تفسير القرطبي
القرطبي ج 15
[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الخامس عشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة يس وهى مكية بإجماع. وهى ثلاث وثمانون آية، إ لا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى " ونكتب ما قدموا وآثارهم " [ يس: 12 ] نزلت في بنى سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي. وفى كتاب أبى داود عن معقل بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " قرءوا يس على موتاكم ". وذكر الآجري من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه. وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة " خرجه أبو نعيم الحافظ أيضا. وروى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيئ قلبا وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات " قال: هذا حديث غريب، وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول، وفي الباب عن أبي بكر الصديق، ولا يصح حديث أبي بكر من قبل إسناده، وإسناده ضعيف. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة " قيل: يا رسول الله وما المعمة ؟ قال: " تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية " قيل: يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال: " تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف رأفة وألف هدى ونزع (1) كذا في نسخ الاصل والذى في الدر المنثور: أبي الدردا. (*)
[ 2 ]
عنه كل داء وغل ". ذكره الثعلبي من حديث عائشة، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا. وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال قال ابن عباس: من قرأ " يس " حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح. وذكر النحاس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لكل شئ قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهارا كفي همه ومن قرأها ليلا غفر ذنبه. وقال شهر ابن حوشب: يقرأ أهل الجنة " طه " و " يس " فقط. رفع هذه الأخبار الثلاثة الماوردي فقال: روى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شئ قلبا وإن قلب القرآن يس ومن قرأها في ليلة أعطي يسر تلك الليلة ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم وإن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرءون شيئا إلا طه ويس ". وقال يحيى بن أبي كثير: بلغني أن من قرأ سورة " يس " ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، وقد حدثني من جربها، ذكره الثعلبي وابن عطية، قال ابن عطية: ويصدق ذلك التجربة. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن الصلت عن عمر بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة فليكتب " يس " في جام بزعفران ثم يشربه، حدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا أصرم بن حوشب، عن بقية بن الوليد، عن المعتمر بن أشرف، عن محمد بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القرآن أفضل من كل شئ دون الله وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن لم يوقر القرآن لم يوقر الله وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده. القرآن شافع مشفع وما حل مصدق فمن شفع له القرآن شفع ومن محل به القرآن ص، دق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار. وحملة القرآن هم المحفوفون بحرمة الله الملبسون نور الله المعلمون كلام الله من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله، يقول الله تعالى: يا حملة القرآن (1) قا ابن الاثير: ما حل أي خصم مجادل مصدق. (*)
[ 3 ]
استجيبوا لربكم بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا ويدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة ومن استمع آية من كتاب الله كان له أفضل مما تحت العرش إلى التخوم وإن في كتاب الله لسورة تدعى العزيزة ويدعى صاحبها الشريف يوم القيامة تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس ". وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له ". وعن أنس أن رسول الله صلى قال: " من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد حروفها حسنات ". قوله تعالى: يس والقرءان الحكيم انك لمن المرسلين على صرط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم قوله تعالى: " يس " في " يس " أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة والكسائي " يس والقرآن الحكيم " بإدغام النون في الواو. وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة " يس " بإظهار النون. وقرأ عيسى بن عمر " يسن " بنصب النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحق ونصر بن عاصم " يسن " بالكسر. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع " يسن " بضم النون، فهذه خمس قراءات. القراءة الأولى بالادغام على ما يجب في العربية، لأن النون تدغم في الواو. ومن بين قال سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج. وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين: إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه، لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل، والتقدير أذكر يسين. وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين. وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل، فعلى هذا يكون " يسن " قسما. وقاله ابن عباس. وقيل: مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش. وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجل، لمن يقف عليه. قال ابن السميقع وهارون: وقد جاء في تفسيرها (1) الزيادة من " نوادر الاصول " للترمذي الحكيم. (*)
[ 4 ]
يا رجل فالأولى بها الضم. قال ابن الأنباري " " يس " وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة. ومن قال: معنى " يس " يا رجل لم يقف عليه. وروي عن ابن عباس مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان، وقالوا في قوله تعالى: " سلام على آل ياسين " [ الصافات: 130 ] أي على آل محمد. وقال سعيد بن جبير: هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم، ودليله " إنك لمن المرسلين ". قال السيد الحميري: / ش يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة / وعلى المودة إلا آل ياسين / ش وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر. وقيل: إنه اسم من أسماء الله، قال مالك. روى عنه أشهب قال: سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين ؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: " يس والقرآن الحكيم " يقول هذا اسمي يس. قال ابن العربي هذا كلام بديع، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه، كقوله: عالم وقادر ومريد ومتكلم. وإنما منع مالك من التسمية ب " يسين "، لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه، فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد. فإن قيل فقد قال الله تعالى: " سلام على إل ياسين " [ الصافات: 130 ] قلنا: ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه، لما فيه من الإشكال، والله أعلم. وقال بعض العلماء: افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير: ودل المفتتح على أنه قلب، والقلب أمير على الجسد، وكذلك " يس " أمير على سائر السور، مشتمل على جميع القرآن. ثم اختلفوا فيه أيضا، فقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو بلغة الحبشة. وقال الشعبي: هو بلغة طي. الحسن: بلغة كلب. الكلبي: هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم. وقد مضى هذا المعنى في [ طه ] وفي مقدمة الكتاب مستوفى. وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى " يس " فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لي عند ربي عشرة أسماء " ذكر أن منها طه ويس اسمان له. (1) راجع ج 11 ص 165 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. وج 1 ص 67 وما بعدها طبعة ثانية. (*)
[ 5 ]
قلت: وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله " قاله القاضي. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس: " يس " يا إنسان أراد محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال: هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه. وقال الزجاج: قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان. وعن ابن الحنفية: " يس " يا محمد. وعن كعب: " يس " قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال يا محمد: " إنك لمن المرسلين " ثم قال: " والقرآن الحكيم ". فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم، مؤ كد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه. وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته. أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من إيمانه، أي طريق لا أعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه، وقد قال عليه السلام: " أنا سيد ولد آدم " انتهى كلامه. وحكى القشيري قال ابن عباس: قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين. " والحكيم " المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض، كما قال: " أحكمت آياته " وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل. وقد يكون " الحكيم " في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كا لأليم بمعنى المؤلم " على صراط مستقيم " أي دين مستقيم وهو الإسلام. وقال الزجاج: على طريق الأنبياء الذين تقدموك، وقال: " إنك لمن المرسلين " خبر إن، و " على صراط مستقيم " خبر ثان، أي إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط مستقيم. وقيل: المعنى لمن المرسلين على استقامة، فيكون قوله: " على صراط مستقيم " من صلة المرسلين، أي إنك لمن المرسلين (1) زيادة يقنضيها المقام، ويدل عليها ما ورد في " الدر المنثور " السيوطي عن كعب. (*)
[ 6 ]
الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة، كقوله تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله " أي الصراط الذي أمر الله به. قوله تعالى: " تنزيل العزيز الرحيم " قرأ ابن عامر وحفص والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: " تنزيل " بنصب اللام على المصدر، أي نزل الله ذلك تنزيلا. وأضاف المصدر فصار معرفة كقوله: " فضرب الرقاب " [ محمد: 4 ] أي فضربا للرقاب. الباقون " تنزيل " بالرفع على خبر ابتداء محذوف أي هو تنزيل، أو الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم. هذا وقرئ: " تنزيل " بالجر على البدل من " القرآن " والتنزيل يرجع إلى القرآن. وقيل: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي إنك لمن المرسلين، وإنك " تنزيل العزيز الرحيم ". فالتنزيل على هذا بمعنى الإرسال، قال الله تعالى: " قد أنزل الله إليكم ذكرا. رسولا يتلوا " [ الطلاق: 10 - 11 ] ويقال: أرسل الله المطر وأنزله بمعنى. ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة الله أنزلها من السماء. ومن نصب قال: إنك لمن المرسلين إرسالا من العزيز الرحيم. و " العزيز " المنتقم ممن خالفه " الرحيم " بأهل طاعته. قوله تعالى: لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم فهم غفلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7) إنا جعلنا في أعنقهم أغللا فهى إلى الأذقان فهم مقمحون (8) قوله تعالى: " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم " " ما " لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير منهم قتادة، لأنها نفي والمعنى: لتنذر قوما ما أتى آباءهم قبلك نذير. وقيل: هي بمعنى الذي فالمعنى: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضا. وقيل: إن " ما " والفعل مصدر، أي لتنذر قوما إنذار آبائهم. ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء، فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا. ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم يبلغهم خبر نبي، وقد قال الله: " وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير "
[ 7 ]
[ سبأ: 44 ] وقال: " لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون " [ السجدة: 3 ] أي لم يأتهم نبي. وعلى قول من قال بلغهم خبر الانبياء، فالمعنى فهم معرضون الان متغافلون عن ذلك ويقال لامرض عن الشى انه غافل عنه. وقيل: " فهم غافلون " عن عقاب الله. قوله تعالى: " لقد حق القول على أكثرهم " أي وجب العذاب على أكثرهم " فهم لا يؤمنون " بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره. ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال: " إنا جعلنا في أعناقه أغلالا ". قيل: نزلت في أبي جهل ابن هشام وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما، فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من غلت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه. فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: والله لأشدخن أنا رأسه. ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه. فقيل له: ما شأنك ؟ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ". وقرأ ابن عباس: " إنا جعلنا في أيمانهم ". وقال الزجاج: وقرئ " إنا جعلنا في أيديهم ". قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره: " سرابيل تقيكم الحر " [ النحل: 81 ] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما
[ 8 ]
وقد قال الله عز وجل: " فهي إلى الأذقان " فقد علم أنه يراد به الأيدي. " فهم مقمحون " أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق، لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه. روى عبد الله بن يحيى: أن علي بن أبي طالب عليه السلام أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال النحاس، وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال: يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. قال النحاس: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها. كما يقال: قهرته وكهرته. قال الأصمعي: يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها. ومنه قول الشاعر: / ش... والرأس مكمح / ش ويقال: أكمحتها وأكفحتها وكبحتها، هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي. وقمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، فهو بعير قامح وقمح، يقال: شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا. وقد قامحت إبلك: إذا وردت ولم تشرب، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد. وهي إبل مقامحة، وبعير مقامح، وناقة مقامح أيضا، والجمع قماح على غير قياس، قال بشر يصف سفينة: / ش ونحن على جوانبها قعود / ونغض الطرف كالإبل القماح / ش والإقماح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه. وشهرا قماح: أشد ما يكون من البرد، وهما الكانونان سميا بذلك، لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رؤوسها، ومنه قمحت السويق. وقيل: هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول، قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة. وكما يقال: فلان حمار، أي لا يبصر الهدى. وكما قال: / ش لهم عن الرشد أغلال وأقياد / ش (1) للبيت الذى الرمة وتمامه: / شتمور بضبعيها وترمى بجوزها / وحذارا من الايعاد والراس مكمح / ش (2) قمح السويق (بكسر الميم) إذا استفه. (*)
[ 9 ]
وفي الخبر: أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول: / ش فليس كعهد الدار يا أم مالك / وولكن أحاطت بالرقاب السلاسل / ش / ش وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل / وسوى العدل شيئا فاستراح العواذل / ش أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق. وقال الفراء أيضا: هذا ضرب مثل، أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " [ الإسراء: 29 ] وقال الضحاك. وقيل: إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه، وغاضا بصره لا يفتحه. والمتكبر يوصف بانتصاب العنق. وقال الأزهري: إن أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل ترفع رؤوسها. وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم. وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل، كما قال تعالى: " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " [ غافر: 71 ] وأخبر عنه بلفظ الماضي. " فهم مقمحون " تقدم تفسيره. وقال مجاهد: " مقمحون " مغلون عن كل خير. قوله تعالى: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشينهم فهم لا بيصرون وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يومنون انما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم قوله تعالى: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " قال مقاتل: لما عاد أبو جهل إلى أصحابه، ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسقط الحجر من يده، أخذ (1) يقول: رجع الفتى عما كان عليه من فتوته، وصار كانه كهل، فاستراح العواذل لانهم لا يجدن ما يعذلن فيه. سوى العدل. أي سوى الحق. (*)
[ 10 ]
الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال: أقتله بهذا الحجر. فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم طمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فهذا معنى الآية. وقال محمد بن إسحاق في روايته: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف، يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم عليه السلام وهو يقرأ " يس " وفي يد ه تراب فرماهم به وقرأ: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا " فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام. وقد مضى هذا في سورة " سبحان " ومضى في " الكهف " الكلام في " سدا " بضم السين وفتحها وهما لغتان. " فاغشيناهم " أي غطينا أبصارهم، وقد مضى في أول [ البقرة ]. وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر " فأعشيناهم " بالعين غير معجمة من العشاء في العين وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل قال: / ش متى تأته تعشو إلى ضوء ناره / ش وقال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن " [ الزخرف: 36 ] الآية. والمعنى متقارب، والمعنى أعميناهم، كما قال: / ش ومن الحوادث لا أبا لك أنني / وضربت علي الأرض بالأسداد / ش / ش لا أهتدي فيها لموضع تلعة / وبين العذب وبين أرض مراد / ش " فهم لا بيصرون " أي الهدى، قاله قتادة. وقيل: محمدا حين ائتمروا على قتله، قاله السدي. وقال الضحاك: " وجعلنا من بين أيديهم سدا " أي الدنيا " ومن خلفهم سدا " أي الاخرة أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، قال الله تعالى: " وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم مابين أيديهم وما خلفهم " أي زينوا لهم الدنيا ودعوهم الى التكذيب بالاخرة. وقيل: على هذا " من بين أيديهم سدا " أي غرورا بالدنيا " ومن خلفهم سدا " أي تكذيبا بالاخرة وقيل: " من بين أيديهم " الاخرة " ومن خلفهم " الدنيا. " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون تقدم في " البقرة " والآية رد على القدرية وغيرهم. (1) راجع ج 10 ص 269 طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 11 ص 59 طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 1 ص 191 طبعة ثانيه أو ثالثه. (4) هو الحطيئة وتمام البيت: / تجد خير نار عندها خير موقد / ش (5) راجع ج 8 ص 184 طبعة ثانيه أو ثالثه.
[ 11 ]
وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أحضر غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر، فقال: يكذبون على يا أمير المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " [ الإنسان: 2 - 3 ] قال: اقرأ يا غيلان فقرأ حتى انتهى إلى قوله: " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " [ الإنسان: 29 ] فقال اقرأ فقال: " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " [ الإنسان: 30 ] فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أن هذا في كتاب الله قط. فقال له: يا غيلان اقرأ أول سورة [ يس ] فقرأ حتى بلغ " وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " فقال غيلان: والله يا أمير المومنين كأني لم أقرأها قط قبل اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. قال عمر: اللهم إن كان صادقا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه. وقال ابن عون: فأنا رأيته مصلوبا على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان ؟ فقال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز. قوله تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر " يعني القرآن وعمل به. " وخشى الرحمن بالغيب " أي ما غاب من عذابه وناره، قاله قتادة. وقيل: أي يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وانفراده بنفسه. " فبشره بمغفرة " أي لذنبه " وأجر كريم " أي الجنة. قوله تعالى: إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وءاثرهم وكل شى أحصينه في امام مبين (12) فيه أربع مسائل الاولى - قوله تعالى: " إنا نحن نحى الموتى " أخبرنا تعالى باحيائه الموتى ردا على الكفرة. وقال الضحاك والحسن: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والاول أظهر أي نحييهم بالبعث للجزاء. ثم توعدهم بذكره كتب الآثارو هي الثانيه - وإحصاء كل شئ وكل ما يصنعه الإنسان. قال قتادة: معناه من عمل. وقاله مجاهد وابن زيد. ونظيره قوله: " علمت نفس ما قدمت وأخرت ": [ الانفطار: 5 ] وقوله: " ينبأ
[ 12 ]
الإنسان يومئذ بما قدم وأخر " [ القيامة: 13 ]، وقال: " اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " [ الحشر: 18 ] فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها: من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس احتبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سيئ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو شئ أحدثه فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد. وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر وابن عباس وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا أن معنى: " وآثارهم " خطاهم إلى المساجد. قال النحاس: وهذا أولى ما قيل فيه، لأنه قال: إن الآية نزلت في ذلك، لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد. وفي الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكتب له برجل حسنة وتحط عنه برجل سيئه ذاهبا وراجعا إذ اخرج إلى المسجد ". قلت: وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأردوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: " إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن آثاركم تكتب " فلم ينتقلوا. قال: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم " فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. وقال ثابت البناني: مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال: مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال: " أما علم أن الآثار تكتب " فهذا احتجاج بالآية. وقال قتادة ومجاهد أيضا والحسن: الآثار في هذه الآية الخطا. وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال: الآثار هي الخطا إلى الجمعة. وواحد الآثار أثر ويقال أثر. (1) سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار. (2) الزيادة من صحيح الترمذي. (*)
[ 13 ]
الثالثة - في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار مسجد، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد ؟ أختلف فيه، فروي عن أنس أنه كان يجاوز المحدث إلى القديم. وروي عن غيره: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا. وكره الحسن وغيره هذا، وقال: لا يدع مسجدا قربه ويأتي غيره. وهذا مذهب مالك. وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان. وخرج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة ". " دياركم " منصوب على الإغراء أي ألزموا و " تكتب " جزم على جواب ذلك الأمر. " وكل " نصب بفعل مضمر يدل عليه " أحصيناه " كأنه قال: وأحصينا كل شئ أحصيناه. ويجوز رفعه بالابتداء إلا أن نصبه أولى، ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهو قول الخليل وسيبويه. والإمام: الكتاب المقتدى به الذي هو حجة. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ. وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال. (1) يجمع (بالتشديد) من التجمع، أي يصلى فيه الجمعة. (*)
[ 14 ]
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين فيما ذكر الماوردي. نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غير لما عرب، ذكره السهيلي. ويقال فيها: أنتاكية بالتاء بدل الطاء. وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام، ذكره المهدوي، وحكاه أبو جعفر النحاس عن كعب ووهب. فأرسل الله إليه ثلاثة: وهم صادق، وصدوق، وشلوم هو الثالث. هذا قول الطبري. وقال غيره: شمعون ويوحنا. وحكى النقاش: سمعان ويحيى ولم يذكرا صادقا ولا صدوقا. ويجوز أن يكون " مثلا " و " أصحاب القرية " مفعولين لأضرب، أو " أصحاب القرية " بدلا من " مثلا " أي اضرب لهم مثل أصحاب القرية فحذف المضاف. أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل. قيل: رسل من الله على الابتداء. وقيل: إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله.. أضاف الرب ذلك إلى نفسه، لأن عيسى أرسلهما بأمر الرب، وكان ذلك حين رفع عيسى إلى السماء. قيل ضربوهما وسجنوهما. " فغززنا بثالث " أي فقوينا وشددنا الرسالة " بثالث ". وقرأ أبو بكر عن عاصم " فعززنا بثالث " بالتخفيف وشدد الباقون. قال الجوهري: وقول تعالى: " فعززنا بثالث " يخفف ويشدد، أي قوينا وشددنا. قال الأصمعي: أنشدني فيه أبو عمرو بن العلاء للمتلمس: / ش أ ج د إذا رحلت تعزز لحمها / ووإذا ت شد بنسعها لا تنبس / ش أي لا ترغو، فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى. وقيل: التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا ومنه " وعزني في الخطاب " [ ص: 23 ]. والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا. وفي القصة: أن عيسى أرسل (1) الزيادة من حاشية جمل ان القربى. (2) وفي السان: أجد إذا ضمرت. ويروى في غيره: عنس إذا ضمرت. (*)
[ 15 ]
إليهم رسولين فلقيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب " يس " فدعوه إلى الله وقالا: نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله. فطالبهما بالمعجزة فقالا: نحن نشفي المرضى وكان له ابن مجنون. وقيل: مريض على الفراش فمسحاه، فقام بإذن الله صحيحا، فآمن الرجل بالله. وقيل: هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ففشا أمرهما، وشفيا كثيرا من المرضى، فأرسل الملك إليهما - وكان يعبد الأصنام - يستخبرهما فقالا: نحن رسولا عيسى. فقال: وما آيتكما ؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص ونبرئ المريض بإذن الله، وندعوك إلى عبادة الله وحده. فهم الملك بضربهما. وقال وهب: حبسهما الملك وجلدهما مائة جلدة، فانتهى الخبر إلى عيسى فأرسل ثالثا. قيل: شمعون الصفا رأس الحواريين لنصرهما، فعاشر حاشية الملك حتى تمكن منهم، واستأنسوا به، ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به، وأظهر موافقته في دينه، فرضي الملك طريقته، ثم قال يوما للملك: بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى الله، فلو سألت عنهما ما وراءهما. فقال: إن الغضب حال بيني وبين سؤالهما. قال: فلو أحضرتهما. فأمر بذلك، فقال لهما شمعون: ما برهانكما على ما تدعيان ؟ فقالا: نبرئ الأكمه والأبرص. فجئ بغلام ممسوح العينين، موضع عينيه كالجبهة، فدعوا ربهما فأنشق موضع البصر، فأخذا بندقتين طينا فوضعاهما في خديه، فصارتا مقلتين يبصر بهما، فعجب الملك وقال: إن ها هنا غلاما مات منذ سبعة أيام ولم أدفنه حتى يجئ أبوه فهل يحييه ربكما ؟ فدعوا الله علا نية، ودعاه شمعون سرا، فقام الميت حيا، فقال للناس: إني مت منذ سبعة أيام، فوجدت مشركا، فأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله، ثم فتحت أبواب السماء، فرأي شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة شمعون وصاحبيه، حتى أحياني الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى روج الله وكلمته، وأن هؤلاء هم رسل الله. فقالوا له وهذا شمعون أيضا معهم ؟ قال: نعم وهو أفضلهم. فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم، فأثر قوله في الملك، فدعاه إلى الله، فآمن الملك في قوم كثير وكفر آخرون. وحكى القشيري أن الملك آمن ولم يؤمن قومه، وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي منهم من الكفار.
[ 16 ]
وروي أن عيسى لما أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية قالوا: يا نبي الله إنا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم ولغاتهم. فدعا الله لهم فناموا بمكانهم، فهبوا من نومتهم قد حملتهم الملائكة فألقتهم بأرضى أنطاكية، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم، فذلك قول: " وأيدناه بروح القدس " [ البقرة: 87 ] فقالوا جميعا: " إنا إليكم مرسلون " قالوا ما أنتم الا بشر مثلنا " تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق " وما أنزل الرحمن من شى " يأمر به ولا من شئ ينهى عنه " إن أنتم الا تكذبون " في دعواكم الرسالة، " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " فقالت الرسل: " ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " وإن كذبتمونا " وما علينا الا البلاغ المبين " في أن الله واحد " قالوا " لهم " إنا تطيرنا بكم " أي تشاءمنا بكم. قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا هذا بشؤمكم. ويقال إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين. " لئن لم تنتهوا " عن إنذارنا " لنرجمنكم " قال الفراء: لنقتلنكم. قال: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. وقيل: لنشتمنكم، وقد تقدم جميعه. " وليمسنكم منا عذاب اليم " قيل: هو القتل. وقيل: هو التعذيب المؤلم. وقيل: هو التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب. فقالت الرسل: " طائركم معكم " أي شؤمكم معكم أي حظكم من الخير والشر معكم ولازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا، قال معناه الضحاك. وقال قتادة: أعمالكم معكم. ابن عباس: معناه الأرزاق والأقدار تتبعكم. الفراء: " طائركم معكم " رزقكم وعملكم، والمعنى واحد. وقرأ الحسن: " أطيركم " أي تطيركم. " أئن ذكرتم " قال قتادة: إن ذكرتم تطيرتم. وفيه تسعة أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة " أين ذكرتم " بتخفيف الهمزة الثانية. وقرأ أهل الكوفة: " أإن " بتحقيق الهمزتين. والوجه الثالث: " أاإن ذكرتم " بهمزتين بينهما ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين. والوجه الرابع " أاين " بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة. والقراءة الخامسة " أاأن " بهمزتين مفتوحتين بينهما ألف. والوجه السادس " أأن " بهمزتين محققتين مفتوحتين. وحكى الفراء: أن هذه القراءة قراءة أبي رزين. (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) راجع ج 9 ص 91 طبعة أولى أو ثانيه. (3) قال أبو حيان في هذه القراءة: " اطيركم " مصدر اطير الذى فادغمت التاء في الطاء، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر. (*)
[ 17 ]
قلت: وحكاه الثعلبي عن زر بن حبيش وابن السميق. وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري: " قالوا طائركم معكم أين ذكرتم " بمعنى حيث. وقرأ يزيد بن القعقاع والحسن وطلحة " ذكرتم " بالتخفيف، ذكر جميعه النحاس. وذكر المهدوي عن طلحة بن مصرف وعيسى الهمذاني: " آن ذكرتم " بالمد، على أن همزة الاستفهام دخلت على همزة مفتوحة. الماجشون: " أن ذكرتم " بهمزة واحدة مفتوحة. فهذه تسع قراءات. وقرأ ابن هرمز " طيركم معك ". " أئن ذكرتم " أي لإن وعظتم، وهو كلام مستأنف أي إن وعظتم تطيرتم. وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم أن كل نبي دعا قومه فلم يجيب كان عاقبتهم الهلاك. قال قتادة: مسرفون في تطيركم. يحيى بن سلام: مسرفون في كفركم. وقال ابن بحر: السرف ها هنا الفساد ومعناه بل أنتم قوم مفسدون. وقيل: مسرفون مشركون، والإسراف مجاوزة الحد والمشرك يجاوز الحد. هو حبيب بن مري وكان نجارا. وقيل: إسكافا. وقيل: قصارا. وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: هو حبيب
[ 18 ]
ابن إسرائيل النجار وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما. ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. قال وهب: وكان حبيب مجذوما، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال: هل من آية ؟ قالوا: نعم ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك. فقال: إن هذا لعجب لى، أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني فلم تستطع، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا: نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر. فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس، فحينئذ أقبل على التكسب، فإذا أم سى تصدق بكسبه، فأطعم عياله نصفا وتصدق بنصف، فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم. ف " قال يا قوم اتبعوا المرسلين " الاية قال قتادة: كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى، فقال للمرسلين: أتطلبون على ما جئتم به أجرا ؟ قالوا: لا ما أجرنا إلا على الله. قال أبو العالية: فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه ف " قال يا قوم اتبعوا المرسلين ". أي لو كانوا متهمين لطلبوا منكم المال " وهم مهتدون " فاهتدوا بهم. " ومالى لا أعبد الذى فطرني " قال قتادة: قال له قومه أنت على دينهم ؟ ! فقال: " وما لي لا أعبد الذي فطرني " أي خلقني. " واليه ترجعون " وهذا احتجاج منه عليهم. وأضاف الفطرة إلى نفسه، لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبعث إليهم: لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر، فكان إضافة النعمة إلى نفسه اظهر شكرا، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثرا. " أأتخذ من دونه آلهة " يعني أصناما. " إن يردن الرحمن بضر " يعني ما أصابه من السقم. " لا تغن شفاعتهم شيئا ولا ينقذون " يخلصوني مما أنا فيه من البلاء " إنى إذا " يعني إن فعلت ذلك " لفى ضلال مبين أي خسران ظاهر. " إنى آمنت بربكم فاسمعون " قال ابن مسعود: خاطب الرسل بأنه (1) الزيادة من تفسير الا لوسى. (*)
[ 19 ]
مؤمن بالله ربهم، ومعنى " فاسمعون " أي فأشهدوا، أي كونوا شهودي بالإيمان. وقال كعب ووهب: إنما قال ذلك لقومه إنى آمنت بربكم الذي كفرتم به. وقيل: إنه لما قال لقومه " اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرا " رفعوه إلى الملك وقالوا: قد تبعت عدونا، فطول معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل، إلى أن قال: " إني آمنت بربكم " فوثبوا عليه فقتلوه. قال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره، وألقي في بئر وهي الرس وهم أصحاب الرس. وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة. وقال السدي رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم أهد قومي حتى قتلوه. وقال الكلبي: حفروا حفرة وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب فمات ردما. وقال الحسن: حرقوه حرقا، وعلقوه من سور المدينة وقبره في سور أنطاكية، حكاه الثعلبي. قال القشيري: وقال الحسن لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة، فإذا أعاد الله الجنة أدخلها. وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها، فذلك قوله: " قيل أدخل الجنة " وقال جماعة: معنى " قيل ادخل الجنة " وجبت لك الجنة، فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة: لأن دخولها يستحق بعد البعث. (1) القصب المعى. (*)
[ 20 ]
قلت: والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له ادخل الجنة. قال قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق، أراد قول تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " [ آل عمران: 169 ] على ما تقدم في [ آل عمران ] بيانه. والله أعلم. قوله تعالى: " قال يا ليت قومي يعلمون " مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قول عند ذلك الفوز العظيم الذي هو " بما غفر لي ربي " وجعلني من المكرمين " وقرى " من المكرمين " وفي معنى تمنيه قولان: أحد هما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. قال ابن عباس: نصح قومه حيا وميتا. رفعه القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية " إنه نصح لهم في حياته وبعد موته ". وقال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين، علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصديقون. ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام، فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبي بعد قتله، قال قتادة ومجاهد والحسن. قال الحسن: الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء. وقيل: الجند العساكر، أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر بل أهلكهم بصيحة واحدة. قال معناه ابن مسعود وغيره. فقوله: " وما كنا منزلينن " تصغير لأمرهم، أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل، أو من بعد رفعه إلى السماء. وقيل: " وما كنا منزلين " على من كان قبلهم. (1) راجع ج 4 ص 268 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 21 ]
الزمخشري: فان قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ؟ فقال: " فأرسلنا عليهم ريحاو جنودا لم تروها " [ الأحزاب 9 ]، وقال: " بثلاثة الألف من الملائكة منزلين " [ آل عمران: 1 24 ]. " بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " [ آل عمران: 125 ]. قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة، ولكن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شئ على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحدا، فمن ذلك أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله: " وما أنزلنا ". " وما كنا منزلين " إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعل لغيرك. " إن كانت إلا صيحة واحدة " قراءة العامة " واحدة " بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج: " صيحة " بالرفع هنا، وفي قوله: " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع " جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث، فكأنه قال: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف، كما تكون ما قامت إلا هند ضعيفا من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند. قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال: إن كان إلا صيحة. قال النحاس: لا يمتنع شئ من هذا، يقال: ما جاءتني إلا جاريتك، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية إلا جاريتك. والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق، قال: المعنى إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدره غيره: ما وقع عليهم إلا صيحة واحدة. وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب. وقرأ عبد الرحمن بن الأسود - ويقال إنه في حرف عبد الله كذلك - " إن كانت إلا زقة واحذ ". وهذا مخالف للمصحف. وأيضا فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح، ومنه المثل: أثقل من الزواقي، فكان يجب على هذا أن يكون زقوة. ذكره النحاس.
[ 22 ]
قلت: وقال الجوهري الزقو والزقي مصدر، وقد زقا الصدى يزقو زقاء: أي صاح، وكل صائح زاق، والزقية الصيحة. قلت: وعلى هذا يقال: زقوة وزقية لغتان، فالقراء صحيحة لا اعتراض عليها. والله أعلم. " فإذا هم خامدون " أي ميتون هامدون، تشبيها بالرماد الخامد. وقال قتادة: هلكى. والمعنى واحد. قوله تعالى: يحسرة على العباد ما ياتيهم من رسول الا كانوا به يستهزون الم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون و إن كل لما جميع لدينا محضرون قوله تعالى: " يا حسرة على العباد " منصوب، لأنه نداء نكرة ولا يجوز فيه غير النصب عند البصريين. وفي حرف أبي " يا حسرة العباد " على الإضافة. وحقيقة الحسرة في اللغة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرا. وزعم الفراء أن الاختيار النصب، وأنه لو رفعت النكرة الموصولة بالصلة كان صوابا. واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب: يا مهتم بأمرنا لا تهتم. وأنشد: / ش يا دار غيرها البلى تغييرا / ش قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره، لأنه يرفع النكرة المحضة، ويرفع ما هو بمنزلة المضاف في طول، ويحذف التنوين متوسطا، ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك. فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه، لأن تقدير يا مهتم بأمرنا لا تهتم على التقديم والتأخير، والمعنى يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا. وتقدير البيت: يا أيتها الدار، ثم حول المخاطبة، أي يا هؤلاء غير هذه الدار البلى، كما قال الله جل وعز: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " [ يونس: 22 ]. ف " حسرة " منصوب على النداء، كما تقول يا رجلا أقبل، ومعنى النداء (1) البيت للأحوص، وتمامه: * وسفت عليها الريح بعدك مورا * (*)
[ 23 ]
هذا موضع حضور الحسرة. الطبري: المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندما وتلهفا في استهزائهم برسل عليهم السلام. ابن عباس: " يا حسرة على العباد " أي يا ويلا على العباد. وعنه أيضا حل هؤلاء محل من يتحسر عليهم. وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد ها هنا الرسل، وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: " يا حسرة على العباد " فتحسروا على قتلهم، وترك الإيمان بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان، وقال مجاهد. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل: " يا حسرة على العباد " من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم لقتله. وقيل: إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قتل القوم ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحل بالقوم العذاب: يا حسرة على هؤلاء، كأنهم امنوا أن يكونوا قد أمنوا. وقيل: هذا من قول القوم قالوا لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل، أو قتلوا الرجل مع الرسل الثلاثة، على اختلاف الروايات: يا حسرة على هؤلاء الرسل، وعلى هذا الرجل، ليتنا آمنا بهم في الوقت الذي ينفع الإيمان وتم الكلام على هذا، ثم ابتدأ فقال: " ما يأتيهم من رسول ". وقرأ ابن هرمز ومسلم بن جندب وعكرمة: " يا حسرة على العباد " بسكون الهاء للحرص على البيان وتقرير المعنى في النفس، إذ كان موضع وعظ وتنبيه والعرب تفعل ذلك في مثله، وإن لم يكن موضعا للوقف. ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقطع قراءته حرفا حرفا، حرصا على البيان والإفهام. ويجوز أن يكون " على العباد " متعلقا بالحسرة. ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف لا بالحسرة، فكأنه قدر الوقف على الحسرة فأسكن الهاء، ثم قال: " على العباد " أي أتحسر على العباد. وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: " يا حسرة العباد " مضاف بحذف " على ". وهو خلاف المصحف. وجاز أن يكون من باب الإضافة إلى الفاعل فيكون العباد فاعلين، كأنهم إذا شاهدوا العذاب تحسروا فهو كقولك يا قيام زيد. ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المفعول، فيكون العباد مفعولين، فكأن العباد يتحسر عليهم من يشفق لهم. وقراءة من قرأ: " يا حسرة على العباد " مقوية لهذا المعنى.
[ 24 ]
قال سيبويه: " أن " بدل من " كم "، ومعنى كم ها هنا الخبر، فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام. والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون. وقال الفراء: " كم " في موض نصب من وجهين: أحدهما ب " ير وا " واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود " ألم يروا من أهلكنا ". والوجه الآخر أن يكون " كم " في موضع نصب ب " أهلكنا ". قال النحاس: القول الأول محال، لأن " كم " لا يعمل فيها ما قبلها، لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في خبر ما قبله. وكذا حكمها إذا كانت خبرا، وإن كان سيبيه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل " أنهم " بدلا من كم. وقد رد ذلك محمد بن يزيد أشد رد، وقال: " كم " في موضع نصب ب " أهلكنا " و " أنهم " في موضع نصب، والمعنى عنده بأنهم أي " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون " بالاستئصال. قال: والدليل على هذا أنها في قراءة عبد الله " من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ". وقرأ الحسن: " إنهم إليهم لا يرجعون " بكسر الهمزة على الاستئناف. وهذه الآية رد على من زعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت. يريد يوم القيامة للجزاء. وفرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: " وإن كل لما " بتشديد " لما ". وخفف الباقون. فإن مخففة من الثقيلة وما بعدها مرفوع بالابتداء، وما بعده الخبر. وبطل عملها حين تغير لفظها. ولزمت اللام في الخبر فرقا بينها وبين إن التي بمعنى ما. " وما " عند أبي عبيدة زائدة. والتقدير عنده: وإن كل لجميع. قال الفراء: ومن شدد جعل " لما " بمعنى إلا و " إن " بمعنى ما، أي ما كل إلا لجميع، كقوله: " إن هو إلا رجل به جنة " [ المؤمنون: 25 ]. وحكى سيبويه: في قوله سألتك بالله لما فعلت. وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. وقد مضى هذا المعنى في [ هود ]. وفي حرف أبي " وإن منهم إلا جميع لدينا محضرون ". (1) راجع ج 9 ص 105 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 25 ]
قوله تعالى: وءاية لهم الارض الميته أحيينها وأخرجنا منها حبا فمنه ياكلون وجعلنا فيها جنت من نخيل وأعنب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ومما لا يعملون قوله تعالى: " واءيه لهم الارض الميته أحييناها " نبههم الله تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكرهم توحيده وكمال قدرته، وهي الأرض الميتة أحياها بالنبات وإخراج الحب منها. وشدد أهل المدينة " الميتة " وخفف الباقون، وقد تقدم. " فمنه " أي من الحب " يأكلون " وبه يتغذون. و شدد أهل المدينة " الميته " وخفف الباقون وقد تقدم. " وجعلنا فيها " أي في الأرض. " جنات " أي بساتين. " من نخيل وأعناب " وخصصهما بالذكر، لأنهما أعلى الثمار. " وفجرها فيها من العيون " أي في البساتين. " ياكلوا من ثمره " الهاء في " ثمره " تعود على ماء العيون، لأن الثمر منه أندرج، قاله الجرجاني والمهدوي وغيرهما. وقيل: أي ليأكلوا من ثمر ما ذكرنا، كما قال: " وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه " [ النحل: 66 ]. وقرأ حمزة والكسائي: " من ثمره " بضم الثاء والميم. وفتحهما الباقون. وعن الأعمش ضم الثاء وإسكان الميم. وقد مضى الكلام فيه في [ الأنعام ]. " ما " في موضع خفض على العطف على " من ثمره " أي ومما عملته أيديهم. وقرأ الكوفيون: " وما عملت " بغير هاء. الباقون " عملته " على الأصل من غير حذف. وحذف الصلة أيضا في الكلام كثير لطول الاسم. ويجوز أن تكون " ما " نافية لا موضع لها فلا تحتاج إلى صلة ولا راجع. أي ولم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته الله لهم. وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل. وقال غيرهم: المعنى ومن الذي عملته أيديهم أي من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة، ومما (1) راجع ج 2 ص 216 وما بعدها طبعة ثانيه. (2) راجع ج 7 ص 49 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 26 ]
اتخذوا من الحبوب بعلاج كالخبز والدهن المستخرج من السمسم والزيتون. وقيل: يرجع ذلك إلى ما يغرسه الناس. روي معناه عن ابن عباس أيضا. نعمه. نزه نفسه سبحانه عن قول الكفار، إذ عبدوا غيره مع ما رأوه من نعمه وآثار قدرته. وفيه تقدير الأمر، أي سبحوه ونزهوه عما لا يليق به. وقيل: فيه معنى التعجب، أي عجبا لهؤلاء في كفرهم مع ما يشاهدونه من هذه الآيات، ومن تعجب من شئ قال: سبحان الله. والأزواج الأنواع والأصناف، فكل زوج صنف، لأنه مختلف في الألوان والطعوم والأشكال والصغر والكبر، فاختلافها هو ازدواجها. وقال قتادة: يعني الذكر والأنثى. (مما تنبت الأرض) يعني من النبات، لأنه أصناف. (ومن أنفسهم) يعني وخلق منهم أولادا أزواجا ذكورا وإناثا. و (مما لا يعلمون) أي من أصناف خلقه فى البر والبحر والسماء والأرض. ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر وتعلمه الملائكة. ويجوز ألا يعلمه مخلوق. ووجه الاستدلال في هذه الآية أنه إذا انفرد بالخلق فلا ينبغي أن يشررك به. قوله تعالى: وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلممون والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم قوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) أي وعلامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب إلاهيته. والسلخ: الكشط والنزع، يقال: سلخه الله من دينه، ثم تستعمل بمعنى الإخراج. وقد جعل ذهاب الضوء ومجئ الظلمة كالسلخ من الشئ وظهور المسلوخ فهي استعارة. و (مظلمون) داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا أي دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا. وقيل: " منه " بمعنى عنه، والمعنى نسلخ عنه ضياء النهار. " فإذا هم مظلمون " أي في ظلمه، لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضئ فإذا خرج منه أظلم.
[ 27 ]
قوله تعالى: (والشمس تجرى لمستقر لها) يجوز أن يكون تقديره وآية لهم الشمس. ويجوز أن يكون الشمس مرفوعا بإضمار فعل يفسره الثاني. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء " تجري " في موضع الخبر أي جارية. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: " والشمس تجري لمستقر لها " قال: " مستقرها تحت العرش ". وفيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس) قالوا الله ورسوله أعلم، قال: " إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون متى ذلكم ذاك حين " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " [ الأنعام: 158 ]). ولفظ البخاري عن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: " تدري أين تذهب " قلت الله ورسوله أعلم، قال: " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: " والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ". ولفظ الترمذي عن أبي ذر قال: دخلت المسجد حين غابت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه " قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها " قال: ثم قرأ " ذلك مستقر لها " قال وذلك قراءة عبد الله. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (1) كذا في اللاصول وفى صحيح الترمذي والعله تحريف، إذ لا تعرف قراءة بهذا النص، وقراءة عبد الله بن مسعود " والشمس تجرى لا مستقر لها " كما سياتى. (*)
[ 28 ]
وقال عكرمة: إن الشمس إذ اغربت دخلت محرابا تحت العرش تسبح الله حتى تصبح، فإذا أصبحت استعفت ربها من الخروج فيقول لها الرب: ولم ذاك ؟ قالت: إني إذا خرجت عبدت من دونك. فيقول الرب تبارك وتعالى: أخرجي فليس عليك من ذاك شئ، سأبعث إليهم جهنم مع سبعين ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها. وقال الكلبي وغيره: المعنى تجري إلى أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع إلى أدنى منازلها، فمستقرها بلوغها الموضع الذي لا تتجاوزه بل ترجع منه، كالإنسان يقطع مسافة حتى يبلغ أقصى مقصوده فيقضي وطره، ثم يرجع إلى منزل الأول الذي أبتدأ منه سفره. وعلى تبليغ الشمس أقصى منازلها، وهو مستقرها إذا طلعت الهنعة، وذلك اليوم أطول الأ يام في السنة، وتلك الليلة أقصر الليالي، فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع سا عات، ثم يأخذ في النقصان وترجع الشمس، فإذا طلعت الثريا استوى الليل والنهار، وكل واحد ثنتا عشرة ساعة، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع النعائم، وذلك اليوم أ قصر الأيام، والليل خمس عشرة ساعة، حتى إذا طلع فرغ الدلوا المؤخر استوى الليل والنهار، فيأخذ الليل من النهار كل يوم عشر ثلث ساعة، وكل عشرة أيام ثلث ساعة، وكل شهر ساعة تامة، حتى يستويا ويأخذ الليل حتى يبلغ خمس عشرة ساعة، ويأخذ النهار من الليل كذلك. وقال الحسن: إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعا، تنزل في كل يوم مطلعا، ثم لا تنزله إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها. وهو معنى الذي قبله سواء. وقال ابن عباس: إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع. قلت: ما قاله ابن عباس يجمع الأقوال فتأمله. وقيل: إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا وقرأ ابن مسعود وا بن عباس " والشمس تجري لا مستقر لها " أي إنها تجري في الليل والنهار لا وقوف لها ولا قرار، إلى أن يكورها الله يوم القيامة. وقد احتج من خالف المصحف فقال: أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود وابن عباس. قال أبو بكر الأنباري: وهذا باطل مردود على من نقله، لأن أبا عمر وروى عن مجاهد عن ابن عباس وابن كثير روى
[ 29 ]
عن مجاهد عن ابن عباس " والشمس تجري لمستقر لها " فهذان السندان عن ابن عباس اللذان يشهد بصحتهما الإجماع، يبطلان ما روي بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة، وما اتفقت عليه الأمة. قلت: والأحاديث الثابتة التي ذكرناها ترد قوله، فما أجرأه على كتاب الله، قاتله الله. وقوله: " لمستقر لها " أي إلى مستقرها، والمستقر موضع القرار. (ذلك تقدير) أي الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير " العزيز العليم ". قوله تعالى: والقمر قدرنه منازل حتى عاد كالعرجون القديم فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: " والقمر " يكون تقديره وآية لهم القمر. ويجوز أن يكون " والقمر " مرفوعا بالابتداء. وقرأ الكوفيون " والقمر " بالنصب على إضمار فعل وهو اختيار أبي عبيد. قال: لأن قبله فعلا وبعده فعلا، قبله " نسلخ " وبعده " قدرنا ". النحاس: وأهل العربية جميعا فيما علمت على خلاف ما قال: منهم الفراء قال: الرفع أعجب إلي، وإنما كان الرفع عندهم أولى، لأنه معطوف على ما قبله ومعناه وآية لهم القمر. وقوله: إن قبله " نسلخ " فقبله ما هو أقرب منه وهو " تجري " وقبله " والشمس " بالرفع. والذي ذكره بعده وهو " قدرناه " قد عمل في الهاء. قال أبو حاتم: الرفع أولى، لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء. ويقال: القمر ليس هو المنازل فكيف قال: " قدرناه منازل " ففي هذا جوابان: أحدهما قدرناه إذا مناز ل، مثل: " واسأل القرية " [ يوسف: 82 ]. والتقدير الآخر قدرنا له منازل ثم حذفت اللام، وكان حذفها حسنا لتعدي الفعل إلى مفعولين مثل " واختار موسى قومه سبعين رجلا " [ الأعراف: 155 ]. والمنازل ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل، وهي، الشرطان. البطين. الثريا. الدبران. الهقعة. الهنعة. الذراع. النثرة. الطرف الجبهة. الخراتان. الصرفة. العواء. السماك. الغفر. الزبانيان.
