تفسير القرطبي
القرطبي ج 16

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء السادس عشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشورى مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " (1) [ الشورى: 23 ] إلى آخرها. وهي ثلاث وخمسون آية. قوله تعالى: حم (1) عسق (2) كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3) له ما في السموات وما في الارض وهو العلي العظيم (4) قوله تعالى: " حم. عسق " قال عبد المؤمن: سألت الحسين بن الفضل: لم قطع " حم " من " عسق " ولم تقطع " كهيعص " و " المر " و " المص " ؟ فقال: لان " حم. عسق " بين سور أولها " حم " فجرت مجرى نظائرها قبلها وبعدها، فكأن " حم " مبتدأ و " عسق " خبره. ولانها عدت آيتين، وعدت أخواتها اللواتي كتبت جملة آية واحدة. وقيل: إن الحروف المعجمة كلها في معنى واحد، من حيث إنها أس البيان وقاعدة الكلام، ذكره الجرجاني. وكتبت " حم. عسق " منفصلا و " كهيعص " متصلا لانه قيل: حم، أي حم ما هو كائن، ففصلوا بين ما يقدر فيه فعل وبين ما لا يقدر. ثم لو فصل هذا ووصل ذا لجاز، حكاه القشيري. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس " حم. سق " قال ابن عباس: (1) آية 23 (*)
[ 2 ]
وكان علي رضي الله عنه يعرف الفتن بها. وقال أرطاة بن المنذر: قال رجل لابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قوله تعالى: " حم. عسق " ؟ فأعرض عنه حتى أعاد عليه ثلاثا فأعرض عنه. فقال حذيفة بن اليمان: أنا أنبئك بها، قد عرفت لم تركها، نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الاله أو عبد الله، ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا، فإذا أراد الله زوا ملكهم وانقطاع دولتهم، بعث على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة، فتحرق كلها كأنها لم تكن مكانها، فتصبح صاحبتها متعجبة، كيف قلبت ! فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله: " حم. عسق " أي عزمة (1) من عزمات الله، وفتنة وقضاء حم: حم. " ع ": عدلا منه، " س ": سيكون، " ق ": واقع في هاتين المدينتين. ونظير هذا التفسير ما روى جرير بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل (2) والصراة، يجتمع فيها جبابرة الارض تجبى إليها الخزائن يخسف بها - وفي رواية بأهلها - فلهي أسرع ذهابا في الارض من الوتد الجيد في الارض الرخوة). وقرأ ابن عباس " حم. سق " بغير عين. وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود، حكاه الطبري. وروى نافع عن ابن عباس: " الحاء " حلمه (3)، و " الميم " مجده، و " العين " علمه، و " السين " سناه، و " القاف " قدرته، أقسم الله بها. وعن محمد بن كعب: أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناه وقدرته ألا يعذب من عاذ بلا إله إلا الله مخلصا من قلبه. وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير: " الحاء " من الرحمن، " والميم " من المجيد، و " العين " من العليم، و " السين " من القدوس، و " القاف " من القاهر. وقال مجاهد: فواتح السور. وقال عبد الله بن بريدة: إنه اسم الجبل المحيط بالدنيا. وذكر القشيري واللفظ للثعلبي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه، (1) أي حق من حقوقه. (2) وروى بفتح أوله وطائه. (3) في بعض النسخ. " حكمه " بالكاف. (*)
[ 3 ]
فقيل له: يا رسول الله، ما أحزنك ؟ قال: (أخبرت ببلايا تنزل بأمتي من خسف وقذف ونار تحشرهم وريح تقذفهم في البحر وآيات متتابعات متصلات بنزول عيسى وخروج الدجال). والله أعلم. وقيل: هذا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ف " الحاء " حوضه المورود، و " الميم " ملكه الممدود، و " العين " عزه الموجود، و " السين " سناه المشهود، و " القاف " قيامه في المقام المحمود، وقربه في الكرامة (1) من الملك المعبود. وقال ابن عباس: ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه: " حم. عسق "، فلذلك قال: " يوحي إليك وإلى الذين من قبلك " المهدوي: وقد جاء في الخبر أن (" حم. عسق " معناه أوحيت إلى الانبياء المتقدمين). وقرأ ابن محيصن وابن كثير ومجاهد " يوحى " (بفتح الحاء) على ما لم يسم فاعله، وروي عن ابن عمر. فيكون الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ويجوز أن يكون اسم ما لم يسم فاعله مضمرا، أي يوحى إليك القرآن الذي تضمنته هذه السورة، ويكون اسم الله مرفوعا بإضمار فعل، التقدير: يوحيه الله إليك، كقراءة ابن عامر وأبي بكر " يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " [ النور: 36 - 37 ] أي يسبحه رجال. وأنشد سيبويه: ليبك يزيد ضارع بخصومة * وأشعث ممن طوحته الطوائح (2) فقال: لبيك يزيد، ثم بين من ينبغي أن يبكيه، فالمعنى يبكيه ضارع. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، كأنه قال: الله يوحيه. أو على تقدير إضمار مبتدأ أي الموحي الله. أو يكون مبتدأ والخبر " العزيز الحكيم ". وقرأ الباقون " يوحي إليك " بكسر الحاء، ورفع الاسم على أنه الفاعل. " له ما في السموات وما في الارض وهو العلي العظيم " تقدم في غير موضع (3). (1) في نسخة من الاصل: " وقربه يوم القيامة من الملك... ". (2) رواية البيت كما في كتاب سيبويه وخزانة الادب: لبيك يزيد ضارع لخصومة * ومختبط مما تطيح الطوائح وهذا البيت نسبه سيبويه للحارث بن نهيك. ونسبه صاحب خزانة الادب لنهشل بن حري في مرثية يزيد. (راجع الشاهد الخامس والاربعين). (3) راجع ج‍ 2 ص 69 طبعة ثانية. وج‍ 3 ص 278. (*)
[ 4 ]
قوله تعالى: تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم (5) قوله تعالى: " تكاد السموات " قراءة العامة بالتاء. وقرأ نافع وابن وثاب والكسائي بالياء. " يتفطرن " قرأ نافع وغيره بالياء والتاء والتشديد في الطاء، وهي قراءة العامة. وقرأ أبو عمرو وأبو بكر والمفضل وأبو عبيد " ينفطرن " من الانفطار، كقول تعالى: " إذا السماء انفطرت " [ الانفطار: 1 ] وقد مضى في سورة " مريم " بيان هذا (1). وقال ابن عباس: " تكاد السموات يتفطرن " أي تكاد كل واحدة منها تنفطر فوق التي تليها، من قول المشركين: " اتخذ الله ولدا " (2) [ البقرة: 116 ]. وقال الضحاك والسدي: " يتفطرن " أي يتشققن من عظمة الله وجلاله فوقهن. وقيل: " فوقهن "، فوق الارضين من خشية الله لو كن مما يعقل. قوله تعالى: " والملائكة يسبحون بحمد ربهم " أي ينزهونه عما لا يجوز في وصفه، وما لا يليق بجلاله. وقيل يتعجبون من جرأة المشركين، فيذكر التسبيح في موضع التعجب. وعن علي رضي الله عنه: أن تسبيحهم تعجب مما يرون من تعرضهم لسخط الله. وقال ابن عباس: تسبيحهم خضوع لما يرون من عظمة الله. ومعنى " بحمد ربهم " بأمر ربهم، قاله السدي. " ويستغفرون لمن في الارض " قال الضحاك: لمن في الارض من المؤمنين، وقاله السدي. بيانه في سورة المؤمن: " ويستغفرون للذين آمنوا " (3) [ غافر: 7 ]. وعلى هذا تكون الملائكة هنا حملة العرش. وقيل: جميع ملائكة السماء، وهو الظاهر من قول الكلبي. وقال وهب ابن منبه: هو منسوخ بقوله: " ويستغفرون للذين آمنوا ". قال المهدوي: والصحيح أنه ليس بمنسوخ، لانه خبر، وهو خاص للمؤمنين. وقال أبو الحسن الماوردي عن الكلبي: ان الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الارض ليحكما بينهم، فافتتنا بالزهرة (1) راجع ج‍ 1 ص 156. (2) آية 116 سورة البقرة. (3) آية 7 (*)
[ 5 ]
وهربا إلى إدريس - وهو جد أبي نوح عليهما السلام - وسألاه أن يدعو لهما، سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم. قال أبو الحسن بن الحصار: وقد ظن بعض من جهل أن هذه الآية نزلت بسبب هاروت وماروت، وأنها منسوخة بالآية التي في المؤمن، وما علموا أن حملة العرش مخصوصون بالاستغفار للمؤمنين خاصة، ولله ملائكة أخر يستغفرون لمن في الارض. الماوردي: وفي استغفارهم لهم قولان: أحدهما - من الذنوب والخطايا، وهو ظاهر قول مقاتل. الثاني - أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم، قاله الكلبي. قلت: وهو أظهر، لان الارض تعم الكافر وغيره، وعلى قول مقاتل لا يدخل فيه الكافر. وقد روي في هذا الباب خبر رواه عاصم الاحول عن أبي عثمان عن سلمان قال: إن العبد إذا كان يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة: صوت معروف من آدمي ضعيف، كان يذكر الله تعالى في السراء فنزلت به الضراء، فيستغفرون له. فإذا كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة: صوت منكر من آدمي كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء، فلا يستغفرون. وهذا يدل على أن الآية في الذاكر لله تعالى في السراء والضراء، فهي خاصة ببعض من في الارض من المؤمنين. والله أعلم. يحتمل أن يقصدوا بالاستغفار طلب الحلم والغفران في قوله تعالى: " إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا " (1) [ فاطر: 41 ] - إلى أن قال - إنه كان حليما غفورا "، وقوله تعالى: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " (2) [ الرعد: 6 ]. والمراد الحلم عنهم وألا يعالجهم بالانتقام، فيكون عاما، قاله الزمخشري. وقال مطرف: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين. وقد تقدم (3). " ألا إن الله هو الغفور الرحيم " قال بعض العلماء: هيب وعظم عز وجل في الابتداء، وألطف وبشر في الانتهاء. قوله تعالى: والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6) (1) آية 41 سورة فاطر. (2) آية 6 سورة الرعد. (3) راجع ج‍ 15 ص 295 (*)
[ 6 ]
قوله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء " يعني أصناما يعبدونها. " الله حفيظ عليم " أي يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها. " وما أنت عليهم بوكيل " وهذه منسوخة بآية السيف. وفي الخبر: (أطت السماء وحق لها أن تئط) أي صوتت من ثقل سكانها لكثرتهم، فهم مع كثرتهم لا يفترون عن عبادة الله، وهؤلاء الكفار يشركون به. قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7) قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا " أي وكما أوحينا إليك وإلى من قبلك هذه المعاني فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا بيناه بلغة العرب. وقيل: أي أنزلنا عليك قرآنا عربيا بلسان قومك، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه. والمعنى واحد. " لتنذر أم القرى " يعني مكة. قيل لمكة أم القرى لان الارض دحيت من تحتها. " ومن حولها " من سائر الخلق. " وتنذر يوم الجمع " أي بيوم الجمع، وهو يوم القيامة. " لا ريب فيه " لا شك فيه. " فريق في الجنة وفريق في السعير " ابتداء وخبر. وأجاز الكسائي النصب على تقدير: لتنذر فريقا في الجنة وفريقا في السعير. قوله تعالى: ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير (8) قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة " قال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. " ولكن يدخل من يشاء في رحمته " قال أنس بن مالك: في الاسلام. " والظالمون " رفع على الابتداء، والخبر " ما لهم من ولي ولا نصير " عطف على اللفظ. ويجوز " ولا نصير " بالرفع على الموضع و " من " زائدة.
[ 7 ]
قوله تعالى: أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شئ قدير (9) قوله تعالى: " أم اتخذوا " أي بل اتخذوا. " من دونه أولياء " يعني أصناما. " فالله هو الولي " أي وليك يا محمد وولي من اتبعك، لا ولي سواه. " وهو يحيي الموتى " يريد عند البعث. " وهو على كل شئ قدير " وغيره من الاولياء لا يقدر على شئ. قوله تعالى: وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب (10) قوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شئ " حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، أي وما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أمر الدين، فقولوا لهم حكمه إلى الله لا إليكم، وقد حكم أن الدين هو الاسلام لا غيره. وأمور الشرائع إنما تتلقى من بيان الله. " ذلكم الله ربي " أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وفيه إضمار: أي قل لهم يا محمد ذلكم الله الذي يحيي الموتى ويحكم بين المختلفين هو ربي. " عليه توكلت " اعتمدت. " وإليه أنيب " أرجع. قوله تعالى: فاطر السموات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (11) قوله تعالى: " فاطر السموات والارض " بالرفع على النعت لاسم الله، أو على تقدير هو فاطر. ويجوز النصب على النداء، والجر على البدل من الهاء في " عليه ". والفاطر: المبدع والخالق. وقد تقدم. (1). " جعل لكم من أنفسكم أزواجا " قيل معناه إناثا. وإنما (1) راجع ج‍ 6 ص 397، ج‍ 9 ص 270 و 346، ج‍ 14 ص 24 وما بعدها. 319 (*)
[ 8 ]
قال: " من أنفسكم " لانه خلق حواء من ضلع آدم. وقال مجاهد: نسلا بعد نسل. " ومن الانعام أزواجا " يعني الثمانية التي ذكرها في " الانعام " (1) ذكور الابل والبقر والضأن والمعز وإناثها. " يذرؤكم فيه " أي يخلقكم وينشئكم " فيه " أي في الرحم. وقيل: في البطن. وقال الفراء وابن كيسان: " فيه " بمعنى به. وكذلك قال الزجاج: معنى " يذرؤكم فيه " يكثركم به، أي يكثركم يجعلكم أزواجا، أي حلائل، لانهن سبب النسل. وقيل: إن الهاء في " فيه " للجعل، ودل عليه " جعل "، فكأنه قال: يخلقكم ويكثركم في الجعل. ابن قتيبة: " يذرؤكم فيه " أي في الزوج، أي يخلقكم في بطون الاناث. وقال: ويكون " فيه " في الرحم، وفيه بعد، لان الرحم مؤنثة ولم يتقدم لها ذكر. " ليس كمثله شئ وهو السميع البصير " قيل: إن الكاف زائدة للتوكيد، أي ليس مثله شئ. قال: * وصاليات ككما يؤثفين (2) * فأدخل على الكاف كافا تأكيدا للتشبيه. وقيل: المثل زائدة للتوكيد، وهو قول ثعلب: ليس كهو شئ، نحو قوله تعالى: " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " (3). [ البقرة: 137 ]. وفي حرف ابن مسعود " فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا " قال أوس بن حجر: وقتلى كمثل جذوع الن * خيل يغشاهم مطر منهمر أي كجذوع. والذي يعتقد في هذا الباب أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعلي صفاته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبه به، وإنما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم عز وجل بخلاف صفات المخلوق، إذ صفاتهم لا تنفك عن الاغراض والاعراض، وهو تعالى منزه عن ذلك، بل لم يزل بأسمائه وبصفاته على ما بيناه في (الكتاب الاسنى في شرح (1) راجع ج‍ 7 ص 113 طبعة أولى أو ثانية. (2) الصاليات: الاثافي، وهي الاحجار التي ينصب عليها القدر. ومعنى يؤثفين: ينصبن للقدر. (راجع خزانة الادب في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة وكتاب سيبويه). (3) آية 137 سورة البقرة. (*)
[ 9 ]
أسماء الله الحسنى)، وكفى في هذا قوله الحق: " ليس كمثله شئ ". وقد قال بعض العلماء المحققين: التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطلة من الصفات. وزاد الواسطي رحمه الله بيانا فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ، وجلت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة، كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة. وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة. رضي الله عنهم ! قوله تعالى: له مقاليد السموات والارض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شئ عليم (12) قوله تعالى: " له مقاليد السموات والارض " تقدم في " الزمر " (1) بيانه. النحاس: والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن، يقال للمفتاح: إقليد، وجمعه على غير قياس، كمحاسن والواحد حسن. " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شئ عليم " تقدم أيضا في غير موضع (2). قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب (14) (1) راجع ج‍ 15 ص 274. (2) راجع ج‍ 1 ص 261 طبعة ثانية أو ثالثة. وج‍ 9 ص 314 (*)
[ 10 ]
قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " شرع لكم من الدين " أي الذي له مقاليد السموات والارض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ثم بين ذلك بقوله تعالى: " أن أقيموا الدين " وهو توحيد الله وطاعته، والايمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما. ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الامم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة، قال الله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " [ المائدة: 48 ] وقد تقدم القول (1) فيه. ومعنى " شرع " أي نهج وأوضح وبين المسالك. وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن. والشارع: الطريق الاعظم. وقد شرع المنزل إذا كان على طريق نافذ. وشرعت الابل إذا أمكنتها من الشريعة. وشرعت الاديم إذا سلخته. وقال يعقوب: إذا شققت ما بين الرجلين، قال: وسمعته من أم الحمارس البكرية. وشرعت في هذا الامر شروعا أي خضت. " أن أقيموا الدين " " أن " في محل رفع، على تقدير والذي وصى به نوحا أن اقيموا الدين، ويوقف على هذا الوجه على " عيسى ". وقيل: هو نصب، أي شرع لكم إقامة الدين. وقيل: هو جر بدلا من الهاء في " به "، كأنه قال: به أقيموا الدين. ولا يوقف على " عيسى " على هذين الوجهين. ويجوز أن تكون " أن " مفسرة، مثل أن امشوا، فلا يكون لها محل من الاعراب. الثانية - قال القاضي أبو بكر بن العربي: ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور: (ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الارض فيأتون نوحا فيقولون له أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الارض...) وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول نبي (2) بغير إشكال، لان آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم، وإنما كان تنبيها على بعض (1) راجع ج‍ 6 ص 211 طبعة أولى أو ثانية. (2) في نسخ الاصل: " كما أن آدم أول رسول نبي بغير إشكال، إلا أن آدم " والتصويب عن ابن العربي. (*)
[ 11 ]
الامور واقتصارا على ضرورات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء، واستقر المدى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الامهات والبنات والاخوات، ووظف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل يتناصر (1) بالانبياء - صلوات الله عليهم - واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان المعنى أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الاصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب إلى الله بصالح الاعمال، والزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الامانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنى والاذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة، لم تختلف على ألسنة الانبياء وإن اختلفت أعدادهم، وذلك قوله تعالى: " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " أي اجعلوه قائما، يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا أضطراب، فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه [ الفتح: 10 ]. واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الازمنة على الامم ". والله أعلم. قال مجاهد: لم يبعث الله نبيا قط إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم، وقاله الوالبي عن ابن عباس، وهو قول الكلبي. وقال قتادة: يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام. وقال الحكم: تحريم الامهات والاخوات والبنات. وما ذكره القاضي يجمع هذه الاقوال ويزيد عليها. وخص نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر لانهم أرباب الشرائع. قوله تعالى: " كبر على المشركين " أي عظم عليهم. " ما تدعوهم إليه " من التوحيد ورفض الاوثان. قال قتادة: كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله عز وجل إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها على من (1) في ابن العربي: " ويتناشر ". (*)
[ 12 ]
ناوأها. ثم قال: " الله يجتبي إليه من يشاء " أي يختار. والاجتباء الاختيار، أي يختار للتوحيد من يشاء. " ويهدي إليه من ينيب " أي يستخلص لدينه من رجع إليه. " وما تفرقوا " قال ابن عباس: يعني قريشا. " إلا من بعد ما جاءهم العلم " محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي، دليله قوله تعالى في سورة فاطر: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير " (1) [ فاطر: 42 ] يريد نبيا. وقال في سورة البقرة: " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " [ البقرة: 89 ] على ما تقدم بيانه هناك (2). وقيل: أمم الانبياء المتقدمين، فإنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى، فآمن قوم وكفر قوم. وقال ابن عباس أيضا: يعني أهل الكتاب، دليله في سورة المنفكين " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة " [ البينة: 4 ]. فالمشركون قالوا: لم خص بالنبوة ! واليهود حسدوه لما بعث، وكذا النصارى. " بغيهم بينهم " أي بغيا من بعضهم على بعض طلبا للرياسة، فليس تفرقهم لقصور في البيان والحجج، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا. " ولولا كلمة سبقت من ربك " في تأخير العقاب عن هؤلاء. " إلى أجل مسمى " قيل: القيامة، لقوله تعالى: " بل الساعة موعدهم " (3) [ القمر: 46 ]. وقيل: إلى الاجل الذي قضي فيه بعذابهم. " لقضي بينهم " أي بين من آمن وبين من كفر بنزول العذاب. " وإن الذين أورثوا الكتاب " يريد اليهود والنصارى. " من بعدهم " أي من بعد المختلفين في الحق. " لفي شك " من الذي أوصى به الانبياء. والكتاب هنا التوراة والانجيل. وقيل: " إن الذين أورثوا الكتاب " قريش. " من بعدهم " من بعد اليهود النصارى. " لفي شك " من القرآن أو من محمد. وقال مجاهد: معنى " من بعدهم " من قبلهم، يعني من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى. (1) آية 42 راجع ج‍ 14 ص 357 (2) آية 89 راجع ج‍ 2 ص 27 طبعة ثانية. (3) آية 46 سورة القمر. (*)
[ 13 ]
قوله تعالى: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل ءامنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15) قوله تعالى: " فلذلك فادع واستقم " لما أجاز أن يكون الشك لليهود والنصارى، أو لقريش قيل له: " فلذلك فادع " أي فتبينت شكهم فادع إلى الله، أي إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للانبياء ووصاهم به. فاللام بمعنى إلى، كقوله تعالى: " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة: 5 ] أي إليها. و " ذلك " بمعنى هذا. وقد تقدم أول " البقرة " (1). والمعنى فلهذا القرآن فادع. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع. وقيل: إن اللام على بابها، والمعنى: فمن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع واستقم. قال ابن عباس: أي إلى القرآن فادع الخلق. " واستقم " خطاب له عليه السلام. قال قتادة: أي استقم على أمر الله. وقال سفيان: أي استقم على القرآن. وقال الضحاك: استقم على تبليغ الرسالة. " ولا تتبع أهواءهم " أي لا تنظر إلى خلاف من خالفك. " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم " أي أن أعدل، كقوله تعالى: " وأمرت أن أسلم لرب العالمين " (2) [ غافر: 66 ]. وقيل: هي لام كي، أي لكي أعدل. قال ابن عباس وأبو العالية: لاسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول. وقال غيرهما: لاعدل في جميع الاحوال وقيل: هذا العدل هو العدل في الاحكام. وقيل في التبليغ. " الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم " قال ابن عباس ومجاهد: الخطاب لليهود، أي لنا ديننا ولكم دينكم. قال: ثم نسخت بقوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " (2) [ التوبة: 29 ] الآية. قال مجاهد: ومعنى " لا حجة بيننا وبينكم " لا خصومة بيننا وبينكم. وقيل: ليس بمنسوخ، (1) راجع ج‍ 1 ص 157 طبعة ثانية أو ثالثة. (2) آية 66 سورة غافر. (3) آية 29 سورة التوبة. (*)
[ 14 ]
لان البراهين قد ظهرت، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدال. قال النحاس: ويجوز أن يكون معنى " لا حجة بيننا وبينكم " على ذلك القول: لم يؤمر أن يحتج عليكم ويقاتلكم، ثم نسخ هذا. كما أن قائلا لو قال من قبل أن تحول القبلة: لا تصل إلى الكعبة، ثم حول الناس بعد، لجاز أن يقال نسخ ذلك. " الله يجمع بيننا " يريد يوم القيامة. " وإليه المصير " أي فهو يحكم بيننا إذا صرنا إليه، ويجازي كلا بما كان عليه. وقيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش، على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته. قوله تعالى: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16) قوله تعالى: " والذين يحاجون في الله " رجع إلى المشركين. " من بعد ما استجيب له " قال مجاهد: من بعد ما أسلم الناس. قال: وهؤلاء قد توهموا أن الجاهلية تعود. وقال قتادة: الذين يحاجون في الله اليهود والنصارى، ومحاجتهم قولهم نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم، وكانوا يرون لانفسهم الفضيلة بأنهم أهل الكتاب وأنهم أولاد الانبياء. وكان المشركون يقولون: " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " (1) [ مريم: 73 ] فقال الله تعالى: " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم " أي لا ثبات لها كالشئ الذي يزل عن موضعه. والهاء في " له " يجوز أن يكون لله عز وجل، أي من بعد ما وحدوا الله وشهدوا له بالوحدانية. ويجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، أي من بعد ما استجيب لمحمد صلى الله عليه وسلم في دعوته من أهل بدر ونصر الله المؤمنين. يقال: دحضت حجته دحوضا بطلت. وأدحضها الله. والادحاض: الازلاق. ومكان دحض ودحض أيضا (1) آية 73 سورة مريم. (*)
[ 15 ]
(بالتحريك) أي زلق. ودحضت رجله تدحض دحضا زلقت. ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت. " وعليهم غضب " يريد في الدنيا. " ولهم عذاب شديد " يريد في الآخرة عذاب دائم. قوله تعالى: الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17) قوله تعالى: " الله الذي أنزل الكتاب " يعني القرآن وسائر الكتب المنزلة. " بالحق " أي بالصدق. " والميزان " أي العدل، قاله ابن عباس وأكثر المفسرين. والعدل يسمى ميزانا، لان الميزان آلة الانصاف والعدل. وقيل: الميزان ما بين في الكتب مما يجب على الانسان أن يعمل به. وقال قتادة: الميزان العدل فيما أمر به ونهى عنه. وهذه الاقوال متقاربة المعنى. وقيل: هو الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. وقيل: إنه الميزان نفسه الذي يوزن به، أنزله من السماء وعلم العباد الوزن به، لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس، قال الله تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " (1) [ الحديد: 25 ]. قال مجاهد: هو الذي يوزن به. ومعنى أنزل الميزان. هو إلهامه للخلق أن يعملوه ويعملوا [ به ]. وقيل: الميزان محمد صلى الله عليه وسلم، يقضي بينكم بكتاب الله. " وما يدريك لعل الساعة قريب " فلم يخبره بها. يحضه على العمل بالكتاب والعدل والسوية، والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئ اليوم الذي يكون فيه المحاسبة ووزن الاعمال، فيوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف. ف‍ " لعل الساعة قريب " أي منك وأنت لا تدري. وقال: " قريب " ولم يقل قريبة، لان تأنيثها غير حقيقي لانها كالوقت، قاله الزجاج. والمعنى: لعل البعث أو لعل مجئ الساعة قريب. وقال الكسائي: " قريب " نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد، قال الله تعالى: " إن رحمة الله قريب من المحسنين " (2) [ الاعراف: 56 ] قال الشاعر: وكنا قريبا والديار بعيدة * فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا (1) آية 25 سورة الحديد. (2) آية 56 سورة الاعراف. راجع ج‍ 7 ص 227.
[ 16 ]
قوله تعالى: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18) قوله تعالى: " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " يعني على طريق الاستهزاء، ظنا منهم أنها غير آتية، أو إيهاما للضعفة أنها لا تكون. " والذين آمنوا مشفقون منها " أي خائفون وجلون لاستقصارهم أنفسهم مع الجهد في الطاعة، كما قال: " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون " (1) [ المؤمنون: 60 ]. " ويعلمون أنها الحق " أي التي لا شك فيها. " ألا إن الذين يمارون في الساعة " أي يشكون ويخاصمون في قيام الساعة. " لفي ضلال بعيد " أي عن الحق وطريق الاعتبار، إذ لو تذكروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة إلى أن بلغوا ما بلغوا، قادر على أن يبعثهم. قوله تعالى: الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوى العزيز (19) قوله تعالى: " الله لطيف بعباده " قال ابن عباس: حفي بهم. وقال عكرمة: بار بهم. وقال السدي: رفيق بهم. وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم. وقال القرظي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة. قال: غدا عند مولى الخلق للخلق موقف * يسائلهم فيه الجليل ويلطف وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: يلطف بهم في الرزق من وجهين: أحدهما - أنه جعل رزقك من الطيبات. والثاني - أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذوه. وقال الحسين بن الفضل: لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره. وقال الجنيد: لطيف (1) آية 60 سورة المؤمنون. (*)
[ 17 ]
بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه. وقال محمد بن علي الكتاني: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكل عليه ورجع إليه، فحينئذ يقبله ويقبل عليه. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يطلع على القبور الدوارس فيقول عز وجل امحت آثارهم واضمحلت صورهم وبقي عليهم العذاب وأنا اللطيف وأنا أرحم الراحمين خففوا عنهم العذاب فيخفف عنهم العذاب). قال أبو علي الثقفي رضي الله عنه: أمر بأفناء القبور كأنني * أخو فطنة والثواب فيه نحيف ومن شق فاه الله قدر رزقه * وربي بمن يلجأ إليه لطيف وقيل: اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب ويستر عليهم المثالب، وعلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا من أظهر الجميل وستر القبيح). وقيل: هو الذي يقبل القليل ويبذل الجزيل. وقيل: هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير. وقيل: هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله. وقيل: هو الذي يبذل لعبده النعمة فوق الهمة ويكلفه الطاعة فوق الطاقة، قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (1) [ النحل: 18 ] " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " (2) [ لقمان: 20 ]، وقال: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (3) [ الحج: 78 ]، " يريد الله أن يخفف عنكم " (4) [ النساء: 28 ]. وقيل: هو الذي يعين على الخدمة ويكثر المدحة. وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه. وقيل: هو الذي لا يرد سائله ولا يوئس آمله. وقيل: هو الذي يعفو عمن يهفو. وقيل: هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه. وقيل: هو الذي أوقد في أسرار العارفين من المشاهدة سراجا، وجعل الصراط المستقيم لهم منهاجا، وأجزل لهم من سحائب بره ماء ثجاجا. وقد مضى في " الانعام " قول أبي العالية والجنيد أيضا (5). وقد ذكرنا جميع هذا في (الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى) عند اسمه اللطيف، والحمد لله. " يرزق من يشاء " ويحرم من يشاء. وفي تفضيل قوم بالمال حكمة، ليحتاج (1) آية 34 سورة إبراهيم. (2) آية 20 سورة لقمان. (3) آية 78 سورة الحج. (4) آية 28 سورة النساء. (5) راجع ج‍ 7 ص 57 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 18 ]
البعض إلى البعض، كما قال: " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " (1) [ الزخرف: 32 ]، فكان هذا لطفا بالعباد. وأيضا ليمتحن الغني بالفقير والفقير بالغني، كما قال: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " [ الفرقان: 20 ] على ما تقدم بيانه. (2) " وهو القوي العزيز " قوله تعالى: من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب (20) قوله تعالى: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " الحرث العمل والكسب. ومنه قول عبد الله بن عمر: واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. ومنه سمى الرجل حارثا. والمعنى: أي من طلب بما رزقناه حرثا لآخرته، فأدى حقوق الله وأنفق في إعزاز الدين، فإنما نعطيه ثواب ذلك للواحد عشرا إلى سبعمائة فأكثر. " ومن كان يريد حرث الدنيا " أي طلب بالمال الذي آتاه الله رياسة الدنيا والتوصل إلى المحظورات، فإنا لا نحرمه الرزق أصلا، ولكن لا حظ له في الآخرة من ماله، قال الله تعالى: " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا " (3) [ الاسراء: 18 - 19 ]. وقيل: " نزد له في حرثه " نوفقه للعبادة ونسهلها عليه. وقيل: حرث الآخرة الطاعة، أي من أطاع فله الثواب. وقيل: " نزد له في حرثه " أي نعطيه الدنيا مع الآخرة. وقيل: الآية في الغزو، أي من أراد بغزوه الآخرة أوتي الثواب، ومن أراد بغزوه الغنيمة أوتي منها. قال القشيري: والظاهر أن الآية في الكافر، يوسع له في الدنيا، أي لا ينبغي له أن يغتر بذلك لان الدنيا لا تبقى. وقال قتادة: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. وقال أيضا: يقول الله تعالى: (من عمل لآخرته زدناه في عمله وأعطيناه من الدنيا ما كتبنا له ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة (1) آية 32 سورة الزخرف. (2) آية 20 سورة الفرقان. راجع ج‍ 13 ص 18 (3) آية 18 وما بعدها سورة الاسراء. (*)
[ 19 ]
إلا النار ولم يصب من الدنيا إلا رزقا قد قسمناه له لا بد أن كان يؤتاه مع إيثار أو غير إيثار). وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقوله عز وجل: " من كان يريد حرث الآخرة " من كان من الابرار يريد بعمله الصالح ثواب الآخرة " نزد له في حرثه " أي في حسناته. " ومن كان يريد حرث الدنيا " أي من كان من الفجار يريد بعمله الحسن الدنيا " نؤته منها " ثم نسخ ذلك في سبحان: " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " (1) [ الاسراء. 18 ]. والصواب أن هذا ليس بنسخ، لان هذا خبر والاشياء كلها بإرادة الله عز وجل. ألا ترى أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت). وقد قال قتادة ما تقدم ذكره، وهو يبين لك أن لا نسخ. وقد ذكرنا في " هود " أن هذا من باب المطلق والمقيد، وأن النسخ لا يدخل في الاخبار (2). والله المستعان. مسألة: هذه الآية تبطل مذهب أبي حنيفة في قوله: إنه من توضأ تبردا أنه يجزيه عن فريضة الوضوء الموظف عليه، فإن فريضة الوضوء من حرث الآخرة والتبرد من حرث الدنيا، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا تجزي نيته عنه بظاهر هذه الآية، قاله ابن العربي. قوله تعالى: أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21) قوله تعالى: " أم لهم شركاء " أي ألهم ! والميم صلة والهمزة للتقريع. وهذا متصل بقوله: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " [ الشورى: 13 ]، وقوله تعالى: " الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان " [ الشورى: 17 ] كانوا لا يؤمنون به، فهل لهم آلهة شرعوا لهم الشرك الذي لم يأذن به الله ! وإذا استحال هذا فالله لم يشرع الشرك، فمن أين يدينون به. " ولولا كلمة الفصل " يوم (1) آية 18 (2) راجع ج‍ 9 ص 14 (*)
[ 20 ]
القيامة حيث قال: " بل الساعة موعدهم " [ القمر: 46 ]. " لقضي بينهم " في الدنيا، فعاجل الظالم بالعقوبة وأثاب الطائع. " وإن الظالمين " أي المشركين. " لهم عذاب أليم " في الدنيا القتل والاسر والقهر، وفي الآخرة عذاب النار. وقرأ ابن هرمز " وأن " بفتح الهمزة على العطف على " ولولا كلمة " والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجواب " لولا " جائز. ويجوز أن يكون موضع " أن " رفعا على تقدير: وجب أن الظالمين لهم عذاب أليم، فيكون منقطعا مما قبله كقراءة الكسر، فاعلمه. قوله تعالى: ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير (22) قوله تعالى: " ترى الضالمين مشفقين " أي خائفين " مما كسبوا " أي من جزاء ما كسبوا. والظالمون ها هنا الكافرون، بدليل التقسيم بين المؤمن والكافر. " وهو واقع بهم " أي نازل بهم. " والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات " الروضة: الموضع النزه الكثير الخضرة. وقد مضى في " الروم ". (1) " لهم ما يشاءون عند ربهم " أي من النعيم والثواب الجزيل. " ذلك هو الفضل الكبير " أي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته، لان الحق إذا قال كبير فمن ذا الذي يقدر قدره. قوله تعالى: ذلك الذي يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الصالحات قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23) (1) راجع ج‍ 14 ص 11 (*)
[ 21 ]
قوله تعالى: " ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا " قرئ " يبشر " من بشره، " ويبشر " من أبشره، " ويبشر " من بشره، وفيه حذف، أي يبشر الله به عباده المؤمنين ليتعجلوا السرور ويزدادوا منه وجدا في الطاعة. قوله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا " أي قل يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة جعلا. " إلا المودة في القربى " قال الزجاج: " إلا المودة " استثناء ليس من الاول، أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني. والخطاب لقريش خاصة، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم. قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها، فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش، فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، فقال الله له: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " إلا أن تودوني في قرابتي منكم، أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني. ف‍ " القربى " ها هنا قرابة الرحم، كأنه قال: اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. قال عكرمة: وكانت قريش تصل أرحامها فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعته، فقال: (صلوني كما كنتم تفعلون). فالمعنى على هذا: قل لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي، على أنه استثناء ليس من الاول، ذكره النحاس. وفي البخاري عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: " إلا المودة في القربى " فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت ! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بينكم من القرابة. فهذا قول. وقيل: القربى قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي، كما أمر بإعظامهم ذوي القربى. وهذا قول علي بن حسين وعمرو بن شعيب والسدي. وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما أنزل الله عز وجل: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قالوا: يا رسول الله، من
[ 22 ]
هؤلاء الذين نودهم ؟ قال: (علي وفاطمة وأبناؤهما). ويدل عليه أيضا ما روي عن علي رضي الله عنه قال: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي. فقال: (أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذريتنا خلف أزواجنا). وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن أصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة). وقال الحسن وقتادة: المعنى إلا أن يتوددوا إلى الله عز وجل ويتقربوا إليه بطاعته. ف‍ " القربى " على هذا بمعنى القربة. يقال: قربة وقربى بمعنى، كالزلفة والزلفى. وروى قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قل لا أسألكم على ما آتيتكم به أجرا إلا أن توادوا وتقربوا إليه بالطاعة). وروى منصور وعوف عن الحسن " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قال: يتوددون إلى الله عز وجل ويتقربون منه بطاعته. وقال قوم: الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، وأمرهم الله بمودة نبيه صلى الله عليه وسلم وصلة رحمه، فلما هاجر آوته الانصار ونصروه، وأراد الله أن يلحقه بإخوانه من الانبياء حيث قالوا: " وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين " (1) [ الشعراء: 109 ] فأنزل الله تعالى: " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله " (2) [ سبأ: 47 ] فنسخت بهذه الآية وبقوله: " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " (3) [ ص: 86 ]، وقوله. " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير " (4) [ المؤمنون: 72 ]، وقوله: " أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون " (5) [ الطور: 40 ]، قاله الضحاك والحسين بن الفضل. ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. قال الثعلبي: وليس بالقوي، وكفى قبحا بقول من يقول: إن التقرب إلى الله بطاعته ومودة نبيه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته منسوخ، وقد (1) آية 109 و 127 و 145 و 164 و 180 سورة الشعراء. (2) آية 47 سورة سبأ. (3) آية 86 سورة ص. (4) آية 72 سورة المؤمنون. (5) آية 40 سورة الطور وآية 46 (*) سورة القلم
[ 23 ]
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات على حب آل محمد مات شهيدا. ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار قبره الملائكة والرحمة. ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه أيس اليوم من رحمة الله. ومن مات على بغض آل محمد لم يرح (1) رائحة الجنة. ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي). قلت: وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا فقال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الايمان. ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير. ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة. ألا ومن مات في حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة. ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه أيس من رحمة الله. ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا. ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة). قال النحاس: ومذهب عكرمة ليست بمنسوخة، قال: كانوا يصلون أرحامهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعوه فقال: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا أن تودوني وتحفظوني لقرابتي ولا تكذبوني). قلت: وهذا هو معنى قول ابن عباس في البخاري والشعبي عنه بعينه، وعليه لا نسخ. قال النحاس: وقول الحسن حسن، ويدل على صحته الحديث المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنا أحمد بن محمد الازدي قال أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي قال أخبرنا أسد ابن موسى قال حدثنا قزعة - وهو ابن يزيد (2) البصري - قال حدثنا عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا أسئلكم على ما أنبئكم به من البينات والهدى أجرأ إلا أن توادوا الله عز وجل وأن تتقربوا إليه بطاعته). فهذا المبين عن الله عز وجل قد قال هذا، وكذا قالت الانبياء صلى الله عليه وسلم قبله: " إن أجري إلا على الله " [ سبأ: 47 ]. (1) أي لم يشم ريحها، يقال: راح يريح، وراح يراح، وأراح يريح. والثلاثة قد روى بها الحديث. (2) تقدم أنه قزعة بن سويد، وهو ممن يروى عن ابن ابي نجيح. (راجع تهذيب التهذيب). (*)
[ 24 ]
الثانية - واختلفوا في سبب نزولها، فقال ابن عباس: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه، فقالت الانصار: إن هذا الرجل هداكم الله به وهو ابن أخيكم، وتنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه فنجمع له، ففعلوا، ثم أتوه به فنزلت. وقال الحسن: نزلت حين تفاخرت الانصار والمهاجرون، فقالت الانصار نحن فعلنا، وفخرت المهاجرون بقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى مقسم عن ابن عباس قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فخطب فقال للانصار: (ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله بي. ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي. ألم تكونوا خائفين فأمنكم الله بي ألا تردون علي) ؟ فقالوا: بم نجيبك ؟ قال. (تقولون ألم يطردك قومك فآويناك. ألم يكذبك قومك فصدقناك...) فعدد عليهم. قال: فجثوا على ركبهم فقالوا: أنفسنا وأموالنا لك، فنزلت: " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ". وقال قتادة: قال المشركون لعل محمدا فيما يتعاطاه يطلب أجرا، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودته ومودة أقربائه. قال الثعلبي: وهذا أشبه بالآية، لان السورة مكية. قوله تعالى: " ومن يقترف حسنة " أي يكتسب. وأصل القرف الكسب، يقال: فلان يقرف لعياله، أي يكسب. والاقتراف الاكتساب، وهو مأخوذ من قولهم: رجل قرفة، إذا كان محتالا. وقد مضى في " الانعام " (1) القول فيه. وقال ابن عباس: " ومن يقترف حسنة " قال المودة لآل محمد صلى الله عليه وسلم. " نزد له فيها حسنا " أي نضاعف له الحسنة بعشر فصاعدا. " إن الله غفور شكور " قال قتادة: " غفور " للذنوب " شكور " للحسنات. وقال السدي: " غفور " لذنوب آل محمد عليه السلام، " شكور " لحسناتهم. قوله تعالى: أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24) (1) راجع ج‍ 7 ص 70 (*)
[ 25 ]
قوله تعالى: " أم يقولون افترى على الله كذبا " الميم صلة، والتقدير أيقولون افترى. واتصل الكلام بما قبل، لان الله تعالى لما قال: " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب " (1) [ الشورى: 15 ]، وقال " الله الذي أنزل الكتاب بالحق " (2) [ الشورى: 17 ] قال إتماما للبيان: " أم يقولون افترى على الله كذبا " يعني كفار قريش قالوا: إن محمدا اختلق الكذب على الله. " فإن يشإ الله يختم " شرط وجوابه " على قلبك " قال قتادة: يطبع على قلبك فينسيك القرآن، فأخبرهم الله أنه لو افترى عليه لفعل بمحمد ما أخبرهم به في هذه الآية. وقال مجاهد ومقاتل: " إن يشأ الله " يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم. وقيل: المعنى إن يشأ يزل تمييزك. وقيل: المعنى لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذبا لطبع على قلبك، قاله ابن عيسى. وقيل: فإن يشأ الله يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم وعاجلهم بالعقاب. فالخطاب له والمراد الكفار، ذكره القشيري. ثم ابتدأ فقال: " ويمح الله الباطل " قال ابن الانباري: " يختم على قلبك " تام. وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، مجازه: والله يمحو الباطل، فحذف منه الواو في المصحف، وهو في موضع رفع. كما حذفت من قوله " سندع الزبانية "، (3) [ العلق: 18 ]، " ويدع الانسان " (4) [ الاسراء: 11 ] ولانه عطف على قوله " يختم على قلبك ". وقال الزجاج: قول: " أم يقولون افترى على الله كذبا " تمام، وقوله: " ويمح الله الباطل " احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، أي لو كان ما أتى به باطلا لمحاه كما جرت به عادته في المفترين. " ويحق الحق " أي الاسلام فيثبته " بكلماته " أي بما أنزله من القرآن. " إنه عليم بذات الصدور " عام، أي بما في قلوب العباد. وقيل خاص. والمعنى أنك لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذبا لعلمه وطبع على قلبك. قوله تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون (25) (1) آية 15 من هذه السورة. (2) آية 17 من هذه السورة. (3) آية 18 سورة العلق. (4) آية 11 سورة الاسراء. (*)
[ 26 ]
قوله تعالى: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قال قوم في نفوسهم: ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم قد اتهموه فأنزل: " أم يقولون افترى على الله كذبا " الآية، فقال القوم: يا رسول الله، فإنا نشهد أنك صادق ونتوب. فنزلت: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ". قال ابن عباس: أي عن أوليائه وأهل طاعته. والآية عامة. وقد مضى الكلام في معنى التوبة وأحكامها (1)، ومضى هذا اللفظ في " براءة " (2) " ويعفو عن السيئات " أي عن الشرك قبل الاسلام. " ويعلم ما تفعلون " أي من الخير والشر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالتاء على الخطاب، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه. الباقون بالياء على الخبر، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لانه بين خبرين: الاول وهو " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " والثاني " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ". قوله تعالى: ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد (26) " الذين " في موضع نصب، أي ويستجيب الله الذين آمنوا، أي يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاع ببدنه. وقيل: يعطيهم مسألتهم إذا دعوه. وقيل: ويجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، يقال: أجاب واستجاب بمعنى، وقد مضى في " البقرة " (3). وقال ابن عباس: " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " يشفعهم في إخوانهم. " ويزيدهم من فضله " قال: يشفعهم في إخوان إخوانهم. وقال المبرد: معنى " ويستجيب الذين آمنوا " وليستدع الذين آمنوا الاجابة، هكذا حقيقة معنى استفعل. ف‍ " الذين " في موضع رفع. " والكافرون لهم عذاب شديد ". (1) راجع ج‍ 5 ص 90 وما بعدها. (2) آية 104 راجع ج‍ 8 ص 250 (3) راجع ج‍ 2 ص 308 وما بعدها طبعة ثانية. (*)
[ 27 ]
قوله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل يقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (27) فيه مسألتان: الاولى - في نزولها، قيل: إنها نزلت في قوم من أهل الصفة تمنوا سعة الرزق. وقال خباب بن الارت: فينا نزلت، نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت. " لو بسط " معناه وسع. وبسط الشئ نشره. وبالصاد أيضا. " لبغوا في الارض " طغوا وعصوا. وقال ابن عباس: بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس. وقيل أراد لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه، لقوله: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا) وهذا هو البغي، وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: لو جعلناهم سواء في المال لما انقاد بعضهم لبعض، ولتعطلت الصنائع. وقيل: أراد بالرزق المطر الذي هو سبب الرزق، أي لو أدام المطر لتشاغلوا به عن الدعاء، فيقبض تارة ليتضرعوا ويبسط أخرى ليشكروا. وقيل: كانوا إذا أخصبوا أغار بعضهم على بعض، فلا يبعد حمل البغي على هذا. الزمخشري: " لبغوا " من البغي وهو الظلم، أي لبغى هذا على ذاك وذاك على هذا، لان الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بقارون عبرة. ومنه قوله عليه السلام: (أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها). ولبعض العرب: وقد جعل الوسمي ينبت بيننا * وبين بني دودان نبعا وشوحطا (1) يعني أنهم أحيوا فحدثوا أنفسهم بالبغي والتغابن. أو من البغي وهو البذخ والكبر، أي لتكبروا في الارض وفعلوا ما يتبع الكبر من العلو فيها والفساد. " ولكن ينزل بقدر ما يشاء " أي ينزل أرزاقهم بقدر ما يشاء لكفايتهم. وقال مقاتل: " ينزل بقدر ما يشاء " يجعل من يشاء غنيا ومن يشاء فقيرا. (1) الوسمى: مطر أول الربيع. والنبع والشوحط: شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسى. وفي النسخ الاصل وبعض كتب التفسير: "... بني رومان ". ودودان: أبو قبيلة من أسد. (*)
[ 28 ]
الثانية - قال علماؤنا: أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه قاده ذلك إلى الفساد فيزوى عنه الدنيا، مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة فضيلة، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح. والامر على الجملة مفوض إلى مشيئته، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإني لاسرع شئ إلى نصرة أوليائي وإني لاغضب لهم كما يغضب الليث الحرد. وما ترددت في شئ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره إساءته ولا بد له منه. وما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه. وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا فإن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته. وإن من عبادي المؤمنين من يسألني الباب من العبادة وإني عليم أن لو أعطيته إياه لدخله العجب فأفسده. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لافسده الفقر. وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لافسده الغنى. وإني لادبر عبادي لعلمي بقلوبهم فإني عليم خبير). ثم قال أنس: اللهم إني من عبادك المؤمنين الذين لا يصلحهم إلا الغنى، فلا تفقرني برحمتك. قوله تعالى: وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد (28) قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو ويعقوب وابن وثاب والاعمش وحمزه والكسائي " ينزل " مخففا. الباقون بالتشديد. وقرأ ابن وثاب أيضا والاعمش وغيرهما " قنطوا " بكسر النون، وقد تقدم جميع هذا (1). والغيث المطر، وسمي الغيث غيثا لانه يغيث (1) راجع ج‍: 1 ص 36، 67 وج‍ 14 ص 34 (*)
[ 29 ]
الخلق. وقد غاث الغيث الارض أي أصابها. وغاث الله البلاد يغيثها غيثا. وغيثت الارض تغاث غيثا فهي أرض مغيثة ومغيوثة. وعن الاصمعي قال: مررت ببعض قبائل العرب وقد مطروا فسألت عجوزا منهم: أتاكم المطر ؟ فقالت: غثنا ما شئنا غيثا، أي مطرنا. وقال ذو الرمة: قاتل الله أمة بني فلان ما أفصحها ! قلت لها كيف كان المطر عندكم ؟ فقالت: غثنا ما شئنا. ذكر الاول الثعلبي والثاني الجوهري. وربما سمي السحاب والنبات غيثا. والقنوط الاياس، قاله قتادة وغيره. قال قتاده: ذكر أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، قحط المطر وقل الغيث وقنط الناس ؟ فقال: مطرتم إن شاء الله، ثم قرأ: " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ". والغيث ما كان نافعا في وقته، والمطر قد يكون نافعا وضارا في وقته وغير وقته، قال الماوردي. " وينشر رحمته " قيل المطر، وهو قول السدي. وقيل ظهور الشمس بعد المطر، ذكره المهدوي. وقال مقاتل: نزلت في حبس المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا، ثم أنزل الله المطر. وقيل: نزلت في الاعرابي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المطر يوم الجمعة في خبر الاستسقاء، ذكره القشيري، والله أعلم. " وهو الولي الحميد " " الولي " الذي ينصر أولياءه. " الحميد " المحمود بكل لسان. قوله تعالى: ومن ءاياته خلق السموات والارض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاة قدير (29) قوله تعالى: " ومن آياته خلق السموات والارض " أي علاماته الدالة على قدرته. " وما بث فيهما من دابة " قال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة والناس، وقد قال تعالى: " ويخلق ما لا تعلمون " (1) [ النحل: 8 ]. وقال الفراء: أراد ما بث في الارض دون السماء، كقوله: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " [ الرحمن: 22 ] وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقال أبو علي: تقديره وما بث في أحدهما، فحذف المضاف. وقوله: " يخرج منهما " أي من أحدهما. " وهو على جمعهم " أي يوم القيامة. " إذا يشاء قدير ". (1) آية 8 سورة النحل. (*)
[ 30 ]
قوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (30) وما أنتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (31) قوله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " قرأ نافع وابن عامر " بما كسبت " بغير فاء. الباقون " فبما " بالفاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم للزيادة في الحرف والاجر. قال المهدوي: إن قدرت أن " ما " الموصولة جاز حذف الفاء وإثباتها، والاثبات أحسن. وإن قدرتها التي للشرط لم يجز الحذف عند سيبويه، وأجازه الاخفش واحتج بقوله تعالى: " وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " (1) [ الانعام: 121 ]. والمصيبة هنا الحدود على المعاصي، قاله الحسن. وقال الضحاك: ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، قال الله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " ثم قال: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن، ذكره ابن المبارك عن عبد العزيز بن أبي رواد. قال أبو عبيد: إنما هذا على الترك، فأما الذي هو دائب في تلاوته حريص على حفظه إلا أن النسيان يغلبه فليس من ذلك في شئ. ومما يحقق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينسى الشئ من القرآن حتى يذكره، من ذلك حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: سمع قراءة رجل في المسجد فقال: (ماله رحمه الله لقد أذكرني آيات كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا). وقيل: " ما " بمعنى الذي، والمعنى الذي أصابكم فيما مضى بما كسبت أيديكم. وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل. وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه ! وقد روي هذا المعنى مرفوعا عنه رضي الله عنه، قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الآية: (يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم. والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه (1) آية 121 سورة الانعام. (*)
[ 31 ]
في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه). وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر). وقال الحسن: دخلنا على عمران بن حصين فقال رجل: لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع، فقال عمران: يا أخي لا تفعل ! فوالله إني لاحب الوجع ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله، قال الله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " فهذا مما كسبت يدي، وعفو ربي عما بقي أكثر. وقال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحه فقلت: يا أبا أمية، ما هذا ؟ قال: هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. وقال ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لاعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وقال أحمد بن أبي الحواري (1) قيل لابي سليماني الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ فقال: لانهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ". وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبد ا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها. وروي أن رجلا قال لموسى: يا موسى، سل الله لي في حاجة يقضيها لي هو أعلم بها، ففعل موسى، فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله، فقال موسى: ما بال هذا يا رب ؟ فقال الله تبارك وتعالى له: (يا موسى إنه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لاجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة). فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول: سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى ! ولكنه يفعل ما يشاء. قلت: ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى: " من يعمل سوءا يجز به " [ النساء: 123 ] وقد مضى القول فيه (2). قال علماؤنا: وهذا في حق المؤمنين، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة. وقيل: هذا خطاب للكفار، وكان إذا أصابهم شر قالوا: هذا بشؤم محمد، فرد عليهم وقال بل ذلك (1) ضبط كسكارى (بالفتح) أو أحد الحواريين (شرح القاموس). (2) ج‍ 5 ص 369 (*)
[ 32 ]
بشؤم كفركم. والاول اكثر وأظهر وأشهر. وقال ثابت البناني: إنه كان يقال ساعات الاذى يذهبن ساعات الخطايا. ثم فيها قولان: أحدهما - أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم، وفي الاطفال أن تكون مثوبة لهم. الثاني - أنها عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم والاطفال في غيرهم من والد ووالدة. " ويعفو عن كثير " أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدود، وهو مقتضى قول الحسن. وقيل: أي يعفو عن كثير من العصاة ألا يعجل عليهم بالعقوبة. " وما أنتم بمعجزين في الارض " أي بفائتين الله، أي لن تعجزوه ولن تفوتوه " وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " تقدم في غير موضع (1). قوله تعالى: ومن ءاياته الجوار في البحر كالاعلام (32) إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لايات لكل صبار شكور (33) قوله تعالى: " ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام " أي ومن علاماته الدالة على قدرته السفن الجارية في البحر كأنها من عظمها أعلام. والاعلام: الجبال، وواحد الجواري جارية، قال الله تعالى: " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية " (1) [ الحاقة: 11 ]. سميت جارية لانها تجري في الماء. والجارية: هي المرأة الشابة، سميت بذلك لانها يجري فيها ماء الشباب. وقال مجاهد: الاعلام القصور، واحدها علم، ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عنه أنها الجبال. وقال الخليل: كل شئ مرتفع عند العرب فهو علم. قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا: وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار " إن يشأ يسكن الرياح " كذا قرأه أهل المدينة " الرياح " بالجمع. " فيظللن رواكد على ظهره " أي فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر لا تجري. ركد الماء ركودا سكن. وكذلك الريح والسفينة، والشمس إذا قام قائم الظهيرة. وكل ثابت في مكان فهو راكد. وركد (1) راجع ج‍ 2 ص 69 طبعة ثانية. (2) آية 11 سورة الحاقة [ * ]
[ 33 ]
الميزان استوى. وركد القوم هدءوا. والمراكد: المواضع التي يركد فيها الانسان وغيره. وقرأ قتادة " فيظللن " بكسر اللام الاولى على أن يكون لغة، مثل ضللت (1) أضل. وفتح اللام وهي اللغة المشهورة. " إن في ذلك لآيات " أي دلالات وعلامات " لكل صبار شكور " أي صبار على البلوى شكور على النعماء. قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر. قال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر. قوله تعالى: أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير (34) ويعلم الذين يجادلون فئ اياتنا ما لهم من محيص (35) قوله تعالى: " أو يوبقهن بما كسبوا " أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيوبق السفن، أي يغرقهن بذنوب أهلها. وقيل: يوبق أهل السفن. " ويعف عن كثير " من أهلها فلا يغرقهم معها، حكاه الماوردي. وقيل: " ويعفو عن كثير " أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك. قال القشري: والقراءة الفاشية " ويعف " بالجزم، وفيها إشكال، لان المعنى: إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد ويهلكها بذنوب أهلها، فلا يحسن عطف " يعف " على هذا، لانه يصير المعنى: إن يشأ يعف، وليس المعنى ذلك بل المعنى الاخبار عن العفو من غير شرط المشيئة، فهو إذا عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى. وقد قرأ قوم " ويعفو " بالرفع، وهي جيدة في المعنى. " ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص " يعني الكفار، أي إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد علموا أنه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع (2)، ومضى القول في ركوب البحر في " البقرة " (3) وغيرها بما يغني عن إعادته. وقرأ نافع وابن عامر (1) في الاصول: " ظللت أظل " بالظاء المعجمة. والتصويب عن الكشاف. (2) راجع ج‍ 8 ص 325 وج‍ 13 ص 223 (3) راجع ج‍ 2 ص 195 طبعة ثانية. (*)
[ 34 ]
" ويعلم " بالرفع، الباقون بالنصب. فالرفع على الاستئناف بعد الشرط والجزاء، كقوله في سورة التوبة: " ويخزهم (1) وينصركم عليهم " [ التوبة: 14 ] ثم قال: " ويتوب الله على من يشاء " [ التوبة: 15 ] رفعا. ونظيره في الكلام: إن تأتني آتك وينطلق عبد الله. أو على أنه خبر ابتداء محذوف. والنصب على الصرف، كقوله تعالى: " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " (2) [ آل عمران: 142 ] صرف من حال الجزم إلى النصب استخفافا كراهية لتوالي الجزم، كقول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلك * ربيع الناس والشهر الحرام (3) ويمسك بعده بذناب عيش * أجب الظهر ليس له سنام (4) وهذا معنى قول الفراء، قال: ولو جزم " ويعلم " جاز. وقال الزجاج: نصب على إضمار " أن " لان قبلها جزما، تقول: ما تصنع أصنع مثله وأكرمك. وإن شئت قلت: وأكرمك بالجزم. وفي بعض المصاحف " وليعلم ". وهذا يدل على أن النصب بمعنى: وليعلم أو لان يعلم. وقال أبو علي والمبرد: النصب بإضمار " أن " على أن يجعل الاول في تقدير المصدر، أي ويكون منه عفو وأن يعلم، فلما حمله. على الاسم أضمر أن، كما تقول: إن تأتني وتعطيني أكرمك، فتنصب تعطيني، أي إن يكن منك إتيان وأن تعطيني. ومعنى " من محيص " أي من فرار ومهرب، قاله قطرب. السدي: من ملجأ وهو مأخوذ من قولهم: حاص به البعير حيصة إذا رمى به. ومنه قولهم: فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه. قوله تعالى: فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) (1) آية 14 (2) آية 142 سورة آل عمران. (3) أبو قابوس: كنيته النعمان بن المنذر، يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه، وكالشهر الحرام لجاره، أي لا يوصل إلى من أجاره. والمعنى: إن يمت النعمان يذهب خير الدنيا لانها كانت تعمر به وبجوده وعدله ونفعه للناس، ومن كان في ذمته وسلطانه فهو آمن على نفسه محقون الدم كما يأمن الناس في الشهر الحرام على أموالهم ودمائهم. (4) ذناب كل شئ: عقبه ومؤخره. وأجب الظهر مقطوع السنام. يقول: إن مات بقينا في طرف عيش قد مضى صدره ومعظمه وختره، وقد بقي منه ذنبه. (*)
[ 35 ]
قوله تعالى: " فما أوتيتم من شئ " يريد من الغنى والسعة في الدنيا. " فمتاع " أي فإنما هو متاع في أيام قليلة تنقضي وتذهب، فلا ينبغي أن يتفاخر به. والخطاب للمشركين. " وما عند الله خير وأبقى " يريد من الثواب على الطاعة " الذين آمنوا " صدقوا ووحدوا " وعلى ربهم يتوكلون " نزلت في أبي بكر الصديق حين أنفق جميع ماله في طاعة الله فلامه الناس. وجاء في الحديث أنه: أنفق ثمانين ألفا. قوله تعالى: والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " والذين يجتنبون " الذين في موضع جر معطوف على قوله: " خير وأبقى للذين آمنوا " أي وهو للذين يجتنبون " كبائر الاثم " وقد مضى القول في الكبائر في " النساء " (1). وقرأ حمزة والكسائي " كبائر الاثم " والواحد قد يراد به الجمع عند الاضافة، كقوله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (2) [ النحل: 18 ]، وكما جاء في الحديث: (منعت العراق درهمها وقفيزها). الباقون بالجمع هنا وفي " النجم ". (3) " والفواحش " قال السدي: يعني الزنى. وقاله ابن عباس، وقال: كبير الاثم الشرك. وقال قوم: كبائر الاثم ما تقع على الصغائر مغفورة عند اجتنابها. والفواحش داخلة في الكبائر، ولكنها تكون أفحش وأشنع كالقتل بالنسبة إلى الجرح، والزنى بالنسبة إلى المراودة. وقيل: الفواحش والكبائر بمعنى واحد، فكرر لتعدد اللفظ، أي يجتنبون المعاصي لانها كبائر وفواحش. وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود. الثانية - قوله تعالى: " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " أي يتجاوزون ويحملون عمن ظلمهم. قيل: نزلت في عمر حين شتم بمكة. وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على (1) آية 31 ج‍ 5 ص 158 وما بعدها. (2) آية 34 سورة إبراهيم. و 18 سورة النحل. (3) آية 32 (*)
[ 36 ]
انفاق مال كله وحين شتم فحلم. وعن علي رضي الله عنه قال: اجتمع لابي بكر مال مرة، فتصدق به كله في سبيل الخير، فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت: " فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - إلى قوله - وإذا ما غضبوا هم يغفرون ". وقال ابن عباس: شتم رجل من المشركين أبا بكر فلم يرد عليه شيئا، فنزلت الآية. وهذه من محاسن الاخلاق، يشفقون على ظالمهم ويصفحون لمن جهل عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه، لقوله تعالى في آل عمران: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " (1) [ آل عمران: 134 ]. وهو أن يتناولك الرجل فتكظم غيظك عنه. وأنشد بعضهم: إني عفوت لظالمي ظلمي * ووهبت ذاك له على علمي ما زال يظلمني وأرحمه * حتى بكيت له من الظلم قوله تعالى: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة " قال عبد الرحمن ابن زيد: هم الانصار بالمدينة، استجابوا إلى الايمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثنى عشر نقيبا منهم قبل الهجرة. " وأقاموا الصلاة " أي أدوها لمواقيتها بشروطها وهيئاتها. الثانية - قوله تعالى: " وأمرهم شورى بينهم " أي يتشاورون في الامور. والشورى مصدر شاورته، مثل البشرى والذكرى ونحوه. فكانت الانصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيه ثم عملوا عليه، فمدحهم الله تعالى به، قاله النقاش. وقال الحسن: أي إنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون، فمدحوا باتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لارشد أمورهم. وقال (1) آية 134 راجع ج‍ 4 ص 206 (*)
[ 37 ]
الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الايمان به والنصرة له. وقيل تشاورهم فيما يعرض لهم، فلا يستأثر بعضهم بخبر دون بعض. وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا. وقد قال الحكيم: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن * برأي لبيب أو مشورة حازم (1) ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فإن الخوافي قوة (1) للقوادم فمدح الله المشاورة في الامور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآراء كثير. ولم يكن يشاورهم في الاحكام، لانها منزلة من عند الله على جميع الاقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله تعالى به علينا فكانوا يتشاورون في الاحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والانصار ما سبق بيانه (3). وقال عمر رضي الله عنه: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا وتشاوروا في أهل الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال. وتشاوروا في الجد وميراثه، وفي حد الخمر وعدده. وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب، حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي، فقال له الهرمزان: مثلها ومثل من فيها من الناس من عدو المسلمين مثل طائر له ريش وله جناحان ورجلان فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ الرأس ذهب الرجلان والجناحان. والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر والآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى... وذكر الحديث. وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط ! إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون، فإن أصبت فهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون. (1) البيتان لبشار بن برد. والخوافي: ريشات إذا ضم الطائر جناحيه خفيت. والقوادم: عشر ريشات في مقدم الجناح وهي كبائر الريش. (2) في الاصول " نافع ". (3) ح‍ 4 ص 224 (*)
[ 38 ]
الثالثة - قد مضى في " آل عمران " ما تضمنته الشورى من الاحكام عند قوله تعالى: " وشاورهم في الامر " (1) [ آل عمران: 159 ]. والمشورة بركة. والمشورة: الشورى، وكذلك المشورة (بضم الشين)، تقول منه: شاورته في الامر واستشرته بمعنى. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الارض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الارض خير لكم من ظهرها). قال حديث غريب. " مما رزقناهم ينفقون " أي ومما أعطيناهم يتصدقون. وقد تقدم في " البقرة " (2). قوله تعالى: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (39) وجزاؤا سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور (43) فيه إحدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: " والذين إذا أصابهم البغي " أي أصابهم بغي المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة، فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الارض ونصرهم على من بغى عليهم، وذلك قوله في سورة الحج: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم (1) آية 159 راجع ج‍ 4 ص 248 وما بعدها. (2) راجع ج‍ 1 ص 178 وما بعدها. (*)
[ 39 ]
لقدير. الذين أخرجوا... (1) " [ الحج: 39 - 40 ] الآيات كلها. وقيل: هو عام في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذه إشارة إلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود. قال ابن العربي: ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للاخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين، إحداهما أن يكون الباغي معلنا بالفجور، وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق. الثانية - أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزلت " وأن تعفوا أقرب للتقوى " (2) [ البقرة: 237 ]. وقوله: " فمن تصدق به فهو كفارة له " (3) [ المائدة: 45 ]. وقوله: " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ". (4) [ النور: 22 ] قلت: هذا حسن، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه قال: قوله تعالى: " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل، ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة، وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق، فهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك. والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادما مقلعا. وقد قال عقيب هذه الآية: " ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ". ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الامر به، وقد عقبه بقوله: " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور ". وهو محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالافضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها. وقيل: أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه، قاله ابن بحر. وهو راجع إلى العموم على ما ذكرنا. (1) آية 39 راجع ج‍ 12 ص 67 (2) آية 237 سورة البقرة. (3) آية 45 سورة المائدة. (4) آية 22 سورة النور. (*)
[ 40 ]
الثانية - قوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قال العلماء: جعل الله المؤمنين صنفين، صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قوله " وإذا ما غضبوا هم يغفرون ". [ الشورى: 37 ]. وصنف ينتصرون من ظالمهم. ثم بين حد الانتصار بقوله: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي. قال مقاتل وهشام بن حجير: هذا في المجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره من سب أو شتم. وقاله الشافعي وأبو حنيفة وسفيان. قال سفيان: وكان ابن شبرمة يقول: ليس بمكة مثل هشام. وتأول الشافعي في هذه الآية أن للانسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه، واستشهد في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك) فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في " البقرة " (1). وقال ابن أبي نجيح: إنه محمول على المقابلة في الجراح. وإذا قال: أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله. ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب. وقال السدي: إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به، يعني كما كانت العرب تفعله. وسمي الجزاء سيئة لانه في مقابلتها، فالاول ساء هذا في مال أو بدن، وهذا الاقتصاص يسوءه بمثل ذلك أيضا، وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفى (1). الثالثة - قوله تعالى: " فمن عفا وأصلح " قال ابن عباس: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو " فأجره على الله " أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الاعمال الصالحة. وقد مضى في " آل عمران " (2) في هذا ما فيه كفاية، والحمد لله. وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقوم ناس من الناس، فيقال: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة، فيقولون إلى أين ؟ فيقولون إلى الجنة، قالوا قبل الحساب ؟ قالوا نعم قالوا من أنتم ؟ قالوا أهل الفضل، قالوا وما كان فضلكم ؟ قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا (1) راجع ج‍ 2 ص 335 (2) راجع ج‍ 4 ص 207 (*)
[ 41 ]
وإذا ظلمنا صبرنا وإذا سئ إلينا عفونا، قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. وذكر الحديث. " إنه لا يحب الظالمين " أي من بدأ بالظلم، قاله سعيد بن جبير. وقيل: لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد، قاله ابن عيسى. الرابعة - قوله تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه " أي المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لومه، بل يحمد على ذلك مع الكافر. ولا لوم إن انتصر الظالم من المسلم، فالانتصار من الكافر حتم، ومن المسلم مباح، والعفو مندوب. الخامسة - في قوله تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " دليل على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه. وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها - أن يكون قصاصا في بدن يستحقه آدمي، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان وثبت حقه عند الحكام، لكن يزجره الامام في تفوته بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدم. وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج، وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ ومعاقب. القسم الثاني - أن يكون حد الله تعالى لا حق لادمي فيه كحد الزنى وقطع السرقة، فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه، وإن ثبت عند حاكم نظر، فان كان قطعا في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه، ولم يجب عليه في ذلك حق لان التعزير أدب، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد لتعديه مع بقاء محله فكان مأخوذا بحكمه. القسم الثالث - أن يكون حقا في مال، فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به، وإن كان غير عالم نظر، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه. وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بينة تشهد له ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان: أحدهما - جوازه، وهو قول مالك والشافعي. الثاني - المنع، وهو قول أبي حنيفة. السادسة - قوله تعالى: " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس " أي بعدوانهم عليهم، في قول أكثر العلماء. وقال ابن جريج: أي يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم.
