (سابقوا الى مغفرة من ربكم) أي سارعوا بالاعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة، لانها تؤدي إلى المغفرة، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الاولى مع الامام، قال مكحول. وقيل: الصف الاول. (وجنة عرضها كعرض السماء والارض) لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن: يعني جميع السموات والارضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان: عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشئ بعرضه دون طوله. قال: كأن بلاد الله وهي عريضة * على الخائف المطلوب كفة حابل وقد مضى هذا كله في (آل عمران (1)). وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عزوجل: (وجنة عرضها كعرض السماء والارض) (1) راجع ج 4 ص 204 (*)
[ 257 ]
فأين النار ؟ فقال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله. (أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) شرط الايمان لا غير، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل: شرط الايمان هنا وزاد عليه في (آل عمران (1)) فقال: (أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس). (ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء) أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في (الاعراف (2)) وغيرها. (والله ذو الفضل العظيم). قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأهآ ان ذالك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بماء اتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فان الله هو الغنى الحميد (24) قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض) قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. (ولا في أنفسكم) بالاوصاب والاسقام، قاله قتادة. وقيل: إقامة الحدود، قاله ابن حيان. وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. (الا في كتاب) يعني في اللوح المحفوظ. (من فبل أن نبرأها) الضمير في (نبرأها) عائد على النفوس أو الارض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الارض والنفس. (ان ذلك على الله يسير) أي خلق ذلك وحفظ جميعه (على الله يسير) هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد ابن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك ؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب (1) راجع ج 4 ص 206 (2) راجع ج 7 ص 209 (*)
[ 258 ]
إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم) الآية. وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها). وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الاموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لامدفع له، وإنما على المرء امتثال الامر، ثم أدبهم فقال هذا: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد أحدكم طعم الايمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ثم قرأ (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم (ولا تفرحوا بما آتاكم) أي من الدنيا، قاله ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى مالا يجوز، قال الله تعالى: (والله لا يحب كل مختال (1) فخور) أي متكبر بما أوتى من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة (آتاكم) بمد الالف أي أعطاكم من الدنيا. وأختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو (أتاكم) بقصر الالف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل ل (فاتكم) ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يابن آدم مالك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرز جمهر: أيها الحكيم ! مالك لا تحزن على ما فات، (1) راجع ج 14 ص 69. (*)
[ 259 ]
ولا تفرح بما هو آت ؟ قال: لان الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور. قوله تعالى: (الذين ينجلون) أي لا يحب المختالين (الذين يبخلون) ف (الذين) في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم (1)، قاله السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: (الذين يبخلون) يعني بالعلم (ويأمرون الناس بالبخل) أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله عزوجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قاله عامر بن عبد الله الاشعري. وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الاقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالامساك. والسخي الذي يلتذ بالاعطاء. الثاني - أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. (ومن يتول) أي عن الايمان (فان الله) غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقرأة العامة (بالبخل) بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى ابن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي (بالبخل) بفتحتين وهى لغة الانصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع (بالبخل) بفتح الباء واسكان الخاء. وعن نصربن عاصم (البخل) بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر (آل عمران (2)). (1) يريد ما يأكلونه من الناس باسم الدين من الاموال. (2) راجع ج 4 ص 293 (*)
[ 260 ]
وقرأ نافع وابن عامر (فإن الله الغني الحميد) بغير (هو). والباقون (هو الغني) على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و (الغني) خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالاحسن أن يكون فصلا، لان حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ. قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا الحديد فيه بأس شاديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوى عزيز (2) ولقد أرسلنا نوحا وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (26) قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل: الاخلاص لله تعالى في العبادة، واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. (وأنزلنا معهم الكتاب) أي الكتب، أي أوحينا إليهم خبر ماكان قبلهم (والميزان) قال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل (ليقوم الناس بالقسط) أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: (بالقسط) يدل على أنه أراد الميزان المعروف. وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب: * علفتها تبنا وماء باردا * ويدل على هذا قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان) ثم قال: (وأقيموا الوزن بالقسط) وقد مضى القول فيه (1). (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الارض: الحديد (1) راجع ص 154 من هذا الجزء. (*)
[ 261 ]
والنار والماء والملح). وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الاسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والابرة. وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. (فيه بأس شديد) أي لاهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء، لانه يوم جرى فيه الدم. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم). وقيل: (أنزلنا الحديد) أي أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج (1)) وهذا قول الحسن. فيكون من الارض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. (فيه بأس شديد) يعني السلاح والكراع والجنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. (ومنافع للناس) قال مجاهد: يعني جنة. وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والابرة ونحوه (وليعلم الله من ينصره) أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: (ليقوم الناس بالقسط) أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الاشياء، ليتعامل الناس بالحق، (وليعلم الله من ينصره) وليرى الله من ينصر دينه (و) ينصر (رسله بالغيب) قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم (بالغيب) أي وهم لا يرونهم. (ان الله قوى عزيز) (قوى) في أخذه (عزيز) أي منيع غالب. وقد تقدم. وقيل: (بالغيب) بالاخلاص. (1) راجع ج 15 ص 235 (*)
[ 262 ]
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وابراهيم) فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) أي جعلنا بعض ذريتهما الانبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والانجيل والزبور والفرقان. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم (فمنهم) أي من ائتم بإبراهيم ونوح (مهتد). وقيل: (فمنهم مهتد) أي من ذريتهما مهتدون. (وكثير منهم) فاسقون) كافرون خارجون عن الطاعة. قوله تعالى: ثم قفينا علئ اثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فاتينا الذين ء امنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون (27) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ثم قفينا) أي اتبعنا (على آثارهم) أي على آثار الذرية. وقيل: على آثار نوح وإبراهيم (برسلنا) موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم (وقفينا بعيسى ابن مريم) فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه (وآتيناه الانجيل) وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدم اشتقاقه في أول سورة (آل عمران (1)). الثانية - قوله تعالى: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه) على دينه يعني الحواريين وأتباعهم (رافة ورحمة) أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا. وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الانجيل بالصلح وترل إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة. وقيل: الرأفة تخفيف الكل، والرحمة تحمل الثقل. وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال: (1) راجع ج 4 ص 5 (*)
[ 263 ]
(ورهبانية ابتدعوها) أي من قبل أنفسهم. والاحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل، قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها. وقال الزجاج: أي ابتدعوها رهبانية، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان، وذلك لانهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك: إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام أرتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فآعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: (هي لحوقهم بالبراري والجبال). (ما كتبناها عليهم) أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قاله ابن زيد. وقوله تعالى: (الا ابتغاء رضوان الله) أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله، قاله ابن مسلم. وقال الزجاج: (ما كتبناها عليهم) معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون (ابتغاء رضوان الله) بدلا من الهاء والالف في (كتبناها) والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وقيل: (إلا ابتغاء) الاستئناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. (فما رعوها حق رعايتها) أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص، لان الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل (1) الله) وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الامر. وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها) قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والانجيل، (1) راجع ج 8 ص 122 (*)