[ 30 ]
الإكليل. القلب. الشولة. النعائم. البلدة. سعد الذابح. سعد بلع. سعد السعود. سعدالأخبية. الفرغ المقدم. الفرغ المؤخر. بطن الحوت. فإذا صار القمر في آخرها عاإلى أولها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة. ثم يستسر ثم يطلع هلالا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج لكل برج منزلان وثلث. فللحمل الشرطان وا لبطين وثلث الثريا، وللثور ثلثا الثريا والدبران وثلثا الهقعة، ثم كذلك إلى سائرها. وقد مضى في " الحجر " تسمية البروج والحمد لله. وقيل: إن الله تعالى خلق الشمس والقمر من نار ثم كسيا النور عند الطلوع، فأما نور الشمس فمن نور العرش، وأما نور القمر فمن نور الكرسي، فذلك أصل الخلقة وهذه الكسوة. فأما الشمس فتركت كسوتها على حالها لتشعشع وتشرق، وأما القمر فأمر الروح الأمين جناح على وجهه فمحا ضوءه بسلطان الجناح، وذلك أنه روح والروح سلطانه غالب على الأشياء. فبقي ذلك المحو على ما يراه الخلق، ثم جعل في غلاف من ماء، ثم جعل له مجرى، فكل ليلة يبدو للخلق من ذلك الغلاف قمرا بمقدار ما يقمر لهم حتى ينتهي بدؤه، ويراه الخلق بكماله واستدارته. ثم لا يزال يعود إلى الغلاف كل ليلة شئ منه فينقص من الرؤية والإفمار بمقدار ما زاد في البدء. ويبتدئ في النقصان من الناحية التي لا تراه الشمس وهي ناحية الغروب حتى يعود كالعرجون القديم، وهو العذق المتقوس ليبسه ودقته. وإنما قيل القمر، لأنه يقمر أي يبيض الجو ببياضه إلى أن يستسر. الثانية - " حتى عاد كالعرجون القديم " قال الزجاج: هو عود العذق الذي عليه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف، أي سار في منازله، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وضاق حتى صار كالعرجون. وعلى هذا فالنون زائدة. وقال قتادة: هو ا لعذق اليابس المنحني من النخلة. ثعلب: " كالعرجون القديم " قال: " العرجون " الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت، و " القديم " البالي. الخليل: في باب الرباعي " العرجون " أصل العذق وهو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انحنى. الجوهري: (1) " راجع ج 10 ص 9 طبعتة أولى أو ثانيه. (*)
[ 31 ]
العرجون " أصل العذق الذي يعوج وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا، وعرجنه ضربه بالعرجون. فالنون على قول هؤلاء أصلية، ومنه شعر أعشى بني قيس: / ش شرق المسك والعبير بها / وفهي صفراء كعرجون القمر / ش فالعرجون إذا عتق ويبس وتوس شبه القمر في دقته وصفرته به. ويقال له أيضا الإهان والكباسة والقنو، وأهل مصر يسمونه الإسباطة. وقرئ: " العرجون " بوزن الفرجون وهما لغتان كالبزيون والبزيو ن، ذكره الزمخشري وقال: هو عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة. واعلم أن السنة منقسمة على أربعة فصول، لكل فصل سبعة منازل: فأولها الربيع، وأوله خمسة عشر يوما من أذار، وعدد أيامه اثنان وتسعون يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة برو ج: الحمل، والثور، والجوزاء، وسبعة منازل: الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع. ثم يدخل فصل الصيف في خمسة عشر يوما من حزيران، وعدد أيامه اثنان وتسعون يوما، تقطع الشمس فيه ثلاثة بروج: الشرطان، والأسد، والسنبلة، وسبعة منازل: وهي النثرة والطرف والجبهة والخراتان والصرفة والعواء والسماك. ثم يدخل فصل الخريف في خمسة عشر يوما من أيلول، وعدد أيامه أحد وتسعون يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج، وهي الميزان، والعقرب، والقوس، وسبعة منازل الغفر والزبانان والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة. ثم يدخل فصل الشتاء في خمسة عشر يوما من كانون الأول، وعدد أيامه تسعون يوما وربما كان أحدا وتسعين يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: وهي الجدي والدلو والحوت، وسبعة منازل سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر وبطن الحوت. وهذه قسمة السريانيين لشهورها: تشرين الأول، تشرين الثاني، كانون الأول، كانون الثاني، أشباط، آذار، نيسان، أيار، حزيران، تموز، آب، أيلول، وكلها أحد وثلاثون إلا تشرين الثاني ونيسان وحزيران وأيلول، فهي ثلاثون، وأشباط ثمانية وعشرون يوما وربع يوم. (1) كذا في الأصل ولم نعثر عليه في ديوانه، ويحتمل أن يكون: شرق العنبر والمسك بها. (2) اليزيون: السندس. وقيل هو رقيق الديباج. (*)
[ 32 ]
وإنما أردنا بهذا أن تنظر في قدرة الله تعالى فذلك قوله تعا لى: " والقمر قدرناه منازل " فإذا كانت الشمس في منزل أهل الهلال بالمنزل الذي بعده، وكان الفجر بمنزلتين من قبله، فإذا كانت الشمس بالثريا في خمسة وعشرين وما من نيسان، كان الفجر بالشرطين، وأهل الهلال بالدبران، ثم يكون له في كل ليلة منزلة حتى يقطع في ثمان وعشرين ليلة ثمانيا وعشرين منزلة. وقد قطعت الشمس منزلتين فيقطعهما، ثم يطلع في المنزلة التي بعد منزلة الشمس ف " ذلك تقدير العز يز العليم ". الثالثة - قوله تعالى: " القديم " قال الزمخشري: القديم المحول وإذا قدم دق وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه. وقيل: أقل عدة الموصوف بالقد يم لحول، فلو أن رجلا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصيته عتق من مضى له حول أو أكثر. قلت: قد مضى في " البقرة " ما يترتب على الأهلة من الأحكام والحمد لله. قوله تعالى: لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون قوله تعالى: " لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر " رفعت الشمس بالابتداء، ولا يجوز أن تعمل " لا " في معرفة. وقد تكلم العلما ء في معنى هذه الآية، فقال بعضهم: معناها أن الشمس لا تدرك القمر فتبطل معناه. أي لكل واحد منهما سلطان على حياله، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب سلطانه، إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدم في آخر سو رة " الأنعام " بيانه. وقيل: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء. روي معناه عن ابن عباس والضحاك وقال مجاهد: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال قتادة: لكل حد وعلم لا يعدوه (1) راجع ج 2 ص 341 وما بعدها طبعة ثانية. (2) راجع ج 7 ص 145 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 33 ]
ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا. وقال الحسن: إنهما الإيجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة. أي لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر، ولكن إذا غربت الشمس طلع القمر. يحيى بن سلام: لا تدرك الشمس القمر ليلة ا لبدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها. وقيل: معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها، قاله ابن عباس أيضا. وقيل: القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه، ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا يدفع أن سير القمر سير سريع والشمس لا تدركه في السير ذكره المهدوي أيضا. فأما قول سبحانه: " وجمع الشمس والقمر " [ القيامة: 9 ] فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في آخر " الأنعام " ويأتي في سورة " القيامة " أيضا. وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة. " وكل " يعنى من الشمس والقمر والنجوم " في فلك يسبحون " أي يجرون. وقيل: يدورون. ولم يقل تسبح، لأنه وصفها بفعل من يعقل. وقال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة، ولو كانت ملصقة ما جرت، ذكره الثعلبي والماوردي. واستدل بعضهم بقول تعالى: " ولا الليل سا بق النهار " على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بخلق. وقيل: كل واحد منهما يجئ وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس والقمر يوم القيامة، كما قال: " وجمع الشمس والقمر " وإنما هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد " لتعلموا عدد السنين والحساب " [ يونس: 5 ] ويكون الليل للإجمام والاستراحة، والنهار للتصرف، كما قال تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله " [ القصص: 73 ] وقال: " وجعلنا نومكم سباتا " أي راحة لأبدانكم من عمل النهار. فقوله: " ولا الليل سابق النهار " أي غالب النهار، يقال: سبق فلان فلانا أي غلبه. وذكر المبرد قال: سمعت عمارة يقرأ: " ولا الليل سابق النهار " فقلت ما هذا ؟ قال: أردت سابق النهار فحذفت التنوين، لأنه أخف. قال النحاس: يجوز أن يكون " النهار " منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين. (1) راجع ج 7 ص 146 طبعة أو ثانية. (*)
[ 34 ]
قوله تعالى: وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لههم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون الا رحمة منا ومتعا الى حين قوله تعالى: " وآية لهم " يحتمل ثلاثه معان: أحدها عبرة لهم، لأن في الايات اعتبارا. الثاني نعمة عليهم، لأن في الايات إنعاما. الثالث أنذار لهم، لأن في الايات إنذارا. " أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون " من أشكل ما في السورة، لأنهم هم المحمولون. فقيل المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية " في الفلك المشحون " فالضميران مختلفان، ذكره المهدوى. وحكاه النحاس عن على بن سليمان أنه سمعه يقوله. وقيل: الضميران جميعا لهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم، فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني يكون اسما للجنس، خبر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين. وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام، فالآباء ذرية والأبناء ذرية، بدليل هذه الآية، قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية، لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون ا لنساء تشبيها بالفلك المشحون، قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه، ذكره الماور دي. وقد مضى في " البقرة " اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و " المشحون " المملوء الموقر و " الفلك " يكون واحدا وجمعا. وقد تقدم في " يونس " القول فيه. قوله تعالى: " وخلقنالهم من مثله ما يركبون " والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير، (1) " ذرياتهم " بالجمع قراءة نافع. (2) راجع ج 2 ص 107 وما بعدها طبعة ثانية. (3) راجع ج 8 ص 324 طبعة أو ثانية. (4) كذا في كل نسخ الأصل وفى إعراب القرآن المنحاس: (*)
[ 35 ]
وروي عن ابن عباس أن معنى " من مثله " للإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة: / ش كأن حدوج المالكية غدوة / وخلايا سفين بالنواصف من دد / ش جمع خلية وهي السفينة العظيمة. والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب. والقول الثالث أنه للسفن، النحاس: وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس. " وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " قال: خلق لهم سفنا أمثالها يركبو ن فيها. وقال أبو مالك: إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار، وروي عن ابن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال الماوردي: ويجئ على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله: " وخلقتا لهم مثله ما يركبون " أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكيا. قوله تعالى: " وإن نشا نغرقهم " أي في البحر فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية، أو إلى الجميع، وهذا يدل على صحت قول ابن عباس ومن قال إن المراد " من مثله " السفن لا الإبل. " فلا صريخ لهم " أي لا مغيث لهم رواه سعيد عن قتادة. وروى شيبان عنه فلا منعة لهم ومعناهما متقاربان. و " صريخ " بمعنى مصرخ فعيل بمعنى فاعل. ويجوز " فلا صريخ لهم "، لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع، لأنه معرفة وهو " ولا هم ينقذون " والنحويون يختارون لا رجل في الدار ولا زيد. ومعنى: " ينقذون " يخلصون من الغرق. وقيل: من العذاب. " الا رحمة منا " قال الكسائي: هو نصب على الاستثناء. وقال الزجاج: نصب مفعول من أجله، أي للرحمة " ومتاعا " معطوف عليه. " إلى حين " إلى المو ت، قاله قتادة. يحيى بن سلام: إلى القيامة أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة، وأخر عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإ ن كذبوه إلى الموت والقيامة. (1) الحدوج حدج وهو مركب من مراكب النساء. والمالكية منسوبة إلى مالك بن سعد بن ضبيعة. والتواصف جمع نا صفة وهى الرحبة الواسعة تكون في الوادي. ودد موضع. (*)
[ 36 ]
قوله تعالى: وإذا قيل لهم ابقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأبيهم من ءاية من ءايت ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلل مبين ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون قوله تعالى: " وإذا قيل لهم ابقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " قال قتادة: يعني " اتقوا ما بين أيديكم " أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم " وما خلفكم " من الآخرة. ابن عباس وابن جبير ومجاهد: " ما بين أيديكم " ما مضى من الذنوب " وما خلفكم " ما يأتي من الذنوب. الحسن: " ما بين أيديكم " ما مضى من أجلكم " وما خلفكم " ما بقي منه. وقيل: " ما بين أيديكم " من الدنيا، " وما خلفكم " من عذاب الآخرة، قال سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. قال: " ما بين أيديكم " من أمر الآخرة وما عملوا لها، " وما خلفكم " من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل: " ما بين أيديكم " ما ظهر لكم " وما خلفكم " ما خفي عنكم. والجواب محذوف والتقدير إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، دليله قول بعد: " وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين " فأكتفي بهذا عن ذلك. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم أنفقوا مما زرقكم الله " أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقيل: هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله، وذلك قوله: " وجعلوا لله مما
[ 37 ]
ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا " [ الأنعام: 136 ] فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم - استهزاء - فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. قالوا " أتطعم " أي أنرزق " من لو يشاء الله أطعمه " كان بلغهم من قول المسلمين: أن الرازق هو الله. فقالوا هزءا أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، ولو شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل: قالوا هذا تعلقا بقول المؤمنين لهم: " أ نفقوا مما رزقكم الله " أي فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا ؟. وكان هذا الاحتجاج باطلا، لأن الله تعالى إذا ملك عبدا مالا ثم أوجب عليه فيه حقا فكأنه انتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله: " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا " [ الأنعام: 148 ]، وقوله: " قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " [ المنا فقون: 1 ]. " إن أنتم إلا في ضلال مبين " قيل هو من قول الكفار للمؤمنين، أي في سؤا ل المال وفي اتباعكم محمدا. قال معناه مقاتل وغيره. وقيل: هو من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقيل: من قول الله تعالى للكفار حين ردوا بهذا الجو اب. وقيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم ؟ قال: ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأ مر الأغنياء بالإعطاء. فقال: والله يا أبا بكر ما أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت ؟ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " [ الليل: 5 - 6 ] الآيات. وقيل: نزلت الآية في قوم من الزنادقة، وقد كان فيهم أقوام يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع واستهز ء وا بالمسلمين بهذا القول، ذكره القشيري والماوردي.
[ 38 ]
قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الوعد " لما قيل لهم: " اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم " قالوا: " متى هذا الوعد " وكان هذا استهزاء منهم أيضا أي لا تحقيق لهذا الوعيد. قال الله تعالى: " ما ينظرون " أي ما ينتظرون " إلا صيحة واحدة " وهي نفخة إسرافيل " تأخذهم وهم يختصمون " أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم، وهذه نفخة الصعق. وفي " يختصمون " خمس قراءات: قرأ أبو عمرو وابن كثير " وهم يختصمون " بفتح الياء و الخاء وتشديد الصاد. وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب الفراءات وأصحاب نافع سوى ورش فرو وا عنه " يختصمون " بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع بين ساكنين. وقرأ عاصم والكسائي " وهم يختصمون " بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه. وقرأ عاصم والكسائي " وهم يختصمون " بكسر الخاء وتشديد الصاد ومعناه يختصم بعضهم بعضا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ابن جبير عن أبى بكر عن عاصم وحماد عن عاصم كسر الياء والخاء والتشديد. قال النحاس: القراءة الولى أبينها والأصل فيها يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها الى الخاء - وفى حرف بى " وهم يختصمون " - وإسكان الخاء لا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحد هما حرف مدولين. وقيل: أسكنوا الخاء على أصلها، والمعنى يخصم بعضهم بعضا فحذف المضاف، وجاز أن يكون المعنى يخصمون مجادلهم عند أنفسهم فخذف المفعول، قال الثعلبي: وهى قراءة أبى بن كعب. قال النحاس: فأما " يخصمون " فالأصل فقيه أيضا يختصمون، فأد غمت التاء في الصادثم كسرت الخاء لا لتقاء الساكنين. وزعم الفراء أن هذه القراءة أجود وأكثر، فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب اها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة ! وما روى عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع. وقد مضى هدا في " البقرة " في " يخطف (1) انظر ج 1 ص 192 طبعة ثانية أو ثالثة.
[ 39 ]
أبصارهم " وفى " يونس " في " يهدى ". وقال عكرمة في قوله جل وعز " إلا صيحة واحدة " قال: هي النفخة الأولى في الصور. وقال أبو هربرة: ينفخ في الصور والناس في أسواقهم، فمن حالب لقحة، ومن ذارع ثوبا، ومن مار في حاجة. وروى نعيم عن أبى هريرة قال قال رسول الله عليه وسلم: " تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم الساعة والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما يتبلعها حتى تقوم الساعة). وفي حديث عبد الله بن عمرو: " وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال - فيصعق ويصعق الناس " الحديث. " فلا يستطيعون توصية " أي لا يستطيع بعضهم أن يوصى تعضا لما في يده من حق. وقيل: لا يستطيع أن يوصى بعضهم بعضا بالتوبة والإقلاع بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم. " ولا إلى أهلهم يرجعون " إذا ماتوا. وقيل: إن معنى " ولا إلى أهلهم يرجعون " لا يرجعون إليهم قولا. وقال قتادة: " ولا إلى أهلهم يرجعون " أي إلى منازلهم، لأنهم قد أعجلوا عن ذلك. قوله تعالى: ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث الى ربهم ينسلون قالو يويلتنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ان كانت الا صيحة وحده فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون الا ما كنتم تعملون قوله تعالى: " ونفخ في الصور " هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بينا في سورة " النمل " أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دال ء على ذلك. وروى المبارك بن (1) راجع ج 8 ص 341 طبعة أولى أو ثانيه. (2) يليط حوضه وفى رواية بلوط حوضه أي يطينه. (3) راجع ج 13 ص 239 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 40 ]
فضالة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حى والأخرى يحيى الله بها كل ميت ". وقال قتادة: الصور جمع صورة، أي نفخ في الصور الأرواح. وصورة وصور مثل سورة، قال العجاج: ش / ورب ذى سرادق محجور / سرت إليه في أعالي السور / ش وقد روى عن أبى هريرة أنه قرأ " ونفخ في الصور ". النحاس: والصحيح أن " الصور " بإسكان الواو. القرن، جاء بذلك التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة: ش / نحن نطحناهم غداة الغورين / بالضابحات في غبار النقعين * نطحا شديدا لا كنطح الصورين * وقد مضى هذا في " الأنعام " مستوفى. " فإذا هم من الأجداث " أي القبور. وقرى بالفاء " من الاجداف " ذكره الزمخشري. يقال جدث وجدف. و اللغة الفصيحة الجدث بالثاء والجمع أجدتو أجداث، قال المتنخل الهذلى: ش / عرفت بأجدث فنعاف عرق / علامات كتجير النماط / ش واجتدث أي اتخذ جدثا. " الى ربهم ينسلون " أي يخرجون، قاله ابن عباس وقتاده. ومنه قول امرى القيس: * فسلى ثيابي من ثيابك تنسيلى * ومنه قيل للولد نسل، لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل: يسرعون. والنسلان والعسلان الإسراع في السير، ومنه مشية الذئب، قال: / ش عسلان الذئب أمسى قاربا / و برد الليل عليه فنسل / ش يقال: عسل الذئب ونسل، يعسل وينسل، من باب ضرب يضرب. ويقال: ينسل بالضم أيضا. وهو الإسراع في المشي، فالمعنى يخرجون مسرعين. وفى التنز يل: " ما خلقكم ولا بعثكم (1) راجع ج 7 ص 20 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (2) البيت للبيد، وقيل هو للنابغة الجعدى. (*)
[ 41 ]
إلا كنفس واحدة " [ لقمان: 28 ]، وقال: " يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر " [ القمر: 7 ]، وفي " سائل سائل ": [ المعارج: 1 ] " يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون " [ المعارج: 43 ] أي يسرعون. وفى الخبر: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الضعف فقال: " عليكم بالنسل " أي بالإسراع في المشى فإنه ينشط. قوله تعالى: (قالوا يا ويلنا) قال ابن الأنباري: " يا ويلنا " وقف حسن ثم تبتدئ " من بعثنا " وروي عن بعض القراء " يا ويلنا من بعثنا " بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي رضي الله عنه، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله: " يا ويلنا " حتى يقول: " من مرقدنا ". وفي قراءة أبي بن كعب " من هبنا " بالوصل " من مرقدنا " فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي: قرأ ابن أبي ليلى: " قالوا يا ويلتنا " بز يادة تاء وهو تأنيث الوصل، ومثله: " يا ويلتا أألد وأنا عجوز " [ هود: 72 ]. وقرأ علي رضي الله عنه " يا ويلتا من بعثنا " ف " من " متعلقة بالويل أو حال من " ويلتا " فتتعلق بمحذوف، كأنه قال: يا ويلتا كائنا من بعثنا، وكما يجوز أن يكون خبرا عنه كذلك يجوز أن يكون حالا منه. و " من " من قوله: " من مرقدنا " متعلقة بنفس البعث. ثم قيل: كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم ؟ فالجواب أن أبي بن كعب قال: ينامون نومة. وفى رواية فيقولون: يا ويلنا من أهبنا من مرقدنا. قال أبو بكر الأنباري: لا يحمل هذا الحديث على أن " أهبنا " من لفظ القرآن كما قال من طعن في القرآن، ولكنه تفسير " بعثنا " أو معبر عن بعض معانيه. قال أبو بكر: وكذا حفظته " من هبنا " بغير ألف في أهبنا مع تسكين نون من. والصواب فيه على طريق اللغة " من أهبنا " بفتح النون على أن فتحة همزة أهب ألقيت على نون " من " وأسقطت الهمزة، كما قالت العرب: من أخبرك من أعلمك ؟ وهم يريدون من أخبرك. ويقال: أهببت النائم فهب النائم. أنشدنا أحمد بن يحيى النحوي: / ش وعاذلة هبت بليل تلومني / وولم يعتمرني قبل ذاك عذول / ش وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة، فذلك قولهم: " من بعثنا من مرقدنا " وقال ابن
[ 42 ]
عباس وقتادة. وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم. قال مجاهد: فقال لهم المؤمنون " هذا ما وعد الرحمن ". قال قتادة: فقال لهم من هدى الله: " هذا ما وعد الرحمن ". وقال الفراء: فقال لهم الملائكة: " هذا ما وعد الرحمن ". النحاس: وهذه الأقوال متفقة، لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل. وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " [ البينة: 7 ] وكذا الحديث: (المؤمن عند الله خير من كل ما خلق). ويجوز أن تكون الملائكة وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم: " هذا ما وعد الرحمن ". وقيل: إن الكفار لما قال بعضهم لبعض: " من بعثنا من مرقدنا " صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به، ثم قالوا " هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون " فكذبنا به، أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وكا ن حفص يقف على " من مرقدنا " ثم يبتدئ فيقول: " هذا ". قال أبو بكر بن الأنباري: " من بعثنا من مرقدنا " وقف حسن، ثم تبتدئ: " هذا ما وعد الرحمن " ويجوز أن تقف على مرقدنا هذا " فتخفض هذا على الإتباع للمرقد، وتبتدئ: " ما وعد الرحمن " على معنى بعثكم ما وعد الرحمن، أي بعثكم وعد الرحمن. النحاس: التمام على " من مرقدنا " و " هذا " في موضع رفع بالابتداء وخبره " ما وعد الرحمن ". ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت ل " مرقدنا " فيكون التمام " من مرقدنا هذا ". " ما وعد الرحمن " في موضع رفع من ثلاث جهات. ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال: يكون بإضمار هذا. والجهة الثانية أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن بعثكم. والجهة الثالثة أن يكون بمعنى ما وعد الرحمن. " ان كانت الا صيحة واحدة " يعني إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة وهي قول إسرافيل: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة ! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهذا معنى قول الحق: " يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج. " [ ق: 42 ]. وقال: " مهطعين إلى الداعي " [ القمر: 8 ] على ما يأتي. وفي قراءة ابن مسعود إن صح عنه " إن كانت إلا زقية
[ 43 ]
واحدة " والزقية الصيحة، وقد تقدم هذا. " فإذا هم جميع لدينا محضرون " فإذا هم " مبتدأ وخبره " جميع " نكرة، و " محضرون " من صفته. ومعنى " محضرون " مجموعون أحضروا موقف الحساب، وهو كقوله: " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر " [ النحل: 77 ]. قوله تعالى: " فاليوم لا تظلم نفس شيئا " أي لا تنقص من ثواب عمل. " ولا تجزون الا ما كنتم تعملون " " ما " في محل نصب من وجهين: الأول أنه مفعول ثان لما لم يسم فاعله. والثاني بنزع حرف الصفة تقديره: إلا بما كنتم تعملون، أي تعملونه فحذف. قوله تعالى: إن إصحب الجنة اليوم في شغل فكهون هم وازواجهم في ظلل على الأرآ ئك متكئون لهم فيها فكهة ولهم ما يدعون سلم قولا من رب رحيم وامتزوا اليوم ايها المجرمون قوله تعالى: " إن اصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى. وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود في قوله " إ ن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " قال: شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس بمثله. وقا ل أبو قلابة: بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول أنا مع أهلي مشغول، فيقال تحول أيضا إلى أهلك. وقيل: أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم، قال سعيد بن المسيب وغير ه. وقال وكيع: يعني في السماع. وقال ابن كيسان: " في شغل " أي في زيارة بعضهم بعضا. وقيل: في ضيافة الله تعالى. وروي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبادي الذين
[ 44 ]
أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب ؟ فيقومون كأنما وجوههم البدر والكو كب الدري، ركبانا على نجب من نور أزمتها من الياقوت، تطير بهم على رءوس الخلائق، حتى يقوموا بين يدي العرش، فيقول الله جل وعز لهم: السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب، أنا اصطفيتكم وأنا أجتبيتكم وأنا اخترتكم، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب ف " لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " [ الزخرف: 68 ]) فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فتفتح لهم أبوابها. ثم إن الخلق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض: يا قوم أين فلان وفلان، وذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ". و " شغل " و " شغل " لغتان قر ئ بهما، مثل الرعب والرعب، والسحت والسحت، وقد تقدم. " فاكهون " قال الحسن: مسرورون. وقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك: معجبون. السدي: ناعمون. والمعنى متقارب. والفكاهة المزاح والكلام الطيب. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج: " فكهون " بغير ألف وهما لغتان كالفاره والفره، والحاذر والحذر، قاله الفراء. وقال الكسائي وأبو عبيدة: الفاكه ذوالفاكهة، مثل شاحم ولاحم وتامر ولابن، والفكه المتفكه والمتنعم. و " فكهون " بغير ألف في قول قتادة معجبون. وقال أبو زيد: يقال رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكا. وقرأ طلحة بن مصرف: " فاكهين " نصبه على الحال. " هم وازواجهم في ظلال على الأرائك متكئون " مبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون " هم " توكيدا " وأزواجهم " عطف على المضمر، و " متكئون " نعت لقوله " فاكهون ". وقراءة العامة: " في ظلال " بكسر الظاء والألف. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: " في ظلل " بضم الظاء من غير ألف، فالظلال جمع ظل، وظلل جمع ظلة. " على الأرائك " يعني السرر في الحجال واحدها أريكة، مثل سفينة وسفائن، قال الشاعر: / ش كأن احمرار الورد فوق غصونه / بوقت الضحى في روضه المتضاحك / ش / ش خدود عذارى قد خجلن من الحيا / تهادين بالريحان فوق الأرائك / ش (1) راجع ج 6 ص 184 طبعة أو ثانية. (*)
[ 45 ]
وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا. " وقال ابن عباس: إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحورا ء سبعين سنة، لا يملها ولا تمله، كلما أتاها وجدها بكرا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته، فيجامعها بقوة سبعين رجلا، لا يكون بينهما مني، يأتي من غير مني منه ولا منها. " لهم فيها فاكهة " ابتداء وخبر. " ولهم ما يدعون " الدال الثانية مبدلة من تاء، لأنه يفتعلون من دعا أي من دعا بشئ أعطيه. قاله أبو عبيدة، فمعنى " يدعون " يتمنون من الدعاء. وقيل: المعنى أن من أدعى منهم شيئا فهو له، لأن الله تعالى قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه. وقال يحيى بن سلام: " يدعون " يشتهون. ابن عباس. يسألون. والمعنى متقارب. قال ابن الأنباري: " ولهم ما يدعون " وقف حسن، ثم تبتدئ: " سلام " على معنى ذلك لهم سلام. ويجوز أن يرفع السلام على معنى ولهم ما يدعون مسلم خالص. فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على " ما يدعو ن ". وقال الزجاج: " سلام " مرفوع على البدل من " ما " أي ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا منى أهل الجنة. وروي من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد اطلع عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله: " سلام قولا من رب رحيم ". فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شئ من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركاته عليهم في ديارهم " ذكره الثعلبي والقشيري. ومعناه ثابت في صحيح مسلم، وقد بيناه في " يونس " عند قوله تعالى: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " [ يونس: 26 ]. ويجوز أن تكون " ما " نكرة، و " سلام " نعتا لها، أي ولهم ما يدعون مسلم. ويجوز أن تكون " ما " رفع بالابتداء، و " سلام " خبر عنها. وعلى هذه الوجوه لا يوقف على " ولهم ما يدعون ". وفي قراءة ابن مسعود " سلاما " يكون مصدرا، وإن شئت في موضع الحال، أي ولهم راجع ج ص 230 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 46 ]
ما يدعون ذا سلام أو سلامة أو مسلما، فعى هذا المذهب لا يحسن الوقف على " يدعون " وقرأ محمد بن كعب القرظي " سلم " على الاستئناف كأنه قال: ذلك سلم لهم لا يتنازعون فيه. ويكون " ولهم ما يدعون " تاما. ويجوز أن يكون " سلام " بدلا من قوله: " ولهم ما يدعون "، وخبر " ما يدعون " " لهم ". ويجوز أن يكون " سلام " خبرا آخر، ويكون معنى الكلام أنه لهم خالص من غير منازع فيه. " قولا " مصدر على معنى قال الله ذلك قولا. أو يقوله قولا، ودل على الفعل المحذوف لفظ مصدره. ويجوز أن يكون المعنى ولهم ما يدعون قولا، أي عدة من الله. فعلى هذا المذهب الثاني لا يحسن الوقف على " يدعون ". وقال السجستاني: الوقف على قوله: " سلام " تام، وهذا خطأ لأن القول خارج مما قبله. قوله تعالى: " وامتازوا اليوم ايها المجرمون " ويقال تميزوا وأمازوا وامتازوا بمعنى، ومزته فانماز وامتاز، وميزته فتميز. أي يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، أي اخرجوا من جملتهم. قال قتادة: عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة. وعنه أيضا: إن لكل فرقة في النار بيتا تدخل فيه ويرد بابه، فتكون فيه أبدالا ترى وقال داود بن الجراح: فيمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين. قوله تعالى: ألم أعهد اليكم يا بنئ ادم أن لا تعبدوا الشيطن انه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التى كنتم توعدون اصلوا اليوم بما كنتم تكفرون
[ 47 ]
قوله تعالى: " أالم أعهد اليكم يا نبى آدم " العهد هنا بمعنى الوصية، أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل. " ألا تعبدوا الشيطان " أي لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي: لا للنهي. " وأن اعبدوني " وأن اعبدوني " بكسر النون على الأصل، ومن ضم كره كسرة بعدها ضمة. " هذا صراط مستقيم " أي عبادتي دبن قويم. قوله تعالى: " ولقد أضل منكم " أي أغوى " جبلا كثيرا " أي خلقا كثيرا، قاله مجاهد. قتادة: جموعا كثيرة. الكلبي: أمما كثيرة، والمعنى واحد. وقرأ أهل المدينة وعاصم " جبلا " بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو وابن عامر " جبلا " بضم الجيم وإسكان الباء. الباقون " جبلا " ضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وشددها الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعبد الله بن عبيد والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي " جبلا " بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي: وكلها لغات بمعنى الخلق. النحاس: أبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا " والجبلة الأولين " [ الشعراء: 184 ] فيكون " جبلا " جمع جبلة والاشتقاق فيه كله واحد. وإنما هو من جبل الله عز وجل الخلق أي خلقهم. وقد ذكرت قراءة سادسة وهي: " ولقد أضل منكم جيلا كثيرا " بالياء. وحكي عن الضحاك أن الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ذكره الماوردي. " أفلم تكونوا تعقلون " عداوته وتعلموا أن الواجب طاعة الله. " هذه جهنم " أي تقول لهم خزنة جهنم هذه جهنم التي وعدتم فكذبتم بها. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجن والأولين والآخرين في صعيد واحد ثم أشرف عنق من النار على الخلائق فأحاط بهم ثم ينادي مناد " هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون " فحينئذ تجثو الأمم على ركبها وتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ".
[ 48 ]
قوله تعالى: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا تكسبون ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى بيصرون ولو نشاء لمسخنهم على مكانتهم فما استطعوا مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون قوله تعالى: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: (هل تدرون مم أضحك ؟ - قلنا الله ورسوله أعلم قال - من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال: يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل " خرجه أيضا من حديث أبي هريرة. وفيه: " ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه (ولحمه وعظامه) انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه ". وخرج الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال: وأشاره بيده إلى الشام فقال " من هاهنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أ نتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه " في رواية أخرى: " فخذه وكفه " الفدام مصفاة الكوز والإبريق، قال الليث. قال أبو عبيد: يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق. ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا (1) الزيادة من صحيح مسلم (*)
[ 49 ]
" والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام: 23 ] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري. الثاني: ليعرفهم أهل الموقف فيتميزو ن منهم، قاله ابن زياد. الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز، إن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز. الرابع: ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه صارت عليه شهودا في حق ربه. فإن قيل: لم قال " وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم " فجعل ما كان من اليد كلاما، وما كان من الرجل شهادة ؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل، فلذلك عبر عما صدر من الأيدي وبالقول وعما صدر من الأرجل بالشهادة. وقد روي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى " ذكره الماوردي والمهدوي. وقال أبو موسى الأشعري: إنى لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى، ذكره المهدوي أيضا. قال الماوردي: فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء، لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها. قال: وتقدمت اليسرى، لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها. قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معا والكف، فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم. قوله تعالى: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى بيصرون " حكى الكسائي: طمس يطمس ويطمس. والمطموس والطميس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شق. قال ابن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدا إلى طريق الحق. وقا ل الحسن والسدي: المعنى لتركناهم عميا يترددون. فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار الطبري. وقوله: " فاستبقوا الصراط " أي استبقوا الطريق ليجوزوا " فأنى يبصرون " أي فمن أين يبصرون. وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم،
[ 50 ]
وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فاهتدوا وأبصروا رشدهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال: " فأنى يبصرون " ولم نفعل ذلك بهم، أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية. وقد روي عن عبد الله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدم، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال: إذا كان يوم القيامة ومد الصراط.، نادى مناد ليقم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيقومون برهم وفاج رهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته، فيقوم فيتبعونه برهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام. ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أخذ الأسود بن الأسود حجرا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صلى الله عليه وسلم، فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا اهتدى، ونزلت الآية فيه. والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، مأخوذ من طمس الريح الأثر، قاله الأخفش والقتبي. قوله تعالى: " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " المسخ: تبديل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة. قال الحسن: أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم. وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعا تقصده فتتحير، فلا تقبل ولا تدبر. ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية. ابن سلام: هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط. وقرأ الحسن والسلمي وزر بن حبيش وعاصم في رواية أبي بكر " مكاناتهم " على الجمع، الباقون بالتوحيد: وقرأ أبو حيوة: " فما استطاعوا مضيا " بفتح الميم. والمضي بضم الميم مصدر يمضي مضيا إذا ذهب.
[ 51 ]
قوله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق " قرأ عاصم وحمزة " ننكسه " بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس. الباقون " ننكسه " بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكست الشئ أنكسه نكسا قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا. وقال سفيان في قول تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق " إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته. قال الشاعر: / ش من عاش أخلقت الأيام جدته / ووخانه ثقتاه السمع والبصر / ش فطول العمر يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا، وهذا هو الغالب. وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد بيانه. " أفلا تعقلون " أن من فعل هذا بكم قادر عى بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان: " تعقلون " بالتاء. الباقون بالياء ". قوله تعالى: وما علمنه الشعر وما ينبغى له ان هو الا ذكر وقران مبين ليمدر من كان حيا ويحق القول على الكفرين قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغى له " فيه أربع مسائل: لا أولى - أخبر تعالى عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم، ورد قول من قال من الكفار إنه شاعر، وإن القرآن شعر، بقوله: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " وكذلك كان رسول الله صلى عليه وسلم لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط صلى الله عليه وسلم. من ذلك أنه أنشد يوما قول طرفة: / ش ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا / وويأتيك من لم تزوده بالأخبار / ش وأنشد يوما وقد قيل له من أشعر الناس فقال الذي يقول: / ش ألم ترياني كلما جئت طارقا / ووجدت بها وإن لم تطب طيبا / ش (1) راجع ج 10 ص 140 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه. (*)
[ 52 ]
وأنشد يوما: / ش أتجعل نهبي ونهب العب / ويد بين الأقرع وعيينة / ش وقد كان عليه السلام ربما أنشد بيت المستقيم في النادر. روي أنه أنشد بيت عبد الله بن رواحة: / ش ببيت يجافي جنبة عن فراشه / وإذا استثقلت بالمشركين المضاجع / ش وقال الحسن بن أبي الحسن: أنشد النبي عليه السلام: / ش كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا / ش فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنما قال الشاعر: / ش هريرة ودع إن تجهزت غاديا / وكفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا / ش فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له ". وعن الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له. الثانية - إصابته الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانا من نثر كلامه ما يدخل في ورن، كقول يوم حنين وغيره: / ش (هل أنت إلا إصبع دميت / ووفي سبيل الله ما لقيت) / ش وقوله: / ش (أنا النبي لا كذب / وأنا ابن عبد المطلب) / ش فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفى كل كلام، وليس ذلك شعرا ولا في معناه، كقوله تعالى: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " [ آل عمران: 92 ]، وقوله: " نصر من الله وفتح قريب " [ الصف: 13 ]، وقوله: " وجفان كالجواب وقدور راسيات " [ سبأ: 13 ] إلى غير ذلك من الآيات. وقد ذكر ابن العربي منها آيات وتكلم عليها وأخرجها عن الوزن، على أن أبا الحسن الأخفش قافي قول: (أنا النبي لا كذب) ليس بشعر. وقال الخليل في كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا. وروي عنه أنه من منهوك الرجز. وقد قيل:
[ 53 ]
لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله: " لا كذب "، ومن قوله: " عبد المطلب ". ولم يعلم كيف قاله النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي: والأظهر من حال أنه قال: " لا كذب " الباء مرفوعة، ويخفض الباء من عبد المطلب على الإ ضافة. وقال النحاس قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا، لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول أو ضمها أو نونها، وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر. وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر. وهذا مكابرة العيان، لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. وأما قوله: " هل أنت إلا إصبع دميت " فقيل إنه من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من دميت، فإن سكن لا يكون شعرا بحال، لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول، ولا مدخل لفعول في بحر السريع. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع. والمعول عليه في الانفصال على تسليم أ ن هذا شعر، ويسقط الاعتراض، ولا يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بالشعر ولا شاعر أن التمثل بالبيت النزر وإصابة القافيتين من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالما بالشعر، ولا يسمى شاعرا باتفاق العلماء، كما أن من خاط خيطا لا يكون خياطا. قال أبو إسحق الزجاج: معنى: " وما علمناه الشعر " وما علمنا ه أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا. وقد قيل: إنما خبر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر ولم يخبر أنه لا ينشد شعرا، وهذا ظاهر الكلام. وقيل فيه قول بين، زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر. وهذا قول بين. قالوا: وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه، وأعاريضه وقوافيه والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفا بذلك بالاتفاق. ألا ترى أن قريشا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون
[ 54 ]
أصناف الشعر، فوالله ما يشبه شيئا منها، وما قوله بشعر. وقال أنيس أخو أبي ذر: لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم أنه شعر. أخرجه مسلم، وكان أنيس من أشعر العرب. وكذلك عتبة بن أبي ربيعة لما كلمه: والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، على ما يأتي بيانه من خبره في سورة " فصلت " إن شاء الله تعالى. وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء، واللسن البلغاء. ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعرا، وإنما بعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، فقد يقول القائل: حدثنا شيخ لنا وينادي يا صاحب الكسائي، ولا يعد هذا شعرا. وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو من عرض العامة العقلاء: اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى. الثالثة - روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر فقال: لا تكثرن منه، فمن عيبه أن الله يقول: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " قال: ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن أجمع الشعراء قبلك، وسلهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفة، وأحضر لبيدا ذلك، قال: فجمعهم فسألهم فقالوا إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدا فقال: ما قلت شعرا منذ سمعت الله عز وجل يقول: " الم ذلك الكتاب لا ريب فيه " [ البقرة: 1 - 2 ] قال ابن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر، كما لم يكن قوله: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " [ العنكبوت: 48 ] من عيب الكتابة، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط، كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر. روي أن المأمون قال لأبي علي المنقر ي: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن. فقال: يا أمير المؤمنين، أ ما اللحن فربما سبق لساني منه بشئ، وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقيم الشعر. فقال له: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا وهو الجهل، يا جاهل ! إن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لنفي الظنة عنه، لا لعيب في الشعر والكتابة. (1) أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره ومقاصده. (*)
[ 55 ]
الرابعة - قوله تعالى: " وما ينبغي له " أي وما ينبغي له أن يقول. وجعل الله جل وعز ذلك علما من أعلام نبيه عليه السلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه، فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر. ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به إلى الشعر ليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا، على ما تقدم بيانه. وقال الزجاج: معنى " وما ينبغي له " أي ما يتسهل ل قول الشعر إلا الإنشاء. " إن هو " أي هذا الذي يتلوه عليكم " ذكر وقرآن مبين " قوله تعالى: " لتنذر من كان حيا " أي حي القلب، قال قتادة. الضحاك: عاقلا. وقيل: المعنى لتنذر من كان مؤمنا في علم الله. هذا على قراءة التاء خطابا للنبي عليه السلام، وهي قراءة نافع وابن عامر. وقرأ الباقون بالياء على معنى لينذر الله عز وجل، أو لينذر محمد صلى الله عليه وسلم، أو لينذر القرآن. وروي عن ابن السميقع " لينذر " بفتح الياء والذال. " ويحق القول على الكافرين " أي وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة. قوله تعالى: أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعما فهم لها ملكون وذللنها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منفع ومشارب أفلا يشكرون قوله تعالى: " أولم يروا أنا خلقنا لهم " هذه رؤية القلب، أي أو لم ينظروا ويعتبرو ا ويتفكروا. " مما عملت أيدينا " أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. و " ما " بمعنى الذي وحذفت الها لطول الاسم. وإن جعلت " ما " مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء. " أنعاما " جمع نعم والنعم مذكر. " فهم لها مالكون " ضابطون قاهرون. " وذللناها لهم أي سخرناها لهم حتى يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرفه كيف شاء لا يخرج من طاعته. " فمنها ركوبهم " قراءة العامة بفتح الراء، أي مركوبهم، كما يقال: ناقة
[ 56 ]
حلوب أي محلوب. وقرأ الأعمش والحسن وابن السميقع: " فمنها ركوبهم " بضم الراء على المصدر. وروى عن عائشة أنها قرأت " فمنها ركوبتهم " وكذا في مصحفها والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة والحمول والحمولة. وحكى النحويون الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صبور وشكور بغير هاء. ويقولون: شاة حلوبة وناقة ركوبة، لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلا وأثبتو فيما كان مفعولا، كما قال: / ش فيها اثنتان وأربعون حلوبة / وسودا كخافية الغراب الأسحم / ش فيجب أن يكون على هذا ركوبتهم. فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب. والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. فعلى هذا يكون لتذكير الجمع. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز " فمنها ركوبهم " بضم الراء لأنه مصدر، والركوب ما يركب. وأجاز الفراء " فمنها ركوبهم " بضم الراء، كما تقول فمنها أكلهم ومنها شربهم. " ومنها يأكلون " من لحمانها " ولهم فيها منافع " من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك. " ومشارب " يعني ألبانها، ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد. " أفلا يشكرون " الله على نعمه. قوله تعالى: واتخذوما من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا نحزيك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون قوله تعالى: " ولتخذوا مى دون الله آلهة " أي قد رأوا هذه الآيات من قدوتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل. " لعلهم ينصرون " أي لما يرجون من نصرتها (1) هو عنرة بن شداد. (*)
[ 57 ]
لهم إن نزل بهم عذاب. ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل. " لا يستطيعون نصرهم " يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون، لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين. " وهم " يعني الكفار " لهم " أي للآلهة " جند محضرون " قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم. وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها، فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار. فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم، لأنهم يلعنونهم ويتبرءون من عبادتهم. وقيل: الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في ظنونهم. وفي الخبر: إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله فيتبعونه إلى النار، فهم لهم جند محضرون قلت: ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم من حد يث أبي هريرة، وفي الترمذي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إ نسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون " وذكر الحديث بطوله. " فلا يحزنك قولهم " هذه اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول يحزنك. والمراد تسلية نبيه عليه السلام، أي لا يحزنك قولهم شاعر ساحر. وتم الكلام تم استأنف فقال: " إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك. قوله تعالى: أو لم ير الانسن أنا خلقنه من نطفة فإذا هو خصيم مبين قوله تعالى: " أو لم ير الإنسان " قال ابن عباس: الإنسان هو عبد الله بن أبي. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وا السهمي. وقال الحسن: هو أبي بن خلف الجمحي.