[ 42 ]
" ويبغون في الارض بغير الحق " أي في النفوس والاموال، في قول الاكثرين. وقال مقاتل: بغيهم عملهم بالمعاصي. وقال أبو مالك: هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الاسلام دينا. وعلى هذا الحد قال ابن زيد: إن هذا كله منسوخ بالجهاد، وإن هذا للمشركين خاصة. وقول قتادة: إنه عام، وكذا يدل ظاهر الكلام. وقد بيناه والحمد لله. السابعة - قال ابن العربي: هذه الآية في مقابلة الآية المتقدمة في " براءة " وهي قوله " ما على المحسنين من سبيل " (1) [ التوبة: 91 ]، فكما نفى الله السبيل عمن أحسن فكذلك نفاها (2) على من ظلم، واستوفى ببان القسمين. الثامنة - واختلف علماؤنا في السلطان يضع على أهل بلد مالا معلوما بأخذهم به ويؤدونه على قدر أموالهم، هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم. فقيل لا، وهو قول سحنون من علمائنا. وقيل: نعم، له ذلك إن قدر على الخلاص، وإليه ذهب أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي ثم المالكي. قال: ويدل عليه قول مالك في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب إنها مظلمة على من أخذت له لا يرجع على أصحابه بشئ. قال: ولست آخذ بما روي عن سحنون، لان الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحد أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره، والله سبحانه يقول: " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ". التاسعة - واختلف العلماء في التحليل، فكان ابن المسيب لا يحلل أحدا من عرض ولا مال. وكان سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين يحللان من العرض والمال. ورأى مالك التحليل من المال دون العرض. روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك وسئل عن قول سعيد بن المسيب " لا أحلل أحدا " فقال: ذلك يختلف، فقلت له يا أبا عبد الله، الرجل يسلف الرجل فيهلك ولا وفاء له ؟ قال: أرى أن يحلله وهو أفضل عندي، فان الله تعالى يقول " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " [ الزمر: 18 ]. فقيل له: الرجل يظلم الرجل ؟ (1) آية 91 (2) في ابن العربي: " أثبتها ". (*)
[ 43 ]
فقال: لا أرى ذلك، هو عندي مخالف للاول، يقول الله تعالى " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس " ويقول تعالى " ما على المحسنين من سبيل " [ التوبة: 91 ] فلا أرى أن يجعله من ظلمه في حل. قال ابن العربي: فصار في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها لا يحلله بحال، قاله سعيد ابن المسيب. الثاني - يحلله، قاله محمد بن سيرين. الثالث - إن كان مالا حلله وإن كان ظلما لم يحلله، وهو قول مالك. وجه الاول ألا يحلل ما حرم الله، فيكون كالتبديل لحكم الله. ووجه الثاني أنه حقه فله أن يسقط كما يسقط دمه وعرضه. ووجه الثالث الذي اختاره مالك هو أن الرجل إذا غلب على أداء حقك فمن الرفق به أن يتحلله، وان كان ظالما فمن الحق ألا تتركه لئلا تغتر الظلمة (1) ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة. وفي صحيح مسلم حديث أبي اليسر الطويل وفيه أنه قال لغريمه: اخرج الي، فقد علمت أين أنت، فخرج، فقال: ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وان أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت والله معسرا. قال قلت: آلله ؟ قال الله (2)، قال: فأتى بصحيفة فمحاها فقال: إن وجدت قضاء فآقض، وإلا فأنت في حل... وذكر الحديث. قال ابن العربي: وهذا في الحي الذي يرجى له الاداء لسلامة الذمة ورجاء التمحل (3)، فكيف بالميت الذي لا محاللة له ولا ذمة معه. العاشرة - قال بعض العلماء: إن من ظلم وأخذ له مال فإنما له ثواب ما احتبس عنه إلى موته، ثم يوجع الثواب إلى ورثته، ثم كذلك إلى آخرهم، لان المال يصير بعده للوارث. قال أبو جعفر الداودي المالكي: هذا صحيح في النظر، وعلى هذا القول إن مات الظالم قبل من ظلمه ولم يترك شيئا أو ترك ما لم يعلم وارثه فيه بظلم لم تنتقل تباعة المظلوم إلى ورثة الظالم، لانه لم يبق للظالم ما يستوجبه ورثة المظلوم. (1) في بعض الاصول: " ويستسرون " وفي البعض الآخر: " ويستشرون ". (2) قال النووي " الاول بهمزة ممدودة على الاستفهام، والثاني بلا مد، والهاء فيهما مكسورة. قال القاضي: ورويناه بفتحهما معا، وأكثر أهل العربية لا يجيزون إلا الكسر ". (3) في ابن العربي: " التحلل " وقد كتب على هامش نسخة من الاصل بخط الناسخ: " يقال تمحل أي احتال فهو متمحل قاله الجوهري ". [ * ]
[ 44 ]
الحادية عشرة - قوله تعالى: " ولمن صبر وغفر " أي صبر على الاذى و " غفر " أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى، وهذا فيمن ظلمه مسلم. ويحكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن: عقلها والله ! وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الامر في بعض الاحوال فيرجع ترك العفو مندوبا إليه كما تقدم، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الاذى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه، وهو أن زينب أسمعت عائشة رضي الله عنهما بحضرته فكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة: (دونك فانتصري) خرجه مسلم في صحيحه بمعناه. وقيل: " صبر " عن المعاصي وستر على المساوئ. " إن ذلك لمن عزم الامور " أي من عزائم الله التي أمر بها. وقيل من عزائم الصواب التي وفق لها. وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها، وقد شتمه بعض الانصار فرد عليه ثم أمسك. وهي المدنيات من هذه السورة. وقيل: هذه الآيات في المشركين، وكان هذا في ابتداء الاسلام قبل الامر بالقتال ثم نسختها آية القتال، وهو قول ابن زيد، وقد تقدم. وفي تفسير ابن عباس " ولمن انتصر بعد ظلمه " يريد حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة وعليا وجميع المهاجرين رضوان الله عليهم. " فأولئك ما عليهم من سبيل " يريد حمزة بن عبد المطلب وعبيدة وعليا رضوان الله عليهم أجمعين. " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس " يريد عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأبا جهل والاسود، وكل من قاتل من المشركين يوم بدر. " ويبغون في الارض " يريد بالظلم والكفر. " أولئك لهم عذاب أليم " يريد وجيع. " ولمن صبر وغفر " يريد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح ومصعب بن عمير وجميع أهل بدر رضوان الله عليهم أجمعين. " إن ذلك لمن عزم الامور " حيث قبلوا الفداء وصبروا على الاذى. قوله تعالى: ومن يظلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل (44)
[ 45 ]
قوله تعالى: " ومن يظلل الله " أي يخذله " فما له من ولي من بعده " هذا فيمن أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما دعاه إليه من الايمان بالله والمودة في القربى، ولم يصدقه في البعث وأن متاع الدنيا قليل. أي من أضله الله عن هذه الاشياء فلا يهديه هاد. قوله تعالى: " وترى الظالمين " أي الكافرين. " لما رأوا العذاب " يعني جهنم. وقيل رأوا العذاب عند الموت. " يقولون هل إلى مرد من سبيل " يطلبون أن يردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله فلا يجابون إلى ذلك. قوله تعالى: وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم (45) قوله تعالى: " وتراهم يعرضون عليها " أي على النار لانها عذابهم، فكنى عن العذاب المذكور بحرف التأنيث، لان ذلك العذاب هو النار، وإن شئت جهنم، ولو راعى اللفظ لقال عليه. ثم قيل: هم المشركون جميعا يعرضون على جهنم عند انطلاقهم إليها، قاله الاكثرون. وقيل: آل فرعون خصوصا، تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح، فهو عرضهم عليها، قاله ابن مسعود. وقيل: إنهم عامة المشركين، تعرض عليهم ذنوبهم في قبورهم، ويعرضون على العذاب في قبورهم، وهذا معنى قول أبي الحجاج. " خاشعين من الذل " ذهب بعض القراء إلى الوقف على " خاشعين ". وقوله: " من الذل " متعلق ب‍ " ينظرون ". وقيل: متعلق ب‍ " خاشعين ". والخشوع الانكسار والتواضع. ومعنى " ينظرون من طرف خفي " أي لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تاما، لانهم ناكسو الرؤوس. والعرب تصف الذليل بغض الطرف، كما يستعملون في ضده حديد النظر إذا لم يتهم بريبة فيكون عليه منها غضاضة. وقال مجاهد: " من طرف خفي " أي ذليل، قال: وإنما ينظرون بقلوبهم لانهم يحشرون عميا، وعين القلب طرف خفي. وقال قتادة والسدي والقرظي وسعيد بن جبير: يسارقون النظر من شدة الخوف. وقيل: المعنى ينظرون من
[ 46 ]
عين ضعيفة النظر. وقال يونس: " من " بمعنى الباء، أي ينظرون بطرف خفي، أي ضعيف من الذل والخوف، ونحوه عن الاخفش. وقال ابن عباس: بطرف ذابل ذليل. وقيل: أي يفزعون أن ينظروا إليها بجميع أبصارهم لما يرون من أصناف العذاب. " وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حل بالكفار إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإنهم خسروا أنفسهم لانهم في العذاب المخلد، وخسروا أهليهم لان الاهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينه وبينهم. وقيل: خسران الاهل أنهم لو آمنوا لكان لهم أهل في الجنة من الحور العين. وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: " أولئك هم الوارثون " [ المؤمنون: 10 ]. وقد تقدم (1). وفي مسند الدارمي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار وما منهن واحدة إلا ولها قبل شهي وله ذكر لا ينثني). قال هشام ابن خالد: (من ميراثه من أهل النار) يعني رجالا أدخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون. " إلا إن الظالمين في عذاب مقيم " أي دائم لا ينقطع. ثم يجوز أن يكون هذا من قول المؤمنين، ويجوز أن يكون ابتداء من الله تعالى قوله تعالى: وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يظلل الله فما له من سبيل (46) قوله تعالى: " وما كان لهم من أولياء " أي أعوانا ونصراء " ينصرونهم من دون الله " أي من عذابه " ومن يظلل الله فما له من سبيل " أي طريق يصل به إلى الحق في 0 الدنيا والجنة في الآخرة، لانه قد سدت عليه طريق النجاة. (1) راجع ج‍ 12 ص 108 (*)
[ 47 ]
قوله تعالى: استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير (47) قوله تعالى: " استجيبوا لربكم " أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه من الايمان به والطاعة. استجاب وأجاب بمعنى، وقد تقدم. " من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله " يريد يوم القيامة، أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به وجعله أجلا ووقتا. " ما لكم من ملجأ " أي من ملجأ ينجيكم من العذاب. " وما لكم من نكير " أي من ناصر ينصركم، قاله مجاهد. وقيل: النكير بمعنى المنكر، كالاليم بمعنى المؤلم، أي لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل بكم من العذاب، حكاه ابن أبى حاتم، وقاله الكلبي. الزجاج: معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها. وقيل: " من نكير " أي إنكار ما ينزل بكم من العذاب، والنكير والانكار تغيير المنكر. قوله تعالى: فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسان كفور (48) قوله تعالى: " فإن أعرضوا " أي عن الايمان " فما أرسلناك عليهم حفيظا " أي حافظا لاعمالهم حتى تحاسبهم عليها. وقيل: موكلا بهم لا تفارقهم دون أن يؤمنوا، أي ليس لك إكراههم على الايمان. " إن عليك إلا البلاغ " وقيل: نسخ هذا بآية القتال. " وإنا إذا أذقنا الانسان " الكافر. " منا رحمة " رخاء وصحة. " فرح بها " بطر بها. " وإن تصبهم سيئة " بلاء وشدة. " بما قدمت أيديهم فان الانسان كفور " أي لما تقدم من النعمة فيعدد المصائب وينسى النعم.
[ 48 ]
قوله تعالى: لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50) قوله تعالى: " لله ملك السماوات والارض يخلق ما يشاء " فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " لله ملك السموات والارض " ابتداء وخبر. " يخلق ما يشاء " من الخلق. " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " قال أبو عبيدة وأبو مالك ومجاهد والحسن والضحاك: يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناثا معهم، وأدخل الالف واللام على الذكور دون الاناث لانهم أشرف فميزهم بسمة التعريف. وقال واثلة بن الاسقع: إن من يمن المرأة تبكيرها بالانثى قبل الذكر، وذلك أن الله تعالى قال: " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " فبدأ بالاناث. " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا " قال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية، ثم تلد غلاما ثم تلد جارية. وقال محمد بن الحنفية: هو أن تلد توءما، غلاما وجارية، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. قال القتبي: التزويج ها هنا هو الجمع بين البنين والبنات، تقول العرب: زوجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار. " ويجعل من يشاء عقيما " أي لا يولد له، يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم. وعقمت المرأة تعقم عقما، مثل حمد يحمد. وعقمت تعقم، مثل عظم يعظم. وأصله القطع، ومنه الملك العقيم، أي تقطع فيه الارحام بالقتل والعقوق خوفا على الملك. وريح عقيم، أي لا تلقح سحابا ولا شجرا. ويوم القيامة يوم عقيم، لانه لا يوم بعده. ويقال: نساء عقم وعقم، قال الشاعر (1): عقم النساء فما يلدن شبيهه * إن النساء بمثله عقم (1) في لسان العرب: " قال أبو دهبل يمدح عبد الله بن الازرق المخزومي. وقيل هو للحزين الليثي ". (*)
[ 49 ]
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الانبياء خصوصا وإن عم حكمها. وهب للوط الاناث ليس معهن ذكر، ووهب لابراهيم الذكور ليس معهم أنثى، ووهب لاسماعيل وإسحاق الذكور والاناث، وجعل عيسى ويحيى عقيمين، ونحوه عن ابن عباس وإسحاق بن بشر. قال اسحاق: نزلت في الانبياء، ثم عمت. " يهب لمن يشاء إناثا " يعني لوطا عليه السلام، لم يولد له ذكر وإنما ولد له ابنتان. " ويهب لمن يشاء الذكور " يعني إبراهيم عليه السلام لم يولد له أنثى بل ولد له ثمانية ذكور. " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا " يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد له أربعة بنين وأربع بنات. " ويجعل من يشاء عقيما " يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام، لم يذكر عيسى. ابن العربي: قال علماؤنا " يهب لمن يشاء إناثا " يعني لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن. " ويهب لمن يشاء الذكور " يعني إبراهيم، كان له بنون ولم يكن له بنت. وقوله " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا " يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توءمين ذكرا وأنثى، ويزوج الذكر من هذا البطن من الانثى من البطن الآخر، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صلى الله عليه وسلم. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان له ذكور وإناث من الاولاد: القاسم والطيب والطاهر وعبد الله (1) وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم وهو من مارية القبطية. وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا، إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة، ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد، ويحق الامر، وتعمر الدنيا، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى. ففي الحديث: (إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه (2)، فتقول قط قط (3). وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر.) الثانية - قال ابن العربي: إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شئ، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شئ لا عن حاجة، فانه قدوس (1) القول الاصح أن الذكور ثلاثة: القاسم وعبد الله (ويسمى بالطيب والطاهر) وابراهيم. راجع شرح المواهب اللدنية. (2) قال القسطلاني: " أي يذللها تذليل من يوضع تحت الرجل، والعرب تضع الامثال بالاعضاء ولا تريد أعيانها كقولها للنادم: سقط في يده ". (3) قوله: " قط قط " بكسر الطاء وسكونها فيهما، ويجوز التنوين مع الكسر والمعنى: حسبي حسبي قد اكتفيت. (*)
[ 50 ]
عن الحاجات سلام عن الآفات، كما قال القدوس السلام، فخلق آدم من الارض وخلق حواء من آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا على الوطئ كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا (1)). وكذلك في الصحيح أيضا (إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله). قلت: وهذا معنى حديث عائشة لا لفظه خرجه مسلم من حديث عروة بن الزبير عنها أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء ؟ فقال: (نعم) فقالت لها عائشة: تربت يداك وألت (2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك. إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه). قال علماؤنا: فعلى مقتضى هذا الحديث أن العلو يقتضي الشبه، وقد جاء في حديث ثوبان خرجه مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهودي: (ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا باذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا باذن الله...) الحديث. فجعل في هذا الحديث أيضا العلو يقتضي الذكورة والانوثة، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للاعمام والذكورة إن علا مني الرجل، وكذلك يلزم إن علا مني المرأة اقتران الشبه للاخوال والانوثة، لانهما معلولا علة واحدة، وليس الامر كذلك بل الوجود بخلاف ذلك، لانا نجد الشبه للاخوال والذكورة والشبه للاعمام والانوثة فتعين تأويل أحد الحديثين. والذي يتعين تأويله الذي في حديث ثوبان فيقال: إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم، ووجهه أن العلو لما كان معناه الغلبة من قولهم سابقني فلان فسبقته أي غلبته، ومنه قوله تعالى: (1) روى بالمد وتخفيف النون وبالقصر وتشديد النون. (2) قوله: " تربت يداك ". معناه: ما أصبت ! وهو في الاصل بمعنى صار في يدك التراب ولا أصبت خيرا أي افتقرت، لكن لا يريدون به الدعاء على المخاطب، كما يقولون: قاتله الله، إلى غير ذلك. قوله " وألت ": أي صاحت لما أصابها من شدة هذا الكلام. وروى بضم الهمزة مع التشديد، أي طعنت بالادلة وهي الحربة. قال ابن الاثير: وفيه بعد، لانه لا يلائم لفظ الحديث. (*)
[ 51 ]
" وما نحن بمسبوقين " [ الواقعة: 60 ] أي بمغلوبين قيل عليه: علا. ويؤيد هذا التأويل قوله في الحديث: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة أذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل آنثا). وقد بنى القاضي أبو بكر بن العربي على هذه الاحاديث بناء فقال: إن للماءين أربعة أحوال: الاول أن يخرج ماء الرجل أولا، الثاني أن يخرج ماء المرأة أولا، الثالث أن يخرج ماء الرجل أولا ويكون أكثر، الرابع أن يخرج ماء المرأة أولا ويكون أكثر. ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولا ثم يخرج ماء المرأة بعده ويكون أكثر أو بالعكس، فإذا خرج ماء الرجل أولا وكان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة. وإن خرج ماء المرأة أولا وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم الغلبة. وإن خرج ماء الرجل أولا لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة. وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلى من ماء المرأة كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل. قال: وبانتظام هذه الاقسام يستتب الكلام ويرتفع التعارض عن الاحاديث، فسبحان الخالق العليم. الثالثة - قال علماؤنا: كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الاولى الخنثى فأتي به فريض العرب ومعمرها (1) عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه، فلما جن عليه الليل تنكر موضعه، وأقض عليه مضجعه، وجعل يتقلى ويتقلب، وتجئ به الافكار وتذهب، إلى أن أنكرت خادمه حاله فقالت: ما بك ؟ قال لها: سهرت لامر قصدت به فلم أدر ما أقول فيه ؟ فقالت ما هو ؟ قال لها: رجل له ذكر وفرج كيف يكون حاله في الميراث ؟ قالت له الامة: ورثه من حيث يبول، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم وانقلبوا بها راضين. وجاء الاسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد علي رضي الله عنه فقضى فيها. وقد روى الفرضيون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث ؟ قال: من حيث يبول. وروي (1) في ابن العربي: " ومعتمدها ". ويقال أنه عاش ثلثمائة عام. (*)
[ 52 ]
أنه أتى بخنثى من الانصار فقال: (ورثوه من أول ما يبول). وكذا روى محمد بن الحنفية عن علي، ونحوه عن ابن عباس، وبه قال ابن المسيب وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وحكاه المزني عن الشافعي. وقال قوم: لا دلالة في البول، فان خرج البول منهما جميعا قال أبو يوسف: يحكم بالاكثر. وأنكره أبو حنيفة وقال: أتكيله ! ولم يجعل أصحاب الشافعي للكثرة حكما. وحكي عن علي والحسن أنهما قالا: تعد أضلاعه، فان المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد. وقد مضى ما للعلماء في هذا في آية المواريث في " النساء " (1) مجودا والحمد لله. الرابعة - قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد أنكر قوم من رءوس العوام وجود الخنثى، لان الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى. قلنا: هذا جهل باللغة، وغباوة عن مقطع الفصاحة، وقصور عن معرفة سعة القدرة. أما قدرة الله سبحانه فانه واسع عليم، وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى، لان الله تعالى قال: " لله ملك السموات والارض يخلق ما يشاء ". فهذا عموم مدح فلا يجوز تخصيصه، لان القدرة تقتضيه. وأما قوله " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما " فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الاول، والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره، وقد كان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الامام الشهيد من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية، فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله. قوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآى حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51) (1) راجع ج‍ 5 ص 65 فما بعدها. (*)
[ 53 ]
فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " سبب ذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن موسى لن ينظر إليه) فنزل قوله " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا "، ذكره النقاش والواحدي والثعلبي. " وحيا " قال مجاهد: نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاما، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي (1) إن نفسا لن تموت حتى تستكمل، رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. خذوا ما حل ودعوا ما حرم). " أو من وراء حجاب " كما كلم موسى. " أو يرسل رسولا " كارساله جبريل عليه السلام. وقيل: " إلا وحيا " رؤيا يراها في منامه، قاله محمد بن زهير. " أو من وراء حجاب " كما كلم موسى. " أو يرسل رسولا " قال زهير هو جبريل عليه السلام. " فيوحى بإذنه ما يشاء " وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للانبياء يسمعونه نطقا ويرونه عيانا. وهكذا كانت حال جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: نزل جبريل عليه السلام على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا عليهم السلام. فأما غيرهم فكان وحيا إلهاما في المنام. وقيل " إلا وحيا " بارسال جبريل " أو من وراء حجاب " كما كلم موسى. " أو يرسل رسولا " إلى الناس كافة. وقرأ الزهري وشيبة ونافع " أو يرسل رسولا فيوحي " برفع الفعلين. الباقون بنصبهما. فالرفع على الاستئناف، أي وهو يرسل. وقيل: " يرسل " بالرفع في موضع الحال، والتقدير إلا موحيا أو مرسلا. ومن نصب عطفوه على محل الوحي، لان معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حذف الجار من أن المضمرة. ويكون في موضع الحال، التقدير أو بأن يرسل رسولا. ولا يجوز أن يعطف " أو يرسل " بالنصب على " أن يكلمه " لفساد المعنى، لانه يصير: ما كان لبشر أن يرسله أو أن يرسل إليه رسولا، وهو قد أرسل الرسل من البشر وأرسل إليهم. (1) الروع (بالضم): القلب والعقل. والروع (بالفتح): الفزع. (*)
[ 54 ]
الثانية - احتج بهذه الآية من رأى فيمن حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا أنه حانث، لان المرسل قد سمي فيها مكلما للمرسل إليه، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يحلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا، فقال الثوري: الرسول ليس بكلام. وقال الشافعي: لا يبين أن يحنث. وقال النخعي: والحكم في الكتاب يحنث. وقال مالك: يحنث في الكتاب والرسول. وقال مرة: الرسول أسهل من الكتاب. وقال أبو عبيد: الكلام سوى الخط والاشارة. وقال أبو ثور: لا يحنث في الكتاب. قال ابن المنذر: لا يحنث في الكتاب والرسول. قلت: وهو قول مالك. قال أبو عمر: ومن حلف ألا يكلم رجلا فسلم عليه عامدا أو ساهيا، أو سلم على جماعة هو فيهم فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلم عليه في الصلاة لم يحنث. قلت: يحنث في الرسول إلا أن ينوي المشافهة، للآية، وهو قول مالك وابن الماجشون. وقد مضى في أول " سورة مريم " (1) هذا المعنى عن علمائنا مستوفى، والحمد لله. قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السموات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور (53) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك " أي وكالذي أوحينا إلى الانبياء من قبلك أوحينا إليك " روحا " أي نبوة، قاله ابن عباس. الحسن وقتادة: رحمة من عندنا. السدي: وحيا. الكلبي: كتابا. الربيع: هو جبريل. الضحاك: هو القرآن. وهو قول (1) راجع ج‍ 11 ص 86 (*)
[ 55 ]
مالك بن دينار. وسماه روحا لان فيه حياة من موت الجهل. وجعله من أمره بمعنى أنزله كما شاء على من يشاء من النظم المعجز والتأليف المعجب. ويمكن أن يحمل قوله " ويسئلونك عن الروح " [ الاسراء: 85 ] على القرآن أيضا " قل الروح من أمر ربي " [ الاسراء: 85 ] أي يسئلونك من أين لك هذا القرآن، قل إنه من أمر الله أنزله علي معجزا، ذكره القشيري. وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الارض. الثانية - قوله تعالى: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان " أي لم تكن تعرف الطريق إلى الايمان. وظاهر هذا يدل على أنه ما كان قبل الايحاء متصفا بالايمان. قال القشيري: وهو من مجوزات العقول، والذي صار إليه المعظم ان الله ما بعث نبيا إلا كان مؤمنا به قبل البعثة. وفيه تحكم، إلا أن يثبت ذلك بتوقيف مقطوع به. قال القاضي أبو الفضل عياض: وأما عصمتهم من هذا الفن (1) قبل النبوة فللناس فيه خلاف، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شئ من ذلك. وقد تعاضدت الاخبار والآثار عن الانبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والايمان، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم عليهم السلام. قال الله تعالى " وآتيناه الحكم صبيا " (2) [ مريم: 12 ] قال المفسرون: أعطي يحيى العلم بكتاب الله في حال صباه. قال معمر: كان ابن سنتين أو ثلاث، فقال له الصبيان: لم لا تلعب ! فقال: أللعب خلقت ! وقيل في قوله " مصدقا بكلمة من الله " (3) [ آل عمران: 39 ] صدق يحيى بعيسى وهو ابن ثلاث سنين، فشهد له أنه كلمة الله وروحه وقيل: صدقه وهو في بطن أمه، فكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك تحية له. وقد نص الله على كلام عيسى لامه عند ولادتها إياه بقوله " لا تحزني " [ مريم: 24 ] على قراءة من قرأ " من (1) كذا في الاصل. (2) آية 12 سورة مريم. (3) آية 39 سورة آل عمران. (*)
[ 56 ]
تحتها "، وعلى قول من قال إن المنادى عيسى ونص على كلامه في مهده فقال " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " [ مريم: 30 ]. وقال: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " (1) [ الانبياء: 79 ] وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قصة المرجومة وفي قصة الصبي ما اقتدى به أبوه داود. وحكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما. وكذلك قصة موسى مع فرعون وأخذه بلحيته وهو طفل. وقال المفسرون في قوله تعالى " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل " (2) [ الانبياء: 51 ]: أي هديناه صغيرا، قاله مجاهد وغيره. وقال ابن عطاء: اصطفاه قبل ابداء خلقه. وقال بعضهم: لما ولد إبراهيم بعث الله إليه ملكا يأمره عن الله تعالى أن يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال: قد فعلت، ولم يقل أفعل، فذلك رشده. وقيل: إن إلقاء إبراهيم في النار ومحنته كانت وهو ابن ست عشرة سنة. وإن ابتلاء إسحاق بالذبح وهو ابن سبع سنين. وإن استدلال إبراهيم بالكوكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمس عشرة سنة (3). وقيل أوحي إلى يوسف وهو صبي عندما هم إخوته بإلقائه في الجب بقوله تعالى: " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم (4) هذا " [ يوسف: 15 ] الآية، إلى غير ذلك من أخبارهم. وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولد حين ولد باسطا يديه إلى الارض رافعا رأسه إلى السماء، وقال في حديثه صلى الله عليه وسلم: (لما نشأت بغضت إلي الاوثان وبغض إلي الشعر ولم أهم بشئ مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أعد). ثم يتمكن الامر لهم، وتترادف نفحات الله تعالى عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم حتى يصلوا الغاية ويبلغوا باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة ولا رياضة. قال الله تعالى: " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما " (5) [ يوسف: 22 ]. قال القاضي: ولم ينقل أحد من أهل الاخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك. ومستند هذا الباب النقل. وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله. (1) آية 79 سورة الانبياء. (2) آية 51 سورة الانبياء. (3) في الاصول: " خمسة عشر شهرا " راجع ج‍ 7 ص 25. (4) آية 5 سورة يوسف. (5) آية 14 سورة القصص. (*)
[ 57 ]
قال القاضي: وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا عليه السلام بكل ما افترته، وعير كفار الامم أنبياءها بكل ما أمكنها واختلقته، مما نص الله عليه أو نقلته إلينا الرواة، ولم نجد في شئ من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهتهم وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه. ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين، وبتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركه آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الاعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة وقالوا " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " [ البقرة: 142 ] كما حكاه الله عنهم. الثالثة - وتكلم العلماء في نبينا صلى الله عليه وسلم، هل كان متعبدا بدين قبل الوحي أم لا، فمنهم من منع ذلك مطلقا وأحاله عقلا. قالوا: لانه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح. وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره عليه السلام وترك قطع الحكم عليه بشئ في ذلك، إذ لم يحل الوجهين منهما العقل ولا استبان عندها (1) في أحدهما طريق النقل، وهذا مذهب أبي المعالي. وقالت فرقة ثالثة: إنه كان متعبدا بشرع من قبله وعاملا به، ثم اختلف هؤلاء في التعيين، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى فإنه ناسخ لجميع الاديان والملل قبلها، فلا يجوز أن يكون النبي على دين منسوخ. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم، لانه من ولده وهو أبو الانبياء. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى، لانه أقدم الاديان. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون على دين ولكن عين الدين غير معلومة عندنا. وقد أبطل هذه الاقوال كلها أئمتنا، إذ هي أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة، وإن كان العقل يجوز ذلك كله. والذي يقطع به أنه عليه السلام لم يكن منسوبا إلى واحد من الانبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته ومخاطبا بكل شريعته، بل شريعته مستقلة بنفسها مفتتحة من عند الله الحاكم عز وجل وأنه (1) في الاصول: " عندهما ". (*)
[ 58 ]
صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر (1) ولا حضر حلف المطر (2) ولا حلف المطيبين (3)، بل نزهه الله وصانه عن ذلك. فإن قيل: فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثا بسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الاصنام فلم يشهدهم بعد ؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الامام أحمد بن حنبل جدا وقال: هذا موضوع أو شبيه بالموضوع. وقال الدارقطني: إن عثمان وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه عند أهل العلم من قوله: (بغضت إلي الاصنام) وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي، ورأى فيه علامات النبوة فاختبره بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما) فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال: (سل عما بدا لك). وكذلك المعروف من سيرته عليه السلام وتوفيق الله إياه له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، وكان يقف هو بعرفة، لانه كان (1) الموضع الذي يجتمعون للسمر فيه. (2) كذا في الاصول. (3) في الاصول: " المطيب ". قال ابن الاثير: " أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الاسلام بقوله صلوات الله عليه: (لا حلف في الاسلام). وما كان منه في الجاهلية على نصرة المضلوم وصلة الارحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة) يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الاسلام. والممنوع منه ما خالف حكم الاسلام ". ويلاحظ أنه قال صلى الله عليه وسلم: (شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين). اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه وتحالفوا على التناصر والاخذ من المظلوم للظالم، فسموا المطيبين. وقال عليه السلام: (شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الاسلام لاجبت). قال ابن الاثير: يعني حلف الفضول. (راجع نهاية ابن الاثير مادة حلف. طيب. فضل). (*)
[ 59 ]
موقف إبراهيم عليه السلام. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: " قل بل ملة إبراهيم " (1) [ البقرة: 135 ] وقال: " أن اتبع ملة إبراهيم " (2) [ النحل: 12 ] وقال: " شرع لكم من الدين " [ الشورى: 13 ] الآية. وهذا يقتضي أن يكون متعبدا بشرع. فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين، على ما تقدم بيانه في غير موضع وفي هذه السورة عند قوله " شرع لكم من الدين " (3) [ الشورى: 13 ] والحمد لله. الرابعة - إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ". فقال جماعة: معنى الايمان في هذه الآية شرائع الايمان ومعالمه، ذكره الثعلبي. وقيل: تفاصيل هذا الشرع، أي كنت غافلا عن هذه التفاصيل. ويجوز إطلاق لفظ الايمان على تفاصيل الشرع، ذكره القشيري: وقيل: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الايمان، ونحوه عن أبي العالية. وقال بكر القاضي: ولا الايمان الذي هو الفرائض والاحكام. قال: وكان قبل مؤمنا بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيمانا. وهذه الاقوال الاربعة متقاربة. وقال ابن خزيمة: عنى بالايمان الصلاة، لقوله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " [ البقرة: 143 ] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عاما والمراد الخصوص. وقال الحسين بن الفضل: أي ما كنت تدري ما الكتاب ولا أهل الايمان. وهو من باب حذف المضاف، أي من الذي يؤمن ؟ أبو طالب أو العباس أو غيرهما. وقيل: ما كنت تدري شيئا إذ كنت في المهد وقبل البلوغ. وحكى الماوردي نحوه عن علي بن عيسى قال: ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة، ولا الايمان لولا البلوغ. وقيل: ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك، ولا الايمان لولا هدايتنا لك، وهو محتمل. وفي هذا الايمان وجهان: أحدهما أنه الايمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته. والثاني - أنه دين الاسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة. (1) آية 135 سورة البقرة. (2) آية 123 سورة النحل. (3) آية 13 من هذه السورة. (*)
[ 60 ]
قلت: أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه، على ما تقدم. وقيل: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان " أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الايمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " (1) [ العنكبوت: 48 ] روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما. " ولكن جعلناه " قال ابن عباس والضحاك: يعني الايمان. السدي: القرآن. وقيل الوحي، أي جعلنا هذا الوحي " نورا نهدي به من نشاء " أي من نختاره للنبوة، كقوله تعالى: " يختص برحمته من يشاء " (2) [ آل عمران: 74 ]. ووحد الكنابة لان الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل في الاسم الواحد، ألا ترى أنك تقول: إقبالك وإدبارك يعجبني، فتوحد، وهما اثنان. " وإنك لتهدي " أي تدعو وترشد " إلى صراط مستقيم " دين قويم لا اعوجاج فيه. وقال علي: إلى كتاب مستقيم. وقرأ عاصم الجحدري وحوشب " وإنك لتهدى " غير مسمى الفاعل، أي لتدعى. الباقون " لتهدي " مسمى الفاعل. وفي قراءة أبي " وإنك لتدعو ". قال النحاس: وهذا لا يقرأ به، لانه مخالف للسواد، وإنما يحمل ما كان مثله على أنه من قائله على جهة التفسير، كما قال " وإنك لتهدي " أي لتدعو. وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " قال: " ولكل قوم هاد " [ الرعد: 7 ]. " صراط الله " بدل من الاول بدل المعرفة من النكرة. قال على: هو القرآن. وقيل الاسلام. ورواه النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم. " الذي له ما في السموات وما في والارض " ملكا وعبد ا وخلقا. " ألا إلى الله تصير الامور " وعيد بالبعث والجزاء. قال سهل بن أبي الجعد: احترق مصحف فلم يبق إلا قوله " ألا إلى الله تصير الامور " وغرق مصحف فامحى كله إلا قوله " ألا إلى الله تصير الامور ". والحمد لله وحده. (1) آية 48 سورة العنكبوت. (2) آية 105 سورة البقرة. (*)
[ 61 ]
سورة الزخرف مكية بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله " وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " (1) [ الزخرف: 45 ]. وهي تسع وثمانون آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: حم‍ (1) والكتاب المبين (2) إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون (3) قوله تعالى: " حم. والكتاب المبين ". تقدم (2) الكلام فيه. وقيل: " حم " قسم. " والكتاب المبين " قسم ثان، ولله أن يقسم بما شاء. والجواب " إنا جعلناه ". وقال ابن الانباري: من جعل جواب " والكتاب " " حم " - كما تقول نزل والله وجب والله - وقف على " الكتاب المبين ". ومن جعل جواب القسم " إنا جعلناه " لم يقف على " الكتاب المبين ". ومعنى " جعلناه " أي سميناه ووصفناه، ولذلك تعدى إلى مفعولين، كقوله تعالى: " ما جعل الله من بحيرة " (3) [ المائدة: 103 ]. وقال السدي: أي أنزلناه قرآنا. مجاهد: قلناه. الزجاج وسفيان الثوري: بيناه. " عربيا " أي أنزلناه بلسان العرب، لان كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال مقاتل: لان لسان أهل السماء عربي. وقيل: المراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة على الانبياء، لان الكتاب اسم جنس فكأنه أقسم بجميع ما أنزل من الكتب أنه جعل القرآن عربيا. والكناية في قوله " جعلناه " ترجع إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة، كقوله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة القدر ". [ القدر: 1 ]. " لعلكم تعقلون " أي تفهمون أحكامه ومعانيه. فعلى هذا القول يكون خاصا للعرب دون العجم، قاله ابن عيسى. وقال ابن زيد: المعنى لعلكم تتفكرون، فعلى هذا يكون خطابا عاما للعرب والعجم. ونعت الكتاب بالمبين لان الله بين فيه أحكامه وفرائضه، على ما تقدم في غير موضع. (1) آية 45 (2) راجع ج‍ 15 ص 289 (3) آية 103 سورة المائدة. [ * ]
[ 62 ]
قوله تعالى: وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم (4) قوله تعالى: " وإنه في أم الكتاب " يعني القرآن في اللوح المحفوظ " لدينا " عندنا " لعلي حكيم " أي رفيع محكم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض، قال الله تعالى: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون " (1) [ الواقعة: 77 - 78 ] وقال تعالى: " بل هو قرآن (2) مجيد. في لوح محفوظ " [ البروج: 21 - 22 ]. وقال ابن جريج: المراد بقوله تعالى " وإنه " أي أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية. " لعلي " أي رفيع عن أن ينال فيبدل " حكيم " أي محفوظ من نقص أو تغيير. وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، فالكتاب عنده، ثم قرأ " وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ". وكسر الهمزة من " أم الكتاب " حمزة والكسائي. وضم الباقون، وقد تقدم. (2) قوله تعالى: أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5) قوله تعالى: " افنضرب عنكم الذكر صفحا " يعني: القرآن، عن الضحاك وغيره. وقيل: المراد بالذكر العذاب، أي أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم، قاله مجاهد وأبو صالح والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال ابن عباس: المعنى أفحسبتم أن نصفح عنكم العذاب ولما تفعلوا ما أمرتم به. وعنه أيضا أن المعنى أتكذبون بالقرآن ولا تعاقبون. وقال السدي أيضا: المعنى أفنترككم سدى فلا نأمركم ولا ننهاكم. وقال قتادة: المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وعنه أيضا: أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به فلا ننزله عليكم. وقاله ابن زيد. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رددته أوائل هذه الامة لهلكوا، ولكن الله ردده وكرره عليهم برحمته. وقال الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيا فلا توعظون ولا تؤمرون. وقيل: الذكر التذكر، فكأنه قال أنترك تذكيركم لان كنتم قوما مسرفين، في قراءة من فتح. ومن كسر جعلها للشرط (1) آية 77 سورة الواقعة. (2) آية 21 سورة البروج. (3) راجع ج‍ 5 ص 72 (*)
[ 63 ]
وما قبلها جوابا لها، لانها لم تعمل في اللفظ. ونظيره: " وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " (1) [ البقرة: 278 ] وقيل: الجواب محذوف دل عليه ما تقدم، كما تقول: أنت ظالم إن فعلت. ومعنى الكسر عند الزجاج الحال، لان في الكلام معنى التقرير والتوبيخ. ومعنى " صفحا " إعراضا، يقال: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته. والاصل فيه صفحة العنق، يقال: أعرضت عنه أي وليته صفحة عنقي. قال الشاعر (2): صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة * فمن مل منها ذلك الوصل ملت وانتصب " صفحا " على المصدر لان معنى " أفنضرب " أفنصفح. وقيل: التقدير أفنضرب عنكم الذكر صافحين، كما يقال: جاء فلان مشيا. ومعنى " مسرفين " مشركين. واختار أبو عبيدة الفتح في " أن " وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، قال: لان الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم، وعلمه قبل ذلك من فعلهم. قوله تعالى: وكم أرسلنا من نبي في الاولين (6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون (7) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الاولين (8) قوله تعالى: " وكم أرسلنا من نبي في الاولين " كم " هنا خبرية والمراد بها التكثير، والمعنى ما أكثر ما أرسلنا من الانبياء. كما قال " كم تركوا من جنات وعيون " (3) [ الدخان: 25 ] أي ما أكثر ما تركوا. " وما يأتيهم من نبي " أي لم يكن يأتيهم نبي " إلا كانوا به يستهزئون " كاستهزاء قومك بك. يعزي نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ويسليه. " فأهلكنا أشد منهم بطشا " أي قوما أشد منهم قوة. والكناية في " منهم " ترجع إلى المشركين المخاطبين بقوله " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " فكنى عنهم بعد أن خاطبهم. و " أشد " نصب على الحال. وقيل هو مفعول، أي فقد أهلكنا (1) آية 278 سورة البقرة. (2) هو كثير عزة. (3) آية 25 سورة الدخان. (*)
[ 64 ]
أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. " ومضى مثل الاولين " أي عقوبتهم، عن قتادة. وقيل: صفة الاولين، فخبرهم بأنهم أهلكوا على كفرهم، حكاه النقاش والمهدوي. والمثل: الوصف والخبر. قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) قوله تعالى: " ولئن سألتهم " يعني المشركين. " من خلق السموات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم " فأقروا له بالخلق والايجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم. وقد مضى في غير (1) موضع. قوله تعالى: الذي جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10) قوله تعالى: " الذي جعل لكم الارض مهادا " وصف نفسه سبحانه بكمال القدرة. وهذا ابتداء إخبار منه عن نفسه، ولو كان هذا إخبارا عن قول الكفار لقال الذي جعل لنا الارض. " مهادا " فراشا وبساطا. وقد تقدم. (2). وقرأ الكوفيون " مهدا " " جعل لكم فيها سبلا " أي معايش. وقيل طرقا، لتسلكوا منها إلى حيث أردتم. " لعلكم تهتدون " فتستدلون بمقدوراته على قدرته. وقيل " لعلكم تهتدون " في أسفاركم، قاله ابن عيسى. وقيل: لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم، قاله سعيد بن جبير. وقيل: تهتدون إلى معايشكم. قوله تعالى: والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11) قوله تعالى: " والذي نزل من السماء ماء بقدر " قال ابن عباس: أي لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم، بل هو بقدر لا طوفان مغرق ولا قاصر عن الحاجة، حتى (1) راجع ج‍ 6 ص 384 وما بعدها. (2) راجع ج‍ 11 ص 209 (*)
[ 65 ]
يكون معاشا لكم ولانعامكم. " فأنشرنا " أي أحيينا. " به " أي بالماء. " بلدة ميتا " أي مقفرة من النبات. " كذلك تخرجون " أي من قبوركم، لان من قدر على هذا قدر على ذلك. وقد مضى في " الاعراف " مجودا. (1) وقرأ يحيى بن وثاب والاعمش وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر " يخرجون " بفتح الياء وضم الراء. الباقون على الفعل المجهول. قوله تعالى: والذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون (12) لتستوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولون سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) وإنا إلى ربنا لمنقلبون (14) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " والذي خلق الازواج " أي والله الذي خلق الازواج. قال سعيد بن جبير: أي الاصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والارض والشمس والقمر والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، قاله ابن عيسى. وقيل: أراد أزواج النبات، كما قال تعالى: " وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج " (2) [ ق: 7 ] و " من كل زوج (3) كريم " [ لقمان: 10 ]. وقيل ما يتقلب فيه الانسان من خير وشر، وإيمان وكفر، ونفع وضر، وفقر وغنى، وصحة وسقم. قلت: وهذا القول يعم الاقوال كلها ويجمعها بعمومه. " وجعل لكم من الفلك " السفن " والانعام " الابل " ما تركبون " في البر والبحر. " لتستوا على ظهوره " ذكر الكناية لانه رده إلى ما في قوله " ما تركبون "، قاله أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد لان المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند، فلذلك ذكر، وجمع الظهور، أي على ظهور هذا الجنس. (1) راجع ج‍ 7 ص 230 (2) آية 7 سورة ق. (3) آية 7 سورة الشعراء. (*)
[ 66 ]
الثانية - قال سعيد بن جبير: الانعام هنا الابل والبقر. وقال أبو معاذ: الابل وحدها، وهو الصحيح لقوله عليه السلام: (بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر ]. وما هما (1) في القوم. وقد مضى هذا في أول سورة " النحل " (2) مستوفى والحمد لله. الثالثة - قوله تعالى: " لتستوا على ظهوره " يعني به الابل خاصة بدليل ما ذكرنا. ولان الفلك إنما تركب بطونها، ولكنه ذكرهما جميعا في أول الآية وعطف أخرها على أحدهما. ويحتمل أن يجعل ظاهرهما باطنهما، لان الماء غمره وستره وباطنهما ظاهرا، لانه انكشف للظاهرين وظهر للمبصرين. الرابعة - قوله تعالى: " ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه " أي ركبتم عليه وذكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر. " وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا " أي ذلل لنا هذا المركب. وفي قراءة علي بن أبي طالب " سبحان من سخر لنا هذا ". " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين، في قول ابن عباس والكلبي. وقال الاخفش وأبو عبيدة: " مقرنين " ضابطين. وقيل: مماثلين في الايد والقوة، من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. ويقال: فلان مقرن لفلان أي ضابط له. وأقرنت كذا أي أطقته. وأقرن له أي أطاقه وقوي عليه، كأنه صار له قرنا. قال الله تعالى: " وما كنا له مقرنين " أي مطيقين. وأنشد قطرب قول عمرو بن معد يكرب: لقد علم القبائل ما عقيل * لنا في النائبات بمقرنينا وقال آخر: ركبتم صعبتي أشرا وحيفا * ولستم للصعاب بمقرنينا والمقرن أيضا: الذي غلبته ضيعته، يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها، أو يكون يسقي إبله ولا ذائد له يذودها. قال ابن السكيت: وفي أصله قولان: أحدهما - أنه مأخوذ من الاقران، يقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق. وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته، كأنه جعله (1) أي أبو بكر وعمر لم يكونا حاضرين. (2) راجع ج‍ 10 ص 72 (*)
[ 67 ]
في قرن - وهو الحبل - فأوثقه به وشده. والثاني - أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير، يقال: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه. الخامسة - علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، وهي قوله تعالى: " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " (1) [ هود: 41 ] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت (2) أو طاح من ظهرها فهلك (3). وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا. فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور واتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر ألا ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه. ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدا للقاء الله بإصلاحه من نفسه. والحذر من أن يكون وركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه. حكى سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " وكان فيهم رجل على ناقة له رازم - وهي التي لا تتحرك هزالا (4) - فقال: أما أنا فإني لهذه لمقرن، قال: فقمصت به فدقت عنقه. وروي أن أعرابيا ركب قعودا له وقال إني لمقرن له فركضت به القعود (5) حتى صرعته فاندقت عنقه. ذكر الاول الماوردي والثاني ابن العربي. قال: وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا وليس بواجب ذكره باللسان، فيقول متى ركب وخاصة في السفر إذا تذكر: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون " اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الاهل والمال، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والجور بعد الكور، وسوء المنظر في الاهل والمال، يعني ب‍ " الجور بعد الكور " تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه. وقال عمرو بن دينار: ركبت مع أبي جعفر إلى أرض له نحو حائط يقال لها مدركة، فركب (1) آية 41 سورة هود. (2) تقحم الفرس براكبه ألقاء على وجهه. (3) في الاصول: " فهلكت ". (4) وجد على هامش نسخة من الاصل بخط ناسخه: " الرازم من الابل: الثابت على الارض الذي لا يقوم من الهزال. وقد رزمت الناقة ترزم وترزم رزوما ورزاما قامت من الاعياء والهزال فلم يتحرك فهي رازم. قاله الجوهري في الصحاح ". (5) هذه عبارة ابن العربي والاصول: ويلاحظ أن القعود مذكر (*)
[ 68 ]
على جمل صعب فقلت له: أبا جعفر ! أما تخاف أن يصرعك ؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (على سنام كل بعير شيطان إذا ركبتموها فاذكروا اسم الله كما أمركم ثم امتهنوها لانفسكم فإنما يحمل الله). وقال علي بن ربيعة: شهدت علي بن أبي طالب ركب دابة يوما فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على الدابة قال الحمد لله، ثم قال " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ثم قال: الحمد لله والله أكبر - ثلاثا - اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك فقلت له: ما أضحكك ؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وقال كما قلت، ثم ضحك فقلت له ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال: (العبد - أو قال - عجبا لعبد أن يقول اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيره). خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه. وذكر الثعلبي نحوه مختصرا عن علي رضي الله عنه، ولفظه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: (باسم الله - فإذا استوى قال - الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وإذا نزلتم من الفلك والانعام فقولوا اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين). وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: من ركب ولم يقل " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " قال له الشيطان تغنه، فإن لم يحسن قال له تمنه، ذكره النحاس. ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق، فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف، فلا يزالون يستقون حتى تمل طلاهم (1) وهم على ظهور الدواب أو في بطون السفن وهي تجري بهم، لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره. الزمخشري: ولقد بلغني أن بعض السلاطين ركب وهو يشرب الخمر من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يصح إلا بعد ما اطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمر الله به في هذه الآية ! ؟ (1) الطلاء: ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه. وبعض العرب يسمى الخمر الطلاه، يريد بذلك تحسين اسمها. (*)
[ 69 ]
قوله تعالى: وجعلوا له من عباده جزءا إن الانسان لكفور مبين (15) قوله تعالى: " وجعلوا له من عباده جزءا " أي عدلا، عن قتادة. يعني ما عبد من دون الله عز وجل. الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات، عجب المؤمنين من جهلهم إذ أقروا بأن خالق السموات والارض هو الله ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والارض لا يحتاج إلى شئ يعتضد به أو يستأنس به، لان هذا من صفات النقص. قال الماوردي: والجزء عند أهل العربية البنات، يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، قال الشاعر: إن أجزأت حرة يوما فلا عجب * قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالاناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للاناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا، وبيتا: * إن أجزأت حرة يوما فلا عجب * * زوجتها من بنات الاوس مجزئة (1) * وإنما قوله " وجعلوا له من عباده جزءا " متصل بقوله " ولئن سألتهم " أي ولئن سألتهم عن خالق السموات والارض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى " من عباده جزءا " أن قالوا الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له. وقرئ " جزؤا " بضمتين. " إن الانسان " يعني الكافر. " لكفور مبين " قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم. " مبين " مظهر الكفر. (1) وتمامه كما في اللسان مادة جزأ: * للعوسج اللدن في أبياتها زجل * (*)
[ 70 ]
قوله تعالى: أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16) قوله تعالى: " أم اتخذ مما يخلق بنات " الميم صلة، تقديره اتخذ مما يخلق بنات كما زعمتم أن الملائكة بنات الله، فلفظه لفظ الاستفهام ومعناه التوبيخ. " وأصفاكم بالبنين أي اختصكم وأخلصكم بالبنين، يقال: أصفيته بكذا، أي آثرته به. وأصفيته الود أخلصته له. وصافيته وتصافينا تخالصنا. عجب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لانفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد إن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين ! ولم جعل هؤلاء لانفسهم أشرف الجنسين وله الاخس ؟ وهذا كما قال تعالى: " ألكم الذكر (1) وله الانثى. تلك إذا قسمة ضيزى " [ النجم: 21 - 22 ]. قوله تعالى: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17) قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا " أي بأنه ولدت له بنت " ظل وجهه " أي صار وجهه " مسودا " قيل ببطلان مثله الذي ضربه. وقيل: بما بشر به من الانثى، دليله في سورة النحل " وإذا بشر أحدهم بالانثى " (2) [ النحل: 58 ]. ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له قد ولدت له أنثى اغتم واربد وجهه غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت: ما لابي حمزة لا يأتينا * يظل في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا * وإنما نأخذ ما أعطينا وقرئ " مسودا، ومسواد ". وعلى قراءة الجماعة يكون وجهه اسم " ظل " و " مسودا " خبر " ظل ". ويجوز أن يكون في " ظل " ضمير عائد على أحد وهو اسمها، و " وجهه " (1) آية 21 سورة النجم. (2) راجع ج‍ 10 ص 116. (3) في رواية " جمرة " بالجيم. وفي بلوغ الارب للالوسي: " لابي والذلقاء ". (*)
[ 71 ]
بدل من الضمير. و " مسودا " خبر " ظل ". ويجوز أن يكون رفع " وجهه " بالابتداء، ويرفع " مسودا " على أنه خبره، وفي " ظل " اسمها والجملة خبرها. " وهو كظيم " أي حزين، قاله قتادة. وقيل مكروب، قاله عكرمة. وقيل ساكت، قاله ابن أبي حاتم، وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله فقد جعل الملائكة شبها لله، لان الولد من جنس الوالد وشبهه. ومن اسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو أجل منه، فكيف إلى الله عز وجل ! وقد مضى في " النحل " في معنى هذه الآية ما فيه كفاية. (1) قوله تعالى: أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18) وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون (19) قوله تعالى: " أو من ينشأ في الحلية " فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " أو من ينشأ " أي يربى ويشب. والنشوء: التربية، يقال: نشأت في بني فلان نشأ ونشوءا إذا شببت فيهم. ونشئ وأنشئ بمعنى. وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف " ينشأ " بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين، أي يربى ويكبر في الحلية. واختاره أبو عبيد، لان الاسناد فيها أعلى. وقرأ الباقون " ينشأ " بفتح الياء وإسكان النون، واختاره أبو حاتم، أي يرسخ وينبت، وأصله من نشأ أي ارتفع، قاله الهروي. ف‍ " ينشأ " متعد، و " ينشأ " لازم. الثانية - قوله تعالى: " في الحلية " أي في الزينة. قال ابن عباس وغيره: هن الجواري زيهن غير زي الرجال. قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير، وقرأ هذه الآية. قال الكيا: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والاجماع منعقد عليه والاخبار فيه لا تحصى. (1) راجع ج‍ 10 ص 116 (*)
[ 72 ]
قلت - روي عن أبي هريرة أنه كان يقول لابنته: يا بنية، إياك والتحلي بالذهب ! فإني أخاف عليك اللهب. قوله تعالى: " وهو في الخصام غير مبين " أي في المجادلة والادلاء بالحجة. قال قتادة: ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها. وفي مصحف عبد الله " وهو في الكلام غير مبين ". ومعنى الآية: أيضاف إلى الله من هذا وصفه ! أي لا يجوز ذلك. وقيل: المنشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة وحلوها، قاله ابن زيد والضحاك. ويكون معنى " وهو في الخصام غير مبين " على هذا القول: أي ساكت عن الجواب. و " من " في محل نصب، أي اتخذوا لله من ينشأ في الحلية. ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء والخبر مضمر، قاله الفراء. وتقديره: أو من كان على هذه الحالة يستحق العبادة. وإن شئت قلت خفض ردا إلى أول الكلام وهو قوله " بما ضرب "، أو على " ما " في قوله " مما يخلق بنات ". وكون البدل في هذين الموضعين ضعيف لكون ألف الاستفهام حائله بين البدل والمبدل منه. " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " قرأ الكوفيون " عباد " بالجمع. واختاره أبو عبيد، لان الاسناد فيها أعلى، ولان الله تعالى إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله، فأخبرهم أنهم عبيد وأنهم ليسوا ببناته. وعن ابن عباس أنه قرأ " عباد الرحمن "، فقال سعيد بن جبير: إن في مصحفي " عبد الرحمن " فقال: امحها واكتبها " عباد الرحمن ". وتصديق هذه القراءة قوله تعالى: " بل عباد مكرمون " (1) [ الانبياء: 26 ]. وقوله تعالى: " أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء " (2) [ الكهف: 102 ]. وقوله تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " (3) [ الاعراف: 194 ]. وقرأ الباقون " عند الرحمن " بنون ساكنة، واختاره أبو حاتم. وتصديق هذه القراءة قوله تعالى: " إن الذين عند ربك " (4) وقوله " وله من في السموات والارض ومن عنده " (5) [ الانبياء: 19 ]. والمقصود إيضاح كذبهم وبيان جهلهم (1) آية 26 سورة الانبياء. (2) آية 102 سورة الكهف. (3) آية 194 سورة الاعراف. (4) آخرة سورة الاعراف. (5) آية 19 سورة الانبياء. (*)
[ 73 ]
في نسبة الاولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث وهم بنات الله. وذكر العباد مدح لهم، أي كيف عبدوا من هو في نهاية العبادة، ثم كيف حكموا بأنهم إناث من غير دليل. والجعل هنا بمعنى القول والحكم، تقول: جعلت زيدا أعلم الناس، أي حكمت له بذلك. " أشهدوا خلقهم " أي أحضروا حالة خلقهم حتى حكموا بأنهم إناث. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وقال: [ فما يدريكم أنهم إناث ] ؟ فقالوا: سمعنا بذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا في أنهم إناث، فقال الله تعالى: " ستكتب شهادتهم ويسألون " أي يسئلون عنها في الآخرة. وقرأ نافع " أو شهدوا " (1) بهمزة استفهام داخلة على همزة مضمومة مسهلة، ولا يمد سوى ما روى المسيبي عنه أنه يمد. وروى المفضل عن عاصم مثل ذلك وتحقق الهمزتين. والباقون " أشهدوا " بهمزة واحدة للاستفهام. وروي عن الزهري " أشهدوا خلقهم " على الخبر، " ستكتب " قراءة العامة بضم التاء على الفعل المجهول " شهادتهم " رفعا. وقرأ السلمى وابن السميقع وهبيرة عن حفص " سنكتب " بنون، " شهادتهم " نصبا بتسمية الفاعل. وعن أبي رجاء " ستكتب شهاداتهم " بالجمع. قوله تعالى: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (20) قوله تعالى: " وقالوا لو شاء الرحمن " يعني قال المشركون على طريق الاستهزاء والسخرية: لو شاء الرحمن على زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة. وهذا منهم كلمة حق أريد بها باطل. وكل شئ بإرادة الله، وإرادته تجب وكذا علمه فلا يمكن الاحتجاج بها، وخلاف المعلوم والمراد مقدور وإن لم يقع. ولو عبدوا الله بدل الاصنام لعلمنا أن الله أراد منهم ما حصل منهم. وقد مضى هذا المعنى في الانعام عند قوله " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا " (2) [ الانعام: 148 ] وفي يس: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " (3) [ يس: 47 ]. وقوله " ما لهم بذلك من علم " مردود إلى (1) رسمنا هكذا تصويرا للنطق. (2) راجع ج‍ 7 ص 128 (3) راجع ج‍ 15 ص 37 (*)
[ 74 ]
قوله " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " [ الزخرف: 19 ] أي ما لهم بقولهم: الملائكة بنات الله، من علم، قاله قتادة ومقاتل والكلبي. وقال مجاهد وابن جريج: يعني الاوثان، أي ما لهم بعبادة الاوثان من علم. " من " صلة. " إن هم إلا يخرصون " أي يحدسون ويكذبون، فلا عذر لهم في عبادة غير الله عز وجل. وكان في ضمن كلامهم أن الله أمرنا بهذا أو أرضى ذلك منا، ولهذا لم ينهنا ولم يعاجلنا بالعقوبة. قوله تعالى: أم ءاتيناهم كتبا من قبله فهم به مستمكون (21) هذا معادل لقوله " أشهدوا خلقهم ". والمعنى: أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا من قبله، أي من قبل القرآن بما ادعوه، فهم به متمسكون يعملون بما فيه. قوله تعالى: بل قالوا إنا وجدناء اباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون (22) وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا علئ اثارهم مقتدون (23) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " على أمة " أي على طريقة ومذهب، قاله عمر بن عبد العزيز. وكان يقرأ هو ومجاهد وقتادة " على إمة " بكسر الالف. والامة الطريقة. وقال الجوهري: والامة (بالكسر): النعمة. والامة أيضا لغة في الامة، وهي الطريقة والدين، عن أبي عبيدة. قال عدي بن زيد في النعمة: ثم بعد الفلاح والملك والا * مة وارتهم هناك القبور عن غير الجوهري. وقال قتادة وعطية: " على أمة " على دين، ومنه فول قيس بن الخطيم: كنا على أمة أبائنا * ويقتدي الآخر بالاول
[ 75 ]
قال الجوهري: والامة الطريقة والدين، يقال: فلان لا أمة له، أي لا دين له ولا نحلة. قال الشاعر: * وهل يستوي ذو أمة وكفور * وقال مجاهد وقطرب: على دين على ملة. وفي بعض المصاحف " قالوا إنا وجدنا آباءنا على ملة " وهذه الاقوال متقاربة. وحكي عن الفراء على ملة على قبلة الاخفش: على استقامة، وأنشد قول النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع الثانية - " وإنا على آثارهم مهتدون " أي نهتدي بهم. وفي الآية الاخرى " مقتدون " أي نقتدي بهم، والمعنى واحد. قال قتادة: مقتدون متبعون. وفي هذا دليل على إبطال التقليد، لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مضى القول في هذا في " البقرة " مستوفى. (2) وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا. يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم، ونظيره: " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " (2) [ فصلت: 43 ]. والمترف: المنعم، والمراد هنا الملوك والجبابرة. قوله تعالى: قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24) قوله تعالى: " قل أو لو جئتكم بأهدى " أي قل يا محمد لقومك: أو ليس قد جئتكم من عند الله بأهدى، يريد بأرشد. " مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون " يعني بكل ما أرسل به الرسل. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه لفظ الجمع، لان تكذيبه تكذيب لمن سواه. وقرئ " قل وقال وجئتكم وجئناكم " يعني أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وان جئتنا بما هو أهدى. وقد مضى في " البقرة " القول في التقليد وذمه فلا معنى لاعادته. (1) (1) راجع ج‍ 2 ص 211 فما بعدها، طبعة ثانية. (2) آية 43 سورة فصلت. (*)
[ 76 ]
قوله تعالى: فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين (25) قوله تعالى: " فانتقمنا منهم " بالقحط والقتل والسبي " فانظر كيف كان عاقبة المكذبين " آخر أمر من كذب الرسل. [ وقراءة العامة (1) " قل أو لو جئتكم ". وقرأ ابن عامر وحفص " قال أو لو " على الخبر عن النذير أنه قال لهم هذه المقالة. وقرأ أبو جعفر " قل أولو جئناكم " بنون وألف، على أن المخاطبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل. ] قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني برآء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرني فإنه سيهدين (27) قوله تعالى: " وإذ قال " أي ذكرهم إذ قال. " إبراهيم لابيه وقومه إنني براء مما تعبدون " البراء يستعمل للواحد فما فوقه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، لانه مصدر وضع موضع النعت، لا يقال: البراءان والبراءون، لان المعنى ذو البراء وذوو البراء. قال الجوهري: وتبرأت من كذا، وأنا منه براء، وخلاء منه، لا يثنى ولا يجمع لانه مصدر في الاصل، مثل: سمع سماعا. فإذا قلت: أنا برئ منه وخلي ثنيت وجمعت وأنثت، وقلت في الجمع: نحن منه برآء مثل فقيه وفقهاء، وبراء أيضا مثل كريم وكرام، وأبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون. وامرأة بريئة وهما بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل برئ وبراء مثل عجيب وعجاب. والبراء (بالفتح) أول ليلة من الشهر، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس. " إلا الذي فطرني " استثناء متصل، لانهم عبدوا الله مع آلهتهم. قال قتادة: كانوا يقولون الله ربنا، مع عبادة الاوثان. ويجوز أن يكون منقطعا، أي لكن الذي فطرني فهو يهدين. قال ذلك ثقة بالله وتنبيها لقومه أن الهداية من ربه. قوله تعالى: وجعلنا كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (28) (1) ما بين المربعين من الآية السابقة. (*)
[ 77 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وجعلها كلمة باقية " الضمير في " جعلها " عائد على قوله " إلا الذي فطرني ". وضمير الفاعل في " جعلها " لله عز وجل، أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه، وهم ولده وولد ولده، أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من ياتي بعده. وقال السدي: هم آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: قوله " في عقبه " أي في خلفه. وفي الكلام تقديم وتأخير، المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك: الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة: الاسلام، لقوله تعالى " هو سماكم المسلمين من قبل " (1) [ الحج: 78 ]. القرظي: وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله " يا بني إن الله اصطفى، لكم الدين ". [ البقرة: 132 ] - الآية المذكورة في البقرة (2) - كلمة باقية في ذريته وبنيه. وقال ابن زيد: الكلمة قوله " أسلمت لرب العالمين " [ البقرة: 131 ] وقرأ " هو سماكم المسلمين من قبل ". وقيل: الكلمة النبوة. قال ابن العربي: ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم. والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم. الثانية - قال ابن العربي: إنما كانت لابراهيم في الاعقاب موصولة بالاحقاب بدعوتيه المجابتين، إحداهما في قوله " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " (3) [ البقرة: 124 ] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد. ثانيهما قوله " واجنبني وبني أن نعبد الاصنام " (4) [ إبراهيم: 35 ]. وقيل: بل الاولى قوله " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " (5) [ الشعراء: 84 ] فكل أمة تعظمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح. الثالثة - قال ابن العربي: جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى، وذلك مما يدخل في الاحكام وترتب عليه عقود العمرى (6) والتحبيس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (1) آخر سورة الحج. (2) آية 132 (3) آية 124 سورة البقرة. (4) آية 35 سورة إبراهيم. (5) آية 84 سورة الشعراء. (6) العمرى (كحبلى): تمليك الشئ مدة العمر. (*)
[ 78 ]
(أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث). وهي ترد على أحد عشر لفظا: اللفظ الاول - الولد، وهو عند الاطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الاناث والذكور. وعن ولد الذكور دون الاناث لغة وشرعا، ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الاناث لانه من قوم آخرين، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ، قاله مالك في المجموعة وغيرها. قلت: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين، ومن حجتهم على ذلك الاجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم " (1) [ النساء: 11 ]. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الاولاد والاعقاب يدخلون في الاحباس، يقول المحبس: حبست على ولدي أو على عقبي. وهذا اختيار أبي عمر بن عبد البر وغيره، واحتجوا بقول الله عز وجل: " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " (2) [ النساء: 23 ]. قالوا: فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أو عقبه. وقد مضى هذا المعنى في " الانعام " (3) مستوفى. اللفظ الثاني - البنون، فإن قال: هذا حبس على ابني، فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد. ولو قال ولدي، لتعدى وتعدد في كل من ولد. وإن قال على بني، دخل فيه الذكور والاناث. قال مالك: من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك. روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته: (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). قلنا: هذا مجاز، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه، ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني، ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه، (1) آية 11 سورة النساء. (2) آية 23 سورة النساء. (3) راجع ج‍ 7 ص 31 (*)
[ 79 ]
لان الحقائق لا تنفى عن منتسباتها (1). ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه، ولذلك قيل في عبد الله بن عباس: إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية. قلت: هذا الاستدلال غير صحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، ولان أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم " [ النساء: 23 ]. وقال تعالى " ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - من الصالحين " (2) [ الانعام: 84 - 85 ] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك. فان قيل فقد قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الاباعد قيل لهم: هذا لا دليل فيه، لان معنى قوله إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك، إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسميه ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لانه ابن، وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه. ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا، من أجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى، لان ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الابن انما هو ولده بماله مما كان سببا للولادة. ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة. وقد مضى هذا في " الانعام " (2) والحمد لله. اللفظ الثالث - الذرية، وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق، فيدخل فيه ولد البنات لقوله " ومن ذريته داود وسليمان - إلى أن قال - وزكريا ويحيى وعيسى " [ الانعام: 84 - 85 ]. وإنما كان من ذريته من قبل أمه. وقد مضى في " البقرة " (3) اشتقاق الذرية وفي " الانعام " الكلام على " ومن ذريته " [ الانعام: 84 ] الآية، فلا معنى للاعادة. (1) في نسخة من الاصل: " مشبهاتها ". وفي ابن العربي " مسمياتها ". (2) آية 84 سورة الانعام. راجع ج‍ 7 ص 31. (3) راجع ج‍ 2 ص 107 طبعة ثانية. (*)
[ 80 ]
اللفظ الرابع - العقب، وهو في اللغة عبارة عن شئ بعد شئ كان من جنسه أو من غير جنسه، يقال: أعقب الله بخير، أي جاء بعد الشدة بالرخاء. وأعقب الشيب السواد. وعقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شئ، ولهذا قيل لولد الرجل: عقبه. والمعقاب من النساء: التي تلد ذكرا بعد أنثى، هكذا أبدا. وعقب الرجل: ولده وولد ولده الباقون بعده. والعاقبة الولد، قال يعقوب: في القرآن " وجعلها كلمة باقية في عقبه ". وقيل: بل الورثة كلهم عقب. والعاقبة الولد، ولذلك فسره مجاهد هنا. وقال ابن زيد: ها هنا هم الذرية. وقال ابن شهاب: هم الولد وولد الولد. وقيل غيره على ما تقدم عن السدي. وفي الصحاح والعقب (بكسر القاف) مؤخر القدم وهي مؤنثة. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وفيه لغتان: عقب وعقب (بالتسكين) وهي أيضا مؤنثة، عن الاخفش. وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه، وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى " ليس لوقعتها كاذبة " (1) [ الواقعة: 2 ]. ولا فرق عند أحد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى. واختلف في الذرية والنسل فقيل إنهما بمنزلة الولد والعقب، لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك. وقيل: إنهم يدخلون فيهما. وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي " الانعام " (2). اللفظ الخامس - نسلي، وهو عند علمائنا كقوله ولدي وولد ولدي، فانه يدخل فيه ولد البنات. ويجب أن يدخلوا، لان نسل به بمعنى خرج، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه، ولم يقترن به ما يخصه كما اقترن بقوله عقبي ما تناسلوا. وقال بعض علمائنا: إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه ولد البنات، إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي، كما إذا قال عقبي وعقب عقبي، وأما إذا قال ولدي أو عقبي مفردا فلا يدخل فيه البنات. اللفظ السادس - الآل، وهم الاهل، وهو اللفظ السابع. قال ابن القاسم: هما سواء، وهم العصبة والاخوة والبنات والعمات، ولا يدخل فيه الخالات. وأصل أهل الاجتماع، (1) آية 2 سورة الواقعة. (2) راجع ج‍ 7 ص 31. (*)
[ 81 ]
يقال: مكان آهل إذا كان فيه جماعة، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد (1) من النساء، والعصبة مشتقة منه وهي أخص به. وفي حديث الافك: يا رسول الله، أهلك ! ولا نعلم إلا خيرا، يعني عائشة. ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل، لان ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق. وقد قال مالك: آل محمد كل تقي، وليس من هذا الباب. وإنما أراد أن الايمان أخص من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة. وقد قال أبو إسحاق التونسي: يدخل في الاهل كل من كان من جهة الابوين، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال. وهذه المعاني إنما تبنى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الاطلاق، فهذان لفظان. اللفظ الثامن - قرابة، فيه أربعة أقوال: الاول - قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس: إنهم الاقرب فالاقرب بالاجتهاد، ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات. الثاني - يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه، قاله علي بن زياد. الثالث - قال أشهب: يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء. الرابع - قال ابن كنانة: يدخل فيه الاعمام والعمات والاخوال والخالات وبنات الاخت. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى " قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " (1) [ الشورى: 23 ] قال: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. وقال: لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة، فهذا يضبطه والله أعلم. اللفظ التاسع - العشيرة، ويضبطه الحديث الصحيح: إن الله تعالى لما أنزل " وأنذر عشيرتك الاقربين " (3) [ الشعراء: 214 ] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم - كما تقدم ذكره - وهم العشيرة الاقربون، وسواهم عشيرة في الاطلاق. واللفظ يحمل على الاخص الاقرب بالاجتهاد، كما تقدم من قول علمائنا. (1) في الاصول: " ومن دخل في العقد ". وفي ابن العربي: " ومن دخل في العقدة " وقد أثبتناه كما ترى استئناسا بما في شرح الباجي على الوطأ، وعبارته: "... ولا يدخل في ذلك الخالات. ومعنى ذلك عندي العصبة أو من كان في قعددهن من النساء ". والقعدد (بضم أوله وسكون ثانيه وضم ثالثه وفتحه): القربى. (2) آية 23 سورة الشورى. (4) آية 214 سورة الشعراء. راجع ج‍ 13 ص 143 (*)
[ 82 ]
اللفظ العاشر - القوم، يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء. والقوم يشمل الرجال والنساء، وإن كان الشاعر قد قال: وما أدري وسوف إخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء، فتعممه الصفة وتخصصه القرينة. اللفظ الحادي عشر - الموالي، قال مالك: يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه. وقال ابن وهب: يدخل فيه أولاد مواليه. قال ابن العربي: والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء، قال: وهذه فصول الكلام وأصوله المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له، والتفريع والتتميم في كتاب المسائل، والله أعلم. قوله تعالى: بل متعت هؤلاء وءاباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين (29) ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (30) وقالوا لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم (31) أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32) قوله تعالى: " بل متعت " وقرئ " بل متعنا ". " هؤلاء وآبائهم " أي في الدنيا بالامهال. " حتى جاءهم الحق " أي محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والاسلام الذي هو أصل دين إبراهيم، وهو الكلمة التي بقاها الله في عقبه. " ورسول مبين " أي يبين لهم ما بهم إليه حاجة. " ولما جاءهم الحق " يعني القرآن. " قالوا هذا سحر وإنا به كافرون " جاحدون. " وقالوا لولا نزل " أي هلا نزل " هذا القرآن على رجل "
[ 83 ]
وقرئ " على رجل " بسكون الجيم. " من القريتين عظيم " أي من إحدى القريتين، كقوله تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " [ الرحمن: 22 ] أي من أحدهما. أو على أحد رجلين من القريتين. القريتان: مكة والطائف. والرجلان: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل. والذي من الطائف أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، قاله قتادة. وقيل: عمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وعتبة بن ربيعة من مكة، وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس: أن عظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي. وقال السدي: كنانة بن عبد بن عمرو. روي أن الوليد بن المغيرة - وكان يسمى ريحانة قريش - كان يقول: لو كان ما يقوله محمد حقا لنزل علي أو على أبي مسعود، فقال الله تعالى: " أهم يقسمون رحمة ربك " يعني النبوة فيضعونها حيث شاءوا. " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " أي أفقرنا قوما وأغنينا قوما، فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم. قال قتادة: تلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن في رواية عنه " معايشهم ". وقيل: أي نحن أعطينا عظيم القريتين ما أعطينا لا لكرامتهما علي وأنا قادر على نزع النعمة عنهما، فأي فضل وقدر لهما. " ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " أي فاضلنا بينهم، فمن فاضل ومفضول ورئيس ومرءوس، قاله مقاتل. وقيل: بالحرية والرق، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. وقيل: بالغنى والفقر، فبعضهم غني وبعضهم فقير. وقيل: بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر. " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " قال السدي وابن زيد: خولا وخداما، يسخر الاغنياء الفقراء فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا. وقيل: هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء، أي ليستهزئ الغني بالفقير. قال الاخفش: سخرت به وسخرت منه، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه، كل يقال، والاسم السخرية (بالضم). والسخري والسخري (بالضم والكسر). وكل الناس ضموا " سخريا " إلا ابن محيصن ومجاهد فإنهما قرأا " سخريا ". " ورحمة ربك
[ 84 ]
خير مما يجمعون " أي أفضل مما يجمعون من الدنيا. ثم قيل: الرحمة النبوة، وقيل الجنة. وقيل: تمام الفرائض خير من كثرة النوافل. وقيل: ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم. قوله تعالى: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) فيه خمس مسائل: الاولى - قال العلماء: ذكر حقارة الدنيا وقلة خطرها، وأنها عنده من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب، فيحمل ذلك على الكفر. قال الحسن: المعنى لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لاعطيناهم في الدنيا ما وصفناه، لهوان الدنيا عند الله عز وجل. وعلى هذا أكثر المفسرين ابن عباس والسدي وغيرهم. وقال ابن زيد: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة " في طلب الدنيا واختيارها على الآخرة " لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ". وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لاعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها. الثانية - قرأ ابن كثير وأبو عمرو " سقفا " بفتح السين وإسكان القاف على الواحد ومعناه الجمع، اعتبارا بقوله تعالى " فخر عليهم السقف من فوقهم " [ النحل: 26 ]. وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع، مثل رهن ورهن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما. وقيل: هو جمع سقيف، مثل كثيب وكثب، ورغيف ورغف، قاله الفراء. وقيل: هو جمع سقوف، فيصير جمع الجمع: سقف وسقوف، نحو فلس وفلوس. ثم جعلوا فعولا كأنه اسم واحد فجمعوه على فعل. وروي عن مجاهد " سقفا " بإسكان القاف. وقيل: اللام في " لبيوتهم " بمعنى على، أي على بيوتهم. وقيل: بدل، كما تقول فعلت هذا لزيد لكرامته، قال الله تعالى " ولابويه لكل واحد منهما السدس " [ النساء: 1 1 ] كذلك قال هنا " لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم ".