[ 264 ]
وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والانجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الارض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) الآية. يقول: أبتدعها هؤلاء الصالحون (فما رعوها) المتأخرون (حق رعايتها) (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها (وكثير منهم فاسقون) يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، جاءوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. الثالثة - وهذه الاية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الاية. وعن أبى أمامة الباهلى - واسمه صدى بن عجلان - قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، انما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فان ناسا من بنى اسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها). الرابعة - وفى الاية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الاصدقاء والاخوان. وقد مضى بيان هذا في سورة (الكهف (1)) مستوفى والحمد لله. وفى مسند أحمد بن حنبل من حديث أبى أمامة الباهلى رضى الله عنه قال: (1) راجع ج 10 ص 360 (*)
[ 265 ]
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه فقال: مر رجل بغار فيه شئ من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ماكان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا. قال: لو أنى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فان أذن لى فعلت والا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبى الله ! انى مرت بغار فيه ما يقوتنى من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن اقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (م أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذى نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الاول خير من صلاته ستين سنة). وروى الكوفيون عن ابن مسعود، قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرى أي الناس أعلم) قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وان كان مقصرا في العمل وان كان يزحف على استه هل تدرى من أين اتخذ بنو اسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الايمان فقاتلوهم فهزم أهل الايمان ثلاث مرات فلم يبق منهم الا القليل فقالوا ان أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الارض إلى أن يبعث الله النبي الامي الذى وعدنا عيسى - يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر - وتلا (ورهبانية) الاية - أتدرى ما رهبانية أمتى الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع يابن مسعود اختلف من كان فبلكم من اليهود على احدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى - عليه السلام - حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهرانى قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانى قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهى التى قال الله تعالى فيهم: (ورهبانية ابتدعوها) - الاية - فمن
[ 266 ]
آمن بى واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بى فأولئك هم الفاسقون) يعنى الذى تهودوا وتهصروا. وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفى الاية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، أي ان الاولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك ان أصروا على الكفر. والله أعلم. قوله تعالى: يا أيها الذين ء امنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (28) لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (29) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) أي آمنوا بموسى وعيسى (اتقوا الله وآمنوا برسوله) بمحمد صلى الله عليه وسلم (يؤتكم كفلين من رحمته) أي مثلين من الاجر على ايمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) وقد تقدم القول (1) فيه. والكفل الحظ والنصيب وقد مضى في (النساء (2)) وهو في الاصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط، قاله ابن جريح. ونحوه قال الازهرى، قال: اشتقاقه من الكساء الذى يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط، فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب. وقال أبو موسى الاشعري: (كفلين) ضعفين بلسان الحبشة. وعن ابن زيد: (كفلين) أجر الدنيا والآخرة. وقيل: لما نزلت (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) افتخر مؤمنو أهل (1) راجع ج 13 ص 297 (2) راجع ج 4 ص 295 (*)
[ 267 ]
الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الاجر مثل واحد، فقال: الحسنة اسم عام ينطلق على كل نوع من الايمان، وينطلق على عمومه، فإذا انطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد. وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين، بدليل هذه الآلة فإنه قال: (كفلين من رحمته) والكفل النصيب كالمثل، فجعل لمن اتقى الله وآمن برسوله نصيبين، نصيبا لتقوى الله ونصيبا لايمانه برسوله. فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات، وهو الايمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع، لقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات) الآية بكمالها. فكانت هذه الانواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مثل. وهذا تأويل فاسد، لخروجه عن عموم الظاهر، في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) بما لا يحتمله تخصيص العموم، لان ما جمع عشر حسنات فليس يجزى عن كل حسنة إلا بمثلها. وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والاخبار دالة عليه. وقد تقدم ذكرها (2). ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق. (ويجعل لكم نورا) أي بيانا وهدى، عن مجاهد. وقال ابن عباس: هو القرآن. وقيل: ضياء (تمشون به) في الآخرة على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة. وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الاسلام فتكونون رؤساء في دين الاسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها. وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام. وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله، لا الرياسة الحقيقية في الدين. (ويغفر لكم) ذنوبكم (والله غفور رحيم). قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب) أي ليعلم، و (أن لا) صلة زائدة مؤكدة، قاله الاخفش. وقال الفراء: معناه لان يعلم و (لا) صلة زائدة في كل كلام دخل عليه (1) راجع ج 14 ص 187 (2) راجع ج 7 ص 150 وج 13 ص 244 (*)
[ 268 ]
جحد. قال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: (لئلا يعلم أهل الكتاب) أي لان يعلم أهل الكتاب أنهم (لا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله). وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الايدي والارجل. فلما خرج من العرب كفروا فنزلت: (لئلا يعلم) أي ليعلم أهل الكتاب (أن لا يقدرون) أي أنهم يقدرون، كقوله تعالى: (أن لا يرجع إليهم (1) قولا). وعن الحسن: (ليلا يعلم أهل الكتاب) وروي ذلك عن ابن مجاهد. وروى قطرب بكسر اللام وإسكان (2) الياء. وفتح لام الجرلغة معروفة. ووجه إسكان الياء أن همزة (أن) حذفت فصارت (لن) فأدغمت النون في اللام فصار (للا) فلما اجتمعت اللامات أبدلت الوسطى منها ياء، كما قالوا في أما: أيما. وكذلك القول في قراءة من قرأ (ليلا) بكسر اللام إلا أنه أبقى اللام على اللغة المشهورة فيها فهو أقوى من هذه الجهة. وعن ابن مسعود (لكيلا يعلم) وعن حطان بن عبد الله (لان يعلم). وعن عكرمة (ليعلم) وهو خلاف المرسوم. (من فضل الله) قيل: الاسلام. وقيل: الثواب. وقال الكلبي: من رزق الله. وقيل: نعم الله التي لا تحصى. (وأن الفضل بيد الله) ليس بأيديهم فيصرفون النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يحبون. وقيل: (وأن الفضل بيد الله) أي هو له (يؤتيه من يشاء). وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، قال حدثنا شعيب عن الزهري، قال أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الامم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى أنتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطي أهل الانجيل الانجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا قال هل (1) راجع ج 11 ص 236. (2) روى قطرب عن الحسن أيضا كما في السمين وغيره، فتكون للحسن قراءتان فتح اللام وكسرها مع اسكان الياء فيهما. (*)
[ 269 ]
ظلمتكم من أجركم من شئ قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء) في رواية: (فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ربنا) الحديث (والله ذو الفضل العظيم). [ تم تفسير سورة (الحديد) والحمد لله (1) ]. تفسير سورة المجادلة وهى اثنتان وعشرون آية مدنية في قول الجميع. إلا رواية عن عطاء: أن العشر الاول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) نزلت بمكة. بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير (1) فيه مسألتان: الاولى قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله) التي أشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل أسمها جميلة. وخولة أصح، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف ؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز ؟ هي خولة (1) مابين المربعين ساقط من ح، س، ط، ه. (*)
[ 270 ]
بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر ؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه كل شئ، إنى لاسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله ! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدى ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك ! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله) خرجه ابن ماجه في السنن. والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الاصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عزوجل: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها). وقال الماوردي: هي خولة بنت ثعلبة. وقيل: بنت خويلد. وليس هذا بمختلف، لان أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت. وقال الثعلبي قال ابن عباس: هي خولة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم، فرآ ها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها - قال عروة (1): وكان امرأ به لمم (2) فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الايلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (حرمت عليه) فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: (حرمت عليه) فما زالت تراجعه ومراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله ! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أوحى إلي في هذا شئ) فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شئ وطوي عنك هذا ؟ ! فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى الله أشكولا إلى رسوله. (1) عروة هو راوي حديث عائشة المتقدم. (2) اللم: طرف من الجنون يلم بالانسان أي يعثريه. (*)