[ 58 ]
وقاله ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عمالك. " أنا خلقناه من نطفة " وهو اليسير من الماء، نطف إذا قطر. " فإذا هو خصيم مبين " أي مجادل في الخصومة مبين للحجة. يريد بذلك أنه صار به بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل فقال: يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم " نعم ويبعثك الله ويدخلك النار " فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظم وهى رميم قل يحيها الذى أنشاها أول مرة وهو بكل خلق عليم قوله تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيى العظام وهى رميم " فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسى خلقه " أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة. أي جوا به من نفسه حاضر، ولهذا قال عليه السلام: " نعم ويبعثك الله ويدخلك النار " ففي هذا دليل على صحة القياس، لأن الله جل وعز احتج على منكري البعث بالنشأة الأو لى. " قال من يحيى العظام وهى رميم " أي بالية. رم العظم فهو رميم ورمام. وإنما قال رميم ولم يقل رميمة، لأنها معدولة عن فاعلة، وما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه، كقوله: " وما كانت أمك بغيا " [ مريم: 28 ] أسقط الهاء، لأنها مصروفة عن باغية. وقيل: إن هذا الكافر قال للنبى صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله ! فنزلت " قل يحييها الذى أنشاها أول مرة " أي من غير شى فهو قادر عى إعادتها في النشاة الثانية من شى وهو عجم الذنب. ويقال عجب الذنب بالياء. " وهو بكل خلق عليم " أي كيف بيدى ويعيد.
[ 59 ]
الثانيه - في هذه الآية دليل على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت. وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي رضي الله عنه: حياة فيها. وقد تقدم هذا في " النحل ". فإن قيل: أراد بقوله " من يحي العظام " أصحاب العظام وإقا مة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة، موجود في الشريعة. قلنا: إنما يكون إذ احتيج لضرورة وليس ها هنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى هذ ا التقدير، إذا الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له، فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه، قاله ابن العربي. قوله تعالى: الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذى خلق السموات والأرض بقدر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحن الذى بيده ملكوت كل شى واليه ترجعون قوله تعالى: " الذى جعل لكم من الشجر الأخض رنارا " نبه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الر طب. وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع حياة فخرج منها الحياة، والعظ م بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة ! فأنزل الله تعالى: " الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا " أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شئ قدير. معني بالآية (1) هذا يخالف مذهب الحنيفة وما تقدم للمؤلف في ج 10 ص 155 من أن أبا حنيفة يقول بطهارة عظم الميتة. (*)
[ 60 ]
ما في المرخ والعفار، وهي زنادة العرب، ومنه قولهم: في كل شجر نار واستمجد المر والعفار، فالعفار الزند وهو الأعلى، والمرخ الزندة وهي الأسفل، يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار. وقال: " من الشجر الأخضر " ولم يقل الخضراء وهو جمع، لأن رده إلى اللفظ. ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء، كما قال عز وجل: " من شجر من زقوم فمالئون منها البطون " [ الواقعة: 52 - 53 ]. ثم قال تعالى محتجا: " أو ليس الذي خلق السموات والأرض بفادر على أن يخلق مثلهم " أي أمثال المنكرين للبعث. وقرأ سلام أبو المنذر ويعقوب الحضرمي: " يقدر على أن يخلق مثلهم " على أنه فعل. " بلى " أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم، فالذي خلق السموات والأرض يقدر على أن يبعثهم. " وهو الخلا ق العليم " وقرأ الحسن باختلاف عنه " الخالق ". قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " قرأ الكسائي " فيكون " بالنصب عطفا على " يقول " أي إذا أراد خلق شئ لا يحتاج إلى تعب ومعالجة. وقد مضى هذا في غير موضع. " فسبحان الذى بيده ملكوت كل شى " نزه نفسه تعالى عن العجز والشرك وملكوت وملكوتي في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي. وقال سعيد عن قتادة: " ملكوت كل شئ " مفاتح كل شئ. وقرأ طلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي والأعمش " ملكة "، وهو بمعنى ملكوت إلا أنه خلاف المصحف. " وإليه ترجعون " أي تردون وتصيرون بعد مماتكم. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي وزر بن حبيش وأصحاب عبد الله " يرجعون " بالياء على الخبر. (1) استمجد المرخ والعفار: أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما. وهو مثل يضرب في تفضيل بعض الشئ على بعض. (*)
[ 61 ]
تفسير سورة الصافات مكية في قول الجميع بيسم الله الرحمن الرحيم والصفت صفا فالزجرات زجرا فالتليت ذكرا إن إلهكم لوحد رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشرق قوله تعالى: " والصافات صفا. فالزجرات زجرا. فالتاليات ذكرا " هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ حمزة بالإدغام فيهن. وهذه القراءة التي نفر منها أحمد بن حنبل لما سمعها. النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات: إحداهن أن التاء ليست من مخرج الصاد، ولا من مخرج الزاي، ولا من مخرج الذال، ولا من أخواتهن، وإنما أختاها الطاء والدال، وأخت الزاي الصاد والسين، وأخت الذال الظاء والثاء. والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى. والجهة الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة، نحو دابة وشابة. ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة المخرج من هذه الحروف. " والص افات " قسم، الواو بدل من الباء. والمعنى برب الصافات و " الزاجرات " عطف عليه. " إن إلهكم لواحد " جواب القسم. وأجاز الكسائي فتح إن في القسم. والمراد ب " الصافات " وما بعدها إلى قوله: " فالتاليات ذكرا " الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. تصف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة. وقيل: تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد. وهذا كما تقوم العبيدبين أيدي ملوكهم صفوفا. وقال الحسن: " صفا " لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم. وقيل: هي الطير، دليله قوله
[ 62 ]
تعالى: " أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات " [ الملك: 19 ]. والصف ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة. والصافات " جمع الجمع، يقال: جماعة صافة ثم يجمع صافات. وقيل: الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد، ذكره القشيري. " فالزاجرات " الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود ومسروق وغيرهم على ما ذكرناه. إما لأنها تزجر السحاب وتسوقه في قول السدي. وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح. وقال قتادة: هي زواجر القرآن. " فالتاليات ذكرا " الملائكة تقرأ كتاب الله تعالى، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي. وقيل: المراد جبريل وحده فذكر بلفظ الجمع، لأنه كبير الملائكة فلا يخلو من جنود وأتباع. وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله تعالى وكتبه. وقيل: هي آيات القرآن وصفها بالتلا وة كما قال تعالى: " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل " [ النمل: 76 ]. ويجوز أن يقال لآيات القرآن تاليات، لأن بعض الحروف يتبع بعضا، ذكره القشيري. وذكر الماوردي: أن المراد بالتاليات الأنبياء يتلون الذكر على أممهم. فإن قيل: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات ؟ قيل له: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود، كقوله: / ش يا لهف زيابة للحارث الص / وابح فالغانم فالآيب / ش كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم الله المحلقين فالمقصرين. فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفا ء العاطفة في الصفات، قاله الزمخشري. " إن إلهكم لواحد " جواب القسم. قال مقاتل: وذلك أن الكفار بمكة قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا، وكيف يسع هذا الخلق فر د إله ! فأقسم الله بهؤلاء تشريفا. (1) هو سلبة بن ذهل ويعرف بابى زيابة وزيابة أبوه، وقيل اسم أمه. يقول يا لهف أبى على الحرث إذا صبح قومي بالغارة فغنم وآب سالما ألا أكون لقينه فقنلنه. ويريد يا لهف نفسي. والحرث هو الحرث بن همام الشيباني كما في شرح أشعار الحماسة. وبعد هذا البيت: / ش والله لو لا قيته خاليا / ولآب سيقانا مع الغالب / ش (*)
[ 63 ]
ونزلت الآية. قال ابن الأنباري: وهو وقف حسن، ثم تبتدى " رب السموات والارض " على معنى هو رب السموات. النحاس: ويجوز أن يكون " رب السموات والأرض " خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلا من " واحد ". قلت: وعلى هذين الوجهين لا يوقف على " لواحد ". وحكى الأخفش: " رب السموات ورب المشارق " بالنصب على النعت لاسم إن. بين سبحانه معنى وحدانيته وألوهيته وكمال قدرته بأنه " رب السموات والأرض " أي خالقهما ومالكهما " وما بينها ورب المشارق " أي مالك مطالع الشمس. ابن عباس: للشمس كل يوم مشرق ومغرب، وذلك أن الله تعالى خلق للشمس ثلاثمائة وخمسة وستين كوة في مطلعها، ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية، تطلع في كل يوم في كوة منها، وتغيب في كوة، لا تطلع في تلك الكوة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل. ولا تطلع إلا وهي كارهة فتقول: رب لا تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك. ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد، وابن الأنباري في كتاب الر د عن عكرمة، قال: قلت لابن عباس أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت " آمن شعره وكفر قلبه " قال: هو حق فما أنكرتم من ذلك ؟ قلت: أنكرنا قول: / ش والشمس تطلع كل آخر ليلة / وحمراء يصبح لونها يتورد / ش / ش ليست بطالعة لهم في رسلها / و إلا معذبة وإلا ت جلد / ش ما بال الشمس تجلد ؟ فقال: والذي نفسي بيده ما طلعت شمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك، فيقولون لها اطلعي اطلعي، فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها ملك فيستقل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها، فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان وما غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها " لفظ ابن الأنباري. وذكر
[ 64 ]
عن عكرمة عن ابن عباس قال: صدق رسول ا لله صلى الله عليه وسلم أمية بن أبي الصلت في هذا الشعر: / ش زحل وثور تحت رجل يمينه / ووالنسر للأخرى وليث مرصد / ش / ش والشمس تطلع كل آخر ليلة / وحمراء يصبح لونها يتورد / ش / ش ليست بطالعة لهم في رسلها / وإلا معذبة وإلا تجلد / ش قال عكرمة: فقلت لابن عباس: يا مولاي أتجلد الشمس ؟ فقال: إنما اضطره الروي إلى الجلد لكنها تخاف العقاب. ودل بذكر المطالع على المغارب، فلهذا لم يذكر المغارب، وهو كقوله: " سرابيل تقيكم الحر " [ النحل: 81 ]. وخص المشارق بالذكر، لأن الشروق قبل الغروب. وقال في سورة [ الرحمن ] " رب المشرقين ورب المغربين " [ الرحمن: 17 ] أراد بالمشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار على ما تقدم في " يس " والله أعلم. قوله تعالى: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطن مارد لا يسمعون إلى الملا الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " قال قتادة: خلقت النجوم ثلاثا، رجوما للشياطين، ونورا يهتدى بها، وزينة لسماء الدنيا. وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وعاصم وحمزة " بزينة " مخفوض منون " الكواكب " خفض على البدل من " زينة " لأنها هي. وقرأ أبو بكر كذلك إلا أنه نصب " الكواكب " بالمصدر الذي هو زينة. والمعنى بأن زينا الكواكب فيها. ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعنى، كأنه قال: إنا زيناها " بزينة " أعني " الكواكب ". وقيل: هي بدل من زينة على الموضع. (1) راجع ص 27 وما بعدها من هذا الجزء. (*)
[ 65 ]
ويجوز " بزينة الكواكب " بمعنى أن زينتها الكواكب. أو بمعنى هي الكواكب. الباقون " بزينة الكواكب " على الإضافة. والمعنى زينا السماء الدنيا بتزيين الكواكب، أي بحسن الكواكب. ويجوز أن يكون كقراءة من نون إلا أنه حذف التنوين استخفافا. " وحفظا " مصدر أي حفظناها حفظنا. " من كل شيطان مارد " لما أخبر أن الملائكة تنزل بالوحي من السماء، بين أنه حرس السماء عن استراق السمع بعد أن زينها بالكواكب. والمارد: العاتي من الجن والإنس، والعرب تسميه شيطانا. قوله تعالى: " لا يسمعون الى الملا الاعلى " قال أبو حاتم: أي لئلا يسمعوا ثم حذف " أن " فرفع الفعل. الملأ الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمي الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملأ الأرض. الضمير في " يسمعون " للشياطين. وقرأ جمهور الناس " يسمعون " بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص " لا يسمعون " بتشديد السين والميم من التسميع. فينتفي على القراءة الأولى سماعهم وإن كانوا يستمعون، وهو المعنى الصحيح، ويعضده قوله تعالى: " إنهم عن السمع لمعزولون " [ الشعراء: 212 ]. وينتفي على القراءة الأخيرة أن يقع منهم استماع أو سماع. قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. وروي عن ابن عباس " لا يسمعون إلى الملأ " قال: هم لا يسمعون ولا يتسمعون. وأصل " يسمعون " يتسمعون فأدغمت التاء في السين لقربها منها. واختارها أبو عبيد، لأن العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه وتقول تسمعت إليه. " ويقذفون من كل جانب " أي يرمون من كل جانب، أي بالشهب. " دحورا " مصدر لأن معنى " يقذفون " يدحرون. دحرته دحرا ودحورا أي طردته. وقرأ السلمي ويعقوب الحضرمي " دحورا " بفتح الدال يكون مصدرا على فعول. وأما الفراء فإنه قدره على أنه اسم الفاعل. أي ويقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء، والكوفيون يستعملون هذا كثير كما أنشدوا: / ش تمرون الديار ولم تعوجواش / (1) الزيادة من اعراب القرآن للنحاس. والبيت لجرير وتمامه: / ش كلامكم على إذن حرام ش / (*)
[ 66 ]
واختلف هل كان هذا القذف قبل المبعث، أو بعده لأجل المبعث، على قولين. وجاءت الأحاديث بذلك على ما يأتي من ذكرها في سورة " الجن " عن ابن عباس. وقد يمكن الجمع بينهما أن يقال: إن الذين قالوا لم تكن الشياطين تر مى بالنجوم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم رميت، أي لم تكن ترمى رميا يقطعها عن السمع، ولكنها كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب. ولعل الإشارة بقوله تعالى: " ويقذفون من كل جانب. دحورا ولهم عذاب وا صب " إلى هذا المعنى، وهو أنهم كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصبا. وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره، ويزسلزم واحد ولا يزسلزم غيره، بل يقبض عليه ويعاقب وينكل. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد في حفظ السماء، وأعدت لهم شهب لم تكن من قبل، ليدحروا عن جميع جوانب السماء، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها، فصاروا لا يقدرون على سماع شئ مما يجري فيها، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه، فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوة. فإن قيل: إن هذا القذف إن كا ن لأجل النبوة فلم دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فالجواب: أنه دام بدوام النبوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة فقال: " ليس منا من تكهن " فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها، وعادت الكهانة. ولا يجوز ذلك بعد أن بطل، ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة، فصح أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي عليه السلام، وبعد أن توفاه الله إلى كرامته صلى الله عليه وعلى آله. " ولهم عذاب واصب " أي دا ئم، عن مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس: شديد. الكلبي والسدي وأبو صالح: موجع، أ ي الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب وهو المرض " إلا من خطف الخطفة " استثناء من قوله: " ويقذفون من كل جانب ". وقيل: الاستثناء يرجع إلى غير
[ 67 ]
الوحي، لقوله تعالى: " إنهم عن السمع لمعزولون " [ الشعراء: 212 ] فيسترق الواحد منهم شيئا پمما يتفاوض فيه الملائكة، مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض، وهذا لخفة أجسام الشياطين فيرجمون بالشهب حينئذ. وروي في هذا الباب أحادث صحاح، مضمنها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، فتقعد للسمع واحدا فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي الله تعالى الأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه على ما بيناه. فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة فيصدق الجاهلون الجميع كما بيناه في [ الأنعام ]. فلما جاء الله بالإسلام حرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع بتة. والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض. قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها، لأنها قريبة منا. وقد مضى في هذا الباب في سورة " الحجر " من البيان ما فيه كفاية. وذكرنا في " سبأ " حديث أبي هريرة. وفيه " والشياطين بعضهم فوق بعض " وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح. وفيه عن ابن عباس: " ويختطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون ". قال هذا حديث حسن صحيح. والخطف: أخذ الشئ بسرعة، يقال خطف وخزطف وخطف وخطف. والأصل في المشددات اختطف فأدغم التاء في الطاء لأنها أختها، وفتحت الخاء، لأن حركة التاء ألقيت عليها. ومن كسرها فلالتقا ء الساكنين. ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر. " فاتبعه شهاب ثاقب " أي مضئ، قاله الضحاك والحسن وغيرهما. وقيل: المراد كواكب النار تتبعهم حتى تسقطهم في البحر. وقال ابن عباس في الشهب: تحرقهم من غير موت. وليست الشهب التي يرجم الناس بها (1) راجع ج 7 ص 3 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 10 ص 10 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع 14 ص 296 طبعة أولى أو ثانيه. (5) زيادة يقنضيها السياق، ويدل عليها ما في إعراب القرآن للنحاس. (*)
[ 68 ]
من الكواكب الثوابت. يدل على ذلك رؤية حركاتها، والثابتة تجري ولا ترى حركاتها لبعدها. وقد مضى هذا. وجمع شهاب شهب، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يسمع من العرب و " ثاقب " معناه مضئ، قاله الحسن ومجاهد وأبو مجلز. ومنه قوله: / ش وزندك أثقب أزنادها / ش أي أضوأ. وحكى الأخفش في الجمع: شهب ثقب وثواقب وثقاب. وحكى الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوبا إذا اتقدت، وأثقبتها أنا. وقال زيد بن أسلم في الثاقب: إنه المستوقد، من قولهم: أثقب زندك أي استوقد نارك، قال الأخفش. وأنشد قول الشاعر: / ش بينما المرء شهاب ثاقب / وضرب الدهر سناه فخمد / ش قوله تعالى: فاستفتهم أهم اشد خلقا أم خلقنا انا خلقنهم من طين لازب بل عجب ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا راوا ءاية يستسخرون وقالوا ان هذا الا سحر مبين أءذا متنا وكنا وعظما أءنا لمبعوثون أو ءاباونا الاولون قوله تعالى: " فاستفتهم " أي سلهم يعني أهل مكة، مأخوذ من استفتاء المفتي. " أهم اشد خلقا أم من خلقنا " قال مجاهد: أي من خلقنا من السموات والأرض والجبال والبحار. وقيل: يدخل فيه الملائكة ومن سلف من الأمم الماضية. يدل على ذلك أنه أخبر عنهم " بمن " قال سعيد بن جبير: الملائكة. وقال غيره: " من " الأمم الماضية وقد هلكوا وهم أشد خلقا منهم. نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وسمى بأبى الأشد لشدة بطشه وقوته. وسيأتي في " البلد " ذكره. ونظير هذه: " لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس " غافر: 57 ] وقوله: " أأنتم أشد خلقا أم السماء " [ النازعات: 27 ]. " إنا خلقناهم من طين لازب " أي لاصق، قال ابن عباس. ومنه قول علي رضي الله عنه: / ش تعلم فإن الله زادك بسطة / ووأخلاق خير كلها لك لازب / ش
[ 69 ]
وقال قتادة وابن زيد: معنى " لازب " لازق. الماوردي: والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق: هو الذي قد لصق بعضه ببعض، واللازق: هو الذي يلتزق بما أصابه. وقال عكرمة: " لازب " لزج. سعيد بن جبير: أي جيد حر يلصق باليد. مجاهد " لازب " لازم. والعرب تقول: طين لازب ولازم، تبدل الباء من الميم. ومثله قولهم لا تب ولازم. على إبدال الباء بالميم. واللازب الثابت، تقول: صار الشئ ضربة لاز ب، وهو أفصح من لازم. قال النابغة: / ش ولا تحسبون الخير لا شر بعده / وولا تحسبون الشر ضربة لازب / ش وحكى الفراء عن العرب: طين لاتب بمعنى لازم. واللاتب الثابت، تقول منه: لتب يلتب لتبا ولتوبا، مثل لزب يزب بالضم لزوبا، وأنشد أبو الجراح في اللاتب: / ش فإن يك هذا من نبيذ شربته / وفإني من شرب النبيذ لتائب / ش / ش صداع وتوصيم العظام وفترة / ووغم مع الإشراق في الجوف لاتب / ش واللاتب أيضا: اللاصق مثل اللازب، عن الأصمعي حكاه الجوهري. وقال السدي والكلبي في اللازب: إنه الخالص. مجاهد والضحاك: إنه المنتن. قوله تعالى: " بل عجبت ويسخرون " قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم بفتح التاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، أي بل عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون به. وهي قراءة شريح وأنكر قراءة الضم وقال: إن الله لا يعجب من شئ، وإنما يعجب من لا يعلم. وقيل: المعنى بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بضم التاء. واختارها أبو عبيد والفراء، وهي مروية عن علي وابن مسعود، رواه شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: " بل عجبت " بضم التاء. ويروى عن ابن عباس. قال الفراء في قوله سبحانه: " بل عجبت ويسخرون " قرأها الناس بنصب (1) قوله: وغم مع الاشراق كرواية اللسان. ورواية الطبري: وغثى مع الاشراق. (2) الزيادة من تفسير الالوسى. (*)
[ 70 ]
التاء ورفعها، والرفع أحب إلي، لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس. وقال أبو زكريا القراء: العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه من العباد، وكذلك قوله: " " الله يستهزى بهم " ليس ذلك من الله كمعناه من العباد. وفى هذا بيان الكسر لقول شريح حيث أنكر القراءة بها. روى جرير والأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قرأها عبد الله يعني ابن مسعود " بل عجبت ويسخرون " قال شريح: إن الله لا يعجب من شئ إنما يعجب من لا يعلم. قال الأعمش فذكرته لإبر اهيم فقال: إن شريحا كان يعجبه رأيه، إن عبد الله كان أعلم من شريح وكان يقرؤها عبد الله " بل عجبت، ". قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله: " بل عجبت " بل جازيتهم على عجبهم، لأن الله تعالى أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق، فقال: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم " [ ص: 4 ] وقال: " إن هذا لشئ عجاب "، " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم " [ يونس: 2 ] فقال تعالى: " بل عجبت " بل جازيتهم على التعجب. قلت: وهذا تمام معنى قول الفراء واختاره البيهقي. وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد، التقدير: قيل يا محمد بل عجبت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن. النحاس: وهذا قول حسن وإضمار القول كثير. البيهقي: والأول أصح. المهدوي: ويجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه بالعجب محمولا على أنه أظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين، كما يحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن يرضى عنه - على ما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - على أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوقين مجازا واتساعا. قال الهروي: ويقال معنى (عجب ربكم) أي رضي وأثاب، فسماه عجبا وليس بعجب في الحقيقة، كما فال تعالى: " ويمكر الله " [ الأنفال: 30 ] معناه ويجازيهم الله على مكرهم، ومثله في الحديث (عجب ربكم من إلك، م وقنوطكم). وقد يكون العجب بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله عظيما. فيكون معنى قوله: " بل عجبت " أي بل عظم فعلهم عندي. قال البيهقي: ويشبه أن يكون هذا معنى حديث عقبة بن عامر قال:
[ 71 ]
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " عجب ربك من شاب ليست له صبوة " وكذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل " قال البيهقي: وقد يكون هذا الحديث وما ورد من أمثاله أنه يعجب ملائكته من كرمه ورأفته بعباده، حين حملهم على الإيمان به بالقتال والأسر في السلاسل، حتى إذا آمنوا أدخلهم الجنة. وقيل: معنى " بل عجبت " بل أنكرت. حكاه النقاش. وقال الحسين بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشئ وتعظيمه، وهو لغة العرب. وقد جاء في الخبر " عجب ربكم من إلكم وقنوطكم ". " ويسخرون " قيل: الواو واو الحال، أي عجبت منهم في حال سخريتهم. وقيل: تم الكلام عند فوله: " بل عجبت " ثم استأنف فقال: " ويسخرون " أي مما جئت به إذا تلوته عليهم. وقيل: يسخرون منك إذ ا دعوتهم. قوله تعالى: " وإذا ذكروا " أي وعظوا بالقرآن في قول قتادة: " لا يذكرون " لا ينتفعون به. وقال سعيد بن جبير: أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين من قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا. " وإذا راوا آية " أي معجزة " يستسخرون " أي يسخرون في قول قتادة. ويقولون إنها سحر. واستسخر وسخر بمعنى د مثل استقر وقر، واستعجب، وعجب. وقيل: " يستسخرون " أي يستدعون السخري من غيرهم. وقال مجاهد: يستهزئون. وقيل: أي يظنون أن تلك الآية سخرية. " وقالوا إن هذا إلا سحر مبين " أي إذا عجزوا عن مقابلة المعجزات بشئ قالوا هذا سحر وتخييل وخداع. " أئذا متنا " أي انبعث إذا متنا ؟. فهو استفهام إنكار منهم وسخرية. " أو آباؤنا الأولون " أي أو تبعث آباؤنا. دخلت ألف الاستفهام على حرف العطف. قرأ نافع: " أو آباؤنا " بسكون الواو. وقد مضى هذا في سورة " الأعراف ". في قوله تعالى: " أو أمن أهل القرى " [ الأعراف: 98 ]. (1) الزيادة من البخاري وفى الاصل بياض. (2) راجع ج 7 ص 253 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 72 ]
قوله تعالى: قل نعم وأنتم دخرون فانما هي زجرة وحدة فإذا هم ينظرون وقالوا يويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون قوله تعالى: " قل نعم " أي نعم تبعثون. " وأنتم داخرون " أي صاغرون أذلاء، لأنهم إذا رأوا وقوع ما أنكروه فلا محالة يذلون وقيل: أي ستقو م القيامة وإن كرهتم، فهذا أمر واقع على رغمكم وإن أنكرتموه اليوم بزعمكم. " فانما هر زجرة واحدة " أي صيحة واحدة، قاله الحسن وهي النفخة الثانية. وسميت الصيحة زجرة، لأن مقصودها الزجر أي يزجر بها كزجر الإبل والخيل عند السوق. " فإذا هم " قيام " ينظرون " أي ينظر بعضهم إلى بعض. وقيل: المعنى ينتظرون ما يفعل بهم. وقيل: هي مثل قوله: " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا " [ الأنبياء: 97 ]. وقيل: أي ينظرون إلى البعث الذي أنكروه. قوله تعالى: " وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين " نادوا على أنفسهم بالويل، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم. وهو منصوب على أنه مصدر عند البصريين. وزعم الفراء أن تقديره ياوي لنا، ووي بمعنى حزن. النحا س: ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا. و " يوم الدين " يوم الحساب. وقيل: يوم الجزاء. " هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون " قيل: هو من قول بعضهم لبعض، أي هذا اليوم الذي كذبنا به. وقيل: هو قول الله تعالى لهم. وقيل: من قول الملائكة، أي هذا يوم الحكم بين الناس فيبين المحق من المبطل. ف " فريق في الجنة وفريق في السعير " [ الشورى: 7 ]. قوله تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم الى صراط الجحيم وقفوهم انهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستبسلمون
[ 73 ]
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا انكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطن بل كنتم قوما طغين فحق علينا قولف ربنا انا لذائقون فأغوينكم انا كنا غوين فإنهم يومئذ في الغذاب مشتركون انا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا اله الا الله يستكبرون قوله تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " , هو من قول الله تعالى للملائكة: " احشروا " المشركين " وأزواجهم " أي أشياعهم في الشرك، والشرك الظلم، قال الله تعالى: " إن الشرك لظلم عظيم " [ لقمان: 13 ] فيحشر الكافر مع الكافر، قاله قتادة وأبو العالية. وقال عمر بن الخطاب في قول الله عز وجل: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " قال: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السر قة. وقال ابن عباس: " وأزواجهم " أي أشباههم. وهذا يرجع إلى قول عمر. وقيل: " وأزو اجهم " نساؤهم الموافقات على الكفر، قاله مجاهد والحسن، ورواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب. وقال الضحاك: " وأزواجهم " قرناءهم من الشياطين. وهذا قول مقا تل أيضا: يحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة. " وما كانوا يعبدون. من دون الله " من الأصنام والشياطين وإبليس. " فاهدوهم الى صراط الجحيم " أي سوقوهم إلى النار. وقيل: " فأهدوهم " أي دلوهم. يقال: هديته إلى الطريق، وهديته الطريق، أي دللته عليه. وأهديت الهدية وهديت العروس، ويقال أهديتها، أي جعلتها بمنزلة الهدية. قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسئولون " وحكى عيسى بن عمر " أنهم " بفتح الهمزة. قال الكسائي: أي لأنهم وبأنهم، يقال: وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا، يتعدى ولا يتعدى، أي احسبوهم. وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم، وفيه تقديم وتأخير،
[ 74 ]
أي قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار. وقيل: يساقون إلى النار أولا ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار. " إنهم مسئولون " عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم، قال القرظي والكلبي. الضحاك: عن خطاياهم. ابن عباس: عن لا إله إلا الله. وعنه أيضا: عن ظلم الخلق. وفي هذا كله دليل على أن الكافر يحاسب. وقد مضى في " الحجر " الكلام فيه. وقيل سؤالهم أن يقال لهم: " ألم يأتكم رسل منكم " [ الأنعام: 130 ] إقامة للحجة. ويقال لهم: " ما لكم لا تناصرون " على جهة التقريع والتوبيخ، أي ينصر بعضكم بعضا فيمنعه من عذاب الله. وقيل: هو إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر: " نحن جميع منتصر " [ القمر: 44 ]. وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وشدد البزي التاء في الوصل. قوله تعالى: " بل هم اليوم مستسلمون " قال قتادة: مستسلمون في عذاب الله عز وجل. ابن عباس: خاضعون ذليلون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم. والمعنى متقارب. " وأقبل بعضهم على بعض " يعني الرؤساء والأتباع " يتساءلون " يتخاصمون. ويقال لا يتساءلون فسقطت لا. النحاس: وإنما غلط الجاهل باللغة فتوهم أن هذا من قوله: " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " [ المؤمنون: 101 ] إنما هو لا يتساءلون بالأرحام، فيقول أحدهم: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك لما نفعتني، أو أسقطت لي حقا لك علي، أو وهبت لي حسنة. وهذا بين، لأن قبله " فلا أنساب بينهم " [ المؤمنون: 101 ]. أي ليس ينتفعون بالأنساب التي بينهم، كما جاء في الحديث: " إن الرجل ليسر بأن يصبح له على أبيه أو على ابنه حق فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات "، وفي حديث آخر: " رحم الله امرأ كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فأتاه فاستحله قبل أن يطالبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب ". و " يتساءلون " ها هنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبخه في أنه أضله أو فتح بابا من المعصية، يبين ذلك أن بعده " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " قال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين. قتادة: هو قول الإنس للجن. وقيل: هو من قول (1) راجع ج 10 ص 60 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 75 ]
الأتباع للمتبوعين، دليله قول تعالى: " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول " [ سبأ: 31 ] الآية. قال سعيد عن قتادة: أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها. وعن ابن عباس نحو منه. وقيل: تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح. والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقيل: " تأتوننا عن اليمين " تأتوننا مجئ من إذا حلف لناصدقناه. وقيل: تأتوننا من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قلت: وهذا القول حسن جدا، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة. وقيل: اليمين بمعنى القوة، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، قال الله تعالى: " فراغ عليهم ضربا باليمين " [ الصافات: 93 ] أي بالقوة وقوة الرجل في يمينه، وقال الشاعر: / ش إذا ما راية ر فعت لمجد / وتلقاها عرابة باليمين / ش أي بالقوة والقدرة. وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد: " تأتوننا عن اليمين " أي من قبل الحق أنه معكم، وكله متقارب المعنى. " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين " قال قتادة: هذا قول الشياطين لهم. وقيل: من قول الرؤساء، أي لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم منه إلى الكفر، بل كنتم على الكفر فأقمتم عليه للألف والعادة. " وما كان لنا عليكم من سلطان " أي من حجة في ترك الحق " بل كنتم قوما طاغين " أي ضالين متجاوزين الحد. " فحق علينا قول ربنا " هو أيضا من قول المتبوعين، أي وجب علينا وعليكم قول ربنا، فكلنا ذائقوا العذاب، كما كتب الله وأخبر على ألسنة الرسل " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " [ السجدة: 13 ]. وهذا موافق للحديث: (إن الله جل وعز كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم). " فأغويناكم " أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر " إنا كنا غاوين " بالوسوسة والاستدعاء. ثم قال خبرا عنهم: " فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون " الضال والمضل. " إنا كذلك " أي مثل هذا الفعل " نفعل بالمجرمين " أي المشركين. ! إنهم كانوا إذا قيل لهم لا اله الا الله يستكبرون " أي إذا قيل لهم قولوا فأضمر القول.
[ 76 ]
و " يستكبرون " في موضع نصب على خبر كان. ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عند موته واجتماع قريش " قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم " أبوا وأنفوا من ذلك. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنز ل الله تعالى في كتابه فذكر قوما استكبروا فقال: " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " وقال تعالى: " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا احق بها وأهلها " [ الفتح: 26 ] وهي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) استكبر عنها المشركون يوم الحديبة يوم كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة، ذكر هذا الخبر البيهقي، والذي قبله القشيري. قوله تعالى: ويقولون أئنا لتاركوا ء الهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين إنكم لذائقوا العذاب الاليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين قوله تعالى: " ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون " أي لقول شاعر مجنون، فرد الله جل وعز عليهم فقال: " بل جاء بالحق " يعني القرآن والتوحيد " وصدق المرسلين " فيما جاءوا به من التوحيد. " إنكم لذائقو العذاب الأليم " الأصل لذائقون فحذفت النون استخفافا وخفضت للإضافة. ويجوز النصب كما أنشد سيبويه: / ش فألفيته غير مستعتب / وولا ذاكر الله إلا قليلا / ش وأجاز سيبويه " والمقيمي الصلاة " على هذا. " وما تجزون إلا ما كنتم تعملون " أي إلا بما عملتم من الشرك " إا عباد الله المخلصين " لاستثناء ممن يذوق العذاب. وقراءة أهل المدينة والكوفة " المخلصين " بفتح اللام، يعني الذين أخلصهم الله لطاعته ودينه وولايته. الباقون بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لله العبادة. وقيل: هو استثناء منقطع، أي إنكم أيها المجرمون ذائقوا ا لعذاب لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب.
[ 77 ]
قوله تعالى: اولئك لهم رزق معلوم فوكه وهم مكرمون في حنت النعيم على سرر متقبلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قصرت الطرف عين كأنهم بيض مكنون قوله تعالى: " اولئك لهم رزق معلوم " يعني المخلصين، أي لهم عطية معلومة لا تنقطع. قال قتادة: يعني الجنة. وقال غيره: يعني رزق الجنة. وقيل: هي الفواكه التي ذكر قال مقاتل: حين يشتهونه. وقال ابن السائب: إنه بمقدار الغداة والعشي، قال الله تعالى: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " [ مريم: 62 ]. " فواكه " جمع فاكهة، قال الله تعالى: " وأمددناهم بفاكهة " [ الطور: 22 ] وهي الثمار كلها رطبها ويابسها، قاله ابن عباس. " في جنات النعيم " أي ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه. " في جنات النعيم " أي في بساتين يتنعمون فيها. وقد تقدم أن الجنان سبع في سورة [ يونس ] منها النعيم. قوله تعالى: " عى سرر متقابلين " قال عكرمة ومجاهد: لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلا وتحاببا. وقيل: الأسرة تدور كيف شاءوا فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس: على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية، وما بين عدن إلى أيلة. وقيل: تدور بأهل المنزل الواحد. والله أعلم. قوله تعالى: " يطاف عليهم بكأس من معين " لما ذكر مطاعمهم ذكر شرابهم. والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا إناء وقدح. النحاس: وحكى من يوثق به من أهل اللغة (1) راجع ج 8 ص 329 وما بعدها طبعة أو أولى ثانيه. (*)
[ 78 ]
أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح، كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة. قال أبو الحسن ابن كيسان: ومنه ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وقال الزجاج: " بكأس من معين " أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض. والمعين: الماء ا لجاري الظاهر. " بيضاء " صفة للكأس. وقيل: للخمر. " لذة للشاربين " قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. " لذة " قال الزجاج: أي ذات لذة فحذف المضاف. وقيل: هو مصدر جعل اسما أي بيضا لذيذة، يقال شراب لذ ولذيذ، مثل نبات غض وغضيض. فأما قول القائل: / ش ولذ كطعم الصرخدي تركته / وبأرض العدا من خشية الحدثان / ش فانه يريد النوم. وقيل: " بيضاء " أي لم يعتصرها الرجال بأقدامهم. " لا فيها غول " أي لا تغتال عقولهم، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع. " ولا هم عنها ينزفون " أي لا تذهب عقولهم بشربها، يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، أي تذهب بها. وقال: نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف إذا سكر. قال امرؤ القيس: / ش وإذا هي تمشي كمشي النزي / وف يصرعه بالكثيب البهر / ش وقال أيضا: / ش نزيف إذا قام لوجه تمايلت / وتراشي الفؤاد الرخص ألا تخرا / ش وقال آخر: / ش فلثمت فاها آخذا بقرونها / وشرب النزيف ببرد ماء الحشرج / ش (1) هو الراعى. ويروى: / ش ولذ كطعم الصرخدى طرحته / عشية خمس القوم والعين عاشقه والصرخد موضع ينسب إليه الشراب. أراد أنه لما دخل ديار أعدائه لم ينم حذارالهم. (2) البهر: الكلال وانقطاع النفس. (3) الختر: ضعف يأخذ عنه شراب الدواء أو السم. يقول هي سكرى من الشراب، إذا قامت به لوجه وجدت فتورا في عطامها وكسلا، فهى تدارى فؤادها وتراشيه ألا يعذبها في مشيها. (4) هو جميل بن معمر. وقيل البيت: لعمر بن أبى ربيعة. والحشرج نقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيصفو. (*)
[ 79 ]
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي، من أ نزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر، يقال: أحصد الزرع إذا حان حصاده، وأقطف الكرم إذا حان قطافه، وأركب المهر إذا حان ركوبه. وقيل: المعنى لا ينفدو ن شرابهم، لأنه دأبهم، يقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. قال الحطيئة: / ش لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم / ولبئس الندامى كنتم آل أبجرا / ش النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى، لأن معنى " ينزفون " عند جلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم، فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. ومعنى " ينزفون " الصحيح فيه أنه يقال: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة، ولكن مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدا. وقيل: " لا ينزفون " بكسر الزاي لا يسكرون، ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القشيري. المهدوي: ولا يكون معناه يسكرون، لأن قبله " لا فيها غول ". أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارا، ويسوغ ذلك في " الواقعة ". ويجوز أن يكون معنى " لا فيها غول " لا يمرضون، فيكون معنى " ولا هم عنها ينزفون " لا يسكرون أو لا ينفد شرابهم. قال قتادة الغول وجع البطن. وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد " لا فيها غول " قال لا فيها وجع بطن. الحسن: صداع. وهو قول ابن عباس: " لا فيها غول " لا فيها صداع. وحكى الضحاك عنه أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقئ والبول، فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. مجاهد: داء. ابن كيسان: مغص. وهذه الأقوال متقاربة. وقال الكلبي: " لا فيها غول " أي إثم، نظيره: " لا لغو فيها ولا تأثيم " [ الطور: 23 ]. وقال الشعبي والسدي وأبو عبيدة: لا تغتال عقولهم فتذهب بها. ومنه قول الشاعر: / ش وما زالت الكأس تغتالنا / وتذهب بالأول الأول / ش (1) نسبه الجوهر يالى الابيردى. وأبجر هو أبجر بن جابر العجلى وكان نصرانيا. (*)
[ 80 ]
أي تصرع واحدا واحدا. وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم بنعيمهم. وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق في خفاء. يقال: اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية. ومنه الغول والغيلة: وهو القتل خفية. قوله تعالى: " وعندهم قاصرات الطرف " أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم. عكرمة: " قاصرات الطرف " أي محبوسات على أزواجهن. والتفسير الأول أبين، لأنه ليس في الآية مقصورات ولكن في موضع آخر " مقصورات " يأتي بيانه. و " قاصرات " مأخوذ من قولهم: قد أقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره، قال امرؤ القيس: / ش من القاصرات الطرف لو دب محول / ومن الذر فوق الإتب منها لأثرا / ش ويروى: فوق الخد. والأول أبلغ. والإتب القميص، والمحول الص غير من الذر. وقال مجاهد أيضا: معناه لا يغرن. " عين " عظام العيون الواحدة عيناء،، وقال السدي. مجاهد: " عين " حسان العيون. الحسن: الشديدات بياض العين، الشديد ات سوادها. والأول أشهر في اللغة. يقال: رجل أعين واسع العين بين العين، والجمع عين. وأصله فعل بالضم فكسرت العين، لئلا تنقلب الواو ياء. ومنه قيل لبقر الوحش عين، والثور أعين، والبقرة عيناء. " كانهن بيض مكنون " أي مصون. قال الحسن وابن زيد: شبهن ببيض النعام، تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة وهو حسن ألوان النساء. وقال ابن عباس وابن جبير والسدي: شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي. وقال عطاء: شبهن بالسحاء الذي يكون بين القشر ة العليا ولباب البيض. وسحاة كل شئ: قشره والجمع سحا، قاله الجوهري. ونحوه قول الطبري، قال: هو القشر الرقيق، الذي على البيضة بين ذلك. وروي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعرب تشبه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها، قال امرؤ القيس: / ش وبيضة خدر لا يرام خباؤها / وتمتعت من لهو بها غير معجل / ش
[ 81 ]
وتقول العرب إذا وصفت الشئ بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل: المكنون المصون عن الكسر، أي إنهن عذارى. وقيل: المراد بالبيض اللؤلؤ، كقوله تعالى: " وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون " [ الواقعة: 22 - 23 ] أي في أصدافه، قاله ابن عباس أيضا. ومنه قول الشاعر: / ش وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغ / وواص ميزت من جوهر مكنون / ش وإنما ذكر المكنون والبيض جمع، لأنه رد ا لنعت إلى اللفظ. قوله تعالى: فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إنى كان لى قرين يقول أءنك لمن المصدقين أءذا متنا وكنا ترابا وعظما أءنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون قاطلع فرء اه في سوآء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين أقما نحن بميتين إلا موتتنا الأول وما نحن بمعذدين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العملون قوله تعالى: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا. وهو من تمام الأنس في الجنة. وهو معطوف على معنى " يطاف عليهم " المعنى يشربو ن فيتحادثون على الشراب كعادة الشراب. قال بعضهم: / ش وما بقيت من اللذات إلا / وأحاديث الكرام على المدام / ش فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا، إلا أنه جئ به ماضيا على عادة الله تعالى في إخباره.