[ 85 ]
الثالثة - قوله تعالى: " ومعارج " يعني الدرج، قاله ابن عباس وهو قول الجمهور. واحدها معراج، والمعراج السلم، ومنه ليلة المعراج. والجمع معارج ومعاريج، مثل مفاتح ومفاتيح، لغتان. " ومعاريج " قرأ أبو رجاء العطاردي وطلحة بن مصرف، وهي المراقي والسلاليم. قال الاخفش: إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج، مثل مرقاة ومرقاة. " عليها يظهرون " أي على المعارج يرتقون ويصعدون، يقال: ظهرت على البيت أي علوت سطحه. وهذا لان من علا شيئا وارتفع عليه ظهر للناظرين. ويقال: ظهرت على الشئ أي علمته. وظهرت على العدو أي غلبته. وأنشد نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: علونا السماء عزة ومهابة * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا (1) أي مصعدا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ إلى أين ] ؟ قال إلى الجنة، قال: [ أجل إن شاء الله ]. قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك ! فكيف لو فعل ؟ ! الرابعة - استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لا حق فيه لرب العلو، لان الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الابواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله. قال ابن العربي: وذلك لان البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب، فمن له البيت فله أركانه. ولا خلاف أن العلول إلى السماء. واختلفوا في السفل، فمنهم من قال هو له، ومنهم من قال ليس له في باطن الارض شئ. وفي مذهبنا القولان. وقد بين حديث الاسرائيلي الصحيح فيما تقدم: أن رجلا باع من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب، فجاء بها إلى البائع فقال: إنما اشتريت الدار دون الجرة، وقال البائع: إنما بعت الدار بما فيها، وكلهم تدافعها فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج أحدهما ولده من بنت (1) رواية البيت كما في كتاب الاغالي ج‍ 5 ص 8 طبع دار الكتب المصرية: * بلغنا السماء مجدنا وجدودنا * وروايته كما في جمهرة أشعار العرب: * بلغنا السما مجدا وجودا وسؤددا * وروايته كما في اللسان مادة " ظهر " * بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا * (*)
[ 86 ]
الآخر ويكون المال لهما. والصحيح أن العلو والسفل له إلا أن يخرج عنهما بالبيع، فإذا باع أحدهما أحد الموضعين فله منه ما ينتفع به وباقيه للمبتاع منه. الخامسة - من أحكام العلو والسفل. إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه، فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة، ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو، لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشئ الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لادخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو انهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السفل، فإن أبى صاحب السفل من البناء قيل له بع ممن يبني. وروى ابن القاسم عن مالك في السفل لرجل والعلو لآخر فاعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل وعليه تعليق العلو حتى يصلح سفله، لان عليه إما أن يحمله على بنيان أو على تعليق، وكذلك لو كان على العلو علو فتعليق العلو الثاني على صاحب الاوسط. وقد قيل: إن تعليق العلو الثاني على رب العلو حتى يبني الاسفل. وحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فان يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ] - أصل في هذا الباب. وهو حجة لمالك وأشهب. وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضر به، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر، لقوله عليه السلام: [ فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ] ولا يجوز الاخذ إلا على يد الظالم أو من هو ممنوع من إحداث
[ 87 ]
ما لا يجوز له في السنة. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد مضى في " الانفال " (1). وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها، وقد مضى في " آل عمران " (2) فتأمل كلا في موضعه تجده مبينا، والحمد لله. قوله تعالى: ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون (34) وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين (35) قوله تعالى: " ولبيوتهم أبوابا " أي ولجعلنا لبيوتهم. وقيل: " لبيوتهم " بدل اشتمال من قوله " لمن يكفر بالرحمن ". " أبوابا " أي من فضة. " وسررا " كذلك، وهو جمع السرير. وقيل: جمع الاسرة، والاسرة جمع السرير، فيكون جمع الجمع. " يتكئون عليها " الاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشئ، ومنه " أتوكأ عليها ". ورجل تكأة، مثال همزة، كثير الاتكاء. والتكأة أيضا: ما يتكأ عليه. واتكأ على الشئ فهو متكئ، والموضع متكأ. وطعنه حتى أتكأه (على أفعله) أي ألقاه على هيئة المتكئ. وتوكأت على العصا. واصل التاء في جميع ذلك واو، ففعل به ما فعل باتزن واتعد. " وزخرفا " الزخرف هنا الذهب، عن ابن عباس وغيره. نظيره: " أو يكون لك بيت من زخرف " [ الاسراء: 93 ] وقد تقدم (3). وقال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الامتعة والاثاث. وقال الحسن: النقوش، وأصله الزينة. يقال: زخرفت الدار، أي زينتها. وتزخرف فلان، أي تزين. وانتصب " زخرفا " على معنى وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا. وقيل: ينزع الخافض، والمعنى فجعلنا لهم سقفا وأبوابا وسررا من فضة ومن ذهب، فلما حذف " من " قال " وزخرفا " فنصب. " وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا " قرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر " وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا " بالتشديد. الباقون بالتخفيف، وقد ذكر هذا. وروي عن أبي رجاء كسر اللام من " لما "، ف " ما " عنده بمنزلة الذي، والعائد عليها محذوف، والتقدير: وإن كل ذلك للذي (1) راجع ج‍ 7 ص 391 فما بعدها. (2) راجع ج‍ 4 ص 86 فما بعدها. (3) راجع ج‍ 10 ص 331 (*)
[ 88 ]
هو متاع الحياة الدنيا، وحذف الضمير ها هنا كحذفه في قراءة من قرأ " مثلا ما بعوضة فما (1) فوقها " [ البقرة: 26 و " تماما على الذي أحسن " (2) [ الانعام: 154 ]. أبو الفتح: ينبغي أن يكون " كل " على هذه القراءة منصوبة، لان " إن " مخففة من الثقيلة، وهي إذا خففت وبطل عملها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين " إن " النافية التي بمعنى ما، نحو إن زيد لقائم، ولا لام هنا سوى الجارة. " والآخرة عند ربك للمتقين " يريد الجنة لمن اتقى وخاف. وقال كعب: إني لاجد في بعض كتب الله المنزلة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس عبدي الكافر بالاكليل، ولا يتصدع ولا ينبض منه عرق بوجع. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ]. وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ]. وفي الباب عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب. وأنشدوا: فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن * إذا لم يكن فيها معاش لظالم لقد جاع فيها الانبياء كرامة * وقد شبعت فيها بطون البهائم وقال آخر: تمتع من الايام إن كنت حازما * فإنك فيها بين ناه وآمر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه * فما فاته منها فليس بضائر فلا تزن الدنيا جناح بعوضة * ولا وزن رق من جناح لطائر فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن * ولا رضي الدنيا عقابا لكافر قوله تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) (1) راجع ج‍ 1 ص 243 (2) راجع ج‍ 7 ص 142 (*)
[ 89 ]
قوله تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا. فهو له قرين " وقرأ ابن عباس وعكرمة " ومن يعش " بفتح الشين، ومعناه يعمى، يقال منه عشي يعشى عشا إذا عمي. ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر، ومنه قول الاعشى: رأت رجلا غائب الوافدي‍ * ن مختلف الخلق أعشى ضريرا (1) وقوله: أأن رأت رجلا أعشى أضر به * ريب المنون ودهر مفند خبل الباقون بالضم، من عشا يعشو إذا لحقه ما لحق الاعشى. وقال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف، وأنشد: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره * تجد خير نار عندها خير موقد (2) وقال آخر: لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره * إذا الريح هبت والمكان جديب الجوهري: والعشا (مقصور) مصدر الاعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء، وامرأتان عشواوان. وأعشاه الله فعشي (بالكسر) يعشى عشي، وهما يعشيان، ولم يقولوا يعشوان، لان الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تركت في التثنية على حالها. وتعاشى إذا أرى من نفسه أنه أعشى. والنسبة إلى أعشى أعشوي. وإلى العشية عشوى. والعشواء: الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شئ. وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة. وفلان خابط خبط عشواء. وهذه الآية تتصل بقول أول السورة " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " (3) [ الزخرف: 5 ] أي نواصل لكم الذكر، فمن يعش عن ذلك الذكر بالاعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم " نقيض له شيطانا " أي نسبب له شيطانا جزاء له على كفره " فهو له قرين " قيل في الدنيا، يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية، وهو معنى قول ابن عباس. (1) في اللسان مادة " وفد ": " والوافدان اللذان في شعر الاعشى هما الناشزان من الخدين عند المضغ، فإذا هرم الانسان غاب وافداه ". (2) البيت للحطيئة. (3) آية 5 (*)
[ 90 ]
وقيل في الآخرة إذا قام من قبره، قاله سعيد الجريري. وفي الخبر: أن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخلا النار. وأن المؤمن يشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه، ذكره المهدوي. وقال القشيري: والصحيح فهو له قرين في الدنيا والآخرة. وقال أبو الهيثم والازهري: عشوت إلى كذا أي قصدته. وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه، فتفرق بين " إلى " و " عن "، مثل: ملت إليه وملت عنه. وكذا قال قتادة: يعش، يعرض، وهو قول الفراء. النحاس: وهو غير معروف في اللغة. وقال القرظي: يولي ظهره، والمعنى واحد. وقال أبو عبيدة والاخفش: تظلم عينه. وأنكر العتبي عشوت بمعنى أعرضت، قال: وإنما الصواب تعاشيت. والقول قول أبي الهيثم والازهري. وكذلك قال جميع أهل المعرفة. وقرأ السلمي وابن أبي اسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم وعن الاعمش " يقيض " (بالياء) لذكر " الرحمن " أولا، أي يقيض له الرحمن شيطانا. الباقون بالنون. وعن ابن عباس " يقيض له شيطان فهو له قرين " أي ملازم ومصاحب. قيل: " فهو " كناية عن الشيطان، على ما تقدم. وقيل: عن الاعراض (1) عن القرآن، أي هو قرين للشيطان. " وإنهم ليصدونهم عن السبيل " أي وإن الشيطان ليصدونهم عن سبيل الهدى، وذكر بلفظ الجمع لان " من " في قوله " ومن يعش " في معنى الجمع. " ويحسبون " أي ويحسب الكفار " أنهم مهتدون " وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم. " حتى إذا جاءنا " على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص، يعني الكافر يوم القيامة. الباقون " جاءانا " على التثنية، يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة، فيقول الكافر " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين " أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما قال تعالى: " رب المشرقين ورب المغربين " (2) [ الرحمن: 17 ] ونحوه قول مقاتل. وقراءة التوحيد وإن كان ظاهرها الافراد فالمعنى لهما جميعا، لانه قد عرف ذلك بما بعده، كما قال: وعين لها حدرة بدرة * شقت مآقيهما من أخر (3) (1) في الاصول: " عن التعرض ". (2) آية 17 سورة الرحمن. (3) البيت لامرئ القيس: وحدرة: مكتنزة صلبة، وقيل الواسعة الجاحظة. وبدرة: تبدر بالنظر، وقيل تامة كالبدر. (*)
[ 91 ]
قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة، ولذلك قال " بعد المشرقين ". وقال الفراء: أراد المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعمران لابي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة والعصر. وقال الشاعر: أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع وأنشد أبو عبيدة لجرير: ما كان يرضى رسول الله فعلهم * والعمران أبو بكر ولا عمر وأنشد سيبويه: * قدني من نصر الخبيثين قدي * يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير، وإنما أبو خبيب عبد الله. " فبئس القرين " أي فبئس الصاحب أنت، لانه يورده إلى النار. قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار. قوله تعالى: ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39) قوله تعالى: " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم " " إذ " بدل من اليوم، أي يقول الله للكافر لن ينفعكم اليوم إذ أشركتم في الدنيا هذا الكلام، وهو قول الكافر " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين " أي لا تنفع الندامة اليوم. " إنكم " بالكسر " في العذاب مشتركون " وهي قراءة ابن عامر باختلاف عنه. الباقون بالفتح. وهي في موضع رفع تقديره: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لان لكل واحد نصيبه الاوفر منه. أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة، فيسكن ذلك من حزنه، كما قالت الخنساء: فلولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن * أعزي النفس عنه بالتأسي
[ 92 ]
فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي شيئا لشغلهم بالعذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم، لان قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر. قوله تعالى: أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين (40) قوله تعالى: " أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي " يا محمد " ومن كان في ضلال مبين " أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق الله تعالى، يضل من يشاء ويهدي من يشاء. قوله تعالى: فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42) قوله تعالى: " فإما نذهبن بك " يريد نخرجنك من مكة من أذى قريش. " فإنا منهم منتقمون. أو نريك الذي وعدناهم " وهو الانتقام منهم في حياتك " فإنا عليهم مقتدرون " قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر، وهو قول أكثر المفسرين. وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الاسلام، يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن. و " نذهبن بك " على هذا نتوفينك. وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به فلم يره في أمته إلا التي تقر به عينه وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلا وقد أري النقمة في أمته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما لقيت أمته من بعده، فما زال منقبضا، ما انبسط ضاحكا حتى لقي، الله عز وجل. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إذا أراد الله بأمة خيرا قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا. وإذا أراد الله بأمة عذابا عذبها ونبيها حي لتقر عينه لما كذبوه وعصوا أمره ].
[ 93 ]
قوله تعالى: فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون (44) قوله تعالى: " فاستمسك بالذي أوحي إليك " يريد القرآن، وإن كذب به من كذب، ف‍ " إنك على صراط مستقيم " يوصلك إلى الله ورضاه وثوابه. " وإنه لذكر لك ولقومك " يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم، نظيره: " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " (1) [ الانبياء: 10 ] أي شرفكم. فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم كل من آمن بذلك فصاروا عيالا عليهم، لان أهل كل لغة احتاجوا إلى أن يأخذوه من لغتهم حتى يقفوا على المعنى الذي عنى به من الامر والنهي وجميع ما فيه من الانباء، فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات ولذلك سمي عربيا. وقيل: بيان لك ولامتك فيما بكم إليه حاجة. وقيل: تذكرة تذكرون به أمر الدين وتعملون به. وقيل: " وإنه لذكر لك ولقومك " يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم ]. وقال مالك: هو قول الرجل حدثني أبي عن أبيه، حكاه ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس فيما ذكر الماوردي والثعلبي وغيرهما. قال ابن العربي: ولم أجد في الاسلام هذه المرتبة لاحد إلا ببغداد فإن بني التميمي بها يقولون: حدثني أبي قال حدثني أبي، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك شرفت أقدارهم، وعظم الناس شأنهم، وتهممت الخلافة بهم. ورأيت بمدينة السلام ابني أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب أبي الفرج بن عبد العزيز بن الحارث بن الاسد بن الليث بن سليمان بن أسود بن سفيان بن يزيد ابن أكينة بن عبد الله التميمي وكانا يقولان: سمعنا أبانا رزق الله يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت علي بن أبي طالب (1) آية 10 سورة الانبياء. (*)
[ 94 ]
يقول وقد سئل عن الحنان المنان فقال: الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال. والقائل سمعت عليا: أكينة بن عبد الله جدهم الاعلى. والاقوى أن يكون المراد بقوله " وإنه لذكر لك ولقومك " يعني القرآن، فعليه انبنى الكلام وإليه يرجع المصير، والله أعلم. قال الماوردي: " ولقومك " فيهم قولان: أحدهما - من اتبعك من أمتك، قاله قتادة وذكره الثعلبي عن الحسن. الثاني - لقومك من قريش، فيقال ممن هذا ؟ فيقال من العرب، فيقال من أي العرب ؟ فيقال من قريش، قاله مجاهد. قلت - والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أو من غيرهم. روى ابن عباس قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم من سرية أو غزاة فدعا فاطمة فقال: [ يا فاطمة اشتري نفسك من الله فإني لا أغني عنك من الله شيئا ] وقال مثل ذلك لنسوته، وقال مثل ذلك لعترته،. ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: [ ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون ولا قريش بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الانصار بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون ولا الموالي بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة وأنتم كجمام (1) الصاع ليس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى ]. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم أو يكونون شرا عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها كلكم بنو آدم وآدم من تراب، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء [ الناس ] مؤمن تقي وفاجر شقي ]. خرجهما الطبري. وسيأتي لهذا مزيد بيان في الحجرات إن شاء الله تعالى. " وسوف تسألون " أي عن الشكر عليه، قاله مقاتل والفراء. وقال ابن جريج: أي تسألون أنت ومن معك على ما أتاك. وقيل تسألون عما عملتم فيه، والمعنى متقارب. قوله تعالى: وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون (45) (1) الجمام (بالتثليث): ما علا رأس المكيال من الطفاف. (*)
[ 95 ]
قال ابن عباس وابن زيد: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى - وهو مسجد بيت المقدس - بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، وجبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن جبريل صلى الله عليه وسلم ثم أقام الصلاة، ثم قال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: [ سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لا أسأل قد اكتفيت ]. قال ابن عباس: وكانوا سبعين نبيا منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فلم يسألهم لانه كان أعلم بالله منهم. في غير رواية ابن عباس: فصلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة صفوف، المرسلون ثلاثة صفوف والنبيون أربعة، وكان يلي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خليل الله، وعلى يمينه إسماعيل وعلى يساره إسحاق ثم موسى ثم سائر المرسلين فأمهم ركعتين، فلما انفتل (1) قام فقال: [ إن ربي أوحى إلي أن أسألكم هل أرسل أحد منكم يدعو إلى عبادة غير الله ] ؟ فقالوا: يا محمد، إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة أن لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين، قد استبان ذلك لنا بإمامتك إيانا، وأن لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى بن مريم فإنه مأمور أن يتبع أثرك). وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: " واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " قال: لقي الرسل ليلة أسري به. وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " قال: سألت عن ذلك خليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال سألهم ليلة أسري به، لقي الانبياء ولقي آدم ومالك خازن النار. قلت: هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. و " من " التي قبل " رسلنا " على هذا القول غير زائدة. وقال المبرد وجماعة من العلماء: إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا. وروي أن في قراءة ابن مسعود " واسال الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ". (1) انفتل عن الصلاة: إذا انصرف عنها. (*)
[ 96 ]
وهذه قراءة مفسرة، ف " من " على هذا زائدة، وهو قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن وابن عباس أيضا. أي واسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والانجيل. وقيل: المعنى سلنا يا محسد عن الانبياء الذين أرسلنا قبلك، فحذفت " عن "، والوقف على " رسلنا " على هذا تام، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الانكار. وقيل: المعنى واسأل تباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا، فحذف المضاف. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. " أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " أخبر عن الآلهة كما أخبر عمن يعقل فقال " يعبدون " ولم يقل تعبد ولا يعبدن، لان الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فأجرى الخبر عنهم مجرى الخبر عمن يعقل. وسبب هذا الامر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك، فأمره الله بسؤاله الانبياء على جهة التوقيف والتقرير، لا لانه كان في شك منه. واختلف أهل التأويل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين: أحدهما - أنه سألهم فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد، قاله الواقدي. الثاني - أنه لم يسألهم ليقينه بالله عز وجل، حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل: (هل سألك محمد عن ذلك ؟ فقال جبريل: هو أشد إيمانا وأعظم يقينا من أن يسأل عن ذلك). وقد تقدم هذا المعنى في الروايتين حسبما ذكرناه. قوله تعالى: ولقد أرسلنا موسى بئاياتنا إلى فرعون وملائيه فقال إني رسول رب العالمين (46) فلما جاءهم بأياتنا إذا هم منها يضحكون (47) وما نريهم من ءاية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48) وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50)
[ 97 ]
قوله تعالى: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه منتقم له من عدوه وأقام الحجة بآستشهاد الانبياء واتفاق الكل على التوحيد أكد ذلك قصة موسى وفرعون، وما كان من فرعون من التكذيب، وما نزل به وبقومه من الاغراق والتكذيب، أي أرسلنا موسى بالمعجزات وهي التسع الآيات فكذب، فجعلت العاقبة الجميلة له، فكذلك أنت. ومعنى " يضحكون " استهزاء وسخرية، يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخييل، وأنهم قادرون عليها. وقوله: " وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها " أي كانت آيات موسى من كبار الآيات، وكانت كل واحدة أعظم مما قبلها. وقيل: " إلا وهي أكبر من أختها " لان الاولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما، فتضم الثانية إلى الاولى فيزداد الوضوح. ومعنى الاخوة المشاكلة والمناسبة، كما يقال: هذه صاحبة هذه، أي هما قريبتان في المعنى. " وأخذناهم بالعذاب " أي على تكذيبهم بتلك الآيات، وهو كقوله تعالى: " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات " (1) [ الاعراف: 130 ]. والطوفان والجراد والقمل والضفادع. وكانت هذه الآيات الاخيرة عذابا لهم وآيات لموسى. " لعلهم يرجعون " من كفرهم. " وقالوا يأيها الساحر " لما عاينوا العذاب قالوا يأيها الساحر، نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل ذلك على حسب عادتهم. وقيل: كانوا يسمون العلماء سحرة فنادوه بذلك على سبيل التعظيم. قال ابن عباس: " يأيها الساحر " يأيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه، ولم يكن السحر صفة ذم. وقيل: يأيها الذي غلبنا بسحره، يقال: ساحرته فسحرته، أي غلبته بالسحر، كقول العرب: خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة، وفاضلته ففضلته، ونحوها. ويحتمل أن يكون أرادوا به الساحر على الحقيقة على معنى الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن وثاب " وآيه الساحر " بغير ألف والهاء مضمومة، وعلتها أن الهاء خلطت بما قبلها وألزمت ضم الياء الذي أوجبه النداء المفرد. وأنشد الفراء: يأيه القلب اللجوج النفس * أفق عن البيض الحسان اللعس (1) آية 130 سورة الاعراف. (*)
[ 98 ]
فضم الهاء حملا على ضم الياء، وقد مضى في " النور " (1) معنى هذا. ووقف أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويحيى والكسائي " أيها " بالالف على الاصل. الباقون بغير ألف، لانها كذلك وقعت في المصحف. " ادع لنا ربك بما عهد عندك " أي بما أخبرنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا، فسله يكشف عنا " إننا لمهتدون " أي فيما يستقبل. " فلما كشفنا عنهم العذاب " أي فدعا فكشفنا. " إذا هم ينكثون " أي ينقضون العهد الذي جعلوه على أنفسهم فلم يؤمنوا. وقيل: قولهم " إننا لمهتدون " إخبار منهم عن أنفسهم بالايمان، فلما كشف عنهم العذاب ارتدوا. قوله تعالى: " ونادى فرعون في قومه " قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إليه فجمع قومه فقال، فنادى بمعنى قال، قاله أبو مالك. فيجوز أن يكون عنده عظماء القبط فرفع صوته بذلك فيما بينهم ثم ينشر عنه في جموع القبط، وكأنه نودي بينهم. وقيل: إنه أمر من ينادي في قومه، قاله ابن جريج. " قال يا قوم أليس لي ملك مصر " أي لا ينازعني فيه أحد. قيل: إنه ملك منها أربعين فرسخا في مثلها، حكاه النقاش. وقيل: أراد بالملك هنا الاسكندرية. " وهذه الانهار تجري من تحتي " يعني أنهار النيل، ومعظمها أربعة (2): نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس. قال قتادة: كانت جنانا وأنهارا تجري من تحت قصوره. وقيل: من تحت سريره. وقيل: " من تحتي " أي تصرفي نافذ فيها من غير صانع. وقيل: كان إذا أمسك عنانه أمسك النيل عن الجري. قال القشيري: ويجوز ظهور خوارق العادة على مدعي الربوبية، إذ لا حاجة في تمييز الاله من غير الاله إلى فعل خارق للعادة. وقيل: معنى " وهذه الانهار تجري من تحتي " أي القواد والرؤساء والجبابرة يسيرون تحت لوائي، قاله الضحاك. وقيل: أراد بالانهار الاموال، وعبر عنها بالانهار لكثرتها وظهورها. وقوله " تجري من تحتي " أي أفرقها على من يتبعني، لان الترغيب والقدرة في الاموال دون (1) راجع ج‍ 12 ص 238 (2) في كتاب روح المعاني للالوسي: " والانهار: الخلجان التي تخرج من النيل المبارك، كنهر الملك ونهر دمياط ونهر تنيس، ولعل نهر طولون كان منها إذ ذاك، لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الاسلام ". (*)
[ 99 ]
الانهار. " أفلا تبصرون " عظمتي وقوتي وضعف موسى. وقيل قدرتي على نفقتكم وعجز موسى. والواو في " وهذه " يجوز أن تكون عاطفة للانهار على " ملك مصر " و " تجري " نصب على الحال منها. ويجوز أن تكون واو الحال، واسم الاشارة مبتدأ، و " الانهار " صفة لاسم الاشارة، و " تجري " خبر للمبتدأ. وفتح الياء من " تحتي " أهل المدينة والبزي وأبو عمرو، وأسكن الباقون. وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لاولينها أحسن عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال: أهذه القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال " أليس لي ملك مصر " ؟ ! والله لهي عندي أقل من أن أدخلها ! فثنى عنانه. ثم صرح بحاله فقال " أم أنا خير " قال أبو عبيدة السدي: " أم " بمعنى " بل " وليست بحرف عطف، على قول أكثر المفسرين. والمعنى: قال فرعون لقومه بل أنا خير " من هذا الذي هو مهين " أي لا عز له فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه " ولا يكاد يبين " يعني ما كان في لسانه من العقدة، على ما تقدم في " طه " (1). وقال الفراء: في " أم " وجهان: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت جعلتها نسقا على قوله " أليس لي ملك مصر ". وقيل: هي زائدة. وروى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون " أم " زائدة، والمعنى أنا خير من هذا الذي هو مهين. وقال الاخفش: في الكلام حذف، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون، كما قال: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل * وبين النقا آأنت أم أم سالم (2) أي أنت أحسن أم أم سالم. ثم ابتدأ فقال أنا خير. وقال الخليل وسيبويه: المعنى أفلا تبصرون، أم أنتم بصراء، فعطف ب " أم " على " أفلا تبصرون " لان معنى " أم أنا خير " أم أي تبصرون، وذلك أنهم إذا قالوا له أنت خير منه كانوا عنده بصراء. وروي عن عيسى (1) راجع ج‍ 11 ص 192. (2) القائل هو ذو الرمة. وللوعساء: رملة لينة. وجلاجل: موضع بعينه. والنقاء: الكثيب من الرمل. (*)
[ 100 ]
الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على " أم " على أن يكون التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون، فحذف تبصرون الثاني. وقيل: من وقف على " أم " جعلها زائدة، وكأنه وقف على " تبصرون " من قوله " أفلا تبصرون ". ولا يتم الكلام على " تبصرون " عند الخليل وسيبويه، لان " أم " تقتضي الاتصال بما قبلها. وقال قوم: الوقف على قوله " أفلا تبصرون " ثم ابتدأ " أم أنا خير " بمعنى بل أنا خير، وأنشد الفراء: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * وصورتها أم أنت في العين أملح فمعناه: بل أنت أملح. وذكر الفراء أن بعض القراء قرأ " أما أنا خير "، ومعنى هذا ألست خيرا. وروي عن مجاهد أنه وقف على " أم " ثم يبتدئ " أنا خير " وقد ذكر. قوله تعالى: فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (53) قوله تعالى: " فلولا " أي هلا " ألقي عليه أساورة من ذهب " إنما قال ذلك لانه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. وقرأ حفص " أسورة " جمع سوار، كخمار وأخمرة. وقرأ أبي " أساور " جمع إسوار. وابن مسعود " أساوير ". الباقون " أساورة " جمع الاسورة، فهو جمع الجمع. ويجوز أن يكون " أساورة " جمع " إسوار " وألحقت الهاء في الجمع عوضا من الياء، فهو مثل زناديق وزنادقة، وبطاريق وبطارقة، وشبهه. وقال أبو عمرو ابن العلاء: واحد الاساورة والاساور والاساوير إسوار، وهي لغة في سوار. قال مجاهد: كانوا إذا سوروا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا ! " أو جاء معه الملائكة مقترنين " يعني متتابعين، في قول قتادة. مجاهد: يمشون معا. ابن عباس: يعاونونه على من خالفه، والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه حتى يتكثر بهم ويصرفهم على أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا
[ 101 ]
كرسل الملوك في الشاهد، ولم يعلم أن رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية، وكل عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونون معه أعوانا - في قول مقاتل - أو دليلا على صدقه - في قول الكلبي - وليس يلزم هذا لان الاعجاز كاف، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجئ الملائكة كما كذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى، لانه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم. قوله تعالى: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54) قوله تعالى: " فاستخف قومه " قال ابن الاعرابي: المعنى فاستجهل قومه " فأطاعوه " لخفة أحلامهم وقلة عقولهم، يقال: استخفه الفرح أي أزعجه، واستخفه أي حمله على الجهل، ومنه " ولا يستخفنك الذين لا يوقنون " (1) [ الروم: 60 ]. وقيل: استفزهم بالقول فأطاعوه على، التكذيب. وقيل: استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول. وهذا لا يدل على أنه يجب أن يطيعوه، فلابد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه. وقيل: استخف قومه وقهرهم حتى اتبعوه، يقال استخفه خلاف استثقله، واستخف به أهانه. " إنهم كانوا قوما فاسقين " أي خارجين عن طاعة الله. قوله تعالى: فلماء اسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) قوله تعالى: " فلما آسفونا انتقمنا منهم " روى الضحاك عن ابن عباس: أي غاظونا وأغضبونا. وروى عنه علي بن أبي طلحة: أي أسخطونا. قال الماوردي: ومعناهما مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة، والغضب إرادة الانتقام. القشيري: والاسف ها هنا بمعنى الغضب، والغضب من الله إما إرادة العقوبة فيكون من صفات الذات، وإما عين العقوبة فيكون من صفات الفعل، وهو معنى قول الماوردي. (1) آية 60 سورة الروم. (*)
[ 102 ]
وقال عمر بن ذر: يأهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه، فإنه قال " فلما آسفونا انتقمنا منهم ". وقيل: " آسفونا " أي أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين، نحو السحرة وبني إسرائيل. وهو كقوله تعالى: " يؤذون الله " (1) [ الاحزاب: 57 ] و " يحاربون الله " (2) [ المائدة: 33 ] أي أولياءه ورسله. قوله تعالى: فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين (56) قوله تعالى: " فجعلناهم سلفا " أي جعلنا قوم فرعون سلفا. قال أبو مجلز: " سلفا " لمن عمل عملهم، " ومثلا " لمن يعمل عملهم. وقال مجاهد: " سلفا " إخبارا لامة محمد صلى الله عليه وسلم، " ومثلا " أي عبرة لهم. وعنه أيضا " سلفا " لكفار قومك يتقدمونهم إلى النار. قتادة: " سلفا " إلى النار، " ومثلا " عظة لمن يأتي بعدهم. والسلف المتقدم، يقال: سلف يسلف سلفا، مثل طلب طلبا، أي تقدم ومضى. وسلف له عمل صالح أي تقدم. والقوم السلاف المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والجمع أسلاف وسلاف. وقراءة العامة " سلفا " (بفتح السين واللام) جمع سالف، كخادم وخدم، وراصد ورصد، وحارس وحرس. وقرأ حمزة والكسائي " سلفا " (بضم السين واللام). قال الفراء: هو جمع سليف، نحو سرير وسرر. وقال أبو حاتم: هو جمع سلف، نحو خشب وخشب، وثمر وثمر، ومعناهما واحد. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس " سلفا " (بضم السين وفتح اللام) جمع سلفة، أي فرقة متقدمة. قال المؤرج والنضر بن شميل: " سلفا " جمع سلفة، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وظلمة وظلم. قوله تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) لما قال تعالى: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " [ الزخرف: 45 ] تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم إلها، قاله قتادة. ونحوه عن مجاهد قال: إن قريشا قالت إن محمدا (1) آية 57 سورة الاحزاب. (2) آية 33 سورة المائدة. (*)
[ 103 ]
يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى، فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى، وأن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعري السهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " (1) [ الانبياء: 98 ] الآية، فقال: لو حضرته لرددت عليه، قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال: كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرا، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم، وذلك معنى قوله " يصدون ". فأنزل الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " [ الانبياء: 1 0 1 ]. ولو تأمل ابن الزبعري الآية ما اعترض عليها، لانه قال " وما تعبدون " ولم يقل ومن تعبدون، وإنما أراد الاصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين. وقد مضى هذا في آخر سورة " الانبياء " (3). وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: [ يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله ]. قالوا: أليس تزعم أن عيسى كان عبد ا نبيا وعبد ا صالحا، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله !. فأنزل الله تعالى " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك يصدون " أي يضجون كضجيج الابل عند حمل الاثقال. قرأ نافع وابن عامر والكسائي " يصدون " (بضم الصاد) ومعناه يعرضون، قاله النخعي، وكسر الباقون. قال الكسائي: هما لغتان، مثل يعرشون ويعرشون، وينمون وينمون، ومعناه يضجون. قال الجوهري: وصد يصد صديدا، أي ضج. وقيل: إنه بالضم من الصدود وهو الاعراض، وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لكانت: إذا قومك عنه يصدون. الفراء: هما سواء، منه وعنه. ابن المسيب: يصدون يضجون. الضحاك يعجون. ابن عباس: يضحكون. أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون، فيكون المعنى: من أجل الميل يعدلون. ولا يعدى " يصدون " بمن، ومن كسر فمعناه يضجون، ف " من " متصلة ب " يصدون " والمعنى يضجون منه. (1) آية 98 سورة الانبياء. (2) آية 101 سورة الانبياء. (3) راجع ج‍ 11 ص 343 فما بعدها. (*)
[ 104 ]
قوله تعالى: وقالوا ءألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) قوله تعالى: " وقالوا أآلهتنا خير أم هو " أي آلهتنا خير أم عيسى ؟ قاله السدي. وقال: خاصموه وقالوا إن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والملائكة وعزير، فأنزل الله تعالى " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " [ الانبياء: 1 0 1 ] الآية. وقال قتادة: " أم هو " يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي قراءة ابن مسعود " آلهتنا خير أم هذا ". وهو يقوي قول قتادة، فهو استفهام تقرير في أن آلهتهم خير. وقرأ الكوفيون ويعقوب " أآلهتنا " بتحقيق الهمزتين، ولين الباقون. وقد تقدم. " ما ضربوه لك إلا جدلا " " جدلا " حال، أي جدلين. يعني ما ضربوا لك هذا المثل إلا إرادة الجدل، لانهم علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموات " بل هم قوم خصمون " مجادلون بالباطل. وفي صحيح الترمذي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية - " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " ]. قوله تعالى: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسراءيل (59) ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون (60) قوله تعالى: " إن هو إلا عبد أنعمنا عليه " أي ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة، وجعله مثلا لبني إسرائيل، أي آية وعبرة يستدل بها على قدرة الله تعالى، فإن عيسى كان من غير أب، ثم جعل إليه من إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص والاسقام كلها ما لم يجعل لغيره في زمانه، مع أن بني إسرائيل كانوا يومئذ خير الخلق وأحبه إلى الله عز وجل، والناس دونهم، ليس أحد عند الله عز وجل مثلهم. وقيل: المراد بالعبد المنعم عليه محمد صلى الله عليه
[ 105 ]
وسلم، والاول أظهر. " ولو نشاء لجعلنا منكم " أي بدلا منكم " ملائكة " يكونون خلفا عنكم، قاله السدي. ونحوه عن مجاهد قال: ملائكة يعمرون الارض بدلا منكم. وقال الازهري: إن " من " قد تكون للبدل، بدليل هذه الآية. قلت: قد تقدم هذا المعنى في " براءة " (1) وغيرها. وقيل: لو نشاء لجعلنا من الانس ملائكة وإن لم تجر العادة بذلك، والجواهر جنس واحد والاختلاف بالاوصاف، والمعنى: لو نشاء لاسكنا الارض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم بنات الله. ومعنى " يخلفون " يخلف بعضهم بعضا، قاله ابن عباس. قوله تعالى: وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (62) قوله تعالى: " وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها " قال الحسن وقتادة وسعيد بن جببر: يريد القرآن، لانه يدل على قرب مجئ الساعة، أو به تعلم الساعة وأهوالها وأحوالها. وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة أيضا: إنه خروج عيسى عليه السلام، وذلك من أعلام الساعة، لان الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك " وإنه لعلم للساعة " (بفتح العين واللام) أي أمارة. وقد روي عن عكرمة " وإنه للعلم " (بلامين) وذلك خلاف للمصاحف. وعن عبد الله بن مسعود قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة فبدءوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم، فرد الحديث إلى عيسى بن مريم قال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل، فذكر خروج الدجال - قال: فأنزل فأقتله. وذكر الحديث، خرجه ابن ماجه في سننه. وفي صحيح مسلم [ فبينما هو - يعني المسيح الدجال - إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي (1) راجع ج‍ 8 ص 141 (*)
[ 106 ]
دمشق بين مهرودتين (1) واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه [ ينتهي ] حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد (2) فيقتله... ] الحديث. وذكر الثعلبي والزمخشري وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء على ثنية من الارض المقدسة يقال لها أفيق (3) بين ممصرتين (4) وشعر رأسه دهين وبيده حربة يقتل بها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر والامام يؤم بهم فيتأخر الامام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به ]. وروى خالد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ الانبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم إنه ليس بيني وبينه نبي وإنه أول نازل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الاسلام ]. قال الماوردي: وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولا إلى ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم. وهذا قول مردود لثلاثة أمور، منها الحديث، ولان بقاء الدنيا يقتضي التكليف فيها، ولانه ينزل آمرا بمعروف وناهيا عن منكر. وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى له مقصورا على تأييد الاسلام والامر به والدعاء إليه. قلت: ثبت في صحيح مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ]. وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ] وفي رواية [ فأمكم منكم ] قال ابن أبي ذئب: تدري [ ما أمكم (1) أي شقتين أو حلتين. (2) لد (بالضم والتشديد): قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين. (3) في روح المعاني: " أفيق بفاء وقاف بوزن أمير، وهي هنا بالقدس الشريف نفسه... ". (4) الممصرة من الثياب: التي فيها صفرة خفيفة. (*)
[ 107 ]
منكم ] ؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ]. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فهذا نص على أنه ينزل مجددا لدين النبي صلى الله عليه وسلم للذي درس منه، لا بشرع مبتدأ والتكليف باق، على ما بيناه هنا وفي كتاب التذكرة. وقيل: " وإنه لعلم للساعة " أي وإن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى، قاله ابن إسحاق. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى " وإنه " وإن محمدا صلى الله عليه وسلم لعلم للساعة، بدليل قوله عليه السلام: [ بعثت أنا والساعة كهاتين ] وضم السبابة والوسطى، خرجه البخاري ومسلم. وقال الحسن: أول أشراطها محمد صلى الله عليه وسلم. " فلا تمترون بها " فلا تشكون فيها، يعني في الساعة، قاله يحيى بن سلام. وقال السدي: فلا تكذبون بها، ولا تجادلون فيها فإنها كائنة لا محالة. " واتبعون " أي في التوحيد وفيما أبلغكم عن الله. " هذا صراط مستقيم " أي طريق قويم إلى الله، أي إلى جنته. وأثبت الياء يعقوب في قوله " واتبعون " في الحالين، وكذلك " وأطيعون ". وأبو عمرو وإسماعيل عن نافع في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. " ولا يصدنكم الشيطان " أي لا تغتروا بوساوسه وشبه الكفار المجادلين، فان شرائع الانبياء لم تختلف في التوحيد ولا فيما أخبروا به من علم الساعة وغيرها بما تضمنته من جنة أو نار. " إنه لكم عدو مبين " تقدم في " البقرة " (1) وغيرها قوله تعالى: ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64) قوله تعالى: " ولما جاء عيسى بالبينات " قال ابن عباس: يريد إحياء الموتى وإبراء الاسقام وخلق الطير والمائدة وغيرها، والاخبار بكثير من الغيوب. وقال قتادة: البينات (1) راجع ج‍ 2 ص 209 طبعة ثانية. [ * ]
[ 108 ]
هنا الانجيل. " قال قد جئتكم بالحكمة " أي النبوة، قاله السدي. ابن عباس: علم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح. وقيل الانجيل، ذكره القشيري والماوردي. " ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه " قال مجاهد: من تبديل التوراة. الزجاج: المعنى لابين لكم في الانجيل بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة. قال مجاهد: وبين لهم في غير الانجيل ما احتاجوا إليه. وقيل: بين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على قدر ما سألوه. ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عنها. وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وأشياء من أمر دنياهم فبين لهم أمر دينهم. ومذهب أبي عبيدة أن البعض بمعنى الكل، ومنه قوله تعالى: " يصبكم بعض الذي يعدكم " (1) [ غافر: 28 ]. وأنشد الاخفش قول لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو تعتلق بعض النفوس حمامها والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض. ويقال للمنية: علوق وعلاقة. قال المفضل البكري: وسائلة بثعلبة بن سير (2) * وقد علقت بثعلبة العلوق وقال مقاتل: هو كقوله " ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم " (3) [ آل عمران: 50 ]. يعني ما أحل في الانجيل مما كان محرما في التوراة، كلحم الابل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت. " فاتقوا الله " أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده، وإذا كان هذا قول عيسى فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله. " وأطيعون " فيما أدعوكم إليه من التوحيد وغيره. " إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " أي عبادة الله صراط مستقيم، وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق. قوله تعالى: فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65) هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66) (1) آية 28 سورة غافر. (2) يريد ثعلبة بن سيار. (3) آية 50 سورة آل عمران. [ * ]
[ 109 ]
قوله تعالى: " فاختلف الاحزاب من بينهم " قال قتادة: يعني ما بينهم، وفيهم قولان: أحدهما - أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، خالف بعضهم بعضا، قاله مجاهد والسدي. الثاني - فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعاقبة، اختلفوا في عيسى، فقال النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة: هو الله. وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله، قاله الكلبي ومقاتل، وقد مضى هذا في سورة " مريم " (1). " فويل للذين ظلموا " أي كفروا وأشركوا، كما في سورة " مريم " (1). " من عذاب يوم أليم " أي أليم عذابه، ومثله: ليل نائم، أي ينام فيه. " هل ينظرون " يريد الاحزاب لا ينتظرون. " إلا الساعة " يريد القيامة. " أن تأتيهم بغتة " أي فجأة. " وهم لا يشعرون " يفطنون. وقد مضى في غير موضع (2). وقيل: المعنى لا ينتظر مشركو العرب إلا الساعة. ويكون " الاحزاب " على هذا، الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. ويتصل هذا بقوله تعالى: " ما ضربوه لك إلا جدلا " (3) [ الزخرف: 58 ]. قوله تعالى: الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) قوله تعالى: " الاخلاء يومئذ " يريد يوم القيامة. " بعضهم لبعض عدو " أي أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا. " إلا المتقين " فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة، قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وحكى النقاش أن هذه الاية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين، وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط، فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا (4)، وقتل أمية في المعركة، وفيهم نزلت هذه الآية. وذكر الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية قال: كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب، (1) راجع ج‍ 11 ص 106، 108. (2) راجع ج‍ 1 ص 197 طبعة ثانية أو ثالثة. (3) آية 58 من هذه السورة. (4) الصبر: نصب الانسان للقتل. (*)
[ 110 ]
إن فلانا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر. ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، واهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني. فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الاخ ونعم الصاحب كان. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني، فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب، فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والاخ والخليل كنت. فيلعن كل واحد منهما صاحبه. قلت: والآية عامة في كل مؤمن ومتق وكافر ومضل. قوله تعالى: يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (68) قال مقاتل ورواه المعتمر بن سليمان عن أبيه: ينادي مناد في العرصات " يا عبادي لا خوف عيكم اليوم "، فيرفع أهل العرصة رؤوسهم، فيقول المنادي: " الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين " فينكس أهل الاديان رؤوسهم غير المسلمين. وذكر المحاسبي في الرعاية: وقد روي في هذا الحديث أن المنادي ينادي يوم القيامة: " يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " فيرفع الخلائق رؤوسهم، يقولون: نحن عباد الله. ثم ينادي الثانية: " الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين " فينكس الكفار رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثم ينادي الثالثة: " الذين آمنوا وكانوا يتقون " [ يونس: 63 ] فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم، لانه أكرم الاكرمين، لا يخذل وليه ولا يسلمه عند الهلكة. وقرئ " يا عباد ".