[ 271 ]
فأنزل الله: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله) الآية. وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال: إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي. فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاوس: (اعتق رقبة) قال: مالي بذلك يدان. قال: (فصم شهرين متتابعين) قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري. قال: (فأطعم ستين مسكينا) قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له [ والله غفور رحيم (1) ]. (إن الله سميع بصير) قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا، وفي الترمذي وسنن ابن ماجة: أن سلمة ابن صخر البياضي ظاهر من امرأته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أعتق رقبة) قال: فضربت صفحة عنقي بيدي. فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: (فصم شهرين) فقلت: يارسول الله ! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال: (فأطعم ستين مسكينا) الحديث. وذكر ابن العربي في أحكامه: روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد حرمت عليه) فقالت: أشكو إلى الله حاجتي. [ ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حرمت عليه) فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه (2) ] وعائشة تغسل شق رأسه الايمن، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة: اسكتي فإنه قد نزل الوحي. فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها: (اعتق رقبة) قال: لا أجد. قال: (صم شهرين متتابعين) قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري. قال: (فأطعم ستين مسكينا). قال: فأعني. فأعانه بشئ. قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة (1) الزيادة من ح، ز، ل، ه. (2) الزيادة من الاحكام لابن العربي. (*)
[ 272 ]
وزوجها أوس بن الصامت، واختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خويلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمة كانت لعبدالله بن أبي، وهي التي أنزل الله فيها (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) لانه كان يكرهها على الزنى. وقيل: هي بنت حكيم. قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها، ومرة إلى أمها، ومرة إلى جدها، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبدالله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء، لانه كان في عداد الانصار وإن كان من المنافقين. الثانية - قرئ (قد سمع الله) بالادغام و (قد سمع الله) بالاظهار. والاصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن. وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. قال الحاكم أبو عبد الله في معنى السميع: إنه المدرك للاصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الاصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الاذن، كالاصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لادراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والارادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. وشكى واشتكى بمعنى واحد. وقرئ (تحاورك) أي تراجعك الكلام و (تجادلك) أي تسائلك. قوله تعالى: الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم ان أمهاتهم الا الائى ولدنهم وانهم ليقولون منكرا من القول وزورا وان الله لعفو غفور (2)
[ 273 ]
فيه ثلاث وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (الذين يظهرون (1)) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف (يظاهرون) بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (يظاهرون) بحذف الالف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرأ أبو العالية وعاصم وزر ابن حبيش (يظاهرون) بضم الياء وتخفيف الظاء والف وكسر الهاء. وقد تقدم هذا في (الاحزاب (2)). وفي قراءة أبى (يتظاهرون) وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنى عنه بالظهر، لان ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنى بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت علي كظهر أمي: أي أنت علي محرمة لا يحل لي ركوبك. الثانية - حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. واختلف فيه عن الشافعي رضى الله عنه، فروي عنه نحو قول مالك، لانه شبه امرأته بظهر محرم عليه مؤبد كالام. وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالام وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والاول قول الحسن والنخعي والزهري والاوزاعي والثوري. الثالثة - أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقا البتة عند مالك، (1) نسخ الاصل على (يظهرون) وهى قراءة نافع التى يقرأ بها المؤلف فيما يأتي. (2) راجع ج 14 ص 118 ولم يذكر هناك شيئا بل أحال الكلام على هذه السورة. (*)
[ 274 ]
وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكنايه الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت. الرابعة - ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية، فالصريح أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر، مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارا. وهذا ضعيف منه، لانه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافا لابي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومتى شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والاخت والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء، وعند الامام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي. الخامسة - إذا شبه جملة أهله بعضومن أعضاء أمه كان مظاهرا، خلافا لابي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحل له النظر إليه لم يكن مظاهرا. وهذا لا يصح، لان النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر، وقد قال الامام الشافعي في قول: إنه لا يكون ظهارا إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد، لان كل عضو منها محرم، فكان التشبيه به ظهارا كالظهر، ولان المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى.
[ 275 ]
السادسة - إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا حملا على الاول، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا، فمنهم من قال: يكون ظهارا. ومنهم من قال: يكون طلاقا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئا. قال ابن العربي: وهذا فاسد، لانه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيدا بحكمه كالظهر، والاسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للاصل منهم. قلت: الخلاف في الظهار بالاجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئا. ومنهم من يجعله في الاجنبية طلاقا. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روي عنه أيضا: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشئ، كما قال الكوفي والشافعي. وقال الاوزاعي: لو قال لها أنت علي كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم. السابعة - إذا قال: أنت علي حرام كظهر أمي كان ظهارا ولم يكن طلاقا، لان قوله: أنت حرام علي يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيرا لاحد الاحتمالين يقضي به فيه. الثامنة - الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الاحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لان مالكا يقول: إذا قال لامته أنت علي حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الامة في عموم قوله: (من نسائهم) لانه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد فصح في الامة، أصله الحلف بالله تعالى.
[ 276 ]
التاسعة - ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: (من نسائهم) وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة (براءة) عند قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله (1)) الآية. العاشرة - الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي، ودليلنا قوله تعالى: (منكم) يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. فإن قيل: هذا أستدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو أستدلال بالاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاق ولا ظهار، وذلك كقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل (2) منكم) وإذا خلت الانكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال. الحادية عشرة - قوله تعالى: (منكم) يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لانه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والاطعام فإنه قادر على الصيام. الثانية عشرة - وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى: (والذين يظهرون منكم من نسائهم) ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ابن العربي: هكذا روي عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنى، لان الحل والعقد [ والتحليل والتحريم (3) ] في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شئ وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشئ قبل النكاح كان أو بعده. وقال الشافعي: لاظهار للمرأة من الرجل. وقال الاوزاعي إذا قالت المرأة لزوجها، أنت علي كظهر أمي (4) (1) راجع ج 8 ص 210. (2) راجع ج 18 ص 157. (3) الزيادة من ابن العربي. (4) لفظ (أمي) ساقط من ح، ز، س، ه. (*)
[ 277 ]