[ 82 ]
قوله تعالى: " قال قائل منهم " أي من أهل الجنة " إنى كان لى قرين " أي صديق ملازم " يقول أئنك لمن المصدقين " أي بالبعث والجزاء. وقال سعيد بن جبير: قرينه شريكه. وقد مضى في " الكهف " ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفى عند قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين " وفيهما انزل الله جل وعز " قال قائل منهم إنى كان لى قرين " إلى " من المحضرين " وقيل: أراد بالقرين قرينه من الشيطان كان يوسوس إليه بإنكار البعث. وقرئ: " أئنك لمن المصدقين " بتشديد الصاد. رواه علي بن كيسة عن سليم عن حمزة. قال النحاس: ولا يجوز " أئنك لمن المصزدقين " لأنه لا معنى للصدقة ها هنا. وقال القشيري: وفي قراءة عن حمزة " أئنك لمن المصدقين " بتشديد الصاد. واعترض عليه بأن هذا من التصديق لا من التصدق. والاعتراض باطل، لأن القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مجال للطعن فيها. فالمعنى " أئنك لمن المصدقين " بالمال طلبا في ثواب الآخرة. " أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون " أي مجزيون محاسبون بعد الموت. ف " قال " الله تعالى لأ هل الجنة " هل أنتم مطلعون ". وقيل: هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين. وقيل: هو من قول الملائكة. وليس " هل أنتم مطلعون " باستفهام، إنما هو بمعنى الأمر، أي اطلعوا، قاله ابن الأعر ابي وغيره. ومنه لما نزلت آية الخمر، قام عمر قائما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: يا رب بيانا أشفى من هذا في الخمر. فنزلت: " فهل أنتم منتهون " [ المائدة: 91 ] قال: فنادى عمر انتهينا يا ربنا. وقرأ ابن عباس: " هل أنتم مطلعون " بإسكان الطاء خفيفة " فأطلع " بقطع الألف مخففة على معنى هل أنتم مقبلون، فأقبل. قال النحاس " فأطلع فرآه " فيه قولان: أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا معناه فأطلع أنا، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام. والقول الثاني أن يكون فعلا ماضيا ويكون اطلع وأطلع واحدا. قال الزجاج: يقال طلع وأطلع واطلع بمعنى واحد. وقد حكى (1) راجع ج 10 ص 399 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 83 ]
" هل أنتم مطلعون " بكسر النون وأنكره أبو حاتم وغيره. ا لنحاس: وهولا يجوز، لأنه جمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافا لكان هل أنتم مطلعي، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله، وأنشدا: / ش هم القائلون الخير والامرونه / وإذا ما خشوا من حدث الأمر معظما / ش وأنشد الفراء: والفاعلونه. وأنشد سيبويه وحده: / ش ولم يرتفق والناس محتضرونه / ش وهذا شاذ خارج عن كلام العرب، وما كان مثل هذا لم يحتج به في كتاب الله عز وجل، ولا يدخل في الفصيح. وقد قيل في توجيهه: إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه، فجرى " مطلعون " مجرى يطلعون. ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد: / ش أرأيت إن جئت به أملودا / ومرجلا ويلبس البرودا / ش / ش أقائلن أحضروا الشهودا / ش فأجرى أقائلن مجرى أتقولن. وقال ابن عباس في قول تعالى: " هل أنتم مطلعون. فأ طلع فرآه " إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلها. وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك، قال: إن بين الجنة والنار كوى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى. قل اببه تعالى: " قاطلع فرآه في سواء الجحيم " أي في وسط النار والحسك حواليه، قاله ابن مسعود. ويقال: تعبت حتى انقطع سوائي: أي وسطي. وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سوائي. وعن قتادة قال: قال بعض العلماء: لولا أن الله جل وعز عرفه إياه لما عرفه، لقد تغير حبره وسبره. فعند ذلك يقول: " تالله إن كدت لتردين " " إن " مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما (1) تمامه: / ش جميعا وأيدي المغفين رواهقه / ش يقول: غشيه المعنفون وهم السائلون، واحيضره الناس جميعا للعطاء، فجلس لهم جلوس متصرف متبذل غير مرتفق. (2) وروى: أحضرى، خطاب للمرأة، وهو الوجه، على ما أورده الرضى في خزانة الأدب حيث قال: ورواء العينى أحضروا بو أو الجمع ولاوجه له. والرجز أورده السكرى في أشعار هذيل لرجل منهم بلفظ: أقائلون أعجل الشهودا. (3) الحبر والسبر: اللون والهيئة. (*)
[ 84 ]
تدخل على كان. ونحوه " إن كاد ليضلنا " [ الفرقان: 24 ] واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. " ولو لا نعمة ربى لكنت من المحضرين " في النار وقال الكسائي: " لتردين " أي لتهلكني، والردى الهلاك. وقال المبرد: لو قيل: " لتردين " لتوقعني في النار لكان جائزا " ولو لا نعمة ربى " أي عصمته وتوفيقه بالاستمساك بعروة الإسلام والبراءة من القرين السوء. وما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف. " لكنت من المحضرين " قال الفراء: أي لكنت معك في النار محضرا. وأحضر لا يستعمل مطلقا إلا في الشر، قاله الماوردي. قوله تعالى: " أفما نحن بميتين " وقرئ " بمائتين " والهمزة في " أفما " للاستفهام دخلت على فاء العطف، والمعطوف محذوف معناه أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين. " إلا موتتنا الأولى " يكون استثناء ليس من الأول ويكون مصدرا، لأنه منعوت. وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. وقيل: هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله في أنهم لا يموتون ولا يعذبو ن، أي هذه حالنا وصفتنا. وقيل: هو من قول المؤمن توبيخا للكافر لما كان ينكره من البعث، وأنه ليس إلا الموت في الدنيا. ثم قال المؤمن مشيرا إلى ما هو فيه، " إن هذا لهو الفوز العظيم " يكون " هو " مبتدأ وما بعده خبر عنه والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون " هو " فاصلا. " لمثل هذا فليعمل العاملون " يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه قال: " لمثل هذا " العطاء والفضل " فليعمل العاملون " نظير ما قال له الكافر " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " [ الكهف: 34 ]. ويحتمل أن يكون من قول الملائكة. وقيل: هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا، أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، و " لمثل هذا " الجزاء " فليعمل العا ملون ". النحاس: وتقدير الكلام - والله أعلم - فليعمل العاملون لمثل هذا. فإن قا ل قائل: الفاء في العربية تدل على أن الثاني بعد الأول، فكيف صار ما بعدها ينو ى به التقديم ؟ فالجواب أن التقديم كمثل التأخير، لأن حق حروف الخفض وما بعدها أن تكون متأخرة.
[ 85 ]
قوله تعالى: أذلك خير نزلا أم شجرة الزقون إنا جعلنا فتنة للظلمين إنها شجرة تخرج في أصل الججيم طلعها كانه رءوس الشيطن فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم ان مرجعهم لالى الجحيم قوله تعالى: " أذلك خير " مبتدأ وخبر، وهو من قول الله جل وعز. " نزلا " على البيان، والمعنى أنعيم الجنة خير نزلا " أم شجرة الزقوم " خير نزلا. والنزل في اللغة الرزق الذي له سعة - النحاس - وكذا النزل إلا أنه يجوز أن يكون النزل بإسكان الزاي لغة، ويجوز أن يكون أصله النزل، ومنه أقيم للقوم نزلهم، واشتقاقه أنه الغذاء الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. وقد مضى هذا في آخر سورة " آل عمر ان " وشجرة الزقوم مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. قال المفسرون: وهي في الباب السادس، وأنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء، فلا بد لأهل النار من أن ينحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها، وكذلك يصعد إليها من كان أسفل. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب أم لا على قولين - أحدهما أنها معروفة من شجر الدنيا. ومن قال بهذا اختلفوا فيها، فقال قطرب: إنها شجرة مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل. القول الثاني: إنها لا تعرف في شجر الدنيا. فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قالت كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة. فقدم عليهم رجل من إفريقية فسألوه فقال: هو عندنا الزبد والتمر. فقال ابن الزبعري: أكثر الله في بيوتنا الزقوم فقال أبو جهل لجاريته: زقمينا، فأتته بزبد وتمر. ثم قال لأصحابه: تزقموا، هذا الذي يخوفنا به محمد، يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر. (1) راجع ج 4 ص 321 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 86 ]
قوله تعالى: " إنا جعلناها فتنة للظالمين " أي المشركين، وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة وهي تحرق الشجر ؟ وقد مضى هذا المعنى في " سبحان " واستخفافهم في هذا كقولهم في قوله تعالى: " عليها تسعة عشر " [ المدثر: 30 ]. ما الذي يخصص هذا العدد ؟ حتى قال بعضهم: أنا أكفيكم منهم كذا فاكفوني الباقين. فقال الله تعالى: " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا " [ المدثر: 31 ] والفتنة الاختبار، وكان هذا القول منهم جهلا، إذ لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيات والعقارب وخزنة النار. وقيل: هذا الاستبعاد الذي وقع للكفار هو الذي وقع الآن للملحدة، حتى حملوا الجنة والنار على نعيم أو عقاب تتخلله الأرواح، وحملوا وزن الأعمال والصراط واللوح والقلم على معاني زوروها في أنفسهم، دون ما فهمه المسلمون من موارد الشرع، وإذا ورد خبر الصادق بشئ موهوم في العقل، فالواجب تصديقه وإن جاز أن يكون له تأويل، ثم التأويل في موضع إجماع المسلمين على أنه تأويل باطل لا يجوز، والمسلمون مجمعون على الأخذ بهذه الأشياء من غير مصير إلى علم الباطن. وقيل إنها فتنة أي عقوبة للظالمين، كما قال: " ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون " [ الذاريات: 14 ]. قوله تعالى: " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " أي قعر النار ومنها منشؤها ثم هي متفرعة في جهنم. " طلها " أي ثمرها، سمي طلعا لطلوعه. " كانه رءوس الشيطين " قيل: يعني الشياطين بأعيانهم شبهها برؤوسهم لقبحهم، ورؤوس الشياطين متصور في النفوس وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح هو كصورة الشيطان، ولكل صورة حسنة هي كصورة ملك. ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحب يوسف: " ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " [ يوسف: 31 ] وهذا تشبيه تخييلي، روي معناه عن ابن عباس والقرظي. ومنه قول امرئ القيس: / ش ومسنونة زرق كأنياب أغوال / ش (1) راجع ج 1 ص 283 طبهة أولى أو ثانيه. (2) أراد بالمسنونة الزرق سهاما محددة الأزجة صافية. وصدر البيت: / ش أيقتلني والمشرف مضاجعي / ش (*)
[ 87 ]
وإن كانت الغول لا تعرف، ولكن لما تصور من قبحها في النفوس. وقد قال الله تعالى: " شياطين الإنس والجن " [ الأنعام: 112 ] فمردة الإنس شياطين مرئية. وفي الحديث الصحيح " ولكأن نخلها رءوس الشياطين " وقد أدعى كثير من العرب رؤية الشياطين والغيلا ن. وقال الزجاج والفراء: الشياطين حيات لها رءوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسما. قال الراجز وقد شبه المرأة بحية لها عرف: / ش عنجرد تحلف حين أحلف / وكمثل شيطان الحماط أعرف / ش الواحدة حماطة والأعرف الذي له عف. وقال الشاعر يصف ناقته: / ش تلاعب مثنى حضرمي كأنه / وتعمج شيطا ن بذي خروع قفر / ش التعمج: الاعوجاج في السير. وسهم عموج: يتلوى في ذهابه. وتعمجت الحية: إذا تلوت في سيرها. وقال يصف زمام الناقة: / ش تلاعب مثنى حضر مي كأنه / وتعمج شيطان بذي خروع قفر / ش وقيل: إنما شبه ذلك بنبت قبيح في اليمن يقال له الأستن والشيطان. قال النحاس: وليس ذلك معروفا عند العرب. الزمخشري: هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رءوس الشياطين. النحاس: وقيل: الشياطين ضرب من الحيات قباح. " فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون " فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة. وقال في " الغاشية ": " ليس لهم طعام إلا من ضريع " [ الغاشية: 6 ] وسيأتي. " ثم إن لهم عليها " أي بعد الأكل من الشجرة " لشوبا من حميم " الشوب الخلط، والشب والشوب لغتان كالفقر والفقر والفتح أشهر. قال ا لفراء: شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشئ يشوبهما شوبا وشيابة. فأخبر أنه يشاب لهم. والحميم: الماء الحار ليكون أشنع، قال الله تعالى: " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " [ محمد: 15 ]. السدي: يشاب لهم الحميم بغساق أعينهم وصديد من قيحهم ودما ئهم. وقيل: يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحراوة الحميم، تغليظا لعذابهم وتجديدا (1) كذا غب الأصل ولعل العبارة والبيت هنا تكرار مع ما سبق، وصواب العبارة الأولى " قال الشاعر يصف زمام تافته " بزيادة لفظ زمام. (*)
[ 88 ]
لبلائهم. " ثم ان مرجعهم لإلى الجحيم " قيل: إن هذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ثم يردون إليها. وقال مقاتل: الحميم خارج الجحيم فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم، لقوله تعالى: " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين حميم آن " [ الرحمن: 43 - 44 ]. وقرأ ابن مسعود: " ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم " قال أبو عبيدة: يجوز أن تكون " ثم " بمعنى الواو. القشيري: ولعل الحميم في موضع من جهنم على طرف منها. قوله تعالى: إنهم ألفوا ءاباءهم ضالين فهم علئ اثرهم يهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عقبة المنذرين إلا عباد عباد الله المخلصين قوله تعالى: " إنهم ألفوا آباءهم ضالين " أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم. " فهم على آثارهم يهرعون " أي يسرعون، عن قتاده. وقال مجاهد: كهيئة الهرولة. قال قال الفراء: الإهراع الإسراع برعدة. وقال أبو عبيدة: " يهرعون " يستحثون من خلفهم. ونحوه قول المبرد. قال: المهرع المستحث، يقال: جاء فلان يهر ع إلى النار إذا استحثه البرد إليها. وقيل: يزعجون من شدة الإسراع، قال الفضل. ا لزجاج: يقال هرع وأهرع إذا استحث وأزعج. قوله تعالى: " ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين " أي من الأمم الماضية. " ولقد أرسلنا فيهم منذرين " أي رسلا أنذروهم العذاب فكفروا. " فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " أي آخر أمرهم. " إلا عباد الله المخلصين " أي الذين استخلصهم الله من الكفر. وقد تقدم. ثم قيل: هو استثناء من " المنذرين ". وقيل هو من قوله تعالى: " ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ". (1) راجع ج 1 پ ص 28 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 89 ]
قوله تعالى: ولقد نادننا نوح فلنعم المجيبون ونجينه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الاخرين سلم على نوح في العلمين إنا كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أعرقنا الاخرين قوله تعالى: " ولقد نادانا نوح " من النداء الذي هو الاستغاثة، ودعا قيل بمسألة هلاك قومه فقال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " [ نوح: 26 ]. " فانعم المجيبون " قال الكسائي: أي " فلنعم المجيبون له كنا. " فنجيناه وأهله " يعني أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين على ما تقدم. " من الكرب العظيم " وهو الغرق. " وجعلنا ذريته هم الباقين " قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنسا ء إلا ولده ونساءه، فذلك قوله: " وجعلنا ذريته هم الباقين ". وقال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح: فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالبة والترك و " اللان " والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك. وقال قوم: كان لغير ولد نوح أيضا نسل، بدليل قوله: " ذرية من حملنا مع نوح " [ الإسراء: 3 ]. وقوله: " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم " [ هود: 48 ] فعلى هذا معنى الآية: " وجعلنا ذريته هم الباقين " دون ذرية من كفر أنا أغرقنا أولئك. (1) راجع ج 9 ص 35 طبعة أولى أو ثانية. (2) في الأصول: " والأبر " ولعله تحريف إذا لا تعرف أمة من ولد يافث بهذا الاسم والذى ذكره المسعودي وغيره واللان من ولد يافث. (*)
[ 90 ]
قوله تعالى: " وتركنا عليه في الآخرين " أي تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة، فإنه محبب إلى الجميع، حتى إن في المجوس من يقول إنه أفريدون. روى معناه عن مجاهد وغيره. وزعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما " وتركنا عليه في الآخرين " يقال: " سلام على نوح " أي تركنا عليه هذا الثناء الحسن. وهذا مذهب أبي العباس المبرد. أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية، يعني يسلمون له تسليما ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقوله تعالى: " سورة أنزلناها ". [ النور: 1 ]. والقول الآخر أن يكون المعنى وأبقينا عليه، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: " سلام على نوح " أي سلامة له من أن يذكر بسوء " في الآخرين ". قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود " سلاما " منصوب ب " تركنا " أي تركنا عليه ثناء حسنا سلاما. وقيل: " في آخرين " أي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: في الأنبياء إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به، قال الله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا " [ الشورى: 13 ]. وقال سعيد بن المسيب: وبلغني أنه من قال حين يسمي " سلام على نوح في العامين " لم تلدغه عقرب. ذكره أبو عمر في التمهيد. وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نزل منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شئ حتى يرتحل ". وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة، فقال وسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أي شئ " فقال: لدغتني عقرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك ". قوله تعالى: " إنا كذلك نجزى المحسنين " أي نبقي عليهم الثناء الحسن. والكاف في موضع نصب، أي جزاء كذلك. " إنه من عبادنا المؤمنين " هذا بيان إحسانه. قوله تعالى: " ثم أغرقنا الآخرين " أي من كفر. وجمعه أ، خر. والأصل فيه أن يكون معه " من " إلا أنها حذفت، لأن المعنى معروف، ولا يكون آخرا إلا وقبله شئ من جنسه. " ثم " ليس للتراخي ها هنا بل هو لتعديد النعم، كقول: " أو مسكينا ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا " [ البلد: 16 - 17 ] أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين، وهم الذين تأخروا عن الإيمان.
[ 91 ]
قوله تعالى: وإن من شيعته لابرهيم إذا جاء ربه بقلب سليم إذا قال لأبيه وقومه ما ذا تعبدون أئفسكا ءالهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العلمين فنظز نظرة في النجوم فقال إنى سقيم فتولوا عنه مدبرين قوله تعالى: " وإن من شيعته لابراهيم " قال ابن عباس: أي من أهل دينه. وقال مجاهد: أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي: الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبا ر حتى يستوقد. وقال الكلبي والفراء: المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم. فالهاء في " شيعته " على هذا لمحمد عليه السلام. وعلى الأول لنوح وهو أظهر، لأنه هو المذكور أولا، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، حكاه الزمخشري. قوله تعالى: " إذ جاء ربه بقلب سليم " أي مخلص من الشرك والشك. وقال عوف الأعرابي: سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ فقال: الناصح لله عز وجل في خلقه. وذكر الطبري عن غالب القطان وعوف وغيرهما عن محمد بن سيرين أنه كان يقول للحجاج: مسكين أبو محمد ! إن عذبه الله فبذنبه، وإن غفر له فهنيئا له، وإن كان قلبه سليما فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال عوف: فقلت لمحمد ما القلب السليم ؟ قال: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول لنا: يا بني لا تكونوا لعانين، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط، فقال تعالى: " إذ جاء ربه بقلب سليم ". ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته، الثاني عند إلقائه في النار. " إذا قال لأبيه " وهو آزر، وقد مضى الكلام فيه. " وقومه ماذا تعبدون " تكون " ما " في موضع رفع بالابتداء و " ذا " خبره ويجوز أن تكون (1) راجع ج 7 ص 22 طبعة أولى أو ثانية.
[ 92 ]
" ما " و " ذا " في موضع نصب ب " تعبدون ". " أئفكا " نصب على المفعول يه بمعنى أتريدون إفكا. قال المبرد: والإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض. " آلهة " بدل من إفك " دون الله تريدون " أي تعبدون. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أتريدون ألهة من دون الله آفكين. " فما ظنكم برب العالمين " أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟ فهو تحذير، مثل قوله: " ما غرك بربك الكريم " [ الانفطار: 6 ]. وقيل: أي شئ أوهمتموه حتى أشركتم به غيره. قوله تعالى: " فنظر نظرة في النجوم فقال إنى سقيم " قال ابن زيد عن أبيه: أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم منظورا فيه، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه، وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم. وقال ابن عباس: كان علم النجوم من النبو ة، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فكان نظر إبراهيم فيها علما نبويا. وحكى جويبر عن الضحاك. كان علم النجوم باقيا إلى زمن عيسى عليه السلام، حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه منه، فقالت لهم مريم: من أين علمتم بموضعه ؟ قالوا: من النجوم. فدعا ربه عند ذلك فقال: اللهم لا تفهمهم في علمها، فلا يعلم علم النجوم أحد، فصار حكمها في الشرع محظورا، وعلمها في الناس مجهولا. قال الكلبي: وكانوا في قرية بين البصرة والكوفة يقال لهم هرمز جرد، وكانوا ينظرون في النجوم. فهذا قول. وقال الحسن: المعنى أنهم لما كلفوه الخروج معهم تفكر فيما يعمل. فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي، أي فيما طلع له منه، فعلم أن كل حي يسقم فقال. " إني سقيم ". الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشئ يدبره: نظر في النجوم. وقيل: كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تغشاه فيها الحمى. وقيل: المعنى فنظر فيما نجم من الأشياء فعلم أن لها خالقا. (1) ذكر هذا الاسم الطبري تاريخه ج 2 ص 346 طبعة ليدن م 1. (*)
[ 93 ]
ومدبرا، وأنه يتغير كتغيرها. فقال: " إنى سقيم ". قال الضحاك: معنى " سقيم " سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض، كما قال للملك لما سأل عن سارة هي أختي، يعني أخوة ا لدين. وقال ابن عباس وأبن جبير والضحاك أيضا أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون، وكانوا يهربون من الطاعون، " ف " لذلك " تولوا عنه مدبرين " أي فارين منه خوفا من العدوى. وروى الترمذي الحكيم قال: حدثنا أبي قال حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط عن السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن سمرة عن الهمداني عن ابن مسعود قال: قالوا لإبراهيم: إن لنا عيدا لو خرجت معنا لأعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه وخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه، وقال إني سقيم أشتكي رجلي، فوطئوا رجله وهو صريع، فلما مضوا نادى في آخرهم " وتالله لأكيدن أصنامكم " [ الأنبياء: 57 ]. قال أبو عبد الله وهذا ليس بمعارض لما قال ابن عباس وابن جبير، لأنه يحتمل أن يكون قد اجتمع له أمران. قلت: وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات " الحديث. وقد مضى في سورة " الأنبياء " وهو يدل على أنه لم يكن سقيما وإنما عرض لهم. وقد قال جل وعز: " إنك ميت وإنهم ميتون " [ الزمر: 30 ]. فالمعنى إني سقيم فيما أستقبل فتوهموا هم أنه سقيم الساعة. وهذا من معاريض الكلام على ما ذكرنا، ومنه المثل السائر " كفى بالسلامة داء " وقول لبيد: / ش فدعوت ربي بالسلامة جاهدا / وليصحني فإذا السلامة داء / ش وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح ! فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه ! فإبراهيم صادق، لكن لما كان الأنبياء لقرب محلهم واصطفائهم عد هذا ذنبا، ولهذا قال: " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " [ الشعراء: 82 ] وقد مضى هذا كله مبينا والحمد لله. وقيل: أراد سقيم النفس لكفرهم. والنجوم يكون جمع نجم ويكون واحدا مصدرا. (1) راجع ج 11 ص وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (2) رواء الديلمى في مسند الفردوس حديثا عن ابن عباس بإسناد ضعيف. (3) راجع ج 11 ص 300 وج 13 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 94 ]
قوله تعالى: فراغ الئ اهلهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فاقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تختون والله خلقكم وما تعملون قوله تعالى: " فراغ الى الههم " قال السدى: ذهب إليهم وقال أبو مالك: ذهب إليهم. وقال أبو مالك: جاء إليهم عليهم. وقيل: عدل. والمعنى متقارب. فراغ يروغ روغا وروغانا إذا مال. وطريق رائغ أي مائل. وقال الشاعر: / ش ويريك من ط رف اللسان حلاوة / وويروغ عنك كما يروغ الثعلب / ش فقال: " ألا تأكلون " فخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا " ما لكم لا تنطقون " قيل: كان بين يدي الأصنام طعام تركوه ليأكلوه إذا رجعوا من العيد، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم بزعمهم. وقيل: تركوه للسدنة. وقيل: قرب هو إليها طعاما على جهة الاستهزاء، فقال: " ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون ". " فراغ عليهم ضربا باليمين " خص ا لضرب باليمين لأنها أقوى والضرب بها أشد، قال الضحاك والربيع بن أنس. وقيل: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: " وتالله لأكيدن أصنامكم " [ الأنبياء: 57 ]. وقال الفراء وثعلب: ضربا بالقوة واليمين القوة. وقيل: بالعدل واليمين ها هنا العدل. ومنه قوله تعالى: " ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين " [ الحاقة: 44 - 45 ] أي بالعدل، فالعدل لليمين والجور للشمال. ألا ترى أن العدو عن الشمال والمعاصي عن الشمال والطاعة عن اليمين، ولذلك قال: " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " [ الصافات: 28 ] أي من قبل الطاعة. فاليمين هو موضع العدل من المسلم، والشمال موضع الجور. ألا ترى أنه بايع الله بيمينه يوم الميثاق، فالبيعة باليمين، فلذلك يعطى كتابه غدا بيمينه، لأنه وفى بالبيعة، ويعطى الناكث للبيعة الهارب برقبته من الله بشماله، لأن الجور هناك. فقوله: " فراغ عليهم ضربا باليمين " أي بذلك العدل الذي كان بايع الله عليه يوم الميثاق ثم وفى له هاهنا. فجعل تلك الأوثان جذاذا، أي فتاتا كالجذيذة
[ 95 ]
وهي السويق وليس من قبيل القوة، قاله الترمذي الحكيم " فاقبلوا إليه يزفون " قرأ حمزة " يزفون " بضم الياء. الباقون بفتحها. أي يسرعون، قاله ابن زيد. قتادة والسدي: يمشون. وقيل: المعنى يمشون بجمعهم على مهل آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بسوء. وقيل: المعنى يتسللون تسللا بين المشي والعدو، ومنه زفيف النعامة. وقال الضحاك: يسعون وحكى يحيى بن سلام: يرعدون غضبا. وقيل: يختالون وهومشي الخيلاء، قاله مجاهد. ومنه أ، خذ زفاف العروس إلى زوجها. وقال الفرزدق: / ش وجاء قريع الشول قبل إفالها / ويزف وجاءت خلفه وهي ز فف / ش ومن قرأ " يزفون " فمعناه يزفون غيرهم أي يحملونهم على ا لتزفيف. وعلى هذا فالمفعول محذوف. قال الأصمعي: أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف. وقيل: هما لغتان يقال: زف القوم وأزفوا، وزففت العروس وأزففتها وازدفف تها بمعنى، والمزفة: المحفة التي تزف فيها العروس، حكي ذلك عن الخليل. النحا س: " ويزفون " بضم الياء. زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم: أطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك. وطردته نحيته، وأنشد هو وغيره: / ش تمنى حصين أن يسود جذاعة / وفأمسى حصين قد أ ذل وأ قهرا / ش أي صير إلى ذلك، فكذلك " يزفون " يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن زيد: الزفيف الإسراع. وقال أبو إسحق: الزفيف أول عدو النعام. وقال أبو حاتم: وزعم الكسائي أن قوما قرءوا " فأقبلوا إليه يزفون " خفيفة، من وزف يزف، مثل وزن يزن. قال النحاس: فهذه حكاية أبي حاتم وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا. وروى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف " يزفون " مخففة. قال الفراء: وأنا لا أعرفها. قال (1) القريع: الفحل المختار للضراب. الشول من النوق جمع شائله على غير قياس. وهى الناقه التى أتى عليها، حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها. وإفالها: صغارها. ويزف: يعدو. يريد أن القريع بفر من شدة البرد وكذا الافال. (2) البيت للمخبل السعدى يهجو الزبرقان وقومه، وهم المعروفون بالجذاع. والاصمعى يرويه كما في اللسان مادة قهر، قد أذل وأقهرا بالبناء للمعلوم، أي صار أمره الى الذل والقمر. (*)
[ 96 ]
أبو إسحق: وقد عرفها غيرهما أنه يقال وزف يزف إذا أسرع. قال النحاس: ولا نعلم أحدا قرأ " يزفون ". قلت: هي قراءة عبد الله بن يزيد فيما ذكر المهدوي. الزمخشري: و " يزفون " على البناء للمفعول. و " يزفون " من زفاه إذا حداه، كأن بعضهم يزف بعضا لتسارعهم إليه. وذكر الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع " يزفون " بالراء من رفيف النعام، وهو ركض بين المشي والطيران. قوله تعالى: " قال أتعبدون ما تنحتون " فيه حذف، أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا، فقال محتجا: " أتعبدون ما تنحتون " أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به. " والله خلقكم وما تعملون " " ما " في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعني الخشب والحجارة وغيرهما، كقوله: " بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن " [ الأنبيا ء: 56 ] وقيل: إن " ما " استفهام ومعناه التحقير لعملهم. وقيل: هي نفي، والمعنى وما تعملون ذلك لكن الله خالقه. والأحسن أن تكون " ما " مع الفعل مصدرا، والتقدير والله خلقكم وعملكم وهذا مذهب أهل السنة: أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد. وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خالق كل صانع وصنعته " ذكره الثعلبي. وخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه " وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. قوله تعالى: قالوا ابنوا له بنينا فالقوه في الجحيم (97) فأرادوا به كيدا فجعلنهم الأسفلين (98) (1) الزيادة من إعراب القرآن للنحاس. (*)
[ 97 ]
قوله تعالى: " قالوا ابنوا له بنيانا " أي تشاوروا في أمره لما غلبهم بالحجة حسب ما تقدم في " الأنبياء " بيانه ف " قالوا ابنوا له بنيانا " تملئونه حطبا فتضرمونه، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وملأوه نارا وطرحوه فيها. وقال ابن عمرو بن العاص: فلما صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل. والألف واللام في " الجحيم " تد ل على الكناية، أي في جحيمه، أي في جحيم ذلك البنيان. وذكر الطبري: أن قائل ذلك اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك، وهو الذي جاء فيه الحديث: " بينما رجل يمشى في حلة له يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " والله أعلم. " فأرادوا به كيدا " أي بإبراهيم. والكيد المكر، أي احتالوا لإهلاكه. " فجعلنا هم الأسفلين " المقهورين المغلوبين إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم. قوله تعالى: وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصلحين فبشرنه بغلم حليم فيه مسئلتان: الأولى - هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار " قال إن ذاهب إلى ربي " أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه " سيهدين " فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام. وقيل: ذاهب بعملي وعبادتي، وقلبي ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن. وقد مضى بيان هذا في [ الكهف ] مستوفى. وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبيت القدس. (1) راجع ج 11 ص 303 طبعة أولى أو ثانيه. (2) تقدم في ج 11 ص 303 أن اسمه هيزر. (3) راجع ج 10 ص 36. وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 98 ]
وقيل: خرج إلى حران فأقام بها مدة. ثم قيل: قال ذلك لمن فارقه من قومه، فيكون ذلك توبيخا لهم. وقيل: قاله لمن هاجر معه من أهله، فيكون ذلك منه ترغيبا. وقيل: قال هذا قبل إلقائه في النار. وفيه على هذا القول تأويلان: أحدهما: إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي. الثاني: إني ميت، كما يقال لمن مات: قد ذهب إلى الله تعالى، لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها، إلى أن قيل لها: " كوني بردا وسلاما " فحينئذ سلم إبراهيم منها. وفي قوله: " سيهدين " على هذا القول تأويلان: أحدهما " سيهدين " إلى الخلاص منها. الثاني - إلى الجنة. وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم: لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب، فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها وتقول: اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا، فلما ذهب به ليطرح في النار " قال إني ذاهب إلى ربي ". فلما طرح في النار قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) فقال الله تعالى: " يا نار كوني بردا وسلاما " [ الأنبياء: 6 9 ] فقال أبو لوط وكان ابن عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني. فأرسل الله عنقا من النار فأحرقه. الثانية - قوله تعالى: " رب هب لى من الصالحين " لما عرفه الله أنه مخلصه دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته. وقد مضى في [ آل عمران ] القول في هذا. وفى الكلام حذف، أي هب لي ولدا صالحا من الصالحين، وحذف مثل هذا كثير. قال الله تعالى: " فبشرناه بغلام حليم " أي أنه يكون حليما في كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الولد، لأن الصغير لا يوصف بذلك، فكانت البشرى على ألسنة الملائكة كما تقدم في [ هود ]. ويأتي أيضا في [ الذاريات ]. قوله تعالى: فلما بلغ معه السعي قال يبنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يسأبت افعل ما تؤمر سيجدني إن (1) راجع ج 4 ص 73 طبعآ أولى أو ثانية. (2) راجع ج 9 ص 62 طبعة أولى أثانية. (3) في تفسير آية 28 من السورة المذكورة. (*)
[ 99 ]
شآء الله من الصبرين فلمآ أسلما وتله للجبين وندينه أن يا إبراهيم قد صدفت الرءيآ إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلؤا المبين وفدينه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين سلم على إبرهيم كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرنه بإسحق نبيا من الصلحين وبركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين فيه سبع عشرة مسألة: الأولى - قوله تعالى: " فلما بلغ معه السعي " أي فوهبنا له الغلام، فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعمال " قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ". وقال مجاهد: " فلما بلغ معه السعي " أي شب وأدرك سعيه سعي إبر اهيم. وقال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال ابن عباس: هو احتلام. قتادة: مشى مع أبيه. الحسن ومقاتل: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. ابن زيد: هو السعي في العبادة. ابن عباس: صام وصلى، ألم تسمع الله عز وجل يقول: " وسعى لها سعيها. " [ الإسراء: 19 ]. اختلف العلماء في المأمور بذبحه. فقال أكثرهم: الذبيح إسحق. وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وهو الصحيح عنه. روى الثوري وابن جريج يرفعانه إلى ابن عباس قال: الذبيح إسحق. وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رجلا قال له: يا بن الأشياخ الكرام. فقال عبد الله: ذل ك يوسف بن يعقوب بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى حماد بن زيد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم
[ 100 ]
صلى الله عليهم وسلم ". وروى أبو الزبير عن جابر قال: الذبيح إسحق. وذلك مر وي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن عبد الله بن عمر: أن الذبيح إسحق. وهو قول عمر رضي الله عنه. فهؤلاء سبعة من الصحابة. وقال به من التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس، كلهم قالوا: الذبيح إسحق. وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد منهم النحاس والطبري وغيرهما. قال سعيد بن جبير: أ رى إبراهيم ذبح إسحق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى به ا لمنحر من منى، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال. وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين. وقال أخرون: هو إسماعيل. وممن قال ذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة. وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد: / ش إن الذبيح هديت إسماعيل / ونطق الكتاب ء بذاك والتنزيل / ش / ش شرف به خص الإله نبينا / ووأتى به التفسير والتأويل / ش / ش إن كنت أمته فلا تنكر له / وشرفا به قد خصه التفضيل / ش وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ! ومتى كان إسحق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الذبيح (1) في الهذيب قال ابن أبى خيثمة سمعت ابن معين يقول عبد الرحمن بن عبد لله بن سابط ومن قال عبد الرحمن ابن سابط فقد أخطأ، وكذا ذكره البخاري. وفى اسم أبيه خلاف. (2) في نسخة: النقاش. (*)
[ 101 ]
إسماعيل " 0 والأول أكثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وعن التابعين. واحتجوا بأن الله عز وجل قد أخبر عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " أنه دعا فقال: " رب هب لي من الصالحين " فقال تعالى: " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب " [ مريم: 49 ]، ولأن الله قال: " وفديناه بذبح عظيم " فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشره به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال: " وبشرناه بإسحاق "، وقال هنا: " بغلام حليم " وذلك قبل أن يتزوج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحق. احتج من قال إنه إسماعيل: بأن الله تعالى وصفه بالصبر دون إسحق في قول تعالى: " وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين " [ الأنبياء: 85 ] وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: " إنه كان صاد ق الوعد " [ مريم: 54 ]، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به، ولأن الله تعالى قال: " وبشرناه بإسحاق نبيا " فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا، وأيضا فإن الله تعالى قال: " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " [ هود: 71 ] فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب. وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس. وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع، أما قولهم: كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأنه يكون نبيا، فإنه يحتمل أن يكون المعنى: وبشرناه بنبوته بعد أن كان من أمره ما كان، قال ابن عباس وسيأتي. ولعله أمر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحا ق يعقوب. قال: لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحاق. وأما قولهم: ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس، فالجواب عنه ماقاله سعيد بن جبير على ما تقدم. وقال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح. وهذا مذهب ثالث. الثانية - قوله تعالى: " قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى " قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات. وقال محمد بن كعب:
[ 102 ]
كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صلى الله عليه وسلم: " إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا ". وقال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، واستدل بهذه الآية. وقال السدي: لما بشر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح. فقيل له في منامه: قد نذرت نذرا فف بنذرك. ويقال: إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان ؟ فسمي يوم التروية. فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر. وروي أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر. فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم: الله أكبر والحمد لله، فبقي سنة. وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأمر وهى: الثالثة - فقال أهل السنة: إن نفس الذبح لم يقع، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل، لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. وقوله تعالى: " قد صدقت الرؤيا ": أي حققت ما نبهناك عليه، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك. هذا أصح ما قيل به في هذا الباب. وفالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه، لأن معنى ذبحت الشئ قطعته. واستدل على هذا بقول مجاهد: قال إسحاق لإبراهيم لا تنظر آلي فترحمني، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض، فأخذ إبراهيم السكين فأمرها على حلقة فانقلبت. فقال له ما لك ؟ قال: انقلبت السكين. قال اطعني بها طعنا. وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءا التأم. وقالت طائفة: وجد حلقه نحاسا أو مغشى بنحاس، وكان كلما أراد قطعا وجد منعا. وهذا كله جائز في القدرة الإلهية. لكنه يفتقر إلى نقل صحيح، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر. ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل
[ 103 ]
وإبراهيم صلوات الله عليهما، وكان أولى بالبيان من الفداء. وقال بعضهم: إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له: " قد صدقت الرؤيا " وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة حتى يكون منهما التوهم. وأيضا لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء. الرابعة - قوله تعالى: " فانظر ماذا ترى " قرأ أهل الكوفة غير عاصم " ماذا ترى " بضم التاء وكسر الراء من أرى يرى. قال الفراء: أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير، أي ما تريك نفسك من الرأي. وأنكر أبو عبيد " ترى " وقال: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة. وكذلك قال أبو حاتم. النحاس: وهذا غلط، وهذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور، يقال: أريت فلانا الصواب، وأريته رشده، وهذا ليس من رؤية العين. الباقون " ترى " مضارع رأيت. وقد روي عن الضحاك والأعمش " ترى " غير مسمى الفاعل. ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله، وإنم ا شاوره ليعلم صبره لأمر الله، أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله. ف " قال يا أبيت افعل ما تؤمر " أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله: / ش أمرتك الخير فافعل ما أمرت به / ش فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء، كقوله: " وسلام على عباده الذين اصطفى " [ النمل: 59 ] أي اصطفاهم على ما تقدم. و " ما " بمعنى الذي. " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " قال بعض أهل الاشارة: لما استثنى وفقه الله للصبر. وقد مضى الكلام في " يا أبت " [ يوسف: 4 ] وكذ لك في " يا بني " [ يوسف: 5 ] في " يوسف " وغيرها. (1) راجع ج 13 ص 22 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 9 ص 121 طبعة أولى أو ثانية. وج 2 ص 136 طبعة ثانيه. (*)
[ 104 ]
الخامسة - قوله تعالى: " فلما أسلما " أي انقادا لأمر الله. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي رضوان الله عليهم " فلما سلما " أي فوضا أمرهما إلى الله. وقال ابن عباس: استسلما. وقال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله عز وجل وأسلم الآخر ابنه. " وتله للجبين " قال قتادة: كبه وحول وجهه إلى القبلة. وجواب " لما " محذوف عند البصريين تقديره " فلما أسلما وتله للجبين " فديناه بكبش. وقال الكوفيون: الجواب " ناديناه " والواو زائدة مقحمة، كقوله: " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا " [ يوسف: 15 ] أي أوحينا. وقوله: " وهم من كل حدب ينسلون " [ الأنبياء: 96 ]. " واقترب " أي اقترب. وقوله: " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال " [ الزمر: 73 ] أي قال لهم. وقال امرؤ القيس: / ش فلما أجز نا ساحة الحي وانتحى / ش أي انتحى، والواو زائدة. وقال أيضا: / ش حتى إذا حملت بطونكم / وورأيتم أبناءكم شبوا / ش / ش وقلبتم ظهر المجن لنا / وإن اللئيم الفاجر الخب / ش أراد قلبتم. النحاس: والواو من حروف المعاني لا يجوز أن تزاد. وفي الخبر: إن الذبيح قال لإبراهيم عليه السلام حين أراد ذبحه: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شئ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقى ليكون الموت أهون علي وأقذفني للوجه، لئلا تنظر إلى وجهي فترحمني، ولئلا أنظر إلى الشفرة فأجزع، وإذا أتيت إلى أمي فأقرئها مني السلام. فلما جر إبراهيم عليه السلام السكين ضرب الله عليه صفيحة من نحاس، فلم تعمل السكين شيئا، ثم ضرب به على جبينه وحز في قفاه فلم تعمل السكين شيئا، فذلك قو له تعالى: " وتله للجبين " كذلك قال ابن عباس: معناه كبه على وجهه فنودي " يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " فالتفت فإذا بكبش، ذكره المهدوي. وقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحته، وأن المعنى لما اعتقد الوجوب وتهيأ للعمل، هذا بهيئة (1) تمامه: / ش بنا بطن خبت ذى قفاف عقنقل / ش (*)