[ 111 ]
قوله تعالى: الذين ءامنوا بأياتنا وكانوا مسلمين (69) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70) قال الزجاج: " الذين " نصب على النعت ل‍ " عبادي " لان " عبادي " منادي مضاف. وقيل: " الذين آمنوا " [ خبر لمبتدإ محذوف أو (1) ] ابتداء وخبره محذوف، تقديره هم الذين آمنوا أو الذين آمنوا يقال لهم " ادخلوا الجنة ". قرأ أبو بكر وزر بن حبيش " يا عبادي " بفتح الياء وإثباتها في الحالين، ولذلك أثبتها نافع وابن عامر وأبو عمرو ورويس ساكنة في الحالين. وحذفها الباقون في الحالين، لانها وقعت مثبتة في مصاحف أهل الشام والمدينة لا غير. " ادخلوا الجنة ". أي يقال لهم ادخلوا الجنة، أو يا عبادي الذين آمنوا ادخلوا الجنة. " أنتم وأزواجكم " المسلمات في الدنيا. وقيل: قرناؤكم من المؤمنين. وقيل: زوجاتكم من الحور العين. " تحبرون " تكرمون، قاله ابن عباس، والكرامة في المنزلة. الحسن: تفرحون، والفرح في القلب. قتادة: تنعمون، والنعيم في البدن. مجاهد: تسرون، والسرور في العين. ابن أبي نجيح: تعجبون، والعجب ها هنا درك ما يستطرف. يحيى بن أبي كثير: هو التلذذ بالسماع. وقد مضى هذا في " الروم " (2). قوله تعالى: يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون (71) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب " أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب. ولم يذكر الاطعمة والاشربة، لانه يعلم أنه لا معنى للاطافة بالصحاف والاكواب عليهم من غير أن يكون فيها شئ. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الاعادة في الاكواب، كقوله تعالى: (1) زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها. (2) راجع ج‍ 14 ص 12 (*)
[ 112 ]
" والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (1) [ الاحزاب: 35 ]. وفي الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها (2) فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ]. وقد مضى في سورة " الحج " (3) أن من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريما مؤبدا. والله أعلم. وقال المفسرون: يطوف على أدناهم في الجنة منزلة سبعون ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب، يغدى عليه بها، في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا، ويراح عليه بمثلها. ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام، مع كل غلام صحفة من ذهب، فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا. " وأكواب " أي ويطاف عليهم بأكواب، كما قال تعالى: " ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب " (4) [ الانسان: 15 ] وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك، ثم قرأ " شرابا طهورا " [ الانسان: 21 ]. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون [ ولا يمتخطون ] قالوا فما بال الطعام ؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير - في رواية - كما يلهمون النفس ]. الثانية - روى الائمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وقال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها) وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك. (1) آية 35 سورة الاحزاب. راجع ج‍ 14 ص 185 (2) قوله " في صحافها " على حد قوله تعالى: " والذين يكتنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها... فالضمير " عائد على الفضة، ويلزم حكم الذهب بطريق الاولى. (3) راجع ج‍ 12 ص 29. (4) آية 15 سورة الانسان. (*)
[ 113 ]
واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك. قال ابن العربي: والصحيح أنه لا يجوز للرجال استعمالها في شئ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: (هذان حرام لذكور أمتي حل لاناثها). والنهي عن الاكل والشرب فيها يدل على تحريم استعمالها، لانه نوع من المتاع فلم يجز. أصله الاكل والشرب، ولان العلة في ذلك استعجال أمر (1) الآخرة، وذلك يستوي فيه الاكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع، ولانه صلى الله عليه وسلم قال: (هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) فلم يجعل لنا فيها حظا في الدنيا. الثالثة - إذا كان الاناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما، فقال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه، وكذلك المرآة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه. وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال: لقد سقيت فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين: كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة، فقال أبو طلحة: لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه. الرابعة - إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها، لان ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور (2). وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها، وهو معنى فاسد، فإن كسره واجب فلا ثمن لقيمتها. ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال. وغير هذا لا يلتفت إليه. قوله تعالى: " بصحاف " قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. قوله تعالى: " وأكواب " قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب. قال الاعشى يصف الخمر: (1) في ابن العربي: " أجر ". (2) الطنبور: من آلات الطرب ذو عنق طويل وستة أوتار من نحاس، معرب. (*)
[ 114 ]
صريفية طيب طعمها * لها زبد بين كوب ودن (1) وقال آخر (2): متكئا تصفق أبوابه * يسعى عليه العبد بالكوب وقال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة. والابريق المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الاخفش: الاكواب الاباريق التي لا خراطيم لها. وقال قطرب: هي الاباريق التي ليست لها عرى. وقال مجاهد: إنها الآنية المدورة الافواه. السدي: هي التي لا آذان لها. ابن عزيز: " أكواب " أباريق لا عرى لها ولا خراطيم، واحدها كوب. قلت: وهو معنى قول مجاهد والسدي، وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى. قوله تعالى: " وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين " روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل في الجنة من خيل ؟ قال: [ إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك [ في الجنة (3) ] حيث شئت ]. قال: وسأله رجلا فقال يا رسول الله، هل في الجنة من إبل ؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه قال: [ إن يدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك ]. وقرأ أهل المدينة، ابن عامر وأهل الشام " وفيها ما تشتهيه الانفس "، الباقون " تشتهي الانفس " أي تشتهيه الانفس، تقول الذي ضربت زيد، أي الذي ضربته زيد. " وتلذ الاعين " تقول: لذ الشئ يلذ لذاذا، ولذاذة. ولذذت. بالشئ ألذ (بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل) لذاذا ولذاذة، أي وجدته لذيذا. والتذذت به وتلذذت به بمعنى. أي في الجنة ما تستلذه العين فكان حسن المنظر. وقال سعيد بن جبير: " وتلذ الاعين " النظر إلى الله عز وجل، كما في الخبر: [ أسألك لذة النظر إلى وجهك ]. " وأنتم فيها خالدون " باقون دائمون، لانها لو انقطعت لتبغضت. (1) الصريفية: الخمر المنسوبة إلى صريفون، وهي قرية عند عكبراء، أو لانها أخذت من الدن ساعتئذ كاللبن الصريف (الحليب الحار ساعة يصرف من الضرع). (2) هو عدي بن زيد. (3) زيادة عن سنن الترمذي. (*)
[ 115 ]
قوله تعالى: وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون (72) قوله تعالى: " وتلك الجنة " أي يقال لهم هذه تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا. وقال ابن خالويه: أشار تعالى إلى الجنة بتلك وإلى جهنم بهذه، ليخوف بجهنم ويؤكد التحذير منها. وجعلها بالاشارة القريبة كالحاضرة التي ينظر إليها. " التي أورثتموها بما كنتم تعملون " قال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة ونارا، فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر، وقد تقدم هذا مرفوعا في " قد أفلح المؤمنون " (1) [ المؤمنون: 1 ] من حديث أبي هريرة، وفي " الاعراف " (2) أيضا. قوله تعالى: لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73) الفاكهة معروفة، وأجناسها الفواكه، والفاكهاني الذي يبيعها. وقال ابن عباس: هي الثمار كلها، رطبها ويابسها، أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة يأكلون منها. قوله تعالى: إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين (76) قوله تعالى: " إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون " لما ذكر أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا ليبين فضل المطيع على العاصي " لا يفتر عنهم " أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب. " وهم فيه ملبسون " أي آيسون من الرحمة. وقيل: ساكتون سكوت يأس، وقد مضى في " الانعام " (3) " وما ظلمناهم " بالعذاب " ولكن كانوا هم الظالمين " أنفسهم بالشرك. ويجوز " ولكن كانوا هم الظالمون " بالرفع على الابتداء والخبر، والجملة خبر كان. قوله تعالى: ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77) (1) راجع ج‍ 12 ص 108 (2) راجع ج‍ 7 ص 208 (3) راجع ج‍ 6 ص 426 (*)
[ 116 ]
قوله تعالى: " ونادوا يا مالك " وهو خازن جهنم، خلقه لغضبه، إذا زجر النار زجرة أكل بعضها بعضا. وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما " ونادوا يا مال " وذلك خلاف المصحف. وقال أبو الدرداء وابن مسعود: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " ونادوا يا مال " باللام خاصة، يعني رخم الاسم وحذف الكاف. والترخيم الحذف، ومنه ترخيم الاسم في النداء، وهو أن يحذف من آخره حرف أو أكثر، فتقول في مالك: يا مال، وفى حارث: يا حار، وفي فاطمة: يا فاطم، وفي عائشة: يا عائش وفي مروان: يا مرو، وهكذا. قال: يا حار لا أرمين منكم بداهية * لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك (1) وقال امرؤ القيس: أحار ترى برقا اريك وميضه * كلمع اليدين في حبي مكلل (2) وقال أيضا: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل * وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل (3) وقال آخر: (4) يا مرو إن مطيتي محبوسة * ترجو الحباء وربها لم ييأس وفي صحيح الحديث (أي فل، هلم). ولك في آخر الاسم المرخم وجهان: أحدهما - أن تبقيه على ما كان عليه قبل الحذف. والآخر - أن تبنيه على الضم، مثل: يا زيد، كأنك أنزلته منزلته ولم تراع المحذوف. وذكر أبو بكر الانباري قال: حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد - وهو ابن سعدان - قال حدثنا حجاج عن شعبة عن الحكم بن (1) البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو من قصيدة يخاطب بها الحارث بن ورقاء الصيداوي وكان أغار على بني عبد الله ابن غطفان فغنم وأخذ ابل زهير وراعيته يسارا، فطالبهم بذلك ليردوا عليه ما أخذوه وتوعدهم بالهجاء... الخ، راجع شرح ديوان زهير ص 164 المطبوع بدار الكتب المصرية. (2) يروى " أصاح ". والحبي: السحاب المعترض بالافق. والمكلل: المتراكب. (3) فاطمة هي ابنة عبيد بن ثعلبة بن عامر. والصرم (بالضم): القطيعة. (4) هو الفرزدق يخاطب مروان بن الحكم وكان واليا على المدينة فوفد عليه مادحا له، فأبطأ عليه جائزته... والحباء (بكسر الحاء المهملة): العطاء. وجعل الرجل للناقة وهو يريد نفسه مجازا. (شرح الشواهد للشنتمري). (*)
[ 117 ]
عيينة عن مجاهد قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى وجدناه في قراءة عبد الله " بيت من ذهب " (1)، وكنا لا ندري " ونادوا يا مالك " أو يا ملك (بفتح اللام وكسرها) حتى وجدناه في قراءة عبد الله " ونادوا يا مال " على الترخيم. قال أبو بكر: لا يعمل على هذا الحديث لانه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن الرسول عليه السلام، وكتاب الله أحق بأن يحتاط له وينفى عنه الباطل. قلت: وفي صحيح البخاري عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر " ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " بإثبات الكاف. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني - أو ذكر لي - أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى: " وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " (2) [ غافر: 49 ] فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب، فردت عليهم " أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " [ غافر: 50 ] قال: فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا، وهو عليهم وله مجلس في وسطها، وجسور تمر عليها ملائكة العذاب، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا: " يا مالك ليقض علينا ربك " قال: سألوا الموت، قال: فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال: والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال: " إنكم ماكثون " وذكر الحديث، ذكره ابن المبارك. وفي حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ فيقولون ادعوا مالكا فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ]. قال الاعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام، خرجه الترمذي. وقال ابن عباس: يقولون ذلك فلا يجيبهم ألف سنة، ثم يقول إنكم ماكثون. وقال مجاهد ونوف البكالي: بين ندائهم وإجابته إياهم مائة سنة. وقال عبد الله بن عمرو: أربعون سنة، ذكره ابن المبارك. (1) في قوله تعالى: " أو يكون لك بيت من زخرف " آية 93 سورة الاسراء. راجع ج‍ 10 ص 331 (2) آية 49 سورة غافر. (*)
[ 118 ]
قوله تعالى: لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78) يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم، أي إنكم ماكثون في النار لانا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا. ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم اليوم، أي بينا لكم الادلة وأرسلنا إليكم الرسل. " ولكن أكثركم " قال ابن عباس: " ولكن أكثركم " أي ولكن كلكم. وقيل: أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم، وأما الاتباع فما كان لهم أثر " للحق " أي للاسلام ودين الله " كارهون ". قوله تعالى: أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم بالمكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه، فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم ببدر. " أبرموا " أحكموا. والابرام الاحكام. أبرمت الشئ أحكمته. وأبرم الفتال إذا أحكم الفتل، وهو الفتل الثاني، والاول سحيل، كما قال: *... من سحيل (1) ومبرم * فالمعنى أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا، قاله ابن زيد ومجاهد. قتادة: أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث. الكلبي: أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب. وأم بمعنى بل. وقيل: " أم أبرموا " عطف على قوله " أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " (2) [ الزخرف: 45 ]. وقيل: أي ولقد جئناكم بالحق فلم تسمعوا، أم سمعوا فأعرضوا لانهم في أنفسهم أبرموا أمرا أمنوا به العقاب. قوله تعالى: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80) (1) هذا عجز بيت لزهير بن أبي سلمى. والبيت كما في ديوانه: يمينا لنعم السيدان وجدتما * على كل حال من سحيل ومبرم والسحيل، الغزل الذي لم يبرم. (2) آية 45 من هذه السورة. [ * ]
[ 119 ]
قوله تعالى: " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " أي ما يسرونه في أنفسهم ويتناجون به بينهم. " بلى " نسمع ونعلم. " ورسلنا لديهم يكتبون " أي الحفظة عندهم يكتبون عليهم. وروي أن هذا نزل في ثلاثة نفر كانوا بين الكعبة وأستارها، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا ؟ وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع. وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم. قاله محمد بن كعب القرضي. وقد مضى هذا المعنى عن ابن مسعود في سورة " فصلت ". (1) قوله تعالى: قل إن كان الرحمن ولد فأنا أول العبدين (81) سبحان رب السموات والارض رب العرش عما يصفون (82) قوله تعالى: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " اختلف في معناه، فقال ابن عباس والحسن والسدي: المعنى ما كان للرحمن ولد، ف " إن " بمعنى ما، ويكون الكلام على هذا تاما، ثم تبتدئ " فأنا أول العابدين " أي الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له. والوقف على " العابدين " تام. وقيل: المعنى قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد، وهو كما تقول لمن تناظره: إن ثبت ما قلت بالدليل فأنا أول من يعتقده، وهذا مبالغة في الاستبعاد، أي لا سبيل إلى اعتقاده. وهذا ترقيق في الكلام، كقوله: " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " (2) [ سبأ: 24 ]. والمعنى على هذا: فأنا أول العابدين لذلك الولد، لان تعظيم الولد تعظيم للوالد. وقال مجاهد: المعنى إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده وحده، على أنه لا ولد له. وقال السدي أيضا: المعنى لو كان له ولد كنت أول من عبده، على أن له ولدا ولكن لا ينبغي ذلك. قال المهدوي: ف " إن " على هذه الاقوال للشرط، وهو الاجود، وهو اختيار الطبري، لان كونها بمعنى ما يتوهم معه أن المعنى لم يكن له فيما مضى. وقيل: إن معنى " العابدين " الآنفين. وقال بعض العلماء: لو كان كذلك لكان العبدين. (1) راجع ج‍ 15 ص 351 (2) آية 24 سورة سبأ. راجع ج‍ 14 ص 298 (*)
[ 120 ]
وكذلك قرأ أبو عبد الرحمن واليماني " فأنا أول العبدين " بغير ألف، يقال، عبد يعبد عبد ا (بالتحريك) إذا أنف وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الانفة، عن أبي زيد. قال الفرزدق: أولئك أجلاسي فجئني بمثلهم * وأعبد أن أهجو كليبا بدارم وينشد أيضا: أولئك ناس إن هجوني هجوتهم * وأعبد أن يهجى كليب بدارم قال الجوهري: وقال أبو عمرو وقوله تعالى " فأنا أول العابدين " من الانف والغضب، وقال الكسائي والقتبي، حكاه الماوردي عنهما. وقال الهروي: وقوله تعالى " فأنا أول العابدين " قيل هو من عبد يعبد، أي من الآنفين. وقال ابن عرفة: إنما يقال عبد يعبد فهو عبد، وقلما يقال عابد، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ولكن المعنى فأنا أول من يعبد الله عز وجل على أنه واحد لا ولد له. وروي أن امرأة دخلت على زوجها فولدت منه لستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه فأمر برجمها، فقال له علي: قال الله تعالى " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " [ الاحقاف: 15 ] وقال في آية أخرى " وفصاله في عامين " [ لقمان: 14 ] فوالله ما عبد عثمان أن بعث إليها ترد. قال عبد الله بن وهب: يعني ما استنكف ولا أنف. وقال ابن الاعرابي: " فأنا أول العابدين " أي الغضاب الآنفين. وقيل: " فأنا أول العابدين " أي أنا أول من يعبده على الوحدانية مخالفا لكم. أبو عبيدة: معناه الجاحدين، وحكى: عبدني حقي أي جحدني. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " ولد " بضم الواو وإسكان اللام. الباقون وعاصم " ولد " وقد تقدم. (1) " سبحان رب السموات والارض " أي تنزيها له وتقديسا. نزه نفسه عن كل ما يقتضي الحدوث، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتنزيه. " عما يصفون " أي عما يقولون من الكذب. قوله تعالى: فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون (83) (1) راجع ج‍ 11 ص 155 (*)
[ 121 ]
قوله تعالى: " فذرهم يخوضوا ويلعبوا " يعني كفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة. أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم " حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون " إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة. وقيل: إن هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو محكم، وإنما أخرج مخرج التهديد. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد وابن القعقاع وابن السميقع " حتي يلقوا " بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف، وفتح القاف هنا وفي " الطور " (1) و " المعارج " (2). الباقون " يلاقوا ". قوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله وهو الحكيم العليم (84) هذا تكذيب لهم في أن لله شريكا وولدا، أي هو المستحق للعبادة في السماء والارض. وقال عمر رضي الله عنه وغيره: المعنى وهو الذي في السماء إله في الارض (3)، وكذلك قرأ. والمعنى أنه يعبد فيهما. وروي أنه قرأ هو وابن مسعود وغيرهما " وهو الذي في السماء الله وفي الارض الله " وهذا خلاف المصحف. و " إله " رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو الذي في السماء هو إله، قاله أبو علي. وحسن حذفه لطول الكلام. وقيل: " في " بمعنى على، كقوله تعالى: " ولاصلبنكم في جذوع النخل " [ طه: 71 ] أي على جذوع النخل، أي هو القادر على السماء والارض. " وهو الحكيم العليم " تقدم (4). قوله تعالى: وتبارك الذي له ملك السموات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85) " تبارك " تفاعل من البركة، وقد تقدم (5). " وعنده علم الساعة " أي وقت قيامها. " وإليه ترجعون " قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " وإليه يرجعون " بالياء. الباقون بالتاء. وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم. وضم الباقون. (1) آية 45 (2) آية 42 (3) في بعض نسخ الاصل: "... في السماء اله وفي الارض... " (4) راجع ج‍ 1 ص 287 طبعة ثانية أو ثالثة. (5) راجع ج‍ 7 ص 223 (*)
[ 122 ]
قوله تعالى: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " إلا من شهد بالحق " " من " في موضع الخفض. وأراد ب " الذين يدعون من دونه " عيسى وعزيرا والملائكة. والمعنى ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة، قاله سعيد بن جبير وغيره. قال: وشهادة الحق لا إله إلا الله. وقيل: " من " في محل رفع، أي ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة، يعني الآلهة - في قول قتادة - أي لا يشفعون لعابديها إلا من شهد بالحق، يعني عزيرا وعيسى والملائكة فإنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله. " وهم يعلمون " حقيقة ما شهدوا به. وقيل: إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه، فأنزل الله " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق " أي اعتقدوا أن الملائكة أو الاصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم ولا شفاعة لاحد يوم القيامة. " إلا من شهد بالحق " يعني المؤمنين إذا أذن لهم. قال ابن عباس: " إن من شهد بالحق " أي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل: أي لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحد إلا من شهد بالحق، فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك. و " إلا " بمعنى لكن، أي لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق، فهو استثناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا، لان في جملة " الذين يدعون من دونه " الملائكة. ويقال: شفعته وشفعت له، مثل كلته وكلت له. وقد مضى في " البقرة " معنى الشفاعة واشتقاقها فلا معنى لاعادتها (1). وقيل: " إلا من شهد بالحق " إلا من تشهد له الملائكة بأنه كان على الحق في الدنيا، مع علمهم بذلك منه بأن يكون الله أخبرهم به، أو بأن شاهدوه على الايمان. (1) راجع ج‍ 1 ص 378 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 123 ]
الثانية - قوله تعالى: " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " يدل على معنيين: أحدهما - أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقيد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني - أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها. ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ]. وقد مضى في " البقرة " (1). قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87) قوله تعالى: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " أي لاقروا بأن الله خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا. " فأنى يؤفكون " أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون عنها حتى أشركوا به غيره رجاء شفاعتهم له. يقال: أفكه يأفكه أفكا، أي قلبه وصرفه عن الشئ. ومنه قوله تعالى: " قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا " (2) [ الاحقاف: 22 ]. وقيل: أي ولئن سألت الملائكة وعيسى " من خلقهم " لقالوا الله. " فأنى يؤفكون " أي فأنى يؤفك هؤلاء في ادعائهم إياهم آلهة. قوله تعالى: وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88) في " قيله " ثلاث قراءات: النصب، والجر، والرفع. فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة. وبقية السبعة بالنصب. وأما الرفع فهي قراءة الاعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب. فمن جر حمله على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله. ومن نصب فعلى معنى: وعنده علم الساعة ويعلم قيله، وهذا اختيار الزجاج. وقال الفراء والاخفش: يجوز أن يكون " قيله " عطفا على قوله " أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " (3) [ الزخرف: 80 ]. قال ابن الانباري: سألت أبا العباس محمد ابن يزيد المبرد بأي شئ تنصب القيل ؟ فقال: أنصبه على " وعنده علم الساعة ويعلم قيله ". فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على " ترجعون "، ولا على " يعلمون ". ويحسن الوقف على " يكتبون ". (4) وأجاز الفراء والاخفش أن ينصب القيل على معنى: لا نسمع سرهم ونجواهم (1) راجع ج‍ 3 ص 389. (2) آية 22 سورة الاحقاف. (3) آية 80 من هذه السورة. (4) في آية 80. (*)
[ 124 ]
وقيله، كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على " يكتبون ". وأجاز الفراء والاخفش أيضا: أن ينصب على المصدر، كأنه قال: وقال قيله، وشكا شكواه إلى الله عز وجل، كما قال كعب بن زهير: تمشي الوشاة جنابيها (1) وقيلهم * إنك يا بن أبي سلمى لمقتول أراد: ويقولون قيلهم. ومن رفع " قيله " فالتقدير: وعنده قيله، أو قيله مسموع، أو قيله هذا القول. الزمخشري: والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. والرفع على قولهم: أيمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك، ويكون قوله " إن هؤلاء قوم لا يؤمنون " جواب القسم، كأنه قال: وأقسم بقيله يا رب، أو قيله يا رب قسمي، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وقال ابن الانباري: ويجوز في العربية " وقيله " بالرفع، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون. المهدوي: أو يكون على تقدير وقيله قيله يا رب، فحذف قيله الثاني (2) الذي هو خبر، وموضع " يا رب " نصب بالخبر المضمر، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه، لان حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور. والهاء في " قيله " لعيسى، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد جرى ذكره إذ قال " قل إن كان للرحمن ولد " [ الزخرف: 81 ]. وقرأ أبو قلابة " يا رب " بفتح الباء. والقيل مصدر كالقول، ومنه الخبر [ نهى عن قيل وقال ]. ويقال: قلت قولا وقيلا وقالا. وفي النساء " ومن أصدق من الله قيلا " (3) [ النساء: 122 ]. قوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89) قال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم، فصار الصفح منسوخا بالسيف. ونحوه عن ابن عباس قال: " فاصفح عنهم " أي أعرض عنهم. " وقل سلام " أي معروفا، أي قل لمشركي أهل مكة " فسوف تعلمون " ثم نسخ هذا في سورة " براءة " بقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (4) [ التوبة: 5 ] الآية. وقيل: هي محكمة لم تنسخ. وقراءة العامة " فسوف (1) أي ناحيتيها. (2) في الاصول: " الاول ". (3) آية 122. (4) آية 5. (*)
[ 125 ]
يعملون " (بالياء) على أنه خبر من الله تعالى لنبيه بالتهديد. وقرأ نافع وابن عامر " تعلمون " (بالتاء) على أنه من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بالتهديد. و " سلام " رفع بإضمار عليكم، قاله الفراء. ومعناه الامر بتوديعهم بالسلام، ولم يجعله تحية لهم، حكاه النقاش. وروى شعيب بن الحبحاب أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم، والله أعلم. سورة الدخان مكية باتفاق، إلا قوله تعالى: " إنا كاشفوا العذاب قليلا " (1) [ الدخان: 15 ]. وهي سبع وخمسون آية. وقيل تسع. وفي مسند الدارمي عن أبي رافع قال: (من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له وزوج من الحور العين) رفعه الثعلبي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له). وفي لفظ آخر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك). وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة). بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) إن جعلت " حم " جواب القسم تم الكلام عند قوله " المبين " ثم تبتدئ " إنا أنزلناه ". وإن جعلت " إنا كنا منذرين " جواب القسم الذي هو " الكتاب " وقفت على " منذرين " وابتدأت " فيها يفرق كل أمر حكيم ". وقيل: الجواب " إنا أنزلناه "، وأنكره بعض النحويين من حيث كان صفة للمقسم به، ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم، والهاء في " أنزلناه " (1) آية 15 (*)
[ 126 ]
للقرآن. ومن قال: أقسم بسائر الكتب فقوله " إنا أنزلناه " كنى به عن غير القرآن، على ما تقدم بيانه في أول " الزخرف " (1) والليلة المباركة ليلة القدر. ويقال: ليلة النصف من شعبان، ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة القدر. ووصفها بالبركة لما ينزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب. وروى قتادة عن واثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان وأنزلت الزبور لاثنتي عشرة من رمضان وأنزل الانجيل لثمان عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لاربع وعشرين مضت من رمضان). ثم قيل: أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في هذه الليلة. ثم أنزل نجما نجما في سائر الايام على حسب اتفاق الاسباب. وقيل: كان ينزل في كل ليلة القدر ما ينزل في سائر السنة. وقيل كان ابتداء الانزال في هذه الليلة. وقال عكرمة: الليلة المباركة ها هنا ليلة النصف من شعبان. والاول أصح لقوله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " [ القدر: 1 ]. قال قتادة وابن زيد: أنزل الله القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والايام في ثلاث وعشرين سنة. وهذا المعنى قد مضى في " البقرة " (2) عند قوله تعالى " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " [ البقرة: 185 ]، ويأتي آنفا إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم (4) قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم. وقيل: إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران، قاله ابن عمر. قال المهدوي: ومعنى هذا القول أمر الله عز وجل الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل. وقال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الاحياء من الاموات، ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد. وروى عثمان بن المغيرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تقطع الآجال من شعبان (1) راجع ص 61 من هذا الجزء. (2) آية 185 راجع ج‍ 2 ص 290 طبعة ثانية. (*)
[ 127 ]
إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى). وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا نهارها فإن الله ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا يقول ألا مستغفر فأغفر له ألا مبتلى فأعافيه ألا مسترزق فأرزقه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر) ذكره الثعلبي. وخرج الترمذي بمعناه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لاكثر من عدد شعر غنم كلب). وفي الباب عن أبي بكر الصديق قال أبو عيسى: حديث عائشة لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحجاج بن أرطاه عن يحيى بن أبي كثيرة عن عروة عن عائشة، وسمعت محمدا يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة والحجاج بن أرطاه لم يسمع من يحيى بن أبي كثير. قلت: وقد ذكر حديث عائشة مطولا صاحب كتاب العروس، واختار أن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ليلة النصف من شعبان، وأنها تسمى ليلة البراءة. وقد ذكرنا قوله والرد عليه في غير هذا الموضع، وأن الصحيح إنما هي ليلة القدر على ما بيناه. روى حماد ابن سلمة قال أخبرنا ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن وأنا عنده فقال: يا أبا سعيد، أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي ؟ قال: أي والذي لا إله إلا هو، إنها في كل رمضان، إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأجل ورزق وعمل إلى مثلها. وقال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج، يقال: يحج فلان ويحج فلان. وقال في هذه الآية: إنك لترى الرجل يمشي في الاسواق وقد وقع اسمه في الموتى، وهذه الابانة لاحكام السنة إنما هي للملائكة الموكلين بأسباب الخلق. وقد ذكرنا هذا المعنى آنفا. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر. ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان، وهو باطل لان الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " [ البقرة: 185 ] فنص على أن ميقات نزوله رمضان، ثم عين من زمانه الليل ها هنا بقوله " في ليلة مباركة "،
[ 128 ]
فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله، وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها. الزمخشري: " وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الارزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الاعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وعن بعضهم: يعطى كل عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، وعلى قلوبهم هيبته. وقرئ " نفرق " بالتشديد، و " يفرق " كل على بنائه للفاعل ونصب " كل "، والفارق الله عز وجل. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه " نفرق " بالنون. " كل أمر حكيم " كل شأن ذي حكمة، أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة ". قوله تعالى: أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) قوله تعالى: " أمرا من عندنا " قال النقاش: الامر هو القرآن أنزله الله من عنده. وقال ابن عيسى: هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده. وهو مصدر في موضع الحال. وكذلك " رحمة من ربك " وهما عند الاخفش حالان، تقديرهما: أنزلناه آمرين به وراحمين. المبرد: " أمرا " في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالا. الفراء والزجاج: " أمرا " نصب ب‍ " يفرق "، مثل قولك: يفرق فرقا. فأمر بمعنى فرق فهو مصدر، مثل قولك: يضرب ضربا. وقيل: " يفرق " يدل على يؤمر، فهو مصدر عمل فيه ما قبله. " إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك " قال الفراء: " رحمة " مفعول ب " مرسلين ". والرحمة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج: " رحمة " مفعول من أجله، أي أرسلناه للرحمة. وقيل: هي بدل من قوله " أمرا ". وقيل: هي مصدر. الزمخشري: " أمرا " نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه
[ 129 ]
فخامة بأن قال: أعنى بهذا الامر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا. وفي قراءة زيد بن علي " أمر من عندنا " على هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن " رحمة " على تلك هي رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنه مفعول له. قوله تعالى: رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحي ويميت ربكم ورب ءابائكم الاولين (8) بل هم في شك يلعبون (9) قوله تعالى: " رب السموات والارض " قرأ الكوفيون " رب " بالجر. الباقون بالرفع، ردا على قوله " إنه هو السميع العليم ". وإن شئت على الابتداء، والخبر لا إله إلا هو. أو يكون خبر ابتداء محذوف، تقديره: هو رب السموات والارض. والجر على البدل من " ربك " وكذلك " ربكم ورب آبائكم الاولين " بالجر فيهما، رواه الشيزري (1) عن الكسائي. الباقون بالرفع على الاستئناف. ثم يحتمل أن يكون هذا الخطاب مع المعترف بأن الله خلق السموات والارض، أي إن كنتم موقنين به فاعلموا أن له أن يرسل الرسل، وينزل الكتب. ويجوز أن يكون الخطاب مع من لا يعترف أنه الخالق، أي ينبغي أن يعرفوا أنه الخالق، وأنه الذي يحيي ويميت. وقيل: الموقن ها هنا هو الذي يريد اليقين ويطلبه، كما تقول: فلان ينجد، أي يريد نجدا. ويتهم، أي يريد تهامة. " لا إله إلا هو يحيي ويميت " أي هو خالق العالم، فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شئ. و " هو يحيي ويميت " أي يحيي الاموات ويميت الاحياء. " ربكم ورب آبائكم الاولين " أي مالككم ومالك من تقدم منكم. واتقوا تكذيب محمد لئلا ينزل بكم العذاب. " بل هم في شك يلعبون " أي ليسوا على يقين فيما يظهرونه من الايمان والاقرار في قولهم: إن الله خالقهم، وإنما (1) هو عيسى بن سليمان أبو موسى الحجازي، كان حجازيا ثم انتقل إلى شيزر (كحيدر، بلدة قرب حماة) وأقام بها إلى أن مات فنسب إليها، أخذ القراءة عرضا وسماعا من الكسائي، وله عنه انفرادات. (غاية النهاية). (*)
[ 130 ]
يقولونه لتقليد آبائهم من غير علم فهم في شك. وإن توهموا أنهم مؤمنون فهم يلعبون في دينهم بما يعن لهم من غير حجة. وقيل: " يلعبون " يضيفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الافتراء استهزاء. ويقال لمن أعرض عن المواعظ: لاعب، وهو كالصبي الذي يلعب فيفعل ما لا يدري عاقبته. قوله تعالى: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) قوله تعالى: " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " ارتقب معناه انتظر يا محمد بهؤلا الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين، قاله قتادة. وقيل: معناه احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين، ولذلك سمي الحافظ رقيبا. وفي الدخان أقوال ثلاثة: الاول أنه من أشراط الساعة لم يجئ بعد، وأنه يمكث في الارض أربعين يوما يملا ما بين السماء والارض، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويضيق أنفاسهم، وهو من آثار جهنم يوم القيامة. وممن قال إن الدخان لم يأت بعد: علي وابن عباس وابن عمرو وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن وابن أبي مليكة وغيرهم. وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة، يأخذ المؤمن منه كالزكمة. وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه، ذكره الماوردي. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: (ما تذكرون) ؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات - فذكر - الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). في رواية عن حذيفة (إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال
[ 131 ]
ودابة الارض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس). وخرجه الثعلبي أيضا عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول الآيات خروجا الدجال ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتصبح معهم إذا أصبحوا وتمسي معهم إذا أمسوا). قلت: يا نبي الله، وما الدخان ؟ قال هذه الآية: " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " يملا ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام وأما والكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من فمه ومنخره وعينيه وأذنيه ودبره). فهذا قول. القول الثاني - أن الدخان هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان الرجل يرى بين السماء والارض دخانا، قاله ابن مسعود. قال: وقد كشفه الله عنهم، ولو كان يوم القيامة لم يكشفه عنهم. والحديث عنه بهذا في صحيح البخاري ومسلم والترمذي. قال البخاري: حدثني يحيي قال حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن مسلم عن مسروق قال قال عبد الله: إنما كان هذا لان قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى: " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين. يغشى الناس هذا عذاب أليم ". قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. قال: (لمضر ! إنك لجرئ) فاستسقى فسقوا، فنزلت: " إنكم عائدون " [ الدخان: 15 ]. فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " قال: يعني يوم بدر. قال أبو عبيدة: والدخان الجدب. القتبي: سمي دخانا ليبس الارض منه حين يرتفع منها كالدخان. القول الثالث - إنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، قاله عبد الرحمن الاعرج. " يغشى الناس " في موضع الصفة للدخان، فإن كان قد مضى على ما قال ابن مسعود فهو خاص بالمشركين من أهل مكة، وإن كان من
[ 132 ]
أشراط الساعة فهو عام على ما تقدم. " هذا عذاب أليم " أي يقول الله لهم: " هذا عذاب أليم ". فمن قال: إن الدخان قد مضى فقوله: " هذا عذاب أليم " حكاية حال ماضية، ومن جعله مستقبلا فهو حكاية حال آتية. وقيل: " هذا " بمعنى ذلك. وقيل: أي يقول الناس لذلك الدخان: " هذا عذاب أليم ". وقيل: هو إخبار عن دنو الامر، كما تقول: هذا الشتاء فأعد له. قوله تعالى: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12) أي يقولون ذلك، اكشف عنا العذاب ف " إنا مؤمنون "، أي نؤمن بك إن كشفته عنا. قيل: إن قريشا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، ثم نقضوا هذا القول. قال قتادة: " العذاب " هنا الدخان. وقيل: الجوع، حكاه النقاش. قلت: ولا تناقض، فإن الدخان لم يكن إلا من الجوع الذي أصابهم، على ما تقدم. وقد يقال للجوع والقحط: الدخان، ليبس الارض في سنة الجدب وارتفاع الغبار بسبب قلة الامطار، ولهذا يقال لسنة الجدب: الغبراء. وقيل: إن العذاب هنا الثلج. قال الماوردي وهذا لا وجه له، لان هذا إنما يكون في الآخرة أو في أهل مكة، ولم تكن مكة من بلاد الثلج، غير أنه مقول فحكيناه. قوله تعالى: أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) قوله تعالى: " أنى لهم الذكرى " أي من أين يكون لهم التذكر والاتعاظ عند حلول العذاب. " وقد جاءهم رسول مبين " يبين لهم الحق، والذكرى والذكر واحد، قاله البخاري. " ثم تولوا عنه " أي أعرضوا. قال ابن عباس: أي متى يتعظون والله أبعدهم من الاتعاظ والتذكر بعد توليهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه. وقيل: أي أنى ينفعهم
[ 133 ]
قولهم: " إنا مؤمنون " بعد ظهور العذاب غدا أو بعد ظهور أعلام الساعة، فقد صارت المعارف ضرورية. وهذا إذا جعلت الدخان آية مرتقبة. " وقالوا معلم مجنون " أي علمه بشر أو علمه الكهنة والشياطين، ثم هو مجنون وليس برسول. قوله تعالى: إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون (15) قوله تعالى: " إنا كاشفوا العذاب قليلا " أي وقتا قليلا، وعد أن يكشف عنهم ذلك العذاب قليلا، أي في زمان قليل ليعلم أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه، قاله ابن مسعود. فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى لهم الله عليه وسلم عادوا إلى تكذيبه. ومن قال: إن الدخان منتظر قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية من آيات قيام الساعة. ثم من قضي عليه بالكفر يستمر على كفره. ومن قال هذا في القيامة قال: أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر. وقيل: معنى " إنكم عائدون " إلينا، أي مبعوثون بعد الموت. وقيل: المعنى " إنكم عائدون " إلى نار جهنم إن لم تؤمنوا. قوله تعالى: يمو نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16) " يوم " محمول على ما دل عليه " منتقمون "، أي ننتقم منهم يوم نبطش. وأبعده بعض النحويين بسبب أن ما بعد " إن " لا يفسر ما قبلها. وقيل: إن العامل فيه " منتقمون ". وهو بعيد أيضا، لان ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبلها. ولا يحسن تعلقه بقوله: " عائدون " ولا بقوله: " إنا كاشفوا العذاب "، إذ ليس المعنى عليه. ويجوز نصبه بإضمار فعل، كأنه قال: ذكرهم أو اذكر. ويجوز أن يكون المعنى إنكم عائدون، فإذا عدتم أنتقم منكم يوم نبطش البطشة الكبرى. ولهذا وصل هذا بقصة فرعون، فإنهم وعدوا موسى الايمان إن كشف عنهم العذاب، ثم لم يؤمنوا حتى غرقوا. وقيل: " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " كلام تام. ثم ابتدأ " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " أي ننتقم من جميع الكفار. وقيل: المعنى وارتقب الدخان وارتقب يوم نبطش، فحذف واو العطف،
[ 134 ]
كما تقول: اتق النار اتق العذاب. و " البطشة الكبرى " في قول ابن مسعود: يوم بدر. وهو قول ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد والضحاك. وقيل: عذاب جهنم يوم القيامة، قاله الحسن وعكرمة وابن عباس أيضا، واختاره الزجاج. وقيل: دخان يقع في الدنيا، أو جوع أو قحط يقع قبل يوم القيامة. الماوردي: ويحتمل أنها قيام الساعة، لانها خاتمة بطشاته في الدنيا. ويقال: انتقم الله منه، أي عاقبه. والاسم منه النقمة (1) والجمع النقمات. وقيل بالفرق بين النقمة والعقوبة، فالعقوبة بعد المعصية لانها من العاقبة. والنقمة قد تكون قبلها، قاله ابن عباس. وقيل: العقوبة ما تقدرت والانتقام غير مقدر. قوله تعالى: ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أي ابتليناهم. ومعنى هذه الفتنة والابتلاء الامر بالطاعة. والمعنى: عاملناهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم فكذبوا فأهلكوا، فهكذا أفعل بأعدائك يا محمد إن لم يؤمنوا. وقيل: فتناهم عذبناهم بالغرق. وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد جاء آل فرعون رسول كريم وفتناهم، أي أغرقناهم، لان الفتنة كانت بعد مجئ الرسل. والواو لا ترتب. ومعنى " كريم " أي كريم في قومه. وقيل: كريم الاخلاق بالتجاوز والصفح. وقال الفراء: كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام. قوله تعالى: أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين (18) وأن لا تعلو على الله إنئ اتيكم بسلطان مبين (19) قوله تعالى: " أن أدوا إلى عباد الله " قال ابن عباس: المعنى جاءهم فقال اتبعوني. ف " عباد الله " منادى. وقال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب. ف " عباد الله " على هذا مفعول. وقيل: المعنى أدوا إلي سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربي. " إني رسول أمين " أي أمين على الوحي فاقبلوا نصحي. وقيل: أمين على ما أستأديه (1) في كتب اللغة: " النقمة بالكسر والفتح وكفرحة جمع نقم ككلم وعنب وكلمات ". (*)
[ 135 ]
منكم فلا أخون فيه. " والا تعلوا على الله " أي لا تتكبروا عليه ولا ترتفعوا عن طاعته. وقال قتادة: لا تبغوا على الله. ابن عباس: لا تفتروا على الله. والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل والافتراء بالقول. وقال ابن جريج: لا تعظموا على الله. يحيى بن سلام: لا تستكبروا على عبادة الله. والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر، ذكره الماوردي. " إني آتيكم بسلطان مبين " قال قتادة: بعذر بين. وقال يحيى بن سلام: بحجة بينة. والمعنى واحد، أي برهان بين. قوله تعالى: وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون (20) كأنهم توعدوه بالقتل فاستجار بالله. قال قتادة: " ترجمون " بالحجارة. وقال ابن عباس: تشتمون، فتقولوا ساحر كذاب. وأظهر الذال من " عذت " نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب. وأدغم الباقون. والادغام طلبا للتخفيف، والاظهار على الاصل. ثم قيل: إني عذت بالله فيما مضى، لان الله وعده فقال: " فلا يصلون إليكما " (1) [ القصص: 35 ]. وقيل: إني أعوذ، كما تقول نشدتك بالله، وأقسمت عليك بالله، أي أقسم. قوله تعالى: وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21) قوله تعالى: " وإن لم تؤمنوا لي " أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لاجل برهاني، فاللام في " لي " لام أجل. وقيل: أي وإن لم تؤمنوا بي، كقوله: " فآمن له لوط " (2) [ العنكبوت: 26 ] أي به. " فاعتزلون " أي دعوني كفافا (3) لا لي ولا علي، قاله مقاتل. وقيل: أي كونوا بمعزل مني وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا. وقيل: فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي. والمعنى متقارب، والله أعلم. قوله تعالى: فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) (1) آية 35 سورة القصص. (2) آية 26 سورة العنكبوت. (3) أي مكفوفا عنى شركم. (*)
[ 136 ]
قوله تعالى: " فدعا ربه " فيه حذف، أي فكفروا فدعا ربه. " أن هؤلاء " بفتح " أن " أي بأن هؤلاء. " قوم مجرمون " أي مشركون، قد امتنعوا من إطلاق بني إسرائيل ومن الايمان. قوله تعالى: فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " فأسر بعبادي ليلا " أي فأجبنا دعاءه وأوحينا إليه أن أسر بعبادي، أي بمن آمن بالله من بني إسرائيل. " ليلا " أي قبل الصباح. " إنكم متبعون " وقرأ أهل الحجاز " فاسر " بوصل الالف. وكذلك ابن كثير، من سرى. الباقون " فأسر " بالقطع، من أسرى. وقد تقدم (1). وتقدم خروج فرعون وراء موسى في " البقرة والاعراف وطه والشعراء ويونس " (2) وإغراقه وإنجاء موسى، فلا معنى للاعادة. الثانية - أمر موسى عليه السلام بالخروج ليلا. وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترا مسدلا، فهو من أستار الله تعالى. وإما من خوف المشقة على الدواب والابدان بحر أو جدب، فيتخذ السرى مصلحة من ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسري ويدلج (3) ويترفق ويستعجل، بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الابل حظها من الارض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها). (4) وقد مضى في أول " النحل " (5)، والحمد لله. قوله تعالى: واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) (1) راجع ج‍ 9 ص 79 (2) راجع ج‍ 1 ص 389 وما بعدها. وج‍ 8 ص 377 وما بعدها. وج‍ 11 ص 227 وما بعدها. وج‍ 13 ص 105 وما بعدها. (3) قوله: " يسري " أي يسير عامة الليل. و " يدلج " أي سار من أول الليل. وربما استعمل لسير آخر الليل. (4) قوله: " في السنة " أي في القحط وانعدام نبات الارض من يبسها. والنقي (بكسر النون وسكون القاف) هو المخ، ومعناه أسرعوا في السير الابل لتصلوا إلى المقصد وفيها بقية من قوتها. (5) راجع ج‍ 10 ص 73 (*)
[ 137 ]
قال ابن عباس: " رهوا " أي طريقا. وقاله كعب والحسن. وعن ابن عباس أيضا سمتا. الضحاك والربيع: سهلا. عكرمة: يبسا، لقوله: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " وقيل: مفترقا. مجاهد: منفرجا. وعنه يابسا. وعنه ساكنا، وهو المعروف في اللغة. وقاله قتادة والهروي. وقال غيرهما: منفرجا. وقال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد وإن اختلف لفظاهما، لانه إذا سكن جريه انفرج. وكذلك كان البحر يسكن جريه وانفرج لموسى عليه السلام. والرهو عند العرب: الساكن، يقال: جاءت الخيل رهوا، أي ساكنة. قال: والخيل تمزع رهوا في أعنتها * كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد (1) الجوهري: ويقال افعل ذلك رهوا، أي ساكنا على هينتك (2). وعيش راه، أي ساكن رافه. وخمس راه، إذا كان سهلا. ورها البحر أي سكن. وقال أبو عبيد: رها بين رجليه يرهو رهوا أي فتح، ومنه قوله تعالى: " واترك البحر رهوا ". والرهو: السير السهل، يقال: جاءت الخيل رهوا. قال ابن الاعرابي: رها يرهو في السير أي رفق. قال القطامي في نعت الركاب: يمشين رهوا فلا الاعجاز خاذلة * ولا الصدور على الاعجاز تتكل والرهو والرهوة: المكان المرتفع، والمنخفض أيضا يجتمع فيه الماء، وهو من الاضداد. وقال أبو عبيد: الرهو: الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره. وفي الحديث أنه قضى أن (لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ولا ركح ولا رهو) (3). والجمع رهاء. والرهو: المرأة الواسعة الهن. حكاه النضير بن شميل. والرهو: ضرب من الطير، ويقال: (1) البيت للنابغة الذبياني. و " تمزع ": تمرمرا سريعا. وقد وردت هذه الكلمة في الاصل محرفة، ففي بعضها " تمرح " بالراء والحاء. وفي البعض الآخر: " تمرع " بالراء والعين. ويروى: " غربا " بدل " رهوا " أي حدة. و " الشؤبوب ": السحاب العظيم القطر. (2) الهينة (بالكسر): السكينة والوقار. (3) الفناء: فناء الدار، هو ما امتد معها من جوانبها. والمنقبة: هي الطريق بين الدارين. وقيل: هو الطريق الذي يعلو أنشاز الارض. والركح (بالضم): ناحية البيت من ورائه، وربما كان فضاء لا بناء فيه. (*)
[ 138 ]
هو الكركي. قال الهروي: ويجوز أن يكون " رهوا " من نعت موسى - وقاله القشيري - أي سر ساكنا على هينتك، فالرهو من نعت موسى وقومه لا من نعت البحر، وعلى الاول هو من نعت البحر، أي اتركه ساكنا كما هو قد انفرق فلا تأمره بالانضمام حتى يدخل فرعون وقومه. قال قتادة: أراد موسى أن يضرب البحر لما قطعه بعصاه حتى يلتئم، وخاف أن يتبعه فرعون فقيل له هذا. وقيل: ليس الرهو من السكون بل هو الفرجة بين الشيئين، يقال: رها ما بين الرجلين أي فرج. فقوله: " رهوا " أي منفرجا. وقال الليث: الرهو ومشي في سكون، يقال: رها يرهو رهوا فهو راه. وعيش راه: وادع خافض. وافعل ذلك سهوا رهوا، أي ساكنا بغير شدة. وقد ذكرناه آنفا. " إنهم " أي إن فرعون وقومه. " جند مغرقون " أخبر موسى بذلك ليسكن قلبه. قوله تعالى: كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) قوله تعالى: " كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم " " كم " للتكثير. وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في " الشعراء " مستوفى (1). " ونعمة كانوا فيها فاكهين " النعمة (بالفتح) التنعيم، يقال: نعمه الله وناعمه فتنعم. وامرأة منعمة ومناعمة، بمعنى. والنعمة (بالكسر) اليد والصنيعة والمنة وما أنعم به عليك. وكذلك النعمى. فإن فتحت النون مددت وقلت: النعماء. والنعيم مثله. وفلان واسع النعمة، أي واسع المال، جميعه عن الجوهري. وقال ابن عمر: المراد بالنعمة نيل مصر. ابن لهيعة: الفيوم. ابن زياد: أرض مصر لكثرة خيرها. وقيل: ما كانوا فيه من السعة والدعة. وقد يقال: نعمة ونعمة (بفتح النون وكسرها)، حكاه الماوردي. قال: وفى الفرق بينهما وجهان: أحدهما - أنها بكسر النون في الملك، وبفتحها في البدن والدين، قاله النضر بن شميل. الثاني - أنها بالكسر من المنة وهو الافضال والعطية، وبالفتح من التنعيم وهو سعة العيش والراحة، قاله ابن زياد. (1) راجع ج‍ 13 ص 102 وما بعدها. (*)
[ 139 ]
قلت: هذا الفرق هو الذي وقع في الصحاح وقد ذكرناه. وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو الاشهب والاعرج وأبو جعفر وشيبة " فكهين " بغير ألف، ومعناه أشرين بطرين. قال الجوهري: فكه الرجل (بالكسر) فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الاشر البطر. وقرئ " ونعمة كانوا فيها فكهين " أي أشرين بطرين. و " فاكهين " أي ناعمين. القشيري: " فاكهين " لاهين مازحين، يقال: إنه لفاكه أي مزاح. وفيه فكاهة أي مزح. الثعلبي: وهما لغتان كالحاذر والحذر، والفاره والفره. وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة. والفاكهة: فضل عن القوت الذي لا بد منه. قوله تعالى: كذلك وأورثناها قوما ءاخرين (28) قال الزجاج: أي الامر كذلك، فيوقف على " كذلك ". وقيل: إن الكاف في موضع نصب، على تقدير نفعل فعلا كذلك بمن نريد إهلاكه. وقال الكلبي: " كذلك " أفعل بمن عصاني. وقيل: " كذلك " كان أمرهم فأهلكوا. " وأورثناها قوما آخرين " يعني بني إسرائيل، ملكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين، لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث. ونظيره " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها " (1) [ الاعراف: 137 ]. الآية. قوله تعالى: فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين (29) قوله تعالى: " فما بكت عليهم السماء والارض " أي لكفرهم. " وما كانوا منظرين ". أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والارض، أي عمت مصيبته الاشياء حتى بكته السماء والارض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر: (1) آية 137 سورة الاعراف. (*)
[ 140 ]
فالريح تبكي شجوها * والبرق يلمع في الغمامه (1) وقال آخر: (2) والشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وقالت الخارجية: (3) أيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد. وقيل: في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والارض من الملائكة، كقوله تعالى: " واسأل القرية " [ يوسف: 82 ] بل سروا بهلاكهم، قاله الحسن. وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه - ثم تلا - " فما بكت عليهم السماء والارض ". يعني أنهم لم يعملوا على الارض عملا صالحا تبكي عليهم لاجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك. وقال مجاهد: إن السماء والارض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب ! وما للارض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل !. وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مصلاه من الارض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الارض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. وفي بكاء السماء والارض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شريح الحضرمي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة - (1) البيت ليزيد بن مغرغ الحميري. ورد هذا البيت في الاصول محرفا، والتصويب عن وفيات الاعيان وشرح الكامل. (2) هو جرير. (3) الخارجية هي ليلى بنت طريف الشيباني ترثي أخاها الوليد ابن طريف، وكان رأس الخوارج وأشدهم بأسا وصولة. (*)
[ 141 ]
قيل: من هم يا رسول الله ؟ قال - هم الذين إذا فسد الناس صلحوا - ثم قال - ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والارض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - " فما بكت عليهم السماء والارض " - ثم قال - ألا إنهما لا يبكيان على الكافر). قلت: وذكر أبو نعيم محمد بن معمر قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال حدثنا يحيى بن عبد الله قال حدثنا الاوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الارض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت. وقيل: بكاؤهما حمرة أطرافهما، قاله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعطاء والسدي والترمذي محمد ابن علي وحكاه عن الحسن. قال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء، وبكاؤها حمرتها. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها. وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما. وقال سليمان القاضي: مطرنا دما يوم قتل الحسين. قلت: روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشفق الحمرة). وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا: الشفق شفقان، الحمرة والبياض، فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة. وعن أبي هريرة قال: الشفق الحمرة. وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين. وقد تقدم في " سبحان " (1) عن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكرياء والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها. وقال محمد بن علي الترمذي: البكاء إدرار الشئ فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الارض بغبرتها قيل بكت، لان المؤمن نور ومعه نور الله، فالارض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فإن فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت (1) راجع ج‍ 10 ص 220. (*)
[ 142 ]
باغبرارها، لانها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن، فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها. وقال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء كل شئ، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شئ، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الايدي منه حتى أنكرنا قلوبنا. وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن. وقال نصر بن عاصم: إن أول الآيات حمرة تظهر، وإنما ذلك لدنو الساعة، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين. وقيل: بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن. قلت: والقول الاول أظهر، إذ لا استحالة في ذلك. وإذا كانت السموات والارض تسبح وتسمع وتتكلم - كما بيناه في " سبحان ومريم وحم فصلت (1) " - فكذلك تبكي، مع ما جاء من الخبر في ذلك. قوله تعالى: ولقد نحينا بني إسرائيل من العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31) يعني ما كانت القبط تفعل بهم بأمر فرعون، من قتل الابناء واستخدام النساء، واستعبادهم إياهم وتكلفهم الاعمال الشاقة. " من فرعون " بدل من " العذاب المهين " فلا تتعلق " من " بقوله: " من العذاب " لانه قد وصف، وهو لا يعمل بعد الوصف عمل الفعل. وقيل: أي أنجيناهم من العذاب ومن فرعون. " إنه كان عاليا من المسرفين " أي جبارا من المشركين. وليس هذا علو مدح بل هو علو في الاسراف، كقوله: " إن فرعون علا في الارض " (2) [ القصص: 4 ]. وقيل: هذا العلو هو الترفع عن عبادة الله. قوله تعالى: ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32) قوله تعالى: " ولقد اخترناهم " يعني بني إسرائيل. " على علم " أي على علم منا بهم لكثرة الانبياء منهم. " على العالمين " أي عالمي زمانهم، بدليل قوله لهذه الامة: " كنتم خير (1) راجع ج‍ 10 ص 266 وج‍ 11 ص 157 وج‍ 15 ص 344 (2) آية 4 سورة القصص. (*)
[ 143 ]
أمة أخرجت للناس " (1) [ آل عمران: 110 ]. وهذا قول قتادة وغيره. وقيل على كل العالمين بما جعل فيهم من الانبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم، حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما. ويكون قوله: " كنتم خير أمة " أي بعد بني إسرائيل. والله أعلم. وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخليصهم من الغرق وإيراثهم الارض بعد فرعون. قوله تعالى: وءاتيناهم من الايات ما فيه بلاؤا مبين (33) قوله تعالى: " وآتيناهم من الايات " أي من المعجزات لموسى. " ما فيه بلاء مبين " قال قتادة: الآيات إنجاؤهم من فرعون وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى. ويكون هذا الخطاب متوجها إلى بني إسرائيل. وقيل: إنها العصا واليد. ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجها إلى قوم فرعون. وقول ثالث - إنه الشر الذي كفهم عنه والخبر الذي أمرهم به، قاله عبد الرحمن بن زيد. ويكون الخطاب متوجها إلى الفريقين معا من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله: " بلاء مبين " أربعة أوجه: أحدها - نعمة ظاهرة، قاله الحسن وقتادة. كما قال الله تعالى: " وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا " (2) [ الانفال: 17 ]. وقال زهير: فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (3) الثاني - عذاب شديد، قاله الفراء. الثالث - اختيار يتميز به المؤمن من الكافر، قاله عبد الرحمن بن زيد. وعنه أيضا: ابتلاؤهم بالرخاء والشدة، ثم قرأ " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " (4) [ الانبياء: 35 ]. قوله تعالى: إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الاولى ما نحن بمنشرين (35) فأتوا بأبآئنا إن كنتم صادقين (36) (1) آية 110 سورة آل عمران. (2) آية 17 سورة الانفال. (3) صدره: * رأي الله بالاحسان ما فعلا بكم * (4) آية 35 سورة الانبياء. (*)
[ 144 ]
قوله تعالى: " إن هؤلاء ليقولون " يعني كفار قريش " إن هي إلا موتتنا الاولى " ابتداء وخبر، مثل " إن هي إلا فتنتك " (1) [ الاعراف: 155 ]، " إن هي إلا حياتنا الدنيا " (2) [ المؤمنون: 37 ] " وما نحن بمنشرين " أي بمبعوثين. " فاتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم. (3) والمنشورون المبعوثون. قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا، أحدهما - قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا، لنسأله عما يكون بعد الموت. وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات، لان الاعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف، فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل: لو قال إن كان ينشأ بعدنا قوم من الابناء، فلم لا يرجع من مضى من الآباء، حكاه الماوردي. ثم قيل: " فأتوا بآبائنا " مخاطبة وللنبي صلى الله عليه وسلم وحده، كقوله: " رب ارجعون " (4) [ المؤمنون: 99 ] قاله الفراء. وقيل: مخاطبة له ولاتباعه. قوله تعالى: أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37) وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39) قوله تعالى: " أهم خير أم قوم تبع " هذا استفهام إنكار، أي إنهم مستحقون في هذا القول العذاب، إذ ليسوا خيرا من قوم تبع والامم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك فكذا هؤلاء. وقيل: المعنى أهم أظهر نعمة وأكثر أموالا أم قوم تبع. وقيل: أهم أعز وأشد وأمنع أم قوم تبع. وليس المراد بتبع رجلا واحدا بل المراد به ملوك اليمن، فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة. فتبع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم. وقال أبو عبيدة: سمى كل واحد منهم تبعا لانه يتبع صاحبه. قال الجوهري: والتبابعة ملوك اليمن، واحدهم تبع. والتبع أيضا الظل، وقال: (1) آية 155 سورة الاعراف. (2) آية 29 سورة الانعام. (3) راجع ج‍ 11 ص 278 (4) آية 99 سورة المؤمنون. (*)
[ 145 ]
يرد المياه حضيرة ونفيضة * ورد القطاة إذا اسمأل التبع (1) والتبع أيضا ضرب من الطير. وقال السهيلي: تبع اسم لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت، وإن ملك اليمن وحدها لم يقل له تبع، قاله المسعودي. فمن التبابعة: الحارث الرائش، هو ابن همال ذي سدد (2). وأبرهة ذو المنار. وعمرو ذو الاذعار. وشمر بن مالك، الذي تنسب إليه سمرقند. وأفريقيس بن قيس، الذي ساق البربر إلى أفريقية من أرض كنعان، وبه سميت إفريقية. والظاهر من الآيات أن الله سبحانه إنما اراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم أشد من معرفة غيره، ولذلك قال عليه السلام: (ولا أدري أتبع لعين أم لا). ثم قد روي عنه أنه قال: (لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا) فهذا يدلك على أنه كان واحدا بعينه، وهو - والله أعلم - أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لما أخبر أنهم مهاجر نبي اسمه أحمد. وقال شعرا أودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه. ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد. وفيه: شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا والزمخشري وغيرهم أنه حفر قبر له بصنعاء - ويقال بناحية حمير - في الاسلام، فوجد فيه امرأتان صحيحتان، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب " هذا قبر حبي ولميس " ويروى أيضا: حبي وتماضر، ويروى أيضا: هذا قبر رضوي وقبر حبي ابنتا تبع، ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به شيئا، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. (1) البيت لسعدي - وقيل لسلمى - الجهنية ترثي أخاها أسعد. والحضيرة والنقيضة: جماعة القوم، وقيل: النفر يغزي بهم. وقيل غير هذا. واسمأل الظل: قصر وضمر، وذلك عند نصف النهار. (2) وردت هذه الاسماء محرفة. (*)
[ 146 ]
قلت: وروى ابن إسحاق وغيره أنه كان في الكتاب الذي كتبه: (أما بعد، فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شئ، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الاسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة، فإني من أمتك الاولين وبايعتك قبل مجيئك، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام ". ثم ختم الكتاب ونقش عليه: " لله الامر من قبل ومن بعد " [ الروم: 4 ]. وكتب على عنوانه (إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله، خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. من تبع الاول ". وقد ذكرنا بقية خبره وأوله في " اللمع اللؤلؤية شرح العشر بينات النبوية " (1) للفارابي رحمه الله. وكان من اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص. واختلف هل كان نبيا أو ملكا، فقال ابن عباس: كان تبع نبيا. وقال كعب: كان تبع ملكا من الملوك، وكان قومه كهانا وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمر الفريقين أن يقرب كل فريق منهم قربانا ففعلوا، فتقبل قربان أهل الكتاب فأسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا. وحكى قتادة أن تبعا كان رجلا من حمير، سار بالجنود حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها، حكاه الماوردي. وحكى الثعلبي عن قتادة أنه تبع الحميري، وكان سار بالجنود حتى عبر الحيرة. وبنى سمرقند وقتل وهدم البلاد. وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعا لانه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات (2). وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، وضرب بهم لقريش مثلا لقربهم من دارهم وعظمهم في نفوسهم، فلما أهلكهم الله تعالى ومن قبلهم - لانهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك. وافتخر أهل اليمن بهذه الآية، إذ جعل الله قوم تبع خيرا من قريش. وقيل: سمي أولهم تبعا لانه أتبع قرن الشمس وسافر في الشرق مع العساكر. (1) اضطربت الاصول في هذا الكتاب وفي اسم مؤلفه، ولم نعثر عليه. (2) الحبرات (بالكسر فقتح جمع حبرة وحبرة): ضرب من برود اليمن منمر. (*)
[ 147 ]
قوله تعالى: " والذين من قبلهم أهلكناهم " " الذين " في موضع رفع عطف على " قوم تبع ". " أهلكناهم " صلته. ويكون " من قبلهم " متعلقا به. ويجوز أن يكون " من قبلهم " صلة " الذين " ويكون في الظرف عائد إلى الموصول. وإذا كان كذلك كان " أهلكناهم " على أحد أمرين: إما أن يقدر معه " قد " فيكون في موضع الحال. أو يقدر حذف موصوف، كأنه قال: قوم أهلكناهم. والتقدير أفلا تعتبرون أنا إذا قدرنا على إهلاك هؤلاء المذكورين قدرنا على إهلاك المشركين. ويجوز أن يكون " والذين من قبلهم " ابتداء خبره " أهلكناهم ". ويجوز أن يكون " الذين " في موضع جر عطفا على " تبع " كأنه قال: قوم تبع المهلكين من قبلهم. ويجوز أن يكون " الذين " في موضع نصب باضمار فعل دل عليه " أهلكناهم ". والله أعلم. قوله تعالى: " وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين " أي غافلين، قاله مقاتل. وقيل: لاهين، وهو قول الكلبي. " وما خلقناهما إلا بالحق " أي إلا بالامر الحق، قاله مقاتل. وقيل: إلا للحق، قاله الكلبي والحسن. وقيل: إلا لاقامة الحق وإظهاره من توحيد الله والتزام طاعته. وقد مضى هذا المعنى في " الانبياء " (1). " ولكن أكثرهم " يعني أكثر الناس. " لا يعلمون " ذلك. قوله تعالى: إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40) " يوم الفصل " هو يوم القيامة، وسمي بذلك لان الله تعالى يفصل فيه بين خلقه. دليله قوله تعالى: " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم " (2) [ الممتحنة: 3 ]. ونظيره قوله تعالى: " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون " (3) [ الروم: 14 ]. ف " يوم الفصل " ميقات الكل، كما قال تعالى: " إن يوم الفصل كان ميقاتا " (4) [ النبأ: 17 ] أي الوقت المجعول لتمييز المسئ من المحسن، والفصل بينهما: فريق في الجنة وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد. ولا خلاف بين القراء في رفع (1) راجع ج‍ 11 ص 276. (2) آية 3 سورة الممتحنة. (4) آية 14 سورة الروم. (4) آية 17 سورة النبأ. (*)
[ 148 ]
" ميقاتهم " على أنه خبر " إن " واسمها " يوم الفصل ". وأجاز الكسائي والفراء نصب " ميقاتهم ". ب " إن " و " يوم الفصل " ظرف في موضع خبر " إن "، أي إن ميقاتهم يوم الفصل. قوله تعالى: يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42) قوله تعالى: " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا " " يوم " بدل من " يوم " الاول. والمولى: الولي وهو ابن العم والناصر. أي لا يدفع ابن عم عن ابن عمه، ولا قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه. " ولا هم ينصرون " أي لا ينصر المؤمن الكافر لقرابته. ونظير هذه الآية " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا " (1) [ البقرة: 48 ] الآية. " إلا من رحم الله " " من " رفع على البدل من المضمر في " ينصرون "، كأنك قلت: لا يقوم أحد إلا فلان. أو على الابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: إلا من رحم الله فمغفور له، أو فيغني عنه ويشفع وينصر. أو على البدل من " مولى " الاول، كأنه قال: لا يغني إلا من رحم الله. وهو عند الكسائي والفراء نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من يغنيهم من المخلوقين. ويجوز أن يكون استثناء متصلا، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض. " إنه هو العزيز الرحيم " أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه، كما قال " شديد العقاب ذي الطول " (2) [ غافر: 3 ] فقرن الوعد بالوعيد. قوله تعالى: إن شجرة الزقوم (43) طعام الاثيم (44) كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم (46) قوله تعالى: " إن شجرة الزقوم " كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر الشجرة فالوقف عليه بالهاء، إلا حرفا واحدا في صورة الدخان " إن شجرة الزقوم. طعام الاثيم "، قاله (1) آية 48 سورة البقرة. (2) آية 3 سورة غافر. (*)
[ 149 ]
ابن الانباري. و " الاثيم " الفاجر، قاله أبو الدرداء. وكذلك قرأ هو وابن مسعود. وقال همام بن الحارث: كان أبو الدرداء يقرئ رجلا " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم " والرجل يقول: طعام اليتيم، فلما لم يفهم قال له: " طعام الفاجر ". قال أبو بكر الانباري: حدثني أبي قال حدثنا نصر قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا نعيم بن حماد عن عبد العزيز بن محمد عن ابن عجلان عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: علم عبد الله بن مسعود رجلا " إن شجرة الزقوم. طعام الاثيم " فقال الرجل: طعام اليتيم، فأعاد عليه عبد الله الصواب وأعاد الرجل الخطأ، فلما رأى عبد الله أن لسان الرجل لا يستقيم على الصواب قال له: أما تحسن أن تقول طعام الفاجر ؟ قال بلى، قال فافعل. ولا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ، أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره، لان ذلك إنما كان من عبد الله تقريبا للمتعلم، وتوطئة منه له للرجوع إلى الصواب، واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله وحكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزمخشري: " وبهذا يستدل على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. ومنه أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية على شريطة، وهي أن يؤدي القارئ المعاني على كمالها من غير أن يخرم منها شيئا. قالوا: وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة، لان في كلام العرب خصوصا في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه، من لطائف المعاني والاغراض ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها، وما كان أبو حنيفة رحمه الله يحسن الفارسية، فلم يكن ذلك منه عن تحقق وتبصر. وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قول صاحبيه في إنكار القراءة بالفارسية ". وشجرة الزقوم: الشجرة التي خلقها الله في جهنم وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها، فغليت في بطونهم كما يغلي الماء الحار. وشبه ما يصير منها إلى بطونهم بالمهل، وهو النحاس المذاب. وقراءة العامة " تغلي " بالتاء حملا على الشجرة. وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن ورويس عن يعقوب " يغلي " بالياء حملا على الطعام، وهو في معنى الشجرة. ولا يحمل على المهل لانه