فلانة فهي يمين تكفرها. وكذلك قال إسحق، قال: لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها، رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شئ عليها. الثالثة عشرة - من به لمم وانتظمت له في بعض الاوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره، لما روي في الحديث: أن خولة بنت ثعلبة وكان زوجها أوس بن الصامت وكان به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته. الرابعة عشرة - من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه. وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبد الله بن سلام: حدثتني خولة امرأة أوس بن الصامت، قالت: كان بيني وبينه شئ، فقال: أنت علي كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شئ، دليل على منازعة أحرجته (1) فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكما ولا يغير شرعا وكذلك السكران. وهى: الخامسة عشرة - يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقل قوله ونظم كلامه، لقوله تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون) على ما تقدم في (النساء (2)) بيانه. والله أعلم. السادسة عشرة - ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشئ حتى يكفر، خلافا للشافعي في أحد قوليه، لان قوله: أنت علي كظهر أمي يقتضي تحريم كل استمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفر، وهي: السابعة عشرة - أستغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة. وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرف عن رجاء بن حيوة عن قبيصة ابن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطئ قبل أن يكفر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان. وروى جماعة من الائمة منهم ابن ماجة (1) في ح، ز، س، ل: (أحوجته) بالوارو بدل الراء. (2) راجع ج 5 ص 203 (*)
[ 278 ]
والنسائي عن ابن عباس: أن رجلا ظاهر من امرأته فغشيها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: (ما حملك على ذلك) فقال: يا رسول الله ! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأمره ألا يقربها حتى يكفر. وروى ابن ماجه والدار قطني عن سليمان بن يسار عن سلمة ابن صخر أنه ظاهر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا. الثامنة عشرة - إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي كان مظاهرامن كل واحدة منهن، ولم يجزله وطئ إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شئ من ذلك، لان لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعول على المعنى. وقد روى الدار قطني عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع. التاسعة عشرة - فإن قال لاربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والاول هو المذهب. الموفية عشروين: وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة (1)، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت علي كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار، لان المبتوتة لا يلحقها طلاق. (1) يريد بالبتة منا الطلاق الثلاث كما يفهم من العبارة بعد وكما في ابن العربي حيث قال: إذا طلقها ثلاثا بعد الظهار ثم عادت إليه بنكاح جديد لم يطأ حتى يكفر. (*)
[ 279 ]
الحادية والعشرون - قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشئ، لان أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياسا ونظرا. والله أعلم. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (ماهن أمهاتهم) أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة (أمهاتهم) بخفض التاء على لغة أهل الحجاز، كقوله تعالى: (ما هذا بشرا). وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما (أمهاتهم) بالرفع على لغة تميم. قال الفراء: أهل نجد وبنو تميم يقولون (ما هذا بشر)، و (ما هن أمهاتهم) بالرفع. (ان أمهاتهم الا اللائى ولدنهم) أي ما أمهاتهم إلا الوالدات. وفي المثل: ولدك من دمي عقبيك. وقد تقدم القول في اللائي في (الاحزاب (1)). الثالثة والعشرون - قوله تعالى: (وانهم ليقولون منكرا من القول وزورا) أي فظيعا من القول لايعرف في الشرع. والزور الكذب (وان الله لعفو غفور) إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر. قوله تعالى: والذين يظاهرون من تسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذالكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ذالك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم (4) (1) ليس في الاحزاب كلام على اللائى ويبد وأن سقطا وقع في نسخ الاصل التى بأيدينا. (*)
[ 280 ]
فيه اثنتا عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (والذين يظهرون من نسائهم) هذا ابتداء والخبر (فتحرير رقبة) وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله: (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) فمن قال هذا القول حرم عليه وطئ امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار، لقوله عزوجل: (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة: الاول - أنه العزم على الوطئ، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: فإن عزم على وطئها كان عودا، وإن لم يعزم لم يكن عودا. الثاني - العزم على الامساك بعد التظاهر منها، قاله مالك. الثالث - العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئه، قال مالك في قوله الله عزوجل: (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا) قال: سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك: وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع - أنه الوطئ نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا. الخامس - وقال الامام الشافعي رضي الله عنه: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، لانه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة. السادس - أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا: أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد. السابع - هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس، قالوا: إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن
[ 281 ]
الاشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا، وهو قول الفراء. وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له، لانه قال: (ثم يعودون لما قالوا) أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عزوجل: (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا) هو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي. فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي: فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى ينقضه، لان الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة، وهذا لا يعقل، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الاعادة من قتل ووطئ في صوم أو غيره. قلت: قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل منه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم، وأما قول الشافعي: بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات: الاول - أنه قال: (ثم) وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني - أن قوله تعالى: (ثم يعودون) يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث - أن الطلاق الرجعى لا ينافي البقاء على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالايلاء. فإن قيل: فإذا رآها كالام لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الام بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا: إذا عزم على خلاف ما قال ورآها خلاف الام كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول: أن العزم قول نفسي، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار، ثم عاد لما قال وهو التحليل، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد، لان العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله، لقوله: (من قبل أن يتماسا). وهذا تفسير بالغ [ في فنه (1) ]. (1) الزيادة من أحكام القرآن لابن العربي. (*)
[ 282 ]
الثانية - قال بعض أهل التأويل: الآية فيها تقديم وتأخير، والمعنى (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون) إلى ما كانوا عليه من الجماع (فتحرير رقبة) لما قالوا، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا، فالجار في قوله: (لما قالوا) متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم، قال الاخفش. وقال الزجاج: المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل: المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الاسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء: اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطئ. وقال الاخفش: لما قالوا وإلى ما قالوا واحد، واللام وإلى يتعاقبان، قال: (الحمد لله الذي (1) هدانا لهذا) وقال: (فاهدوهم إلى صراط (2) الجحيم) وقال: (بأن ربك أوحى (3) لها) وقال: (وأوحي إلى نوح (4)). الثالثة - قوله تعالى: (فتحرير رقبة) أي فعليه إعتاق رقبة، يقال: حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكافرة ومن فيها شائبة (5) رق كالمكاتبة وغيرها. الرابعة - فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولاعند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ، لان نصف العبدين في معنى العبد الواحد، ولان الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزئ كالاطعام، ودليلنا قوله تعالى: (فتحرير رقبة) وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس برقبة، وليس ذلك مما يدخله التلفيق، لان العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها، أصله إذا أشترك رجلان في أضحيتين، ولانه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا، ولانه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والاطعام وغيره لا يتجزى في الكفارة عندنا. (1) راجع ج 7 ص 208 (2) راجع ج 15 ص 83 (3) راجع ج 20 ص 149 (4) راجع ج 9 ص 29 (5) في ح، ز، س، ط، ل: (شعبة رق) والعنى واحد. (*)
[ 283 ]
الخامسة - قوله تعالى: (من قبل أن يتماسا) أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطئ قبل التكفير، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير. وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره: أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شئ أصلا، لان الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة، لانه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة (1). وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الاطعام. وقال أبو حنيفة: إن كانت كفارته بالاطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطئ من القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقاله الحسن وسفيان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل: وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقد تقدم. السادسة - قوله تعالى: (ذلكم توعظون به) أي تؤمرون به (والله بما تعملون خبير) من التكفير وغيره. السابعة - من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة، وهى: الثامنة - فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني، قاله ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبه. وقال مالك: (1) لم يتقدم العود في حديث أوس، وانما هو في مظاهر آخر وهو القائل: رأيت خلخا لها في ضوء القمر. (*)
[ 284 ]
إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي. التاسعة - إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي، لانه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذ اابتدأ سفرا في صيامه فأفطر (1)، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، لقوله: (متتابعين). ويبني في قول الحسن البصري، لانه عذر [ وقياسا (2) على رمضان، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع ]. العاشرة - إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا، بطل التتابع في قول الشافعي، وليلا فلا يبطل، لانه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة، لقوله تعالى: (من قبل أن يتماسا) وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها، لان هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم. الحادية عشرة - ومن تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر، وجاز له العدول عن الصيام إلى الاطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطئ امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالاطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه. الثانية عشرة - ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه (1) لفظة (فأفطر) ساقطة من ز، ل. (2) مابين المربعين ساقط من ح، ز، س، ه، ل. (*)
[ 285 ]
وعسره ولم يصم حتى أيسر لزمه العتق. ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر فإن كان مضى من صومه صدر صالح نحو الجمعة وشبهها تمادى. وإن كان اليوم واليومين ونحوهما ترك الصوم وعاد إلى العتق وليس ذلك بواجب عليه. ألا ترى أنه غير واجب على من طرأ الماء عليه وهو قد دخل بالتيمم في الصلاة أن يقطع ويبتدئ الطهارة عند مالك. الثالثة عشرة - ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو قتل أو فطر في رمضان وأشرك بينهما في كل واحدة منهما لم يجزه. وهو بمنزلة من أعتق رقبة واحدة عن كفارتين. وكذلك لو صام عنهما أربعة أشهر حتى يصوم عن كل واحدة منهما شهرين. وقد قيل: إن ذلك يجزيه. ولو ظاهر من امرأتين ل فأعتق رقبة عن إحداهما بغير عينها لم يجز له وطئ واحدة منهما حتى يكفر كفارة أخرى. ولو عين الكفارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفارة عن الاخرى. ولو ظاهر من أربع نسوة فأعتق عنهن ثلاث رقاب، وصام شهرين، لم يجزه العتق ولا الصيام، لانه إنما صام عن كل واحدة خمسة عشر يوما، فإن كفر عنهن بالاطعام جاز أن يطعم عنهن مائتي مسكين، وإن لم يقدر فرق بخلاف العتق والصيام، لان صيام الشهرين لا يفرق والاطعام يفرق. فصل وفيه ست مسائل: الاولى - ذكر الله عزوجل الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الاطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا لكل مسكين مدان يمد النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أطعم مدا بمد هشام، وهو مدان إلا ثلثا، أو أطعم مدا ونصفا بمد النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه. قال أبو عمر بن عبد البر: وأفضل ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، لان الله عزوجل لم يقل في كفارة الظهار (من أوسط ما تطعمون (1)) فواجب قصد الشبع. قال ابن العربي: وقال مالك في رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم: مد بمد هشام وهو الشبع ها هنا، لان الله تعالى أطلق الطعام ولم يذكر الوسط. وقال في رواية أشهب: مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم (2): [ قيل له: ألم تكن قلت مد هشام ؟ قال: بلى، مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي ]. وكذلك قال عنه ابن القاسم أيضا. (1) راجع ج 6 ص 265 (2) مابين المربعين ساقط من أو الاصل المطبوع. (*)
[ 286 ]
قلت: وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك: أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك، لانه يكفر بالاطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد، أصله كفارة الافطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى: (فإطعام ستين مسكينا) وإطلاق الاطعام يتناول الشبع، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب: قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم ؟ قال نعم ! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر، لان النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي: إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي: وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون، ووددت أن يهشم الزمان ذكره، ويمحو من الكتب رسمه، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول بها ووقع عندهم الظهار، وقيل لهم فيه: (فإطعام ستين مسكينا) فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم، وقد ورد ذلك الشبع في الاخبار كثيرا، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه، ولا مثله من حواشيه ونظرائه، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه، فجعله رطلين وحمل الناس عليه، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الارطال، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لاهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم، مثل ما بارك لابراهيم بمكة، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام، فكان من حق العلماء أن يلغوا (1) ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره، وأما أن يحيلوا على ذكره في الاحكام، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسوله بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار أحب إلينا من (1) في ل: (يدعوا) بدل (يلغوا). (*)
[ 287 ]
الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لاشهب: الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والشبع عندكم أكثر لان النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول، فإن العبادة إذا أديت بالسنة، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان، وأبرك في يد الآخذ، وأطيب في شدقه، وأقل آفة في بطنه، وأكثر إقامة لصلبه (1). والله أعلم (2). الثانية - ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. الثالثة - قال القاضي أبو بكر بن العربي: من غريب الامر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. وأحتج بقوله تعالى: (فتحرير رقبة) ولم يفرق بين الرشيد والسفيه، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره، فإن هذه الآية عامة، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه، ومن كان عليه حجر لصغرأو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام. الرابعة - وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما. الخامسة - قوله تعالى: (ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله) أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة (لتؤمنوا) أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد أستدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى، لما ذكرها وأوجبها قال: (ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله) أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها، فسمى التكفير لانه طاعة ومراعاة للحد إيمانا، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل: معنى قوله: (ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله) أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور. (1) في ح، ز، س، ه: (لقلبه). (2) في ح، ز، س، ل، ه: (والله الموفق لارب غيره). (*)
[ 288 ]
قيل له: قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والاول مقصودا، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا، إذ كان الله منع من مسيسها، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله، لانها حدود تحفظونها، وطاعات تؤدونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان. وبالله التوفيق. السادسة - قوله تعالى: (وتلك حدود الله) أي بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار، وطاعته الكفارة. (وللكافرين عذاب أليم) أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم. قوله تعالى: ان الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا ءايات بينات وللكافرين عاب مهين (5) يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد (6) قوله تعالى: (ان الذين يحادون الله ورسوله) لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها. والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود، وهو مثل قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله (1)). وقيل: (يحادون الله) أي أولياء الله كما في الخبر: (من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة). وقال الزجاج: المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك. وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب. (كبتوا) قال أبو عبيدة والاخفش: أهلكوا. وقال قتادة: اخزوا كما أخزي الذين من قبلهم. وقال ابن زيد: عذبوا. وقال السدي: لعنوا. وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق. وقيل: يوم بدر. والمراد المشركون. وقيل: المنافقون. (كما كبت الذين من قبلهم). وقيل: (كبتوا) (1) راجع ج 18 ص 6 (*)
[ 289 ]
أي سيكبتون، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه. وقيل: هي بلغة مذحج (1). (وقد أنزلنا آيات بينات) فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم. (وللكافرين عذاب مهين). قوله تعالى: (يوم) نصب ب (عذاب مهين) أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم. (يبعثهم الله جميعا) أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة (فينبئهم) أي يخبرهم (بما عملوا) في الدنيا (أحصاه الله) عليهم في صحائف أعمالهم (ونسوه) هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. (والله على كل شئ شهيد) مطلع وناظر لا يخفى عليه شئ. قوله تعالى: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم ولا أدنى من ذالك ولا أكثر الا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ان الله بكل شئ عليم (7) قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض) فلا يخفى عليه سر ولا علانية. (ما يكون من نجوى) قراءه العامة بالياء، لاجل الحائل بينهما. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والاعرج وأبو حيوة وعيسى (ما تكون) بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى: السرار، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به، يقال: قوم نجوى أي ذوو نجوى، ومنه قوله تعالى: (وإذ هم نجوى (2)). وقوله تعالى: (ثلاثة) خفض بإضافة (نجوى) إليها. قال الفراء: (ثلاثة) نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت (نجوى) إليها. ولو نصب على إضمار فعل جاز، وهي قراءة ابن أبي عبلة (ثلاثة) و (خمسة) بالنصب على الحال بإضمار يتناجون، لان نجوى يدل عليه، قاله الزمخشري. ويجوز رفع (ثلاثة) على البدل من موضع (نجوى). ثم قيل: كل سرار نجوى. وقيل: النجوى ما يكون من (1) مذحج - كمسجد -: أبو قبيلة باليمن. (2) راجع ج 10 ص 272 (*)