[ 105 ]
لا لذبح، وهذا بصورة المذبوح، أعطيا محلا للذبح فداء ولم يكن هناك مر سكين. وعلى هذا يتصور النسخ قبل الفعل على ما تقدم. والله أعلم. قال الجوهري: " وتله للجبين " أي صرعه، كما تقول: كبه لوجهه. الهروي: والتل الدفع والصرع، ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: " وتركوك لمتلك " أي لمصرعك. وفي حديث آخر: " فجاء بناقة كوماء فتلها " أي أناخها. وفي الحديث: " بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدى " قال ابن الأنباري: أي فألقيت في يدي، يقال: تللت الرجل إذا ألقيته. قال ابن الأعرابي: فصبت في يدي، والتل الصب، يقال: تل يتل إذا صب، وتل يتل بالكسر إذا سقط. قلت: وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: " أتأذن لي أن أعطي هؤلاء " فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال، فتله رسو ل الله صلى الله عليه وسلم في يده، يريد جعله في يده. وقال بعض أهل الإشارة: إ ن إبراهيم ادعى محبة الله، ثم نظر إلى الولد بالمحبة، فلم يرض حبيبه محبة مشتركة، فقيل له: يا إبراهيم اذبح ولدك في مرضاتي، فشمر وأخذ السكين وأضجع ولده، ثم قال: اللهم تقبله مني في مرضاتك. فأوحى الله إليه: يا إبراهيم لم يكن المراد ذبح الولد، وإنما المراد أن ترد قلبك إلينا، فلما رددت قلبك بكليته إلينا رددنا ولدك إليك. وقال كعب وغيره: لما أرى إبراهيم ذبح ولده في منامه، قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا. فتمثل الشيطا ن لهم في صورة الرجل، ثم أتى أم الغلام وقال: أتدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت: لا. قال: إنه يذهب به ليذبحه. قالت: كلا هو أرأف به من ذلك. فقال: إنه يزعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فإن كان ربه قد أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ر به. ثم أتى الغلام فقال: أتدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال: لا. قال: فإنه يذهب بك ليذبحك. قال: ولم ؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قال: فليفعل ما أمره الله به، سمعا وطاعة لأمر الله. ثم جاء إبراهيم فقال: أين تريد ؟ والله إني لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك
[ 106 ]
بذبح ابنك. فعرفه إبراهيم فقال: إليك عني يا عدو الله، فوالله لأمضين لأمر ربي. فلم يصب، الملعون منهم شيئا. وفال ابن عباس: لما أمر إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى. واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل: بمكة في المقام. وقيل: في المنحر بمنى عند الجمار التي رمى بها إبليس لعنه الله، قاله ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب. وحكي عن سعيد بن جبير: أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى. وقال ابن جريج: ذبحه بالشام وهو من بيت المقدس على ميلين. والأول أكثر، فإنه ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أنه ذبحه بمكة. وقال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. أجاب من قال بأن الذبح وقع بالشام: لعل الرأس حمل من الشام إلى مكة. والله أعلم. السادسة - قوله تعالى: " إنا كذلك نجزى المحسنين " أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة. " إن هذا لهو البلاء المبين " أي النعمة الظاهرة، يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه. وقد يقال بلاه. قال زهير: / ش فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو / ش فزعم قوم أنه جاء باللغتين. وقا ل آخرون: بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره، ولا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه، ولا يقال من الابتلاء يبلوه. وأصل هذا كله من الاختبار أن يكون بالخير والشر، قال الله عز وجل: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " [ الأنبياء: 35 ]. وقال أبو زيد: هذا من البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه، قال: وهذا من البلاء المكروه. (1) صدر البيت: / ش جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم / ش (*)
[ 107 ]
السابعة - قوله تعالى: " وفديناه بذبح عظيم " الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح، كالطحن اسم المطحون. والذبح بالفتح المصدر. " عظيم " أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة. وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح، أو لأنه متقبل. قال النحاس: عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف. وأهل التفسير على أنه هاهنا للشريف، أو المتقبل. وقال ابن عباس: هو الكبش الذي تقرب به هابيل، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل. وعنه أيضا: أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال الحسن: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه، وهذا قول علي رضى الله عنه. فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه. وقال: يا بني اليوم وهبت لي. وقال أبو إسحاق الزجاج: قد قيل أنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبلي. وأهل التفسير على أنه فدي بكبش. الثامنة - في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهذا مذهب مالك وأصحابه. قالوا: أفضل الضحايا الفحول من الضأن، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز، وفحول المعز خير من إناثها، وإناث المعز خير من الإبل والبقر. وحجتهم قوله سبحانه وتعالى: " وفديناه بذبح عظيم " أي ضخم الجثة سمين، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة. وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأل رجل: إني نذرت أن أنحر ا بني ؟ فقال: يجزيك كبش سمين، ثم قرأ: " وفديناه بذبح عظيم ". وقال بعضهم: لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق. وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين. وأكثر ما ضحي به الكباش. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال: الذبح العظيم الشاة. التاسعة - واختلفوا أيما أفضل: الأضحية أو الصدقة بثمنها. فقال مالك وأصحابه: الضحية أفضل إلا بمنى، لأنه ليس موضع الأضحية، حكاه أبو عمر. وقال ابن المنذر: روينا عن بلال أنه قال: ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه -
[ 108 ]
هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به. وهذا قول الشعبي إن الصدقة أفضل. وبه قال مالك وأبو ثور. وفيه قول ثان: إن الضحية أفضل، هذا قول ربيعة وأبي الزناد. وبه قال أصحاب الرأ ي. زاد أبو عمر وأحمد بن حنبل قالوا: الضحية أفضل من الصدقة، لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل. وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله. فال أبو عمر: وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان، فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم " قال أبو عمر: وهو حديث غريب من حديث مالك. وعن عائشة قالت: يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة " ذكره أبو عمر في كتات التمهيد. وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما عمل آدمى من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسا " قال: وفى الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم. وهذا حديث حسن. العاشرة - إن الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف. وقال عكرمة: كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشتري له لحما، ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس. قال أبو عمر: ومحمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم، لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم، لأنهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم. وقد حكى الطحاوي في مختصره: وقال
[ 109 ]
أبو حنيفة: الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار، ولا تجب على المسافر. قال: ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه. وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا: ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها. قال: وبه نأخذ. قال أبو عمر: وهذا قول مالك، قال: لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى. وقال الإمام الشافعي: هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة. وقد احتج من أوجبها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى، لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة. احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى قالوا: فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضحي " وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال. الحادية - والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية: وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. قال ابن المنذر: وقد حكي عن الحسن بن صالح أ نه قال: يضحى ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن رجل. وقال الإمام الشافعي: لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شئ من هذا أضحية. وقال أصحاب الرأي: جائز، لأن ولدها بمنزلة أمه. وقال أبو ثور: يجوز إذا كا ن منسوبا إلى الأنعام. الثانية عشرة - وقد مضى في سورة " الحج " الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى. وفي صحيح مسلم عن أنس قال: " ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما " في رواية قال " ويقول بسم الله والله أكبر " وقد مضى في آخر " الأنعام " حديث عمران بن حصين، ومضى في " المائدة " القول في التذكية وبيانها وما يذكى به، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى. وفي صحيح مسلم (1) راجع ج 12 ص 42 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 7 ص 155 طبعة إولى أو ثانية. (3) راجع ج 6 ص 50 وما بعدها طبعة شإولى أو ثانية. (*)
[ 110 ]
عن عائشة أن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم " أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به " فقال لها: " يا عائشة هلمي المدية " ثم قال: " اشحذيها بحجر " ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: " بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد " ثم ضحى به. وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية: بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان. وقال مالك: إن فعل ذلك فحسن، وإن لم يفعل وسمى الله أجزأه. وقال الشافعي: والتسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله، أو صلى على محمد عليه السلام لم أكرهه، أو قال اللهم تقبل مني، أو قال تقبل من فلان فلا بأ س. وقال النعمان: يكره أن يذكر مع اسم الله غيره، يكره أن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح. وقال: لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح. وحديث عائشة يرد هذا القول. وقد تقدم أن إبراهيم عليه السلام قال لما أراد ذبح ابنه: الله أكبر والحمد لله. فبقي سنة. الثالثة عشرة - روى البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده وقال: " أربعا - وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي " لفظ مالك ولا خلاف فيه. واختلف في اليسير من ذلك. وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. قال: والمقابلة ما قطع طرف أذنها، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن، والشرقاء المشقوقة، والخرقاء المثقوبة، قال هذا حديث حسن صحيح. وفي الموطأ عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن والتي نقص من خلقها. قال مالك: وهذا أحب ما سمعت إلي. قال (1) النقى: مخ العظام وشحمها. يريد أنه لا يوجد قيها شحم لهزالها وضعفها. (2) نستشرف، يعنى نتطلع العين والأذن، ونبحث عنهما لئلا يكون فيهما عيب. (*)
[ 111 ]
القتبي: لم تسنن أي لم تنبت أسنانها كأ نها لم تعط أسنانا. وهذا كما يقال: فلان لم يلبن أي لم يعط لبنا، ولم يسمن أي لم يعط سمنا، ولم يعسل أي لم يعط عسلا. وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء. قال أبو عمر: ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة، فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها، لأنه عيب غير خفيف. والنقصان كله مكروه، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " استشرقوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم " ذكره الزمخشري. الرابعة عشر - ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذ بحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه، قال ابن عباس. وعنه رواية أخرى: ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه، روى الروايتين عنه الشعبي. وروى عنه القاسم بن محمد: يجزيه كفارة يمين. وقال مسروق: لا شئ عليه. وقال الشا فعي: هو معصية يستغفر الله منها. وقال أبو حنيفة: هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ولا يلزمه في غير ولده شئ. قال محمد: عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث. وذكر ابن عبد الحكم عن مالك فيمن قال: أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي. قال: ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شئ عليه. قال: ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه، قال القاضي ابن العربي: يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة، لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح شاة. وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة، لأن الله تعالى قال: (1) عقب صاحب لسان العرب في مادة " سنن " على رواية القتبى وتفسيره بقوله: " وقد وهم القتبى في الرواية والتفسر، لانه روى الحديث " لم تسنن " بفتح النون الاولى، وإنما حفظه من محدث لم بضبطه، وأهل الثبت والضبط رووه " لم تسنن " بكسر النون وهو الصواب في العربية، والمعنى لم تسن فأظهر التضعيف لسكون النون الأخيرة، كما يقال: لم يجلل. وإنما أراد ابن عمر أنه بضحى بأضيحه لم تئن، أي لم تصر ثنية وإذا أئنت فقد أسنت. ثم قال: وأما خطأ القتى من الجهة الأخرى فقوله: سننت البدنة إذا نبتت أسنانها وسنها الله غير صحيح، وقوله: لم يلين ولم يسمن أي لم لبنا وسمنا غير صحيح، وإنما معنا هما لم يطعم سمنا ولم يسق لبنا ". (*)
[ 112 ]
" ملة أبيكم إبراهيم " [ الحج: 78 ] والإيمان التزام أصلي، والنذر التزام فرعي، فيجب أن يكون محمولا عليه. فإن قيل: كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية والأمر بالمعصية لا يجوز. قلنا: هذا اعتراض على كتاب الله، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام، وقد قال الله تعالى: " أفعل ما تؤمر " والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك: أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان، وإنما الطاعات عبار ة عما تعلق به الأمر من الأفعال، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء، ولهذا قال الله تعالى: " إن هذا لهو البلاء المبين " في الصبر على ذبح الولد والنفس، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية. فإن قيل: كيف يصير نذرا وهو معصية. قلنا إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء ؟ فإن قيل: فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء ؟ قلنا: لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره، لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا. الخامسة عشرة - قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين " أي على إبراهيم ثناء جميلا في الأمم بعده، فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه. وقيل: هو دعاء إبراهيم عليه السلام " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " [ الشعراء. 84 ]. وقال عكرمة: هو السلام على إبراهيم أي سلاما منا. وقيل: سلامة له من الآفات مثل: " سلام على نوح في العالمين " [ الصافات: 79 ] حسب ما تقدم. " كذلكل نجزى المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين " أي من الذين أعطوا العبودية حقها حتى استحقوا الإضافة الى الله تعالى. السادسة عشرة - قوله تعالى: " وبشرنا باسحق نبيا من الصالحين " قال ابن عباس: بشر بنبوته وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين، فعلى هذا الذبيح هو إسحاق بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. " وباركنا عليه وعلى إسحق " أي ثنينا عليهما النعمة. وقيل كثرنا ولدهما، أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني (1) في حاشية الجمل نقلا عن القرطى: بشر بنبوته ووقعت البشارة به مرتين. (*)
[ 113 ]
إسرائيل من صلبه. وقد قيل: إن الكناية في " عليه " تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح. قال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل وذلك أنه قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة: " وفديناه بذبح عظيم " ثم قال: " سلام عل إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين " قال: " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه " أي على إسماعيل " وعلى إسحاق " كنى عنه، لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال: " ومن ذريتهما " فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. قلت: قد ذكرنا أولا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل، وأن المبشر به هو إسحاق بنص التنزيل، فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبيح لا شك هو إسحاق، وبشر به إبراهيم مرتين، الأولى بولادته والثانية بنبوته، كما قال ابن عباس. ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر و " نبيا " نصب على الحال والهاء في " عليه " عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه. وأما ما روي من طريق معاوية قال: سمعت رجلا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بن الذبيحين، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال معاوية: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم، نذر لله إن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده لله، فسهل الله عليه أمرها، فوقع السهم على عبد الله، فمنعه أخواله بنو مخزوم، وقالوا: أفد ابنك، ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه، لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتا ب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولأن العرب تجعل العم أبا، قال الله تعالى: " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " [ البقرة: 133 ] وقال تعالى: " ورفع أبويه على العرش " [ يوسف: 100 ] وهما أبوه وخالته. وكذلك ما روي عن الشاعر الفرزدق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لو صح إسناده فكيف وفي الفرزدق نفسه مقال. السابعة عشرة - قوله تعالى: " ومن ذريتهما محسن وظالم " لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال: منهم محسن ومنهم مسئ، وإن المسئ لا تنفعه بنوة النبوة، فاليهود والنصارى
[ 114 ]
وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسئ والمؤمن والكافر، وفي التنزيل: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبنا ء الله وأحباؤه " [ المائدة: 18 ] الآية، أي أبناء رسل الله فرأوا لأنفسهم فضلا. وقد تقدم. قوله تعالى: ولقد مننا على موسى وهرون ونجينهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرنهم فكانوا هم الغالبين وءاتينهما الكتب المستبين وهدينهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الاخرين سلم على موسى وهرون إنا كذلك نجزى المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين قوله تعالى: " ولقد مننا على موسى وهرون " لما ذكر إنجاء إسحاق من الذبح، وما من به عليه بعد النبوة، ذكر ما من به أيضا على موسى وهرون من ذلك. وقوله: " من الكرب العظيم " قيل: من الرق الذي لحق بني إسرائيل. وقيل من الغرق الذي لحق فرعون. " ونصرناهم " قال الفراء: الضمير لموسى وهرون وحدهما، وهذا على أن الاثنين جمع، دليله قوله: " وآتيتاهما " " وهديناهما ". وقيل: الضمير لموسى وهرون وقومهما وهذا هو الصواب، لأن قبله " ونجيناهما وقومهما ". و " الكتاب المستبين " التوراة، يقال استبان كذا أي صار بينا، واستبانه فلان مثل تبين الشئ بنفسه وتبينه فلان. و " الصراط المستقيم " الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. " وتركنا عليهما في الاخرين " يريد الثناء الجميل. " سلام على موسى وهرون إنا كذلك نجزى المحسنين. إنهما من عبادنا المؤمنين " تقدم. (1) راجع ج 6 ص 12 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 115 ]
قوله تعالى: وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتدرون أحسن الخلقين الله ربكم ورب ءابائكم الاولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الاخرين سلم على ال ياسين إنا كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنان المؤمنين قوله تعالى: " وإن إلياس لمن المرسلين " قال المفسرون: إلياس نبي من بني إسرائيل. وروي عن ابن مسعود قال: إسرائيل هو يعقوب وإلياس هو إدريس. وقرأ: " وإن إدريس " وقاله عكرمة. وقال: هو في مصحف عبد الله: " وإن إدريس لمن المرسلين " وانفرد بهذا القول. وقال ابن عباس: هو عم اليسع. وقال ابن إسحاق وغيره: كان القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوقنا ثم حزقيل، ثم لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل، ونسوا عهد الله وعبدوا الأوثان من دونه، فبعث الله إليهم إلياس نبيا وتبعه اليسع وآمن به، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يريحه منهم فقيل له: اخرج يوم كذا وكذا إلى موضع كذا وكذا فما استقبلك من شئ فاركبه ولا تهبه. فخرج ومعه اليسع فقال: يا إلياس ما تأمرني. فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر العهد به. وقطع الله على إلياس لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش وألبسه النور، فطار مع الملائكة، فكان إنسيا ملكيا سماويا أرضيا. قال ابن قتيبة: وذلك أن الله تعالى قال لإنياس " سلني أعطك ". قال: ترفعني إليك وتؤخر عني مذاقة الموت. فصار يطير مع الملائكة. وقال بعضهم: كان قد مرض وأحس الموت فبكى، فأوحى الله إليه: لم تبك ؟ حرصا على الدنيا، أو جزعا من الموت، أو خوفا من النار ؟ قال: لا، ولا شئ من هذا وعزتك، إنما جزعي كيف يحمدك الحامدون بعدي ولا أحمدك ! ويذكرك (1) قال بعض المفسرين هو ابن عم اليسع. (*)
[ 116 ]
الذاكرون بعدي ولا أذكرك ! ويصوم الصائمون بعدي ولا أصوم ! ويصلي المصلون ولا أصلي. فقيل له: " يا إلياس وعزتي لأؤخرنك إلى وقت لا يذكرني فيه ذاكر ". يعني يوم القيامة. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: إن إ لياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان في كل عام ببيت المقدس يوافيان ا لموسم في كل عام. وذكر ابن أبي الدنيا، إنهما يقولان عند افتراقهما عن الموسم: ما شاء الله ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله ما شاء الله، لا يصر ف السوء إلا الله، ما شاء الله ما شاء الله، ما يكون من نعمة فمن الله، ما شاء ا لله ما شاء الله، توكلت على الله حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد مضى في " الكهف ". وذكر من طريق مكحول عن أنس قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر، إذا نحن بصوت يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد ا لمرحومة، المغفور لها، المتوب عليها، المستجاب لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أنس، انظر ما هذا الصوت ". فدخلت الجبل، فإذا أنا برجل أبيض اللحية والرأس، عليه ثياب بيض، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فلما نظر إلي قا ل: أنت رسول النبي ؟ قلت: نعم، قال: ارجع إليه فأقرئه مني السلام وقل له: هذا أخوك إلياس يريد لقاءك. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى إذا كنا قريبا منه، تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت، فتحدثا طويلا، فنزل عليهما شئ من السماء شبه السفرة فدعواني فأكلت معهما، فإذا فيها كمأة ورمان وكرفس، فلما أكلت قمت فتنحيت، وجاءت سحابة فاحتملته فإذا أنا أنظر إلى بياض ثيابه فيها تهوي، فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي ! هذا الطعام الذي أ كلنا أمن السماء نزل عليه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سألته عنه فقال يأتيني به جبريل في كل أربعين يوما أكلة، وفي كل حول شربة من ماء زمزم، وربما رأيته على الجب يملأ بالدلو فيشرب وربما سقاني ". قوله تعالى: " إذا قال لقومه " يعنى لبنى إسرائيل. " ألا تتقون " يعنى الله عزوجل وتخافون عقابه. " أتدعون بعلا " اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك. (1) راجع ج 11 ص 43 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 117 ]
قال ثعلب: اختلف الناس في قوله عز وجل ها هنا " بعلا " فقالت طائفة: البعل ها هنا الصنم. وقال طائفة: البعل ها هنا ملك. وقال ابن إسحاق: امرأة كانوا يعبدونها. والأول أكثر. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: " أتدعون بعلا " قال: صنما. وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس: " أتدعون بعلا " قال: ربا. النحاس: والقولان صحيحان، أي أتدعو ن صنما عملتموه ربا. يقال: هذا بعل الدار أي ربها. فالمعنى أتدعون ربا اختلقتموه، و " أتدعون " بمعنى أتسمون. حكى ذلك سيبويه. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي: البعل الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلا من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال: من بعل هذه ؟. أي من ربها، ومنه سمي الزوج بعلا. قال أبو دواد: / ش ورأيت بعلك في الوغى / ومتقلدا سيفا ورمحا / ش مقاتل: صنم كسره إلياس وهرب منهم. وقيل: كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعا، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام. وبه سميت مدينتهم بعلبك كما ذكرنا. " وتذرون أحسن الخالقين " أي أحسن من يقال له خالق. وقيل: المعنى أحسن الصانعين، لأن الناس يصنعون ولا يخلقو ن. " الله ربكم ورب آبائكم الأولين " بالنصب في الأسماء الثلاثة قرأ الربيع بن خيثم والحسن وابن أبي إسحاق وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي. وإليها يذهب أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى أبو عبيد أنها على النعت. النحاس: وهو غلط وإنما هو على البدل ولا يجوز النعت ها هنا، لأنه ليس بتخلية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس: وأولى مما قال أنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف. ورأيت علي بن سليمان يذ هب إلى أن الرفع (1) هكذا في كل نسخ الأصل ونسبه في الكامل لعبد الله بن الزبعرى ورواء كما في المعاجم: يا ليت زوجك في الوغى الخ وقد مضى للمصنف. (*)
[ 118 ]
أولى وأحسن، لأن قبله رأس آية فالاستئناف أولى. ابن الأنباري: من نصب أو رفع لم يقف على " أحسن الخالقين " على جهة التمام، لأن الله عز وجل مترجم عن " أحسن الخالقين " من الوجهين جميعا. قوله تعالى: " فكذبوه " أخبر عن قوم إلياس أنهم كذبوه. " فإنهم لمحضرون " أي في العذاب. " إلا عباد الله المخلصين " أي من قومه فإنهم نجوا من العذاب. وقرئ " المخلصين " بكسر اللام وقد تقدم. " وتركنا عليه في الاخرين " تقدم. " سلام على آل ياسين " قراءة الأعرج وشيبة ونافع. وقرأ عكرمة وأبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي: " سلام على إلياسين ". وقرأ الحسن: " سلام على الياسين " بوصل الألف كأنها ياسين دخلت عليها الألف واللام التي للتعريف. والمراد إلياس عليه السلام، وعليه وقع التسليم ولكنه اسم أعجمي. والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا، فياسين وإلياس والياسين شئ واحد. الزمخشري: وكان حمزة إذا وصل نصب وإذا وقف رفع. وقرئ: " على إلياسين " و " إدريسين وإدرسين وإدراسين " على أنها لغات في إلياس وإدريس. ولعل لزيادة الياء والنون في السريانية معنى. النحاس: ومن قرأ: " سلام على آل ياسين " فكأنه والله أعلم جعل اسمه إلياس وياسين ثم سلم على آله، أي أهل دينه ومن كان على مذهبه، وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله فهو داخل في السلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم صل على آل أبي أوفى " وقال الله تعالى: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " [ غافر: 46 ]. ومن قرأ " إلياسين " فللعلماء فيه غير قول. فروى هرون عن ابن أبي إسحاق قال: إليا سين مثل إبراهيم يذهب إلى أنه اسم له. وأبو عبيدة يذهب إلى أنه جمع جمع التسليم على أنه وأهل بيته سلم عليهم، وأنشد: / ش قدني من نصر الخبيبين قدي / ش (1) تمامه: / ش ليس الإمام بالشحيح الملحد / ش والبيت من أرجوزة لحميد الأرقط بمدح عبد الملك بن مروان، و يعرض بعبد الله بن الزبير، يرميه بالبخل والإلحاد في الحرم. وقيل هو لأبى بحدلة. (*)
[ 119 ]
يقال: قدني وقدي لغتان بمعنى حسب. وإنما يريد أبا خبيب عبد الله بن الزبير فجمعه على أن من كان على مذهبه داخل معه. وغير أبي عبيدة يرويه: الخبيبين على التثنية، يريد عبد الله ومصعبا. ورأيت علي بن سليمان يشرحه بأكثر من هذا، " قال " فإن العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون: المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب. قال: فعلى هذا " سلام على إلياسين " سمي كل رجل منهم بإلياس. وقد ذكر سيبويه عي كتابه شيئا من هذا، إلا أنه ذكر أن العرب تفعل هذا على جهة النسبة، فيقولون: الأشعرون يريدون به النسب. المهدوي: ومن قرأ " إلياسين " فهو جمع يدل فيه إلياس فهو جمع إلياسي فحذفت ياء النسبة، كما حذفت ياء النسبة في جميع المكسر في نحو المهالبة في جمع مهلبي، كذلك حذفت في المسلم فقيل المهلبون. وقد حكى سيبويه: الأشعرون والنميرون يريدون الأشعريين والنميريين. السهيلي: وهذا لا يصح بل هي لغة في إلياس، ولو أراد ما قالوه لأدخل الألف واللام كما تدخل في المهالبة والأشعريين، فكان يقول: " سلام على الإلياسين " لأن العلم إذا جمع ينكر حتى يعرف بالألف واللام، لا تقول: سلام على زيدين، بل على الزيدين بالألف واللام. فإلياس عليه السلام فيه ثلاث لغات. النحاس: واحتج أبو عبيد في قراءته " سلام على إلياسين " وأنه اسمه كما أن اسمه إلياس لأنه ليس في السورة سلام على " آل " لغيره من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، فكما سمي الأنبياء كذا سمي هو. وهذا الاحتجاج أصله لأبي عمرو وهو غير لازم، لأنا بينا قول أهل اللغة أنه إذا سلم على آله من أجله فهو سلام عليه. والقول بأن اسمه " إلياسين " يحتاج إلى دليل ورواية، فقد وقع في الأمر إشكال. قال الماوردي: وقرأ الحسن " سلام على ياسين " بإسقاط الألف واللام وفيه وجهان: أحدهما أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس. والثاني أنهم آل ياسين، فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان: أحدهما: أنها زيدت لتساوي الآي، كما قال في موضع: " طور سيناء " [ المؤمنون: 20 ] وفي موضع آخر " طو ر سينين " [ التين: 2 ] فعلى هذا يكون (1) الزيادة من إعراب القدآن لنحاس. (*)
[ 120 ]
لالسلام على أهله دونه، وتكون الإضافة إليه تشريفا له. الثاني: أنها دخلت للجمع فيكون داخلا في جملتهم فيكون السلام عليه وعليهم. قال السهيلي: قال بعض المتكلمين في معاني القرآن آل ياسين آل محمد عليه السلام، ونزع إلى قول من قال في تفسير " يس " يا محمد. وهذا القول يبطل من وجوه كثيرة: أحدها: أن سياقة الكلام في قصة إلياسين يلزم أن تكون كما هي في قصة إبراهيم ونوج وموسى وهارون وأن التسليم راجع عليهم، ولا معنى للخروج عن مقصود الكلام لقول قيل في تلك الآية الأخرى مع ضعف ذلك القول أيضا، فإن " يس " و " حم " و " الم " ونحو ذلك القول فيها واحد، إنما هي حروف مقطعة، إما مأخوذة من أسماء الله تعالى كما قال ابن عباس، وإما من صفات القرآن، وإما كما قال الشعبي: لله في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح القرآن. وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لي خمسة أسماء " ولم يذكر فيها " يس ". وأيضا فإن " يس " جاءت التلاوة فيها بالسكون والوقف، ولو كان اسما للنبي صلى صلى الله عليه وسلم لقال: " يسن " بالضم، كما قال تعالى: " يوسف أيها الصديق " [ يوسف: 46 ] وإذا بطل هذا القول لما ذكرناه، ف " إلياسين " هو إلياس المذكور وعليه وقع التسليم. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو مثل إدريس وإدراسين، كذلك هو في مصحف ابن مسعود. " وإن إدريس لمن المرسلين " ثم قال: " سلام على إدراسين ". " إنا كذلك نجزى المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين " تقدم. قوله تعالى: وإن لوطا لمن المرسلين إذا نجينه واهله - أجمعين إلا عجوزا في الغبرين ثم دمرنا الاخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون قوله تعالى: " وإن لوطا لمن المرسلين. إذ نجيناه وأهله أجمعين. إلا عجوزا في الغابرين " تقدم قصة لوط. " ثم دمرنا الاخرين " أي بالعقوبة. " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين " (1) راجع ج 7 ص 245 وج 9 ص 75 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 121 ]
خاطب العرب أي تمرون عل منازلهم وآثارهم " مصبحين " وقت الصباح " وبالليل " تمرون عليهم أيضا بالليل وتم الكلام. ثم قال: " أفلا تعقلون " أي تعتبرون وتتدبرون. قوله تعالى: وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق الى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه الى يوم يبعثون فيه عان مسائل: الأولى - قوله تعالى: " وإن يونس لمن المرسلين " يونس هو ذو النون، وهو ابن متى، وهو ابن العجوز التي نزل عليها إلياس فاستخفى عندها من قومه ستة أشهر ويونس صبي يرضع، وكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتؤانسه، ولا تدخر عنه كرامة تقدر عليها ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت فلحق بالجبال، ومات ابن المرأة يونس، فخرجت في أثر إلياس تطوف وراءه في الجبال حتى وجدته، فسألته أن يدعو الله لها لعله يحيى لها ولدها، فجاء إلياس إلى الصبي بعد أربعة عشر يوما من موته، فتوضأ وصلى ودعا الله فأحيا الله يونس بن متى بدعوة إلياس عليه السلام. وأرسل الله يونس إ لى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام ثم تابوا، حسب ما تقدم بيانه في سورة " يونس " ومضى في " الأنبياء " قصة يونس في خروجه مغاضبا. واختلف في رسالته هل كانت قبل التقام الحوت إياه أو بعده. قال الطبري عن شهر بن حوشب: إن جبريل عليه السلام أتي يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم. قال: ألتمس دابة. قال: الأمر أعجل من ذلك. قال: ألتمس حذاء. قال: ا لأمر أعجل من ذلك. قال: فغضب فانطلق إلى السفينة فركب، فلما ركب السفينة احتبست السفينة لا تتقدم ولا تتأخر. قال: فتساهموا، (1) ج 8 ص 384 طبعة أولى أو ثانية. (2) ج 11 ص 329 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 122 ]
قال: فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه، فنودي الحوت: أيا حوت ! إنا لم نجعل لك يونس رزقا، إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. قال: فالتقمه الحوت من ذلك المكان حتى مر به إلى الأبلة، ثم انطلق به حتى مر به على دجلة، ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى. حدثنا الحرث قال حدثنا الحسن قال حدثنا أبو هلال قال حدثنا شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، واستدل هؤلاء بأن الرسول لا يخرج مغاضبا لربه، فكان ما جرى منه قبل النبوة. وقال آخرون: كان ذلك منه بعد دعائه من أرسل إليهم إلى ما أمره الله بدعائهم إليه، وتبليغه إياهم رسالة ربه، ولكنه وعدهم نزول ما كان حذرهم من بأس الله في وقت وقته لهم ففارقهم إذ لم يتوبوا ولم يراجعوا طاعة الله، فلما أظل القوم العذاب وغشيهم - كما قال الله تعالى في تنزيله - تابوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم، وبلغ يونس سلامتهم وارتفاع العذاب الذي كان وعدهموه فغضب من ذلك وقال: وعدتهم وعدا فكذب وعدي. فذهب مغاضبا ربه وكره الرجوع إليهم، وقد جربوا عليه الكذب، روا سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد مضى هذا في " الأنبياء " وهو الصحيح على ما يأتي عند قول تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " [ الصافات: 147 ]. ولم ينصف يونس، لأنه اسم أعجمي ولو كان عربيا لانصرف وإن كانت في أول الياء، لأنه ليس في الأفعال يفعل كما أنك إذا سميت بيعفر صرفته، وإن سميت بيعفر لم تصرفه. الثانية - قوله تعالى: " إذا أبق " قال المبرد: أصل أبق تباعد، ومنه غلام آبق. وقال غيره: إنما قيل ليونس أبق، لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل مستترا من الناس. " إلى الفلك المشحون " أي المملوء. " والفلك " يذكر ويؤنث ويكون واحدا وجمعا وقد تقدم. قال الترمذي الحكيم: سماه آبقا لأنه أبق عن العبودية، وإنما العبودية ترك الهوى وبذل النفس عند أمور الله، فلما لم يبذل النفس عندما اشتدت عليه العزمة من الملك حسب ما تقدم بيانه في [ الأنبياء ]، وآثر هواه لزمه اسم الآبق، وكانت عزمة الملك في أمر الله (1) وذلك لأنه زال عنه شبه الفعل بخلاف يعفر فانه على وزن يقتل فنع الصرف. (2) راجع ج 2 ص 194 طبعة ثانية. (*)
[ 123 ]
لا في أمر نفسه، وبحظ حق الله لا بحظ نفسه، فتحرى يونس فلم يصب الصواب الذي عند الله فسماه آبقا ومليما. الثالثة: قوله تعالى: " فساهم " قل المبرد: فقارع قال: وأصله من السهام التى تجال. " فكا من المدحضين " قال: من المغلوبين. قال القراء: دحضت حجته وأدحضها الله. وأصله من الزلق، قال الشاعر: / ش قتلنا المدحضين بكل فج / وفقد قرت بقتلهم العيون / ش أي المغلوبين. الرابعة - قوله تعالى: " فألتقمه الحوت وهو مليم " أي أتى بما يلام عليه. فأما الملوم فهو الذي يلام، استحق ذلك أو لم يستحق. وقيل: المليم المعيب. يقال لام الرجل إذا عمل شيئا فصار معيبا بذلك العمل. " فلولا أنه كان من المسبحين " قال الكسائي: لم تكسر " أن " لدخول اللام، لأن اللام ليست لها. النحاس: والأمر كما قال، إنما اللام في جواب لولا. " فلولا أنه كان من المسبحين " أي من المصلين للبث ف بطنه إلى يوم يبعثون " أي عقوبة له، أي يكون بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. واختلف كم أقام في بطن الحوت. فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما. الضحال: عشرين يوما. عطاء: سبعة أيام. مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام. وقيل: ساعة واحدة. والله أعلم. الخامسة - روى الطبري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أراد الله تعالى ذكره - حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه من البحر، فلما أنتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا ؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه وهو في بطن الحوت: " إن هذا تسبيح دواب البحر قال: " فسبح وهو في بطن الحوت " قال: " فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة " قال: " ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر " قالوا العبد الصالح الذي كان
[ 124 ]
يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال نعم. فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت بقذفه في الساحل كما قال تعالى: " وهو سقيم ". وكان سقمه الذي وصفه به الله - تعالى ذكره أنه ألقاه الحوت على الساحل كالصبى المنفوس قد نشر اللحم والعظم. وقد روي: أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح، ولم يفار قهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يغير منه شئ فأسلموا، ذكره الزمخشري في تفسيره. وقال ابن العربي: أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني: أنه سئل عن الباري في جهة ؟ فقال: لا، هو يتعالى عن ذلك. قيل له: ما الدليل عليه ؟ قال: الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوني على يونس بن متى " فقيل له: ما وجه الدليل في هذا الخبر ؟ فقال: لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينا. فق ام رجلان فقالا: هي علينا. فقال لا يتبع بها اثنين، لأنه يشق عليه. فقال واحد: هي علي. فقال: إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت، فصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " [ الأنبياء: 87 ] كما أخبر الله عنه، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر وارتقى به صعدا، حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، ومنا جاه ربه بما ناجاه به، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله تعالى من يونس في. بطن الحوت في ظلمة البحر. السادسة - ذكر الطبري: أن يونس عليه السلام لما ركب في السفينة أصاب أهلها عاصف من الريح، فقالوا: هذه بخطيئة أحدكم. فقال يونس وعرف أنه هو صاحب الذنب: هذه خطيئتي فألقوني في البحر، وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم " فساهم " فكان من المدحضين " فقال لهم: قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبى. وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم الثانية فكان من المدحضين، وأنهم أبوا أن يلقوه في البحر حتى أعادوا سهامهم الثالثه فكان من المدحضين. فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحد، وذلك تحت الليل فابتلعه الحوت. وروى أنه لما ركب في السفينة بقنع ورقد، فساروا غير بعيد إذ جاعتهم
[ 125 ]
ريح كادت السفينة أن تغرق، فاجتمع أهل السفينة فدعوا فقالوا: أيقظوا الرجل النائم يدعو معنا، فدعا الله معهم فرفع الله عنهم تلك الريح، ثم انطلق يونس إلى مكانه فرقد، فجاعت ريح كادت السفينة أن تغرق، فأيقظوه ودعوا الله فارتفعت الريح. قال: فبينماهم كذلك إذ رفع حوت عظيم رأسه إليهم أراد أن يبتلع السفينة، فقال لهم يونس: يا قوم ! هذا من أجلى فلو طرحتموني في البحر لسرتم ولذهب الريح عنكم والروع. قالوا: لا نطرحك حتى نتساهم فمن وقعت عليه رميناه في البحر. قال: فتساهموا فوقع على يونس، فقال لهم: با قون الطرحونى فمن أجلى أوتيتم، فقالوا لا نفعل حتى نتساهم مرة أخرى. ففعلوا فوقع: على يونس. فقال لهم: يا قون الطرحونى فمن أجلى أوتيتم. فذلك قول الله عزوجل: " فساهم فكان من المدحضين " أي وقع السهم عليه، فانطلقوا به الى صدر السفينة ليلقوه في البحر، فإذا الحوت فاتح فاه، ثم جاءوا به الى جانب السفينة، فإذا بالحوت، ثم رجعوا به الى الجانب الاخر بالحوت فاتح فاه، فلما رأى ذلك ألقى بيفسه فالبقمه الحوت، فأوحى الله تعالى الى الحوت: إنى لم أجعله لك رزقا ولكن جعلت بطنك له وعاء. فمكث في بطن الحوت أربهيم ليلة فنادى في الظلمات " أن لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " وقد تقدم ويأتى. ففى هذا من الفقة أن القرعة كانت معمولا بها في شرع من قبلنا، وجاءت في شرعنا على ما تقدم في " آل عمران " قال ابن العربي: وقد وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن، الأول كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهم خرج سهمها خرج بها معه، الثاني - أنن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق ستة أعبد لا مال له فأقرع بينهم، فاعتق اثنين وأرق أربعة. الثالث - أن رجلين اختصما إليه في مواريث قد درست فقال: " اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه ". فهذه ثلاثة مواطن، وهى القسم في النكاح والعتق والقسمة، وجريان القرعة فيها لرفع الإشكال (1) راجع ج 4 ص 86 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 126 ]
وجسم داء التشهر. واختلف علماؤنا في القرية بين الزوجات في الغزو على قولين، الصحيح منهما الاقراع. وبه قال فقهاء الأمصار. وذلك أن السفر بجمعين لا يمكن، واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق الا القرعة. وكذلك في مسألة الأعبد السنة، فإن كل اثنى منهما ثلث، وهو القدر الذى يجوز له فيه العتق في مرض الموت، وتعيينهما بالتشى لا يجوز شرعا فلم يبق الا القرعة. وكذلك التشاجر إذا وقع في أعيان المواريث لم يميز الحق الا القرعة فصارت أصلا في تعيين المستحق إذا أشكل. قال: والحق عندي أن تجرى في كل مشكل فذلك أبين لها، وأقوى لفصل الحكم فيها، وأجلى لرفع الاشكال عنها، ولذلك قلنا إن القرعة بين الزوجات في الطلاق كالقرعة بين الاماء في العتق. السابعة - الافتراع على إلقاء الادمى في البحر لا يجوز. وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمه لتحقيق برهانه، وزيادة في ايمانه، فانه لا يجوز لمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى به في النار أو البحر، وإنما تجرى عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته. وقد ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم هاضطروا الى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفا، وهذا فاسد، فإنها لا تخف برمى بعض الرجال و إنما ذلك في الأموال: ولكنهم يصبرون على قضاء الله عزوجل. الثامنة - أخبر الله عزوجل أن يونس كان من المسبحين، وأن تسبيحه كان سبب نجاته، ولذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. قال ابن عباس: " من المسبحين " من المصلين المطيعين قبل المعصية. وقال وهب: من العابدين. وقال الحسن: ماكان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، وإذا عثر وجد متكأ.