[ 150 ]
ذكر للتشبيه. و " الاثيم " الآثم، من أثم يأثم إثما، قاله القشيري وابن عيسى. وقيل هو المشرك المكتسب للاثم، قاله يحيى بن سلام. وفي الصحاح: وقد أثم الرجل (بالكسر) إثما ومأثما إذا وقع في الاثم، فهو آثم وأثيم أيضا. فمعنى " طعام الاثيم " أي ذي الاثم الفاجر، وهو أبو جهل. وذلك أنه قال: يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم، وإنما هو الثريد بالزبد والتمر، فبين الله خلاف ما قاله. وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل. قلت: وهذا لا يصح عن مجاهد. وهو مردود بما ذكرناه في هذه الشجرة في سورة " الصافات وسبحان " (1) أيضا. قوله تعالى: خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (48) قوله تعالى: " خذوه " أي يقال للزبانية خذوه، يعني الاثيم. " فاعتلوه " أي جروه وسوقوه. والعتل: أن تأخذ بتلابيب الرجل فتعتله، أي تجره إليك لتذهب به إلى حبس أو بلية. عتلت الرجل أعتله وأعتله عتلا إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل، معتل (بالكسر). وقال يصف فرسا: * نفرعه فرعا ولسانا نعتله (2) * وفيه لغتان: عتله وعتنه (باللام والنون جميعا)، قاله ابن السكيت. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو " فاعتلوه " بالكسر. وضم الباقون. " إلى سواء الجحيم " وسط الجحيم. " ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم " قال مقاتل: يضرب مالك خازن النار ضربة على رأس أبي جهل بمقمع من حديد، فيتفتت رأسه عن دماغه، فيجري دماغه عل جسده، (1) راجع ج‍ 10 ص 283 وج‍ 15 ص 85 (2) القائل هو أبو النجم، وقيله: طار عن المهر ينسله * عن مفرع الكتفين حر عطله (*)
[ 151 ]
ثم يصب الملك فيه ماء حميما قد انتهى حره فيقع في بطنه، فيقول الملك: ذق العذاب. ونظيره " يصب من فوق رؤوسهم الحميم " (1) [ الحج: 19 ]. قوله تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به تمترون (50) قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " قال ابن الانباري: أجمعت العوام على كسر " إن ". وروي عن الحسن عن علي رحمه الله " ذق أنك " بفتح " أن "، وبها قرأ الكسائي. فمن كسر " إن " وقف على " ذق ". ومن فتحها لم يقف على " ذق "، لان المعنى ذق لانك وبأنك أنت العزيز الكريم. قال قتادة: نزلت في أبي جهل وكان قد قال: ما فيها أعز مني ولا أكرم، فلذلك قيل له: ذق إنك أنت العزيز الكريم. وقال عكرمة: التقى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى) فقال: بأي شئ تهددني ! والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذله ونزلت هذه الآية. أي يقول له الملك: ذق إنك أنت العزيز الكريم بزعمك. وقيل: هو على معنى الاستخفاف والتوبيخ والاستهزاء والاهانة والتنقيص، أي قال له: إنك أنت الذليل المهان. وهو كما قال قوم شعيب لشعيب: " إنك لانت الحليم (2) الرشيد " [ هود: 87 ] يعنون السفيه الجاهل في أحد التأويلات على ما تقدم (3). وهذا قول سعيد بن جبير. " إن هذا ما كنتم به تمترون " أي تقول لهم الملائكة: إن هذا ما كنتم تشكون فيه في الدنيا. قوله تعالى: إن المتقين في مقام أمين (51) في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53) (1) آية 19 سورة الحج. (2) آية 87 سورة هود. (3) راجع ج‍ 9 ص 87 (*)
[ 152 ]
قوله تعالى: " إن المتقين في مقام أمين " لما ذكر مستقر الكافرين وعذابهم ذكر نزل المؤمنين ونعيمهم. وقرأ نافع وابن عامر " في مقام " بضم الميم. الباقون بالفتح. قال الكسائي: المقام المكان، والمقام الاقامة، كما قال: * عفت الديار محلها فمقامها (1) * قال الجوهري: وأما المقام والمقام فقد يكون كل واحد منهما بمعنى الاقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام، لانك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم، لان الفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع مضموم الميم، لانه مشبه ببنات الاربعة، نحو دحرج وهذا مدحرجنا. وقيل: المقام (بالفتح) المشهد والمجلس، و (بالضم) يمكن أن يراد به المكان، ويمكن أن يكون مصدرا ويقدر فيه المضاف، أي في موضع إقامة. " أمين " يؤمن فيه من الآفات " في جنات وعيون " بدل " من مقام أمين ". " يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين " لا يرى بعضهم قفا بعض، متواجهين يدور بهم مجلسهم حيث داروا. والسندس: ما رق من الديباج. والاستبرق: ما غلظ منه. وقد مضى في " الكهف " (2). قوله تعالى: كذلك وزوجناهم بحور عين (54) قوله تعالى: " كذلك " أي الامر كذلك الذي ذكرناه. فيوقف على " كذلك ". وقيل: أي كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم حورا عينا. وقد مضى الكلام في العين في " والصافات " (3). والحور: البيض، في قول قتادة والعامة، جمع حوراء. والحوراء: البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها، ويرى الناظر وجهه في كعبها، كالمرآة من دقة الجلد وبضاضة البشرة وصفاء اللون. ودليل هذا التأويل أنها في حرف ابن مسعود " بعيس (4) عين ". وذكر أبو بكر الانباري أخبرنا أحمد بن الحسين قال حدثنا حسين (1) هذا أول معلقة لبيد. وتمامه: * بمنى تأبد غولها فرجامها * (2) راجع ج‍ 10 ص 397 (3) راجع ج‍ 15 ص 5 (4) العيس (بالكسر): بياض يخالطه شئ من شقرة. (*)
[ 153 ]
قال حدثنا عمار بن محمد قال: صليت خلف منصور بن المعتمر فقرأ في " حم " الدخان " بعيس عين. لا يذوقون طعم الموت إلا الموتة الاولى ". والعيس: البيض، ومنه قيل للابل البيض: عيس، واحدها بعير أعيس وناقة عيساء. قال امرؤ القيس: يرعن إلى صوتي إذا ما سمعنه * كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا (1) فمعنى الحور هنا: الحسان الثاقبات (2) البياض بحسن. وذكر ابن المبارك أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الاودي عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحت سبعين حلة، كما يرى الشراب الاحمر في الزجاجة البيضاء. وقال مجاهد: إنما سميت الحور حورا لانهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن. وقيل: إنما قيل لهن حور لحور أعينهن. والحور: شدة بياض العين في شدة سوادها. امرأة حوراء بينة الحور. يقال: احورت عينه أحورارا. واحور الشئ ابيض. قال الاصمعي: ما أدري ما الحور في العين ؟ وقال أبو عمرو: الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر. قال: وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء: حور العين لانهن يشبهن بالظباء والبقر. وقال العجاج: * بأعين محورات حور (3) * يعني الاعين النقيات البياض الشديدات سواد الحدق. والعين جمع عيناء، وهي الواسعة العظيمة العينين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز). وعن أبي قرصافة (4) سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (1) العيط (جمع عيطاء). الناقة الفتية التي لم تحمل. (2) الثاقب: المضئ. (3) في الاصول: * بأعين محورات بيض * والتصويب عن أراجيز العجاج. وقيله: * إذ ترتمي من خلل الخدور * وبعده: * خزر بألباب إلى صور * (4) أبو قرصافة (بكسر أوله) اسمه جندرة بن خيشنة الكناني. (*)
[ 154 ]
قال: (كنس المساجد مهور الحور العين) ذكره الثعلبي رحمه الله. وقد أفردنا لهذا المعنى بابا مفردا في (كتاب التذكرة) والحمد لله. واختلف أيما أفضل في الجنة، نساء الآدميات أم الحور ؟ فذكر ابن المبارك قال: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال: إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروي مرفوعا إن (الآدميات أفضل من الحور العين سبعين ألف ضعف). وقيل: إن الحور العين أفضل، لقوله عليه السلام في دعائه: (وأبدله زوجا خيرا من زوجه). والله أعلم. وقرأ عكرمة " بحور عين " مضاف. والاضافة والتنوين في " بحور عين " سواء. قوله تعالى: يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين (55) قال قتادة: " آمنين " من الموت والوصب والشيطان. وقيل: آمنين من انقطاع ما هم فيه من النعيم، أو من أن ينالهم من أكلها أذى أو مكروه. قوله تعالى: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم (57) قوله تعالى: " لا يذوقون الموت إلا الموتة الاولى " أي لا يذوقون فيها الموت البتة لانهم خالدون فيها. ثم قال: " إلا الموتة الاولى " على الاستثناء المنقطع، أي لكن الموتة الاولى قد ذاقوها في الدنيا. وأنشد سيبويه: من كان أسرع في تفرق فالج * فلبونه جربت معا وأغدت (1) (1) في كتاب سيبويه: * من كان أشرك * والقائل هو عنز بن دجاجة المازني. وفالج هذا، هو فالج بن مازن بن مالك. سعى عليه بعض بني مالك وأساء إليه حتى رحل عنهم، ولحق ببني ذكوان بن بهثة فنسب إليهم. وكانت بنو مازن قد ضيقوا على رجل منهم يسمى " ناشرة " حتى انتقل عنهم إلى بني أسد، فدعا هذا الشاعر المازني على بني مازن حيث اضطروه فألجئ إلى الخروج عنهم. واستثنى " ناشرة " منهم، لانه لم يرض فعلهم، ولانه قد امتحن محنة " فالج " بهم. واللبون: ذوات اللبن، وتقع للواحد والجماعة. ومعنى " أغدت " صارت فيها الغدة، وهي من أدواء الابل كالذبحة. والغلواء: النماء والارتفاع. والمنبت: المنمى والمغذى. ويروى بكسر الباء، ومعناه النابت النامي. (عن شرح الشواهد) (*)
[ 155 ]
ثم استثنى بما ليس من الاول فقال: إلا كناشرة الذي ضيعتم * كالغصن في غلوائه المتنبت وقيل: إن " إلا " بمعنى بعد، كقولك: ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا عندك، أي بعد رجل عندك. وقيل: " إلا " بمعنى سوى، أي سوى الموتة التي ماتوها في الدنيا، كقوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " (1) [ النساء: 22 ]. وهو كما تقول: ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلت أمس. وقال القتبي: " إلا الموتة الاولى " معناه أن المؤمن إذا أشرف على الموت استقبلته ملائكة الرحمة ويلقى الروح والريحان، وكان موته في الجنة لاتصافه بأسبابها، فهو استثناء صحيح. والموت عرض لا يذاق، ولكن جعل كالطعام الذي يكره ذوقه، فاستعير فيه لفظ الذوق. " ووقاهم عذاب الجحيم. فضلا من ربك " أي فعل ذلك بهم تفضلا منه عليهم. ف " فضلا " مصدر عمل فيه " يدعون ". وقيل: العامل فيه " ووقاهم ". وقيل فعل مضمر. وقيل: معنى الكلام الذي قبله، لانه تفضل منه عليهم، إذ وفقهم في الدنيا إلى أعمال يدخلون بها الجنة. " ذلك هو الفوز العظيم " أي السعادة والربح العظيم والنجاة العظيمة. وقيل: هو من قولك فاز بكذا، أي ناله وظفر به. قوله تعالى: فإنما يسرناه بلسانك لعلهك يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59) قوله تعالى: " فإنما يسرناه بلسانك " يعني القرآن، أي سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرؤه. (لعلهم يتذكرون) أي يتعظون وينزجرون. ونظيره " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " (2) [ القمر: 17 ] فختم السورة بالحث على اتباع القرآن وإن لم يكن مذكورا، كما قال في مفتتح السورة: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " [ الدخان: 3 ]، " إنا أنزلناه في ليلة القدر " [ القدر: 1 ] على ما تقدم. " فارتقب إنهم مرتقبون " أي انتظر ما وعدتك من النصر عليهم إنهم منتظرون لك الموت، حكاه (1) آية 22 سورة النساء. (2) آية 17، 22، 32، 40 سورة القمر. (*)
[ 156 ]
النقاش. وقيل: انتظر الفتح من ربك إنهم منتظرون بزعمهم قهرك. وقيل: انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم فإنهم ينتظرون بك ريب الحدثان. والمعنى متقارب. وقيل: ارتقب ما وعدتك من الثواب فإنهم كالمنتظرين لما وعدتهم من العقاب. وقيل: ارتقب يوم القيامة فإنه يوم الفصل، وإن لم يعتقدوا وقوع القيامة، جعلوا كالمرتقبين لان عاقبتهم ذلك. والله تعالى أعلم. سورة الجاثية مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، هي: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " (1) [ الجاثية: 14 ] نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره الماوردي، وقال المهدوي والنحاس عن ابن عباس: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة. فأراد أن يبطش به، فأنزل الله عز وجل " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " [ الجاثية: 14 ] ثم نسخت بقوله: " فآقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (2) [ التوبة: 5 ]. فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية. وقيل ست. بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) قوله تعالى: " حم " مبتدأ و " تنزيل " خبره. وقال بعضهم: " حم " اسم السورة. و " تنزيل الكتاب " مبتدأ. وخبره " من الله ". والكتاب القرآن. و " العزيز " المنيع. " الحكيم " في فعله. وقد تقدم جميع هذا (3). قوله تعالى: إن في السموات والارض لايات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة ءايات لقوم يوقنون (4) واختلاف (1) آية 14. (2) آية 5 سورة التوبة. (3) راجع ج‍ 1 ص 287 وج‍ 2 ص 131 طبعة ثانية. (*)
[ 157 ]
الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون (5) قوله تعالى: " إن في السموات والارض " أي في خلقهما " لآيات للمؤمنين. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق " يعني المطر. " فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون " تقدم جميعه مستوفى في " البقرة " وغيرها (1). وقراءة العامة " وما يبث من دابة آيات " " وتصريف الرياح آيات " بالرفع فيهما. وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما. ولا خلاف في الاول أنه بالنصب على اسم " إن " وخبرها " في السموات ". ووجه الكسر في " آيات " الثاني العطف على ما عملت فيه، التقدير: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات. فأما الثالث فقيل: إن وجه النصب فيه تكرير " آيات " لما طال الكلام، كما تقول: ضربت زيدا زيدا. وقيل: إنه على الحمل على ما عملت فيه " إن " على تقدير حذف " في "، التقدير: وفي اختلاف الليل والنهار آيات. فحذفت " في " لتقدم ذكرها. وأنشد سيبويه في الحذف: أكل امرئ تحسبين امرأ * ونار توقد بالليل (2) نارا فحذف " كل " المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها. وقيل: هو من باب العطف على عاملين. ولم يجزه سيبويه، وأجازه الاخفش وجماعة من الكوفيين، فعطف " اختلاف " على قوله: (وفي خلقكم) ثم قال: (وتصريف الرياح آيات) فيحتاج إلى العطف على عاملين، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين، إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال. وأما قراءة الرفع فحملا على موضع " إن " مع ما عملت فيه. وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين، لانه عطف على " واختلاف " على " وفي خلقكم "، وعطف " آيات " على موضع " آيات " الاول، ولكنه يقدر على تكرير " في ". ويجوز أن يرفع (1) راجع ج‍ 2 ص 191 وما بعدها. وج‍ 14 ص 58 (2) البيت لابي دؤاد الايادي. (*)
[ 158 ]
على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء، وما قبله خبره، ويكون عطف جملة على جملة. وحكى الفراء رفع " اختلاف " و " آيات " جميعا، وجعل الاختلاف هو الآيات. قوله تعالى: تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وءاياته يؤمنون (6) قوله تعالى: " تلك ءايات الله " أي هذه آيات الله، أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته. " نتلوها عليك بالحق " أي بالصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه. وقرئ " يتلوها " بالياء. " فبأي حديث بعد الله " وقيل بعد قرآنه " وآياته يؤمنون " وقراءة العامة بالياء على الخبر. وقرأ ابن محيصن وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي " تؤمنون " بالتاء على الخطاب. قوله تعالى: ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) قوله تعالى: " ويل لكل أفاك أثيم " " ويل " واد في جهنم. توعد من ترك الاستدلال بآياته. والافاك: الكذاب. والافك الكذب. (أثيم) أي مرتكب للاثم. والمراد فيما روي النضر بن الحارث. وعن ابن عباس أنه الحارث بن كلدة. وحكى الثعلبي أنه أبو جهل وأصحابه. " يسمع آيات الله تتلى عليه " يعني آيات القرآن. " ثم يصر مستكبرا " أي يتمادى على كفره متعظما في نفسه عن الانقياد، مأخوذ من صر الصرة إذا شدها. قال معناه ابن عباس وغيره. وقيل: أصله من إصرار الحمار على العانة (1)، وهو أن ينحني عليها صارا أذنيه. و " أن " من " كان " مخففة من الثقيلة، كأنه لم يسمعها، والضمير ضمير الشأن، كما في قوله: * كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم (2) (1) العانة: الاتان (الحمارة). (2) ويروي: إلى وارق السلم. وهذا عجز بيت لابن صريم اليشكري. وصدره كما في كتاب سيبويه والمقاصد النحوية: * ويوما توافينا بوجه مقسم * والمقسم: المحسن. و " تعطو ": تتناول. و " السلم ": شجر بعينه. وصف امرأة حسنة الوجه فشبهها بظبية مخصبة المرعى. (*)
[ 159 ]
ومحل الجملة النصب، أي يصر مثل غير السامع. وقد تقدم في أول " لقمان " القول في معنى هذه الآية (1). وتقدم معنى " فبشره بعذاب أليم " في " البقرة " (2). قوله تعالى: إذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10) قوله تعالى: " وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا " نحو قوله في الزقوم: إنه الزبد والتمر، وقوله في خزنة جهنم: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي. " أولئك لهم عذاب مهين " مذل مخز. " من ورائهم جهنم " أي من وراء ما هم فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق جهنم. وقال ابن عباس: " من ورائهم جهنم " أي أمامهم، نظيره " من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد " (3) [ إبراهيم: 16 ] أي من أمامه. قال: أليس ورائي إن تراخت منيتي * أدب مع الولدان أزحف كالنسر " ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا " أي من المال والولد، نظيره " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " (4) [ آل عمران: 10 ] أي من المال والولد. " ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء " يعني الاصنام. " ولهم عذاب عظيم " أي دائم مؤلم. قوله تعالى: هذا هدى والذين كفروا بأيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11) قوله تعالى: " هذا هدى " ابتداء وخبر، يعني القرآن. وقال ابن عباس: يعنى كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. " والذين كفروا بآيات ربهم " أي جحدوا دلائله. (1) راجع ج‍ 14 ص 57 (2) راجع ج‍ 1 ص 198 و 238 طبعة ثانية أو ثالثة. (3) آية 16 سورة إبراهيم. (4) آية 10 سورة آل عمران. (*)
[ 160 ]
" لهم عذاب من رجز أليم " الرجز العذاب، أي لهم عذاب من عذاب أليم، دليله قوله تعالى: " فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء " (1) [ البقرة: 59 ] أي عذابا. وقيل: الرجز القذر مثل الرجس، وهو كقوله تعالى: " ويسقى من ماء صديد " (2) [ إبراهيم: 16 ] أي لهم عذاب من تجرع الشراب القذر. وضم الراء من الرجز ابن محيصن حيث وقع. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحفص " اليم " بالرفع، على معنى لهم عذاب أليم من رجز. الباقون بالخفض نعتا للرجز. قوله تعالى: الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون (13) قوله تعالى: " الله الذي سخر البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " ذكر كمال قدرته وتمام نعمته على عباده، وبين أنه خلق ما خلق لمنافعهم. " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه " يعني أن ذلك فعله وخلقه وإحسان منه وإنعام. وقرأ ابن عباس والجحدري وغيرهما " جميعا منة " بكسر الميم وتشديد النون وتنوين الهاء، منصوبا على المصدر. قال أبو عمرو: وكذلك سمعت مسلمة يقرؤها " منة " أي تفضلا وكرما. وعن مسلمة بن محارب أيضا " جميعا منه " على إضافة المن إلى هاء الكناية. وهو عند أبي حاتم خبر ابتداء محذوف، أي ذلك، أو هو منه. وقراءة الجماعة ظاهرة. " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " قوله تعالى: قل للذين ءامنوا يغفرون للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14) قوله تعالى: " قل للذين آمنوا يغفرون " جزم على جواب " قل " تشبيها بالشرط والجزاء، كقولك: قم تصب خيرا. وقيل: هو على حذف اللام. وقيل: على معنى قل (1) آية 59 سورة البقرة. (2) آية 16 سورة إبراهيم. (*)
[ 161 ]
لهم اغفروا يغفروا، فهو جواب أمر محذوف دل الكلام عليه، قاله علي بن عيسى واختاره ابن العربي. ونزلت الآية بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به. قال ابن العربي: وهذا لم يصح. وذكر الواحدي والقشيري وغيرهما عن ابن عباس أن الآية نزلت في عمر مع عبد الله بن أبي في غزوة بني المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها " المريسيع " فأرسل عبد الله غلامه ليستقي، وأبطأ عليه فقال: ما حبسك ؟ قال: غلام عمر بن الخطاب قعد على فم البئر، فما ترك أحدا يستقي حتى ملا قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر، وملا لمولاه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. فبلغ عمر رضي الله عنه قوله، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية. هذه رواية عطاء عن ابن عباس. وروى عنه ميمون بن مهران قال: لما نزلت " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " (1) [ البقرة: 245 ] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد ! قال: فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن ربك يقول لك قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله). وأعلم أن عمر قد اشتمل على سيفه وخرج في طلب اليهودي، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، فلما جاء قال: (يا عمر، ضع سيفك) قال: يا رسول الله، صدقت. أشهد إنك أرسلت بالحق. قال: (فإن ربك يقول قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قال: لا جرم ! والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي. قلت: وما ذكره المهدوي والنحاس فهو رواية الضحاك عن ابن عباس، وهو قول القرظي والسدي، وعليه يتوجه النسخ في الآية. وعلى أن الآية نزلت بالمدينة أو في غزوة بني المصطلق فليست بمنسوخة. ومعنى " يغفروا ": يعفوا ويتجاوزوا. ومعنى " لا يرجون أيام الله ": أي لا يرجون ثوابه. وقيل: أي لا يخافون بأس الله ونقمه. وقيل: الرجاء بمعنى الخوف، كقوله: " ما لكم لا ترجون لله وقارا " (2) [ نوح: 13 ] أي لا تخافون له عظمة. والمعنى: لا تخشون (1) آية 245 سورة البقرة. (2) آية 13 سورة نوح. (*)
[ 162 ]
مثل عذاب الامم الخالية. والايام يعبر بها عن الوقائع. وقيل: لا يأملون نصر الله لاوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل: المعنى لا يخافون البعث. " ليجزي قوما بما كانوا يكسبون " قراءة العامة " ليجزي " بالياء على معنى ليجزي الله. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر " لنجزي " بالنون على التعظيم. وقرأ أبو جعفر والاعرج وشيبة " ليجزى " بياء مضمومة وفتح الزاي على الفعل المجهول، " قوما " بالنصب. قال أبو عمرو: وهذا لحن ظاهر. وقال الكسائي: معناه ليجزي الجزاء قوما، نظيره " وكذلك نجي المؤمنين " على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة " الانبياء " (1). قال الشاعر: ولو ولدت قفيرة جرو كلب * لسب بذلك الجرو الكلابا (2) أي لسب السب. قوله تعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15) تقدم (3). قوله تعالى: ولقد ءاتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16) وءاتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17) قوله تعالى: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب " يعني التوراة. " والحكم والنبوة " الحكم: الفهم في الكتاب. وقيل: الحكم على الناس والقضاء. و " النبوة " يعني الانبياء من وقت يوسف عليه السلام إلى زمن عيسى عليه السلام. " ورزقناهم من الطيبات " أي الحلال (1) راجع ج‍ 11 ص 334 (2) قائله جرير يهجو الفرزدق. وقفيزة (كجينة): أم الفرزدق. (*)
[ 163 ]
من الاقوات والثمار والاطعمة التي كانت بالشام. وقيل: يعني المن والسلوى في التيه. " وفضلناهم على العالمين " أي على عالمي زمانهم، على ما تقدم في " الدخان " (1) بيانه " وآتيناهم بينات من الامر " قال ابن عباس: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وشواهد نبوته بأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، وينصره أهل يثرب. وقيل: بينات الامر شرائع واضحات في الحلال والحرام ومعجزات. " فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم " يريد يوشع بن نون، فآمن بعضهم وكفر بعضهم، حكاه النقاش. وقيل: " إلا من بعد ما جاءهم العلم " نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها. " بغيا بينهم " أي حسدا على النبي صلى الله عليه وسلم، قال معناه الضحاك. وقيل: معنى " بغيا " أي بغى بعضهم على بعض يطلب الفضل والرياسة، وقتلوا الانبياء، فكذا مشركو عصرك يا محمد، قد جاءتهم البينات ولكن أعرضوا عنها للمنافسة في الرياسة. " إن ربك يقضي بينهم " أي يحكم ويفصل. " يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " في الدنيا. قوله تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " ثم جعلناك على شريعة من الامر " الشريعة في اللغة: المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء - وهي مورد الشاربة -: شريعة. ومنه الشارع لانه طريق إلى المقصد. فالشريعة: ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع الشرائع. والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها الله لخلقه. فمعنى " جعلناك على شريعة من الامر " أي على منهاج واضح من أمر الدين يشرع بك إلى الحق. وقال ابن عباس: " على شريعة " أي على هدى من الامر. قتادة: الشريعة الامر والنهي والحدود والفرائض. مقاتل: البينة، لانها (1) راجع ج‍ 16 ص (*)
[ 164 ]
طريق إلى الحق. الكلبي: السنة، لانه يستن بطريقة من قبله من الانبياء. ابن زيد: الدين، لانه طريق النجاة. قال ابن العربي: والامر يرد في اللغة بمعنيين: أحدهما - بمعنى الشأن كقوله: " فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد " (1) [ هود: 97 ]. والثاني - أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي. وكلاهما يصح أن يكون مرادا ها هنا، وتقديره: ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الاسلام، كما قال تعالى: " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " (2) [ النحل: 123 ]. ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع حسبما علمه سبحانه. الثانية - قال ابن العربي: ظن بعض من يتكلم في العلم أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، لان الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا ننكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء هل يلزم اتباعه أم لا. قوله تعالى: " ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " يعني المشركين. وقال ابن عباس: قريظة والنضير. وعنه: نزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه. قوله تعالى: إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19) قوله تعالى: " إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا " أي إن اتبعت أهواءهم لا يدفعون عنك من عذاب الله شيئا. " وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض " أي أصدقاء وأنصار وأحباب. قال ابن عباس: يريد أن المنافقين أولياء اليهود. " والله ولي المتقين " أي ناصرهم ومعينهم. والمتقون هنا: الذين اتقوا الشرك والمعاصي. (1) آية 97 سورة هود. (2) آية 123 سورة النحل. (*)
[ 165 ]
قوله تعالى: هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20) قوله تعالى: " هذا بصائر للناس " ابتداء وخبر، أي هذا الذي أنزلت عليك براهين ودلائل ومعالم للناس في الحدود والاحكام. وقرئ " هذه بصائر " أي هذه الآيات. " هدى " أي رشد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن أخذ به. " ورحمة " في الآخرة " لقوم يوقنون " قوله تعالى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21) قوله تعالى: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " أي اكتسبوها. والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وقد تقدم في المائدة (1). " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الكلبي: " الذين اجترحوا " عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. و " الذين آمنوا " علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. وقيل: نزلت في قوم من المشركين قالوا: إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن، كما أخبر الرب عنهم في قوله: " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " (2) [ فصلت: 50 ]. وقوله " أم حسب " استفهام معطوف معناه الانكار. وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب. وقوم يقولون: فيه إضمار، أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم. وقيل: هي أم المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. وقراءة العامة " سواء " بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم، أي محياهم ومماتهم سواء. والضمير في " محياهم ومماتهم " يعود على الكفار، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك. وقرأ حمزة والكسائي والاعمش " سواء " بالنصب، واختاره أبو عبيد قال: معناه (1) راجع ج‍ 6 ص 66 (2) آية 50 سورة فصلت. (*)
[ 166 ]
نجعلهم سواء. وقرأ الاعمش أيضا وعيسى بن عمر " ومماتهم " بالنصب، على معنى سواء في محياهم ومماتهم، فلما أسقط الخافض انتصب. ويجوز أن يكون " محياهم ومماتهم " بدلا من الهاء والميم في نجعلهم، المعنى: أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم. ويجوز أن يكون الضمير في " محياهم ومماتهم " للكفار والمؤمنين جميعا. قال مجاهد: المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا. وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية كلها. وقال بشير: بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد. وقال إبراهيم بن الاشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: ليت شعري ! من أي الفريقين أنت ؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لانها محكمة. قوله تعالى: وخلق الله السموات والارض بالحق ولتجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22) قوله تعالى: " وخلق الله السموات والارض بالحق " أي بالامر الحق. " ولتجزي " أي ولكي تجزى. " كل نفس بما كسبت " أي في الآخرة. " وهم لا يظلمون ". قوله تعالى: أفرءيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23) قال ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلا ركبه. وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن
[ 167 ]
شيئا وهويه اتخذه إلها. قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لانه كان يعبد ما تهواه نفسه. وقال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة لان البيت حجارة. وقيل: المعنى أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده تعجيبا لذوي العقول من هذا الجهل. وقال الحسن بن الفضل: في هذه الآية تقديم وتأخير، مجازه: أفرأيت من اتخذ هواه إلهه. وقال الشعبي: إنما سمي الهوى [ هوى ] لانه يهوي بصاحبه في النار. وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى: " واتبع هواه فمثله كمثل الكلب " (1) [ الاعراف: 176 ]. وقال تعالى: " واتبع هواه وكان أمره فرطا " (2) [ الكهف: 28 ]. وقال تعالى " بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل (3) الله " [ الروم: 29 ]. وقال تعالى: " ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " (4) [ القصص: 50 ]. وقال تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " (5) [ ص: 26 ]. وقال عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ". وقال أبو أمامة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى ". وقال شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله). وقال عليه السلام: " إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ". وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. والمنجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب ". وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه، فإن كان عمله (1) آية 176 سورة الاعراف. (2) آية 28 سورة الكهف. (3) آية 29 سورة الروم. (4) آية 50 سورة القصص. (5) آية 26 سورة ص. (*)
[ 168 ]
تبعا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح. وقال الاصمعي سمعت رجلا يقول: إن الهوان هو الهوى قلب اسمه * فإذا هويت فقد لقيت هوانا وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شام فنظمه وقال: نون الهوان من الهوى مسروقة * فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال آخر: إن الهوى لهو الهوان بعينه * فإذا هويت فقد كسبت هوانا وإذا هويت فقد تعبدك الهوى * فاخضع لحبك كائنا من كانا ولعبد الله بن المبارك: ومن البلايا للبلاء علامة * ألا يرى لك عن هواك نزوع العبد عبد النفس في شهواتها * والحر يشبع تارة ويجوع ولابن دريد: إذا طالبتك النفس يوما بشهوة * وكان إليها للخلاف طريق فدعها وخالف ما هويت فإنما * هواك عدو والخلاف صديق ولابي عبيد الطوسي: والنفس إن أعطيتها مناها * فاغرة نحو هواها فاها وقال أحمد بن أبي الحوارى: مررت براهب فوجدته نحيفا فقلت له: أنت عليل. قال نعم. قلت مذ كم ؟ قال: مذ عرفت نفسي ! قلت فتداوى ؟ قال: قد أعياني الدواء، وقد عزمت على الكي. قلت وما الكي ؟ قال: مخالفة الهوى. وقال سهل بن عبد الله التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وقال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته.
[ 169 ]
وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه، وحسبك بقوله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى " (1) [ النازعات: 40 - 41 ]. قوله تعالى: " وأضله الله على علم " أي على علم قد علمه منه. وقيل: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال ابن عباس: أي على علم قد سبق عنده أنه سيضل. مقاتل: على علم منه أنه ضال، والمعنى متقارب. وقيل: على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر. ثم قيل: " على علم " يجوز أن يكون حالا من الفاعل، المعنى: أضله على علم منه به، أي أضله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول، فيكون المعنى: أضله في حال علم الكافر بأنه ضال. " وختم على سمعه وقلبه " أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى. (2) " وجعل على بصره غشاوة " أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. وقرأ حمزة والكسائي " غشوة " بفتح الغين من غير ألف، وقد مضى في " البقرة " (3). وقال الشاعر: أما والذي أنا عبد له * يمينا ومالك أبدى اليمينا لئن كنت ألبستني غشوة * لقد كنت أصفيتك الود حينا " فمن يهديه من بعد الله " أي من بعد أن أضله. " أفلا تذكرون " تتعظون وتعرفون أنه قادر على ما يشاء. وهذه الآية ترد على القدرية والامامية ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد، إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. ثم قيل: " وختم على سمعه وقلبه " إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. وقيل: إنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم، كما تقدم في أول " البقرة " (4). وحكى ابن جريج أنها نزلت (1) آية 40 سورة النازعات. (2) في بعض نسخ الاصل: " الهوى " بالواو. (3) راجع ج‍ 1 ص 191 طبعة ثانية أو ثالثة. (4) راجع ج‍ 1 ص 186. (*)
[ 170 ]
في الحارث بن قيس من الغياطلة (1). وحكى النقاش أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لاعلم أنه لصادق ! فقال له مه ! وما دلك على ذلك ! ؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الامين، فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن ! ! والله إني لاعلم أنه لصادق ! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به ؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدا. فنزلت " وختم على سمعه وقلبه ". قوله تعالى: وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24) قوله تعالى: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا " هذا إنكار منهم للآخرة وتكذيب للبعث وإبطال للجزاء. ومعنى " نموت ونحيا " أي نموت نحن وتحيا أولادنا، قاله الكلبي. وقرئ " ونحيا " بضم النون. وقيل: يموت بعضنا ويحيا بعضنا. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي نحيا ونموت، وهي قراءة ابن مسعود. " وما يهلكنا إلا الدهر " قال مجاهد: يعني السنين والايام. وقال قتادة: إلا العمر، والمعنى واحد. وقرئ " إلا دهر يمر ". وقال ابن عيينة كان أهل الجاهلية يقولون: الدهر هو الذي يهلكنا وهو الذي يحيينا ويميتنا، فنزلت هذه الآية. وقال قطرب: وما يهلكنا إلا الموت، وأنشد قول أبي ذؤيب: أمن المنون وريبها تتوجع * والدهر ليس بمعتب من يجزع (1) في كتاب الاشتقاق لابن دريد (ص 75 طبع أوربا): " بنو قيس بن عدي كانوا من رجال قريش يلقبون الغياطل، وكان قيس سيد قريش في دهره غير مدافع ". قال: " والغياطل: جمع غيطلة، وهو الشجر الملتف، واختلاط الظلام ". (*)
[ 171 ]
وقال عكرمة: أي وما يهلكنا إلا الله. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان أهل الجاهلية يقولون ما يهلكنا إلا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فيسبون الدهر قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الامر أقلب الليل والنهار ". قلت: قوله " قال الله " إلى آخره نص البخاري ولفظه. وخرجه مسلم أيضا وأبو داود. وفي الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر). وقد استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله. وقال: من لم يجعله من العلماء اسما إنما خرج ردا على العرب في جاهليتها، فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر فقيل لهم على ذلك لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، أي إن الله هو الفاعل لهذه الامور التي تضيفونها إلى الدهر فيرجع السب إليه سبحانه، فنهوا عن ذلك. ودل على صحة هذا ما ذكرناه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم...) الحديث. ولقد أحسن من قال، وهو أبو علي الثقفي: يا عاتب الدهر إذا نابه * لا تلم الدهر على غدره الدهر مأمور، له آمر * وينتهي الدهر إلى أمره كم كافر أمواله جمة * تزداد أضعافا على كفره ومؤمن ليس له درهم * يزداد إيمانا على فقره وروي أن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيرا ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بني وذكر الدهر ! وأنشد: فما الدهر بالجاني لشئ لحينه * ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا ولكن متى ما يبعث الله باعثا * على معشر يجعل مياسيرهم عسرا
[ 172 ]
وقال أبو عبيد: ناظرت بعض الملحدة فقال: ألا تراه يقول: " فإن الله هو الدهر " ! ؟ فقلت: وهل كان أحد يسب الله في آباد الدهر، بل كانوا يقولون كما قال الاعشى: إن محلا وإن مرتحلا * وإن في السفر إذ مضوا مهلا استأثر الله بالوفاء وبالعد * ل وولى الملامة الرجلا قال أبو عبيد: ومن شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب، حتى ذكروه في أشعارهم، ونسبوا الاحداث إليه. قال عمرو بن قميئة: رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى * فكيف بمن يرمى وليس برام فلو أنها نبل إذا لاتقيتها * ولكنني أرمى بغير سهام على الراحتين مرة وعلى العصا * أنوء ثلاثا بعدهن قيامي ومثله كثير في الشعر. ينسبون ذلك إلى الدهر ويضيفونه إليه، والله سبحانه الفاعل لا رب سواه. " وما لهم بذلك من علم ". أي علم. و " من " زائدة، أي قالوا ما قالوا شاكين. " إن هم إلا يظنون " أي ما هم إلا يتكلمون بالظن. وكان المشركون أصنافا، منهم هؤلاء، ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره. وحدث في الاسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفا من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب إلى خيالات تقع للارواح بزعمهم، فشر هؤلاء أضر من شر جميع الكفار، لان هؤلاء يلبسون على الحق، ويغتر بتلبيسهم الظاهر. والمشرك المجاهر بشركه يحذره المسلم. وقيل: نموت وتحيا آثارنا، فهذه حياة الذكر. وقيل أشاروا إلى التناسخ، أي يموت الرجل فتجعل روحه في موات فتحيا به. قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بأبائنا إن كنتم صادقين (25) قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26)
[ 173 ]
قوله تعالى: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " أي وإذ تقرأ على هؤلاء المشركين آياتنا المنزلة في جواز البعث لم يكن ثم دفع " ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا " " حجتهم " خبر كان، والاسم " إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا " الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون، فرد الله عليهم بقوله " قل الله يحييكم " يعني بعد كونكم نطفا أمواتا " ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة " كما أحياكم في الدنيا. " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أن الله يعيدهم كما بدأهم. الزمخشري: " فإن قلت لم سمي قولهم حجة وليس بحجة ؟ قلت: لانهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم. أو لانه في حسبانهم وتقديرهم حجة. أو لانه في أسلوب قوله: * تحية بينهم ضرب وجيع (1) * كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. والمراد نفي أن تكون لهم حجة البتة. فإن قلت: كيف وقع قوله " قل الله يحييكم " جواب " ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " ؟ قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مبكت ألزموا ما هم مقرون به من أن الله عز وجل وهو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الاقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعى الحق وهو جمعهم يوم القيامة، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الاتيان بآبائهم، وكان أهون شئ عليه. " قوله تعالى: ولله ملك السموات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27) قوله تعالى: " ولله ملك السموات والارض " خلقا وملكا. " ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون " " يوم " الاول منصوب ب " يخسر " و " يومئذ " تكرير للتأكيد (1) هذا عجز بيت لعمرو بن معد يكرب. وصدره: * وخيل قد دلفت لها بخيل * يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلا من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع. ودلفت: زحفت. والدليف: مقاربة الخطو في المشي. (*)
[ 174 ]
أو بدل. وقيل: إن التقدير وله الملك يوم تقوم الساعة. والعامل في " يومئذ " " يخسر "، ومفعول " يخسر " محذوف، والمعنى يخسرون منازلهم في الجنة. قوله تعالى: وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) قوله تعالى: " وترى كل أمة جاثية " أي من هول ذلك اليوم. والامة هنا: أهل كل ملة. وفي الجاثية تأويلات خمس: الاول - قال مجاهد: مستوفزة. وقال سفيان: المستوفز الذي لا يصيب الارض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله. الضحاك: ذلك عند الحساب. الثاني - مجتمعة، قاله ابن عباس. الفراء: المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين. الثالث - متميزة، قاله عكرمة. الرابع - خاضعة بلغة قريش، قاله مؤرج. الخامس - باركة على الركب، قاله الحسن. والجثو: الجلوس على الركب. جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا، على فعول فيهما، وقد مضى في " مريم " (1): وأصل الجثوة (2): الجماعة من كل شئ. قال طرفة يصف قبرين: ترى جثوتين من تراب عليهما * صفائح صم من صفيح منضد (3) ثم قيل: هو خاص بالكفار، قاله يحي بن سلام. وقيل: إنه عام للمؤمن والكافر انتظارا للحساب. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كأني أراكم بالكوم (4) جاثين دون جهنم " ذكره الماوردي. وقال سلمان: إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على ركبهم حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي " لا أسألك اليوم إلا نفسي ". " كل أمة تدعى إلى كتابها " قال يحيى ابن سلام: إلى حسابها. وقيل: إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر، (1) راجع ج‍ 11 ص 132. (2) مثلثة الجيم. (3) الصم: الصلب. والمنضد: الذي جعل بعضه على بعض. (4) الكوم: المواضع المشرفة. (*)
[ 175 ]
قاله مقاتل. وهو معنى قول مجاهد. وقيل: " كتابها " ما كتبت الملائكة عليها. وقيل كتابها المنزل عليها لينظر هل عملوا بما فيه. وقيل: الكتاب ها هنا اللوح المحفوظ. وقرأ يعقوب الحضرمي " كل أمة " بالنصب على البدل من " كل " الاولى لما في الثانية من الايضاح الذي ليس في الاولى، إذ ليس في جثوها شئ من حال شرح الجثو كما في الثانية من ذكر السبب الداعي إليه وهو استدعاؤها إلى كتابها. وقيل: انتصب بإعمال " ترى " مضمرا. والرفع على الابتداء. " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " من خير أو شر. قوله تعالى: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) قوله تعالى: " هذا كتابنا " قيل من قول الله لهم. وقيل من قول الملائكة. " ينطق عليكم بالحق " أي يشهد. وهو استعارة، يقال: نطق الكتاب بكذا أي بين. وقيل: إنهم يقرءونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا، فكأنه ينطق عليهم، دليله قوله: " ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " (1) [ الكهف: 49 ]. وفي المؤمنين: " ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون " (2) وقد تقدم (3). و " ينطق " في، موضع الحال من الكتاب، أو من ذا، أو خبر ثان لذا، أو يكون " كتابنا " بدلا من " هذا " و " ينطق " الخبر. " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " أي نأمر بنسخ ما كنتم تعملون. قال علي رضي الله عنه: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشئ يكتبون فيه أعمال بني آدم. وقال ابن عباس: إن الله وكل ملائكة مطهرين فينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما يكون من أعمال بني آدم فيعارضون حفظة الله على العباد كل خميس، فيجدون ما جاء به الحفظة من أعمال العباد موافقا لما في كتابهم الذي استنسخوا من ذلك الكتاب لا زيادة فيه ولا نقصان. قال ابن عباس: وهل يكون النسخ إلا من كتاب. الحسن: نستنسخ ما كتبته الحفظة (1) آية 49 سورة الكهف (2) آية 62 سورة المؤمنون. (3) راجع ج‍ 10 ص 418 وج‍ 12 ص 134. (*)
[ 176 ]
على بني آدم، لان الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الاعمال. وقيل: تحمل الحفظة كل يوم ما كتبوا على العبد، ثم إذا عادوا إلى مكانهم نسخ منه الحسنات والسيئات، ولا تحول المباحات إلى النسخة الثانية. وقيل: إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله عز وجل أمر بأن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، ويسقط من جملتها ما لا ثواب فيه ولا عقاب. قوله تعالى: فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) قوله تعالى: " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته " أي الجنة " ذلك هو الفوز المبين. وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم " أي فيقال لهم ذلك. وهو استفهام توبيخ. " فاستكبرتم " عن قبولها. " وكنتم قوما مجرمين " أي مشركين تكسبون المعاصي. يقال: فلان جريمة أهله إذا كان كاسبهم، فالمجرم من أكسب نفسه المعاصي. وقد قال الله تعالى: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين " (1) [ القلم: 35 ] فالمجرم ضد المسلم فهو المذنب بالكفر إذا. قوله تعالى: وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32) قوله تعالى: " وإذا قيل إن وعد الله حق " أي البعث كائن. " والساعة لا ريب فيها " وقرأ حمزة " والساعة " بالنصب عطفا على " وعد ". الباقون بالرفع على الابتداء، أو العطف (1) آية 35 سورة القلم. (*)
[ 177 ]
على موضع " إن وعد الله ". ولا يحسن على الضمير الذي في المصدر، لانه غير مؤكد، والضمير المرفوع إنما يعطف عليه بغير تأكيد في الشعر. " قلتم ما ندري ما الساعة " هل هي حق أم باطل. " إن نظن إلا ظنا " تقديره عند المبرد: إن نحن إلا نظن ظنا. " وما نحن بمستيقنين " أن الساعة آتية. قوله تعالى: وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (33) قوله تعالى: " وبدا لهم سيئات ما عملوا " أي ظهر لهم جزاء سيئات ما عملوا. " وحاق بهم " أي نزل بهم وأحاط. " ما كانوا به يستهزئون من عذاب الله. قوله تعالى: وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34) قوله تعالى: " وقيل اليوم ننساكم " أي نترككم في النار كما تركتم لقاء يومكم هذا، أي تركتم العمل له. " ومأواكم النار " أي مسكنكم ومستقركم. " وما لكم من ناصرين " من ينصركم. قوله تعالى: ذلكم بأنكم اتخذتم ءايات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35) قوله تعالى: " ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله " يعني القرآن. " هزوا " لعبا. " وغرتكم الحياة الدنيا " أي خدعتكم بأباطيلها وزخارفها، فظننتم أن ليس ثم غيرها، وأن لا بعث. " فاليوم لا يخرجون منها " أي من النار. " ولا هم يستعتبون " يسترضون. وقد تقدم (1). وقرأ حمزة والكسائي " فاليوم لا يخرجون " بفتح الياء وضم الراء، لقوله تعالى: (1) راجع ج‍ 10 ص 162 وج‍ 14 ص 49 وج‍ 15 ص 353 (*)
[ 178 ]
" كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " (1) [ السجدة: 20 ] الباقون بضم الياء وفتح الراء، لقوله تعالى: " ربنا أخرجنا " [ فاطر: 37 ] ونحوه. قوله تعالى: فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (37) قوله تعالى: " فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين " قرأ مجاهد وحميد وابن محيصن " رب السموات ورب الارض رب العالمين " بالرفع فيها كلها على معنى هو رب. " وله الكبرياء " أي العظمة والجلال والبقاء والسلطان والقدرة والكمال. " في السموات والارض وهو العزيز الحكيم " والله أعلم. سورة الاحقاف مكية في قول جميعهم. وهي أربع وثلاثون آية، وقيل خمس. بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3) قوله تعالى: " حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " تقدم (2) " ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق " تقدم أيضا. " وأجل مسمى " يعني القيامة، في قول ابن عباس وغيره. وهو الاجل الذي تنتهي إليه السموات والارض. وقيل: إنه هو الاجل (1) آية 20 سورة السجدة. (2) راجع ص 156 من هذا الجزء. (*)
[ 179 ]
المقدور لكل مخلوق. " والذين كفروا عما أنذروا " خوفوه " معرضون " مولون لا هون غير مستعدين له. ويجوز أن تكون " ما " مصدرية، أي عن إنذارهم ذلك اليوم. قوله تعالى: قل أرءيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " قل أرأيتم ما تدعون من دون الله " أي ما تعبدون من الاصنام والانداد من دون الله. " أروني ماذا خلقوا من الارض " أي هل خلقوا شيئا من الارض " أم لهم شرك " أي نصيب " في السموات " أي في خلق السموات مع الله. " ائتوني بكتاب من قبل هذا " أي من قبل هذا القرآن. الثانية - قوله تعالى: " أو أثارة من علم ". قراءة العامة " أو أثارة " بألف بعد الثاء. قال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ هو خط كانت تخطه العرب في الارض ]، ذكره المهدوي والثعلبي. وقال ابن العربي: ولم يصح. وفي مشهور الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ كان نبي من الانبياء يخط فمن وافق خطه فذاك ] ولم يصح أيضا. قلت: هو ثابت من حديث معاوية بن الحكم السلمي، خرجه مسلم. وأسند النحاس: حدثنا محمد بن أحمد (يعرف بالجرايجي) (1) قال حدثنا محمد بن بندار قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان الثوري عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل " أو أثارة من علم " قال [ الخط ] وهذا صحيح أيضا. قال ابن العربي: واختلفوا في تأويله، فمنهم من قال: جاء لاباحة الضرب، لان بعض الانبياء كان يفعله. (1) اضطربت الاصول في كتابة هذه النسبة. (*)
[ 180 ]
ومنهم من قال جاء للنهي عنه، لانه صلى الله عليه وسلم قال: [ فمن وافق خطه فذاك ] ولا سبيل إلى معرفة طريق النبي المتقدم فيه، فإذا لا سبيل إلى العمل به. قال: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصا * ولا زاجرات الطير ما الله صانع (1) وحقيقته عند أربابه ترجع إلى صور الكواكب، فيدل ما يخرج منها على ما تدل عليه تلك الكواكب من سعد أو نحس يحل بهم، فصار ظنا مبنيا على ظن، وتعلقا بأمر غائب قد درست طريقه وفات تحقيقه، وقد نهت الشريعة عنه، وأخبرت أن ذلك مما اختص الله به، وقطعه عن الخلق، وإن كانت لهم قبل ذلك أسباب يتعلقون بها في درك الاشياء المغيبة، فإن الله قد رفع تلك الاسباب وطمس تيك الابواب وأفرد نفسه بعلم الغيب، فلا يجوز مزاحمته في ذلك، ولا يحل لاحد دعواه. وطلبه عناء لو لم يكن فيه نهي، فإذ وقد ورد النهي فطلبه معصية أو كفر بحسب قصد الطالب. قلت: ما اختاره هو قول الخطابي. قال الخطابي: قوله عليه السلام: [ فمن وافق خطه فذاك ] هذا يحتمل الزجر إذ كان ذلك علما لنبوته وقد انقطعت، فنهينا عن التعاطي لذلك. قال القاضي عياض: الاظهر من اللفظ خلاف هذا، وتصويب خط من يوافق خطه، لكن من أين تعلم الموافقة والشرع منع من التخرص وادعاء الغيب جملة - فإنما معناه أن من وافق خطه فذاك الذي يجدون إصابته، لا أنه يريد إباحة ذلك لفاعله على ما تأوله بعضهم. وحكى مكي في تفسير قوله: [ كان نبي من الانبياء يخط ] أنه كان يخط بأصبعه السبابة والوسطى في الرمل ثم يزجر. وقال ابن عباس في تفسير قوله [ ومنا رجال يخطون ]: هو الخط الذي يخطه الحازي (2) فيعطى حلوانا فيقول: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام معه ميل ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط الاستاذ خطوطا معجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو على مهل خطين خطين، فإن بقي خطان فهو علامة النجح، وإن بقي خط فهو علامة الخيبة. والعرب تسميه الاسحم وهو مشئوم عندهم. (1) البيت للبيد. والرواية فيه: " الطوارق " بدل " الضوارب ". والطرق: الضرب بالحصا. والطوارق المنكهنات. (2) الحازي: الكاهن. (*)
[ 181 ]
الثالثة - قال ابن العربي: إن الله تعالى لم يبق من الاسباب الدالة على الغيب التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا، فإنه أذن فيها، وأخبر أنها جزء من النبوة وكذلك الفأل، وأما الطيرة والزجر فإنه نهى عنهما. والفأل: هو الاستدلال بما يسمع من الكلام على ما يريد من الامر إذا كان حسنا، فإن سمع مكروها فهو تطير، أمره الشرع بأن يفرح بالفأل ويمضي على أمره مسرورا. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لاجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ]. وقد روى بعض الادباء: الفأل والزجر والكهان كلهم * مضللون ودون الغيب أقفال وهذا كلام صحيح، إلا في الفأل فإن الشرع استثناه وأمر به، فلا يقبل من هذا الشاعر ما نظمه فيه، فإنه تكلم بجهل، وصاحب الشرع أصدق وأعلم وأحكم. قلت: قد مضى في الطيرة والفأل وفي الفرق بينهما ما يكفي في (المائدة) (1) وغيرها. ومضى في (الانعام) (2) أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب، وأن أحدا لا يعلم ذلك إلا ما أعلمه الله، أو يجعل على ذلك دلالة عادية يعلم بها ما يكون على جري العادة، وقد يختلف. مثاله إذا رأى نخلة قد أطلعت فإنه يعلم أنها ستثمر، وإذا رآها قد تناثر طلعها علم أنها لا تثمر. وقد يجوز أن يأتي عليها آفة تهلك ثمرها فلا تثمر، كما أنه جائز أن تكون النخلة التي تناثر طلعها يطلع الله فيها طلعا ثانيا فتثمر. وكما أنه جائز أيضا ألا يلي شهره شهر ولا يومه يوم إذا أراد الله إفناء العالم ذلك الوقت. إلى غير ذلك مما تقدم في (الانعام) بيانه. الرابعة - قال ابن خويز منداد: قوله تعالى: " أو أثارة من علم " يريد الخط. وقد كان مالك رحمه الله يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه. وإذا عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه حكم به، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير. وقد روي عنه أنه قال: [ يحدث الناس فجورا فتحدث لهم أقضية ]. فأما إذا شهد الشهود على الخط المحكوم به، مثل أن يشهدوا أن هذا خط الحاكم وكتابه، أشهدنا على (1) راجع ج‍ 6 ص 59 وما بعدها. (2) راجع ج‍ 7 ص 2 (*)
[ 182 ]
ما فيه وإن لم يعلموا ما في الكتاب. وكذلك الوصية أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه ونحو ذلك - فلا يختلف مذهبه أنه يحكم به. وقيل: " أو أثارة من علم " أو بقية من علم، قاله ابن عباس والكلبي وأبو بكر بن عياش وغيرهم. وفي الصحاح " أو أثارة من علم " بقية منه. وكذلك الاثرة (بالتحريك). ويقال: سمنت الابل على أثارة، أي بقية شحم كان قبل ذلك. وأنشد الماوردي والثعلبي قول الراعي: وذات أثارة أكلت عليها * نباتا في أكمته ففارا وقال الهروي: والاثارة والاثر: البقية، يقال: ما ثم عين ولا أثر. وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة: " أو أثارة من علم " خاصة من علم. وقال مجاهد: رواية تأثرونها عمن كان قبلكم. وقال عكرمة ومقاتل: رواية عن الانبياء. وقال القرظي: هو الاسناد. الحسن: المعنى شئ يثار أو يستخرج. وقال الزجاج: " أو أثارة " أي علامة. والاثارة مصدر كالسماحة والشجاعة. وأصل الكلمة من الاثر، وهي الرواية، يقال: أثرت الحديث آثره أثرا وأثارة وأثرة فأنا آثر، إذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور، أي نقله خلف عن سلف. قال الاعشى: إن الذي فيه تماريتما * بين للسامع والآثر ويروى " بين " وقرئ " أو أثرة " بضم الهمزة وسكون الثاء. ويجوز أن يكون معناه بقية من علم. ويجوز أن يكون معناه شيئا مأثورا من كتب الاولين. والمأثور: ما يتحدث به مما صح سنده عمن تحدث به عنه. وقرأ السلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف، أي خاصة من علم أوتيتموها أو أوثرتم بها على غيركم. وروي عن الحسن أيضا وطائفة " أثرة " مفتوحة الالف ساكنة الثاء، ذكر الاولى الثعلبي والثانية الماوردي. وحكى الثعلبي عن عكرمة: أو ميراث من علم. " إن كنتم صادقين ". الخامسة - قوله تعالى: " ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم " فيه بيان مسالك الادلة بأسرها، فأولها المعقول، وهو قوله تعالى: " قل أرأيتم ما تدعون من دون
[ 183 ]
الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات " وهو احتجاج بدليل العقل في أن الجماد لا يصح أن يدعى من دون الله فإنه لا يضر ولا ينفع. ثم قال: " ائتوني بكتاب من قبل هذا " فيه بيان أدلة السمع " أو أثارة من علم ". قوله تعالى: ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5) قوله تعالى: " ومن أضل " أي لا أحد أضل وأجهل " ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة " وهي الاوثان. " وهم عن دعائهم غافلون " يعني لا يسمعون ولا يفهمون، فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم، إذ قد مثلتها عبدتها بالملوك والامراء التي تخدم. قوله تعالى: وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (6) قوله تعالى: " وإذا حشر الناس " يريد يوم القيامة. " كانوا لهم أعداء " أي هؤلاء المعبودون أعداء الكفار يوم القيامة. فالملائكة أعداء الكفار، والجن والشياطين يتبرءون غدا من عبدتهم، ويلعن بعضهم بعضا. ويجوز أن تكون الاصنام للكفار الذين عبدوها أعداء، على تقدير خلق الحياة لها، دليله قوله تعالى: " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " (1) [ القصص: 63 ]. وقيل: عادوا معبوداتهم لانهم كانوا سبب هلاكهم، وجحد المعبودون عبادتهم، وهو قوله " وكانوا بعبادتهم كافرين ". قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7) (1) آية 63 سورة القصص. [ * ]
[ 184 ]
قوله تعالى: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات " يعني القرآن. " قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ". قوله تعالى: أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم (8) قوله تعالى: " أم يقولون افتراه " الميم صلة، التقدير: أيقولون افتراه، أي تقوله محمد. وهو إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا. ومعنى الهمزة في " أم " الانكار والتعجب، كأنه قال: دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب. وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا، والضمير للحق، والمراد به الآيات. " قل إن افتريته " على سبيل الفرض. " فلا تملكون لي من الله شيئا " أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذاب الله، فكيف أفتري على الله لاجلكم. " هو أعلم بما تفيضون فيه " أي تقولونه، عن مجاهد. وقيل: تخوضون فيه من التكذيب. والافاضة في الشئ: الخوض فيه والاندفاع. أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه. وأفاض البعير أي دفع جرته من كرشه فأخرجها، ومنه قول الشاعر: * وأفضن بعد كظومهن بجرة (1) * (1) هذا عجز بيت للراعي، وصدره كما في معجم البلدان لياقوت في " حقيل ": * من ذي الابارق إذ رعين حقيلا * وذو الابارق وحقيل: موضع واحد. يقول: كن كظوما من العطش (والكاظم من الابل الذي أمسك عن الجرة)، فلما ابتل ما في بطونها أفضن بجرة. (*)
[ 185 ]
وأفاض الناس من عرفات إلى منى أي دفعوا، وكل دفعة إفاضة. " كفى به شهيدا " نصب على التمييز. " بيني وبينكم " أي هو يعلم صدقي وأنكم مبطلون. " وهو الغفور " لمن تاب " الرحيم " بعباده المؤمنين. قوله تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9) قوله تعالى: " قل ما كنت بدعا من الرسل " أي أول من أرسل، قد كان قبلي رسل، عن ابن عباس وغيره. والبدع: الاول. وقرأ عكرمة وغيره " بدعا " بفتح الدال، على تقدير حذف المضاف، والمعنى: ما كنت صاحب بدع. وقيل: بدع وبديع بمعنى، مثل نصف ونصيف. وأبدع الشاعر: جاء بالبديع. وشئ بدع (بالكسر) أي مبتدع. وفلان بدع في هذا الامر أي بديع. وقوم أبداع، عن الاخفش. وأنشد قطرب قول عدي بن زيد: فلا أنا بدع من حوادث تعتري * رجالا غدت من بعد بؤسى بأسعد (1) " وما أدري ما يفعل بي وبكم " يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولو لا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لاخبره الذي بعثه بما يفعل به، فنزلت " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " (2) [ الفتح: 2 ] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا ؟ فنزلت " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار " (3) [ الفتح: 5 ] الآية. ونزلت " وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " (4) [ الاحزاب: 47 ]. قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك. وقالت أم العلاء امرأة من الانصار: اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان (1) هذا رواية البيت كما في نسخ الاصل. والذي في شعراء النصرانية: فلست بمن يخشى حوادث تعتري * رجالا فبادروا بعد بؤس وأسعد (2) آية 2 سورة الفتح. (3) آية 5 سورة الفتح. (4) آية 47 سورة الاحزاب. (*)
[ 186 ]
ابن مظعون بن حذافة بن جمح، فأنزلناه أبياتنا فتوفي، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب ! إن الله أكرمك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ وما يدريك أن الله أكرمه ] ؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ! فمن ؟ قال: [ أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لارجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ]. قالت: فوالله لا أزكي بعده أحدا أبدا. ذكره الثعلبي، وقال: وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين. قلت: حديث أم العلاء خرجه البخاري، وروايتي فيه: " وما أدري ما يفعل به " ليس فيه " بي ولا بكم " وهو الصحيح إن شاء الله، على ما يأتي بيانه. والآية ليست بمنسوخة، لانها خبر. قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الآخرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الايمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة. وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب. والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا " قال أبو جعفر: وهذا أصح قول وأحسنه، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر. ومثله " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير " (1) [ الاعراف: 188 ]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن (1) آية 188 سورة الاعراف. [ * ]
[ 187 ]
ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله، متى نهاجر إلى الارض التي رأيت ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا. ثم قال: [ إنما هو شئ رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي ] أي لم يوح إلي ما أخبرتكم به. قال القشيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية. وقيل: المعنى لا أدري ما يفرض علي وعليكم من الفرائض. واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخرون. قلت: وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما. قال الحسن: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أما في الآخرة فمعاذ الله ! قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الانبياء قبلي، أو أقتل كما قتلت الانبياء قبلي، ولا أدري ما يفعل بكم، أأمتي المصدقة أم المكذبة، أم أمتى المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أو مخسوف بها خسفا، ثم نزلت " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " (1) [ التوبة: 33 ]. يقول: سيظهر دينه على الاديان. ثم قال في أمته: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " (2) [ الانفال: 33 ] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته، ولا نسخ على هذا كله، والحمد لله. وقال الضحاك أيضا: " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي ما تؤمرون به وتنهون عنه. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة، ثم بين الله تعالى ذلك في قوله: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح: 2 ] وبين فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بين حال الكافرين. قلت: وهذا معنى القول الاول، إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و " ما " في " ما يفعل " يجوز أن آية 33 سورة التوبة. (2) آية 33 سورة الانفال. (*)
[ 188 ]
تكون موصولة، وأن تكون استفهامية مرفوعة. " إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين " وقرئ " يوحى " أي الله عز وجل. تقدم في غير موضع. قوله تعالى: قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فأمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10) قوله تعالى: " قل أرأيتم إن كان من عند الله " يعني القرآن. " وكفرتم به " قال الشعبي: المراد محمد صلى الله عليه وسلم. " وشهد شاهد من بني إسرائيل " قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: هو عبد الله بن سلام، شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة، وأنه نبي من عند الله. وفي الترمذي عنه: ونزلت في آيات من كتاب الله، نزلت في " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ". وقد تقدم في آخر سورة " الرعد " (1). وقال مسروق: هو موسى والتوراة، لا ابن سلام، لانه أسلم بالمدينة والسورة مكية. وقال: وقوله " وكفرتم به " مخاطبة لقريش. الشعبي: هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، لان ابن سلام إنما أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين، والسورة مكية. قال القشيري: ومن قال الشاهد موسى قال السورة مكية، وأسلم ابن سلام قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعامين. ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وتوضع في سورة مكية، فإن الآية كانت تنزل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ضعوها في سورة كذا. والآية في محاجة المشركين، ووجه الحجة أنهم كانوا يراجعون اليهود في أشياء، أي شهادتهم لهم وشهادة نبيهم لي من أوضح الحجج. ولا يبعد أن تكون السورة في محاجة اليهود، ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال: يا رسول الله، اجعلني حكما بينك وبين اليهود، فسألهم عنه: [ أي رجل هو فيكم ] قالوا: سيدنا وعالمنا. فقال: [ إنه قد آمن بي ] فأساءوا القول فيه... الحديث، (1) راجع ج‍ 9 ص 335 (*)
[ 189 ]
وقد تقدم (1). قال ابن عباس: رضيت اليهود بحكم ابن سلام، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن يشهد لك آمنا بك، فسئل فشهد ثم أسلم. " على مثله " أي على مثل ما جئتكم به، فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن. وقال الجرجاني. " مثل " صلة، أي وشهد شاهد عليه أنه من عند الله. " فآمن " أي هذا الشاهد. " واستكبرتم " أنتم عن الايمان. وجواب " إن كان " محذوف تقديره: فآمن أتؤمنون، قاله الزجاج. وقيل: " فآمن واستكبرتم " أليس قد ظلمتم، يبينه " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " وقيل: " فآمن واستكبرتم " أفتأمنون عذاب الله. و " أرأيتم " لفظ موضوع للسؤال والاستفهام، ولذلك لا يقتضي مفعولا. وحكى النقاش وغيره: أن في الآية تقديما وتأخيرا، وتقديره: قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن هو وكفرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. قوله تعالى: وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11) قوله تعالى: " وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه " اختلف في سبب نزولها على ستة (2) أقوال: الاول - أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام بمكة فأجاب، واستجار به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا، فبلغ ذلك قريشا فقالوا: غفار الحلفاء لو كان هذا خيرا ما سبقونا إليه، فنزلت هذه الآية، قاله أبو المتوكل. الثاني - أن زنيرة (3) أسلمت فأصيب بصرها فقالوا لها: أصابك اللات والعزى، فرد الله عليها بصرها. فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله عروة بن الزبير. (1) راجع ج‍ 9 ص 335 (2) كذا في نسخ الاصل. ويلاحظ أن المؤلف رحمه الله ذكر خمسة أقوال. (3) زنيرة (بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة): رومية، وكانت من السابقات إلى الاسلام، وممن يعذب في الله، وكان أبو جهل يعذبها، وهي من السبعة الذين اشتراهم أبو بكر الصديق وأنقذهم من التعذيب. (*)
[ 190 ]
الثالث - أن الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه رعاة البهم إذ نحن أعز منهم، قاله الكلبي والزجاج، وحكاه القشيري عن ابن عباس. وقال قتادة: نزلت في مشركي قريش، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه بلال وصهيب وعمار وفلان وفلان. وهو القول الرابع. القول الخامس - أن الذين كفروا من اليهود قالوا للذين آمنوا يعني عبد الله بن سلام وأصحابه: لو كان دين محمد حقا ما سبقونا إليه، قاله أكثر المفسرين، حكاه الثعلبي. وقال مسروق: إن الكفار قالوا لو كان خيرا ما سبقتنا إليه اليهود، فنزلت هذه الآية. وهذه المعارضة من الكفار في قولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه من أكبر المعارضات بانقلابها عليهم لكل من خالفهم، حتى يقال لهم: لو كان ما أنتم عليه خيرا ما عدلنا عنه، لو كان تكذيبكم للرسول خيرا ما سبقتمونا إليه، ذكره الماوردي. ثم قيل: قوله " ما سبقونا إليه " يجوز أن يكون من قول الكفار لبعض المؤمنين، ويجوز أن يكون على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " (1) [ يونس: 22 ]. " وإذ لم يهتدوا به " يعني الايمان. وقيل القرآن. وقيل محمد صلى الله عليه وسلم. " فسيقولون هذا إفك قديم " أي لما لم يصيبوا الهدى بالقرآن ولا بمن جاء به عادوه ونسبوه إلى الكذب، وقالوا هذا إفك قديم، كما قالوا: أساطير الاولين. وقيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه ؟ فقال نعم ؟ قال الله تعالى: " وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " ومثله " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " (2) [ يونس: 39 ]. قوله تعالى: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12) (1) آية 22 سورة يونس. (2) آية 39 سورة يونس. (*)
[ 191 ]
قوله تعالى: " ومن قبله " أي ومن قبل القرآن " كتاب موسى " أي التوراة " إماما " يقتدى بما فيه و " ورحمة " من الله. وفي الكلام حذف، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم والايمان به فتركوا ذلك. و " إماما " نصب على الحال، لان المعنى: وتقدمه كتاب موسى إماما. " ورحمة " معطوف عليه. وقيل: انتصب بإضمار فعل، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الاخفش: على القطع، لان كتاب موسى معرفة بالاضافة، لان النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولاما صارت معرفة. " وهذا كتاب " يعني القرآن " مصدق " يعني للتوراة ولما قبله من الكتب. وقيل: مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم. " لسانا عربيا " منصوب على الحال، أي مصدق لما قبله عربيا، و " لسانا " توطئة للحال أي تأكيد، كقولهم: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر رجلا توكيدا. وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: وهذا كتاب مصدق أعني لسانا عربيا. وقيل: نصب بإسقاط حرف الخفض تقديره: بلسان عربي. وقيل: إن لسانا مفعول والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أي وهذا كتاب مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم لانه معجزته، والتقدير: مصدق ذا لسان عربي. فاللسان منصوب بمصدق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويبعد أن يكون اللسان القرآن، لان المعنى يكون يصدق نفسه. " لينذر الذين ظلموا " قراءة العامة " لينذر " بالياء خبرا عن الكتاب، أي لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. وقيل: هو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالتاء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: " إنما أنت منذر " [ الرعد: 7 ]. " وبشرى للمحسنين " " بشرى " في موضع رفع، أي وهو بشرى. وقيل: عطفا على الكتاب، أي وهذا كتاب مصدق وبشرى. ويجوز أن يكون منصوبا بإسقاط حرف الخفض، أي لينذر الذين ظلموا وللبشرى، فلما حذف الخافض نصب. وقيل: على المصدر، أي وتبشر المحسنين بشرى، فلما جعل مكان وتبشر بشرى أو بشارة نصب، كما تقول: أتيتك لازورك، وكرامة لك وقضاء لحقك، يعني لازورك وأكرمك وأقضي حقك، فنصب الكرامة بفعل مضمر.