[ 290 ]
خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به. والسرار ما كان بين اثنين. (الا هو رابعهم) يعلم ويسمع نجواهم، يدل عليه افتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم. وقيل: النجوى من النجوة وهي ما ارتفع من الارض، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الارض عما يتصل به، والمعنى: أن سمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها. (ولا أدنى من ذلك ولا أكثر) قرأ سلام ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بالرفع على موضع (من نجوى) قبل دخول (من) لان تقديره ما يكون نجوى، و (ثلاثة) يجوزأن يكون مرفوعا على محل (لا) مع (أدنى) كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى في (البقرة (1)) بيان هذا مستوفى. وقرأ الزهري وعكرمة (أكبر) بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) قال: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لانه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل: معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قاله ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: نزلت في اليهود. (ثم ينبئهم) يخبرهم (بما عملوا) من حسن وسئ (يوم القيامة ان الله بكل شئ عليم). قوله تعالى: ألم ترالى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8) (1) راجع ج 3 ص 266 فما بعد. (*)
[ 291 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ألم ترالى الذين نهوا عن النجوى) قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه. وقيل: في المسلمين. قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والانصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسؤهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت. وقال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه والارض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهم فيفزعون لذلك فنزلت. الثانية - روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى) فقلنا: تبنا إلى الله يارسول الله، إنا كنا في ذكر المسيخ - يعني الدجال - فرقا (1) منه. فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: (الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل) ذكره الماوردي. وقرأ حمزة وخلف ورويس عن يعقوب (وينتجون) في وزن يفتعلون وهي قراءة عبد الله وأصحابه. وقرأ الباقون (ويتناجون) في وزن يتفاعلون، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالى: (إذا تناجيتم) و (تناجوا). النحاس: وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا (يتناجون) و (ينتجون) واحد. ومعنى (بالاثم والعدوان) أي الكذب والظلم. (ومعصية الرسول) أي مخالفته. وقرأ الضحاك ومجاهد وحميد (ومعصيات الرسول) بالجمع. (1) في ل: (خوفا منه). (*)
[ 292 ]
الثالثة - قوله تعالى: (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك. يريدون بذلك السلام ظاهراوهم يعنون الموت باطنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم) في رواية، وفي رواية أخرى (وعليكم). قال ابن العربي: وهي مشكلة. وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيا لما أمهلنا الله بسبه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبه، فكيف من سب نبيه. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أصبر على الاذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم) فأنزل الله تعالى هذا كشفا لسرائرهم، وفضحا لبواطنهم، معجزة لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتدرون ما قال هذا) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال كذا ردوه علي) فردوه، قال: (قلت السام عليكم) قال: نعم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت) فأنزل الله تعالى: (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله). قلت: خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وثبت عن عائشة أنها قالت: جاء أناس من اليهود إلى النبي صلى ا لله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل. فقال عليه السلام: (مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون ؟ ! فقال: (ألست ترين أرد عليهم ما يقولون أقول وعليكم) فنزلت هذه الآية (بما لم يحيك به الله) أي إن الله سلم عليك وهم يقولون السام عليك، والسام الموت. خرجه البخاري ومسلم بمعناه. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) كذا الرواية (وعليكم) بالواو تكلم عليها العلماء، لان الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من
[ 293 ]
سامه ديننا وهو الملال. يقال: سئم يسأم سامه وسآما. فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر: * فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * أي لما أجزنا أنتحى فزاد الواو. وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم. وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك، لانا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. روى الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سلم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: (وعليكم) فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا ؟ قال: (بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا) خرجه مسلم. ورواية الواو أحسن معنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر. وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة، للامر بذلك. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك. وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي أرتفع عنك. واختار بعض أصحابنا: السلام بكسر السين يعني الحجارة. وما قاله مالك أولى أتباعا للسنة، والله أعلم. وروى مسروق عن عائشة قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: (وعليكم) قالت عائشة: قلت بل عليكم السام والذام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لا تكوني فاحشة) فقالت: ما سمعت ما قالوا ! فقال: (أو ليس قد رددت عليهم الذي قالوا قلت وعليكم). وفي رواية قال: ففطنت بهم عائشة فسبتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش) وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى: (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) إلى آخر الآية. الذام بتخفيف الميم هو العيب، وفي المثل (لا تعدم الحسناء ذاما) أي عيبا، ويهمز ولا يهمز،
[ 294 ]
يقال: ذأمه يذأمه، مثل ذأب يذأب، والمفعول مذءوم مهموزا، ومنه (مذءوما مدحورا (1)) ويقال: ذامه يذومه مخففا كرامه يرومه. قوله تعالى: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول) قالوا: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا الله. وقيل: قالوا إنه يرد علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيا لاستجيب له فينا ومتنا. وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الانبياء قد يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب. (حسبهم جهنم) أي كافيهم جهنم عقابا غدا (فبئس المصير) أي المرجع. قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوآ إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذى إليه تحشرون (9) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم) نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم) أي تساررتم. (فلا تتناجوا) هذه قراءة العامة. وقرأ يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب (فلا تنتجوا) من الانتجاء (بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر) أي بالطاعة (والتقوى) بالعفاف عما نهى الله عنه. وقيل: الخطاب للمنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم. وقيل: أي يا أيها الذين آمنوا بموسى. (واتقوا الله الذى إليه تحشرون) أي تجمعون في الآخرة. قوله تعالى: انما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ء امنوا وليس بضارهم شيئا الا باذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (10) (1) راجع ج 10 ص 235 (*)
[ 295 ]
فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (انما النجوى من الشيطان) أي من تزيين الشياطين (ليحزن الذين آمنوا) إذ توهموا أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو إذا أجروا (1) آجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم (وليس بضارهم) أي التناجى (شيئا الا باذن الله) أي بمشيئته وقيل: بعلمه. وعن ابن عباس: بأمره. (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) أي يكلون أمرهم إليه، ويفوضون جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذون به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذى سلط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا ولو شاء لصرفه عنه. الثانية - في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد). وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه) فبين في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، ذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا، فقال له وللاول: تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة. خرجه الموطأ. وفيه أيضا التنبيه على التعليل بقوله: (من أجل أن يحزنه) أي يقع في نفسه ما يحزن لاجله. وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الاعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خص الثلاثة بالذكر، لانه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الازمان والاحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور. وسواء أكان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب فإن الحزن يقع به. وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك كان (1) في ح، ز، ه: (أو إذا رأوا اجماعهم). (*)
[ 296 ]
في أول الاسلام، لان ذلك كان في حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الاسلام سقط ذلك. وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر في المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا، فإنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم المغيث (1). والله أعلم. قوله تعالى: يا أيها الذين ء امنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (11) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس (2)) لما بين أن اليهود يحيونه بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك وصل به الامر بتحسين الادب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض. وقاله الضحاك. وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب. قال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الاول (3) فلا يوسع بعضهم لبعض، رغبة في القتال والشهادة فنزلت. فيكون كقوله: (مقاعد للقتال (4)). وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة، وكان في المكان ضيق يوم الجمعة، وكان النبي صلى الله عليه (1) في ح، ز، س، ل، ه: (الغوث). (2) الاصول على قراءة نافع (في المجلس) بالافراد. (3) في ل: (الاول فالاول). (4) راجع ج 4 ص 184 (*)