[ 127 ]
قلت: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم " من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل " فيجتهد العبر، ويحرص على خصله من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويخبؤها بجهده، ويسترها عن خلقه، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه. وقد خرج البخاري وسلم من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بينما ثلاثة نفر - في رواية ممن كان قبلكم - يتماشون أخذهم المطر فاووا الى غار في جبل فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحه لله بها لعله يفرجها عنكم " الحديث بكماله وهو مشهور، شهرته أغنت عن تمامه. وقال سعيد بن جبير: لما قال في بطن الحوت " لا اله الا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين " قذفه الحوت. وقيل: " من المسبحين " من المصلين في بطن الحوت. قلت: والأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان، وعليه يدل حديث أبى هريرة المذكور قبل الذى ذكره الطبري. قال: فسبح في بطن الحوت. قال: فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضفيفا بأرض غريبه. وتكون " كان " على هذا القول زائدة. أي فلولا أنه من المسبحين. وفي كتاب أبى داود عن سعد بن أبى وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دعاه ذى النون في بطن الحوت " لا اله الا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين " لم يدع به رجل مسلم في شى قط الا استجب له " وقد مضى هذا في سورة " الانبياء " فيونس عليه السلام كان قبل مصليا مسبحا، وفى بطن الحوت كذلك. وفي الخبر: فنودى الحوت، انا لم نجعل يونس لك رزقا، إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. وقد تقدم. قوله تعالى: فنبذنه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلنه الى مائة ألف أو يزيدون فامنوا فمتهم الى حين (1) راجع ج 11 ص 329 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 128 ]
قوله تعالى: " فنبدناه بالعراء وهو سقيم ووأنبتنا عليه شجرة من يقطين " روى أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبى هريرة: طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه بقطينه، فقلنا يا أبا هريرة: وما اليقطينة ؟ قال: شجرة الدباء هيأ الله له أرويه وحشيه تأكل من خشاش الارض - أو هشاش الأرض - فتفشج عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرج به يعنى الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر، فطرحه مثل الصبى المنفوس لم ينقص من خلقه شى. وقيل إن يونس لما ألقاه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة من يقطين، وهى فيها ذكر شجرة القرع نتقطر عليه من اللبن حتى رجعت إليه قوته. ثك رجع ذات يوم الى الشجرة فوجدها يبست، فحزن وبكى عليها فعوتب، فقيل له: أحزنت على شجرة وبكيت عليها، ولم تحزن على مائة ألف وزيادة من بنى اسرائيل، من أولاد إبراهيم خليلي، أسرى في أيدى العدو، وأردت إهلاكهم جميعا. وقيل: هي شجرة التين. وقيل: شجرة الموز تغطى بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها. والأكثر على أنها شجرة اليقطين على ما ياتي. ثم إن الله تبارك وتعالى اجتباه فجعله من الصالحين. ثم أمره أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله تعالى قد تاب عليهم، فعمد إليهم حتى لقي راعيا فسأله عن قوم يونس وعن حالهم وكيف هم، فأخبره أنهم بخير، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم. فقال له: فأخبرهم أني قد لقيت يونس. قال: وماذا ؟ قال: وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك لقيت يونس، قال: وماذا ؟ قال وهذه الشجرة تشهد لك أنك لقيت يونس. وأنه رجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا فقال: لا تعجلوا علي حتى أصبح، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس، فاستنطقها فأخبرتهم أنه لقي يونس، واستنطق الشاة والشجرة فأخبرتاهم أنه لقي يونس، ثم إن يونس أتاهم بعد ذ لك. (1) الأروية: الأنثى من الوعول. (2) تفشج: تفرج ما بين رجليها. (*)
[ 129 ]
ذكر هذا الخبر وما قبله الطبري رحمه الله. " فنبذناه " طرحناه. وقيل: تركناه. " بالعراء " بالصحراء، قال ابن الأعرابي. الأخفش: بالفضاء. أبو عبيدة: الواسع من الأرض. الفراء: العراء المكان الخالي. قال: وقال أبو عبيدة: ا لعراء وجه الأرض، وأنشد لرجل من خزاعة: / ش ورفعت رجلا لا أخاف عثارها / وونبذت بالبلد العراء ثيابي / ش وحكى الأخفش في قوله: " وهو سقيم " جمع سقيم سقمى وسقامي وسقام. وقال في هذه السورة: " فنبذناه بالعراء " وقال في " ن والقلم " [ ا لقلم: 1 ]: " لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم " [ القلم: 49 ] والجواب: أن الله عز وجل خبر ها هنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم ولولا رحمة الله عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم، قاله النحاس. وقوله، " وأنبتنا عليه شجرة من يقطين " يعني " عليه " أي عنده، كقوله تعالى: " ولهم على ذنب " [ الشعراء: 14 ] أي عندي. وقيل: " عليه " بمعنى له. " شجرة من يقطين " اليقطين: شجر الدباء: وقيل غيرها، ذكره ابن الأعرابي. وفي الخبر: " الدباء والبطيخ من الجنة " وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال المبرد: يقال لكل شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأرض يقطينة نحو الدباء والبطيخ والحنظل، فإن كان لها ساق يقلها فهي شجرة فقط، وإن كانت قائمة أي بعروق تفترش فهي نجمة وجمعها نجم. قال الله تعالى: " والنجم والشجر يسجدان " [ الرحمن: 6 ] وروي نحوه عن ابن عباس والحسن ومقاتل. قالوا: كل نبت يمتد ويبسط على الأرض ولا يبقى على استواء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل فهو يقطين. وقال سعيد بن جبير: هو كل شئ ينبت ثم يموت من عامه فيدخل في هذا الموز. قلت: وهو مما له ساق. الجوهر ي: واليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه. الزجاج: اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان إذا أقام به فهو يفعيل. وقيل: هو اسم اعجمي. وقيل: إنما خص اليقطين بالذكر، لأنه لا ينزل عليه ذباب. وقيل: ما كان ثم يقطين (1) الزيادة من إعراب القران للنحاس، وهى عبارته عن الأخفش. (*)
[ 130 ]
فأنبته الله في الحال. القشيري: وفي الآية ما يدل على أنه كان مفروشا ليكون له ظل. الثعلبي: كانت تظله فرأى خضرتها فأعجبته، فيبست فجعل يتحزن عليها، فقيل له: يا يونس أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن على شجيرة، فأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة، وقد تابوا وتبت عليهم فأين رحمتي يا يونس أنا أرحم الراحمين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل الثريد باللحم والقرع وكان يحب القرع ويقول: " إنها شجرة أخي يونس " وقال أنس: قدم للنبي صلى الله عليه وسلم مرق فيه دباء وقديد فجعل يتبع الدباء حوالي القصعة. قال أنس: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. أخرجه الأئمة. قوله تعالى: " وأرسلنا إلى مائة ألف أو بزيدون " قد تقدم عن ابن عباس أن رساله يونس عليه السلام إنما كانت بعد مانبذه الحوت. وليس له طريق إلا عن شهر بن حوشب. النحاس: وأجود منه إسنادا وأصح ما حدثناه عن علي بن الحسين قال: حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنى عمرو بن العنقزي قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال عن يونس النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أن يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها، وحرجوا فجأروا إلى الله عز وجل واستغفروا، فكف الله عز وجل عنهم العذاب، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئا - وكان من كذب لم تكن له بينة قتل - فخرج يونس مغاضبا، فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه، فلما دخل السفينة ركدت السفينة والسفن تسير يمينا وشمالا، فقالوا: ما لسفينتكم ؟ فقالوا: لا ندري. فقال يونس عليه السلام: إن فيها عبدا آبقا من ربه جل وعز وإنها لن تسير حتى تلقوه. قالوا أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك. قال: فأقر عوا فمن قرع فليقع، فاقترعوا فقرعهم يونس فأبوا أن يدعوه، فال: فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع. فاقترعوا فقرعهم يونس ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله به جل وعز حوتا فابتلعه وهو يهوي به إلى قرار الأرض، فسمع يونس عليه السلام
[ 131 ]
تسبيح الحصى " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " [ الأنبياء: 87 ] قال: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت. قال: فنبذناه بالعراء وهو سقيم " قال: كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. قال: وأنبت الله عليه شجرة من يقطين فنبتت، فكان يستظل بها ويصيب منها، فيبست فبكى عليها، فأوحى الله جل وعز إليه: أتبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم قال: وخرج رسول الله يونس فإذا هو بغلام يرعى، قال: يا غلام من أنت ؟ قال: من قوم يونس. قال: فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال: إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم تكن له بينة فمن يشهد لي ؟ قال: هذه الشجرة وهذه البقعة. قال: فمرهما، فقال لهما يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فأشهدا له. قالتا نعم. قال: فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة وكان له إخوة، فأتى الملك فقال: إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليك السلام. قال: فأمر به أن يقتل، فقالوا: إن له بينة فأرسلوا معه. فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما بالله جل وعز أتشهدان أني لقيت يونس ؟ قالتا: نعم ! قال: فرجع القوم مذعورين يقولون له: شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا. قال عبد الله: فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني. قال عبد الله: فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. قال أبو جعفر النحاس: فقد تبين في هذا الحديث أن يونس كان قد أرسل قبل أن يلقمه الحو ت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس آمنو ا وندموا قبل أن يروا العذاب، لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم العذاب إلى ثلاثة أيام، ففرقوا بين كل والده هولدها، وضجوا ضجة واحدة إلى الله عز وجل. وهذا هو الصحيح في الباب، وأنه لم يكن حكم الله عز وجل فيهم كحكمه في غيرهم في قول عزوجل: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " [ غافر: 85 ] وقوله عز وجل: " " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت " [ النساء: 18 ] الآية.
[ 132 ]
وقال بعض العلماء: إنهم رأوا مخائل العذاب فتابوا. وهذا لا يمنع، وقد تقدم ما للعلماء في هذا في سورة " يونس " فلينظر هناك. قوله تعالى: " أو يزيدون " قد مضى في " البقرة " محامل " أو " في قوله تعالى: " أو أشد قسوة ". وقال الفراء: " أو " بمعنى بل. وقال غيره: إنها بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر: / ش فلما اشتد امر الحرب فينا / وتأملنا رياحا أو رزاما / ش أي ورزاما. وهذا كقوله تعالى: " وما أمر الساعة الا كلمح البصر أو هو أقرب ". وقرأ جعفر بن محمد " إلى مائة ألف ويزيدون " بغير همز ف " يزيدون " في موضع رفع بانه خبر مبتدا محذوف أي وهم يزيدون. النحاس: ولا يصح هذان القولان عند البصريين، وأنكروا كون " أو " بمعنى بل وبمعنى الواو، لان بل للاضراب عن الاول والايجاب لما بعده وتعالى الله عزوجل عن ذلك، أو خروج من شى الى شئ وليس هذا موضع ذلك، والواو معناه خلاف معنى " أو " فلو كان أحدهما بمعنى الاخر لبطلت المعاني، ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه الى أكثر من مائتي ألف أخصر. وقال المبرد: المعنى وأرسلناه الى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر، وإنما خوطب العباد على يا يعرفون. وقيل: هو كما تقول: جاءني زيد أو عمر وأنت تعرف من جاءك منهما الا أنك أبهمت على المخاطب. وقال الاخفش والزجاج: أي أو يزيدون في تقديركم. قال ابن عباس: زادوا على مائة ألف عشرين ألفا. ورواه أبى بن كعب مرفوعا. وعن ابن عباس أيضا: ثلاثين ألفا. الحسن والربيع: بضعا وثلاثين ألفا. وقال مقاتل بن حيان: سبعين ألفا. " فامنوا فمتعناهم الى حين " أي الى منتهى آجالهم. (1) راجع ج 8 ص 384 طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 1 ص 463 وما بعدها طبعة ثانيه أو ثالثه. (*)
[ 133 ]
قوله تعالى: فاستفتهم الربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملئكة إنئا وهم شهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكذبون أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطن مبين فأتوا بكتبكم إن كنتم صدقين قوله تعالى: " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " لما ذكر أخبار الماضين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم احتج على كفار قريش في قولهم: إن الملائكة بنات الله، فقال: " فاستفتهم ". وهو معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت بينهم المسافة، أي فسل يا محمد أهل مكة " ألربك البنات " وذلك أن جهينة وخزاعة وبني مليح وبنى سلمة وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله. وهذا سؤال توبيخ. " أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون " أي حاضرون لخلقنا إياهم إناثا، وهذا كما قال الله عز وجل: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم " [ الزخرف: 19 ]. ثم قال " ألا إنهم من إفكهم " وهو أسوأ الكذب " ليقولون. ولد الله وإنهم لكاذبون " في قولهم إن لله ولدا وهو الذي لا يلد ولا يولد. و " إن " بعد " ألا " مكسورة، لأنها مبتدأة. وحكى سيبويه أنها تكون بعد أما مفتوح أو مكسورة، فالفتح على أن تكون أما بمعنى ألا. النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول يجوز فتحها بعد ألا تشبيها بأما، وأما في الآية فلا يجوز إلا كسرها، لأن بعدها الرفع. وتمام الكلام " كاذبون ". ثم يبتدى " أصطفى " على معنى التقريع والتوبيخ كأنه قال: ويحكم " أصطفى البنات " أي اختار البنات وترك البنين. وقراءة العامة " أصطفى " بقطع الألف، لأنها ألف استفهام دخلت
[ 134 ]
على ألف الوصل، فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوح مقطوعة على حالها مثل: " أطلع الغيب " على ما تقدم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وحمزة " اصطفى " بوصل الألف على الخبر بغير استفهام. وإذا ابتدأ كسر الهمزة. وزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها، لأن بعدها " ما لكم كيف تحكمون " فالكلام جار على التوبيخ من جهتين: إحداهما أن يكون تبيينا وتفسير لما قالوه من الكذب ويكون " ما لكم كيف تحكمون " منقطعا مما قبله. والجهة الثانية أنه قد حكى النحويون - منهم الفراء - أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما قال جل وعز: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " [ الأحقاف: 20 ]. وقيل: هو على إضمار القول، أي ويقولون " أصطفى البنا ت ". أو يكون بدلا من قوله: " ولد الله " لأن ولادة البنات واتخاذهن اصطفاه لهن، فأبدل مثال الماضي من مثال الماضي فلا يوقف على هذا على " لكاذبون ". " أفلا تذكرون في أنه لا يجوز أن يكون له ولد. " أم لكم سلطان مبين " حجة وبرهان. " فأتوا بكتابكم " أي بحججكم " إن كنتم صادقين " في قولكم. قوله تعالى: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحن الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين قوله تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " أكثر أهل التفسير أن الجنة ها هنا الملائكة. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالوا - يعني كفار قريش - الملائكة بنات الله، جل وتعالى. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: فمن أمهاتهن. قالوا: مخدرات الجن. وقال أهل الاشتقاق: قيل لهم جنة لأنهم لا يرون. وقال مجاهد: إنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة. وروي عن ابن عباس. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال: إنما قيل لهم جنة لأنهم خزان على الجنان والملائكة كلهم جنة. " نسبا " مصاهرة. فال قتادة والكلبي ومقاتل: قالت اليهود لعنهم الله إن الله صاهر الجن فكانت (1) راجع ج 11 ص 147 طبعة أولى أو ثانية (*)
[ 135 ]
الملائكة من بينهم. وقال مجاهد والسدي ومقاتل أيضا. القائل ذلك كنانة وخزاعة، قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن. وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه. قلت: قول الحسن في هذا أحسن، دليله قوله تعالى: " إذ نسويكم برب العالمين " [ الشعراء: 98 ] أي في العبادة. وقال ابن عباس والضحاك والحسن أيضا: هو قولهم إن الله تعالى وإبليس أخوان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. قوله تعالى: " ولقد علمت الجنة " أي الملائكة " إنهم " يعني قائل هذا القول " لمحضرون " في النار، قال قتادة. وقال مجاهد: للحساب. الثعلبي: الأول أولى، لأن الإحضار تكرر في هذه السورة ولم يرد الله به غير العذاب. " سبحان الله عما يصفون " أي تنزيها لله عما يصفون. " إلا عباد الله المخلصين " فإنهم ناجون من النار. قوله تعالى: فإنكم وما تعبدون مآ أنتم عليه بفتنين إلا من هو صال الجحيم فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: " فإنكم وما عبدون " " ما " بمعنى الذي. وقيل: بمعنى المصدر، أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام. وقيل: أي فإنكم مع ما تعبدون من دون الله، يقال: جاء فلان وفلان. وجاء فلان مع فلان. " ما أنتم عليه " أي على الله " بفاتنين " بمضلين. النحاس. أهل التفسير مجمعون فيما علمت على أن المعنى: ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل: وقال الشاعر: / ش فرد بنعمته كيده / وعليه وكان لنا فاتنا / ش أي مضلا.
[ 136 ]
الثانية - في هذه الآية رد على القدرية. قال عمرو بن ذر: قدمنا على عمربن عبد العزيز فذكر عنده القدر، فقال عمر: لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله عز وجل، عرفه من عرفه، وجهل من جهله، ثم قرأ: " فإنكم وما تعبدون. " ما " أنتم عليه بفاتنين " إلا من كتب الله عزوجل عليه أن يصلى الجحيم. وقال: فصلت هذه الآية بين الناس، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي، ولو علم الله جل وعز أنه يهتدي لحال بينه وبينهم، وعلى هذا قوله تعالى: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " [ الإسراء: 64 ] أي لست تصل منهم إلى شئ إلا إلى ما في علمي. وقال لبيد بن ربيعة في تثبيت القدر فأحسن: / ش إن تقوى ربنا خير نفل / ووبإذن الله ريثي وعجل / ش / ش أحمد الله فلا ند له / وبيد يه الخير ما شاء فعل / ش / ش من هداه سبل الخير اهتدى / وناعم البال ومن شاء أضل / ش قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل، وأهل نجد يقولون أفتنته. الثالثة - روي عن الحسن أنه قرأ: " إلا من وصال الجحيم " بضم اللام. النحاس: وجماعة أهل التفسير يقولون إنه لحن، لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة. ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت علي بن سليمان يقول، قال: هو محمول عل المعنى، لأن معنى. " من " جماعة، فالتقدير صالون، فحذفت النون للإضافة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. وقيل: أصله فاعل إلا أنه قلب من صال إلى صايل وحذفت الياء وبقيت اللام مضمومة فهو مثل " شفا جرف هار " [ التوبة: 109 ]. ووجه ثالث أن تحذف لام " صال " تخفيفا وتجري الإعراب على عينه، كما حذف من قولهم: ما باليت به بالة. وأصلها بالية من بالي كعافية من عافي، ونظيره قراءة من قرأ، " وجنى الجنتين دان " [ الرحمن: 54 ]، " وله الجوار المنشآت " [ الرحمن: 24 ] أجرى الإعراب على العين. والأصل ني قراءة الجماعة صالي بالياء فحذفها الكاتب من الخط لسقوطها في اللفظ.
[ 137 ]
قوله تعالى: وما منآ إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون هذا من قول الملائكة تعظيما لله عزوجل، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم. " وإنا لنحن الصافون. وإنا لنحن المسبحون " قامقاتل: هذه الثلاث الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى، فتأخر جبريل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أهنا تفارقني " فقال ما استطيع أن أتقدم عن مكاني. وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة: " وما منا إلاله مقام معلوم " الآيات. والتقدير عند الكوفيين: وما منا إلا من له مقام معلوم. فحذف الموصول. وتقديره عند البصريين: وما منا ملك إلا له مقام معلوم، أي مكان معلوم في العبادة، قال ابن مسعود وابن جبير. وقال ابن عباس: ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي سبح. وقالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم ". وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله لوددت أني كنت شجرة تعضد " خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه حديث " حسن " غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال: لوددت أني كنت شجرة تعضد. ويروى عن أبي ذر موقوفا. وقال قتادة: كان يصلي الرجال والنساء جميعا حتى نزلت هذه الآية: " وما منا إلا له مقام معلوم ". قال: فتقدم الرجال وتأخر النساء. " وإنا لنحن الصافون " قال الكلبي: صفوفهم فوف أهل الدنيا في الأرض. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد، فقال: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها " فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال ؟ (1) الزيادة من صحيح الترمذي. (*)
[ 138 ]
" يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف " وكان عمر يقول إذا قام للصلاة: أقيموا صفوفكم واستووا إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها ويقرأ: " وإنا لنحن الصافون " تأخر يا فلان تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر. وقد مضى في سورة [ الحجر ] بيانه. وقال أبو مالك: كان الناس يصلون متبددين فأنزل الله تعالى: " وإنا لنحن الصافون " فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا. وقال الشعبي. جاء جبريل أو ملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، إن الملائكة لتصلي وتسبح ما في السماء ملك فارغ. وقيل: أي لنحن الصافون أجنحتنا في الهواء وقوفا ننتظر ما نؤمر به. وقيل: أي نحن الصافون حول العرش. " وإنا لنحن المسبحون " أي المصلون، قال قتاد ة: وقيل: أي المنزهون الله عما أضافه إليه المشركون. والمراد أنهم يخبرون أنهم يعبدون الله بالتسبيح والصلاة وليسوا معبودين ولا بنات الله. وقيل: " وما منا إلا له مقام معلوم " من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين المشركين، أي لكل واحد منا ومنكم في الآخرة مقام معلوم وهو مقام الحساب. وقيل: أي منا من له مقام الخوف، ومنا من له مقام الرجاء، ومنا من له مقام الإخلاص، ومنا من قه مقام الشكر. إلى غيرها من المقامات. قلت: والأضهر أن ذلك راجع إلى قول الملائكة " وما منا إلا له مقام معلوم " والله أعلم. قوله تعالى: وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون عاد إلى الإخبار عن قول المشركين، أي كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إذا عيروا بالجهل قالوا: " لو أن عندن ذكرا من الأولين " أي لو بعث إلينا نبي ببيان الشرائع لاتبعناه. ولما خففت " إن " دخلت على الفعل ولزمتها اللام فرقا بين النفي والإيجاب. والكوفيون (1) راجع ج 10 ص 19 وما تعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 139 ]
يقولون: " إن " بمعنى ما واللام بمعنى إلا. وقيل: معنى " لو أن عندنا ذكرا " أي كتابا من كتب الأنبياء. " لكنا عباد الله المخلصين " أي لو جاءنا ذكر كما جاء الأولين لأخلصنا العبادة لله. " فكفروابه " أي بالذكر. والفراء يقدره على حذف، أي فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر فكفروا به. وهذا تعجيب منهم، أي فقد جاءهم نبي وأنزل عليهم كتاب فيه بيان ما يحتاجون إليه فكفروا وما وفوا بما قالوا. " فسوف يعلمون " قال الزجاج: يعلمون مغبة كفرهم. قوله تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغلبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون قوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " قال الفراء: أي بالسعادة. وقيل: أراد بالكلمة قوله عز وجل: " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي " [ المجادلة: 21 ] قال الحسن: لم يقتل من أصحاب الشرائع قط أحد " إنهم لهم المنصورون " أي سبق الوعد بنصرهم بالحجة والغلبة. " وإن جندنا لهم الغالبون " على المعنى ولو كان على اللفظ لكان هو الغالب مثل " جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب " [ ص: 11 ]. وقال الشيباني: جاء ها هنا على الجمع من أجل أنه رأس آية. قوله تعالى: " فتول عنهم " أي أعرض عنهم. " حتى حين " قال قتادة: إلى الموت. وقال الزجاج: إلى الوقت الذي أمهلوا إليه. وقال ابن عباس: يعني القتل ببدر. وقيل يعني فتح مكة. وقيل: الآية منسوخة بآية السيف. " وأبصرهم فسوف يبصرون " قال قتادة: سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار. وعسى من الله للوجوب وعبر بالإبصار عن تقريب الأمر، أي عن قريب يبصرون. وقيل: المعفسوف يبصرون العذاب يوم
[ 140 ]
القيامة. " أفبعدابنا يسبعجلون " كانوا يقولون من فرط تكذيبهم متى هذا العذاب، أي لا تستعجلوه فإنه واقع بكم. قوله تعالى: " فإذا نزل بساحتهم " أي العذاب. قال الزجاج: وكان عذاب هؤلاء بالقتل. ومعنى " بساحتهم " أي بدارهم، عن السدي وغيره. والساحة والسحسة في اللغة فناء الدار الواسع. الفراء: " نزل بساحتهم " ونزل بهم سواء. " فساء صباح المنذرين " أي بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب. وفيه إضمار أي فساء الصباح صباحهم. وخص الصباح بالذكر، لأن العذاب كان يأتيهم فيه. ومنه الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي، فقالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " وهو يبين معنى: " فإذا نزل بساحتهم " يريد النبي صلى الله عليه وسلم. " وتول عنهم حتى حين " كرر تأكيدا وكذا " وأبصر فسوف يبصرون " تأكيدا أيضا. قوله تعالى: سبحن ربك رب العزة عما يصفون وسلم على المرسلين والحمد لله رب العلمين فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: " سبحان ربك " نزه سبحانه نفسه عما أضاف إليه المشركون. " رب العزة " على البدل. ويجوز النصب على المدح، والرفع بمعنى هو رب العزة. " عما يصفون " أي من الصاحبة والولد. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى " سبحان الله " فقال: " هو تنزيه الله عن كل سوء " وقد مضى في " البقرة " مستوفى. الثانية - سئل محمد بن سحنون عن معنى " رب العزة " لم جاز ذلك والعزة من صفات الذات، ولا يقال رب القدرة ونحوها من صفات ذاته جل وعز ؟ فال: العزة تكون (1) الخميس الجيش. (2) راجع ج 1 ص 276 و 2 85 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة وج 2 ص 76 وما بعدها طبعة ثانية. (*)
[ 141 ]
صفة ذات وصفة فعل، فصفة الذات نحو قوله: " فلله العزة جميعا " وصفه الفعل نحو قوله: " رب العزة " والمعنى رب العزة التي يتعاز بها الخلق فيما بينهم فهي من خلق الله عز وجل. قال: وقد جاء في التفسير إن العزة ها هنا يراد بها الملائكة. قال: وقال بعض علمائنا: من حلف بعزة الله فإن أراد عزته التي هي صفته فحنث فعليه الكفارة، وإن أراد التي جعلها الله بين عباده فلا كفارة عليه. الماوردي: " رب العزة " يحتمل وجهين، أحدهما مالك العزة، والثاني رب كل شئ متعزز من ملك أو متجبر. قلت: وعلى الوجهين فلا كفارة إذا نواها الحالف. الثالثة - روي من حديث أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل أن يسلم: " سبحان ربك رب العزة " إلى آخر السورة، ذكره الثعلبي. قلت: قرأت عل الشيخ الإمام المحدث الحافظ أبى على الحسن بن محمد بن محمد بن محمد ابن عمروك البكري بالجزيرة قبالة المنصورة من الديار المصرية، قال أخبرتنا الحرة أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الشعرى بنيشابور في المرة الأولى، أخبرنا أبو محمد إسمعيل ابن أبى بكر القارى، قال حدثنا أبو الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسى، قال حدثنا أبو سهل بشر بن أحد الاسفراينى، قال حدثنا أبو سليمان داود بن الحسين البيهقى، قال حدثنا أبو زكرياء يحيى بن يحيى عبد الرحمن التميمي النيشابوري، قال حدثنا هشيم عن أبى هرون العبدى عن أبى سعيد الخدرى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف " سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين ". قال الماوردى: روى الشعبى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سره أن يكتال با لمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم " سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين ". ذكره الثعلبي من حديث على رضى الله عنه مرفوعا.
[ 142 ]
الرابعة - قوله تعالى: " وسلام على المرسلين " أي الذين بلغوا عن الله تعالى التوحيد والرسالة. وقال أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين وقيل: معنى " وسلام على المرسلين " أي أمن لهم من الله جل وعز يوم الفزع الأكبر. " والحمد لله رب العالمين " أي على إرسال المرسلين مبشرين ومنذرين. وقيل: أي على جميع ما أنعم الله به على الخلق أجمعين. وقيل: أي على هلاك المشركين، دليله: " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. " [ الأنعام: 45 ]. قلت: والكل مراد والحمد يعم. ومعنى " يصفون " يكذبون، والتقدير عما يصفون من الكذب. قم تفسير سورة الصافات. سورة ص مكية في قول الجميع، وهى ست وثمانون آية. وقيل ثمان وثمانون آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ص والقرءان ذى الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص قوله تعالى: " ص " قراءة العامة " ص " بجزم الدال على الوقف، لأنه حرف من حروف الهجاء مثل: " الم " و " المر ". وقرأ أبي بن عب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر ابن عاصم " صاد " بكسر الدال بغير تنوين. ولقراءته مذهبان: أحدهما أنه من صادى يصادي إذا عارض، ومنه " فأنت له تصدى " [ عبس: 6 ] أي تعرض. والمصاداة المعارضة، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية. فالمعنى صاد القرآن بعملك، أي عارضه بعملك وقابله به، فاعمل بأوامره، وانته عن نواهيه. النحاس: وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسر به قراءته رواية صحيحة. وعنه أن المعنى اتله وتعرض لقراءته. والمذهب
[ 143 ]
الآخر أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين. وقرأ عيسى بن عمر " صاد " بفتح الدال مثله: " قاف " و " نون " بفتح آخرها. وله في ذلك ثلاثة مذاهب: أحدهن أن يكون بمعنى أتل. والثاني أن يكون فتح لالتقاء الساكنين واختار الفتح للإتباع، ولأنه أخف الحركات. والثا لث أن يكون منصوبا على القسم بغير حرف، كقولك: الله لأفعلن، وقيل: نصب على الإغراء. وقيل: معناه صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا " صاد " بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم، وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله. ويجوز أن يكون مشبها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع: " صاد " و " قاف " و " نون " بضم آخرهن: لأنه المعروف بالبناء في غالب الحال، نحو منذ وقط وقبل وبعد. و " ص " إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف، كما أنك إدا سميت مؤنثا بمذكر لا ينصرف وإن قلت حروفه. وقال ابن عباس وجابر بن عبد الله وقد سئلا عن " ص " فقالا: لا ندري ما هي. وقال عكرمة: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن " ص " فقال: " ص " كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار. وقال سعيد بن جبير: " ص " بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. قال الضحاك: معناه صدق الله. وعنه أن " ص " قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى. وقال السدي، وروي عن ابن عباس. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الرحمن. وعنه أنه اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة. وقيل: هو مما استأثر الله تعالى بعلمه وهو معنى القول الأول. وقد تقدم جميع هذا في " البقرة ". قوله تعالى: " والقران " خفض بواو القسم والواو بدل من الباء، أقسم بالقرآن تنبيها على جلالة قدره، فإن فيه بيان كل شئ، وشفاء لما في الصدور، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. " ذى الذكر " خفض على النعت وعلامة خفضه الياء، وهو اسم معتل والأصل فيه ذوى على فعل. قال ابن عباس: ومقاتل معنى " ذي الذكر " ذي البيان. الضحاك: (1) راجع ج 1 ص 155 طبعة ثانيه أو ثالثه. (*)
[ 144 ]
ذي الشرف أي من آمن به كان شرفا له في الدارين، كما قال تعالى: " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " [ الأنبياء: 10 ] أي شرفكم. وأيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه واشتماله على ما لا يشتمل عليه غيره. وقيل: " ذي الذكر " أي فيه ذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين. وقيل: " ذي الذكر " أي فيه ذكر أسماء الله وبمجيده. وقيل: أي ذي الموعظة والذكر. وجواب القسم محذوف. واختلف فيه على أوجه: فقيل جواب القسم " ص "، لأن معناه حق فهي جواب لقوله: " والقرآن " كما تقول: حقا والله، نزل والله، وجب والله، فيكون الوقف من هذا الوجه على قوله: " والقرآن ذي الذكر " حسنا، وعلى " في عزة وشقاق " تماما. قال ابن الأنباري. وحكى معناه الثعلبي عن الفراء. وقيل: الجواب " بل الذين كفرو ا في عزة وشقاق " لأن " بل " نفي لأمر سبق وإثبات لغيره، قاله القتبي، فكأنه قال: " والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق " عن قبول الحق وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم. أو " والقرآن ذي الذكر " ما الأمر كما يقولون من أنك ساحر كذاب، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة بل هم في تكبر عن قبول الحق. وهو كقوله: " ق والقرآن المجيد. بل عجبوا " [ ق: 2 ]. وقيل: الجواب " وكم أهلكنا " [ ق: 36 ] كأنه قا ل: والقرآن لكم أهلكنا، فلما تأخرت " كم " حذفت اللام منها، كقوله تعالى: " والشمس وضحاها " [ الشمس: 1 ] ثم قال: " قد أفلح " [ الشمس: 9 ] أي لقد أفلح. قال المهدوي: وهذا مذهب الفراء. ابن الأنباري: فمن هذا الوجه لا يتم الوقف على قوله: " في عزة وشقاق ". وقال الأخفش: جواب القسم " إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب " ونحو منه قوله تعالى: " تالله إن كنا لفي ضلال مبين " [ الشعراء: 97 ] وقوله: " والسماء والطارق " إلى قوله " إن كل نفس " [ الطارق: 1 - 4 ]. ابن الأنباري: وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال فيما بينهما وكثرت الآيات والقصص. وقال الكسائي: جواب القسم قول: " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " [ ص: 64 ]. ابن الأنباري: وهذا أقبح من الأول، لأن الكلام أشد طولا فيما بين القسم وجوابه. وقيل الجواب قوله: " إن هذا لرزقنا ما له من نفاد " [ ص: 54 ]. وقال قتادة: الجواب محذوف تقديره " والقرآن ذي الذكر " لتبعثن ونحوه.
[ 145 ]
قوله تعالى: " بل الذين كفروا في عزة " أي تكبر وامتناع من قبول الحق، كما قال جل وعز: " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم " [ البقرة: 206 ] والعزة عند العرب: الغلبة والقهر. يقال: من عز بز، يعني من غلب سلب. ومنه: " وعزني في الخطاب " [ ص: 23 ] أراد غلبني. وقال جرير: / ش يعز على الطريق بمنكبيه / وكما ابترك الخليع على القداح / ش أراد يغلب. " و شقاق " أي في إظهار خلاف ومباينة. وهو من الشق كأن هذا في شق وذلك في شق. وقد مضى في " البقرة " مستوفى. قوله تعالى: " كم أهلكنامن قبلهم من قرن " أي قوم كانوا أمنع من هؤلاء. و " كم " لفظة التكثير " فتادوا " أي بالاستغاثة والتوبة. والنداء رفع الصوت، ومنه الخبر: " ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا " أي أرفع. " ولات حين مناص " قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. النحاس: وهذا تفسير منه لقوله عز وجل: " ولات حين مناص " فأما إسرائيل فروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس: " ولات حين مناص " قال: ليس بحين نزو ولا فرار، قال: ضبط القوم جميعا قال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض مناص، أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص، فقال الله عز وجل: " ولات حين مناص " قال القشيري: وعلى هذا فالتقدير، فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه، أي ليس الوقت وقت ما تنادون به. وفي هذا نوع تحكم، إذ يبعد أن يقال: كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار. وقيل: المعنى " ولات حين مناص " أي لاخلاص وهو نصب بوقوع لا عليه. قال القشيري: وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في " ولات حين (1) البيت في وصف جمل، يقول: يغلب هذا الجمل الابل على لزوم الطريق، فشبه حرصه على لزوم الطريق، و إلحاحه على السير بحرص هذا الخليع على الضرب بالقداح لعله يسترجع بعض ما ذهب من ماله. والخليع المخلوع المقمور ماله. (2) راجع ج 2 ص 143 طبعة ثانية. (3) النزو: ضرب من العدو. (*)
[ 146 ]
مناص " وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجى ولافوت. فلما قدم " لا " وأخر " حين " اقتضى ذلك الواو، كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا، مثل قولك: جاء زيد راكبا، فإذا جعلته مبتدأ وخبر اقتضى الواو مثل جاءني زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله: فنادوا ". والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص، أي نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص. قال الفراء: / ش أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص / ش يقال: ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ. النحاس: ويقال: ناص ينوص إذا تقدم. قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد، والنوص الحمار الوحشي. واستناص أي تأخر، قاله الجوهري. وتكلم النحويون في " ولات حين " وفي الوقف عليه، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيرا مردود. فقال سيبويه: " لات " مشبهة بليس والاسم فيها مضمر، أي ليست أحياننا حين مناص. وحكي أن من العرب من يرفع بها فيقول: ولات حين مناص. وحكي أن الرفع قليل ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب، أي ولات حين مناص لنا. وا لقف عليها عند سيبويه والفراء " ولات " بالتاء ثم تبتدئ " حين مناص " هو قول ابن كيسان والزجاج. قال أبو الحسن بن كيسان: والقول كما قال سيبويه، لأن شبهها بليس فكما يقال ليست يقال لات. والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء ولاه. وهو قول المبرد محمد بن يزيد. وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة، كما يقال ثمه وربه. وقال القشيري: وقد يقال ثمت بعني ثم، وربت بمعنى رب، فكأنهم زادوا في لا هاء فقالوا لاه، كما قالوا في ثمه عند الوصل صارت تاء. وقال الثعلبي: وقال أهل اللغة: و " لات حين " مفتوحتان كأنهما (1) تمامه: / ش فتقصر عنها خطوة وتبوص / ش والبوص بالباء الموحدة التقدم. (*)
[ 147 ]
كلمة واحدة، وإنما هي " لا " زيدت فيها التاء نحو رب وربت، وثم وثمت. قال أبو زبيد الطائي: / ش طلبوا صلحنا ولات أوان / وفأجبنا أن ليس حين بقاء / ش وقال آخر: / ش تذكر حب ليلى لات حينا / ووأمسى الشيب ققطع القرينا / ش ومن العرب من يخفض بها، وأنشد الفراء: / ش فلتعرفن خلائقا مشمولة / وولتندمن ولات ساعة مندم / ش وكان الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن " ولات حين " التاء منقطعة من حين، ويقولون معناها وليست. وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين. وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى. وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام: الوقف عندي على هذا الحرف " ولا " والابتداء " تحين مناص " فتكون التاء مع حين. وقال بعضهم: " لات " ثم يبتدئ فيقول: " حين مناص ". قال المهدوي: وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين وهو غلط عند النحويين، وهو خلاف قول المفسرين. ومن حجة أبي عبيد أن قال: إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن، وأنشد لأبي وجزة السعدي: / ش العاطفون تحين ما من عاطف / ووالمطعمون زمان ابن المطعم / ش وأنشد لأبي زبيد الطائي: / ش طلبوا صلحنا ولا تأوان / و فأجبنا أن ليس حين بقاء / ش فأدخل التاء في أوان. قال أبو عبيد: ومن إدخالهم التاء في الآن، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان معك. وكذلك قول الشاعر: / ش نولي قبل نأي داري جمانا / ووصلينا كما زعمت تلانا / ش (1) هو جميل بن معمر وبعده: / ش إن خير الموصلين صفا ومن يوافي خليله حيث كانا / ش. (*)
[ 148 ]
قال أبو عبيد: ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام - مصحف عثمان - فوجدت التاء متصلة مع حين قد كتبت تحين. قال أبو جعفر النحاس: أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فر واه العلماء باللغة على أربعة أوجه، كلها على خلاف ما أنشده، وفي أحدها تقديران، رواه أبو العباس محمد بن يزيد: / ش العاطفون ولات ما من عاطف / ش والرو اية الثانية: / ش العاطفون ولات حين تعاطف / ش والرواية الثالثة رواها ابن كيسان: / ش العاطفونة حين ما من عاطف / ش جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج، وزعم أنها لبيان الحركة شبهت بهاء التأنيث. الرواية الرابعة: / ش العاطفونه حين ما من عاطف / ش وفي هذه الرواية تقديران، أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب، كما تقول: الضاربون زيدا فإذا كنيت قلت الضاربوه. وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله. والتقدير الآخر العاطفون على أن الهاء لبيان الحركة، كما تقول: مر بنا المسلمونه في الوقف، ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف، كما قرأ أهل المدينة: " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " [ الحاقة: 28 - 29 ] وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه، لأنه يوقف عليه: (ولات أوان) غير أن فيه شيئا مشكلا، لأنه يروى (ولات أوان) بالخفض، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا أو منصوبا. وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ " ولات حين مناص " بكسر التاء من لات والنون من حين فإن الثبت عنه أنه قرأ " ولات حين مناص " فبنى " لات " على الكسر ونصب " حين ". فأما: (ولات أوان) فقيه تقديران، قال الأخفش: فيه مضمر أي ولا ت حين أوان. (1) الزيادة من إعراب القرآن للنحاس. (*)
[ 149 ]
قال النحاس: وهذا القول بين الخطأ. والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال: تقديره ولات أو اننا فحذف، المضاف إليه فوجب ألا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين. وأنشده محمد بن يزيد (ولات أوان) بالرفع. وأما البيت الثالث فبيت مولد لا يعرف قائلة ولا تصح به حجة. على أن محمد بن يزيد رواه (كما زعمت الآن). وقال غيره: المعنى كما زعمت أنت الآن. فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه بحديث ابن عمر، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له: اذهب بها تلان إلى أصحابك فلا حجة، فيه، لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى. والدليل على هذا أن مجاهدا يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه: اذهب فاجهد جهدك. ورواه آخر: اذهب بها الآن معك. وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام " تحين " فلا حجة فيه، لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها، وفي المصاحف كلها " ولات " فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص مناوص. قوله تعالى: وعجبوا أن جاءكم منذر منهم وقال الكفرون هذا سحر كذاب أجعل الالهة الها وحدا إن هذا لشئ عجاب قوله تعالى: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم " " أن " في موضع نصب والمعنى من أن جاءهم. قيل: هو متصل بقوله: " في عزة وشقاق " أي في عزة وشقاق وعجبوا، وقوله: " كم أهلكنا " معترض. وقيل: لا بل هذا ابتداء كلام، أي ومن جهلهم أنهم أظهروا التعجب من أن جاءهم منذر منهم. " فقال الكافرون هذا ساحر " أي يجئ بالكلام المموه الذي يخدع به الناس، وقيل: يفرق بسحره بين الوالد وولده والرجل وزوجته " كذاب " أي في دعوى النبوة. قوله تعالى: " أجعل الالهة إلها واحدا " مفعولان أي صير الآلهة إلها واحدا. " إن هذا لشئ عجاب " أي عجيب. وقرأ السلمي: " عجاب " بالتشديد. والعجاب والعجاب
[ 150 ]
والعجب سواء. وقد فرق الخليل بين عجيب وعجاب فقال: العجيب العجب، والعجاب الذي قد تجاوز حد العجب، والطويل الذي فيه طول، والطوال، الذي قد تجاوز حد الطول. وقال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال مقاتل: " عجاب " لغة أزد شنوءة. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا بن أخي ما تريد من قومك ؟ فقال: " يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها الجزية العجم " فقال: وما هي ؟ قال: " لا إله إلا الله " قال: فقالوا " أجعل الآلهة إلها واحدا " قال: فنزل فيهم القرآن: " ص والقرآن ذي الذكر. بل الذين كفروا في عزة وشقاق " حتى بلغ " إن هذا إلا اختلاق " خرجه الترمذي أيضا بمعناه. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقيل: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: " وماذا يسألونني " قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم " فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قولوا لا إله إلا الله " فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا: " أجعل الآلهة إلها واحدا " فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله: " كذبت قبلهم قوم نوح " [ ص: 12 ] (1) في نسخ الاصل: يسألك ذا السوء. وفى أبى المسعود: يسألونك السواء والانصاف. وفي البيضاوى كما في الكشاف: يسألونك السؤال. وعلق عليه الشهاب بقوله: والظاهر أنه تحريف وأنه السواء أي العدل كما وقع في غيره من التفاسيرا. (*)
[ 151 ]
قوله تعالى: وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا علئ الهتكم إن هذا لشى يراد ما سمعنا بهذا المله الاخرة ان هذا إلا اختلق أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمه ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السموات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسبب جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب قوله تعالى: " وانطلق الملا منهم أن امشوا " " الملأ " الاشراف، والانطلاق الذهاب بسرعة، أي انطلق هولاء الكافرون من عند الرسول عليه السلام يقول بعضهم لبعض " أن امشوا " أي امضوا على ما كنتم عليه وم لا تدنخلوا في دينه. " واصبروا على آلهتكم ". وقيل: هو إشارة إلى مشيهم إلى أبي طالب في مرضه كما سبق. وفي رواية محمد بن إسحاق أنهم أبو جهل بن هشام، وشيبة وعتبة أبناء ربيعة بن عبد شمس، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وأبو معيط، وجاءوا إلى أبي طالب فقالوا: أنت سيدنا وأنصفنا في أنفسنا، فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه، فقد تركوا ألهتنا وطعنوا في ديننا، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن قومك يدعونك إلى اسواء والنصفة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة " فال أبو جهل وعشرا. قال: " تقولون لا إله إلا الله " فقاموا وقالوا: " أجعل الآلهة إلا واحد " الآيات. " أن امشوا " " أن " في موضع نصب والمعنى بأن امشوا. وقيل: " أن بمعنى أي، أي " وانطلق الملأ منهم " أي أمشوا، وهذا تفسير انطلاقهم لا أنهم تكلموا بهذا اللفظ. وقيل: المعنى انطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام: " امشوا واصبروا على آلهتكم " أي على عبادة آلهتكم. " إن هذا " أي هذا الذي جاء به محمد عليه السلام " لشئ يراد " أي يراد بأهل الأرض من زوال نعم قوم
[ 152 ]
وغير تنزل بهم. وقيل: " إن هذا لشئ يراد " كلمة تحذير، أي إنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه. وقال مقاتل: إن عمر لما أسلم وقوي به الإسلام شق ذلك على قريش فقالوا: إن إسلام عمر في قوة الإسلام لشئ يراد. قوله تعالى: " ما سمعنا بهذا في المللة الاخرة " قال ابن عباس والقرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي: يعنون ملة عيسى النصرانية وهي آخر الملل. والنصارى يجعلون مع الله إلها. وقال مجاهد وقتادة أيضا: يعنون ملة قريش. وقال الحسن: ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان. وقيل: أي ما سمعنا من أهل الكتاب أن محمدا رسول حق. " إن هذا الا اختلاق " أي كذب وتخرص، عن ابن عباس وغيره. يقال: خلق واختلق أي ابتدع، وخلق الله عز وجل الخلق من هذا، أي ابتدعهم على غير مثال. قوله تعالى: " أأنزل عليه الذكر من بيننا " هو استفهام إنكار، والذكر ها هنا القرآن. أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم. فقال الله تعالى: " بل هم في شك من ذكرى " أي من وحيي وهو القرآن. أي قد علموا أنك لم تزل صدوقا فيما بينهم، وإنما شكوافيما أنزلته عليك هل هو من عندي أم لا. " بل اما يذوقوا عذاب " أي إنما اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذابي على الشرك لزال عنهم الشك، ولما قالوا ذلك، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ. و " لما " بمعنى لم وما زائدة كقوله: " عما قليل " المؤمنون: 40 ] وقوله " فبما نقضهم ميثاقهم " [ النساء: 155 ]. قوله تعالى: " أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب " قيل: أم لهم هذا فيمنعوا محمدا عليه السلام مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة. و " أم " قد ترد بمعنى التقريع إذا كالكلام متصلا بكلام قبله، كقوله تعالى: " الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه " [ السجدة: 1 - 3 ] وقد قيل إن قوله: " أم عندهم خزائن رحمة ربك " متصل بقول: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم " [ ص: 4 ] فالمعنى أن الله عزوجل يرسل من يشاء، لأن خزائن السموات والأرض له. " أم لهم ملك السموات والارش وما بينهما "
[ 153 ]
أي فإن ادعوا ذلك " فليرتقوا في الأسباب " أي فليص إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد. يقال: رقي يرقى وارتقى إذا صعد. ورقى يرقي رقيا مثل رمى يرمي رميا من الرقية. قال الربيع بن أنس: الأسباب أرق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى. والسبب في اللغة كل ميوصل به إلى المطلوب من حبل أو غيره. وقيل: الأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد وقتادة. قال زهير: / ش ولو رام أسباب السماء بسلم / ش وقيل: الأسباب السموات نفسها، أي فليصعدوا سماء سماء. وقال السدي: " في الأسباب " في الفضل والدين. وقيل: أي فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة. وهو معنى قول أبي عبيدة. وقيل: الأسباب الحبال، يعني إن وجدوا حبلا أو سببا يصعدون فيه إلى السماء فليرتقوا، وهذا أمر توبيخ وتعجيز. وعد نبيه صلى النصر عليهم فقال: " جند ما هنالك " " ما " صلة وتقديره هم جند، ف " جند " خبر ابتدا محذوف. " مهزوم " أي مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم، لأنهم لا يصلون إلى أن يقولوا هذا لنا. ويقال: هزمت القربة إذا انكسرت، وهزمت الجيش كسرته. والكلام مرتبط بما قبل، أي " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تغمك عزتهم وشقاقهم، فإني أهزم جمعهم وأسلب عزهم. وهذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد فعل بهم هذا في يوم بدر. قال قتادة: وعد الله أنه سيهزمهم وهم بما فجاء تأويلها يوم بدر. و " هنالك " إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بالأحزاب الذين أتوا المدينة وتحزبوا على النبي صلى اله عليه وسلم. وقد مضى ذلك في " الأحزاب ". والأحزاب الجند، كما يقال: جند من قبائل شتى. وقيل: أراد بالأحزاب القرون الماضية من الكفار. أي هؤلاء جند على طريقة أولئك، كقوله (1) صدر البيت: / ش ومن هاب أسباب المنايا ينلنه / ش (2) راجع ج 14 ص 128 وما تعدها طبعة أو ثانية. (*)
[ 154 ]
تعالى: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني " [ البقرة: 249 ] أي على ديني ومذهبي. وقال الفراء: المعنى هم جند مغلوب، أي ممنوع عن أن يصعد إلى السماء. وقال القتبي: يعنى أنهم جند لهذه الآلهة مهزوم، فهم لا يقدرون على أن يدعوا لشئ من آلهتهم، ولا لأنفسهم شيئا من خزائن رحمة الله، ولا من ملك السموا ت والأرض. " قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحب ليكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح " ذكرها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له، أي هؤلاء من قومك يا محمد جند من الأحزاب المتقدمين الذين تحزبوا على أنبيائهم، وقد كانوا أقوى من هؤلاء فأهلكوا. وذكر الله تعالى القوم بلفظ التأنيث، واختلف أهل العربية في ذلك على قولين: أحدهما: أنه قد يجوز فيه التذكير والتأنيث. الثاني - أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه، إلا أن يقع المعنى على العشيرة والقبيلة، فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيها عليه، كقول تعالى: " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره " [ المدثر: 54 - 55 ] ولم يقل ذكرها، لأنه لما كان المضمر فيه مذكرا ذكره، وإن كان اللفظ مقتضيا للتأنيث. ووصف فرعون بأنه ذو الأوتاد. وقد اختلف في تأويل ذلك، فقال ابن عباس: المعنى ذو البناء المحكم. وقال الضحاك: كان كثير البنيان، والبنيان يسمى أوتادا. وعن ابن عباس أيضا وقتادة وعطاء: أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها. وعن الضحاك أيضا: ذو القوة والبطش. وقال الكلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الأرض، ويرسل عليه العقارب والحيات حتى يموت. وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت. وقيل: ذو الأوتاد أي ذو الجنود الكثيرة فسميت الجنود أوتادا،
[ 155 ]
لأنهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت. وقال ابن قتيبة: العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد، يريدون دائما شديدا. وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد. وقال الأسود بن يعفر: / ش ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة / وفي ظل ملك ثابت الأوتاد / ش وواحد الأوتاد وتد بالكسر، وبالفتح لغة. وقال الأصمعي: يقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل. وأنشد: / ش لاقت على الماء جذيلا واتدا / وولم يكن يخلفها المواعدا / ش قال: شبه الرجل بالجذل. " وثموذ وقوم لوط وأبصحاب الأيكة " أي الغيضة. وقد مضى ذكرها في [ الشعراء ]. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر " ليكة " بفتح اللام والتاء من غير همز. وهمز الباقون وكسروا التاء. وقد تقدم هذا. " أولئك الأحزاب " أي هم الموصوفون بالقوة والكثرة، كقولك فلان هو الرجل. " إن كل " بمعنى ما كل. " إلا كذب الرسل فحق عقاب " أي فنزل بهم العذاب لذلك التكذيب. وأثبت يعقوب الياء في " عذابي " و " عقابي " في الحالين وحذفها الباقون في الحالين. ونظير هذه الآية قوله عز وجل: " وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود " [ غافر: 30 - 31 ] فسمى هذه الأمم أحزابا. قوله تعالى: وما ينظر هؤلاء إلا صيحة وحدة ما لها من فوق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب قولع تعالى: " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة " " ينظر " بمعنى ينتظر، ومنه قوله تعالى: " انظرونا نقتبس من نوركم " [ الحديد: 13 ]. " هؤلاء " يعني كفار مكة. " إلا صيحة (1) البيت لأبى محمد الفقعسى. والضسير في لافت ضمير الإبل. (2) راجع ج 13 ص 134 وما بعده طبعة أولى أو ثانية.