[ 192 ]
قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون (14) قوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " الآية تقدم معناها (1). وقال ابن عباس: نزلت في أبي بكر الصديق. والآية تعم. " جزاء " نصب على المصدر. قوله تعالى: ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ووصينا الانسان بوالديه إحسانا " بين اختلاف حال الانسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري. الثانية - قوله تعالى: " حسنا " قراءة العامة " حسنا " وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون " إحسانا " وحجتهم قوله تعالى في سورة (الانعام وبني إسرائيل): " وبالوالدين إحسانا " (2) [ الانعام: 151 ] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الاولى قول تعالى في سورة العنكبوت: " ووصينا الانسان بوالديه حسنا " (3) [ العنكبوت: 8 ] (1) راجع ج‍ 15 ص 357 (2) آية 151 سورة الانعام، 23 سورة الاسراء. (3) آية 8 (*)
[ 193 ]
ولم يختلفوا فيها. والحسن خلاف القبح. والاحسان خلاف الاساءة. والتوصية الامر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت (1). الثالثة - قوله تعالى: " حملته أمه كرها ووضعته كرها " أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. واختاره أبو عبيد، قال: وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " (2) [ البقرة: 216 ] لان ذلك اسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون " كرها " بالضم. قيل: هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد، قاله الكسائي، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما: إن الكره (بالضم) ما حمل الانسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره، أي قهرا وغصبا، ولهذا قال بعض أهل العربية: إن كرها (بفتح الكاف) لحن. الرابعة - قوله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " وقال تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " [ البقرة: 233 ] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدها. وقد مضى في " البقرة " (3). وقيل: لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل، لان الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى: " فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت (4) به " [ الاعراف: 189 ]. والفصال الفطام. وقد تقدم في " لقمان " (5) الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما " وفصله " بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. وفي الكلام إضمار، (1) راجع ج‍ 13 ص 328 (2) آية 216 (3) راجع ج‍ 3 ص 160 وما بعدها. (4) آية 189 سورة الاعراف. (5) راجع ج‍ 14 ص 64 وما بعدها. (*)
[ 194 ]
أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولو لا هذا الاضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى. الخامسة - قوله تعالى: " حتى إذا بلغ أشده " قال ابن عباس: ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه: إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام للتجارة، فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين. فقال الراهب: من الرجل الذي في ظل الشجرة ؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب. فقال: هذا والله نبي، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره. فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، صدق أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال: " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " الآية. وقال الشعبي وابن زيد: الاشد الحلم. وقال الحسن: هو بلوغ الاربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في " الانعام " الكلام (1) في الآية. وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدم (2). وقال الحسن: هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم. السادسة - قوله تعالى: " قال رب أوزعني " أي ألهمني. " أن أشكر " في موضع نصب على المصدر، أي شكر نعمتك " علي " أي ما أنعمت به علي من الهداية " وعلى والدي " بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا. وقيل: أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة. وقال علي رضي الله عنه: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ! أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لاحد من المهاجرين أبواه غيره، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه (1) راجع ج‍ 7 ص 134 وما بعدها. (2) راجع ج‍ 13 ص 328 وج‍ 14 ص 63 (*)
[ 195 ]
أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة " قيلة " " بالياء المعجمة باثنتين من تحتها ". وامرأة أبي بكر الصديق اسمها " قتيلة " " بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها " بنت عبد العزى. " وأن أعمل صالحا ترضاه " قال ابن عباس: فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من أصبح منكم اليوم صائما ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال: [ فمن تبع منكم اليوم جنازة ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال: [ فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال: [ فمن عاد منكم اليوم مريضا ] ؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ]. السابعة - قوله تعالى: " وأصلح لي في ذريتي " أي اجعل ذريتي صالحين. قال ابن عباس: فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وقال سهل بن عبد الله: المعنى اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيد حق. وقال أبو عثمان: اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك. وقال ابن عطاء: وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا. وقال مالك بن مغول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، فقال: استعن عليه بهذه الآية، وتلا " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ". " إني تبت إليك " قال ابن عباس: رجعت عن الامر الذي كنت عليه. " وإني من المسلمين " أي المخلصين بالتوحيد. قوله تعالى: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16)
[ 196 ]
قوله تعالى: " أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم " قراءة العامة بضم الياء فيهما. وقرئ " يتقبل، ويتجاوز " بفتح الياء، والضمير فيهما يرجع لله عز وجل. وقرأ حفص وحمزة والكسائي " نتقبل، ونتجاوز " النون فيهما، أي نغفرها ونصفح عنها. والتجاوز أصله من جزت الشئ إذا لم تقف عليه. وهذه الآية تدل على أن الآية التي قبلها " ووصينا الانسان " إلى آخرها مرسلة نزلت على العموم. وهو قول الحسن. ومعنى " نتقبل عنهم " أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات. قال زيد بن أسلم - ويحكيه مرفوعا -: إنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم. وقيل: الاحسن ما يقتضى الثواب من الطاعات، وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب، حكاه ابن عيسى. " في أصحاب الجنة " " في " بمعنى مع، أي مع أصحاب الجنة، تقول: أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد، أي مع جميعهم. " وعد الصدق " نصب لانه مصدر مؤكد لما قبله، أي وعد الله أهل الايمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. وهو من باب إضافة الشئ إلى نفسه، لان الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله، وهو كقوله تعالى: " حق اليقين " (1) [ الواقعة: 95 ]. وهذا عند الكوفيين، فأما عند البصريين فتقديره: وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق، فحذف الموصوف. وقد مضى هذا في غير موضع (2). " الذي كانوا يوعدون " في الدنيا على ألسنة الرسل، وذلك الجنة. قوله تعالى: والذي قال لوالديه أف لكما أتعداني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الاولين (17) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين (18) (1) آية 95 سورة الواقعة. (2) راجع ج‍ 9 ص 356. (*)
[ 197 ]
قوله تعالى: " والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج " أي أن أبعث. " وقد خلت القرون من قبلي " قراءة نافع وحفص وغيرهما " أف " مكسور منون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم " أف " بالفتح من غير تنوين. الباقون بالكسر غير منون، وكلها لغات، وقد مضى في " بني إسرائيل " (1). وقراءة العامة " أتعدانني " بنونين مخففتين. وفتح ياءه أهل المدينة ومكة. وأسكن الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام " أتعداني " بنون واحدة مشددة، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. والعامة على ضم الالف وفتح الراء من " أن أخرج ". وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والاعمش وأبو معمر بفتح الالف وضم الراء. قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وكان يدعوه أبواه إلى الاسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل. وقال قتادة والسدي أيضا: هو عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الاسلام ويعدانه بالبعث، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبد الرحمن. وقال الحسن وقتادة أيضا: هي نعت عبد كافر عاق لوالديه. وقال الزجاج: كيف يقال نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول: " أولئك الذين حق عليهم القول في أمم " أي العذاب، ومن ضرورته عدم الايمان، وعبد الرحمن من أفاضل المؤمنين، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. وقال محمد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان ابن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية (2)، أتبايعون لابنائكم ! فقال مروان: هو الذي يقول الله فيه " والذي قال لوالديه أف لكما " الآية. فقال: والله ما هو به. ولو شئت لسميت، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض (3) من لعنة الله. قال المهدوي: ومن جعل الآية في عبد الرحمن كان قوله بعد ذلك " أولئك الذين (1) راجع ج‍ 10 ص 242. (2) أراد أن البيعة لاولاد الملوك سنة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم. (3) كل ما انقطع من شئ أو تفرق فهو فضض، أراد أنك قطعة وطائفة منها. (*)
[ 198 ]
حق عليهم القول " يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره، فأول الآية خاص وآخرها عام. وقيل: إن عبد الرحمن لما قال " وقد خلت القرون من قبلي " قال مع ذلك: فأين عبد الله ابن جدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون. فقوله " أولئك الذين حق عليهم القول " يرجع إلى أولئك الاقوام. قلت: قد مضى من خبر عبد الرحمن بن أبي بكر في سورة (الانعام) عند قوله " له أصحاب يدعونه إلى الهدى " (1) [ الانعام: 71 ] ما يدل على نزول هذه الآية فيه، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله " أولئك الذين حق عليهم القول ". " وهما " يعني والديه. " يستغيثان الله " أي يدعوان الله له بالهداية. أو يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. وقيل: الاستغاثة الدعاء، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: أجاب الله دعاءه وغواثه. " ويلك آمن " أي صدق بالبعث. " إن وعد الله حق " أي صدق لا خلف فيه. " فيقول ما هذا " أي ما يقوله والداه. " إلا أساطير الاولين " أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له. " أولئك الذين حق عليهم القول " يعني الذين أشار إليهم ابن أبي بكر في قوله أحيوا لي مشايخ قريش، وهم المعنيون بقوله " وقد خلت القرون من قبلي ". فأما ابن أبي بكر عبد الله أو عبد الرحمن فقد أجاب الله فيه دعاء أبيه في قوله " وأصلح لي في ذريتي " [ الاحقاف: 15 ] على ما تقدم. ومعنى " حق عليهم القول " أي، وجب عليهم العذاب، وهي كلمة الله: [ هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ]. " في أمم " أي مع أمم " قد خلت " تقدمت ومضت. " من قبلهم من الجن والانس " الكافرين " إنهم " أي تلك الامم الكافرة " كانوا خاسرين " لاعمالهم، أي ضاع سعيهم وخسروا الجنة. قوله تعالى: ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19) (1) راجع ج‍ 7 ص 18 (*)
[ 199 ]
قوله تعالى: " ولكل درجات " أي ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والانس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفالا، ودرج أهل الجنة علوا. " وليوفيهم أعمالهم " قرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء لذكر الله قبله، وهو قوله تعالى: " إن وعد الله حق " واختاره أبو حاتم. الباقون بالنون ردا على قوله تعالى: " ووصينا الانسان بوالديه " وهو اختيار أبي عبيد. " وهم لا يظلمون " أي لا يزاد على مسئ ولا ينقص من محسن. قوله تعالى: ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20) قوله تعالى: " ويوم يعرض " أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض. " الذين كفروا على النار " أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها. " أذهبتم طيباتكم " أي يقال لهم أذهبتم، فالقول مضمر. وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير " أأذهبتم " بهمزتين مخففتين، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو حيوة وهشام " آذهبتم " بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام. الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام، وقد تقدم. واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لانه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والاعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم، فهذه عليها جلة الناس. وترك الاستفهام أحسن، لان إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك، كما تقول: أنا ظلمتك ؟ تريد أنا لم أظلمك. وإثباته حسن أيضا، يقول القائل: ذهبت فعلت كذا، يوبخ ويقول: أذهبت فعلت ! كل ذلك جائز. ومعنى
[ 200 ]
" أذهبتم طيباتكم " أي تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات، يعني المعاصي. " فاليوم تجزون عذاب الهون " أي عذاب الخزي والفضيحة. قال مجاهد: الهون الهوان. قتادة: بلغة قريش. " بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق " أي تستعجلون على أهلها بغير استحقاق. " وبما كنتم تفسقون " في أفعالكم بغيا وظلما. وقيل: " أذهبتم طيباتكم " أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي. قال ابن بحر: الطيبات الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه، أي شبابه وقوته. قال الماوردي: ووجدت الضحاك قاله أيضا. قلت: القول الاول أظهر، روى الحسن عن الاحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لانا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق، ولكني استبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " وقال أبو عبيد في حديث عمر: لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة. وفي بعض الحديث: وأفلاذ. قال أبو عمرو وغيره: الصلاء (بالمد والكسر): الشواء، سمي بذلك لانه يصلى بالنار. والصلاء أيضا: صلاء النار، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت: صلى النار. والصناب: الاصبغة المتخذة من الخردل والزبيب. قال أبو عمرو: ولهذا قيل للبرذون: صنابي، وإنما شبه لونه بذلك. قال: والسلائق (بالسين) هو ما يسلق من البقول وغيرها. وقال غيره: هي الصلائق بالصاد، قال جرير: تكلفني معيشة آل زيد * ومن لي بالصلائق والصناب والصلائق: الخبز الرقاق العريض. وقد مضى هذا المعنى في (الاعراف) (1). وأما الكراكر فكراكر الابل، واحدتها كركرة وهي معروفة، هذا قول أبي عبيد. وفي الصحاح: والكركرة رحى زور البعير، وهي إحدى النفثات الخمس. والكركرة أيضا الجماعة من (1) راجع ج‍ 7 ص 198 (*)
[ 201 ]
الناس. وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة. قال أبو عبيد: وأما الافلاذ فإن واحدها فلذ، وهي القطعة من الكبد. قال أعشى باهلة: تكفيه حزة فلذ إن ألم بها * من الشواء ويروي شربه الغمر (1) وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة. ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال: هذا لنا ! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير ! فقال خالد ابن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا. وفي صحيح مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته (2) حين هجر نساءه قال: فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا (3) جلودا معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير ؟ قال: فاستوى جالسا وقال: (أفي شك أنت يا بن الخطاب. أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا) فقلت: استغفر لي ! فقال: (اللهم اغفر له). وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض (4). وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجئ بخبز متفلع (5) غليظ، فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون ؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا، فقال: يا بن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق (6) سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية (7) كأنها كذا وكذا، (1) الغمر (بضم الاول وفتح الثاني): القدح الصغير. (2) المشربة (بفتح الميم والراء): الموضع الذي يشرب منه الناس. (بضم الراء وفتحها): الغرفة. (3) بضم الهمزة والهاء، وبفتحهما على غير قياس، جمع إهاب، وهو الجلد. (4) الغريض: الطري. (5) في نسخة من الاصل: " متقلع " بالقاف. والمتفلع: المشقق. (6) العناق: الانثى من ولد المعز، والجمع أعنق وعنوق. (7) الصلاء (بالكسر): الشواء. (*)
[ 202 ]
أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، فقلت: يا أمير المؤمنين، أجل (1) ! ما تنعت العيش، قال: أجل ! والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش ! ولكني سمعت الله تعالى يقول لاقوام: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ". " فاليوم تجزون عذاب الهون " أي الهوان. " بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق " أي تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله. " وبما كنتم تفسقون " تخرجون عن طاعة الله. وقال جابر: اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر ؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه ! أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: " أذهبتم طيباتكم " الآية. قال ابن العربي: وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الامارة بالسوء، فأخذ عمر الامر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا (2)، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلا، ولا يجعله ديدنا. ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الاخلاص، ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن (1) في بعض نسخ الاصل: " أجاد ". (2) القفار (بالفتح): الطعام بلا أدم. (*)
[ 203 ]
تناول الطيب الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم. قوله تعالى: واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21) قوله تعالى: " واذكر أخا عاد " هو هود بن عبد الله بن رباح عليه السلام، كان أخاهم في النسب لا في الدين. " إذ أنذر قومه بالاحقاف " أي اذكر لهؤلاء المشركين قصة عاد ليعتبروا بها. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه له. والاحقاف: ديار عاد. وهي الرمال العظام، في قول الخليل وغيره. وكانوا قهروا أهل الارض بفضل قوتهم. والاحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، والجمع حقاف وأحقاف [ وحقوف ]. واحقوقف الرمل والهلال أي اعوج. وقيل: الحقف جمع حقاف. والاحقاف جمع الجمع. ويقال: حقف أحقف. قال الاعشى: * بات إلى أرطاة حقف أحقفا (1) * أي رمل مستطيل مشرف. والفعل منه احقوقف. قال العجاج: طي الليالي زلفا فزلفا * سماوة الهلال حتى احقوقفا أي انحنى واستدار. وقال امرؤ القيس: كحقف النقا (2) يمشي الوليدان فوقه * بما احتسبا من لين مس وتسهال وفيما أريد بالاحقاف ها هنا مختلف فيه. فقال ابن زيد: هي رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالا، وشاهده ما ذكرناه. وقال قتادة: هي جبال (1) هذا الرجز نسبه الطبري في تفسيره إلى العجاج، ولم نعثر عليه في شعر الاعشى ولا في أراجيز العجاج. والارطاة: جمعه أرطي، وهو شجر من شجر الرمل. (2) النقا: الكثيب من الرمل. (*)
[ 204 ]
مشرفة بالشحر، والشحر قريب من عدن، يقال: شحر عمان وشحر عمان، وهو ساحل البحر بين عمان وعدن. وعنه أيضا: ذكر لنا أن عادا كانوا أحياء باليمن، أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. وقال مجاهد: هي أرض من حسمى تسمى بالاحقاف. وحسمى (بكسر الحاء) اسم أرض بالبادية فيها جبال شواهق ملس الجوانب لا يكاد القتام يفارقها. قال النابغة: فأصبح عاقلا بجبال حسمى * دقاق الترب محتزم القتام (1) قاله الجوهري. وقال ابن عباس والضحاك: الاحقاف جبل بالشام. وعن ابن عباس أيضا: واد بين عمان ومهرة. وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بواد يقال له مهرة، وإليه تنسب الابل (2) المهرية، فيقال: إبل مهرية ومهاري. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج (3) العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال الكلبي: أحقاف الجبل ما نضب عنه الماء زمان الغرق، كان ينضب الماء من الارض ويبقى أثره. وروى الطفيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير واديين في الناس واد بمكة وواد نزل به آدم بأرض الهند. وشر واديين في الناس واد بالاحقاف وواد بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار. وخير بئر في الناس بئر زمزم. وشر بئر في الناس بئر برهوت، وهو في ذلك الوادي الذي بحضرموت. " وقد خلت النذر " أي مضت الرسل. " من بين يديه " أي من قبل هود. " ومن خلفه " أي ومن بعده، قاله الفراء. وفي قراءة ابن مسعود " من بين يديه ومن بعده ". " إلا تعبدوا إلا الله " هذا من قول المرسل، فهو كلام معترض. ثم قال هود " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " وقيل " ألا تعبدوا إلا الله " من كلام هود، والله أعلم. قوله تعالى: قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ءالهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم (1) قال ابن بري: " أي حسمى قد أحاط به القتام كالحزام له ". (2) في معجم البلدان لياقوت وكتب اللغة أن الابل المهرية تنسب إلى مهرة بن حيدان أبو قبيلة. (3) هاج البقل: إذا أخذ في اليبس. (*)
[ 205 ]
ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون (23) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25) قوله تعالى: " قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا " فيه وجهان: أحدهما - لتزيلنا عن عبادتها بالافك. الثاني - لتصرفنا عن آلهتنا بالمنع، قاله الضحاك. قال عروة بن أذينة: إن تك عن أحسن الصنيعة مأ * فوكا ففي آخرين قد أفكوا يقول: إن لم توفق للاحسان فأنت في قوم قد صرفوا. " فأتنا بما تعدنا " هذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد. " إن كنت من الصادقين " أنك نبي " قال إنما العلم " بوقت مجئ العذاب. " عند الله " لا عندي. " وأبلغكم ما أرسلت به " عن ربكم. " ولكني أراكم قوما تجهلون " في سؤالكم استعجال العذاب. " فلما رأوه عارضا " قال المبرد: الضمير في " رأوه " يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله: " عارضا " فالضمير يعود إلى السحاب، أي فلما رأوا السحاب عارضا. ف " عارضا " نصب على التكرير، سمي بذلك لانه يبدو في عرض السماء. وقيل: نصب على الحال. وقيل: يرجع الضمير إلى قوله: " فأتنا بما تعدنا " فلما رأوه حسبوه سحابا يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عنهم، فلما رأوه " مستقبل أوديتهم " استبشروا. وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا، قاله ابن عباس وغيره. قال الجوهري: والعارض السحاب يعترض في الافق، ومنه قوله تعالى: " هذا عارض ممطرنا " أي ممطر لنا، لانه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة. والعرب إنما تفعل مثل هذا في الاسماء المشتقة من الافعال دون غيرها. قال جرير: يا رب غابطنا لو كان يطلبكم * لاقى مباعدة منكم وحرمانا ولا يجوز أن يقال: هذا رجل غلامنا. وقال أعرابي بعد الفطر: رب صائمة لن تصومه وقائمة لن تقومه، فجعله نعتا للنكرة وأضافه إلى المعرفة.
[ 206 ]
قلت: قوله: (لا يجوز أن يكون صفة لعارض) خلاف قول النحويين، والاضافة في تقدير الانفصال، فهي إضافة لفظية لا حقيقية، لانها لم تفد الاول تعريفا، بل الاسم نكرة على حاله، فلذلك جرى نعتا على النكرة. هذا قول النحويين في الآية والبيت. ونعت النكرة نكرة. و " رب " لا تدخل إلا على النكرة. " بل هو " أي قال هود لهم. والدليل عليه قراءة من قرأ " قال هود بل هو " وقرئ " قل بل ما استعجلتم به هي ريح " أي قال الله قل بل هو ما استعجلتم به، يعني قولهم: " فأتنا بما تعدنا " ثم بين ما هو فقال: " ريح فيها عذاب أليم " والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظعينة (1) فترفعها كأنها جرادة، ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أول ما رأو العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والارض مثل الريش، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الابواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما (2)، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر، فهي التي قال الله تعالى فيها: " تدمر كل شئ بأمر ربها " أي كل شئ مرت عليه من رجال عاد وأموالها. قال ابن عباس: أي كل شئ بعثت إليه. والتدمير: الهلاك. وكذلك الدمار. وقرئ " يدمر كل شئ " من دمر دمارا. يقال: دمره تدميرا ودمارا ودمر عليه بمعنى. ودمر يدمر دمورا دخل بغير إذن. وفي الحديث: [ من سبق طرفه استئذانه فقد دمر ] مخفف الميم. وتدمر: بلد بالشام. ويربوع تدمري إذا كان صغيرا قصيرا. " بأمر ربها " بإذن ربها. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته (3) إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا (1) الظعينة: الجمل يظعن عليه. والهودج فيه امرأة أم لا. (2) الايام الحسوم: الدائمة في البشر. (3) جمع لهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. (*)
[ 207 ]
عرف في وجهه. قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال: [ يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ] خرجه مسلم والترمذي، وقال فيه: حديث حسن. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ نصرت بالصبا (1) وأهلكت عاد بالدبور ]. وذكر الماوردي أن القائل " هذا عارض ممطرنا " من قوم عاد: بكر بن معاوية، ولما رأى السحاب قال: إني لارى سحابا مرمدا، لا تدع من عاد أحدا (2). فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن إسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه منها إلا ما يلين أعلى ثيابهم. وتلتذ الانفس به، وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والارض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا. وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك: فدعا هود عليهم * دعوة أضحوا همودا عصفت ريح عليهم * تركت عادا خمودا سخرت سبع ليال * لم تدع في الارض عودا وعمر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة. " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " قرأ عاصم وحمزة " لا يرى إلا مساكنهم " بالياء غير مسمى الفاعل. وكذلك روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إلا أنه قرأ " ترى " بالتاء. وقد روى ذلك عن أبي بكر عن عاصم. الباقون " ترى " بتاء مفتوحة. " مساكنهم " بالنصب، أي لا ترى يا محمد إلا مساكنهم. قال المهدوي: ومن قرأ بالتاء غير مسمى الفاعل فعلى لفظ الظاهر الذي هو المساكن المؤنثة، وهو قليل لا يستعمل إلا في الشعر. وقال أبو حاتم: لا يستقيم هذا في اللغة إلا أن يكون فيها إضمار، كما تقول في الكلام ألا ترى النساء إلا زينب. ولا يجوز لا ترى إلا زينب. (1) الصبا (بالفتح): ريح الشمال. والدبور: ريح الجنوب. (2) في نهاية ابن الاثير واللسان مادة (رمد) وتاريخ الطبري: " خذها رمادا رمددا، لا تذر من عاد أحدا " والرمد (بالكسر): المتناهي في الاحتراق والدقة. (*)
[ 208 ]
وقال سيبويه: معناه لا ترى أشخاصهم إلا مساكنهم. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة عاصم وحمزة. قال الكسائي: معناه لا يرى شئ إلا مساكنهم، فهو محمول على المعنى، كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى ما قام أحد إلا هند. وقال الفراء: لا يرى الناس لانهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم لانها قائمة. " كذلك نجزي القوم المجرمين " أي مثل هذه العقوبة نعاقب بها المشركين. قوله تعالى: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بأيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (26) قوله تعالى: " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه " قيل: إن " إن " زائدة، تقديره ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه. وهذا قول القتبي. وأنشد الاخفش: يرجي المرء ما إن لا يراه * وتعرض دون أدناه الخطوب وقال آخر: فما إن طبنا جبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا (1) وقيل: إن " ما " بمعنى الذي. و " إن " بمعنى ما، والتقدير ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، قاله المبرد. وقيل: شرطية وجوابها مضمر محذوف، والتقدير ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام. ثم ابتدأ فقال: " وجعلنا لهم سمعا وأبصار وأفئدة " يعني قلوبا يفقهون بها. " فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ " من عذاب الله. " إذ كانوا يجحدون " يكفرون " بآيات الله وحاق بهم " أحاط بهم. " ما كانوا به يستهزئون ". (1) البيت لفروة بن مسيك المرادي. والطب: الشأن والعادة والشهوة والارادة. (*)
[ 209 ]
قوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الايات لعلهم يرجعون (27) قوله تعالى: " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى " يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. " وصرفنا الآيات " يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات، أي بيناها لاهل تلك القرى. " لعلهم يرجعون " فلم يرجعوا. وقيل: أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والاعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون. قوله تعالى: فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ءالهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28) قوله تعالى: " فلولا نصرهم " " لولا " بمعنى هلا، أي هلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " (1) [ يونس: 18 ] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين. وأحد مفعولي اتخذ الراجع (2) إلى الذين المحذوف، والثاني " آلهة ". و " قربانا " حال، ولا يصح أن يكون " قربانا " مفعولا ثانيا. و " آلهة " بدل منه لفساد المعنى، قاله الزمخشري. وقرئ " قربانا " بضم الراء. " بل ضلوا عنهم " أي هلكوا عنهم. وقيل: " بل ضلوا عنهم " أي ضلت عنهم آلهتهم لانها لم يصبها ما أصابهم، إذ هي جماد. وقيل: ضلوا عنهم، أي تركوا الاصنام وتبرءوا منها. " وذلك إفكهم " أي والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. وقراءة العامة " إفكهم " بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي كذبهم. والافك: الكذب، وكذلك الافيكة، والجمع الافائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن الزبير " وذلك أفكهم " بفتح الهمزة (1) آية 18 سورة يونس. (2) الضمير الراجع. (*)
[ 210 ]
والفاء والكاف، على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والافك " بالفتح " مصدر قولك: أفكه يأفكه أفكا، أي قلبه وصرفه عن الشئ. وقرأ عكرمة " أفكهم " بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا " آفكهم " بالمد وكسر الفاء، بمعنى صارفهم. وعن عبد الله بن الزبير باختلاف عنه " آفكهم " بالمد، فجاز أن يكون أفعلهم، أي أصارهم إلى الافك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة " إفكهم " قوله " وما كانوا يفترون " أي يكذبون. وقيل " إفكهم " مثل " أفكهم ". الافك والافك كالحذر والحذر، قاله المهدوي. قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين (29) قوله تعالى: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " هذا توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى " صرفنا " وجهنا إليك وبعثنا. وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب - على ما يأتي - ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم: لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبد ياليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة - بنو عمرو بن عمير - وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فدعاهم إلى الايمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم: هو يمرط (1) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ! وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك ! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك. ثم أغروا به سفهاءهم (1) يمرط: ينزع. (*)
[ 211 ]
وعبيدهم يسبونه ويضحكون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة. فقال للجمحية: [ ماذا لقينا من أحمائك ] ؟ ثم قال: [ اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني ! إلى عبد (1) يتجهمني (2)، أو إلى عدو ملكته أمري ! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ]. فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس: خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم (باسم الله) ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك ] ؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ] ؟ فقال: وما يدريك ما يونس ابن متى ؟ قال: [ ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي ] فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه. فقال له ابنا ربيعة: لم فعلت هكذا ! ؟ فقال: يا سيدي ما في الارض خير من هذا، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين. وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع، فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس: إن هذا الذي حدث في السماء لشئ حدث في الارض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا. وقالت طائفة: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر (1) في سيرة ابن هشام: " بعيد ". (2) أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه. (*)
[ 212 ]
الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله عز وجل إليه نفرا من الجن من نينوى وجمعهم له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني ] ؟ فأطرقوا، ثم قال الثانية فأطرقوا، ثم قال الثالثة فأطرقوا، فقال ابن مسعود: أنا يا رسول الله، قال ابن مسعود: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له (شعب الحجون) وخط لي خطا وأمرني أن أجلس فيه وقال: [ لا تخرج منه حتى أعود إليك ]. ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوى وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطا وغمغة حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة (1) كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال: [ أنمت ] ؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا، فقال: [ لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم ] ثم قال: [ هل رأيت شيئا ] ؟ قلت: نعم يا رسول الله، رأيت رجالا سودا مستثفري (2) ثيابا بيضا، فقال: [ أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل (3) وروثة وبعرة ]. فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث. قلت: يا نبي الله، وما يغني ذلك عنهم ! قال: [ إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكل ] فقلت: يا رسول الله، لقد سمعت لغطا شديدا ؟ فقال: [ إن الجن تدارأت (4) في قتيل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق ]. ثم تبرز النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاني فقال: [ هل معك ماء ]، فقلت يا نبي الله، معي إداوة (5) فيها شئ من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال: [ تمرة طيبة وماء طهور ]. روى معناه معمر عن قتادة وشعبة أيضا عن ابن مسعود. وليس (1) أسودة (جمع السواد) والسواد والاسودات والاساود: جماعة الناس. وقيل هم الضروب المتفرقون. (2) الاستثفار: أن يدخل الانسان إزاره بين فخذيه ملويا ثم يخرجه. (3) العظم الحائل: المتغير، قد غيره البلى. (4) تدارأ: اختلف. (5) الاداوة: إناء صغير من جلد. (*)
[ 213 ]
في حديث معمر ذكر نبيذ التمر. روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا (1) فقال: ما هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الزط. قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا. وذكر الدارقطني عن عبد الله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال: [ شراب وطهور ]. ابن لهيعة لا يحتج به. وبهذا السند عن ابن مسعود أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أمعك ماء يا بن مسعود ] ؟ فقال: معي نبيذ في إداوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ صب علي منه ]. فتوضأ وقال: [ هو شراب وطهور ] تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. قال الدارقطني: وقيل إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبد الله وغيرهما عنه أنه قال: ما شهدت ليلة الجن. حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الاشعث حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبدالله بن مسعود: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعى الجن ؟ قال لا. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه. وعن عمرو بن مرة قال قلت لابي عبيدة: حضر عبد الله بن مسعود ليلة الجن ؟ فقال لا. قال ابن عباس: كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة أحدهم زوبعة. وقال قتادة: إنهم من أهل نينوى. وقال مجاهد: من أهل حران. وقال عكرمة: من جزيرة الموصل. وقيل: إنهم كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين. وروى ابن أبي الدنيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال: [ رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزو نهرها ]. وقال السهيلي: ويقال كانوا سبعة، وكانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا " أنزل من بعد موسى ". وقيل في أسمائهم: شاصر (2) وماصر ومنشي (1) الزط: جيل أسود من السند. وقيل: إعراب " جت " بالهندية، وهم جيل من أهل الهند. (2) في كتاب اللغة: " شصار " ككتاب. (*)
[ 214 ]
وماشي والاحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم عمرو بن جابر، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان: أيكم دفن عمرو بن جابر ؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر ! فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الاجر فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. وذكر ابن سلام رواية أخرى: أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل. قلت: وذكر هذا الخبر الثعلبي بنحوه فقال: وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا: إنا كنا في سقر فرأينا حية متشحطة في دمائها، فأخذها رجل منا فواريناها، فجاء أناس فقالوا: أيكم دفن عمرا ؟ قلنا: وما عمرو ! قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل. ففي هذا الخبر أن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن، والله أعلم. وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه: أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جن نصيبين اسمه زوبعة. قال السهيلي: وبلغنا في فضائل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الاشبيلي أن عمر بن عبد العزيز كان يمشي بأرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها، فإذا قائل يقول: يا سرق، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ ستموت بأرض فلاة فيكفنك رجل صالح ]. فقال: ومن أنت يرحمك الله ! فقال: رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق، وهذا سرق قد مات. وقد قتلت
[ 215 ]
عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ، فأتيت في المنام فقيل لها: إنك قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لو كان مؤمنا ما دخل على حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة، وما جاء إلا ليستمع الذكر. فأصبحت عائشة فزعة، واشترت رقابا فأعتقتهم. قال السهيلي: وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا، فإن كانوا سبعة فالاحقب منهم وصف لاحدهم، وليس باسم علم، فإن الاسماء التي ذكرناها آنفا ثمانية بالاحقب. والله أعلم. قلت: وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هامة بن الهيم (1) بن الاقيس بن إبليس، قيل: إنه من مؤمني الجن وممن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه سورة " إذا وقعت الواقعة " [ الواقعة: 1 ] و " المرسلات " [ المرسلات: 1 ] و " عم يتساءلون " [ النبأ: 1 ] و " إذا الشمس كورت " [ التكوير: 1 ] و " الحمد " [ الفاتحة: 1 ] و " المعوذتين " [ الفلق: 1 - والناس: 1 ]. وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام، وأنه لقي نوحا وتاب على يديه، وهودا وصالحا ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام. وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن مجاهد فقال: حسى ومسى ومنشى وشاصر وماصر والارد وأنيان والاحقم. وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك قال: حدثنا محمد ابن البراء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمى جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: حسى ومسى وشاصر وماصر والافخر والارد وأنيان (2). قوله تعالى: " فلما حضروه " أي حضروا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من باب تلوين الخطاب. وقيل: لما حضروا القرآن واستماعه. " قالوا أنصتوا " أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن. قال ابن مسعود: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم (1) في بعض الاصول: " الاهيم ". (2) لم نوفق لتحقيق هذه الاسماء. والاصول والمصادر التي بين أيدينا مضطربة فيها. (*)
[ 216 ]
وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه " قالوا أنصتوا " قالوا صه. وكانوا سبعة: أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا " الآية إلى قوله: " في ضلال مبين " [ الاحقاف: 32 ]. وقيل: " أنصتوا " لسماع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى متقارب. " فلما قضى " وقرأ لاحق بن حميد وخبيب بن عبد الله بن الزبير " فلما قضى " بفتح القاف والضاد، يعني النبي صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة. وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك ؟ فجاءوا وادي نخلة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر، وكانوا سبعة، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين، ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا. وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أرسلهم. ويدل على هذا قولهم: " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به " [ الاحقاف: 31 ] ولولا ذلك لما أنذروا قومهم. وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلا إلى قومهم، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في " قل أوحي إلي " [ الجن: 1 ]. وفي صحيح مسلم عن معن قال: سمعت أبي قال سألت مسروقا من آذن (1) النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال: حدثني أبوك - يعني ابن مسعود - أنه آذنته بهم شجرة. قوله تعالى: قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) (1) آذن: أعلم. (*)
[ 217 ]
يا قومنا أجيبوا داعي الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) قوله تعالى: " قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى " أي القرآن، وكانوا مؤمنين بموسى. قال عطاء: كانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا: " أنزل من بعد موسى ". وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت: " أنزل من بعد موسى ". " مصدقا لما بين يديه " يعني ما قبله من التوراة. " يهدي إلى الحق " دين الحق. " وإلى طريق مستقيم " دين الله القويم. " يا قومنا أجيبوا داعي الله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه كان مبعوثا إلى الجن والانس. قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والانس قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قلت: يدل على قوله ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الانصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي وجعلت لي الارض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة ]. قال مجاهد: الاحمر والاسود: الجن والانس. وفي رواية من حديث أبي هريرة " وبعثت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون ". " وآمنوا به " أي بالداعي، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: " به " أي بالله، لقوله: " يغفر لكم من ذنوبكم ". قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم سبعون رجلا، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم. مسألة - هذه الآي تدل على أن الجن كالانس في الامر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، يدل عليه قوله تعالى: " يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ". وبه قال أبو حنيفة قال: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون
[ 218 ]
في الاساءة يجازون في الاحسان مثل الانس. وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلي. وقد قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشئ، والعلم عند الله. قلت: قوله تعالى: " ولكل درجات مما عملوا " (1) [ الانعام: 132 ] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة، لانه قال في أول الآية: " يا معشر (1) الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي - إلى أن قال - ولكل درجات مما عملوا " [ الانعام: 130 - 132 ]. والله أعلم، وسيأتي لهذا في سورة " الرحمن " مزيد بيان إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32) قوله تعالى: " ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض " أي لا يفوت الله ولا يسبقه " وليس له من دونه أولياء " أي أنصار يمنعونه من عذاب الله. " أولئك في ضلال مبين ". قوله تعالى: أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير (33) قوله تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض " الرؤية هنا بمعنى العلم. و " أن " واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. " ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى " احتجاج على منكري البعث. ومعنى " لم يعي " يعجز ويضعف عن إبداعهن. يقال: عي بأمره وعيي إذا لم يهتد لوجهه، والادغام أكثر. وتقول في الجمع عيوا، مخففا، وعيوا أيضا بالتشديد. قال: (1) آية 132 سورة الانعام. (2) آية 130 سورة الانعام. (*)
[ 219 ]
عيوا بأمرهم كما * عيت ببيضتها الحمامة (1) وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هو. وقرأ الحسن " ولم يعي " بكسر العين وإسكان الياء، وهو قليل شاذ، لم يأت إعلال العين وتصحيح اللام إلا في أسماء قليلة، نحو غاية وآية. ولم يأت في الفعل سوى بيت أنشده الفراء، وهو قول الشاعر: فكأنها بين النساء سبيكة * تمشى بسدة (2) بيتها فتعي " بقادر " قال أبو عبيدة والاخفش: الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله: " وكفى بالله شهيدا " [ النساء: 166 ]، وقوله: " تنبت بالدهن " (3) [ المؤمنون: 20 ]. وقال الكسائي والفراء والزجاج: الباء فيه خلف الاستفهام والجحد في أول الكلام. قال الزجاج: والعرب تدخلها مع الجحد تقول: ما ظننت أن زيدا بقائم. ولا تقول: ظننت أن زيدا بقائم. وهو لدخول " ما " ودخول " أن " للتوكيد. والتقدير: أليس الله بقادر، كقوله تعالى: " أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر " (4) [ يس: 81 ]. وقرأ ابن مسعود والاعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب " يقدر " واختاره أبو حاتم، لان دخول الباء في خبر " أن " قبيح. واختار أبو عبيد قراءة العامة، لانها في قراءة عبد الله " خلق السموا ت والارض قادر " بغير باء. والله أعلم. قوله تعالى: ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) قوله تعالى: " ويوم يعرض الذين كفروا على النار " أي ذكرهم يوم يعرضون فيقال لهم: " أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا " فيقول لهم المقرر: " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " أي بكفركم. (1) البيت لعبيد بن الابرص. (2) السدة: الفناء. (3) آية 20 سورة المؤمنون. (4) آية 81 سورة يس. (*)
[ 220 ]
قوله تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35) قوله تعالى: " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " وقال ابن عباس: ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وهم أصحاب الشرائع. وقال أبو العالية: إن أولي العزم: نوح، وهود، وإبراهيم. فأمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يكون رابعهم. وقال السدي: هم ستة: إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقيل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة " الاعراف والشعراء ". وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه مدة. وإبراهيم صبر على النار. وإسحاق صبر على الذبح. ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر. ويوسف صبر على البئر والسجن. وأيوب صبر على الضر. وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم. وقال الشعبي والكلبي ومجاهد أيضا: هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة. وقيل: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة " الانعام " وهم ثمانية عشر: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكرياء، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. واختاره الحسن بن الفضل لقوله في عقبه: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " (1) [ الانعام: 90 ] وقال ابن عباس أيضا: كل الرسل كانوا أولي عزم. واختاره علي بن مهدي الطبري، قال: وإنما دخلت " من " للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: اشتريت أردية من البز وأكسية من الخز. أي اصبر كما صبر الرسل. وقيل: كل الانبياء أولو عزم إلا يونس بن متي، ألا ترى أن (1) آية 90 سورة الانعام. (*)
[ 221 ]
النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن يكون مثله، لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه، فابتلاه الله بثلاث: سلط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلط الذئب على ولده فأكله، وسلط عليه الحوت فابتلعه، قاله أبو القاسم الحكيم. وقال بعض العلماء: أولو العزم اثنا عشر نبيا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم، فأوحى الله إلى الانبياء أني مرسل عذابي إلى عصاة بني إسرائيل، فشق ذلك على المرسلين فأوحى الله إليهم اختاروا لانفسكم، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم نجيتكم وأنزلت العذاب ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي الله بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب. وذلك أنه سلط عليهم ملوك الارض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات، ومنهم من حرق بالنار. والله أعلم. وقال الحسن: أولو العزم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى، فأما إبراهيم فقيل له: " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " (1) [ البقرة: 131 ] ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: " إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين " (2) [ الشعراء: 61 - 62 ]. وأما داود فأخطأ خطيئته فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة، فقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة وقال: " إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها ". فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى، مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: محكمة، والاظهر أنها منسوخة، لان السورة مكية. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه وتثبيتا له. والله أعلم. " ولا تستعجل " قال مقاتل: بالدعاء (1) آية 131 سورة البقرة. (2) آية 61 سورة الشعراء. (*)
[ 222 ]
عليهم. وقيل: في إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غاياتهم يوم القيامة. ومفعول الاستعجال محذوف، وهو العذاب. " كأنهم يوم يرون ما يوعدون " قال يحيى: من العذاب. النقاش: من الآخرة. " لم يلبثوا " أي في الدنيا حتى جاءهم العذاب، وهو مقتضى قول يحيى. وقال النقاش: في قبورهم حتى بعثوا للحساب. " إلا ساعة من نهار " يعني في جنب يوم القيامة. وقيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. ثم قال: " بلاغ " أي هذا القرآن بلاغ، قاله الحسن. ف " بلاغ " رفع على إضمار مبتدأ، دليله قوله تعالى: " هذا بلاغ للناس ولينذروا به " (1) [ إبراهيم: 52 ]، وقوله: " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " (2) [ الانبياء: 106 ]. والبلاغ بمعنى التبليغ. وقيل: أي إن ذلك اللبث بلاغ، قاله ابن عيسى، فيوقف على هذا على " بلاغ " وعلى " نهار ". وذكر أبو حاتم أن بعضهم وقف على " ولا تستعجل " ثم ابتدأ " لهم " على معنى لهم بلاغ. قال ابن الانباري: وهذا خطأ، لانك قد فصلت بين البلاغ وبين اللام، - وهي رافعة - بشئ ليس منهما. ويجوز في العربية: بلاغا وبلاغ، النصب على معنى إلا ساعة بلاغا، على المصدر أو على النعت للساعة. والخفض على معنى من نهار بلاغ. وبالنصب قرأ عيسى بن عمر والحسن. وروي عن بعض القراء " بلغ " على الامر، فعلى هذه القراءة يكون الوقف على " من نهار " ثم يبتدئ " بلغ ". " فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " أي الخارجون عن أمر الله، قاله ابن عباس وغيره. وقرأ ابن محيصن " فهل يهلك إلا القوم " على إسناد الفعل إلى القوم. وقال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات ورب الارض ورب العرش العظيم " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية (3) أو ضحاها " [ النازعات: 46 ]. " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " صدق الله العظيم. وعن قتادة: لا يهلك إلا هالك مشرك (4). وقيل: هذه أقوى آية في الرجاء. والله أعلم. (1) آخر سورة إبراهيم. (2) آية 106 سورة الانبياء. (3) آخر سورة النازعات. (4) في تفسير الطبري: " تعلموا ما يهلك على الله الا هالك ولي الاسلام ظهره، أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله ". (*)
[ 223 ]
سورة القتال، وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم مدنية في قول ابن عباس، ذكره النحاس. وقال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزل عليه " وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك " (1) [ محمد: 13 ]. وقال الثعلبي: إنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد ابن جبير. وهي تسع وثلاثون آية. وقيل ثمان. بسم الله الرحمن الرحيم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم (1) قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل مكة كفروا بتوحيد الله، وصدوا أنفسهم والمؤمنين عن دين الله وهو الاسلام بنهيهم عن الدخول فيه، وقاله السدي. وقال الضحاك: " عن سبيل الله " عن بيت الله بمنع قاصديه. ومعنى " أضل أعمالهم " أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم، قاله الضحاك. وقيل: أبطل ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم، من صلة الارحام وفك الاسارى وقرى الاضياف وحفظ الجوار. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل، والحارث ابن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبي وأمية ابنا خلف، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الاسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل. قوله تعالى: والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (2) (1) آية 13 (*)
[ 224 ]
قوله تعالى: " والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد " قال ابن عباس ومجاهد: هم الانصار. وقال مقاتل: إنها نزلت خاصة في ناس من قريش. وقيل: هما عامتان فيمن كفروا وآمن. ومعنى " أضل أعمالهم " أبطلها. وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق. " وعملوا الصالحات " من قال إنهم الانصار فهي المواساة في مساكنهم وأموالهم. ومن قال إنهم من قريش فهي الهجرة. ومن قال بالعموم فالصالحات جميع الاعمال التي ترضي الله تعالى. " وآمنوا بما نزل على محمد " لم يخالفوه في شئ، قاله سفيان الثوري. وقيل: صدقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به. " وهو الحق من ربهم " يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل: أي إن القرآن هو الحق من ربهم، نسخ به ما قبله " كفر عنهم سيئاتهم " أي ما مضى من سيئاتهم قبل الايمان. " وأصلح بالهم " أي شأنهم، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة: حالهم. ابن عباس: أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم. وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر: فإن تقبلي بالود أقبل بمثله * وإن تدبري أذهب إلى حال باليا وهو على هذا التأول محمول على صلاح دينهم. " والبال " كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر فيقولون فيه: بالات. المبرد: قد يكون البال في موضع آخر بمعنى القلب، يقال: ما يخطر فلان على بالي، أي على قلبي. الجوهري: والبال رخاء النفس، يقال فلان رخي البال. والبال: الحال، يقال ما بالك. وقولهم: ليس هذا من بالي، أي مما أباليه. والبال: الحوت العظيم من حيتان البحر، وليس بعربي. والبالة: وعاء الطيب، فارسي معرب، وأصله بالفارسية پيلة. قال أبو ذؤيب: كأن عليها بالة لطمية * لها من خلال الدأيتين أريج (1) (1) اللطمية: العنبرة التي لطمت بالمسك فتفتقت به حتى نشبت رائحتها. والدأي: فقر الكاهل والظهر. (*)
[ 225 ]
قوله تعالى: ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين ءامنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم (3) قوله تعالى: " ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم " " ذلك " في موضع رفع، أي الامر ذلك، أو ذلك الاضلال والهدى المتقدم ذكرهما سببه هذا. فالكافر اتبع الباطل، والمؤمن اتبع الحق. والباطل: الشرك. والحق: التوحيد والايمان. " كذلك يضرب الله للناس أمثالهم " أي كهذا البيان الذي بين يبين الله للناس أمر الحسنات والسيئات. والضمير في " أمثالهم " يرجع إلى الذين كفروا والذين آمنوا. قوله تعالى: فأذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (4) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. قال ابن عباس: الكفار المشركون عبدة الاوثان. وقيل: كل من خالف دين الاسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي. واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه. " فضرب الرقاب " مصدر. قال الزجاج أي فاضربوا الرقاب ضربا. وخص الرقاب بالذكر لان القتل أكثر ما يكون بها. وقيل: نصب على الاغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولك يا نفس صبرا. وقيل: التقدير
[ 226 ]
اقصدوا ضرب الرقاب. وقال: " فضرب الرقاب " ولم يقل فاقتلوهم، لان في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه. الثانية - قوله تعالى: " حتى إذا أثخنتموهم " أي أكثرتم القتل. وقد مضى في " الانفال " عند قوله تعالى: " حتى يثخن في الارض " (1) [ الانفال: 67 ]. " فشدوا الوثاق " أي إذا أسرتموهم. والوثاق اسم من الايثاق، وقد يكون مصدرا، يقال: أوثقته إيثاقا ووثاقا. وأما الوثاق (بالكسر) فهو اسم الشئ الذي يوثق به كالرباط، قاله القشيري. وقال الجوهري: وأوثقه في الوثاق أي شده، وقال تعالى: " فشدوا الوثاق ". والوثاق (بكسر الواو) لغة فيه. وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يفلتوا. " فإما منا " عليهم بالاطلاق من غير فدية " وإما فداء ". ولم يذكر القتل ها هنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام، و " منا " و " فداء " نصب بإضمار فعل. وقرئ " فدى " بالقصر مع فتح الفاء، أي فإما أن تمنوا عليهم منا، وإما أن تفادوهم فداء. روي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالاسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الاشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا ! قال: ولم ذلك ؟ قال: لان الله تعالى قال " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء " في حق الذين كفروا، فوالله ! ما مننت ولا فديت ؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الاخلاق: ولا نقتل الاسرى ولكن نفكهم * إذا أثقل الاعناق حمل المغارم فقال الحجاج: أف لهذه الجيف ! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام ! ؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الاسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل. (1) راجع ج‍ 8 ص 45 وما بعدها. (*)
[ 227 ]
الثالثة - واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال: الاول - أنها منسوخة، وهي في أهل الاوثان، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم. والناسخ لها عندهم قوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (1) [ التوبة: 5 ] وقوله: " فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم " (2) [ الانفال: 57 ] وقوله: " وقاتلوا المشركين كافة " (3) [ التوبة: 36 ] الآية، قاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبد الكريم الجوزي: كتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا. الثاني - أنها في الكفار جميعا. وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد. قالوا: إذ أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة، لانها لا تقتل. والناسخ لها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة: 5 ] إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية. وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين. ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة " فإما منا بعد وإما فداء " قال نسخها " فشرد بهم من خلفهم ". وقال مجاهد: نسخها " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة: 5 ]. وهو قول الحكم. الثالث - أنها ناسخة، قاله الضحاك وغيره. روى الثوري عن جويبر عن الضحاك " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [ التوبة: 5 ] قال نسخها " فإما منا بعد وإما فداء ". وقال ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء " فإما منا بعد وإما فداء " فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى، كما قال الله عز وجل. قال أشعث: كان الحسن يكره أن يقتل الاسير، ويتلو " فإما منا بعد وإما فداء ". وقال الحسن أيضا: في الآية تقديم وتأخير، فكأنه قال: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها. ثم قال: " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ". (1) آية 5 سورة التوبة. (2) آية 57 سورة الانفال. (3) آية 36 سورة التوبة. (*)
[ 228 ]
وزعم أنه ليس للامام إذا حصل الاسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل: إما أن يمن، أو يفادي، أو يسترق. الرابع - قول سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الاثخان والقتل بالسيف، لقوله تعالى: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض " (1) [ الانفال: 67 ]. فإذا أسر بعد ذلك فللامام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. الخامس - أن الآية محكمة، والامام مخير في كل حال، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقاله كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والاوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. وهو الاختيار، لان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك، قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا، وفادى سائر أسارى بدر، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، وأخذ من سلمة بن الاكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين، وهبط عليه عليه السلام قوم من أهل مكة فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن عليهم، وقد من على سبي هوازن. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقد مضى جميعه في (الانفال) (2) وغيرها. قال النحاس: وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن، لان النسخ إنما يكون لشئ قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الاسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين. وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور عنه ما قدمناه، وبالله عز وجل التوفيق. الرابعة - قوله تعالى: " حتى تضع الحرب أوزارها " قال مجاهد وابن جبير: هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضا: أن المعنى حتى لا يكون دين إلا دين الاسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب. ونحوه (1) آية 67 سورة الانفال. (2) راجع ج‍ 8 ص 45 وما بعدها. [ * ]
[ 229 ]
عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق. وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي: حتى يظهر الاسلام على الدين كله. وقال الحسن: حتى لا يعبدوا إلا الله. وقيل: معنى الاوزار السلاح، فالمعنى شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح. وقيل: معناه حتى تضع الحرب، أي الاعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة. ويقال للكراع أوزار. قال الاعشى: وأعددت للحرب أوزارها * رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود يحدى بها * على أثر الحي عيرا فعيرا (1) وقيل: " حتى تضع الحرب أوزارها " أي أثقالها. والوزر الثقل، ومنه وزير الملك لانه يتحمل عنه الاثقال. وأثقالها السلاح لثقل حملها. قال ابن العربي: قال الحسن وعطاء: في الآية تقديم وتأخير، المعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وليس للامام أن يقتل الاسير. وقد روي عن الحجاج أنه دفع أسيرا إلى عبد الله بن عمر ليقتله فأبى وقال: ليس بهذا أمرنا الله، وقرأ " حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ". قلنا: قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، وليس في تفسير الله للمن والفداء منع من غيره، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد، وبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم الرجم، ولعل ابن عمر كره ذلك من يد الحجاج فاعتذر بما قال، وربك أعلم ". قوله تعالى: " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم " " ذلك " في موضع رفع على ما تقدم، أي الامر ذلك الذي ذكرت وبينت. وقيل: هو منصوب على معنى افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ، المعنى ذلك حكم الكفار. وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام، وهو كما قال تعالى: " هذا وإن للطاغين لشر مآب " (2) [ ص: 55 ]. أي هذا حق وأنا أعرفكم أن للظالمين كذا. ومعنى " لا انتصر منهم " أي أهلكهم بغير قتال. وقال (1) هذه رواية البيت في الاصول. وروايته في كتاب " الاعشين ": ومن نسج داود موضونة * تساق مع الحي عيرا فعيرا والموضونة: الدرع المنسوجة. وفي شعراء النصرانية:... على أثر العيس... (2) آية 55 سورة ص. (*)
[ 230 ]
ابن عباس: لاهلكهم بجند من الملائكة. " ولكن ليبلوا بعضكم ببعض " أي أمركم بالحرب ليبلو ويختبر بعضكم ببعض فيعلم المجاهدين والصابرين، كما في السورة نفسها. " والذين قتلوا في سبيل الله " يريد قتلى أحد من المؤمنين " فلن يضل أعمالهم " قراءة العامة " قاتلوا " وهي اختيار أبي عبيد. وقرأ أبو عمرو وحفص " قتلوا " بضم القاف وكسر التاء، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة " قتلوا " بفتح القاف والتاء من غير ألف، يعني الذين قتلوا المشركين. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعل هبل. ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل. وقال المشركون: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا لا سواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون). فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. وقد تقدم ذكر ذلك في (آل عمران) (1). قوله تعالى: سيهديهم ويصلح بالهم (5) قال القشيري: قراءة أبي عمرو " قتلوا " بعيدة، لقوله تعالى: " سيهديهم ويصلح بالهم " والمقتول لا يوصف بهذا. قال غيره: يكون المعنى سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي يحقق لهم الهداية. وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: " فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ". ومنه قوله تعالى: " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " (2) [ الصافات: 23 ] معناه فاسلكوا بهم إليها. قوله تعالى: ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6) (1) راجع ج‍ 4 ص 234 (2) آية 23 سورة الصافات. (*)
[ 231 ]
أي إذا دخلوها يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم، فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم. قال معناه مجاهد وأكثر المفسرين. وفي البخاري ما يدل على صحة هذا القول عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار [ فيقص لبعضهم من بعض مظالم ] كانت بينهم في الدنيا (1) ] حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لاحدهم أهدى بمنزله في الجنة [ منه (1) ] بمنزله في الدنيا). وقيل: " عرفها لهم " أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال. قال الحسن: وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل: فيه حذف، أي عرف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم، فحذف المضاف. وقيل: هذا التعريف بدليل، وهو الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه ويتبعه العبد حتى يأتي العبد منزله، ويعرفه الملك جميع ما جعل له في الجنة. وحديث أبي سعيد الخدري يرده. وقال ابن عباس " عرفها لهم " أي طيبها لهم بأنواع الملاذ، مأخوذ من العرف، وهو الرائحة الطيبة. وطعام معرف أي مطيب، تقول العرب: عرفت القدر إذا طيبتها بالملح والابزار. وقال الشاعر يخاطب رجلا ويمدحه: * عرفت كإتب عرفته اللطائم (2) * يقول: كما عرف الاتب، وهو البقير والبقيرة، وهو قميص لا كمين له تلبسه النساء. وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، يقال: حرير معرف، أي بعضه على بعض، وهو من العرف المتتابع كعرف الفرس. وقيل: " عرفها لهم " أي وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهارا لكرامتهم فيها. وقيل: عرف المطيعين أنها لهم. قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7) (1) زيادة عن صحيح البخاري. (2) اللطائم (جمع لطيمة): قطعة مسك. (*)
[ 232 ]
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم " أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار. نظيره " ولينصرن الله من ينصره " [ الحج: 40 ] وقد تقدم (1). وقال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد. " ويثبت أقدامكم " أي عند القتال. وقيل على الاسلام. وقيل على الصراط. وقيل: المراد تثبيت القلوب بالامن، فيكون تثبيت الاقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب. وقد مضى في " الانفال " (2) هذا المعنى. وقال هناك: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا " (2) [ الانفال: 12 ] فأثبت هناك واسطة ونفاها هنا، كقوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت " (1) [ السجدة: 11 ] ثم نفاها بقوله: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم " (4) [ الروم: 40 ]. " الذي خلق الموت والحياة " (5) [ الملك: 2 ] ومثله كثير، فلا فاعل إلا الله وحده. قوله تعالى: والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم (8) قوله تعالى: " والذين كفروا " يحتمل الرفع على الابتداء، والنصب بما يفسره " فتعسا لهم " كأنه قال: أتعس الذين كفروا. و " تعسا لهم " نصب على المصدر بسبيل الدعاء، قاله الفراء، مثل سقيا له ورعيا. وهو نقيض لعا (6) له. قال الاعشى: * فالتعس أولى لها من أن أقول لعا (7) * وفيه عشرة أقوال: الاول - بعدا لهم، قاله ابن عباس وابن جريج. الثاني - حزنا لهم، قاله السدي. الثالث - شقاء لهم، قاله ابن زيد. الرابع - شتما لهم من الله، قاله الحسن. الخامس - هلاكا لهم، قاله ثعلب. السادس - خيبة لهم، قاله الضحاك وابن زيد. السابع - قبحا لهم، حكاه النقاش. الثامن - رغما لهم، قاله الضحاك أيضا. التاسع - (1) راجع ج‍ 12 ص 72 (2) راجع ج‍ 7 ص 377 (3) آية 11 سورة السجدة. (4) آية 40 سورة الروم. (5) آية 2 سورة الملك. (6) لعا: كلمة يدعى بها للعاثر معناه الارتفاع. (7) في اللسان وكتاب الاعشين: " أدنى " بدل " أولى ". وصدره: * بذات لوث عفرناة إذا عثرت * واللوث (بالفتح): القوة ". عفرناة: قرية. (*)
[ 233 ]
شرا لهم، قاله ثعلب أيضا. العاشر - شقوة لهم، قاله أبو العالية. وقيل: إن التعس الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه. والنكس أن يخر على رأسه. قال: والتعس أيضا الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكب، وهو ضد الانتعاش. وقد تعس (بفتح العين) يتعس تعسا، وأتعسه الله. قال مجمع بن هلال: تقول وقد أفردتها من خليلها * تعست كما أتعستني يا مجمع يقال: تعسا لفلان، أي ألزمه الله هلاكا. قال القشيري: وجوز قوم تعس (بكسر العين). قلت: ومنه حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة (1) إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض " خرجه البخاري. في بعض طرق هذا الحديث " تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " (2) خرجه ابن ماجه. قوله تعالى: " وأضل أعمالهم " أي أبطلها لانها كانت في طاعة الشيطان. ودخلت الفاء في قوله " فتعسا " لاجل الابهام الذي في " الذين "، وجاء " وأضل أعمالهم " على الخبر حملا على لفظ الذين، لانه خبر في اللفظ، فدخول الفاء حملا على المعنى، وأضل حملا على اللفظ. قوله تعالى: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9) أي ذلك الاضلال والاتعاس، لانهم " كرهوا ما أنزل الله " من الكتب والشرائع. " فأحبط أعمالهم " أي ما لهم من صور الخيرات، كعمارة المسجد وقرى الضيف وأصناف القرب، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن. وقيل: أحبط أعمالهم أي عبادة الصنم. قوله تعالى: أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10) (1) القطيفة: دثار. والخميصة: كساء أسود مربع له أعلام وخطوط. (2) قوله " شيك " أي أصابته شوكة. و " فلا انتقش " أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش. (*)
[ 234 ]
بين أحوال المؤمن والكافر تنبيها على وجوب الايمان، ثم وصل هذا بالنظر، أي ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم " فينظروا " بقلوبهم " كيف كان " آخر أمر الكافرين قبلهم. " دمر الله عليهم " أي أهلكهم واستأصلهم. يقال: دمره تدميرا، ودمر عليه بمعنى. ثم تواعد مشركي مكة فقال " وللكافرين أمثالها " أي أمثال هذه الفعلة، يعني التدمير. وقال الزجاج والطبري: الهاء تعود على العاقبة، أي وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الامم السالفة إن لم يؤمنوا. قوله تعالى: ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11) أي وليهم وناصرهم. وفي حرف ابن مسعود " ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا ". فالمولى: الناصر ها هنا، قاله ابن عباس وغيره. قال: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها (1) قال قتادة: نزلت يوم أحد والنبي صلى الله عليه وسلم في الشعب، إذ صاح المشركون: يوم بيوم، لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ] وقد تقدم. (2) " وأن الكافرين لا مولى لهم " أي لا ينصرهم أحد من الله. قوله تعالى: إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم (12) (1) البيت من معلقة لبيد. ويروى " فعدت " بالعين المهملة. أخبر أنها (أي البقرة) خائفة من كلا جانبيها من خلفها وأمامها. والفرج: الواسع من الارض. والفرج: الثغر المخوف، وهو موضع المخافة. (2) راجع ص 230 من هذا الجزء. (*)
[ 235 ]
قوله تعالى: " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار " تقدم في غير موضع " والذين كفروا يتمتعون " في الدنيا كأنهم أنعام، ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عما في غدهم. وقيل: المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع. " والنار مثوى لهم " أي مقام ومنزل. قوله تعالى: وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13) قوله تعالى: " وكأين من قرية " تقدم الكلام في " كأين " في (آل عمران) (1). وهي ها هنا بمعنى كم، أي وكم من قرية. وأنشد الاخفش قول لبيد: وكائن رأينا من ملوك وسوقة * ومفتاح قيد للاسير المكبل فيكون معناه: وكم من أهل قرية. " هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك " أي أخرجك أهلها. " فلا ناصر لهم " قال قتادة وابن عباس: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: [ اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت أحب البلاد إلي ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك ]. فنزلت الآية، ذكره الثعلبي، وهو حديث صحيح. قوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم (14) قوله تعالى: " أفمن كان على بينة من ربه " الالف ألف تقرير. ومعنى " على بينة " أي على ثبات ويقين، قاله ابن عباس. أبو العالية: وهو محمد صلى الله عليه وسلم. والبينة: الوحي. " كمن زين له سوء عمله " أي عبادة الاصنام، وهو أبو جهل والكفار. (1) راجع ج‍ 4 ص 228 (*)
[ 236 ]
" واتبعوا أهواءهم " أي ما اشتهوا. وهذا التزيين من جهة الله خلقا. ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة. ويجوز أن يكون من الكافر، أي زين لنفسه سوء عمله وأصر على الكفر. وقال " سوء " على لفظ " من " " واتبعوا " على معناه. قوله تعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غيرءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15) قوله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون " لما قال عز وجل: " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات " [ الحج: 14 ] وصف تلك الجنات، أي صفة الجنة المعدة للمتقين. وقد مضى الكلام في هذا في " الرعد " (1). وقرأ علي بن أبي طالب " مثال الجنة التي وعد المتقون ". " فيها أنهار من ماء غير آسن " أي غير متغير الرائحة. والآسن من الماء مثل الآجن. وقد أسن الماء يأسن ويأسن [ أسنا و ] أسونا إذا تغيرت رائحته. وكذلك أجن الماء يأجن ويأجن أجنا وأجونا. ويقال بالكسر فيهما: أجن وأسن يأسن ويأجن أسنا وأجنا، قاله اليزيدي. وأسن الرجل أيضا يأسن (بالكسر (2) لا غير) إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك فغشي عليه أو دار رأسه، قال زهير: قد أترك (3) القرن مصفرا أنامله * يميد في الرمح ميد المائح الاسن ويروى " الوسن ". وتأسن الماء تغير. أبو زيد: تأسن علي تأسنا اعتل وأبطأ. أبو عمرو: تأسن الرجل أباه أخذ أخلاقه. وقال اللحياني: إذا نزع إليه في الشبه. وقراءة العامة " آسن " بالمد. وقرأ ابن كثير وحميد " أسن " بالقصر، وهما لغتان، مثل حاذر وحذر. وقال الاخفش: أسن للحال، وآسن (مثل فاعل) يراد به الاستقبال. " وأنهار من (1) راجع ج‍ 9 ص 324 (2) أي في الماضي. (3) وفيه رواية أخرى: " يغادر القرن ". (*)
[ 237 ]
لبن لم يتغير طعمه " أي لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة. " وأنهار من خمرة لذة للشاربين " أي لم تدنسها الارجل ولم ترنقها (1) الايدي كخمر الدنيا، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون. يقال: شراب لذ ولذيذ بمعنى. واستلذه عده لذيذا. " وأنهار من عسل مصفى " العسل ما يسيل من لعاب النحل. " مصفى " أي من الشمع والقذى، خلقه الله كذلك لم يطبخ على نار ولا دنسه النحل. وفي الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الانهار بعد ]. قال: حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة ]. وقال كعب: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم. وهذه الانهار الاربعة تخرج من نهر الكوثر. والعسل: يذكر ويؤنث. وقال ابن عباس: " من عسل مصفى " أي لم يخرج من بطون النحل. " ولهم فيها من كل الثمرات " " من " زائدة للتأكيد. " ومغفرة من ربهم " أي لذنوبهم. " كمن هو خالد في النار " قال الفراء: المعنى أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار. وقال الزجاج: أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطى هذه الاشياء كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار. فقوله " كمن " بدل من قوله " أفمن زين له سوء عمله " [ فاطر: 8 ]. وقال ابن كيسان: مثل هذه الجنة التي فيها الثمار والانهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم. ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمئل أهل النار في العذاب المقيم. " وسقوا ماء حميما " أي حارا شديد الغليان، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم. والامعاء: جمع معى، والتثنية معيان، وهو جميع ما في البطن من الحوايا. (1) رنق الماء: كدره. (*)
[ 238 ]
قوله تعالى: ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال ءانفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16) والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم (17) قوله تعالى: " ومنهم من يستمع إليك " أي من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام، وزين لهم سوء عملهم قوم يستمعون إليك وهم المنافقون: عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت (1) والحارث بن عمرو ومالك بن دخشم، كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه، قاله الكلبي ومقاتل. وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر. " حتى إذا خرجوا من عندك " أي إذا فارقوا مجلسك. " قالوا للذين أوتوا العلم " قال عكرمة: هو عبد الله بن العباس. قال ابن عباس: كنت ممن يسأل، أي كنت من الذين أوتوا العلم. وفي رواية عن ابن عباس: أنه يريد عبد الله بن مسعود. وكذا قال عبد الله بن بريدة: هو عبد الله بن مسعود. وقال القاسم بن عبد الرحمن: هو أبو الدرداء. وقال ابن زيد: إنهم الصحابة. " ماذا قال آنفا " أي الآن، على جهة الاستهزاء. أي أنا لم ألتفت إلى قوله. و " آنفا " يراد به الساعة التي هي أقرب الاوقات إليك، من قولك: استأنفت الشئ إذا ابتدأت به. ومنه أمر أنف، وروضة أنف، أي لم يرعها أحد. وكأس أنف: إذا لم يشرب منها شئ، كأنه استؤنف شربها مثل روضة أنف. قال الشاعر: (2) ويحرم سر جارتهم عليهم * ويأكل جارهم أنف القصاع (1) كذا في الاصول. وفي سيرة ابن هشام وابن الاثير طبع أوربا: " اللصيت " بالتاء المثناة من فوق. وفي تاريخ الطبري (طبع أوربا قسم أول ص 1699: " اللصيب " بالباء الموحدة. (2) هو الحطيئة. (*)
[ 239 ]
وقال آخر (1): إن الشواء والنشيل والرغف * والقينة الحسناء والكأس الانف * للطاعنين الخيل والخيل قطف (2) * وقال امرؤ القيس: * قد غدا يحملني في أنفه (3) * أي في أوله. وأنف كل شئ أوله. وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عقل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل ولم ينتفع بما سمع. وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عامل، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. قوله تعالى: " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم " فلم يؤمنوا. " واتبعوا أهواءهم " في الكفر. " والذين اهتدوا " أي للايمان زادهم الله هدى. وقيل: زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدى. وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى. أي يتضاعف يقينهم. وقال الفراء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى. وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى. وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل: أحدها - زادهم علما، قاله الربيع بن أنس. الثاني - أنهم علموا ما سمعوا وعملوا بما علموا، قاله الضحاك. الثالث - زادهم بصيرة في دينهم وتصديقا لنبيهم، قاله الكلبي. الرابع - شرح صدورهم بما هم عليه من الايمان. " وآتاهم تقواهم " أي ألهمهم إياها. وقيل: فيه خمسة أوجه: أحدها - آتاهم الخشية، قاله الربيع. الثاني - ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. الثالث - وفقهم للعمل الذي فرض عليهم، قاله مقاتل. الرابع - بين لهم ما يتقون، قاله ابن زياد والسدي أيضا. الخامس - أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. الماوردي: ويحتمل. سادسا - (1) هو لقيط بن زرارة. والنشيل: ما طبخ من اللحم بغير تابل. والرغف جمع رغيف. ويقال: أرغفة ورغفان. (2) في الاصول: " حنف " والتصويب عن اللسان مادة " قطف ". وقد ورد هذا الشطر في اللسان مادة " نشل ": " للضاربين الهام والخيل قطف ". وقطفت الدابة: أساءت السير وأبطأت. (3) تمامه: * لا حق الايطل محبوك ممر * (*)
[ 240 ]
أنه ترك الرخص والاخذ بالعزائم. وقرئ " وأعطاهم " بدل " وآتاهم ". وقال عكرمة: هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب. قوله تعالى: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18) قوله تعالى: " فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة " أي فجأة. وهذا وعيد للكفار. " فقد جاء أشراطها " أي أماراتها وعلاماتها. وكانوا قد قرءوا في كتبهم أن محمد صلى الله عليه وسلم آخر الانبياء، فبعثه من أشراطها وأدلتها، قاله الضحاك والحسن. وفي الصحيح عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ بعثت أنا والساعة كهاتين ] وضم السبابة والوسطى، لفظ مسلم. وخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه. ويروى [ بعثت والساعة كفرسي رهان ]. وقيل: أشراط الساعة أسبابها التي هي دون معظمها. ومنه يقال للدون من الناس: الشرط. وقيل: يعني علامات الساعة انشقاق القمر والدخان، قاله الحسن أيضا. وعن الكلبي: كثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الارحام، وقلة الكرام وكثرة اللئام. وقد أتينا على هذا الباب في كتاب " التذكرة " مستوفى والحمد لله. وواحد الاشراط شرط، وأصله الاعلام. ومنه قيل الشرط، لانهم جعلوا لانفسهم علامة يعرفون بها. ومنه الشرط في البيع وغيره. قال أبو الاسود: فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا * فقد جعلت أشراط أوله تبدو ويقال: أشرط فلان نفسه في عمل كذا أي أعلمها وجعلها له. قال أوس بن حجر يصف رجلا تدلى بحبل من رأس جبل إلى نبعة (1) يقطعها ليتخذ منها قوسا: فأشرط نفسه فيها وهو معصم * وألقى بأسباب له وتوكلا (1) النبعة (واحدة النبع): شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسي. (*)
[ 241 ]
" أن تأتيهم بغتة " " أن " بدل اشتمال من " الساعة " نحو قوله: " أن تطئوهم " من قوله: " رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " (1). وقرئ " بغتة " بوزن جربة (2)، وهي غريبة لم ترد في المصادر أختها،، وهي مروية عن أبي عمرو. الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو، وأن يكون الصواب " بغتة " بفتح الغين من غير تشديد، كقراءة الحسن. وروى عن أبو جعفر الرؤاس، وغيره من أهل مكة " إن تأتهم بغتة ". قال المهدوي: ومن قرأ " إن تأتهم بغتة " كان الوقف على " الساعة " ثم استأنف الشرط. وما يحتمله الكلام من الشك مردود إلى الخلق، كأنه قال: إن شكوا في مجيئها " فقد جاء أشراطها ". قوله تعالى: " فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم " " ذكراهم " ابتداء و " أنى لهم " الخبر. والضمير المرفوع في " جاءتهم " للساعة، التقدير: فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة، قال معناه قتادة وغيره. وقيل: فكيف لهم بالنجاة إذا جاءتهم الذكرى عند مجئ الساعة، قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان: أحدهما - تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني - هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيرا وتخويفا، روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة يا فلان قم إلى نورك يا فلان قم لا نور لك ] ذكره الماوردي. قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم (19) قوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلا الله " قال الماوردي: وفيه - وإن كان الرسول عالما بالله - ثلاثة أوجه: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني - ما علمته استدلالا فآعلمه خبرا يقينا. الثالث - يعني فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم (1) آية 25 سورة الفتح. (2) الجربة (بالفتح والتشديد): القطيع من حمر الوحش. وقد يقال للاقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين: جربة. (*)
[ 242 ]
لحدوثه عنه. وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به " فآعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " فأمر بالعمل بعد العلم وقال: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو - إلى قوله - سابقوا إلى مغفرة من ربكم " (1) [ الحديد: 20 - 21 ] وقال: " واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة " (2) [ الانفال: 28 ]. ثم قال بعد: " فاحذروهم " (3) [ التغابن: 14 ]. وقال تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " (4) [ الانفال: 41 ]. ثم أمر بالعمل بعد. قوله تعالى: " واستغفر لذنبك " يحتمل وجهين: أحدهما - يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني - استغفر الله ليعصمك من الذنوب. وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الايمان، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والاخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار. وقيل: الخطاب له والمراد به الامة، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الانسان لجميع المسلمين. وقيل: كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين، فنزلت الآية. أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أمر بالاستغفار لتقتدي به الامة. " وللمؤمنين والمؤمنات " أي ولذنوبهم. وهذا أمر بالشفاعة. وروى مسلم عن عاصم الاحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه فقلت: يا رسول الله، غفر الله لك ! فقال له صاحبي: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، ولك. ثم تلا هذه الآية " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، جمعا (5) [ عليه (6) ] خيلان كأنه الثآليل. " والله يعلم متقلبكم ومثواكم " فيه خمسة أقوال: أحدها - يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. الثاني - " متقلبكم " في أعمالكم نهارا " ومثواكم " في ليلكم نياما. وقيل (1) آية 20 سورة الحديد. (2) آية 28 سورة الانفال. (3) في قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " آية 14 سورة التغابن. (4) آية 41 سورة الانفال. (5) يريد مثل جمع الكف، وهو أن يجمع الاصابع ويضمها. (6) زيادة عن صحيح مسلم. والخيلان: جمع خال، وهو الشامة في الجسد. والثآليل: وهو ثؤلول، وهي حبيبات تعلو الجسد. (*)
[ 243 ]
" متقلبكم " في الدنيا. " ومثواكم " في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس والضحاك. وقال عكرمة: " متقلبكم " في أصلاب الآباء إلى أرحام الامهات. " ومثواكم " مقامكم في الارض. وقال ابن كيسان: " متقلبكم " من ظهر إلى بطن إلى الدنيا. " ومثواكم " في القبور. قلت: والعموم يأتي على هذا كله، فلا يخفى عليه سبحانه شئ من حركات بني آدم وسكناتهم، وكذا جميع خلقه. فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى. سبحانه ! لا إله إلا هو. قوله تعالى: ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم (20) طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21) قوله تعالى: " ويقول الذين آمنوا " أي المؤمنون المخلصون. " لولا نزلت سورة " اشتياقا للوحي وحرصا على الجهاد وثوابه. ومعنى " لولا " هلا. " فإذا أنزلت سورة محكمة " لا نسخ فيها. قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين. وفي قراءة عبد الله " فإذا أنزلت سورة محدثة " أي محدثة النزول. " وذكر فيها القتال " أي فرض فيها الجهاد. وقرئ " فإذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال " على البناء للفاعل ونصب القتال. " رأيت الذين في قلوبهم مرض " أي شك ونفاق. " ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " أي نظر مغموصين مغتاظين بتحديد وتحديق، كمن يشخص بصره عند الموت، وذلك لجبنهم عن القتال جزعا وهلعا، ولميلهم في السر إلى الكفار. قوله تعالى: " فأولى لهم. طاعة وقول معروف " " فأولى لهم " قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهدد ووعيد. قال الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى * وهل للدر يحلب من مرد
[ 244 ]
قال الاصمعي: معناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به. وأنشد: فعادى بين هاديتين منها * وأولى أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل أحد في " أولى " أحسن مما قال الاصمعي. وقال المبرد: يقال لمن هم بالعطب ثم أفلت: أولى لك، أي قاربت العطب. كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فيفلت منه ليقول: أولى لك. ثم رمى صيدا فقاربه ثم أفلت منه فقال: فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم * ولكن أولى يترك القوم جوعا وقيل: هو كقول الرجل لصاحبه: يا محروم، أي شئ فاتك ! وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل، فهو أفعل، ولكن فيه قلب، وهو أن عين الفعل وقع موقع اللام. وقد تم الكلام على قوله: " فأولى لهم ". قال قتادة: كأنه قال العقاب أولى لهم. وقيل: أي وليهم المكروه. ثم قال: " طاعة وقول معروف " أي طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، وهو مذهب سيبويه والخليل. وقيل: إن التقدير أمرنا طاعة وقول معروف، فحذف المبتدأ فيوقف على " فأولى لهم ". وكذا من قدر يقولون منا طاعة. وقيل: إن الآية الثانية متصلة بالاولى. واللام في قوله " لهم " بمعنى الباء، أي الطاعة أولى وأليق بهم، وأحق لهم من ترك أمتثال أمر الله. وهي قراءة أبي " يقولون طاعة ". وقيل: إن " طاعة " نعت ل " سورة "، على تقدير: فإذا أنزلت سورة ذات طاعة، فلا يوقف على هذا على " فأولى لهم ". قال ابن عباس: إن قولهم " طاعة " إخبار من الله عز وجل عن المنافقين. والمعنى لهم طاعة وقول معروف، قيل وجوب الفرائض عليهم، فإذا أنزلت الفرائض شق عليهم نزولها. فيوقف على هذا على " فأولى ". قوله تعالى: " فإذا عزم الامر " أي جد القتال، أو وجب فرض القتال، كرهوه. فكرهوه جواب " إذا " وهو محذوف. وقيل: المعنى فإذا عزم أصحاب الامر. " فلو صدقوا الله " أي في الايمان والجهاد. " لكان خيرا لهم " من المعصية والمخالفة.