[ 297 ]
وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والانصار، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس ابن شماس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله من [ غير (1) ] أهل بدر: (قم يا فلان وأنت يا فلان) بعدد القائمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان، فأنزل الله عزوجل هذه الآية. (تفسحوا) أي توسعوا. وفسح فلان لاخيه في مجلسه يفسح فسحا أي وسع له، ومنه قولهم: بلد فسيح ولك في كذا فسحة، وفسح يفسح مثل منع يمنع، أي وسع في المجلس، وفسح يفسح فساحة مثل كرم يكرم [ كرامة (2) ] أي صارواسعا، ومنه مكان فسيح. الثانية - قرأ السلمي وزر بن حبيش وعاصم (في المجالس). وقرأ قتادة وداود ابن أبي هند والحسن باختلاف عنه (إذا قيل لكم تفاسحوا) الباقون (تفسحوا في المجلس) فمن جمع فلان قوله: (تفسحوا في المجالس) ينبئ أن لكل واحد مجلسا. وكذلك إن أريد به الحرب. وكذلك يجوز أن يراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وجمع لان لكل جالس مجلسا. وكذلك يجوز إن أريد بالمجلس المفرد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد به الجمع على مذهب الجنس، كقولهم: كثر الدينار والدرهم. قلت: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والاجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه [ قال صلى الله عليه وسلم: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق (3) به) ] ولكن يوسع لاخيه ما لم يتأذ فيخرجه الضيق عن موضعه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر عن (1) الزيادة من ل، وأسباب النزول وبعض التفاسير وفى ز: (قم أنت يا فلان وأنت يا فلان). (2) زيادة من ل. (3) الزيادة من حاشية الجمل نقلا عن القرطبى. (*)
[ 298 ]
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه). وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا. وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. لفظ البخاري. الثالثة - إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا). فرع - القاعد في المكان إذا قام حتى يقعد غيره موضعه نظر، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الاول في سماع كلام الامام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الامام كره له ذلك، لان فيه تفويت حظه. الرابعة - إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه. فرع - وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد (1). الخامسة - روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم - وفي حديث أبي عوانة من قام من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به) قال علماؤنا: هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لانه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى. وقد قيل: إن ذلك على الندب، لانه موضع غير متملك لاحد لا قبل الجلوس ولا بعده. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه. والله أعلم. (1) في ز، س، ه، ل بياض في هذه النسخ، بعد قوله: (من المسجد) نبه عليه الناسخ بالهامش بقوله: بياض بالاصل. (*)
[ 299 ]
السادسة - قوله تعالى: (يفسح الله لكم) أي في قبوركم. وقيل: في قلوبكم. وقيل: يوسع عليكم في الدنيا والآخرة. (وإذا قيل انشزوا فانشزوا) قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. وكسر الباقون، وهما لغتان مثل (يعكفون (1)) و (يعرشون (1)) والمعنى انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، قال أكثر المفسرين. وقال مجاهد والضحاك: إذ نودي للصلاة فقوموا إليها. وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة فنزلت. وقال الحسن ومجاهد أيضا: أي انهضوا إلى الحرب. وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: (وإذا قيل أنشزوا) عن النبي صلى الله عليه وسلم (فانشزوا) فإن له حوائج فلا تمكثوا. وقال قتادة: المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف. وهذا هو الصحيح، لانه يعم. والنشز الارتفاع، مأخوذ من نشز الارض وهو ارتفاعها، يقال نشز ينشز وينشز إذا انتحى من موضعه، أي ارتفع منه. وامرأة ناشز منتحية عن زوجها. وأصل هذا من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الارض وتنحى، ذكره النحاس. السابعة - قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم. وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية. والمعنى أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم (2) على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (درجات) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف فيستبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم. ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا من الاغنياء يقبض ثوبه نفورا من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه فقال: (يا فلان خشيت أن يتعدى غناك إليه أو فقره إليك) وبين في هذه الآية أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والايمان لا بالسبق إلى صدور المجالس. وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرءوا القرآن. وقال يحيى بن يحيى عن مالك: (يرفع الله الذين آمنوا منكم) الصحابة (والذين أوتوا العلم درجات) يرفع الله بها العالم والطالب للحق. (1) راجع ج 7 ص 272 وص 273. (2) والمعنى يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين. (*)
[ 300 ]
قلت: والعموم أوقع في المسألة وأولى بمعنى الآية، فيرفع المؤمن (1) بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة، فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير (إذا جاء نصر الله والفتح (2)) فسكتوا، فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. وفي البخاري عن عبد الله ابن عباس قال: قدم عيينة ابن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. الحديث وقد مضى في آخر (الاعراف (3)). وفي صحيح مسلم أن نافع بن عبد الحرث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملته على أهل الوادي ؟ فقال: ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى ؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى ! قال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين) وقد مضى أول الكتاب (4). ومضى القول في فضل العلم والعلماء في غير موضع من هذا الكتاب (5) [ والحمد لله (6) ]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة). وعنه صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب). وعنه عليه الصلاة والسلام: (يشفع يوم القيامة ثلاثة الانبياء ثم العلماء ثم الشهداء) فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خير سليمان [ عليه السلام ] بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه. (1) في ح، ز، س، ل، ه: (فيرفع المرء). (2) راجع ج 20 ص 229. (3) راجع ج 7 ص 357. (4) راجع ج 1 ص 6. (5) راجع ج 14 ص 343. (6) من س وط. (*)
[ 301 ]
قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة ذالك خير لكم وأطهر فان لم تجدوا فان الله غفور رحيم (12) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) (ناجيتم) ساررتم. قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله عزوجل أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك كف كثير من الناس. ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها. وقال الحسن: نزلت بسبب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه. وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدا مناجاته. فكان ذلك يشق على المسلمين، لان الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول) الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية، فأنتهى أهل الباطل عن النجوى، لانهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الايمان وامتنعوا من النجوى، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية. الثانية - قال ابن العربي: وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الاحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله تعالى قال: (ذلك خير لكم وأطهر) ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر.
[ 302 ]
وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبد الرحمن وقد ضعفه العلماء. والامر في قوله تعالى: (ذلك خير لكم وأطهر) نص متواتر في الرد على المعتزلة. والله أعلم. الثالثة - روى الترمذي عن علي بن علقمة الانماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) [ سألته (1) ] قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ترى دينارا) قلت لا يطيقونه. قال: (فنصف دينار) قلت: لا يطيقونه. قال: (فكم) قلت: شعيرة. قال: (إنك لزهيد) قال فنزلت: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) الآية. قال: فبي (2) خفف الله عن هذه الامة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، ومعنى قوله: شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب. قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين: الاولى - نسخ العبادة قبل فعلها. والثانية - النظر في المقدرات بالقياس، خلافا لابي حنيفة. قلت: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة. وقد روي عن مجاهد: أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صلى الله عليه وسلم. روي أنه تصدق بخاتم. وذكر القشيري وغيره عن علي بن أبن طالب أنه قال: (في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) كان لى دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الاخرى (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات). وكذلك قال ابن عباس: نسخها الله بالآية التي بعدها. وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. (ذلك خير لكم) أي من إمساكها (وأطهر) لقلوبكم من المعاصي (فإن لم تجدوا) يعني الفقراء (فإن الله غفور رحيم). (1) زيادة من ح، ز، س، ل، ه. (2) كلمة: (فبى) ساقطة من ل. (*)
[ 303 ]