[ 156 ]
واحدة " أي نفخة القيامة. أي ما ينتظرون بعد ما أصيبوا ببدر إلا صيحة القيامة. وقيل: ما ينتظر أحياؤهم الآن إلا الصيحة التي هي النفخة في الصور، كما قال تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون. فلا يستطيعون توصية " [ يس: 49 - 50 ] وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت. وقيل: أي ما ينتظر كفار آخر هذه الأمة المتدينين بدين أولئك إلا صيحة واحدة وهي النفخة. وقال عبد الله بن عمرو: لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله عز وجل على أهل الأرض. " ما لها من فواق " أي من ترداد، عن ابن عباس. مجاهد: ما لها رجوع. قتادة: ما لها من مثنوية. السدي: مالها من إفاقة. وقرأ حمزة والكسائي " ما لها من فواق " بضم الفاء. الباقون بالفتح. الجوهري: والفواق والفواق ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب. يقال: ما أقام عنده إلا فواقا، وفي الحديث: " العيادة قدر فواق الناقة. وقول تعالى: " ما لها من فواق " يقرأ بالفتح والضم أي ما لها من نظرة وراحة وإفاقة. والفيقة بالكسر اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين: صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، قال الأعشى يصف بقرة: / ش حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت / وجاءت لترضع شق النفس لو رضعا / ش والجمع فيق ثم أفواق مثل شبر وأشبار ثم أفاويق. قال ابن همام السلولي: / ش وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها / وأفاويق حتى ما يدر لها ثعل / ش والأفاويق أيضا ما اجتمع في السحاب من ماء، فهو يمطر ساعة بعد ساعة. وأفاقت الناقة إفاقة أي اجتمعت الفيقة في ضرعها، فهي مفيق ومفيقة - عن أبي عمرو - والجمع مفاويق. وقال الفراء وأبو عبيدة وغيرهما: " من فواق " بفتح الفاء أي راحة لا يفيقون فيها، كما يفيق المريض والمغشي عليه. و " من فواق " بضم الفاء من انتظار. وقد تقدم أنهما بمعنى وهو ما بين الحلبتين. (1) البيت في ذم علماء الدنيا. والقعل زيادة في أطباة الناقة و البقرة والشاة، وهو لا يدرو انما ذكره للمبالغة. (*)
[ 157 ]
قلت: والمعنى المراد أنها ممتده لا تقطيع فيها. وروى أبو هريره قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في طائفه من أصحابه، الحديث. وفيه، " يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها يقول الله عز وجل: " ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " وذكر الحديث، خرجه علي بن معبد وغيره كما ذكرناه في كتاب التذكرة. قوله تعالى: " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " قال مجاهد: عذابنا. وكذا قال قتادة: نصيبنا من العذاب. الحسن: نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا. وقاله سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة قط. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب. ومنه قيل للصك قط. وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز والجمع القطوط، قال الأعشى: / ش ولا الملك النعمان يوم لقيته / وبغبطته يعطي القطوط ويأفق / ش يعني كتب الجوائز. ويروى: بأمته بدل بغبطته، أي بنعمته وحال الجليلة، ويأفق يصلح. ويقال: في جمع قط أيضا قططة وفي القليل أقط وأقطاط. ذكره النحاس. وقال السدي: سألوا أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به. وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا. وقيل: معناه عجل لنا ما يكفينا، من قولهم: قطني، أي يكفيني. وقيل: إنهم قالوا ذلك استعجالا لكتهم التي يعطونها بأيمانهم ومائلهم حين تلى عليهم بذلك القرآن. وهو قول تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه " [ الحاقة: 19 ]. " وأما من أوتي كتابه وراء ظهره " [ الانشقاق: 10 ]. وأصل القط القط وهو القطع، ومنه قط القلم، فالقط اسم للقطعة من الشئ كالقسم والقس فأطلق على النصيب والكتاب والرزق لقطعه عن غيره، إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالا وأقوى حقيقة. قال أمية بن أبى الصلت: / ش قوم لهم ساحة العراق وما / ويجبى إلى يه والقط والقلم / ش
[ 158 ]
" قبل يوم الحساب " أي قبل يوم القيامة في الدنيا إن كان الأمر كما يقول محمد. وكل هذا استهزاء منهم. قوله تعالى: اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد إنه أواب قوله تعالى: " اصبر على ما يقولون " أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر لما استهزءوا به. وهذه منسوخة بآية السيف. قوله تعالى: " واذكر عبدنا داود ذا الايد " لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم، وسلاه بكل ما تقدم ذكره. ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء، ليتسلى بصبر من صبر منهم، وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء. وقيل: المعنى اصبر على قولهم، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء، لتكون برهانا على صحة نبوتك. " ذا الايد " ذا القوة في العبادة. وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وذلك أشد الصوم وأفضله، وكان يصلى نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وكان قويا في الدعا الى الله تعالى. وقوله: " عبدنا " إظهارا لشرفه بهذه الإضافة. ويقال: الايد والاد كما تقول العيب والعاب. قال: / ش لم يك يناد فأمسى أنا دا / ش ومنه رجل أيد أي قوي. وتأيد الشئ تقوى، قال الشاعر: / ش إذا القوس وترها أيد / ورمى فأصاب الكلى والذوا / ش يقول: إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم. يعني من النبات الذي يكون من المطر. " إنه أواب " قال الضحاك: أي تواب. وعن غيره: أنه كلما ذكر (1) هو العجاج. وآناد العود يناد انئيادا فهو إذا انثنى واعوج. وصدر البيت: / ش من أن تبدلت بادى آدا / ش (*)
[ 159 ]
ذنبه أو خطر على باله أستغفر منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة ما ئة مرة ". ويقال آب يؤوب إذا رجع، كما قال: / ش وكل ذي غيبة يؤوب / ووغائب الموت لا يؤوب / ش فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به. قوله تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق فيه أربع مسائل الأولى - قوله تعالى: " إنا سخرنا الجبال معه يسبحن " " يسبحن " في موضع نصب على الحال. ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله جل وعز ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال ابن عباس: " يسبحن " يصلين. وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه، فهذا تسبيح الجبال والطير. وقيل: سخرها الله عزوجل لتسير معه فذلك تسبيحها، لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين. وقد مضى القول في هذا في " سبإ " وفي " سبحان " عند قوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " [ الإسراء: 44 ] وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال. والله أعلم. " بالعشى والإشراق " الإشراق أيضا أبيضاض الشمس بعد طلوعها. يقال: شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. فكان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها. الثانيه - روي عن ابن عباس أنه قال: كنت أمر بهذه الآية: " بالعشي والإشراق " ولا أدري ما هي، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، (1) هو عبيد بن الابرص. (2) زيادة يقتضيها المعنى. (3) راجع ج 14 ص 265 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (4) راجع ج 10 ص 268 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 160 ]
فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى صلاة الضحى، وقال: " يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق ". وقال عكرمة قال ابن عباس: كان في نفسي شئ من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن " يسبحن بالعشي والإشراق ". قال عكرمة: وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها بعد. وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس: إني أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوابين. فقال ابن عباس: وأنا أوجدك في القرآن، ذلك في قصة داود: " يسبحن بالعشي والإشراق ". الثالثة - صلاة الضحى نافلة مستحبة، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة، ويرتفع كدرها، وتشرق بنورها، كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس. وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال " الفصال والفصلان جمع فصيل، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل. والرمضاء شدة الحر في الأرض. وخص الفصال هنا بالذكر، لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحر التي ترمض بها أمهاتها لقلة جلدها، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها، قاله القاضي أبو بكر بن العربي. ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا، لأجل شغله فيخسر عمله، لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له. الرابعة - روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة " قال حديث غريب. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ". وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مئل زبد البحر ". وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة
[ 161 ]
قال: " أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر " لفظ البخاري. وقال مسلم: " وركعتي الضحى " وخرجه من حديث أبي الدرداء كما خرجه البخار ي من حديث أبي هريرة. وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتاعشرة. والله أعلم. وأصل السلامى " بضم السين " عظام الأصابع والأكف والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله. وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار " قال أبو توبة: وربما قال: " يمسي " كذا خرجه مسلم. وقوله: " ويجزي من ذلك ركعتان " أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان. وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل. والله أعلم. قوله تعالى: والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وءاتينه الحكمة وفصل الخطاب قوله تعالى: " والطير محشورة " معطوف على الجبال. قال الفراء: ولو قرئ " والطير محشورة " لجاز، لأنه لم يظهر الفعل. قال ابن عباس: كان داود عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه. فاجتماعها إليه حشرها. فالمعنى وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح الله معه. وقيل: أي وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه. أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور. " كل له " أي لداود " أواب " أي مطيع، أي تأتيه وتسبح معه. وقيل: الهاء لله عز وجل. قوله تعالى: " وشددنا ملكه " أي قويناه حتى ثبت. قيل: بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب. وقيل: بكثرة الجنود. وقيل: بالتأييد والنصر. وهذا اختيار ابن العربي.
[ 162 ]
فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا. كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله. والملك عبارة عن كثرة الملك، فقد يكون للرجل ملك ولكن لا يكون ملكا حتى يكثر ذلك، فلو ملك الرجل دارا وامرأة لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤنة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية. وقد مضى هذا المعنى في " براءة " وحقيقة الملك في " النمل " مستوفى. قوله تعالى: " وآبيناه الحكمة وفصل الخطاب " قيه مسئلتان: لاأولى - قوله تعالى: " وآتيناه الحكمة " أي النبوة، قال السدي. مجاهد: العدل. أبو العالية: العلم بكتاب الله تعالى. قتادة: السنة. شريح: العلم والفقه. " وفصل الخطاب " قال أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة: يعني الفصل في القضاء. وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس: بيان الكلام. علي بن أبي طالب: هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا. وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا: هو قوله أما بعد، وهو أول من تكلم بها. وقيل: " فصل الخطاب " البيان الفاصل بين الحق والباطل. وقيل: هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وقول علي رضي الله عنه يجمعه، لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى. الثانية - قال القاضي أبو بكر بن العربي: فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد، وفصل منه مؤكد، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام، ففي الحديث " أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال، عارفا بالحلال والحرام، ولا يقوم بفصل القضاء. يروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد، (1) راجع ج 8 ص 171 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 163 ]
فوقع فيها الأسد، وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، حتى صاروا أربعة، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال، قال فأتيتهم فقلت: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناس ! تعالوا أقض بينكم بقضاء، فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحق بالقضاء. فجعل للأول ربع الدية، وجعل للثاني ثلث الدية، وجعل للثالث نصف الدية، وجعل للرابع الدية، وجعل الديات على من حفر الزبية على قبائل الأربع، فسخط بعضهم ورضي بعضهم، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه القصة، فقال: " أنا أقضي بينكم " فقال قائل: إن عليا قد قضى بيننا. فأخبروه بما قضى علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القضاء كما قضى علي " في رواية: فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء علي. وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال: إن ابن أبي ليلى - وكان قاضيا بالكوفة - جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يابن الزانيين حدين في المسجد وهي قائمة. فقال: أخطأ من ستة أوجه. قال ابن العربي: وهذا الذي قال أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالرؤية إلا العلماء. فأما قضية علي فلا يدركها الشادي، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادى. وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة، فله الدية بما قتل، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم. وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالإثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة. وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف، لأنه قتل واحدا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه. وهذا من بديع الاستنباط. وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرأها ستة: الأول أن المجنون لا حد عليه، لأن الجنون يسقط التكليف. وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون، وأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حالة إفاقته. والثاني قولها يا ابن الزانيين فجلدها حدين لكل أب حد، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حد
[ 164 ]
القذف يتداخل، لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى، وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحد بالقذف حق للآدمي، فيتعدد بتعدد المقذوف. الثالث أنه جلد بغير مطالبة المقذوف، ولا تجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى، ومن يقول إنه حق الآدمي. وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي، إذ لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنى. الرابع. أنه والى بين الحدين، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما، بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب، " أو يستبل المضروب " ثم يقام عليه الحد الآخر. الخامس أنه حدها قائمة، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة، قال بعض الناس: في زنبيل. السادس أنه أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود فيه إجماعا. وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف. قال القاضي: فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء، الذي وقعت الإشارة إليه على التأويلات في الحديث المروي " أقضاكم علي " وأما من قال: إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم، ولمحمد صلى الله عليه وسلم دون العرب، وقد بين هذا بقوله: " وأوتيت جوامع الكلم ". وأما من قال: إنه قوله أما بعد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: " أما بعد ". ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان بن وائل، وهو أول من آمن بالبعث، وأول من توكأ على عصا، وعمر مائة وثمانين سنة. ولو صح أن داود عليه السلام قالها، لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم، وإنما كان بلسانه. والله أعلم. قوله تعالى: وهل أنك نبؤا الخصم إذا تسوروا المحراب إذا دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصرط إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة وحدة فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه
[ 165 ]
وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت وقليل ما هم وظن داود أنما فتنه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب فيه أربع وعشرون مسألة. الأولى - قوله تعالى: " وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب " " الخصم " يقع على الواحد والاثنين والجماعة، لأن أصله المصدر. قال الشاعر: / ش وخصم غضاب ينفضون لحاهم / وكنفض البراذين العراب المخاليا / ش النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به ها هنا ملكان. وقيل: " تسوروا " وإن كانا اثنين حملا على الخصم، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعا له، مثل الركب والصحب. تقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصم. ومعنى: " تسوروا المحراب " أتوه من أعلى سوره. يقال: تسور. الحائط تسلقه، والسور حائط المدينة وهو بغير همز، وكذلك السور جمع سورة مثل بسرة وبسر وهي كل منزلة من البناء. ومنه سورة القرآن، لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى. وقد مضى في مقدمة الكتاب بيان هذا. وقول النابغة: / ش ألم تر أن الله أعطاك سورة / وترى كل ملك دونها يتذبذب / ش يريد شرفا ومنزلة. فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء. ابن العربي: والسؤر الوليمة و بالفارسي. وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب " إن جابرا قد صنع لكم سؤرا فحيهلا بكم " والمحراب هنا الغرفة، لأنهم تسوروا عليه فيها، قال يحيى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقد مضى القول فيه في غير موضع. " إذا دخلوا على داود " جاءت " إذ " مرتين، لأنهما فعلان. وزعم (1) راجع ج 1 ص 65 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (2) راجع ج 4 ص 71 وج 11 ص 84 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 166 ]
لالفراء: أن إحداهما بمعنى لما. وقول آخر أن تكون الثانية مع ما بعدها تبيينا لما قبلها. قيل: إنهما كانا إنسيين، قاله النقاش. وقيل: ملكين، قال جماعة. وعينهما جماعة فقالوا: إنهما جبريل وميكائيل. وقيل: ملكين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته. فمنعهما الحرس الدخول، فتسوروا المحراب عليه، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين، وهو قوله تعالى: " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب " أي علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب، قال سفيان الثوري وغيره. وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود عليه السلام حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم. فقيل له: انك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك. فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير، فجعل يدرج بين يديه. فهم أن يتناوله بيده، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فطار، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل، فلما رأته غطت جسدها بشعرها. قال السدي: فوقعت في قلبه. قال ابن عباس: وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا، فقدمه فيهم فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها داود، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده، وكتبت عليه بذلك كتابا، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب، وتسور الملكان وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه. ذكره الماوردي وغيره. ولا يصح. قال ابن لعربي: وهو أمثل ما روي في ذلك. (1) ما أورده القرطبى هنا في حق داود عليه الصلاة والسلام من قبيل الإسرائيليات ولا صحة لها، وهو هراء وافتراء كما قال البيضاوى، ومما يقدح في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولقد أحسن أبو حيان وأجاد حيث يقول: ويعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخصايا لا يمكن وقوعهم في شئ منها، ضرورة أنا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع، ولم نثق بشئ مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى، وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر: / ش ونؤثر حكم العقل في كل شبهة / وإذا آثر الأخبار جلاس قصاص / ش والرقاشى مطروح الرواية هند التحقيق. وسيأتى للمؤلف أن ينقل عن النحاس في صفحة 175 ما يؤيد ما أوردناه. (*)
[ 167 ]
قلت: ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي لحكيم " في نوادر الأصول " عن يزيد الرقاشي، سمع أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن داود النبي عليه السلام حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله فقدم فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة ". وقال سعيد عن قتادة: كتب إلى زوجها وذلك في حصار عمان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب، وفيه الموت الأحمر، فتقدم فقتل. وقال الثعلبي قال قوم من العلماء: إنما امتحن الله داود بالخطيئة، لأنه تمنى يوما على ربه منزلة إبراهيم وإسحق ويعقوب، وسأله أن يمتحنه نحو ما أمتحنهم، ويعطيه نحو ما أعطاهم. وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام، يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحق ويعقوب. فقال: يا رب ! إن الخير كله قد ذهب به آبائي، فأوحى الله تعالى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتل بها غيرهم فصبروا عليها، ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه، وابتلي إسحق بالذبح، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره، ولم تبتل أنت بشئ من ذلك. فقال داود عليه السلام: فابتلني بمثل ما ابتليتهم، وأعطني مثل ما أعطيتهم، فأوحى الله تعالى إليه: إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة. فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه، وجعل يصلي يقرأ الزبور. فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فيها من كل لون حسن، فوقف بين رجليه، فمد يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها، فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت ونظر داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها، فنظر امرأة في بستان على شط بركة (1) مدينة بلقاء يريد بها قصبة البلقاء. (*)
[ 168 ]
تغتسل، قاله الكلبي. وقال السدي: تغتسل عريانة على سطح لها، فرأى أجمل النساء خلقا، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده إعجابا بها. وكان زوجها أور يا بن حنان، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا، وقدمه قبل التابوت، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد. فقدمه ففتح له فكتب إلى داود يخبره بذلك. قال الكلبي: وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود، وكان إذا ضرب ضربة وكبر كبر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، وكبرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره. قال: وكان. سيوف الله ثلاثة، كالب بن يوفنا في زمن موسى، وأوريا في زمن داود، وحمزة بن عبد المطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه: أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت، ففتح الله عليه، فقتل في الثالثة شهيدا. فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدتها. فهي أم سليمان بن داود. وقيل: سبب امتحان داود عليه السلام أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم بغير مقارفة شئ. قال الحسن: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء، جزء لنسائه، وجزءا للعبادة، وجزء البني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم، ويوما للقضا فتذاكروا هل يمر على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك، فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على قراءة الزبور، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه. وذكر نحو ما تقدم. قال علماؤنا: وفي هذا دليل وهى. الثانية - على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولا بالعبادة. وقد مضى هذا المعنى في " النساء. " وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما. وقد قال عليه السلام (1) في النسخة الخيرية: وكان سيوف الله هكذا ثلاثة. (2) راجع ج 5 ص 19 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 169 ]
لعبدالله بن عمر: " إن لزوجك عليك حقا " الحديث. وقال الحسن أيضا ومجاهد: إن داود عليه السلام قال لبني إسرائيل حين استخلف: والله لأعدلن بينكم، ولم يستثن فابتلي بهذا. وقال أبو بكر الوراق: كان داود كثير العبادة فأعجب بعمله وقال: هل في الأرض أحد يعمل كعملي. [ فأرسل ] الله إليه جبريل، فقال: إن الله تعالى يقول لك: عجبت بعبادتك، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب، فإن أعجبت ثانية وكلتك إلى نفسك. قال: يا رب كلني إلى نفسي سنة. قال: إن ذلك لكثير. قال: فشهرا. قال: إن ذلك لكثير. قال: فيوما. قال: إن ذلك لكثير. قال: يا رب فكلني إلى نفسي ساعة. قال: فشأنك بها. فوكل الأحراس، ولبس الصوف، ودخل المحراب، ووضع الزبور بين يديه، فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه، فكان من أمر المرأة ما كان. وقال سفيان الثوري: قال داود ذات يوم: يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم. فأوحى الله إليه: يا داود منك ذلك أو مني ؟ وعزتي لأكلنك إلى نفسك. قال: يا رب اعف عني. قال: أكلك إلى نفسك سنة. قال: لا بعزتك. قال: فشهرا. قال: لا بعزتك. قال: فأسبوعا. قال: لا بعزتك. قال: فيوما. قال: لا بعزتك. قال: فساعة. قال: لا بعزتك. قال: فلحظة. فقال له الشيطان: وما قدر لحظة. قال: كلني إلى نفسي لحظة. فوكله الله إلى نفسه لحظة. وقيل له: هي في يوم كذا في وقت كذا. فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة، ووكل الأحراس حول مكانه. قيل: أربعة آلاف. وقيل: ثلاثين ألفا أو ثلاثة وثلاثين ألفا. وخلا بعبادة ربه، ونشر الزبور بين يديه، فجاءت الحمامة فوقعت له، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان. وأرسل الله عز وجل إليه الملكين بعد ولادة سليمان، وضربا له المثل بالنعاج، فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخر ساجدا أربعين ليلة على ما يأتي. الثالثة - قوله تعالى: " ففزع منهم " لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم. وقيل: لد خولهم عليه بغير إذنه. وقيل: لأنهم تسؤروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. (1) في الأصول: " فأوحى. " (*)
[ 170 ]
قال ابن العربي: وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقى إليه آدمى بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته، مع أعوان يكثر عددهم، وآلات جمة مختلفة الأنواع. ولو قلنا: إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك " تسوروا المحراب " إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا، وإذا شاهدت الكوة التى يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما لكان، لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوى. قال الثعلبي: وقد قيل كان المتسوران أخوين من بنى إسرائيل لأب وأم. فلما قضى داود بينهما بقضية قال له ملك من الملائكة: فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود. قال الثعلبي: والأول أحسن أنهما كانا ملكين نبها داود على ما فعل. قلت: وعلى هذا أكثر أهل التأويل. فإن قيل: كيف يجوز أن يقول الملكان " خصمان بغى بعضنا على بعض " وذلك كذب والملائكة عن مثله منزهون. فا لجواب أنه لابد في الكلام من تقدير، فكأنهما قالا: قدنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، وعلى ذلك يحمل قولهما: " إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة " لأن ذلك وإن كان بصودة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل، والله أعلم. الرابعة - إن قبل: لم فزع داود وهو نبى، وقد قويت نفسه بالنبوة، واطمأنت بالوحى، ووثقت بما أتاه الله من المنزلة، وأظهر على يديه من الآيات، وكان من الشجاعة في غاية المكانة ؟ قيل له: ذلك سبيل الأنبياء قبله، لم يأمنوا القتل والإذاية ومنهما كان يخاف. ألا ترى إلى موسى وهرون عليهما السلام كيف قالا: " إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " فقال الله عزو جل " لا تخافا " وقالت الرسل للوط: " لا تخف. " " إنا رسل ربك لن يصلوا إليك " وكذا قال الملكان هنا: " لا تخف. " قال محمد بن إسحق: بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه - مثلا ضربه الله له ولأوريا - فرأهما واقفيين على رأسه، فقال: ما أدخلكما على ؟ قالا: " لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض " فجئناك لتقضى بيننا.
[ 171 ]
الخامسة - قال ابن العربي: فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما، وهلا أدبهما وقد دخلا عليه بغير إذن ؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه: الأول: أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام، وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا في هذه الأحكام، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان. الثاني - أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له. الثالث - أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا ؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه ؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة، ومثل ضربه الله في القصة، وأدب وقع على دعوى العصمة. الرابع - أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد. قلت: وقول خامس ذكره القشيري، وهو أنهما قالا: لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب، توصلنا إلى الدخول بالتسور، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا. فقبل داود عذرهم، وأصغى إلى قولهم. السادسة - قوله تعالى: " خصمان " إن قيل: كيف قال " خصمان " وقبل هذا " إذا تسور وا المحراب " فقيل: لأن الإثنين جمع، قال الخليل: كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبرا، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة، خبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان. وقال الزجاج: المعنى نحن خصمان. وقال غيره: القول محذوف، أي يقول: " خصمان بغى بعضنا على بعض " قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض، لجاز. الماوردي: وكانا ملكين، ولم يكونا خصمين ولا باغيين، ولا يأتي منهما كذب، وتقدير كلامهما ما تقول: إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. وقيل: أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع. ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة
[ 172 ]
مع كل واحد من الفريق الآخر، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان، فعرف داود بذكر النكاح القصة. وأغنى ذلك عن التعرض للخصومات الأخر. والبغي التعدي والخروج عن الواجب. يقال: بغى الجرح إذا أفرط وجعه وترامى، إلى ما يفحش، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة. السابعة - قوله تعالى: " فاحكم بيننا با لحق ولا تشطط " أي لا تجر، قاله السدي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه شططت أي جرت. وفي حديث تميم الداري: " إنك لشاطي " أي جائر علي في الحكم. وقال قتادة: لا تمل. الأخفش: لا تسرف. وقيل: لا تفرط. والمعنى متقارب. والأصل فيه البعد من شطت الدار أي بعدت، شطت الدارتشط وتشط شطا وشطوطا بعدت. وأشط في القضية أي جار، وأشط في السوم واشتط أي أبعد، وأشطوا في طلبي أي امعنوا. قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شئ. وفي الحديث: " لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط " أي لا نقصان ولا زيادة. وفي التنزيل: " لقد قلنا إذا شططا " [ الكهف: 14 ] أي جورا من القول وبعدا عن الحق. " واهدنا إلى سواء الصراط " أي أرشدنا إلى قصد السبيل. الثامنة - قوله تعالى: " إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة " أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا " إن هذا أخي " أي على ديني، وأشار إلى المدعى عليه. وقيل: أخي أي صاحبي. " له تسع وتسعون نعجة " وقرأ الحسن: " تسع وتسعون نعجة " بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة، وهي الصحيحة من قراءة الحسن، قال النحاس. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة، لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة، لأن الكل مركوب. قال أبن عون: / ش أنا أبوهن ثلاث هنه / ورابعة في البيت صغراهنه / ش / ش ونعجتي خمسا توفيهنه / وألا فتى سمح يغذيهنه / ش / ش طي النقا في الجوع يطويهنه / وويل الرغيف ويله منهنه / ش
[ 173 ]
وقال عنترة: / ش يا شاة ما قنص لمن حلت له / وحرمت علي وليتها لم تحرم / ش / ش فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي / وفتجسسي أخبارها لي واعلم / ش / ش قالت رأيت من الأعادي غرة / ووالشاة ممكنة لمن هو مرتم / ش / ش فكأنما التفتت بجيد جداية / ورشإ من الغزلان حر أرثم / ش وقال آخر: / ش فرميت غفلة عينه عن شاته / وفأصبت حبة قلبها وطحالها / ش وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء. قال الحسين بن الفضل: هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق، كأنه قال: نحن خصمان هذه حالنا. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى، يقول: خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة، كما تقول: رجل يقول لامرأته كذا، ما يجب عليه ؟ قلت: وفد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره: " هو لك يا عبد بن زمعة " على نحو هذا، قال المزني: يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد، ولا على زمعة قول ابنه إنه ولد زنى، لأن كل، واحد منهما أخبر عن غيره. وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في، قصة داود والملائكة، إذ دخلوا عليه ففزع منهم، قالوا لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين، ولا كان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه. فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم (1) هو الأعشى. (2) قوله: " إنه وتلد زنى " أولى بقول سعد بن أبى وقاص. راجع الحديث في " الموطأ " ج 6 ص 4 طبعة السلطان عبد الحفيظ. (*)
[ 174 ]
حكم في هذه القصة على المسألة، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث، فإنه عندي صحيح. والله أعلم. التاسعة - قال النحاس: وفي قراءة أبن مسعود " إن هذا أخي كان له تسع وتسعون نعجة أنثى " و " كان " هنا مثل قول عز وجل: " وكان الله غفورا رحيما " [ النساء: 96 ] فأما قوله " أنثى " فهو تأكيد، كما يقال: هو رجل ذكر وهو تأكيد. وقيل: لما كان يقال هذه مائة نعجة، وإن كان فيها من الذكور شئ يسير، جاز أن يقال: أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها. وفي التفسير: له تسع وتسعون امرأة. قال ابن العربي: إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه، وإن كن إماء فذلك شرعنا. والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورا بعدد، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لضعف الأبدان وقلة الأعمار. وقال القشيري: ويجوز أن يقال: لم يكن له هذا العدد بعينه، ولكن المقصود ضرب مثل، كما تقول: لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك، أي مرارا كثيرة. قال ابن العربي: قال بعض المفسرين لم يكن لداود مائة امرأة، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا، المعنى: هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها. وهذا فاسد من، وجهين: أحدهما - أن العدول عن الظاهر بغير دليل لا معنى له، ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا. الثاني: أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال: " لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل أمرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله " وهذا نص العاشرة - قوله تعالى: " ولى نعجة واحدة " أي امرأة واحدة " فقال أكفلينها " أي أنزل لي عنها حتى أكفلها. وقال ابن عباس: أعطنيها. وعنه: تحول لي عنها. وقاله ابن مسعود. وقال أبو العالية: ضمها إلي حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي. " وعزنى في الحطاب " أي غلبني. قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني. يقال: عزه يعزه " بضم العين في المستقبل " عزا غلبه. وفي المثل: من عزيز، أي من غلب سلب. والاسم العزة وهي القوة والغلبة. قال الشاعر: / ش قطاة عزها شرك فباتت / وتجاذبه وقد علق الجناح / ش
[ 175 ]
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: " وعازني في الخطاب " أي غالبني، من المعازة وهي المغالبة، عازه أي غالبه. قال ابن العربي: واختلف في سبب الغلبة، فقيل: معناه غلبني ببيانه. وقيل: غلبني بسلطانه، لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. كان ببلادنا أمير يقال له: سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها. فقلت: أما إذا كان عدلا فلا. فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته، كما عجب من جوابي له واستغربه. الحادية عشرة - قوله تعالى: " قال لقد ظلمك بسؤال نعجنك إلى نعاجه " قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام، لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت ببينة، ولا إقرار من الخصم، هل كان هذا كذا أولم يكن. فهذا قول. وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا، وهو حسن إن شاء الله تعالى. وقال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم. كذا قال: في كتاب " إعراب القرآن. " وقال: في كتاب معاني القرآن له بمثله. قال رضي الله عنه: قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها. وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: ما زاد داود عليه السلام على أن قال " أكفلنيها " أي انزل لي عنها. وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال: ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال: " أكفلنيها " أي تحول لي عنها وضمها إلي، قال أبو جعفر: فهذا أجل ما روي في هذا، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته، فنبهه الله (1) هو الأمير أبو بكر سير من أمراء المرابطين أحد قواد يوسف بن تاشفين المشاهير تركه بالأندلس حين عزم الرجوع إلى بلاده. 1 ه نفح الطيب. (*)
[ 176 ]
عز وجل على ذلك، وعاتبه لما كان نبيا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا، فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة، كانت في الأهل أو في المال. وقد قال سعيد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما: إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما، فقال له: بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمن يروى هذا ويسند ؟ ! وعلى من في نقله يعتمد، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد. أما أن في سورة " الأحزاب " نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة، وذلك قوله: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل " [ الأحزاب: 38 ] يعني في أحد الأقوال: تزويج داود المرأة التي نظر إليها، كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال الزوج في فراق، بل أمره بالتمسك بزوجته، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها. فكانت، هذه المنقبة لمحمد صلى الله عليه وسلم على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم. ولكن قد قيل: إن معنى " سنة الله في الذين خلوا من قبل " تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق. وقيل: أراد بقوله: " سنة الله في الذين خلوا من قبل " [ الأحزاب: 38 ] أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره. وهذا أصح الأقوال. وقد روى المفسرون أن داود عليه السلام نكح مائة امرأة، وهذا نص القرآن. وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية، وربك أعلم. وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل: " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب " الآية: ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر، أن داود عليه
[ 177 ]
السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره، يقال هو أوريا، فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه، وزاهدين في الخاطب الأول، ولم يكن بذلك داود عارفا، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك، من حيث أعجب بها إما وصفا أو مشاهدة على غير تعمد، وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسور الملكين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض، لكى يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة. الثانية عشرة - قوله تعالى: " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه " فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول. قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر. وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين أدعى والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضى لأحدهما حتى تسمع من الآخر " وقيل: إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك. وقيل: تقديره لقد ظلمك إن كان كذلك. والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه. قلت: ذكر هذين الوجهين القشيري والماوردي وغيرهما. قال القشيري: وقوله: " لقد ظلمك بسؤال نعجتك " من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل، فيمكن أن يقال: إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه. وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته، فهذا معلوم من قرائن الحال، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول، فسكته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه. قال ويحتمل أن يقال: كان من شرعهم التعويل على قول المدعي عند سكوت المدعى عليه، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول. وقال الحليمي أبو عبد الله في كتاب منهاج الدين له: ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت، أو كانت خافية فظهرت: السجود لله عز وجل. قال والأصل في ذلك قول عز وجل: " وهل أتاك نبأ
[ 178 ]
الخصم " إلى قوله: " وحسن مآب ". أخبر الله عزوجل عن داود عليه السلام، أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم، فقال له مستعجلا: " لقد ظلمك " مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شئ لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرني قبل أن أجره، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخر راكعا لله تعالى شكرا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه، فقال: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " [ ص: 26 ] فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة، التي توخاه بها بعد المغفرة، أن خطيئته إنما كانت التقصير في الحكم، والمبادرة إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه. ثم جاء عن ابن عباس أنه قال: سجدها داود شكرا، وسجدها النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم. " بسؤال نعجتك " أي بسؤاله نعجتك، فأضاف المصدر إلى المفعول، وألقى الهاء من السؤال، وهو كقوله تعالى: " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " [ فصلت: 49 ] أي من دعائه الخير. الثالثة عشرة - قوله تعالى: " وإن كثيرا من الخلطاء " يقال: خليط وخلطاء ولا يقال طويل وطولاء، لثقل الحركة في الواو. وفيه وجهان: أحدهما أنهما الأصحاب. الثاني أنهما الشركاء.