[ 245 ]
قوله تعالى: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23) أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها (24) فيه أربع مسائل: الاولى: قوله تعالى: " فهل عسيتم إن توليتم " اختلف في معنى " إن توليتم " فقيل: هو من الولاية. قال أبو العالية: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاما أن تفسدوا في الارض بأخذ الرشا. وقال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الامة أن تفسدوا في الارض بالظلم. وقال ابن جريج: المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الارض بالمعاصي وقطع الارحام. وقال كعب: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الامر أن يقتل بعضكم بعضا. وقيل: من الاعراض عن الشئ. قال قتادة: أي فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الارض بسفك الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم. وقيل: " فهل عسيتم " أي فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الارض فتعودوا إلى جاهليتكم. وقرئ بفتح السين وكسرها. وقد مضى في " البقرة " القول فيه مستوفى (1). وقال بكر المزني: إنها نزلت في الحرورية والخوارج، وفيه بعد. والاظهر أنه إنما عني بها المنافقون. وقال ابن حيان: قريش. ونحوه قال المسيب بن شريك والفراء، قالا: نزلت في بني أمية وبني هاشم، ودليل هذا التأويل ما روى عبد الله بن مغفل قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض " - ثم قال - هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الارض ولا يقطعوا أرحامهم ]. وقرأ علي بن أبي طالب " إن توليتم أن تفسدوا في الارض " بضم التاء والواو وكسر اللام. وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها رويس عن (1) راجع ج‍ 3 ص 244 (*)
[ 246 ]
يعقوب. يقول: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم. " وتقطعوا أرحامكم " بالبغي والظلم والقتل. وقرأ يعقوب وسلام وعيسى وأبو حاتم " وتقطعوا " بفتح التاء وتخفيف القاف، من القطع، اعتبارا بقوله تعالى " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " (1) [ البقرة: 27 ]. وروى هذه القراءة هارون عن أبى عمرو. وقرأ الحسن " وتقطعوا " مفتوحة الحروف مشددة، اعتبارا بقوله تعالى: " وتقطعوا أمرهم بينهم " (2) [ الانبياء: 93 ]. الباقون " وتقطعوا " بضم التاء مشددة الطاء، من التقطيع على التكثير، وهو اختيار أبي عبيد. وتقدم ذكر " عسيتم " [ البقرة: 246 ] في (البقرة) (3). وقال الزجاج في قراءة نافع: لو جاز هذا لجاز " عسي " بالكسر. قال الجوهري: ويقال عسيت أن أفعل ذلك، وعسيت بالكسر. وقرئ " فهل عسيتم " بالكسر. قلت: ويدل قوله هذا على أنهما لغتان. وقد مضى القول فيه في " البقرة " مستوفى. (3) " أولئك الذين لعنهم الله " أي طردهم وأبعدهم من رحمته. " فأصمهم " عن الحق. " وأعمى أبصارهم " أي قلوبهم عن الخير. فأتبع الاخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. وقال: " فهل عسيتم " ثم قال: " أولئك الذين لعنهم الله " فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك. الثانية - قوله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن " أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الاسلام. " أم على قلوب أقفالها " أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون. وهذا يرد على القدرية والامامية مذهبهم. وفي حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها ]. وأصل القفل اليبس والصلابة. ويقال لما يبس من الشجر: القفل. والقفيل مثله. والقفيل أيضا نبت. والقفيل: الصوت. قال الراجز: لما أتاك يابسا قرشبا * قمت إليه بالقفيل ضربا * كيف قريت شيخك الازبا (4) * (1) آية 27 سورة البقرة. (2) آية 93 سورة الانبياء. (3) ج‍ 3 ص 244 (4) الازب (بالفتح والتشديد): الكثير الشعر. (*)
[ 247 ]
القرشب (بكسر القاف): المسن، عن الاصمعي. وأقفله الصوم أي أيبسه، قاله القشيري والجوهري. فالاقفال ها هنا إشارة إلى ارتتاج القلب وخلوه عن الايمان. أي لا يدخل قلوبهم الايمان ولا يخرج منها الكفر، لان الله تعالى طبع على قلوبهم وقال: " على قلوب " لانه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة. والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها. الثالثة - في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقرءوا إن شئتم " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " ]. وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار. وقال قتادة وغيره: معنى الآية فلعلكم، أو يخاف عليكم، إن أعرضتم عن الايمان أن تعودوا إلى الفساد في الارض لسفك الدماء. قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ! ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الارحام وعصوا الرحمن. فالرحم على هذا رحم دين الاسلام والايمان، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " (1). وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية، والمراد من أضمر منهم نفاقا، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك يوجب القتال. وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الايمان والمحبة لاهله ونصرتهم، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من [ الحقوق ] المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة وتفقد أحوالهم، (1) آية 10 سورة الحجرات. (*)
[ 248 ]
وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالاقرب فالاقرب. وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم، وعليه فلا تجب في بني الاعمام وبني الاخوال. وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الارحام في المواريث، محرما كان أو غير محرم. فيخرج من هذا أن رحم الام التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم. وهذا ليس بصحيح، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال، قربة ودينية، على ما ذكرناه أولا والله أعلم. وقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن عبد الجبار قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت العرش يقول يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسئ إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ]. وفي صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ لا يدخل الجنة قاطع ]. قال ابن أبي عمر قال سفيان: يعني قاطع رحم. ورواه البخاري. الرابعة - قوله عليه السلام: [ إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم... ] " خلق " بمعنى اخترع وأصله التقدير، كما تقدم (1). والخلق هنا بمعنى المخلوق. ومنه قوله تعالى: " هذا خلق الله " (2) أي مخلوقه. ومعنى [ فرغ منهم ] كمل خلقهم. لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم، إذ ليس. فعله بمباشرة ولا مناولة، ولا خلقه بآلة ولا محاولة، تعالى عن ذلك. وقوله: [ قامت الرحم فقالت ] يحمل على أحد وجهين: أحدهما - أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك، وكانه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها، كما وكل الله بسائر الاعمال كراما كاتبين، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين. وثانيهما - (1) راجع ج‍ 1 ص 226 (2) آية 11 سورة لقمان. (*)
[ 249 ]
أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للاعياء وشدة الاعتناء. فكأنه قال: لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام، كما قال تعالى: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله - ثم قال - وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " (1). وقوله: [ فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ] مقصود هذا الكلام الاخبار بتأكد أمر صلة الرحم، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره، وأدخله في ذمته وخفارته (2) وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض. ولذلك قال مخاطبا للرحم: [ أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ]. وهذا كما قال عليه السلام: [ ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشئ فإنه من يطلبه بذمته بشئ يدركه ثم يكبه في النار على وجهه ]. قوله تعالى: إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25) قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم، قاله ابن جريج. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن. " الشيطان سول لهم " أي زين لهم خطاياهم، قاله الحسن. " وأملى لهم " أي مد لهم الشيطان في الامل ووعدهم طول العمر، عن الحسن أيضا. وقال: إن الذي أملى لهم في الامل ومد في آجالهم هو الله عز وجل، قاله الفراء والمفضل. وقال الكلبي ومقاتل: إن معنى " أملى لهم " أمهلهم، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالامهال في عذابهم. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو جعفر وشيبة " وأملي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء، على ما لم يسم فاعله. وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم، كأنه قال: وأنا أملي لهم. واختاره أبو حاتم، قال: لان فتح الهمزة يوهم أن الشيطان (1) آية 21 سورة الحشر. (2) الخفارة (بالضم والكسر): الذمام. (*)
[ 250 ]
يملي لهم، وليس كذلك، فلهذا عدل إلى الضم. قال المهدوي: ومن قرأ " وأملى لهم " فالفاعل اسم الله تعالى. وقيل الشيطان. واختار أبو عبيد قراءة العامة، قال: لان المعنى معلوم، لقوله: " لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه " (1) [ الفتح: 9 ] رد التسبيح على اسم الله، والتوقير والتعزير على اسم الرسول. قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم (26) قوله تعالى: " ذلك بأنهم قالوا " أي ذلك الاملاء لهم حتى يتمادوا في الكفر بأنهم قالوا، يعني المنافقين واليهود. " للذين كرهوا ما نزل الله " وهم المشركون. " سنطيعكم في بعض الامر " أي في مخالفة محمد والتظاهر على عداوته، والقعود عن الجهاد معه وتوهين أمره في السر. وهم إنما قالوا ذلك سرا فأخبر الله نبيه. وقراءة العامة " أسرارهم " بفتح الهمزة، جمع سر، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الكوفيون وابن وثاب والاعمش وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم " إسرارهم " بكسر الهمزة على المصدر، نحو قوله تعالى: " وأسررت لهم إسرارا " (2) [ نوح: 9 ] جمع لاختلاف ضروب السر. قوله تعالى: فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) قوله تعالى: " فكيف " أي فكيف تكون حالهم. " إذا توفتهم الملائكة يضربون " أي ضاربين، فهو في موضع الحال. ومعنى الكلام التخويف والتهديد، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر. وقد مضى في " الانفال والنحل " (3). وقال ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه. وقيل: ذلك عند القتال نصرة لرسول الله (1) آية 9 سورة الفتح. (2) آية 9 سورة نوح. (3) راجع ج‍ 8 ص 28 وج‍ 10 ص 99 (*)
[ 251 ]
صلى الله عليه وسلم، بضرب الملائكة وجوههم عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. وقيل: ذلك في القيامة عند سوقهم إلى النار. قوله تعالى: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28) قوله تعالى: " ذلك " أي ذلك جزاؤهم. " بأنهم اتبعوا ما أسخط الله " قال ابن عباس: هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر. " وكرهوا رضوانه " يعني الايمان. " فأحبط أعمالهم " أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك، على ما تقدم. قوله تعالى: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30) قوله تعالى: " أم حسب الذين في قلوبهم مرض " نفاق وشك، يعني المنافقين. " أن لن يخرج الله أضغانهم " الاضغان ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه، فقال السدي: غشهم. وقال ابن عباس: حسدهم. وقال قطرب: عداوتهم، وأنشد قول الشاعر: قل لابن هند ما أردت بمنطق * ساء الصديق وشيد الاضغانا وقيل: أحقادهم. واحدها ضغن. قال: * وذي ضغن كففت النفس عنه * وقد تقدم. وقال عمرو بن كلثوم: وإن الضغن بعد الضغن يفشو * عليك ويخرج الداء الدفينا
[ 252 ]
قال الجوهري: الضغن والضغينة: الحقد. وقد ضغن عليه (بالكسر) ضغنا. وتضاغن القوم واضطغنوا: أبطنوا على الاحقاد. واضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك. وأنشد الاحمر: * كأنه مضطغن صبيا * أي حامله في حجره. وقال ابن مقبل: إذا اضطغنت سلاحي عند مغرضها * ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا (1) وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لاهل الاسلام. " ولو نشاء لاريناكهم " أي لعرفناكهم. قال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة " براءة " (2). تقول العرب: سأريك ما اصنع، أي سأعلمك، ومنه قوله تعالى: " بما أراك (3) الله " [ النساء: 105 ] أي بما أعلمك. " فلعرفتهم بسيماهم " أي بعلاماتهم. قال أنس. ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم (4) الناس، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب (هذا منافق) فذلك سيماهم. وقال ابن زيد: قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها. " ولتعرفنهم في لحن القول " أي في فحواه ومعناه. ومنه قول الشاعر: * وخير الكلام ما كان لحنا * أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الاعراب، وهو الذهاب عن الصواب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ] أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام. أبو زيد: (1) المغرض: جانب البطن أسفل الاضلاع. و " رئاس السيف ": مقبضه. و " الشاسف ": اليابس من الضمر والهزال. (2) راجع ج‍ 8 ص 196. (3) آية 105 سورة النساء. (4) في نسخ الاصل: " يشكونهم ". (*)
[ 253 ]
لحنت له (بالفتح) ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو عني (بالكسر) يلحنه لحنا أي فهمه. وألحنته أنا إياه، ولاحنت الناس فاطنتهم، قال الفزاري: وحديث ألذه هو مما * ينعت الناعتون يوزن وزنا منطق رائع وتلحن أحيا * نا وخير الحديث ما كان لحنا يريد أنها تتكلم [ بشئ ] وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول ". وقال القتال الكلابي: ولقد وحيت (1) لكم لكيما تفهموا * ولحنت لحنا ليس بالمرتاب وقال مرار الاسدي: ولحنت لحنا فيه غش ورابني * صدودك ترضين الوشاة الاعاديا قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه. وقيل: كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد، فنبهه الله تعالى عليه، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. " والله يعلم أعمالكم " أي لا يخفى عليه شئ منها. قوله تعالى: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم (31) قوله تعالى: " ولنبلوكم " أي نتعبدكم بالشرائع وإن علمنا عواقب الامور. وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين. " حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين " عليه. قال ابن عباس: " حتى نعلم " حتى نميز. وقال على رضي الله عنه. " حتى نعلم " حتى نرى. وقد مضى (1) في اللسان: " لحنت ". (*)
[ 254 ]
في " البقرة " (1). وقراءة العامة بالنون في " نبلونكم " و " نعلم " " ونبلو ". وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن. وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من " نبلو " على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله: " حتى نعلم ". وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لانه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لانهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة. " ونبلو أخباركم " نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الاشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. قوله تعالى: إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم (32) يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود. وقال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر. نظيرها " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " [ الانفال: 36 ] الآية (2). " وشاقوا الرسول " أي عادوه وخالفوه. " من بعد ما تبين لهم الهدى " أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات. " لن يضروا الله شيئا " بكفرهم. " وسيحبط أعمالهم " أي ثواب ما عملوه. قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (33) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. " ولا تبطلوا أعمالكم " أي حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن. وقال الزهري: بالكبائر. ابن جريج: بالرياء والسمعة. (1) راجع ج‍ 2 ص 156 طبعة ثانية. (2) آية 36 سورة الانفال. (*)
[ 255 ]
وقال مقاتل والثمالي: بالمن، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. وكله متقارب، وقول الحسن يجمعه. وفيه إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الايمان. الثانية - احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع - صلاة كان أو صوما - بعد التلبس به لا يجوز، لان فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه. وقال من أجاز ذلك - وهو الامام الشافعي وغيره -: المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا، لانه ليس واجبا عليه. فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه. ووجه تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخييرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الاسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الاعمال. وقال مقاتل: يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم. قوله تعالى: إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34) بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في " البقرة " الكلام (1) فيه. وقيل: إن المراد بالآية أصحاب القليب (2). وحكمها عام. قوله تعالى: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فلا تهنوا " أي تضعفوا عن القتال. والوهن: الضعف وقد وهن الانسان ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى. قال: * إنني لست بموهون فقر (3) * (1) راجع ج‍ 3 ص 48 (2) المراد به قليب بدر. (3) هذا عجز بيت لطرفة، وصدره: * وإذا تلسنني السنها * (*)
[ 256 ]
ووهن أيضا (بالكسر) وهنا أي ضعف، وقرئ " فما وهنوا " بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في (آل عمران) (1). الثانية - قوله تعالى: " وتدعوا إلى السلم " أي الصلح. " وأنتم الاعلون " أي وأنتم أعلم بالله منهم. وقيل: وأنتم الاعلون في الحجة. وقيل: المعنى وأنتم الغالبون لانكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الاحوال. وقال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها. الثالثة - واختلف العلماء في حكمها، فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " (2) [ الانفال: 61 ]، لان الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح. وقيل: منسوخة بقوله تعالى: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ". وقيل: هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال. وقيل: إن قوله " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " مخصوص في قوم بأعيانهم، والاخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى (2). " والله معكم " أي بالنصر والمعونة، مثل " وإن الله لمع المحسنين " (3) [ العنكبوت: 69 ] " ولن يتركم أعمالكم " أي لن ينقصكم، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام: [ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى: " ولن يتركم أعمالكم " أي لن ينتقصكم في أعمالكم، كما تقول: دخلت البيت، وأنت تريد في البيت، قاله الجوهري. الفراء: " ولن يتركم " هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فكان المعنى ولن يفردكم بغير ثواب. (1) راجع ج‍ 4 ص 230 (2) آية 61 سورة الانفال. راجع ج‍ 8 ص 39 (3) 69 سورة العنكبوت. (*)
[ 257 ]
قوله تعالى: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم (36) إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم (37) قوله تعالى: " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " تقدم في " الانعام " (1). " وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم " شرط وجوابه. " ولا يسألكم أموالكم " أي لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض، قاله ابن عيينة وغيره. وقيل: " لا يسألكم أموالكم " لنفسه أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالانفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم. وقيل: " لا يسألكم أموالكم " إنما يسألكم أمواله، لانه المالك لها وهو المنعم بإعطائها. وقيل: ولا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة. نظيره " قل ما أسألكم عليه من أجر " (2) [ الفرقان: 57 ] الآية. " إن يسئلكموها فيحفكم " يلح عليكم، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد. والحفي المستقصي في السؤال، وكذلك الاحفاء الاستقصاء في الكلام والمنازعة. ومنه أحفى شاربه أي استقصى في أخذه. " تبخلوا ويخرج أضغانكم " أي يخرج البخل أضغانكم. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الاضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد " وتخرج " بتاء مفتوحة وراء مضمومة. " أضغانكم " بالرفع لكونه الفاعل. وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي " ونخرج " بالنون. وأبو معمر عن عبد الوارث عن أبي عمرو " ويخرج " بالرفع في الجيم على القطع والاستئناف. والمشهور عنه " ويخرج " كسائر القراء، عطف على ما تقدم. قوله تعالى: هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38) (1) راجع ج‍ 6 ص 414 (2) آية 57 سورة الفرقان. (*)
[ 258 ]
قوله تعالى: " هأنتم هؤلاء تدعون " أي هأنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون " لتنفقوا في سبيل الله " أي في الجهاد وطريق الخير. " فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه " أي على نفسه، أي يمنعها الاجر والثواب. " والله الغني " أي إنه ليس بمحتاج إلى أموالكم. " وأنتم الفقراء " إليها. " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم " أي أطوع لله منكم. روى الترمذي عن أبى هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " قالوا: ومن يستبدل بنا ؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: [ هذا وقومه. هذا وقومه ] قال: حديث غريب في إسناده مقال. وقد روى عبد الله بن جعفر بن نجيح والد على بن المديني أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال: وكان سلمان جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان، قال: [ هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس ]. وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة: هم فارس والروم. قال المحاسبي: فلا أحد بعد العرب من جميع أجناس الاعاجم أحسن دينا، ولا كانت العلماء منهم إلا الفرس. وقيل: إنهم اليمن، وهم الانصار، قاله شريح بن عبيد. وكذا قال ابن عباس: هم الانصار. وعنه أنهم الملائكة. وعنه هم التابعون. وقال مجاهد: إنهم من شاء من سائر الناس. " ثم لا يكونوا أمثالكم " قال الطبري: أي في البخل بالانفاق في سبيل الله. وحكي عن أبي موسى الاشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ هي أحب إلي من الدنيا ]. والله أعلم.
[ 259 ]
سورة الفتح مدنية بإجماع، وهي تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية. روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شئ فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر، نزرت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك، فقال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت (2) أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال: [ لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس - ثم قرأ - " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " ]. لفظ البخاري. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت " إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما - إلى قوله - فوزا عظيما " مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: [ لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا ]. وقال عطاء عن ابن عباس: إن اليهود شتموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما نزل قوله تعالى: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " [ الاحقاف: 9 ] وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ! فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ". ونحوه قال مقاتل (1) أي ألححت عليه وبالغت في السؤال. (2) أي ما لبثت وما تعلقت بشئ. (*)
[ 260 ]
ابن سليمان: لما نزل قوله تعالى: " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " (1) [ الاحقاف: 9 ] فرح المشركون والمنافقون وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه، فنزلت بعد ما رجع من الحديبية: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " أي قضينا لك قضاء. فنسخت هذه الآية تلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لقد أنزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم ]. وقال المسعودي: بلغني أنه من قرأ سورة الفتح في أول ليلة من رمضان في صلاة التطوع حفظه الله ذلك العام. بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) اختلف في هذا الفتح ما هو ؟ ففي البخاري حدثني محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " قال: الحديبية. وقال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. وقال الفراء (2): تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا نعد مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة (3)، والحديبية بئر. وقال الضحاك: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " بغير قتال. وكان الصلح من الفتح. وقال مجاهد: هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه. وقال: كان فتح الحديبية آية عظيمة، نزح ماؤها فمج فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه. وقال موسى بن عقبة: قال رجل عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألكم القضية ويرغبوا إليكم في الامان وقد رأوا منكم ما كرهوا ]. وقال الشعبي في قوله تعالى " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " قال: هو فتح الحديبية، لقد أصاب بها ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، (1) آية 9 سورة الاحقاف. (2) في تفسير الطبري: " البراء ". (3) في تفسير الطبري: " خمس مائة ". (*)
[ 261 ]
وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال الزهري: لقد كان الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله، فما أراد أحد الاسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال مجاهد أيضا والعوفي: هو فتح خبير. والاول أكثر، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى: " سيقول المخلفون إذا انطلقتم " (1) [ الفتح: 10 ] وقوله " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه " (2) [ الفتح: 20 ]. وقال مجمع بن جارية - وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن -: شهدنا الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الاباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس ؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فخرجنا نوجف (3) فوجدنا نبي الله صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم (4)، فلما اجتمع الناس قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " فقال عمر بن الخطاب: أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال: [ نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح ]. فقسمت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية. وقيل: إن قوله تعالى " فتحا " يدل على أن مكة فتحت عنوة (5)، لان اسم الفتح لا يقع مطلقا إلا على ما فتح عنوة. هذا هو حقيقة الاسم. وقد يقال: فتح البلد صلحا، فلا يفهم الصلح إلا بأن يقرن بالفتح، فصار الفتح في الصلح مجازا. والاخبار دالة على أنها فتحت عنوة، وقد مضى القول فيها (6)، ويأتي. قوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراط مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3) (1) آية 15 من هذه السورة. (2) آية 20 من هذه السورة. (3) الايجاف: سرعة السير. (4) كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة. (5) أي فتحت بالقتال، قوتل أهلها حتى غلبوا عليها. (6) راجع ج‍ 8 ص 2 (*)
[ 262 ]
قال ابن الانباري: " فتحا مبينا " غير تام، لان قوله " ليغفر لك الله ما تقدم " متعلق بالفتح. كأنه قال: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة، فيجمع الله لك به ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة. وقال أبو حاتم السجستاني: هي لام القسم. وهذا خطأ، لان لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد، بتأويل ليقومن زيد. الزمخشري: فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة ؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن لاجتماع ما عدد من الامور الاربعة، وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قال: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ليجمع لك عز الدارين وأعراض العاجل والآجل. ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا للغفران والثواب. وفي الترمذي عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الارض ]. ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا يا وسول الله، لقد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار - حتى بلغ - فوزا عظيما " قال حديث حسن صحيح. وفيه عن مجمع ابن جارية. واختلف أهل التأويل في معنى " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " فقيل: " ما تقدم من ذنبك " قبل الرسالة. " وما تأخر " بعدها، قاله مجاهد. ونحوه قال الطبري وسفيان الثوري، قال الطبري: هو راجع إلى قوله تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح - إلى قوله - توابا " [ النصر: 1 - 3 ]. " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك " قبل الرسالة " وما تأخر " إلى وقت نزول هذه الآية وقال سفيان الثوري: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك " ما عملته في الجاهلية من قبل أن يوحى إليك. " وما تأخر " كل شئ لم تعمله، وقاله الواحدي. وقد مضى الكلام في جريان الصغائر على الانبياء في سورة " البقرة " (1)، فهذا قول. وقيل: (1) راجع ج‍ 1 ص 308 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 263 ]
" ما تقدم " قبل الفتح. " وما تأخر " بعد الفتح. وقيل: " ما تقدم " قبل نزول هذه الآية. " وما تأخر " بعدها. وقال عطاء الخراساني: " ما تقدم من ذنبك " يعنى من ذنب أبويك آدم وحواء. " وما تأخر " من ذنوب أمتك. وقيل: من ذنب أبيك إبراهيم. " وما تأخر " من ذنوب النبيين. وقيل: " ما تقدم " من ذنب يوم بدر. " وما تأخر " من ذنب يوم حنين. وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدر، أنه جعل يدعو ويقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الارض أبدا " وجعل يردد هذا القول دفعات، فأوحى الله إليه من أين تعلم أني لو أهلكت هذه العصابة لا أعبد أبدا، فكان هذا الذنب المتقدم. وأما الذنب المتأخر فيوم حنين، لما انهزم الناس قال لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان: [ ناولاني كفا من حصباء الوادي ] فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال: [ شاهت الوجوه. حم. لا ينصرون ] فانهزم القوم عن آخرهم، فلم يبق أحد إلا امتلات عيناه رملا وحصباء. ثم نادى في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم: [ لو لم أرمهم لم ينهزموا ] فأنزل الله عز وجل " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " (1) [ الانفال: 17 ] فكان هذا هو الذنب المتأخر. وقال أبو علي الروذباري: يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك. قوله تعالى: " ويتم نعمته عليك " قال ابن عباس: في الجنة. وقيل: بالنبوة والحكمة. وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر. وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. " ويهديك صراط مستقيما " أي يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه. " وينصرك الله نصرا عزيزا " أي غالبا منيعا لا يتبعه ذل. قوله تعالى: هو الذي أنزل السكينة في قلوب الؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما (4) (1) آية 17 سورة الانفال. (*)
[ 264 ]
" السكينة ": السكون والطمأنينة. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في " البقرة " (1). وتقدم معنى زيادة الايمان في " آل عمران " (2). وقال ابن عباس: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم، فذلك قوله: " ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " أي تصديقا بشرائع الايمان مع تصديقهم بالايمان. وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم. وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم. " ولله جنود السموات والارض " قال ابن عباس: يريد الملائكة والجن والشياطين والانس " وكان الله عليما " بأحوال خلقه " حكيما " فيما يريده. قوله تعالى: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (5) أي أنزل السكينة ليزدادوا إيمانا. ثم تلك الزيادة بسبب إدخالهم الجنة. وقيل: اللام في " ليدخل " يتعلق بما يتعلق به اللام في قوله: " ليغفر لك الله ". " وكان ذلك " أي ذلك الوعد من دخول مكة وغفران الذنوب. " عند الله فوزا عظيما " أي نجاة من كل غم، وظفرا بكل مطلوب. وقيل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قالوا: هنيئا لك يا رسول الله، فماذا لنا ؟ فنزل " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " ولما قرأ " ويتم نعمته عليك " قالوا: هنيئا لك، فنزلت " وأتممت عليكم نعمتي " (3) [ المائدة: 3 ] فلما قرأ " ويهديك صراطا مستقيما " نزل في حق الامة " ويهديكم صراطا مستقيما " (4) [ الفتح: 2 ]. ولما قال " وينصرك الله نصرا عزيزا " [ الفتح: 3 ] نزل " وكان حقا علينا نصر (1) راجع ج‍ 3 ص 248 (4) راجع ج‍ 4 ص 280 (3) آية 3 سورة المائدة. (4) آية 20 من هذه السورة. (*)
[ 265 ]
المؤمنين " [ الروم: 47 ]. وهو كقوله تعالى: " إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " (2). [ الاحزاب: 56 ]. ثم قال: " هو الذي يصلي عليكم " (3) [ الاحزاب: 43 ] ذكره القشيري. قوله تعالى: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6) ولله جنود السموات والارض وكان الله عزيزا حكيما (7) قوله تعالى: " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات " أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا. " الظانين بالله ظن السوء " يعني ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم. كما قال: " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا " [ الفتح: 12 ]. وقال الخليل وسيبويه: " السوء " هنا الفساد. " عليهم دائرة السوء " في الدنيا بالقتل والسبي والاسر، وفي الآخرة جهنم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " دائرة السوء " بالضم. وفتح الباقون. قال الجوهري: ساءه يسوءه سوءا (بالفتح) ومساءة ومساية، نقيض سره، والاسم السوء (بالضم). وقرئ " عليهم دائرة السوء " يعني الهزيمة والشر. ومن فتح فهو من المساءة. " وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد الله جهنم وساءت مصيرا. ولله جنود السموات والارض وكان الله عزيزا حكيما " تقدم في غير موضع جميعه، والحمد لله. وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبي: أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدو، فأين فارس والروم ! فبين الله عز وجل أن جنود السموات والارض أكثر من فارس والروم. وقيل: يدخل فيه (1) آية 47 سورة الروم. (2) آية 56 سورة الاحزاب. (3) آية 43 سورة الاحزاب. (*)
[ 266 ]
جميع المخلوقات. وقال ابن عباس: " ولله جنود السموات " الملائكة. وجنود الارض المؤمنون. وأعاد لان الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى. قوله تعالى: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9) قوله تعالى: " إنا أرسلناك شاهد " قال قتادة: على أمتك بالبلاغ. وقيل: شاهدا عليهم بأعمالهم من طاعة أو معصية. وقيل: مبينا لهم ما أرسلناك به إليهم. وقيل: شاهدا عليهم يوم القيامة. فهو شاهد أفعالهم اليوم، والشهيد عليهم يوم القيامة. وقد مضى في " النساء " عن سعيد بن جبير (1) هذا المعنى مبينا. " ومبشرا " لمن أطاعه بالجنة. " ونذيرا " من النار لمن عصى، قاله قتادة وغيره. وقد مضى في " البقرة " اشتقاق البشارة والنذارة ومعناهما (2). وانتصب " شاهدا ومبشرا ونذيرا " على الحال المقدرة. حكى سيبويه: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، فالمعنى: إنا أرسلناك مقدرين بشهادتك يوم القيامة. وعلى هذا تقول: رأيت عمرا قائما غدا. " لتؤمنوا بالله ورسوله " قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو " ليؤمنوا " بالياء، وكذلك " يعزروه ويوقروه ويسبحوه " كله بالياء على الخبر. واختاره أبو عبيد لذكر المؤمنين قبله وبعده، فأما قبله فقوله " ليدخل " وأما بعده فقوله " إن الذين يبايعونك " [ الفتح: 10 ] الباقون بالتاء على الخطاب، واختاره أبو حاتم. " وتعزروه " أي تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي. والتعزير: التعظيم والتوقير. وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه. ومنه التعزير في الحد. لانه مانع. قال القطامي: (1) يلاحظ أن الذي مضى في سورة النساء هو: سعيد بن المسيب. راجع ج‍ 5 ص 197 وما بعدها. (2) راجع ج‍ 1 ص 184، 238 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 267 ]
ألا بكرت مي بغير سفاهة * تعاتب والمودود ينفعه العزر وقال ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف. وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه. " وتوقروه " أي تسودوه، قاله السدي. وقيل تعظموه. والتوقير: التعظيم والترزين أيضا. والهاء فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقف تام، ثم تبتدئ " وتسبحوه " أي تسبحوا الله " بكرة وأصيلا " أي عشيا. وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل " تعزروه وتوقروه " أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. واختار هذا القول القشيري. والاول قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو " وتسبحوه " من غير خلاف. وبعضه راجعا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو " وتعزروه وتوقروه " أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وفي " تسبحوه " وجهان: أحدهما - تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح. والثاني - هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح. " بكرة وأصيلا " أي غدوة وعشيا. وقد مضى القول (1) فيه. وقال الشاعر: لعمري لانت البيت أكرم أهله * وأجلس في أفيائه بالاصائل (2) قوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10) قوله تعالى: " إن الذين يبايعونك " بالحديبية يا محمد. " إنما يبايعون الله " بين أن بيعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى: " من يطع الرسول فقد أطاع الله " (3) [ النساء: 80 ]. وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان، على ما يأتي بيانها في هذه السورة إن شاء الله تعالى. " يد الله فوق أيديهم " قيل: يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا (1) راجع ج‍ 14 ص 198 (2) البيت لابي ذؤيب. (3) آية 80 سورة النساء. (*)
[ 268 ]
من البيعة. وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم. " فمن مكث " بعد البيعة. " فإنما ينكث على نفسه " أي يرجع ضرر النكث عليه، لانه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. " ومن أوفى بما عاهد عليه الله " قيل في البيعة. وقيل في إيمانه. " فسيؤتيه أجرا عظيما " يعنى في الجنة. وقرأ حفص والزهري " عليه " بضم الهاء. وجرها الباقون. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر " فسنؤتيه " بالنون. واختاره الفراء وأبو معاذ. وقرأ الباقون بالياء. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقرب اسم الله منه. قوله تعالى: سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11) قوله تعالى: " سيقول لك المخلفون من الاعراب " قال مجاهد وابن عباس: يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والديل، وهم الاعراب الذين كانوا حول المدينة، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعد أن كان استنفرهم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت. وإنما قال: " المخلفون " لان الله خلفهم عن صحبة نبيه. والمخلف المتروك. وقد مضى في " براءة " (1). " شغلتنا أموالنا وأهلونا " أي ليس لنا من يقوم بهما. " فاستغفر لنا " جاءوا يطلبون الاستغفار واعتقادهم بخلاف ظاهرهم، ففضحهم الله تعالى بقوله: " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " وهذا هو النفاق المحض. " قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا " قرأ حمزة والكسائي " ضرا " بضم الضاد هنا فقط، أي أمرا يضركم. وقال ابن عباس: الهزيمة. (1) راجع ج‍ 8 ص 216 (*)
[ 269 ]
الباقون بالفتح، وهو مصدر ضررته ضرا. وبالضم اسم لما ينال الانسان من الهزال وسوء الحال. والمصدر يؤدي عن المرة وأكثر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لانه قابله بالنفع وهو ضد الضر. وقيل: هما لغتان بمعنى، كالفقر والفقر والضعف والضعف. " أو أراد بكم نفعا " أي نصرا وغنيمة. وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول يدفع عنهم الضر ويعجل لهم النفع. قوله تعالى: بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا. (12) قوله تعالى: " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا " وذلك أنهم قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة (1) رأس لا يرجعون. " وزين ذلك " أي النفاق. " في قلوبكم " وهذا التزيين من الشيطان، أو يخلق الله ذلك في قلوبهم. " وظننتم ظن السوء " أن الله لا ينصر رسوله. " وكنتم قوما بورا " أي هلكى، قاله مجاهد. وقال قتادة: فاسدين لا يصلحون لشئ من الخير. قال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قال عبد الله بن الزبعري السهمي: يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور وامرأة بور أيضا، حكاه أبو عبيد. وقوم بور هلكى. قال تعالى: " وكنتم قوما بورا " وهو جمع بائر، مثل حائل وحول. وقد بار فلان أي هلك. وأباره الله أي أهلكه. وقيل: " بورا " أشرارا، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت: لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد * يهدي الاله سبيل المعشر البور (2) أي الهالك. (1) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد. (2) ورد هذا البيت في الاصول محرفا. (*)
[ 270 ]
قوله تعالى: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا (13) وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بالنفاق. قوله تعالى: ولله ملك السموات والارض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14) أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى. قوله تعالى: سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15) قوله تعالى: " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها " يعني مغانم خيبر، لان الله عز وجل وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر. ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الانصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. " ذرونا نتبعكم " أي دعونا. تقول: ذره، أي دعه. وهو يذره، أي يدعه. وأصله وذره يذره مثال وسعه يسعه. وقد أميت صدره (1)، لا يقال: وذره ولا واذر، ولكن تركه وهو تارك. قال مجاهد: تخلفوا عن الخروج إلى مكة، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ قوما (1) هذه العبارة الاصل وصحاح الجوهري. وعبارة اللسان: " والعرب قد أماتت المصدر من " يذر " والفعل الماضي، فلا يقال... " الخ. (*)
[ 271 ]
ووجه بهم قالوا ذرونا نتبعكم فنقاتل معكم. " يريدون أن يبدلوا كلام الله " أي يغيروا. قال ابن زيد: هو قوله تعالى " فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا " (1) [ التوبة: 83 ] الآية. وأنكر هذا القول الطبري وغيره، بسبب أن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة. وقيل: المعنى يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد لاهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح، قاله مجاهد وقتادة، واختاره الطبري وعليه عامة أهل التأويل. وقرأ حمزة والكسائي " كلم " بإسقاط الالف وكسر اللام جمع كلمة، نحو سلمة وسلم. الباقون " كلام " على المصدر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اعتبارا بقوله " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " (2) [ الاعراف: 144 ]. والكلام: ما استقل بنفسه من الجمل. قال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير. والكلم لا يكون أقل من ثلاث كلمات لانه جمع كلمة، مثل نبقة ونبق. ولهذا قال سيبويه: (هذا باب علم ما الكلم من العربية) ولم يقل ما الكلام، لانه أراد نفس ثلاثة أشياء: الاسم والفعل والحرف، فجاء بما لا يكون إلا جمعا، وترك ما يمكن أن يقع على الواحد والجماعة. وتميم تقول: هي كلمة، بكسر الكاف، وقد مضى في " براءة " القول فيها. (3) " كذلكم قال الله من قبل " أي من قبل رجوعنا من الحديبية إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة. " فسيقولون بل تحسدوننا " أن نصيب معكم من الغنائم. وقيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم ]. فقالوا: هذا حسد. فقال المسلمون: قد أخبرنا الله في الحديبية بما سيقولونه وهو قوله تعالى " فسيقولون بل تحسدوننا " فقال الله تعالى " بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا " يعني لا يعلمون إلا أمر الدنيا. وقيل: لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا، وهو ترك القتال. (1) آية 83 سورة التوبة. (2) آية 144 سورة الاعراف. (3) راجع ج‍ 8 ص 149 [ * ]
[ 272 ]
قوله تعالى: قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " قل للمخلفين من الاعراب " أي قل لهؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية. " ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد " قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي ليلى وعطاء الخراساني: هم فارس. وقال كعب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى: الروم. وعن الحسن أيضا: فارس والروم. وقال ابن جبير: هوازن وثقيف. وقال عكرمة: هوازن. وقال قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. وقال الزهري ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة. وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد " فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. وظاهر الآية يرده. الثانية - في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لان أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم. وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لانه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام، لانه قال " لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا " (1) فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين. (1) آية 83 سورة التوبة. (*)
[ 273 ]
أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم. الثالثة - قوله تعالى: " تقاتلونهم أو يسلمون " هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهو معطوف على " تقاتلونهم " أي يكون أحد الامرين، إما المقاتلة وإما الاسلام، لا ثالث لهما. وفي حرف أبي " أو يسلموا " بمعنى حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، أي حتى تشبع. قال: فقلت له لا تبك عينك إنما * نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (1) وقال الزجاج: قال " أو يسلمون " لان المعنى أو هم يسلمون من غير قتال. وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب. الرابعة - قوله تعالى: " فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا " الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة. " وإن تتولوا كما توليتم من قبل " عام الحديبية. " يعذبكم عذابا أليما " وهو عذاب النار. قوله تعالى: ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17) قال ابن عباس: لما نزلت " وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما " قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله ؟ فنزلت " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج " أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقد مضى في " براءة " وغيرها الكلام فيه مبينا (2). والعرج: آفة تعرض لرجل واحدة، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر. وقال مقاتل: هم أهل الزمانة (1) البيت لامرئ القيس. (2) راجع ج‍ 8 ص 226 وج‍ 12 ص 312 (*)
[ 274 ]
الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم. أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل. " ومن يطع الله ورسوله " فيما أمره. " يدخله جنات تجري من تحتها الانهار " قرأ نافع وابن عامر " ندخله " بالنون على التعظيم. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا. " ومن يتول يعذبه عذابا أليما ". قوله تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18) ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19) قوله تعالى: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " هذه بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وهذا خبر الحديبية على اختصار: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام منصرفه من غزوة بني المصطلق في شوال، وخرج في ذي القعدة معتمرا، واستنفر الاعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والانصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربعمائة. وقيل: ألف وخمسمائة. وقيل غير هذا، على ما يأتي. وساق معه الهدي، فأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا خرج جمعهم صادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام ودخول مكة، وإنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى (كراع الغميم) فورد الخبر بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو (بعسفان) (1) وكان المخبر له بشر بن سفيان الكعبي، فسلك طريقا يخرج به في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيهم رجل من أسلم، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد، جرت إلى قريش تعلمهم بذلك، (1) عسفان (بضم أوله وسكون ثانيه): منهلة من مناهل الطريق بين الحجفة ومكة. وقيل: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة. (معجم البلدان). (*)
[ 275 ]
فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية بركت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال الناس: خلات ! خلات ! (1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما خلات وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها ]. ثم نزل صلى الله عليه وسلم هناك، فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادي ماء ! فأخرج عليه الصلاة والسلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرواء (2) حتى كفى جميع الجيش. وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بن جندب بن عمير الاسلمي وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقيل: نزل بالسهم في القليب البراء بن عازب، ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاءه سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح، حاشا السيوف في قربها فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لاصحابه. [ اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه ] فأنس الناس إلى قوله هذا بعد نفار منهم، وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في صدر صحيفة الصلح: من محمد رسول الله، وقالوا له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد ! فلا بد أن تكتب: باسمك اللهم. فقال لعلي وكان يكتب صحيفة الصلح: [ امح يا علي، واكتب باسمك اللهم ] فأبى علي أن يمحو بيده " محمد رسول الله ". فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ اعرضه علي ] فأشار إليه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأمره أن (1) خلات الناقة: حزنت وبركت من غير علة. (2) الرواء: الكثير. (*)
[ 276 ]
يكتب [ من محمد بن عبد الله ]. وأتى أبو جندل بن سهيل يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أبا جندل [ أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا ]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الصلح قد بعث عثمان بن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ إلى المبايعة له على الحرب والقتال لاهل مكة، فروي أنه بايعهم على الموت. وروي أنه بايعهم على ألا يفروا. وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة، التي أخبر الله تعالى أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يدخلون النار. وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها. وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أبو سفيان الاسدي. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة (1)، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت. وعنه أنه سمع جابرا يسأل: كم كانوا يوم الحديبية ؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الانصاري اختبأ تحت بطن بعيره. وعن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة. فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا ألفا وخمسمائة. وفي رواية: كنا خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين. وعن يزيد بن أبي عبيد قال قلت لسلمة: على أي شئ بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال: على الموت. وعن البراء بن عازب قال: كتب علي رضي الله عنه الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا: (1) السمرة: شجر الطلح. (*)
[ 277 ]
لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: [ امحه ]. فقال: ما أنا بالذي أمحاه (1)، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده. وكان فيما اشترطوا: أن يدخلوا مكة فيقيموا فيها ثلاثا، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح. [ قلت لابي إسحاق: وما جلبان السلاح ؟ قال: (2) ] القراب وما فيه. وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: [ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ] فقال سهيل بن عمرو: أما باسم (3) الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم. فقال: [ اكتب من محمد رسول الله ] قالوا: لو علمنا أنك رسوله لاتبعناك ! ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ اكتب من محمد بن عبد الله ] فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم: أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا ! قال: [ نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا ]. وعن أبي وائل قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يأيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان ببن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين. فجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال [ بلى ] قال. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال [ بلى ] قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال [ يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا ] قال: فانطلق عمر، فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال: يا بن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى (1) أمحاه: لغة في أمحوه. (2) زيادة عن مسلم. (3) قوله: " أما باسم الله... " أي فنحن ندريه. وأما البسملة التي تذكرها بتمامها فما ندريها. (*)
[ 278 ]
الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو ؟ قال [ نعم ]. فطابت نفسه ورجع. قوله تعالى: " فعلم ما في قلوبهم " من الصدق والوفاء، قاله الفراء. وقال ابن جريج وقتادة: من الرضا بأمر البيعة على ألا يفروا. وقال مقاتل: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت. " فأنزل السكينة عليهم " حتى بايعوا وقيل: " فعلم ما في قلوبهم " من الكآبة بصد المشركين إياهم وتخلف رؤيا النبي صلى الله على وسلم عنهم، إذا رأى أنه يدخل الكعبة، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إنما ذلك رؤيا منام ]. وقال الصديق: لم يكن فيها الدخول في هذا العام. والسكينة: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. وقيل الصبر. " وأثابهم فتحا قريبا " قال قتادة وابن أبي ليلى: فتح خيبر. وقيل فتح مكة. وقرئ " وآتاهم " " ومغانم كثيرة يأخذونها " يعني أموال خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة. ف " مغانم " على هذا بدل من " فتحا قريبا " والواو مقحمة. وقيل: " ومغانم " فارس والروم. قوله تعالى: وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون ءاية للمؤمنين ويهديكم صراط مستقيما (20) قوله تعالى: " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها " قال ابن عباس ومجاهد. إنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة. وقال ابن زيد: هي مغانم خيبر. " فعجل لكم هذه " أي خيبر، قاله مجاهد. وقال ابن عباس: عجل لكم صلح الحديبية. " وكف أيدي الناس عنكم " يعني أهل مكة، كفهم عنكم بالصلح. وقال قتادة: كف أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وخيبر. وهو اختيار الطبري، لان كف أيدي المشركين بالحديبية مذكور في قوله " وهو الذي كف أيديهم عنكم " (1) [ الفتح: 24 ]. وقال ابن (1) آية 24 من هذه السورة. (*)
[ 279 ]
عباس: في " كف أيدي الناس عنكم " يعني عيينة بن حصن الفزاري وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر والنبي صلى الله عليه وسلم محاصر لهم، فألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب وكفهم عن المسلمين " ولتكون آية للمؤمنين " أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آية للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم. وقيل: أي ولتكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين. وقيل: أي ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها. والواو في " ولتكون " مقحمة عند الكوفيين. وقال البصريون: عاطفة على مضمر، أي وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين. " ويهديكم صراط مستقيما " أي يزيدكم هدى، أو يثبتكم على الهداية. قوله تعالى: وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا (21) قوله تعالى: " وأخرى " " أخرى " معطوفة على " هذه "، أي فعجل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى. " لم تقدر عليها قد أحاط الله بها " قال ابن عباس: هي الفتوح التي فتحت على المسلمين، كأرض فارس والروم، وجميع ما فتحه المسلمون. وهو قول الحسن ومقاتل وابن أبي ليلى. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها، ولم يكونوا يرجونها حتى أخبرهم الله بها. وعن الحسن أيضا وقتادة: هو فتح مكة. وقال عكرمة: حنين، لانه قال " لم تقدروا عليها ". وهذا يدل على تقدم محاولة لها وفوات درك المطلوب في الحال كما كان في مكة، قاله القشيري. وقال مجاهد: هي ما يكون إلى يوم القيامة. ومعنى " قد أحاط الله بها " أي أعدها لكم، فهي كالشئ الذي قد أحيط به من جوانبه، فهو محصور لا يفوت، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل: " أحاط الله بها " علم أنها ستكون لكم، كما قال " وأن الله قد أحاط بكل شئ علما " (1) [ الطلاق: 12 ]. وقيل: حفظها الله عليكم. ليكون فتحها لكم. " وكان الله على كل شئ قديرا ". (1) آية 12 سورة الطلاق. [ * ]
[ 280 ]
قوله تعالى: ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23) قوله تعالى: " ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار " قال قتادة: يعني كفار قريش في الحديبية. وقيل: " ولو قاتلكم " غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، لكانت الدائرة عليهم. " ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا. سنة الله التي قد خلت من قبل " يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه. وانتصب " سنة " على المصدر. وقيل: " سنة الله " أي كسنة الله. والسنة الطريقة والسيرة. قال: فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها * فأول راض سنة من يسيرها (1) والسنة أيضا: ضرب من تمر المدينة. " ولن تجد لسنة الله تبديلا ". قوله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليكم وكان الله بما تعملون بصيرا (24) قوله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " وهي الحديبية. " من بعد أن أظفركم عليهم " روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم (2) متسلحين يريدون غرة (3) النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذناهم (4) سلما (1) البيت لخالد بن عتبة الهذلي. (2) التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف. (3) الغرة (بالكسر): الغفلة، أي يريدون أن يصادفوا منه صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه غفلة من التأهب لهم. (4) رواية مسلم: " فأخذهم سلما فاستحياهم ". وقوله " سلما " قال ابن الاثير: " يروي بكسر السين وفتحها، وهما لغتان في الصلح، وهو المراد في الحديث على ما فسره الحميدي في غريبه. وقال الخطابي: إنه السلم، بفتح السين واللام، يريد الاستسلام والاذعان.... وهذا هو الاشبه بالقضية، فانهم لم يؤخذوا عن صلح وإنما أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم عجزا... ". (*)
[ 281 ]
فاستحييناهم، فأنزل الله تعالى " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ". وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا ]. قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم " الآية. وذكر ابن هشام عن وكيع: وكانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين رجلا أو ثمانين رجلا للايقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين يسمون العتقاء، ومنهم معاوية وأبوه. وقال مجاهد: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا، إذ أخذ أصحابه ناسا من الحرم غافلين فأرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك الاظفار ببطن مكة. وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له زنيم، اطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوا باثني عشر فارسا من الكفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: [ هل لكم علي ذمة ] ؟ قالوا لا ؟ فأرسلهم فنزلت. وقال ابن أبزى والكلبي: هم أهل الحديبية، كف الله أيديهم عن المسلمين حتى وقع الصلح، وكانوا خرجوا بأجمعهم وقصدوا المسلمين، وكف أيدي المسلمين عنهم. وقد تقدم أن خالد بن الوليد كان في خيل المشركين. قال القشيري: فهذه رواية، والصحيح أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد قال سلمة بن الاكوع: كانوا في أمر الصلح إذ أقبل أبو سفيان، فإذا الوادي يسير بالرجال والسلاح، قال: فجئت بستة من المشركين أسوقهم متسلحين لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا، فأتيت بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عمر قال في الطريق: يا رسول الله، نأتي قوما حربا وليس معنا سلاح ولا كراع ؟ فبعث
[ 282 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الطريق فأتوه بكل سلاح وكراع كان فيها، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عكرمة بن أبي جهل خرج إليك في خمسمائة فارس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: [ هذا ابن عمك أتاك في خمسمائة ]. فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله، فيومئذ سمي بسيف الله، فخرج ومعه خيل وهزم الكفار ودفعهم إلى حوائط مكة. وهذه الرواية أصح، وكان بينهم قتال بالحجارة، وقيل بالنبل والظفر (1). وقيل: أراد بكف اليد أنه شرط في الكتاب أن من جاءنا منهم فهو رد عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول عليه السلام إلى المشركين فلحقوا بالساحل، ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل. وقيل: همت غطفان وأسد منع المسلمين من يهود خيبر، لانهم كانوا حلفاءهم فمنعهم الله عن ذلك، فهو كف اليد. " ببطن مكة " فيه قولان: أحدهما - يريد به مكة. الثاني - الحديبية، لان بعضها مضاف إلى الحرم. قال الماوردي: وفي قوله " من بعد أن أظفركم عليهم " بفتح مكة. تكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحا، لقوله عز وجل: " كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ". قلت: الصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين. وروى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد تقدم. وأما فتح مكة فالذي تدل عليه الاخبار أنها إنما فتحت عنوة، وقد مضى القول في ذلك في " الحج " (2) وغيرها. " وكان الله بما تعملون بصيرا ". (1) الظفر (بالضم): طرف القوس. (2) راجع ج‍ 12 ص 33 (*)
[ 283 ]
قوله تعالى: هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25) قوله تعالى: " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ". فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " هم الذين كفروا " يعني قريشا، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله. وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الانفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه، وأدخل الانس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده. الثانية - قوله تعالى: " والهدي معكوفا " أي محبوسا. وقيل موقوفا (1). وقال أبو عمرو ابن العلاء: مجموعا. الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، يعكفه ويعكفه عكفا، ومنه قوله تعالى: " والهدي معكوفا "، يقال: ما عكفك عن كذا. ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. " أن يبلغ محله " أي منحره، قاله الفراء. وقال الشافعي رضي الله عنه: الحرم. وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه، المحصر محل هديه الحرم. والمحل (بكسر الحاء): غاية الشئ. (وبالفتح): هو الموضع الذي يحله الناس. وكان الهدي سبعين بدنة، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا. وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في " البقرة " عند قوله تعالى " فإن أحصرتم " (2) والصحيح ما ذكرناه. وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر (1) في الاصول: " واقفا ". (2) راجع ج‍ 2 ص 371 طبعة ثانية. (*)
[ 284 ]
ابن عبد الله قال: نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. وعنه قال: اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة. فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال: ما هي إلا من البدن. وحضر جابر الحديبية قال: ونحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا كل سبعة في بدنة. وفي البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه. قيل: إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت له أم سلمة: لو نحرت لنحروا، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ونحروا بنحره، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه، فقال: [ أيؤذيك هوامك ] ؟ قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية. خرجه البخاري والدارقطني. وقد مضى في " البقرة " (1). الثالثة - قوله تعالى: " والهدى " الهدى والهدى لغتان. وقرئ " حتى يبلغ الهدي محله " بالتخفيف والتشديد، الواحدة هدية. وقد مضى في " البقرة " (2) أيضا. وهو معطوف على الكاف والميم من " صدوكم ". و " معكوفا " حال، وموضع " أن " من قوله " أن يبلغ محله " نصب على تقدير الحمل على " صدوكم " أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ. ويجوز أن يكون مفعولا له، كأنه قال: وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله. أبو علي: لا يصح حمله على العكف، لانا لا نعلم " عكف " جاء متعديا، ومجئ " معكوفا " في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك، كما حما الرفث على معنى الافضاء فعدى بإلى، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه، وجرأ على قياس (1) راجع ج‍ 2 ص 383 طبعة ثانية. (2) ج‍ 2 ص 378. (*)
[ 285 ]
قول الخليل. أو يكون مفعولا له، كأنه قال: محبوسا كراهية أن يبلغ محله. ويجوز تقدير الجر في " أن " لان عن تقدمت، فكأنه قال: وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي " عن " أن يبلغ محله. ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس: مررت برجل إن زيد وإن عمرو، فأضمر الجار لتقدم ذكره. قوله تعالى: " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ولولا رجال مؤمنون " يعنى المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة أبي جندل بن سهيل، وأشباههم. " لم تعلموهم " أي تعرفوهم. وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون. " أن تطئوهم " بالقتل والايقاع بهم، يقال: وطئت القوم، أي أوقعت بهم. و " أن " يجوز أن يكون رفعا على البدل من " رجال، ونساء " كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات. ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في " تعلموهم "، فيكون التقدير: لم تعلموا وطأهم، وهو في الوجهين بدل الاشتمال. " ولم تعلموهم " نعت ل " رجال " و " نساء ". وجواب " لولا " محذوف، والتقدير: ولو أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لاذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم، ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه خوفا. وقال الضحاك: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطئوا آباءهم فتهلك أبناؤهم. الثانية - قوله تعالى: " فتصيبكم منهم معرة بغير علم " المعرة العيب، وهي مفعلة من العر وهو الجرب، أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم. وقيل: المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، لان الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله: " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " [ النساء: 92 ] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما. وقد مضى
[ 286 ]
في " النساء " القول فيه (1). وقال ابن زيد: " معرة " إثم. وقال الجوهري وابن إسحاق: غرم الدية. قطرب: شدة. وقيل غم. الثالثة - قوله تعالى: " بغير علم " تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمه من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد. وهذا كما وصفت النملة عن جند سليمان عليه السلام في قولها: " لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " (2) [ النمل: 18 ]. قوله تعالى: " ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا " فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ليدخل الله في رحمته من يشاء " اللام في " ليدخل " متعلقة بمحذوف، أي لو قتلتموهم لادخلهم الله في رحمته. ويجوز أن تتعلق بالايمان. ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين، لان الجميع يدخلون في الرحمة. وقيل: المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه، ودخلوا في رحمته، أي جنته. الثانية - قوله تعالى: " لو تزيلوا " أي تميزوا، قاله القتبي. وقيل: لو تفرقوا، قاله الكلبي. وقيل: لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، قاله الضحاك. ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. وقال علي رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا " فقال: [ هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما ]. الثالثة - هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن أذاية الكافر إلا بأذية المؤمن. قال أبو زيد قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم، حصرهم أهل الاسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم، (1) راجع ج‍ 5 ص 323 (2) آية 18 سورة النمل. [ * ]
[ 287 ]
أيحرق هذا الحصن أم لا ؟ قال: سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الاسارى في مراكبهم ؟ قال: فقال مالك لا أرى ذلك، لقوله تعالى لاهل مكة: " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ". وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه. وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة. فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم. فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا. وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة. قال ابن العربي: " وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال. وهذا ضعيف، لان من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة. وهو سبحانه قد صرح فقال: " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم " وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل. وكذلك قال مالك: وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء، فكانوا ينزلون الاسارى يستقون لهم الماء، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا. وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم. ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة. وقال الثوري: فيه الكفارة ولا دية. وقال الشافعي بقولنا. وهذا ظاهر، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز، سيما بروح المسلم، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه. والله أعلم. " قلت: قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية. فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الامة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الامة. ومعنى كونها
[ 288 ]
قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا. قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لان الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين. وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون. ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لانه يلزم منه ذهاب الترس والاسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم. والله أعلم. الرابعة - قراءة العامة " لو تزيلوا " إلا أبا حيوة فإنه قرأ " تزايلوا " وهو مثل " تزيلوا " في المعنى. والتزايل: التباين. و " تزيلوا " تفعلوا، من زلت. وقيل: هي تفيعلوا. " لعذبنا الذين كفروا " قيل: اللام جواب لكلامين، أحدهما: " لولا رجال " والثاني - " لو تزيلوا ". وقيل جواب " لولا " محذوف، وقد تقدم. " ولو تزيلوا " ابتداء كلام. قوله تعالى: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما (26) العامل في " إذ " قوله تعالى: " لعذبنا " أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا. أو فعل مضمر تقديره واذكروا. " الحمية " فعيلة وهي الانفة. يقال: حميت عن كذا حمية (بالتشديد) ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. ومنه قول المتلمس: ألا إنني منهم وعرضي عرضهم * كذي الانف يحمي أنفه أن يكشما أي يمنع. قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الاقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة (1) الكشم: قطع الانف باستئصال. (*)
[ 289 ]
والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من دخول مكة. وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله: سهيل بن عمرو، على ما تقدم. وقال ابن بحر: حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، والانفة من أن يعبدوا غيرها. وقيل: " حمية الجاهلية " إنهم قالوا: قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا، واللات والعزى لا يدخلها أبدا. " فأنزل الله سكينته " أي الطمأنينة والوقار. " على رسوله وعلى المؤمنين ". وقيل: ثبتهم على الرضا والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية. " وألزمهم كلمة التقوى " قيل لا إله إلا الله. روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول علي وابن عمر وابن عباس، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف، والربيع والسدي وابن زيد. وقاله عطاء الخراساني، وزاد " محمد رسول الله ". وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وقال الزهري: بسم الله الرحمن الرحيم. يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة، فخص الله بها المؤمنين. و " كلمة التقوى " هي التي يتقى بها من الشرك. وعن مجاهد أيضا أن " كلمة التقوى " الاخلاص. " وكانوا أحق بها وأهلها " أي أحق بها من كفار مكة، لان الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه. " وكان الله بكل شئ عليما ". قوله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق اتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27) قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 290 ]
إنه يدخل مكة، فأنزل الله تعالى " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتا بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأن رؤيا الانبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الانبياء. " لتدخلن " أي في العام القابل " المسجد الحرام إن شاء الله " قال ابن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه، خوطب في منامه بما جرت به العادة، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ولهذا استثنى، تأدب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى: " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " (1) [ الكهف: 23 - 24 ]. وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ". وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قاله الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من " آمنين "، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى " إن شاء الله " إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل: " إن شاء الله " أي كما شاء الله. وقال أبو عبيدة: " إن " بمعنى " إذ "، أي إذ شاء الله، كقوله تعالى " اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين " (2) [ البقرة: 278 ] أي إذ كنتم. وفيه بعد، لان " إذ " في الماضي من الفعل، و " إذا " في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية، فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا، ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتد عليهم وصالحهم ورجع، ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ". وإنما قيل له في المنام " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام، فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و " لتدخلن " تحقيق فكيف يكون شك. ف " إن " بمعنى " إذا ". " آمنين " أي من العدو. " محلقين رءوسكم (1) آية 23 سورة الكهف. (2) آية 278 سورة البقرة. (*)
[ 291 ]
ومقصرين " والتحليق والتقصير جميعا للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير. وقد مضى القول في هذا في " البقرة ". (1) وفي الصحيح أن معاوية أخذ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم على المروة بمشقص. وهذا كان في العمرة لا في الحج، لان النبي صلى الله عليه وسلم حلق في حجته. " لا تخافون " حال من المحلقين والمقصرين، والتقدير: غير خائفين. " فعلم ما لم تعلموا " أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خيبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوة وعدة بأضعاف ذلك. وقال الكلبي: أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل: علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم. " فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " أي من دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، قاله ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. قال الزهري: ما فتح الله في الاسلام كان أعظم من صلح الحديبية، لانه إنما كان القتال حين تلتقي الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالاسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل تينك السنتين في الاسلام مثل ما كان في الاسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف. قوله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) قوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله " أي يعليه على كل الاديان. فالدين اسم بمعنى المصدر، (1) راجع ج‍ 2 ص 381 طبعة ثانية. (*)
[ 292 ]
ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه. وقيل: أي ليظهر رسوله على الدين كله، أي على الدين الذي هو شرعه بالحجة ثم باليد والسيف، ونسخ ما عداه. " وكفى بالله شهيدا " " شهيدا " نصب على التفسير، والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا لنبيه صلى الله عليه وسلم، وشهادته له تبين صحة نبوته بالمعجزات. وقيل: " شهيدا " على ما أرسل به، لان الكفار أبو ا أن يكتبوا: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطئه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " محمد رسول الله " " محمد " مبتدأ و " رسول " خبره. وقيل: " محمد " ابتداء و " رسول الله " نعته. " والذين معه " عطف على المبتدأ، والخبر فيما بعده، فلا يوقف على هذا التقدير على " رسول الله ". وعلى الاول يوقف على " رسول الله "، لان صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف به أصحابه، فيكون " محمد " ابتداء و " رسول الله " الخبر " والذين معه " ابتداء ثان. و " أشداء " خبره و " رحماء " خبر ثان. وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الاشبه. قال ابن عباس: أهل الحديبية أشداء على الكفار، أي غلاظ عليهم كالاسد على فريسته. وقيل: المراد ب‍ " الذين معه " جميع المؤمنين. " رحماء بينهم " أي يرحم بعضهم بعضا. وقيل:
[ 293 ]
متعاطفون متوادون. وقرأ الحسن " أشداء على الكفار رحماء بينهم " بالنصب على الحال، كأنه قال: والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم. " تراهم ركعا سجدا " إخبار عن كثرة صلاتهم. " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى. الثانية - قوله تعالى: " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " السيما العلامة، وفيها لغتان: المد والقصر، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر. وفي سنن ابن ماجه قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الاعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ]. وقال ابن العربي: ودسه قوم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الغلط، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف. وقد روى ابن وهب عن مالك " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ذلك مما يتعلق بجباههم من الارض عند السجود، وبه قال سعيد بن جبير. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف (1) المسجد وكان على عريش، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين. وقال الحسن: هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة. وقاله سعيد بن جبير أيضا، ورواه العوفي عن ابن عباس، قاله الزهري. وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وفيه: [ حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ]. وقال شهر بن حوشب: يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد: السيماء في الدنيا وهو السمت الحسن. وعن مجاهد أيضا: هو الخشوع والتواضع. قال (1) أي قطر سقفه. (*)
[ 294 ]
منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى " سيماهم في وجوههم " أهو أثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ! ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريج: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال الضحاك: أما انه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة. وقال سفيان الثوري: يصلون بالليل فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ]. وقد مضى القول فيه آنفا. وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. الثالثة - قوله تعالى: " ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل " قال الفراء: فيه وجهان، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الانجيل أيضا، كمثلهم في القرآن، فيكون الوقف على " الانجيل " وإن شئت قلت: تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة، ثم ابتداء فقال ومثلهم في الانجيل. وكذا قال ابن عباس وغيره: هما مثلان، أحدهما في التوراة والآخر في الانجيل، فيوقف على هذا على " التوراة ". وقال مجاهد: هو مثل واحد، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والانجيل، فلا يوقف على " التوراة " على هذا، ويوقف على " الانجيل ". ويبتدئ " كزرع أخرج شطأه " على معنى وهم كزرع. و " شطأه " يعني فراخه وأولاده، قاله ابن زيد وغيره. وقال مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه. قال الجوهري: شطء الزرع والنبات فراخه، والجمع أشطاء. وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه. قال الاخفش في قوله " أخرج شطأه " أي طرفه. وحكاه الثعلبي عن الكسائي. وقال الفراء: أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج. قال الشاعر: أخرج الشطء على وجه الثرى * ومن الاشجار أفنان الثمر الزجاج: أخرج شطأه أي نباته. وقيل: إن الشطء شوك السنبل، والعرب أيضا تسميه: السفا، وهو شوك البهمى (1)، قاله قطرب. وقيل: إنه السنبل، فيخرج من الحبة (1) البهمى: نبت تجد الغنم وجدا شديدا ما دام أخضر. (*)
[ 295 ]
عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الفراء، حكاه الماوردي. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان " شطأه " بفتح الطاء، وأسكن الباقون. وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب " شطاه " مثل عصاه. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق " شطه " بغير همز، وكلها لغات فيها. وهذا مثل ضربه الله تعالى لاصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه. فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان. وقال قتادة: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الانجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. " فآزره " أي قواه وأعانه وشده، أي قوى الشطء الزرع. وقيل بالعكس، أي قوى الزرع الشطء. وقراءة العامة " آزره " بالمد. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس " فأزره " مقصورة، مثل فعله. والمعروف المد. قال امرؤ القيس: بمحنية (1) قد آزر الضال نبتها * مجر جيوش غانمين وخيب " فاستوى على ساقه " على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له. والسوق: جمع الساق. " يعجب الزراع " أي يعجب هذا الزرع زراعه. وهو مثل كما بينا، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطء أصحابه، كانوا قليلا فكثروا، وضعفاء فقووا، قاله الضحاك وغيره. " ليغيظ بهم الكفار " اللام متعلقة بمحذوف، أي فعل الله هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار. الرابعة - قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا " أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة. " مغفرة وأجرا عظيما " أي ثوابا لا ينقطع وهو الجنة. وليست " من " في قوله " منهم " مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة (1) المحنية (بالتخفيف): واحدة المحاني، وهي معاطف الاودية. والضال (بتخفيف اللام): شجرة السدر. [ * ]