قوله تعالى: ءأشفقتم أن تقدموا بين يدى نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون (13) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (أأشفقتم) استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: (أأشفقتم) أي أبخلتم بالصدقة، وقيل: خفتم، والاشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم (أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات). قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فنسخت فرضية الزكاة هذه الصدقة. وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف، لان الله تعالى قال: (فإذ لم تفعلوا) وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشئ. والله أعلم. (أطيعوا الله) في فرائضه (ورسوله) في سننه (والله خبير بما تعملون). قوله تعالى: ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ماهم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (14) أعد الله لهم عذابا شديدا انهم ساء ما كانوا يعملون (15) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين (16)
[ 304 ]
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم) قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود (ماهم منكم ولا منهم) يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال: (يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان) فدخل عبد الله بن نبتل - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال عليه الصلاة والسلام: (علام تشتمني أنت وأصحابك) فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فعلت) فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية. وقال معناه ابن عباس. روى عكرمة عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال: (يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر شيطان) فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (علام تشتمني أنت وأصحابك) قال: دعني أجيئك بهم. فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شئ، فأنزل الله عزوجل: (يوم يبعثهم الله جميعا) إلى قوله: (هم الخاسرون) واليهود مذكورون في القرآن ب (وغضب الله عليهم). (أعد الله لهم) أي لهؤلاء المنافقين (عذابا شديدا) في جهنم وهو الدرك الاسفل. (أنهم ساء ما كانوا يعملون) أي بئس الاعمال أعمالهم (اتخذوا أيمانهم جنة) يستجنون بها من القتل. وقرأ الحسن وأبو العالية (إيمانهم) بكسر الهمزة هنا وفي (المنافقون (1)). أي إقرارهم اتخذوه جنة، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم (فلهم عذاب مهين) في الدنيا بالقتل وفى الاخرة بالنار. والصد المنع (عن سبيل الله) أي عن الاسلام. وقيل: في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق. وقيل: أي بإلقاء الاراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم. (1) راجع ج 18 ص 123. (*)
[ 305 ]
قوله تعالى: لن تغنى عنهم أموالهم ولا أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون (17) يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا انهم هم الكاذبون (18) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولائك حزب الشيطان ألا ان حزب الشيطان هم الخاسرون (19) قوله تعالى: (لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) أي من عذابه شيئا. وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذا ! فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت (1): (يوم يبعثهم الله جميعا) أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم (فيحلفون له كما يحلفون لكم) اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غدا، وقد صارت المعارف ضرورية. وقال ابن عباس: هو قولهم (والله ربنا ما كنا مشركين (2)). (ويحسبون أنهم على شئ) بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة. وقيل: (ويحسبون) في الدنيا (أنهم على شئ) لانهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار. والاول أظهر. وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله فتقوم القدرية مسودة وجهوهم مزرقة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا، ولا اتخذنا من دونك إلها). قال ابن عباس: صدقوا والله ! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا (ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون) هم والله القدرية. ثلاثا. قوله تعالى: (استحوذ عليهم الشيطان) أي غلب واستعلى، أي بوسوسته في الدنيا. وقيل: قوي عليهم. وقال المفضل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم. يقال: أحوذ الشئ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم. (1) في ح، ز، س، ه، ل: (فنزلت الاية قوله تعالى). (2) راجع ج 6 ص 401 (*)
[ 306 ]
(فأتساهم ذكر الله) أي أوامره في العمل بطاعته. وقيل: زواجره في النهي عن معصيته. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. (أولئك حزب الشيطان) طائفته ورهطه (ألا ان حزب الشيطان هم الخاسرون) في بيعهم، لانهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة. قوله تعالى: ان الذين يحادون الله ورسوله أولائك في الاذلين (20) كتب الله لاغلبن أنا ورسلي ان الله قوى عزيز (21) قوله تعالى: (ان الذين يحادون الله ورسوله) تقدم أول السورة. (أولئك في الاذلين) أي من جملة الاذلاء لا أذل منهم (كتب الله لا غلبن) أي قضى الله ذلك. وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، عن قتادة. الفراء: كتب بمعنى قال. (أنا) توكيد (ورسلي) من بعث منهم بالحرب فإنه غالب (1) بالحرب، ومن بعث منمهم بالحجة فإنه غالب (1) بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على. فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها ؟ ! والله إنهم لاكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: (لاغلبن أنا ورسلي). نظيره: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون (2)). قوله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانواء ابآءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولائك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولائك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون (22) (1) في ح، ز، س، ل، ه: (فان الرسول غالب). (2) راجع ج 15 ص 139 (*)
[ 307 ]
فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون) أي يحبون ويوالون (من حاد الله ورسوله) تقدم (1) (ولو كانوا آباءهم) قال السدي: نزلت في [ عبد الله بن (2) ] عبد الله بن أبي، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماء، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي، لعل الله يطهر بها قلبه ؟ فأفضل له فأتاه بها، فقال له عبد الله: ماهذا ؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها. فقال له أبوه: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها. فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله ! أما أذنت لي في قتل أبي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل ترفق به وتحسن إليه). وقال ابن جريج: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: (أو فعلته، لا تعد إليه) فقال: والذى بعثك بالحق نبيا لو كان السيف مني قريبا لقتلته. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد وقيل: يوم بدر. وكان الجراح يتصدى لابي عبيدة وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر) الآية. قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام. ولقد سألت رجالا من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الاسلام. (أو أبناءهم) يعني أبا بكر دعى ابنه عبد الله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر). (أو إخوانهم) يعني مصعب بن عمير (1) راجع ج 8 ص 194 (2) زيادة لازمة، فقد كان عبد الله بن عبد الله بن أبى ابن سلول رضى الله عنه من فضلاء الصحابة وخيارهم وكان أبو عبد الله رأس المنافقين وفيه نزلت الاية. (*)
[ 308 ]
قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر. (أو عشيرتهم) يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص ابن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليا وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر. وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، لما كتب إلى أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ما يأتي بيانه أول سورة (الممتحنة) إن شاء الله تعالى. بين أن الايمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب. الثانية - استدل مالك رحمه الله من هذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم. قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله). قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. وعن عبد العزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت (لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر - إلى قوله - أولئك كتب في قلوبهم الايمان) أي خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يوال من حاد الله. وقيل: كتب أثبت، قاله الربيع بن أنس. وقيل: جعل، كقوله تعالى: (فاكتبنا مع الشاهدين (1)) أي اجعلنا. وقوله: (فسأكتبها للذين يتقون (2)) وقيل: (كتب) أي جمع، ومنه الكتيبة، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وقراءة العامة بفتح الكاف من (كتب) ونصب النون من (الايمان) بمعنى كتب الله وهو الاجود، (اللهم لا تجعل لفاجر عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت (لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر - إلى قوله - أولئك كتب في قلوبهم الايمان) أي خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يوال من حاد الله. وقيل: كتب أثبت، قاله الربيع بن أنس. وقيل: جعل، كقوله تعالى: (فاكتبنا مع الشاهدين (1)) أي اجعلنا. وقوله: (فسأكتبها للذين يتقون (2)) وقيل: (كتب) أي جمع، ومنه الكتيبة، أي لم يكونوا ممن يقول نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وقراءة العامة بفتح الكاف من (كتب) ونصب النون من (الايمان) بمعنى كتب الله وهو الاجود، لقوله تعالى: (وأيدهم بروح منه) وقرأ أبو العالية وزر بن حبيش والمفضل عن عاصم (كتب) على ما لم يسم فاعله (الايمان) برفع النون. وقرأ زربن حبيش (وعشيراتهم) بألف وكسر التاء على الجمع، ورواها الاعمش عن أبي بكر عن عاصم. وقيل: كتب في قلوبهم) أي على قلوبهم، كما في قوله (في جذوع (3) النخل) وخص القلوب بالذكر لانها موضع الايمان. (وأيدهم) قواهم ونصرهم بروح منه، قال الحسن: وبنصر منه. وقال (1) راجع ج 4 ص 97 (2) راجع ج 7 ص 296 (3) راجع ج 11 ص 224 (*)
[ 309 ]
الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. وقال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى. وقيل: برحمة من الله. وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام. (ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم) أي قبل أعمالهم (ورضوا عنه) فرحوا بما أعطاهم (أولائك حزب هم المفلحون) قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهي ! من حزبك وحول عرشك ؟ فأوحى الله إليه: (يا داود الغاضة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي). ختمت والحمد الله سورة (المجادلة).