[ 296 ]
مجنسة، مثل قوله تعالى: " فاجتنبوا الرجس من الاوثان " (1) [ الحج: 30 ] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الاوثان، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب، فأدخل " من " يفيد بها الجنس وكذا " منهم "، أي من هذا الجنس، يعني جنس الصحابة. ويقال: أنفق نفقتك من الدراهم، أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة تفضيلا لهم، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة. وفي الآية جواب آخر: وهو أن " من " مؤكدة للكلام، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما. فجرى مجرى [ قول ] العربي: قطعت من الثوب قميصا، يريد قطعت الثوب كله قميصا. و " من " لم يبعض شيئا. وشاهد هذا من القرآن " وننزل من القرآن ما هو شفاء " (2) [ الاسراء: 82 ] معناه وننزل القرآن شفاء، لان كل حرف منه يشفي، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض. على أن من اللغويين من يقول " من " مجنسة، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن، ومن جهة القرآن، ومن ناحية القرآن. قال زهير: * أمن أم أوفى دمنة لم تكلم (3) * أراد من ناحية أم أوفى دمنة، أم من منازلها دمنة. وقال الآخر: أخو رغائب يعطيها ويسألها * يأبى الظلامة منه النوفل الزفر (4) ف " من " لم تبعض شيئا، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لانه نوفل زفر. والنوفل: الكثير العطاء. والزفر: حامل الاثقال والمؤن عن الناس. الخامسة - روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية " محمد (1) آية 30 سورة الحج. (2) آية 82 سورة الاسراء. (3) الدمنة: آثار الناس وما سودوا بالرماد. لم تكلم: لم تبين، والعرب تقول لكل ما بين من أثر وغيره: تكلم، أي ميز، فصار بمنزلة المتكلم. (4) البيت لاعشى باهلة. (*)
[ 297 ]
رسول الله والذين معه " حتى بلغ " يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ". فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ذكره الخطيب أبو بكر. قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين، قال الله تعالى: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار " الآية. وقال: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " [ الفتح: 18 ] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح، قال الله تعالى: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " (1) [ الاحزاب: 23 ]. وقال: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا - إلى قوله - أولئك هم الصادقون " (2) [ الحشر: 8 ]، ثم قال عز من قائل: " والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم - إلى قوله - فأولئك هم المفلحون " (3) [ الحشر: 9 ]. وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ] وقال: [ لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ] خرجهما البخاري. وفي حديث آخر: [ فلو أن أحدكم أنفق ما في الارض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ]. قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد، فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعشر عشير، وللخمس خميس، وللتسع تسيع، وللثمن ثمين، وللسبع سبيع، وللسدس سديس، وللربع ربيع. ولم تقل العرب للثلث ثليث. وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا: [ إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي ]. وقال: [ في أصحابي كلهم خير ]. وروى عويم بن ساعدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة (1) آية 23 سورة الاحزاب. (2) آية 8 سورة الحشر. (3) آية 9 سورة الحشر. (*)
[ 298 ]
الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة (1) صرفا ولا عدلا ]. والاحاديث بهذا المعنى كثيرة، فحذار من الوقوع في أحد منهم، كما فعل من طعن في الدين فقال: إن المعوذتين ليستا من القرآن، وما صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطرحة. وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما. فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب، لانه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أصحابه، فالمكذب لاصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن ! فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، (1) الصرف: التوبة. وقيل النافلة. والعدل: الفدية. وقيل الفريضة. (*)
[ 299 ]
فسلمني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع (1)، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقاني [ أحد ] (2) من الرد والدفع [ لقولي بمثل ] (2) ما تلقيتني به فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وعلى ما جاء به ] (2)، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والاحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ! وأمر لي بعشرة آلاف درهم. قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الامة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الامر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الاحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى " مغفرة وأجرا عظيما ". وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والامور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الامور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الامور في سورة " الحجرات " مبينة إن شاء الله تعالى. (1) النطع (بالكسر): بساط من الاديم. (2) زيادة عن كتاب تاريخ بغداد في ترجمة عمر بن حبيب. (*)
[ 300 ]
تفسير سورة الحجرات مدنية بإجماع. وهي ثماني عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " قال العلماء: كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس. فالسورة في الامر بمكارم الاخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي: " لا تقدموا " بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون " تقدموا " بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى، لان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل. الثانية - واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة: الاول - ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر: أمر الاقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما،
[ 301 ]
فنزل في ذلك: " يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ". رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح، ذكره المهدوي أيضا. الثاني - ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزل " يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ". ذكره المهدوي أيضا. الثالث - ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤا (1) إلى المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لانهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ان بيننا وبينك عهدا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين. وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا ؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد: لا تفتاتوا (2) على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا. الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ابن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم. قلت: هذه الاقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب، والله أعلم. قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لان كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها (1) انكفأ القوم انكفاء: رجعوا وتبددوا. (2) افتات الكلام: ابتدعه. وافتات عليه في الامر: حكم عليه. وافتات برأيه: استبد به. (*)
[ 302 ]
عليه كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين. إلا (1) أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلة الفقير، ولان النبي صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة، وكأنه طرد الاصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الاسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لانه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قاله أبو حنيفة والشافعي، وإما جفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب. الثالثة - قوله تعالى: " لا تقدموا بين يدي الله " أصل في ترك التعرض لاقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ]. فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف (2) وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. فقال صلى الله عليه وسلم: [ إنكن لانتن صواحب يوسف (3). مروا أبا بكر فليصل بالناس ]. فمعنى قوله [ صواحب يوسف ] الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز. (1) في الاصول: " وذلك أن العلماء... " والتصويب عن ابن العربي. (2) سريع البكاء والحزن. وقيل: هو الرقيق. (3) قال القسطلاني: " أي مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، فإن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الامامة عن الصديق لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو ألا يتشاءم الناس به. وهذا مثل زليخا استدعت النسوة وأظهرت الاكرام بالضيافة وغرضها أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، فعبر بالجمع في قوله " انكن " والمراد عائشة فقط. وفي قوله " صواحب " والمراد زليخا كذلك. (*)
[ 303 ]
وربما احتج بغات القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه. " واتقوا الله " يعني في التقدم المنهي عنه. " إن الله سميع " لقولكم " عليم " بفعلكم. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عبد الله بن الزبير أن الاقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، قال: فنزلت هذه الآية: " يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير. قلت: هو البخاري، قال: عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالاقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما
[ 304 ]
في ذلك، فأنزل الله عز وجل " يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية. فقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه: نزل قوله " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر، لان خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في " آل عمران " (2) وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك ؟ فقال: شر ! كان (3) يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى (4): فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: [ اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة ]. لفظ البخاري. وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد. وقيل: أبا عبد الرحمن. قتل له يوم الحرة (5) ثلاثة من الولد: محمد، ويحيى، وعبد الله. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهو الاقرع بن حابس فأنشد: (1) قوله " عن أبيه " يريد جده لامه أسماء. (2) راجع ج‍ 4 ص 88. (3) هذا التفات من الحاضر إلى الغائب، والاصل: كنت أرفع صوتي. (4) هو ابن أنس، أحد رجال سند الحديث. (5) الحرة: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كبيرة، تعرف بحرة واقم، وبها كانت الوقعة في سنة ثلاث وستين من الهجرة أيام يزيد بن معاوية حين أنهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري. (*)
[ 305 ]
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا * وإذا خالفونا عند ذكر المكارم وإنا رءوس الناس من كل معشر * وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وإن لنا المرباع في كل غارة * تكون بنجد أو بأرض التهائم (1) فقام حسان فقال: بني دارم لا تفخروا إن فخركم * يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم * لنا خول من بين ظئر وخادم (2) في أبيات لهما. فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى: " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ". وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت " يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام: [ لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ]. قال: ثم أنزل الله " إن الله لا يحب كل مختال فخور " (3) [ لقمان: 18 ] فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: [ لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ]. قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من (1) في سيرة ابن هشام: "... أو بأرض الاعاجم " والمرباع: ما يأخذه الرئيس وهو ربع الغنيمة. (2) هبلتم: فقدتم. والخول: حشم الرجل وأتباعه. (3) آية 18 سورة لقمان. [ * ]
[ 306 ]
المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن (1) في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر - فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، رحمه الله، ذكره أبو عمر في الاستيعاب. الثانية - قوله تعالى: " ولا تجهروا له بالقول " أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيرا له. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك. وقيل: " لا تجهروا له " أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لفيه، أي على فيه. " كجهر بعضكم لبعض " الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل [ على ] أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " أي من أجل أن تحبط، أي تبطل، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم. الثالثة - معنى الآية الامر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد (1) استن الفرس: قمص وعدا إقبالا وإدبارا. والطول والطيل (بالكسر): الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وتد أو غيره والطرف الآخر، ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه. (*)
[ 307 ]
الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الابلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وفي قراءة ابن مسعود " لا ترفعوا بأصواتكم " وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الانبياء. الرابعة - قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الازمنة بقوله تعالى: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " (1) وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه. الخامسة - وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لان ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه (2) غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقروا الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان منهم في الحرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: [ اصرخ بالناس ] وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس: يا صباحاه ! فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة: (1) آية 204 سورة الاعراف. (2) الجرس (بفتح الجيم وكسرها): الصوت. (*)
[ 308 ]
زجر أبي عروة (1) السباع إذا * أشفق أن يختلطن بالغنم زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه. السادسة - قال الزجاج: " أن تحبط أعمالكم " التقدير لان تحبط، أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة، وليس قوله: " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " بموجب أن يكفر الانسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الايمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. قوله تعالى: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجرا عظيم (3) قوله تعالى: " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة: لما نزلت " لا ترفعوا أصواتكم " قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار (2). وذكر سنيد قال: حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: لما نزلت " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " [ الحجرات: 1 ] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار. وقال عبد الله بن الزبير: لما نزلت " لا ترفعوا أصواتكم " ما حدث عمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض، فنزلت " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ". قال الفراء: أي أخلصها للتقوى. وقال الاخفش: أي اختصها للتقوى. وقال ابن عباس: " امتحن الله قلوبهم للتقوى " طهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من الله (1) أبو عروة: كنية العباس. (2) السرار (بالكسر): المسارة، أي كصاحب السرار، أو كمثل المساررة لخفض صوته، والكاف صفة لمصدر محذوف. (*)
[ 309 ]
والتقوى. وقال عمر رضي الله عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الاديم محنا حتى أوسعته. فمعنى امتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الاقوال المتقدمة: امتحن قلوبهم فأخلصها، كقولك: امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام، وهو الاخلاص. وقال أبو عمرو: كل شئ جهدته فقد محنته. وأنشد: أتت رذايا باديا كلالها * قد محنت واضطربت آطالها (1) " لهم مغفرة وأجرا عظيما ". قوله تعالى: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم، قدم الوفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين. وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نام للقائلة. وروي أن الذي نادي الاقرع بن حابس، وأنه القائل: إن مدحي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ذاك الله ]. ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا. وروى زيد بن أرقم فقال: أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه، وإن يكن ملكا نعش في جنابه (2). فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل: كانوا تسعة عشر: قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، والاقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن (1) الرذايا: جمع رذية، وهي الناقة المهزولة من السير. والكلال: الاعياء. والآطال: جمع إطل، وهو الخاصرة. (2) في الطبري: " في جناحه ". (*)
[ 310 ]
وهو الاحمق المطاع، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة، أي يتبعه، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتر (1) كان في عينيه ذكر عبد الرزاق في عيينة هذا أنه الذي نزل فيه " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " (2) [ الكهف: 28 ]. وقد مضى في آخر " الاعراف " من قوله لعمر رضي الله عنه ما فيه كفاية (3)، ذكره البخاري. وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم راقد، فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد، اخرج إلينا، فاستيقظ وخرج، ونزلت. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [ هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للاعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم ]. والحجرات جمع الحجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة. وقيل: الحجرات جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع. وفيه لغتان ضم الجيم وفتحها (4). قال: ولما رأونا باديا ركباتنا * على موطن لا نخلط الجد بالهزل والحجرة: الرقعة من الارض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الابل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " الحجرات " بفتح الجيم استثقالا للضمتين. وقرئ " الحجرات " بسكون الجيم تخفيفا. وأصل الكلمة المنع. وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال: " أكثرهم لا يعقلون " أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل. قوله تعالى: ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5) أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم. وكان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة (1) الشتر (بفتحتين): انقلاب في جفن العين. (2) آية 28 سورة الكهف. (3) راجع ج‍ 7 ص 347 (4) وفيه لغة ثالثة: سكون الجيم. (*)
[ 311 ]
من سوء الادب. وقيل: كانوا جاءوا شفعاء في أسارى بني عنبر فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم، وفادي على النصف. ولو صبروا لاعتق جميعهم بغير فداء. " والله غفور رحيم " قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ " قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية: لاحنة كانت بينه وبينهم -، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الاسلام. فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالاسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم: [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ]. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوا صدقاتهم. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمر راجعا، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله، والله ما خرجنا لذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا. قال
[ 312 ]
ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله: الفاسق الكذاب. وقال أبو الحسن (1) الوراق: هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله. وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " من التثبت. الباقون " فتبينوا " من التبيين " أن تصيبوا " أي لئلا تصيبوا، ف‍ " أن " في محل نصب بإسقاط الخافض. " قوما بجهالة " أي بخطأ. " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " على العجلة وترك التأني الثانية - في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لانه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الاخبار إجماعا، لان الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استئنى الاجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل أن يقول: هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. وإذا قال: قد أنفذ فلان هذا لك هدية، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا. وأما في الانشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون وليا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لانه يلي ما لها فيلي بضعها. كالعدل، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة، وإذا ولي المال فالنكاح أولى. الثالثة - قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مال [ كيف ] (2) يصح أن يؤتمن على قنطار دين. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صلى معهم ووراءهم، كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله، ومنهم من كان يجعلها صلاته. وبوجوب الاعادة أقول، (1) في بعض النسخ: " أبو الحسين ". (2) زيادة عن ابن العربي. (*)
[ 313 ]
فلا ينبغي لاحد أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الائمة، ولكن يعيد سرا في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره. الرابعة - وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية [ تؤثر ] (1) أو قول يحكى، فإن الكلام كثير والحق ظاهر. الخامسة - لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شئ يوصله، أو إذن يعلمه، إذا لم يخرج عن حق المرسل والمبلغ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية إليه، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها (2) شئ لعدمهم في ذلك. والله أعلم. السادسة - وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لان الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة. السابعة - فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدلين، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القشيري، والذي قبلها المهدوي. قوله تعالى: واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8) (1) زيادة عن ابن العربي. (2) في ابن العربي: " منهم ". [ * ]
[ 314 ]
قوله تعالى: " واعلموا أن فيكم رسول الله " فلا تكذبوا، فإن الله يعلمه أنباءكم فتفتضحون. " لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم " أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الامر لنالكم مشقة وإثم، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه لكان خطأ، ولعنت من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ومعنى طاعة الرسول لهم: الائتمار بما يأمر به فيما يبلغونه عن الناس والسماع منهم. والعنت الاثم، يقال: عنت الرجل. والعنت أيضا الفجور والزنى، كما في سورة " النساء " (1). والعنت أيضا الوقوع في أمر شاق، وقد مضى في آخر " براءة " القول في " عنتم " [ التوبة: 128 ] بأكثر من هذا. (2) " ولكن الله حبب إليكم الايمان " هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل، أي جعل الايمان أحب الاديان إليكم. " وزينه " بتوفيقه. " في قلوبكم " أي حسنه إليكم حتى اخترتموه. وفي هذا رد على القدرية والامامية وغيرهم، حسب ما تقدم في غير موضع. فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا شريك له. " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " قال ابن عباس: يريد به الكذب خاصة. وقاله ابن زيد. وقيل: كل ما خرج عن الطاعة، مشتق من فسقت الرطبة خرجت من قشرها. والفأرة من جحرها. وقد مضى في " البقرة " القول فيه مستوفي (3). والعصيان جمع المعاصي. ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال " أولئك " يعني هم الذين وفقهم الله فحبب إليهم الايمان وكره إليهم الكفر أي قبحه عندهم " هم الراشدون " كقول تعالى: " وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " (4) [ الروم: 39 ]. قال النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الامد والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، من الرشاد وهي الصخرة. (1) راجع ج‍ 5 ص 137 (2) راجع ج‍ 8 ص 302 (3) راجع ج‍ 1 ص 245 (4) آية 39 سورة الروم. (*)
[ 315 ]
قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد: وغير مقلد وموشمات * صلين الضوء من صم الرشاد (1) " فضلا من الله ونعمة " أي فعل الله ذلك بكم فضلا، أي الفضل والنعمة، فهو مفعول له. " والله عليم حكيم " " عليم " بما يصلحكم " حكيم " في تدبيركم. قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال قلت: يا نبي الله، لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني ! فوالله لقد أذاني نتن حمارك. فقال رجل من الانصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك. فغضب لعبدالله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والايدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في الاوس والخزرج. قال مجاهد: تقاتل حيان من الانصار بالعصي والنعال فنزلت الآية. ومثله عن سعيد ابن جبير: أن الاوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال (1) في شرح شواهد الكشاف للمرحوم الاستاذ أبي عليان: " الظاهر أن الشاعر يصف الديار بأنها لم يبق فيها غير وتد الحبال المقلد بالحبل وغير الاثافي المغير لونها بالنار. والوشم والتوشيم تغيير اللون، أي التي احترقت بضوئها أي حرها. و " من صم الرشاد " بيان لها. والصم: جمع صماء، أي صلبة. وقيل: يصف مطايا بأنها مطبوعة على العمل غير محتاجة للزمام، وأنها غيرها أثر السير، قوية بحيث يظهر الشرر من شدة وقع خفافها على الصخر الصلب ". (*)
[ 316 ]
بالسعف والنعال ونحوه، فأنزل الله هذه الآية فيهم. وقال قتادة: نزلت في رجلين من الانصار كانت بينهما مدارأة (1) في حق بينهما، فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة، لكثرة عشيرته. ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أن يتبعه، فلم يزل الامر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالايدي والنعال والسيوف، فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: نزلت في حرب سمير وحاطب (2)، وكان سمير قتل حاطبا، فاقتتل الاوس والخزرج حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما. وقال السدي: كانت امرأة من الانصار يقال لها: " أم زيد " تحت رجل من غير الانصار، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى قومها، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وتجالدوا (3) بالنعال، فنزلت الآية. والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لان الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبد الله " حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط ". وقرأ ابن أبي عبلة " اقتتلتا " على لفظ الطائفتين. وقد مضى في آخر " براءة " القول فيه (4). وقال ابن عباس في قوله عز وجل " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (5) [ الروم: 2 ] قال: الواحد فما فوقه، والطائفة من الشئ القطعة منه. " فأصلحوا بينهما " بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما. " فإن بغت إحداهما على الاخرى " تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه. والبغي: التطاول والفساد. " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " أي ترجع إلى كتابه. " فإن فاءت " رجعت " فأصلحوا بينهما بالعدل " أي احملوهما على الانصاف. " وأقسطوا " أيها الناس فلا تقتتلوا. قيل: أقسطوا أي اعدلوا. " إن الله يحب المقسطين " أي العادلين المحقين. (1) تدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا. (2) راجع خبر حربهما في كتاب الكامل لابن الاثير ج‍ 1 ص 494 طبع أوربا. (3) تجالدوا: تضاربوا. (4) راجع ج‍ 8 ص 294 (5) آية 2 سورة النور. (*)
[ 317 ]
الثانية - قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أولا. فإن كان الاول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الاخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. والله أعلم. الثالثة - في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الامام أو على أحد من المسلمين. وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقوله عليه السلام: [ قتال المؤمن كفر ]. ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك ! وقد قاتل الصديق رضي الله عنه من تمسك بالاسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم، بخلاف الواجب في الكفار. وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام: [ خذوا على أيدي سفهائكم ]. الرابعة - قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الاعيان من أهل الملة، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ تقتل عمارا (1) الفئة الباغية ]. وقوله عليه السلام في شأن (1) هو عمار بن ياسر: (راجع خبره في كتب الصحابة). (*)
[ 318 ]
الخوارج: [ يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة ]، والرواية الاولى أصح، لقوله عليه السلام: [ تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق ]. وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتاله واجب حتى يفئ إلى الحق وينقاد إلى الصلح، لان عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه، لانه منع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الامة. ثم لم يمكن ترك الناس سدي، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم [ عمر ] (1) في الشورى، وتدافعوها، وكان علي كرم الله وجهه أحق بها وأهلها، فقبلها حوطة (2) على الامة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل. فربما تغير الدين وانقض عمود الاسلام. فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه. فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحا ومساء. فكان علي في ذلك أشد رأيا وأصوب قيلا، لان عليا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربا ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الامر (3) وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الاولياء في مجلس الحكم، فيجري القضاء بالحق. ولا خلاف بين الامة أنه يجوز للامام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وكذلك جرى لطلحة والزبير، فإنهما ما خلعا عليا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى. قلت: فهذا قول في سبب الحرب الواقع بينهم. وقال جلة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لان الامر كان قد انتظم بينهم، (1) زيادة عن ابن العربي. (2) الحوطة والحيطة: الاحتياط. (3) في ابن العربي: " الامن ". (*)
[ 319 ]
وتم الصلح والتفرق على الرضا. فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والاحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين، ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي. فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه، ومانعا من الاشاطة (1) بدمه. وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى، إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل. وهذا هو الصحيح المشهور. والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " أمر بالقتال. وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضى الله عنهم عن هذه المقامات، كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو ومحمد بن سلمة وغيرهم. وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله، منه. ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما أفضى إليه الامر عاتب سعدا على ما فعل، وقال له: لم تكن ممن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا، ولا ممن قاتل الفئة الباغية. فقال له سعد: ندمت على تركي قتال الفئة الباغية. فتبين أنه ليس على الكل درك (2) فيما فعل، وإنما كان تصرفا بحكم الاجتهاد وإعمالا بمقتضى الشرع. والله أعلم. السادسة - قوله تعالى: " فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل " ومن العدل في صلحهم ألا يطالبون بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل. وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء (3) في البغي. وهذا أصل في المصلحة. وقد قال لسان الامة: إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لاحكام قتال أهل التأويل، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله. (1) الاشاطة: الاهلاك. يقال: أشاط فلان دم فلان إذا عرضه للهلاك. (2) الدرك (بفتح الراء وسكونها): التبعة. (3) استشرى الرجل في الامر: لج. والامور: تفاقمت وعظمت. (*)
[ 320 ]
السابعة - إذا خرجت على الامام العدل خارجة باغية ولا حجة لها، قاتلهم الامام بالمسلمين كافة أو بمن فيه الكفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبو ا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف (1) على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا. ولا يرث قاتل عمدا على حال. وقيل: إن العادل يرث الباغي، قياسا على القصاص. الثامنة - وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به. وقال أبو حنيفة: يضمنون. وللشافعي قولان. وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان. والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة. وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغي من هذه الامة ] ؟ قال: الله ورسوله أعلم. فقال: [ لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيثها ]. فأما ما كان قائما رد بعينه. هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له. وذكر الزمخشري في تفسيره: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع. فحمل الاصلاح بالعدل في قوله " فأصلحوا بينهما بالعدل " على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل. وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة الباغية قليلة العدد. والذي ذكروا أن الغرض إماتة لضغائن وسل الاحقاد دون ضمان الجنايات، ليس بحسن الطباق المأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قرن بالاصلاح الثاني العدل دون الاول ؟ قلت: لان المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيين أو راكبتي شبهة، وأيتهما كانت (1) تذفيف الجريح: الاجهاز عليه وتحرير قتله. (*)
[ 321 ]
فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما إصلاح ذات البين وتسكين الدهماء بإراءة الحق والمواعظ الشافية ونفي الشبهة، إلا إذا صرنا فحينئذ تجب المقاتلة، وأما الضمان فلا يتجه وليس كذلك إذا بغت إحداهما، فإن الضمان متجه على الوجهين المذكورين. التاسعة - ولو تغلبوا على بلد فأخذوا الصدقات وأقاموا الحدود، وحكموا فيهم بالاحكام، لم تثن عليهم الصدقات ولا الحدود، ولا ينقص من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الاجماع، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة، قاله مطرف وابن الماجشون. وقال ابن القاسم: لا تجوز بحال. وروى عن أصبغ أنه جائز. وروى عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم. وبه قال أبو حنيفة، لانه عمل بغير حق ممن لا تجوز توليته. فلم يجز كما لو لم يكونوا بغاة. والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم، لما انجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح، لم يعرضوا لاحد منهم في حكم. قال ابن العربي: الذي عندي أن ذلك لا يصلح، لان الفتنة لما انجلت كان الامام هو الباغي، ولم يكن هناك من يعترضه. واللع أعلم. العاشرة - لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الاخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الارض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه، لان الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه. ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار. وقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ بشر قاتل ابن صفية بالنار ]. وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير
[ 322 ]
غير عاصيين ولا آثمين بالقتال، لان ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة: [ شهيد ]. ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار. وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل. بل صواب أراهم الله الاجتهاد. وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم، وإبطال فضائلهم وجهادهم، وعظيم غنائهم في الدين، رضي الله عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " (1) [ البقرة: 141 ]. وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. قال ابن فورك: ومن أصحابنا من قال إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الامر فيما جرى بين الصحابة. وقال المحاسبي: فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم. وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق. قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، (1) 134 سورة البقرة. (*)
[ 323 ]
وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا ] (1). وفي رواية: [ لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ] لفظ مسلم. وفي غير الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه ولا يخذله ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عليه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له غرفة ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها ]. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل ]. الثانية - قوله تعالى: " فأصلحوا بين أخويكم " أي بين كل مسلمين تخاصما. وقيل: بين الاوس والخزرج، على ما تقدم. وقال أبو علي: أراد بالاخوين الطائفتين، لان لفظ التثنية يرد والمراد به الكثرة، كقوله تعالى: " بل يداه مبسوطتان " (2) [ المائدة: 64 ]. وقال أبو عبيدة: أي أصلحوا بين كل أخوين، فهو آت على الجميع. وقرأ ابن سيرين ونصر بن عاصم وأبو العالية والجحدري ويعقوب " بين إخوتكم " بالتاء على الجمع. وقرأ الحسن " إخوانكم ". الباقون " أخويكم " بالياء على التثنية. الثالثة - في هذه الآية والتي قبلها دليل على أن البغي لا يزيل أسم الايمان، لان الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين. قال الحارث الاعور: سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو القدوة عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفين: أمشركون هم ؟ (1) التحسس (بالحاء): الاستماع لحديث القوم. والتناجش: أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها. وقيل: هو تحريض الغير على الشراء. (2) آية 64 سورة المائدة. (*)
[ 324 ]
قال: لا، من الشرك فروا. فقيل: أمنافقون ؟ قال: لا، لان المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل له: فما حالهم ؟ قال: إخواننا بغوا علينا. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11) قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " فيه أربع مسائل: الاولى -: " يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم " قيل عند الله. وقيل " خيرا منهم " أي معتقدا وأسلم باطنا. والسخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا (بالتحريك) ومسخرا وسخرا (بالضم). وحكى أبو زيد سخرت به، وهو أردأ اللغتين. وقال الاخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال. والاسم السخرية والسخري، وقرئ بهما قوله تعالى: " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " [ الزخرف: 32 ] وقد تقدم (1). وفلان سخرة، يتسخر في العمل. يقال: خادم سخرة. ورجل سخرة أيضا يسخر منه. وسخرة (بفتح الخاء) يسخر من الناس. الثانية - واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنه وقر، فإذا سبقوه إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أوسعوا له إذا أتى حتى يجلس إلى جنبه ليسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته من صلاة الفجر ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أصحابه مجالسهم منه، (1) آية 32 سورة الزخرف. راجع ص 83 من هذا الجزء. وج‍ 12 ص 154 وج‍ 15 ص 225 (*)
[ 325 ]
فربض كل رجل منهم بمجلسه، وعضوا (1) فيه فلا يكاد يوسع أحد لاحد حتى يظل الرجل لا يجد مجلسا فيظل قائما، فلما انصرف ثابت من الصلاة تخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، ففسحوا له حتى انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد وجدت مجلسا فأجلس ! فجلس ثابت من خلفه مغضبا، ثم قال: من هذا ؟ قالوا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة ! يعيره بها، يعني أما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت. وقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذي تقدم ذكرهم في أول " السورة " استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الامة. فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق (2) في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهزاء بمن عظمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا. و " قوم " في اللغة للمذكرين خاصة. قال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء وسموا قوما لانهم يقومون مع داعيهم في الشدائد. وقيل: إنه جمع قائم، ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. وقد يدخل في القوم النساء مجازا، وقد مضى في " البقرة " (3) بيانه. (1) عض فلان الشئ: لزمه واستمسك به. (2) رجل لبق ولبيق: حاذق رفيق بكل عمل. (3) راجع ج‍ 1 ص 400 طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 326 ]
الثالثة - قوله تعالى: " ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " أفرد النساء بالذكر لان السخرية منهن أكثر. وقد قال الله تعالى: " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه " (1) [ نوج: 1 ] فشمل الجميع. قال المفسرون: نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت خصريها بسبيبة - وهو ثوب أبيض، ومثلها السب - وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجرها، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: أنظري ! ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما. وقال أنس وابن زيد: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، عيرن أم سلمة بالقصر. وقيل: نزلت في عائشة، أشارت بيدها إلى أم سلمة، يا نبي الله إنها لقصيرة. وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيرنني، ويقلن لي يا يهودية بنت يهوديين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ هلا قلت إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد ]. فأنزل الله هذه الآية. الرابعة - في صحيح الترمذي عن عائشة قالت: حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا (2)، فقال: [ ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا ]. قالت فقلت: يا رسول الله، إن صفية امرأة - وقالت بيدها (3) - هكذا، يعني أنها قصيرة. فقال: [ لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج ]. وفي البخاري عن عبد الله بن زمعة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الانفس. وقال: [ لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها ]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ]. وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الاعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح (1) أول سورة نوح. (2) حكيت فلانا وحاكيته: فعلت مثل فعله. (3) العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، على المجاز والاتساع. (*)
[ 327 ]
معه تلك الاعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالاعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق، وبالله التوفيق. قوله تعالى: " ولا تلمزوا أنفسكم " فيه ثلاث مسائل: قوله تعالى: " ولا تلمزوا أنفسكم " اللمز: العيب، وقد مضى في " براءة " عند قوله تعالى: " ومنهم من يلمزك في الصدقات " (1) [ التوبة: 58 ]. وقال الطبري اللمز باليد والعين واللسان والاشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم " (2) [ النساء: 29 ] أي لا يقتل بعضكم بعضا، لان المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وكقوله تعالى: " فسلموا على أنفسكم " (3) [ النور: 61 ] يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال الضحاك: لا يلعن بعضكم بعضا. وقرئ: " ولا تلمزوا " بالضم. وفي قوله " أنفسكم " تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لانه كنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: [ المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ]. وقال بكر بن عبد الله المزني: إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال صلى الله عليه وسلم: [ يبصر أحدكم القذاة (4) في عين أخيه ويدع الجذع في عينه ] وقيل: من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر: المرء إن كان عاقلا ورعا * أشغله عن عيوبه ورعه كما السقيم المريض يشغله * عن وجع الناس كلهم وجعه (1) راجع ج‍ 8 ص 166 (2) آية 29 سورة النساء. (3) آية 61 سورة النور. (4) القذاة: هو ما يقع في العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك. (*)
[ 328 ]
وقال آخر: لا تكشفن (1) مساوي الناس ما ستروا * فيهتك الله سترا عن مساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا * ولا تعب أحدا منهم بما فيكا الثانسة - قوله تعالى: " ولا تنابزوا بالالقاب " النبز (بالتحريك) اللقب، والجمع الانباز. والنبز (بالتسكين) المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالالقاب: أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية " ولا تنابزوا بالالقاب ". قال: هذا حديث حسن. وأبو جبيرة هذا هو أخو ثابت بن الضحاك بن خليفة الانصاري. وأبو زيد (2) سعيد بن الربيع صاحب الهروي ثقة. وفي مصنف أبي داود عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة " ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان " قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية " ولا تنابزوا بالالقاب ". فهذا قول. وقول ثان - قال الحسن ومجاهد: كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت. وروي عن قتادة وأبي العالية وعكرمة. وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق. وقاله مجاهد والحسن أيضا. " بئس الاسم الفسوق بعد الايمان " أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قاله ابن زيد. وقيل: المعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح [ من قال لاخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ]. فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق، وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه (1) في أدب الدنيا والدين: " لا تلمس من مساوي ". (2) أبو زيد من رجال سند هذا الحديث. (*)
[ 329 ]
رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه ] يعني بالتقوى، ونزلت " ولا تنابزوا بالالقاب ". وقال ابن عباس: التنابز بالالقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة ]. الثالثة - وقع من ذلك مستثني من غلب عليه الاستعمال كالاعرج والاحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الامة واتفق على قوله أهل الملة. قال ابن العربي: وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح (1) جزرة، لانه صحف " خرزة " فلقب بها. وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي: مطين، لانه وقع في طين. ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين، ولا أراه سائغا في الدين. وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: لا أجعل أحدا صغر أسم أبي [ في حل ]، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين. والذي يضبط هذا كله، أن كل ما يكرهه الانسان إذا نودي به فلا يجوز لاجل الاذاية. والله أعلم. قلت - وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في (كتاب الادب) من الجامع الصحيح. في (باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل) قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما يقول ذو اليدين ] قال أبو عبد الله بن خويز منداد: تضمنت الآية المنع من تلقيب الانسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك. (1) هو صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي البغدادي الحافظ. روى الخطيب البغدادي بسنده... سمعت صالحا - يعني جزرة - يقول: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فقرأت أنا عليه: حدثكم جرير بن عثمان قال: كان لابي أمامة خرزة يرقى بها المريض، فصحفت " الخرزة " فقلت: كان لابي أمامة " جزرة " وإنما هي " خرزة ". راجع تاريخ بغداد في المجلد التاسع ص 322 في ترجمة صالح هذا. (*)
[ 330 ]
الزمخشري: " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه ]. ولهذا كانت التكنية من السنة والادب الحسن، قال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكني فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والاسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الالقاب الحسنة في الامم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير ". قال الماوردي: فأما مستحب الالقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الالقاب. قلت - فأما ما يكون ظاهرها الكراهة إذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير. وقد سئل عبد الله بن المبارك عن الرجل يقول: حميد الطويل، وسليمان الاعمش، وحميد الاعرج، ومروان الاصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الاصلع - يعني عمر - يقبل الحجر. في رواية الاصيلع. قوله تعالى: " ومن لم يتب " أي عن هذه الالقاب التي يتأذى بها السامعون. " فأولئك هم الظالمون " لانفسهم بارتكاب هذه المناهي. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " قيل: إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقهما. وذلك أن النبي صلى
[ 331 ]
الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما. فضم سلمان إلى رجلين، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهئ لهما شيئا، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما، فقالا له: انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وإداما، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك ] وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه، فقال أسامة: ما عندي شئ، فرجع إليهما فأخبرهما، فقالا: قد كان عنده ولكنه بخل. ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا، فقالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة (1) لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شئ، فرأهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [ مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ] فقالا: يا نبي الله، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره. فقال: [ ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة ] فنزلت " يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " ذكره الثعلبي. أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير. الثانية - ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ] لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الاية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قول تعالى: " ولا تجسسوا " وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وإن شئت قلت: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب. (1) بئر قديمة بالمدينة غزيرة الماء. (*)
[ 332 ]
وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الامانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم [ أن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء ]. وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت. الثالثة - للظن حالتان: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الادلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثانية - أن يقع في النفس شئ من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا. وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به، تحكما في الدين ودعوى في المعقول. وليس في ذلك أصل يعول عليه، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه، وإنما أورد الذم في بعضه. وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة [ إياكم والظن ] فإن هذا لا حجة فيه، لان الظن في الشريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه. والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى: " إن بعض الظن إثم "، وقوله: " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " (1) [ النور: 12 ]، وقوله: " وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا " (2) [ الفتح: 12 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا ]. وقال: [ إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض ] خرجه أبو داود. وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح، قاله المهدوي. الرابعة - قوله تعالى: " ولا تجسسوا قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما " ولا تحسسوا " بالحاء. واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين، فقال الاخفش: ليس (1) آية 12 سورة النور. (2) آية 12 سورة الفتح. (*)
[ 333 ]
تبعد إحداهما من الاخرى، لان التجسس البحث عما يكتم عنك. والتحسس [ بالحاء ] طلب الاخبار والبحث عنها. وقيل: إن التجسس [ بالجيم ] هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الامور. وبالحاء: هو ما أدركه الانسان ببعض حواسه. وقول ثان في الفرق: أنه بالحاء تطلبه لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره، قاله ثعلب. والاول أعرف. جسست الاخبار وتجسستها أي تفحصت عنها، ومنه الجاسوس. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم ] فقال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها. وعن المقدام بن معدي يكرب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن الامير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ]. وعن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شئ نأخذ به. وعن أبي برزة الاسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ]. وقال عبد الرحمن ابن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى ! ؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله تعالى: " ولا تجسسوا " وقد تجسسنا، فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو قلابة: حدث عمر ابن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك ! قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه. وقال زيد بن أسلم: خرج عمر وعبد الرحمن يعسان،
[ 334 ]
إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر: وأنت بهذا يا فلان ؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين ! قال عمر: فمن هذه منك ؟ قال امرأتي، قال فما في هذا القدح ؟ قال ماء زلال، فقال للمرأة: وما الذي تغنين ؟ فقالت: تطاول هذا الليل واسود جانبه * وأرقني أن لا خليل ألاعبه فوالله لولا الله أني أراقبه * لزعزع من هذا السرير جوانبه ولكن عقلي والحياء يكفني * وأكرم بعلي أن تنال مراكبه ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين ! قال الله تعالى: " ولا تجسسوا ". قال صدقت. قلت: لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل، لان عمر لا يقر على الزنى، وإنما غنت بتلك الابيات تذكارا لزوجها، وأنها قالتها في مغيبه عنها (1). والله أعلم. وقال عمرو بن دينار: كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت، فكان يعودها فماتت فدفنها. فكان هو الذي نزل في قبرها، فسقط من كمه كيس فيه دنانير، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال: لاكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا، فجاء إلى أمه فقال: أخبريني ما كان عمل أختي ؟ فقالت: قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها ! فلم يزل بها حتى قالت له: كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم، فقال: بهذا هلكت ! الخامسة - قوله تعالى: " ولا يغتب بعضكم بعضا " نهى عز وجل عن الغيبة، وهي أن تذكر الرجل بما فيه، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ أتدرون ما الغيبة ] ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: [ ذكرك أخاك بما يكره ] قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ (1) راجع هذه القصة في ج‍ 3 ص 108 من هذا الكتاب. (*)
[ 335 ]
قال: [ إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ]. يقال: اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه، والاسم الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. (1) قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والافك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الافك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وعن شعبة قال: قال لي معاوية - يعني ابن قرة -: لو مر بك رجل أقطع، فقلت هذا أقطع كان غيبة. قال شعبة: فذكرته لابي إسحاق فقال صدق. وروى أبو هريرة أن الاسلمي ما عزا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب، فسكت عنهما. ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: [ أين فلان وفلان ] ؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، قال: [ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ] فقالا: يا نبي الله ومن يأكل من هذا ! قال: [ فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الاكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ]. السادسة - قوله تعالى: " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " مثل الله الغيبة بأكل الميتة، لان الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. وقال ابن عباس: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لان أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس. وقال قتادة: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لان عادة العرب بذلك جارية. قال الشاعر: فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم * وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا (2) (1) الظهر: ما غاب عنك. (2) البيت للمقنع الكندي، واسمه محمد بن عميرة. (*)
[ 336 ]
وقال صلى الله عليه وسلم: [ ما صام من ظل يأكل لحوم الناس ]. فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم. فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا. وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ]. وعن المستورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة ]. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: [ يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ]. وقوله للرجلين: [ مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ]. وقال أبو قلابة الرقاشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة. وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده، ينهاه فإن انتهى وإلا قام. وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال: قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا ! فقال: [ أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه ]. وعن سفيان الثوري قال: أدنى الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط (1)، إلا أنه يكره ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وذكر الناس فإنه داء، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء. وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر، فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقيل لعمرو بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني ! فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. (1) الجعد في صفات الرجال يكون مدحا وذما، فالمدح أن يكون معناه شديد الاسر (القوة) والخلق. أو يكون جعد الشعر، وهو ضد السبط. وأما الذم فهو القصير المتردد الخلق. وقد يطلق على البخيل أيضا، يقال: رجل جعد اليدين. والقطط: القصير الجعد من الشعر. (*)
[ 337 ]
السابعة - ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب. وقالوا: ذلك فعل الله به. وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا: لا تكون الغيبة إلا في الخلق والخلق والحسب. والغيبة في الخلق أشد، لان من عيب صنعة فإنما عيب صانعها. وهذا كله مردود. أما الاول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية: إنها امرأة قصيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: [ لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته ]. خرجه أبو داود. وقال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح، وما كان في معناه حسب ما تقدم. وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب. وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء، لان العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شئ أعظم من الغيبة في الدين، لان عيب الدين أعظم العيب، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه. وكفى ردا لمن قال هذا القول قوله عليه السلام: [ إذا قلت في أخيك ما يكره فقد اغتبته... ] الحديث. فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصا. وكفى بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ] وذلك عام للدين والدنيا. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ من كانت عنده لاخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه ]. فعم كل عرض، فمن خص من ذلك شيئا دون شئ فقد عارض ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. الثامنة - لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل. وهل يستحل المغتاب ؟ اختلف فيه، فقالت فرقة: ليس عليه استحلاله، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه. واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن. وقالت فرقة: هي مظلمة، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقالت فرقة: هي مظلمة وعليه الاستحلال منها. واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ من كانت
[ 338 ]
لاخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته ]. خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من كانت له مظلمة لاخيه من عرضه أو شئ فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ]. وقد تقدم هذا المعنى في سورة " آل عمران " عند قوله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء " (1) [ آل عمران: 169 ]. وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة: ما أطول ذيلها ! فقالت لها عائشة: لقد اغتبتيها فاستحليها. فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها. وأما قول من قال: إنما الغيبة في المال والبدن، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه، وذلك ليس في البدن ولا في المال، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال، وقد قال الله تعالى في القاذف: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " (2) [ النور: 13 ]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال ] (3). وذلك كله في غير المال والبدن. وأما من قال: إنها مظلمة، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال كفارتها أن يستغفر لصاحبها، لان قوله مظلمة تثبت ظلامة المظلوم، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له. وأما قول الحسن فليس بحجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه ]. وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله، ورأى أنه لا يحل ما حرم الله عليه، منهم سعيد بن المسيب قال: لا أحلل من ظلمني. وقيل لابن سيرين: يا أبا بكر، هذا رجل (1) راجع ج‍ 4 ص 268. (2) آية 13 سورة النور. (3) الخبال: الفساد، ويكون في الافعال والابدان والعقول. و " طينة الخبال ": عصارة أهل النار. (*)
[ 339 ]
سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده، فقال: إني لم أحرمها عليه فأحلها، إن الله حرم الغيبة عليه، وما كنت لاحل ما حرم الله عليه أبدا. وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل، وهو الحجة والمبين. والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو، وقد قال تعالى: " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " (1) [ الشوري: 40 ]. التاسعة - ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر، فإن في الخبر [ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس ]. فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة: صاحب الهوى، والفاسق المعلن، والامام الجائر. وقال الحسن لما مات الحجاج: اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته - وفي رواية شينه - فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة. لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم يقول الحسن: هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال: ليس لاهل البدع غيبة. وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول: فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي، ليس بغيبة. وعلماء الامة على ذلك مجمعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: [ لصاحب الحق مقال ]. وقال: [ مطل الغني ظلم ] وقال: [ لي الواجد (2) يحل عرضه وعقوبته ]. ومن ذلك الاستفتاء، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ نعم فخذي ]. فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها، ولم يرها مغتابة، لانه لم يغير عليها، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها. وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (1) آية 40 سورد الشورى. (2) الواجد: القادر على قضاء دينه [ * ]
[ 340 ]
[ أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم (1) فلا يضع عصاه عن عاتقه ]. فهذا جائز، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس (2) بهما. قال جميعه المحاسبي رحمه الله. العاشرة - قول تعالى: " ميتا " وقرئ " ميتا " وهو نصب على الحال من اللحم. ويجوز أن ينصب على الاخ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى: " فكرهتموه " وفيه وجهان: أحدهما - فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة، روي معناه عن مجاهد. الثاني - فكرهتم أن يغتابكم الناس فآكرهوا غيبة الناس. وقال الفراء: أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي اكرهوه. " اتقوا الله " عطف عليه. وقيل: عطف على قوله: " اجتنبوا. ولا تجسسوا ". " إن الله تواب رحيم ". قوله تعالى: يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " يعني آدم وحواء. ونزلت الآية في أبي هند، ذكره أبو داود في (المراسيل)، حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا حدثنا بقية بن الوليد قال حدثني الزهري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نزوج (1) هو ابن حذيفة بن غانم القرشي. وقوله: " لا يضع عصاه " أي أنه ضراب للنساء. وقيل: هو كناية عن كثرة أسفاره، لان المسافر يحمل عصاه في سفره. (2) هي أخت الضحاك بن قيس، كانت من المهاجرات الاول، وكانت ذات جمال وعقل وكمال، وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها فخطبها معاوية وأبو جهم، فاستشارت النبي عليه السلام فيهما فأشار عليها بأسامة بن زيد فتزوجته. (*)
[ 341 ]
بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله عز وجل: " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا " الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يتفسح له: ابن فلانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من الذاكر فلانة ] ؟ قال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ انظر في وجوه القوم ] فنظر، فقال: [ ما رأيت ] ؟ قال رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: [ فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى ] فنزلت في ثابت هذه الاية. ونزلت في الرجل الذي لم يتفسح له: " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس " (1) [ المجادلة: 11 ] الآية. قال ابن عباس: لما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الاسود مؤذنا. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالو ا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. زجرهم عن التفاخر بالانساب، والتكاثر بالاموال، والازدراء بالفقراء، فإن المدار على التقوى. أي الجميع من آدم وحواء، إنما الفضل بالتقوى. وفي الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال: [ يأيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " ]. خرجه من حديث عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره. وقد خرج الطبري في كتاب [ آداب النفوس ] وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: حدثني أو حدثنا من (1) آية 11 سورة المجادلة. (*)
[ 342 ]
شهد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: [ يأيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لاسود على أحمر ولا لاحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت ؟ - قالوا نعم قال - ليبلغ الشاهد الغائب ]. وفيه عن أبو مالك الاشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم ]. ولعلي رضي الله عنه في هذا المعنى وهو مشهور من شعره: الناس من جهة التمثيل أكفاء * أبوهم آدم والام حواء نفس كنفس وأرواح مشاكلة * وأعظم خلقت فيهم وأعضاء فإن يكن لهم من أصلهم حسب * يفاخرون به فالطين والماء ما الفضل إلا لاهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * وللرجال على الافعال سيماء وضد كل امرئ ما كان يجهله * والجاهلون لاهل العلم أعداء الثانية - بين الله تعالى في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والانثى، وكذلك في أول سورة " النساء " (1). ولو شاء لخلقه دونهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء من إحدى الجهتين. وهذا الجائز في القدرة لم يرد به الوجود. وقد جاء أن آدم خلق الله منه حواء من ضلع انتزعها من أضلاعه، فلعله هذا القسم، قاله ابن العربي. الثالثة - خلق الله الخلق بين الذكر والانثى أنسابا وأصهارا وقبائل وشعوبا، وخلق لهم منها التعارف، وجعل لهم بها التواصل للحكمة التي قدرها وهو أعلم بها، فصار كل أحد يحوز نسبه، فإذا نفاه رجل عنه استوجب الحد بقذفه، مثل أن ينفيه عن رهطه وحسبه، (1) راجع ج‍ 5 ص 1 وما بعدها. (*)
[ 343 ]
بقوله للعربي: يا عجمي، وللعجمي: يا عربي، ونحو ذلك مما يقع به النفي حقيقة. انتهى. الرابعة - ذهب قوم من الاوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الام، ويستمد من الدم الذي يكون فيه. واحتجوا بقوله تعالى: " ألم نخلقكم من ماء مهين. فجعلناه في قرار مكين " (1) [ المرسلات: 21 ]. وقوله تعالى: " ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " (2) [ السجدة: 8 ]. وقوله: " ألم يك نطفة من مني يمنى " (3) [ القيامة: 37 ]. فدل على أن الخلق من ماء واحد. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الاية، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقوله تعالى: " خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب " (4) [ الطارق: 6 ] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء، على ما يأتي بيانه. وأما ما احتجوا به فليس فيه أكثر من أن الله تعالى ذكر خلق الانسان من الماء والسلالة والنطفة ولم يضفها إلى أحد الابوين دون الاخر. فدل على أن الماء والسلالة لهما والنطفة منهما بدلالة ما ذكرنا. وبأن المرأة تمني كما يمني الرجل، وعن ذلك يكون الشبه، حسب ما تقدم بيانه في آخر " الشورى " (5). وقد قال في قصة نوح " فالتقى الماء على أمر قد قدر " (6) [ القمر: 12 ] وإنما أراد ماء السماء وماء الارض، لان الالتقاء لا يكون إلا من اثنين، فلا ينكر أن يكون " ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " [ السجدة: 8 ]. وقوله تعالى: " ألم نخلقكم من ماء مهين " [ المرسلات: 21 ] ويريد ماءين. والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " الشعوب رءوس القبائل، مثل ربيعة ومضر والاوس والخزرج، واحدها " شعب " بفتح الشين، سموا به (1) آية 20، 21 سورة المرسلات. (2) آية 8 سورة السجدة. (3) آية 37 سورة القيامة. (4) آية 6، 7 سورة الطارق. (5) راجع ص 50 من هذا الجزء. (6) آية 12 سورة القمر. (*)
[ 344 ]
لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة. والشعب من الاضداد، يقال شعبته إذا جمعته، ومنه المشعب (بكسر الميم) وهو الاشفى، لانه يجمع به ويشعب. قال: فكاب على حر الجبين ومتق * بمدرية كأنه ذلق مشعب (1) وشعبته إذا فرقته، ومنه سميت المنية شعوبا لانها مفرقة. فاما الشعب (بالكسر) فهو الطريق في الجبل، والجمع الشعاب. قال الجوهري: الشعب: ما تشعب من قبائل العرب والعجم، والجمع الشعوب. والشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم. وأما الذي في الحديث أن رجلا من الشعوب أسلم (2)، فإنه يعني من العجم. والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم. قال ابن عباس: الشعوب الجمهور (3)، مثل مضر. والقبائل الافخاذ. وقال مجاهد: الشعوب البعيد من النسب، والقبائل دون ذلك. وعنه أيضا أن الشعوب النسب الاقرب. وقاله قتادة. ذكر الاول عنه المهدوي، والثاني الماوردي. قال الشاعر (4): رأيت سعودا من شعوب كثيرة * فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك وقال آخر: قبائل من شعوب ليس فيهم * كريم قد يعد ولا نجيب وقيل: إن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبائل من ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقيل: إن الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب. وقال ابن عباس في رواية: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب. قال القشيري: وعلى هذا فالشعوب من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والجبل (5) والترك، والقبائل من العرب. الماوردي: ويحتمل أن (1) قوله: " فكاب على حر الجبين " أي خار على وجهه. و " المدرية ": القرن، وهي المدري والمدراة، والجمع مدار ومداري. و " ذلق " ذلق كل شئ: حده. و " مشعب " مثقب. (2) تمام الحديث كما في اللسان: " فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه ". (3) هذا القول منسوب إلى ابن جبير. والمأثور عن ابن عباس أن " الشعوب الجماع " والجماع (بضم الجيم وتشديد الميم): مجتمع أصل كل شئ.. أراد: منشأ النسب وأصل المولد. وقيل: أراد به الفرق المختلفة من الناس. (4) هو طرفة بن العبد. (5) الجبل: الامة من الخلق والجماعة من الناس، وفيه لغات كثيرة. راجع ج‍ 15 ص 47 من هذا التفسير. [ * ]
[ 345 ]
الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الانساب. قال الشاعر: وتفرقوا شعبا فكل جزيرة * فيها أمير المؤمنين ومنبر وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه: الشعب أكبر من القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ. وقيل: الشعب ثم القبيلة ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ثم العشيرة، وقد نظمها بعض الادباء فقال: اقصد الشعب فهو أكثر حي * عددا في الحواء ثم القبيله ثم تتلوها العمارة ثم ال * بطن والفخذ بعدها والفصيله ثم من بعدها العشيرة لكن * هي في جنب ما ذكرناه قليله وقال آخر: قبيلة قبلها شعب وبعدهما * عمارة ثم بطن تلوه فخذ وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته * ولا سداد لسهم ماله قذذ (1) السادسة - قوله تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقد تقدم في سورة " الزخرف " عند قوله تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك " (2) [ الزخرف: 44 ]. وفي هذه الآية ما يدلك على أن التقوى هي المراعى عند الله تعالى وعند رسوله دون الحسب والنسب. وقرئ " أن " بالفتح. كأنه قيل: لم لا يتفاخر بالانساب ؟ قيل: لان أكرمكم عند الله أتقاكم لا أنسبكم. وفي الترمذي عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ الحسب المال والكرم التقوى ]. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وذلك يرجع إلى قوله تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم "، وقد جاء منصوصا عنه عليه السلام: [ من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ]. والتقوى معناها مراعاة حدود الله تعالى أمرا ونهيا، والاتصاف بما أمرك أن تتصف به، والتنزه عما نهاك عنه. وقد مضى هذا في غير موضع. وفي الخبر من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن الله تعالى يقول يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلتم (1) القذذ (جمع قذة): ريش السهم. (2) راجع ص 93 من هذا الجزء. (*)
[ 346 ]
نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وأنا اليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم أين المتقون أين المتقون ]. وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب يأتي الناس بالاعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد فأقول هكذا وهكذا ]. وأعرض في كل عطفيه. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول: [ إن آل أبي ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ]. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من أكرم الناس ؟ فقال: [ يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ] قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرمهم عند الله أتقاهم ] فقالوا: ليس عن هذا نسألك، فقال: [ عن معادن العرب ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا ] وأنشدوا في ذلك: ما يصنع العبد بعز الغني * والعز كل العز للمتقي من عرف الله فلم تغنه * معرفة الله فذاك الشقي السابعة - وذكر الطبري حدثني عمر (1) بن محمد قال حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال حدثنا مندل بن علي عن ثور بن يزيد عن سالم بن أبي الجعد قال: تزوج رجل من الانصار امرأة فطعن عليها في حسبها، فقال الرجل: إني لم أتزوجها لحسبها إنما تزوجتها لدينها وخلقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما يضرك ألا تكون من آل حاجب بن زرارة ]. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إن الله تبارك وتعالى جاء بالاسلام فرفع به الخسيسة وأتم به الناقصة وأذهب به اللوم فلا لوم على مسلم إنما اللوم لوم الجاهلية ]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ إني لارجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي ] ولذلك كان أكرم البشر على الله تعالى. قال ابن العربي: وهذا الذي لحظ مالك في الكفاءة في النكاح. روى عبد الله عن مالك يتزوج المولى العربية، واحتج بهذه الآية. وقال أبو حنيفة والشافعي: (1) في بعض النسخ: " عمرو ". (*)
[ 347 ]
يراعى الحسب والمال. وفي الصحيح عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم - تبنى سالما وأنكحه هندا (1) بنت أخيه الوليد بن عتبة ابن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الانصار. وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد بن الاسود. قلت: وأخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال. وزينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة. فدل على جواز نكاح الموالي العربية، وإنما تراعى الكفاءة في الدين. والدليل عليه أيضا ما روى سهل بن سعد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه رجل فقال: [ ما تقولون في هذا ] ؟ فقالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: [ ما تقولون في هذا ] قالوا: حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ هذا خير من مل ء الارض مثل هذا ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها - وفي رواية - ولحسبها فعليك بذات الدين تربت يداك ]. وقد خطب سلمان إلى أبي بكر ابنته فأجابه، وخطب إلى عمر ابنته فالتوى عليه، ثم سأله أن ينكحها فلم يفعل سلمان. وخطب بلال بنت البكير فأبى إخوتها، فقال بلال: يا رسول الله، ماذا لقيت من بني البكير ! خطبت إليهم أختهم فمنعوني وآذوني، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بلال، فبلغهم الخبر فأتوا أختهم فقالوا: ماذا لقينا من سببك ؟ فقالت أختهم: أمري بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجوها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي هند حين حجمه: [ أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ]. وهو مولى بني بياضة. وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا هند مولى بني بياضة كان حجاما فحجم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ من سره أن ينظر إلى من صور الله الايمان في قلبه فلينظر إلى أبي هند ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أنكحوه وأنكحوا إليه ]. قال القشيري أبو نصر: (1) وتسمى فاطمة. (*)
[ 348 ]
وقد يعتبر النسب في الكفاءة في النكاح وهو الاتصال بشجرة النبوة أو بالعلماء الذين هم ورثة الانبياء، أو بالمرموقين في الزهد والصلاح. والتقي المؤمن أفضل من الفاجر النسيب، فإن كانا تقيين فحينئذ يقدم النسيب منهما، كما تقدم الشاب على الشيخ في الصلاة إذا استويا في التقوى. قوله تعالى: قالت الاعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14) نزلت في أعرب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر. وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالاثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال ابن عباس: نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا، فأعلم الله أن لهم أسماء الاعراب لا أسماء المهاجرين. وقال السدي: نزلت في الاعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا، فنزلت. وبالجملة فالآية خاصة لبعض الاعراب، لان منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى. ومعنى " ولكن قولو أسلمنا " أي استسلمنا خوف القتل والسبي، وهذه صفة المنافقين، لانهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم، وحقيقة الايمان التصديق بالقلب. وأما الاسلام فقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، وذلك يحقن الدم. " وإن تطيعوا الله ورسوله " يعني إن تخلصوا الايمان " لا يلتكم " أي لا ينقصكم. " من أعمالكم شيئا " لاته يليته ويلوته: نقصه. وقرأ أبو عمرو " لا يألتكم " بالهمزة، من ألت يألت
[ 349 ]
ألتا، وهو اختيار أبي حاتم، اعتبارا بقوله تعالى: " وما ألتناهم من عملهم من شئ " (1) [ الطور: 21 ] قال الشاعر: أبلغ بني ثعل عني مغلغلة * جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا واختار الاولى أبو عبيد. قال رؤبة: وليلة ذات ندى سريت * ولم يلتني عن سراها ليت أي لم يمنعني عن سراها مانع، وكذلك ألاته عن وجهه، فعل وأفعل بمعنى. ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا، أي ما نقصه، مثل ألته، قاله الفراء. وأنشد: ويأكلن ما أعني الولي فلم يلت * كأن بحافات النهاء المزارعا (2) قوله: فلم " يلت " أي لم ينقص منه شيئا. و " أعني " بمعنى أنبت، يقال: ما أعنت الارض شيئا، أي ما أنبتت. و " الولي " المطر بعد الوسمي (3)، سمي وليا لانه يلي الوسمي. ولم يقل: لا يألتاكم، لان طاعة الله تعالى طاعة الرسول. قوله تعالى: إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الارض والله بكل شئ عليم (16) قوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " أي صدقوا ولم يشكوا وحققوا ذلك بالجهاد والاعمال الصالحة. " أولئك هم الصادقون " في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. فلما نزلت حلف الاعراب أنهم مؤمنون في السر يشكوا وحققوا ذلك بالجهاد والاعمال الصالحة. " أولئك هم الصادقون " في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب. فلما نزلت حلف الاعراب أنهم مؤمنون في السر (1) آية 21 سورة الطور. (2) البيت لعدي بن زيد. (3) الوسمى: مطر الربيع الاول، سمى به لانه يسم الارض بالنبات. (*)
[ 350 ]
والعلانية وكذبوا، فنزلت. " قل أتعلمون الله بدينكم " الذي أنتم عليه. " والله يعلم ما في السموات وما في الارض والله بكل شئ عليم " قوله تعالى: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين [ 17 ] إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعلمون [ 18 ] قوله تعالى: " يمنون عليك أن أسلموا " إشارة إلى قولهم: جئناك بالاثقال والعيال. و " أن " في موضع نصب على تقدير لان أسلموا. " قل لا تمنوا علي إسلامكم " أي بإسلامكم. " بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان " " أن " موضع نصب، تقديره بأن. وقيل: لان. وفي مصحف عبد الله " إذ هداكم ". " إن كنتم صادقين " أنكم مؤمنين. وقرأ عاصم " إن هداكم " بالكسر، وفيه بعد، لقوله " إن كنتم صادقين ". ولا يقال: يمن عليكم أن يهديكم إن صدقتم. والقراءة الظاهرة " أن هداكم ". وهذا لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، لان تقدير الكلام: إن آمنتم فذلك منة الله عليكم. " إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعملون " قرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو بالياء على الخبر، ردا على قوله: " قالت الاعراب ". الباقون بالتاء على الخطاب. تم بعون الله تعالى الجزء السادس عشر من تفسير القرطبي، يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع عشر، وأوله: [ سورة (ق) ]