[ 179 ]
قلت: إطلاق الخلطاء على الشركاء فيه بعد، وقد أختلف العلماء في صفة الخلطاء فقال أكثر العلماء: هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدلو والمراح. وقال طاوس وعطاء: لا يكون الخلطاء إلا الشركاء. وهذا خلاف الخبر، وهو قول صلى الله عليه وسلم: " لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجحان بينهما بالسويه " وروي " فإنهما يترادان الفضل " ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء، فاعلمه. وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه. ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون " الصدقة " على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة. وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي: إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة. قال مالك: وإن أخذ المصدق بهذا ترادوا بينهم للاختلاف في ذلك، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه. الرابعة عشرة - قوله تعالى: " ليبغي بعضهم على بعض " أي يتعدى ويظلم. " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فإنهم لا يظلمون أحدا. " وقليل ماهم " يعني الصالحين، أي وقليل هم ف " ما " زائدة. وقيل: بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم. وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل. فقال له عمر: ما هذا الدعاء. فقال أردت قول الله عز وجل: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر الخامسة عشرة - قوله تعالى: " وظن داود أنما فتناه " أي ابتليناه. " وظن " معناه أيقن. قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين. والقراءة " فتناه " بتشديد النون دون التاء. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه " فتناه " بتشديد التاء والنون على المبالغة. وقرأ قتادة وعبيد ابن عمير وابن السميقع " فتناه " بتخفيفهما. ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو، والمراد به الملكان اللذان دخلا على داود عليه السلام. (1) زيادة يقتضيها السياق. (*)
[ 180 ]
السادسة عشرة - قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود، فأحبا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حيال وجهه، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه. قلت: وليس في القران ما يدل على، القضاء في المسجد إلا هذه الآية، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرهم داود على ذلك. ويقول: انصرفا إلى موضع القضاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يقضون في المسجد، وقد قال مالك: القضاء في المسجد من الأمر القديم. يعني في أكثر الأمور. ولا بأس أن يجلس في رحبته، ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض، ولا يقيم فيه الحدود، ولا بأس بخفيف الأدب. وقد قال أشهب يقضي في منزله وأين أحب. السابعة عشرة - قال مالك رحمه الله: وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم، وأول من استقضى معاوية. قال مالك: وينبغي للقضاة مشاورة العلماء. وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى، مستشيرا لذوي الرأي، حليما نزها. قال: ويكون ورعا. قال مالك: وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل، وأن يكون عالما بالشروط، عارفا بما لا بد له منه من العربية، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له. وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب: أبقيت لك حجة ؟ فإن قال لا حكم عليه، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة. وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع. الثامنة عشرة - قوله تعالى: " فاستغفر ربه " اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة، الأول أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنته النظرة. قال أبو إسحق: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، فصارت الأولى له والثانية عليه. الثاني أنه أغزى زوجها في حملة التابوت. الثالث
[ 181 ]
أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا. فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها. وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة. الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا، كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله. السادس أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر. قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال، لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب ! وحكى السدي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة، لأن حد قاذف الناس ثمانون وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة. ذكره الماوردي والثعلبي أيضا. قال الثعلبي: وقال الحرث الأعور عن علي: من حدث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين، لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين، وحجة للمجتهدين. قال ابن العربي: وهذا مما لم يصح عن علي. فإن قيل: فما حكمه عندكم ؟ قلنا: أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة، فقد أختلف نقل الناس في ذلك، فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته، فإنه يناقض التعزير المأمور به، فأما قولهم: إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة، لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها. وأما قولهم: إنه. نوى إن مات زوجها تزوجها فلا شئ فيه إذ لم يعرضه للموت. وأما قولهم: إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها. (1) الزيادة من أحكام القرآن لابن العربي. (*)
[ 182 ]
وقد روى أشهب عن مالك قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من داود عليه السلام وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده، ثم صنع مثل ذلك مرتين، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي، تغتسل ولها شعر طويل، فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه. قال ابن العربي: وأما قول المفسرين إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه فهذا لا يناقض العبادة، لأنه مباح فعله، لا سيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة، وإنما أتبع الطير لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة. أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه، لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح: " إن أيوب عليه السلام كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه. " فقال الله تعالى له: " يا أيوب ألم أكن أغنيتك " قال: " بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك " وقال القشيري: فهم داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كوة البيت، وقاله الثعلبي أيضا وقد تقدم. التعاسعة عشرة - قوله تعالى: " وخر راكعا وأناب " أي خر ساجدا، وقد يعبر عن السجود بالركوع. قال الشاعر: / ش فخر على وجهه راكعا / ووتاب إلى الله من كل ذنب / ش قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع ها هنا السجود، فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئه، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر، فسمي السجود ركوعا. وقال المهدوي: وكان ركوعهم سجودا. وقيل: بل كان سجودهم ركوعا. وقال مقاتل: فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل. أي لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة، ثم وقع من الركوع إلى السجود، لاشتمالهما جميعا على الانحناء. " وأناب " أي تاب من خطيئته ورجع إلى الله. (1) الزيادة من أحكام القرآن لابن العربي. (*)
[ 183 ]
وقال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الو الي عن قول الله عز وجل: " وخر راكعا " فهل يقال للراكع خر ؟. قلت: لا. قال: فما معنى الآية ؟ قلت: معناها فخر بعد أن كان راكعا أي سجد. الموفية عشرين - وأختلف في سجدة داود هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا ؟ فروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر: " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتشزن الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود " ونزل وسجد. وهذا لفظ أبي داود. وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: " ص " ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وقد روي من طريق عن أبن مسعود أنه قال: " ص " توبة نبي ولا يسجد فيها، وعن ابن عباس أنها توبة نبي ونبيكم ممن أمر أن يقتدى به. قال ابن العربي: والذي عندي أنها ليست موضع سجود، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به. ومعنى السجود أن داود سجد خاضعا لربه، معترفا بذنبه. تائبا من خطيئته، فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه، وسواء قلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد. والله أعلم. الحادية والعشرون - قال ابن خويزمنداد: قوله: " وخر راكعا وأناب " فيه دلالة على، أن السجود للشكر مفردا لا يجوز، لأنه ذكر معه الركوع، وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا فأما سجدة مفردة فلا، وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة. (1) التشزن التأهب والتهيؤ للشى. (*)
[ 184 ]
قلت: وفي سنن ابن ماجة عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين. وخرج من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله. وهذا قول الشافعي وغيره. الثانية والعشرون - روى الترمذي وغيره واللفظ للغير: أن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ: " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة، فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا، وارزقني بها شكرا. قلت: خرج ابن ماجة في سننه عن ابن عباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم، كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم أحطط بها عني وزرا، واكتب لي بها أجرا، وأجعلها لي عندك ذخرا. قال ابن عباس فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ " السجدة " فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة. ذكره الثعلبي عن أبي سعيد الخدري، قال: قلت يا رسول الله رأيتني في النوم كأني تحت شجرة والشجرة تقرأ " ص " فلما بلغت السجدة سجدت فيها، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم أكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " أفسجدت أنت يا أبا سعيد " فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة " ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " ص " حتى بلغ السجدة فسجد، ثم قال مثل ما قالت السجرة. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: " فغفرنا له ذلك " أي فغفرنا له ذنبه. قال ابن الأنباري: " فغفرنا له ذلك " تام، ثم تبتدئ " وإن له " وقال القشيري: ويجوز الوقف على " فغفرنا له " ثم تبتدئ " ذلك وإن له " كقوله: " هذا وإن للطاغين " [ ص: 55 ] أي الأمر ذلك.
[ 185 ]
وقال عطاء الخراساني وغيره: إن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى من حر جوفه وغمر رأسه، فنودي: أجائع فتطعم وأعار فتكسى، فنحب نحبة هاج المرعى من حر جوفه، فغفر له وستر بها. فقال: يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل، تركت أولادهم أيتاما، ونساءهم أرامل ؟ قال: يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة. قال: يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة. ثم قيل: يا داود ارفع رأسك. فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها. رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء. قال الوليد: وأخبرني منير بن الزبير، قال: فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله. قال الوليد قال ابن لهيعة: فكان يقول في سجوده سبحانك هذا شرابي دموعي وهذا طعامي في رماد بين يدي. في رواية: إنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة، فبكى حتى نبت العشب من دموعه. وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده: يا رب داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده فقال له جبريل بعد أربعين سنة يا داود إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به " وقال وهب: إن داود عليه السلام نودي أني قد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال: لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك ؟ قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا. فقال الله لجبريل: اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه، فأنا أسمعه نداءه. فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى يا أوريا فقال: لبيك ! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني ؟ فقال: أنا أخوك داود أسألك أن تجعلني في حل فإني عرضتك للقتل قال: عرضتني للجنة فأنت في حل. وقال الحسن وغيره: كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين، ويقول: تعالوا إلى داود الخطاء، ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه. وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال
[ 186 ]
يبكي حتى يبتل بدموعه، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول: هذا أكل الخاطئين. وكان قبل الخطيئة يقوم نصف اليل ويصوم نصف الدهر. ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله، وقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته منقوشة في كفه. فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شئ إلا رأها فأبكته، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه. وروى الوليد بن مسلم: حدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما مثل عيني داود مثل القربتين تنطفان ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض " قال الوليد: وحدثنا عثمان بن ابن العاتكة أنه كان في قول داود. إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين أن كان يقول: اللهم لا تغفر للخطائين. ثم صار إلى أن يقول: اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم، سبحان خالق النور. إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني. إلهي أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها، سبحان خالق النور. إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلى روحي. وفي الخبر: أن داود عليه السلام كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته، فكان ينادي: إلهي ! إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلي روحي، رب ! أغفر للخاطئين كي تغفر لداود معهم. وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها. وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رءوس الجبال وأفواه الغيران: ألا إن هذا يوم نوح داود، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده، فيهبط السياح من الغيران والأودية، وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عكف، وبنو إسرائيل حول منبره، فإذا أخذ في العويل والنوح، وأثارت الحرقات منابع دموعه، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم. ومات داود عليه السلام فيما قيل يوم السبت فجأة، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل،
[ 187 ]
فقال: جئت لأقبض روحك. فقال: دعني حتى أنزل أو أرتقي. فقال: مالي إلى ذلك سبيل، نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا. قال: فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال. وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة. وقيل: تسع وسبعون، وعاش مائة سنة، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة. الرابعة والعشرون - قوله تعالى: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: " وإن له عندنا لزلفى " قربة بعد المغفرة. " وحسن مآب " قالا: والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود. وقال مجاهد عن عبدا لله بن عمر: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة. وعن مجاهد: يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده: فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى. قال: ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا، " حتى يقرب فيسكن " فذلك قوله عز وجل: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " ذكره الترمذي الحكيم قال: حدثنا الفضل بن محمد، قال حدثنا عبد الملك بن الأصبغ قال حدثنا الوليد بن مسلم، قال حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره. قال الترمذي: ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله: " ربنا عجل لنا قطنا " والقط الصحيفة في اللغة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم: " فأما من أوتي كتابه بيمينه " [ الحاقة: 19 ]: وقال لهم: " إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم " فقالوا: " ربنا عجل لنا قطنا " أي صحيفتنا " قبل يوم الحساب " قال الله تعالى: " أصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد " فقص قصة خطيئته إلى منتهاها، فكنت أقول: أمره بالصبر على ما قالوا، وأمره بذكر داود فأي شئ أريد من هذا الذكر ؟ وكيف اتصل هذا بذاك ؟ فلا أقف على شئ يسكن قلبي عليه، حتى هداني الله له (1) هذه الزيادة يقتضيها المقام ويدل عليها ما ورد في آخر القصة. (*)
[ 188 ]
يوما فألهمته أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله، وقالوا: " ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " فأوجعه ذلك من استهزائهم، فأمره بالصبر على مقالتهم، وأن يذكر عبده داود، سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم، وأن الله تبارك وتعالى آسمه يستوهبه منه، وهو حبيبه ووليه وصفيه، فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف، وقد أخبر الله عنهم فقال: " فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " [ الكهف: 49 ] فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها. وقد روينا في الحديث: إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له ها هنا، ثم يرى فيقلق ثم يقال هاهنا، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن. قوله تعالى: يداود إنا جعلنك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب فيه خمس مسائل: الأولى - قوله تعالى: " إنا جعلناك خليفة في الأرض " أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين وقد مضى في " البقرة " القول في الخليفة وأحكامه. مستوفى والحمد لله. (1) لعل الأصل: حتى تنفذ دموعه من سبعة الخ. (2) راجع ج 1 ص 263 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 189 ]
الثانية - قوله تعالى: " فاحكم بين الناس بالحق " أي بالعدل وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا، فاحكم بين الناس بالعدل " ولا تتبع الهوى " أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله " فيضلك عن سبيل الله " أي عن طريق الجنة. " إن الذين يضلون عن سبيل الله " " أي يحيدون عنها ويتركونها " لهم عذاب شديد " في النار " بما نسوا يوم الحساب " أي بما تركوا من سلوك طريق الله، فقوله: " نسوا " أي تركوا الإيمان به، أو تركوا العمل به فصار وا كالناسين. ثم قيل: هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوة. وقيل: بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته. الثالثة - الأصل في الأقضية قوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق " وقوله: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة: 49 ] وقوله تعالى: " لتحكم بين الناس بما أراك الله " [ النساء: 105 ] وقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " [ المائدة: 8 ] الآية. وقد تقدم الكلام فيه. الرابعة - قال ابن عباس في قوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " قال: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلج على صاحبه، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة، أو غيرهما. وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام، لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه (1) راجع ج 5 ص 375 وما بعدها وج 6 ص 109 وما بعدها وص 212 طبعة أو ثانية. (2) يفلج على صاحبه: نظفر ويفون. (*)
[ 190 ]
أن يجعل بينه وبينه علما، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك، وإذا هو قصر عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مد يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصرت عن الحق قصر بك، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا، ولم يفض إلى أهله بشئ من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب. فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء، أقبل إليه رجلان يريدانه فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقا وخدن، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه فخر ساجدا وهو يقول: يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده فبينه لي. فقيل له: أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به، قد أردته وأحببته ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره. وعن ليث قال: تقدم إلى عمربن الخطاب خصمان فأقامهما، ثم عادا فأقامهما، ثم عادا ففصل بينهما، فقيل له في ذلك، فقال: تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك، ثم، عادا فوجدت بعض ذلك له، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما. وقال الشعبي: كان بين عمر وأبي خصومة، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته، فقال عمر: هذا أول جورك، أجلسني وإياه مجلسا واحدا، فجلسا بين يديه. الخامسة - هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه، لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر، قال: لو رأيت رجلا على حد من حدود
[ 191 ]
الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري. وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له: احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى فرسا فجحده البائع، فلم يحكم عليه بعلمه وقال: " من يشهد لي " فقام خزيمة فشهد فحكم. خرج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في " البقرة. " قوله تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما بطلا ذلك ظن الذين كفروا فيويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتب أنزلنه إليك مبرك ليدبروآ ءايته وليتذكر أولوا الألبب قوله تعالى: " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا " أي هزلا ولعبا. أي ما خلقنا هما إلا لأمر صحيح وهو الدلالة على قدرتنا. " ذلك ظن الذين كفروا " أي حسبان الذين كفروا أن الله خلقهما باطلا. " فويل للذين كفروا من النار " ثم ونجهم فقال: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات " والميم صلة تقديره، أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات " كالمفسدين في الأرض " فكان في هذا رد على المرجئة، لأنهم يقولون: يجوز أن يكون المفسد ما لصالح أو أرفع درجة منه. وبعده أيضا: " أم نجعل المتقين كالفجار " أي أنجعل أصحاب محمد عليه السلام كالكفار، قاله ابن عباس. وقيل هو عام في المسلمين المتقين والفجار الكافرين وهو أحسن، وهو رد على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شئ واحد. (1) راجع ج 3 ص 405 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 192 ]
قوله تعالى: " كتاب " أي هذا كتاب " أنزلناه إليك مبارك " يا محمد " ليدبروا " أي ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال. وفي هذا دليل على، وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ، إذ لا يصح التدبر مع الهذ على ما بيناه في كتاب التذكار. وقال الحسن: تدبر آيات الله اتباعها. وقراءة العامة " ليدبروا ". وقرأ أبو حنيفة وشيبة " لتدبروا " بتاء وتخفيف الدال، وهي قراءة علي رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا فحذف إحدى التاءين تخفيفا " وليتذكر أولو الألباب " أي أصحاب العقول واحدها لب، وقد جمع على ألب، كما جمع بؤس على أبؤس، ونعم على أنعم، قال أبو طالب: / ش قلبي إليه مشرف الألب / ش وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر، قال الكميت: / ش إليكم ذوي آل النبي تطلعت / ونوازع من قلبي ظماء وألبب / ش قوله تعالى: ووهبنا لداود سليمن نعم العبد إنه أواب إذا عرض عليه بالعشى الصفنبت الجياد فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب ردوها على فطفق مسحا بالسوق والأعناق قوله تعالى: " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب " لما ذكر داود ذكر سليمان و " أواب " معناه مطيع. " إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد " يعني الخيل جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر، كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها، يقال: قوم أجواد وخيل جياد، جاد الرجل بماله يجود جودا فهو جواد، وقوم جود مثال (1) الهذ: سرعة القراءة. (2) وفي الألوسى أن عليا قرأ " ليتدبروا " بتاء بعد الياء آخر الحروف وكذا في البحر لأبى حيان. (*)
[ 193 ]
قذال وقذل، وإنما سكنت الواو لأنها حرف علة، وأجواد وأجاود وجوداء، وكذك امرأة جواد ونسوة جود مثل نوار ونور، قال الشاعر: / ش صناع بإشفاها حصان بشكرها / وجواد بقوت البطن والعرق زاخر / ش وتقول: سرنا عقبة جوادا، وعقبتين جوادين، وعقبا جيادا. وجاد الفرس أي صار رائعا يجود جودة " بالضم " فهو جواد للذكر والأنثى، من خيل جياد وأجياد وأجاويد. وقيل: إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجيد وهو العنق، لأن طول الأعناق " في " الخيل من صفات فراهتها. وفي الصافنات أيضا وجهان: أحدهما أن صفونها قيامها. قال القتبي والفراء: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار " أي يديمون له القيام، حكاه قطرب أيضا وأنشد قول النابغة: / ش لنا قبة مضروبة بفنائها / وعتاق المهارى والجياد الصوافن / ش وهذا قول قتادة. الثاني أن صفونها رفع إحدى اليدين على طرف الحافر حتى يقوم على ثلاث كما قال الشاعر: / ش ألف الصفون فما يزال كأنه / ومما يقوم على الثلاث كسيرا / ش وقال عمرو بن كلثوم: / ش تركنا الخيل عاكفة عليه / ومقلدة أعنتها صفونا / ش وهذا قول مجاهد. قال الكلبي: غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقال الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة. وقاله الضحاك. وأنها كانت خيلا أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة. ابن زيد: أخرج (1) هو أبو شهاب الهذلى ورواه ابن السكيت: والعرض وافر، وروى: جواد بزاد الركب والعرق زاخر. وامرأة صناع أي ماهرة حاذقة عمل اليدين، والإشفى المخصف للنعال وعنى أن مرفقها حديد كالإشفى. والشكر الفرج. والعرق زاخر أراد به الجوع يعنى تجود بقوتها مع شدة الجوع. (2) ورد في اللسان في مادة صفن أن قوله مما يقوم لم يرد من قيامه، وإنما أراد من الجنس الذى يقوم على الثلاث، وجعل " كسيرا " حالا من ذلك النوع الزمن لا من الفرس المذكور. (*)
[ 194 ]
لا لشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر، وكانت لها أجنحة. وكذلك قال علي رضي الله عنه: كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة. وقيل: كانت مائة فرس. وفي الخبر عن إبراهيم التيمي: أنها كانت عشرين ألفا، فالله أعلم. فقال: " إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى " يعنى بالخير الخيل، والعرب تسميها كذلك، وتعاقب بين الراء واللام، فتقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت وخترت إذا خدعت. قال الفراء: الخير في كلام العرب والخيل واحد. النحاس: في الحديث: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " فكأنها سميت خيرا لهذا. وفي الحديث: لما وفد زيد الخيل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: " أنت زيد الخير " وهو زيد بن مهلهل الشاعر. وقيل: إنما سميت خيرا لما فيها من المنافع. وفي الخبر: إن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب، وقيل له: اختر منها واحدا فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك، فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسمي خيلا، لأنها موسومة بالعز. وسمي فرسا لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا، ويقطعها كالالتهام بيديه على كل شئ خبطا وتناولا. وسمي عربيا لأنه جئ به من بعد آدم لإسمعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسمعيل عربي فصارت له نحلة من الله، فسمى عربيا. و " حب " مفعول في قول الفراء. والمعنى إني آثرت حب الخير. وغيره يقدره مصدرا أضيف إلى المفعول، أي أحببت الخير حبا فألهاني عن ذكر ربي. وقيل: إن معنى " أحببت " قعدت وتأخرت من قولهم: أحب البعير إذا برك وتأخر. وأحب فلان أي طأطأ رأسه. قال أبو زيد: يقال بعير محب، وقد أحب إحبابا وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. وقال ثعلب: يقال أيضا للبعير الحسير محب، فالمعنى قعدت عن ذكر ربي. و " حب " على هذا مفعول له. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان: أحببت بمعنى لزمت، من قوله: / ش مثل بعير السوء إذ أحبا / ش (1) هو أبو محمد الفقعسى، وصدر البيت: / ش حلت عليه بالقفيل ضربا / ش والقفيل السوط. وفي كتب اللغة: ضرب بعير السوء... الخ. (*)
[ 195 ]
" حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس كناية عن غير مذكور، مثل قوله تعالى: " ما ترك على ظهرها من دابة " [ فاطر: 45 ] أي على ظهر الأرض، وتقول العرب: هاجت باردة أي هاجت الريح باردة. وقال الله تعالى: " حتى إذا بلغت الحلقوم " أي بلغت النفس الحلقوم " [ الواقعة: 83 ] وقال تعالى: " إنها ترمي بشرر كالقصر " [ المرسلات: 32 ] ولم يتقدم للنار ذكر. وقال الزجاج: إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشئ أو دليل الذكر، وقد جرى هاهنا الدليل وهو قوله: " بالعشي ". والعشي ما بعد الزوال، والتواري الاستتار عن الأبصار، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، قاله قتادة وكعب. وقيل: هو جبل قاف. وقيل: جبل دون قاف. والحجاب الليل سمي حجابا، لأنه يستر ما فيه. وقيل: " حتى توارت " أي الخيل في المسابقة. وذلك أن سليمان كان له ميدان مستدير يسابق فيه بين الخيل، حتى توارت عنه وتغيب عن عينه في المسابقة، لأن الشمس لم يجر لها ذكر. وذكر النحاس أن سليمان عليه السلام كان في صلاة فجئ إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار بيده لأنه كان يصلي حتى توارت الخيل وسترتها جدر الإصطبلات فلما فرغ من صلاته قال: " ردوها علي فطفق مسحا " أي فأقبل يمسحها مسحا. وفي معناه قولان: أحدهما أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها، وليرى أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله. وقال قائل هذا القول: كيف يقتلها ؟ وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له. وقيل: المسح ها هنا هو القطع أذن له في قتلها. قال الحسن والكلبي ومقاتل: صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه، وكانت ألف فرس، فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة، ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم، فقال: " ردوها علي " فردت فعقرها بالسيف، قربة لله وبقي منها مائة، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل. قال القشيري: وقيل: ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها. وكان سليمان عليه السلام رجلا مهيبا، فلم يذكره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحا، فتذكر سليمان تلك
[ 196 ]
الصلاة الفائتة، وقال على سبيل التلهف: " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " أي عن الصلاة، وأمر برد الأفراس إليه، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس، إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة. ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار، ثم ذبحها في الحال، ليتصدق بلحمها، أو لأن ذلك كان مباحا في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله، فأثنى الله عليه بهذا، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوا ورواحا. وقد قيل: إن الهاء في قوله: " ردوها علي " للشمس لا للخيل. قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها ؟ فقلت سمعت كعبا يقول: إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة، قال: " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي " أي آثرت " حب الخير عن ذكر ربي " الآية " ردوها علي " يعني الأفراس وكانت أربع عشرة، فضرب سوقها وأعناقها بالسيف، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما، لأنه ظلم الخيل. فقال علي بن أبي طالب: كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي غربت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: " ردوها " يعني الشمس فردوها حتى صلى العصر في وقتها، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون. قلت: الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ومتعلق بذكرها، حسب ما تقدم بيانه. وكثيرا ما يضمرون الشمس، قال لبيد: / ش حتى إذا ألقت يدا في كافر / ووأجن عورات الثغور ظلامها / ش الهاء في " ردوها " للخيل، ومسحها قال الزهري وابن كيسان: كان يمسح سوقها وأعناقها، ويكشف الغبار عنها حبا لها. وقال الحسن وقتادة وابن عباس. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رؤى وهو يمسح فرسه بردائه. وقال: " إني عوتبت الليلة في الخيل "
[ 197 ]
خرجه الموطأ عن يحيى بن سعيد مرسلا. وهوفي غير الموطأ مسند متصل عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أنس. وقد مضى في " الأنفال " قوله عليه السلام: " وامسحوا بنواصيها وأكفالها " وروى ابن وهب عن مالك أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف. قلت: وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان، هذا. وهو استدلال فاسد، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا في معنى الآية، فمنهم من قال: مسح على أعناقها وسوقها إكراما لها وقال: أنت في سبيل الله، فهذا إصلاح. ومنهم من قال: عرقبها ثم ذبحها، وذبح الخيل وأكل لحمها جائز. وقد مضى في " النحل " بيانه. وعلى هذا فما فعل شيئا عليه فيه جناح. فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز. ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل، ولا يكون في شرعنا. وقد قيل: إنما فعل بالخيل ما فعل بإباحة الله جل وعز له ذلك. وقد قيل: إن مسحه إياها وسمها بالكي وجعلها في سبيل الله، فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث أن السوق ليست بمحل للوسم بحال. وقد يقال: الكي على الساق علاط، وعلى العنق وثاق. والذي في الصحاح للجوهري: علط البعير علطا كواه في عنقه بسمة العلاط. والعلاطان جانبا العنق. قلت: ومن قال إن الهاء في " ردوها " ترجع للشمس فذلك من معجزاته. وقد اتفق مثل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم. خرج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أصليت يا علي " قال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فأردد عليه الشمس " قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر. قال الطحاوي: وهذان الحديثان ثابتان، ورواتهما ثقات. (1) راجع ج 8 ص 36 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 10 ص 76 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 198 ]
قلت: وضعف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث فقال: وغلو الرافضة في حب علي عليه السلام حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، منها أن الشمس غابت ففاتت عليا عليه السلام العصر فردت له الشمس، وهذا من حيث النقل محال، ومن حيث المعنى فإن الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد لا يرد الوقت. ومن قال: أن الهاء ترجع إلى الخيل، وأنها كانت تبعد عن عين سليمان في السباق، ففيه دليل على المسابقة بالخيل وهو أمر مشروع. وقد مضى القول فيه في " يوسف. " قوله تعالى: ولقد فتنا سليمن وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب والشيطين كل بناء وغواص وءاخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن ماب قوله تعالى: " ولقد فتنا سليمان " قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة، ذكره الزمخشري. و " فتنا " أي ابتلينا وعاقبنا. وسبب ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: اختصم إلى سليمان عليه السلام فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان، وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم، ثم قضى بينهما بالحق، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى. وقال سعيد بن المسيب: إن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد، ولا ينصف مظلوما من ظالم، فأوحى الله تعالى إليه: " إنى لم أستخلفك لتحتجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم ". (1) راجع ج 9 ص 145 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 199 ]
وقال شهر بن حوشب ووهب بن منبه: إن سليمان عليه السلام سبى بنت ملك غزاه في البحر، في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون. فألقيت عليه محبتها وهي تعرض عنه، لا تنظر إليه إلا شزرا، ولا تكلمه إلا نزرا، وكان لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها، وكانت في غاية من الجمال، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورة أبيها حتى تنظر إليه، فأمر فصنع لها فعظمته وسجدت له، وسجدت معها جواريها، وصار صنما معبودا في داره وهو لا يعلم، حتى مضت أربعون ليلة، وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره، وحرقه ثم ذراه في البحر. وقيل: إن سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون واسمها جرادة - فيما ذكر الزمخشري - أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت، فخوفها فقالت: اقتلني ولا أسلم فتزوجها وهي مشركة فكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما. وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه. وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شئ من حيض أو غيره. وقيل: إنه أمر ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غيرهم، فعوقب على ذلك، والله أعلم. قوله تعالى: " وألقينا على كرسيه جسدا " قيل: شيطان في قول أكثر أهل التفسيرين، ألقى الله شبه سليمان عليه السلام عليه، واسمه صخر بن عمير صاحب البحر، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر سليمان ببناء بيت المقدس، فصوتت الحجارة لما صنعت بالحديد، فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والفصوص وغيرها ولا تصوت. قال ابن عباس: كان ماردا لا يقوى عليه جميع الشياطين، ولم يزل يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان بن داود، وكان سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان أم ولد له يقال لها الأمينة، قاله شهر ووهب. وقال ابن عباس وابن جبير: اسمها جرادة. فقام أربعين يوما على ملك سليمان وسليمان هارب، حتى رد الله عليه الخاتم والملك. وقال سعيد بن المسيب: كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه، فأخذه الشيطان من تحته.
[ 200 ]
وقال مجاهد: أخذه الشيطان من يد سليمان، لأن سليمان سأل الشيطان وكان اسمه آصف: كيف تضلون الناس ؟ فقال له الشيطان: أعطني خاتمك حتى أخبرك. فأعطاه خاتمه، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان، متشبها بصورته، داخلا على نسائه، يقضي بغير الحق، ويأمر بغير الصواب. واختلف في إصابته لنساء سليمان، فحكي عن ابن عباس ووهب بن منبه: أنه كان يأتيهن في حيضهن. وقال مجاهد: منع من إتيانهن وزال عن سليمان ملكه فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس، ويحمل سموك الصيادين بالأجر، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه. قال قتادة: ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد. قيل: إنه استطعمها. وقال ابن عباس: أخذها أجرة في حمل حوت. وقيل: إن سليمان صادها فلما شق بطنها وجد خاتمه فيها، وذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه، وهي عدد الأيام التي عبد " فيها " الصنم في داره، وإنما وجد الخاتم في بطن الحوت، لأن الشيطان الذي أخذه ألقاه في البحر. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بينما سليمان على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه، إذ سقط منه في البحر وكان ملكه في خاتمه. وقال جابر بن عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله. " وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان، فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعا لله تعالى. قال أبن عباس وغيره: ثم إن (1) هذه الأقوال لا تصح قطعا لمنا فاتها للعصمة التى هي من أخص صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولو صح شئ منها لكان الوحى محل الشك والارتياب، وقد قال أبو حيان في تفسيره: نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقا الجسد أقوالا يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهى مما لا يحل نقلها، وهى إما من أوضاع اليهود أو الزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ما هي ولا الجسد الذى ألقاه على كرسى سليمان. إلى أن قال: لم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به، ويستحيل عقلا وجود بعض ما ذكروه، كتمثل الشيطان بصورة نبى، حتى يلنبس أمره عند الناس، ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي. ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبى، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها. وقال الألوسى: ومن أقبح ما فيها زعم تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى وطهن وهن حيض. الله أكبر ! ! هذا بهتان عظيم، وخطب جسيم. وسيأتى للمؤلف تضعيف هذا القول أيضا. (*)
[ 201 ]
سليمان لما رد الله عليه ملكه، أخذ صخرا الذي أخذ خاتمه، ونقر له صخرة وأدخله فيها، وسد عليه بأخرى وأوثقها بالحديد والرصاص، وختم عليها بخاتمه وألقاها في البحر، وقال: هذا محبسك إلى يوم القيامة. وقال علي رضي الله عنه: لما أخذ سليمان الخاتم، أقبلت إليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش والريح، وهرب الشيطان الذي خلف في أهله، فأتى جزيرة في البحر، فبعث إليه الشياطين فقالوا: لا نقدر عليه، ولكنه يرد عينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما، ولا نقدر عليه حتى يسكر ! قال: فنزح سليمان ماءها وجعل فيها خمرا، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: والله إنك لشراب طيب إلا أنك تطيشين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا. ثم عطش عطشا شديدا ثم أتاه فقال مثل مقالته، ثم شربها فغلبت على عقله، فأروه الخاتم فقال: سمعا وطاعة. فأتوا به سليمان فأوثقه وبعث به إلى جبل، فذكروا أنه جبل الدخان فقالوا: إن الدخان الذي ترون من نفسه، والماء الذي يخرج من الجبل من بوله. وقال مجاهد: اسم ذلك الشيطان آصف. وقال السدي اسمه حبقيق، فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق، وهم مع الشيطان في باطل. وقيل: إن الجسد ولد ولد لسليمان، وأنه لما ولد اجتمعت الشياطين، وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ابن لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسخرة، فتعالوا نقتل ولده أو نخبله. فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته إلى السحاب، وغدا ابنه في السحاب خوفا من مضرة الشياطين، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتا. قال معناه الشعبي. فهو الجسد الذي قال الله تعالى: " والقينا على كرسيه جسدا ". وحكى النقاش وغيره: إن أكثر ما وطئ سليمان جواريه طلبا للولد، فولد له نصف إنسان، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه جاءت به القابلة فألقته هناك. وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال سليمان لأطوفن الليلة على
[ 202 ]
تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهد وا في سبيل الله فرسانا أجمعون " وقيل: إن الجسد هو آصف بن برخيا الصديق كاتب سليمان، وذلك أن سليمان لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه، فأعاده إلى يده فسقط فأيقن بالفتنة، فقال له آصف: إنك مفتون ولذلك لا يتماسك في يدك، ففر إلى الله تعالى تائبا من ذلك، وأنا أقوم مقامك في عالمك إلى أن يتوب الله عليك، ولك من حين فتنت أربعة عشر يوما. ففر سليمان هاربا إلى ربه، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وكان عنده علم من الكتاب. وقام آصف في ملك سليمان وعياله، يسير بسيره ويعمل بعمله، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى، ورد الله عليه ملكه، فأقام آصف في مجلسه، وجلس على كرسيه وأخذ الخاتم. وقيل: إن الجسد كان سليمان نفسه، وذلك أنه مرض مرضا شديدا حتى صار جسدا. وقد يوصف به المريض المضنى فيقال: كالجسد الملقى. صفة كرسي سليمان وملكه روي عن ابن عباس قال: كان سليمان يوضع له ستمائة كرسي، ثم يجئ أشراف الناس فيجلسون مما يليه، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتقلهم، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر. وقال وهب وكعب وغيرهما: إن سليمان عليه السلام لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر أن يعمل بديعا مهولا بحيث إذا رأه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب، فأمر أن يعمل من أنياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد، وأن يحف بنخيل الذهب، فحف بأربع نخلات من ذهب، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منهما طاووسان من ذهب، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين من ذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر.
[ 203 ]
وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي. وكان سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما. وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأسه، ثم يستدير الكرسي بما فيه، ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلان برؤوسهما إلى سليمان، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر، ثم تناول حمامة من ذهب قائمة على عمود من أعمدة الجواهر فوق الكرسي التوراة، فيفتحها سليمان عليه السلام ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. قالوا: ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر، وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره وهي ألف كرسي، ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم الناس لفصل القضاء. فإذا تقدمت الشهود للشهادات، دار الكرسي بما فيه وعليه دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق. وقيل: إن الذي كان يدور بذلك الكرسي تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه، وهو عظيم مما عمله له صخرالجني، فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي إلى أعلاه درن معه، فإذا وقفن وقفن كلهن عل رأس سليمان وهو جالس، ثم ينضحن جميعا على رأسه ما في أجوافهن من المسك والعنبر. فلما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي فحمله إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد إليه ولم يكن له علم كيف يصعد إليه، فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا. ومات بختنصر وحمل الكرسي إلى بيت المقدس، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره ولعله رفع.
[ 204 ]
قوله تعالى: " ثم أتاب " أي رجع إلى الله وتاب. وقد تقدم. قوله تعالى: " قال رب اغفر لي " أي أغفر لي ذنبي " وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى " يقال: كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا مع ذمها من الله تعالى، وبغضه لها، وحقارتها لديه ؟. فالجواب أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى وسياسة ملكه، وترتيب منازل خلقه، وإقامة حدوده، والمحافظة على رسومه، وتعظيم شعائره، وظهور عبادته، ولزوم طاعته، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه، وتحقيق الوعود في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته فقال: " إني أعلم ما لا تعلمون " [ البقرة: 30 ] وحوشي سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا، لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح فأهلك من عليها، وأعطى سليمان المملكة. وقد قيل: أن ذلك كان بأمر من الله جل وعز على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه إلا هو وحده دون سائر عباده، أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال: " لا ينبغي لأحد من بعدي " وهذا فيه نظر. والأول أصح. ثم قال له: " هذا عطاؤنا فأمنن أو أمسك بغير حساب " قال الحسن: ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمه غير سليمان بن داود عليه السلام فإنه قال: " هذا عطاؤنا " الآية. قلت: وهذا يرد ما روي في الخبر: إن آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود عليه السلام لمكان ملكه في الدنيا. وفى بعض الأخبار: يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا، ذكره صاحب القوت وهو حديث لا أصل له، لأنه سبحانه إذا كان عطاؤه لا تبعة فيه لأنه من طريق المنة، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولا الجنة، وهو سبحانه يقول: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ". وفي الصحيح: " لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته " الحديث. وقد تقدم فجعل له من قبل السؤال حاجة مقضية، فلذلك لم تكن عليه تبعة. ومعنى قوله: " لا ينبغي لأحد من بعدي " أي أن يسأله. فكأنه سأل منع السؤال بعده، حتى لا يتعلق به أمل أحد، ولم يسأل منع الإجابة. وقيل: إن سؤاله ملكا لا ينبغي
[ 205 ]
لأحد من بعده، ليكون محله وكرامته من الله ظاهرا في خلق السموات والأرض، فإن الأنبياء عليهم السلام لهم تنافس في المحل عنده، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محله عنده، ولهذا لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه، أراد ربطه ثم تذكر قوله أخيه سليمان: " رب أغفر لي وهب لى ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " فرده خاسئا. فلو أعطي أحد بعده مثله ذهبت الخصوصية، فكأنه كره صلى الله عليه وسلم أن يزاحمه في تلك الخصوصية، بعد أن علم أنه شئ هو الذي خص به من سخرة الشياطين، وأنه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده. والله أعلم. قوله تعالى: " فسخرنا له الريح تجرى بامره رخاء " أي لينة مع قوتها وشدتها حتى لا تضر بأحد، وتحمله بعسكره وجنوده وموكبه. وكان موكبه فيما روي فرسخا في فرسخ، مائة درجة بعضها فوق بعض، كل درجة صنف من الناس، وهو في أعلى درجة مع جواريه وحشمه وخدمه، صلوات الله وسلامه عليه. وذكر أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا أحمد بن جعفر، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن وهب بن منبه، قال حدثني أبي قال: كان لسليمان ابن داود عليه السلام ألف بيت أعلاه قوارير وأسفله حديد، فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما ! فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سليمان، قال فنزل حتى أتى الحراث فقال: إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك لخير مما أوتي آل داود. فقال الحراث: أذهب الله همك كما أذهبت همي. قوله تعالى: " حيث أصاب " أي أراد، قاله مجاهد. والعرب تقول: أصاب الصواب وأخطأ الجواب. أي أراد الصواب وأخطأ الجواب، قال ابن الأعرابي. وقال الشاعر: / ش أصاب الكلام فلم يستطع / وفأخطأ الجواب لدى المفصل / ش
[ 206 ]
وقيل: أصاب أراد بلغة حمير. وقال قتادة: هو بلسان هجر. وقيل: " حيث أصاب " حينما قصد، وهو مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود. " والشياطين كل بناء وغواص " أي وسخرنا له الشياطين وما سخرت لأحد قبله. " كل بناء " بدل من الشياطين أي كل بناء منهم، فهم يبنون له ما يشاء. قال: / ش إلا سليمان إذ قال الإله له / وقم في البرية فاحددها عن الفند / ش / ش وخيس الجن إني قد أذنت لهم / ويبنون تدمر بالصفاح والعمد / ش " وغواص " يعني في البحر يستخرجون له الدر. فسليمان أول من استخرج له اللؤلؤ من البحر. " وآخرين مقرنين في الأصفاد " أي وسخرنا له مردة الشياطين حتى قرنهم في سلاسل الحديد وقيود الحديد، قال قتادة. السدي: الأغلال. ابن عباس: في وثاق. ومنه قول الشاعر: / ش فآبوا بالنهاب وبالسبايا / ووأبنا بالملوك مصفدينا / ش قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم. قوله تعالى: " هذا عطاؤنا " الإشارة بهذا إلى الملك، أي هذا الملك عطاؤنا فأعط من شئت أو امنع من شئت لا حساب عليك، عن الحسن والضحاك وغيرهما. قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان عليه السلام، فإن الله تعالى يقول: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ". وقال قتادة: الإشارة في قوله تعالى: " هذا عطاؤنا " إلى ما أعطيه من القوة على الجماع، وكانت له ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية، وكان في ظهره ماء مائة رجل، رواه عكرمة عن ابن عباس. ومعناه في البخاري. وعلى هذا " فامنن " من المني، يقال: أمنى يمني ومنى يمني لغتان، فإذا أمرت من أمنى قلت أمن، ويقال: من منى يمني في الأمر آمن، فإذا جئت بنون الفعل نون الخفيفة قلت امنن. ومن (1) هو النابغة الذ بيانى: ويروى إذ قال المليك له. ويروى فازجرها عن الفند. أي الخطاء. وخيس أي ذلل. والصفاح جمع صفاحة بشد الفاء وهى حجارة رقاق عراض. (2) هو عمرو بين كلثوم والبيت من معلقنه. (3) قال أبو حيان في تفسيره: ولعله لا يصح عن ابن عباس لأنه لم يجر هنا ذكر النساء، ولا ما أوتى من القدرة على ذلك. (*)
[ 207 ]
ذهب به إلى المنة قال: من عليه، فإذا أخرجه مخرج الأمر أبرز النونين، لأنه كان مضاعفا فقال امنن. فيروى في الخبر أنه سخر له الشياطين، فمن شاء من عليه بالعتق والتخلية، ومن شاء أمسكه، قال قتادة والسدي. وعلى ما روى عكرمة عن ابن عباس: أي جامع من شئت من نسائك، واترك جماع من شئت منهن لا حساب عليك. " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " أي إن أنعمنا عليه في الدنيا فله عندنا في الآخرة قربة وحسن مرجع. قوله تعالى: واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطن بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولى الألبب قوله تعالى: " واذكر عبدنا أيوب " أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره. " أيوب " بدل. " إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب " وقرأ عيسى بن عمر " إني " بكسر الهمزة أي قال. قال الفراء: وأجمعت القراء على أن قرءوا " بنصب " بضم النون والتخفيف. النحاس: وهذا غلط وبعده مناقضة وغلط أيضا، لأنه قال: أجمعت القراء على هذا، وحكى بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ: " بنصب " بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر، وإنما قرأ أبو جعفر: " بنصب " بضم النون والصاد، كذا حكاه أبو عبيد وغيره وهو مروي عن الحسن. فأما " بنصب " فقراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي. وقد رويت هذه القراءة عن الحسن وقد حكي " بنصب " بفتح النون وسكون الصاد عن أبي جعفر. وهذا كله عند أكثر النحويين بمعنى النصب فنصب ونصب كحزن وحزن. وقد يجوزأن يكون نصب جمع نصب كو، ثن ووثن. ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة، فأما " وما ذبح على النصب " [ المائدة: 3 ] فقيل: إنه جمع نصاب. وقال أبو عبيدة وغيره: النصب الشر والبلاء. والنصب التعب والإعياء. وقد قيل في معنى: " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " أي ما يلحقه من وسوسته لا غير. والله أعلم. ذكره
[ 208 ]
النحاس. وقيل: إن النصب ما أصابه في بدنه، والعذاب ما أصابه في ماله، وفيه بعد. وقال المفسرون: إن أيوب كان روميا من البثنية وكنيته أبو عبد الله في قوله لا لواقدي، اصطفاه الله بالنبوة، وأتاه جملة عظيمة من الثروة في أنواع الأموال والأولاد. وكان شاكرا لأنعم الله، مواسيا لعباد الله، برا رحيما. ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر. وكان لإبليس موقف من السماء السابعة في يوم من العام، فوقف به إبليس على عادته، فقال الله له أو قيل له عنه: أقدرت من عبدي أيوب على شئ ؟ فقال: يا رب وكيف أقدر منه على شئ، وقد ابتليته بالمال والعافية، فلو ابتليته بالبلاء والفقر ونزعت منه ما أعطيته لحال عن حاله، ولخرج عن طاعتك،. قال الله: قد سلطتك على أهله وماله. فانحط عدو الله فجمع عفاريت الجن فأعلمهم، وقال قائل منهم: أكون إعصارا فيه نار أهلك ماله فكان، فجاء أيوب في صورة قيم ماله فأعلمه بما جرى، فقال: الحمد لله هو أعطاه وهو منعه. ثم جاء قصره بأهله وولده، فاحتمل القصر من نواحيه حتى ألقاه على أهله وولده، ثم جاء إليه وأعلمه فألقى التراب على رأسه، وصعد إبليس إلى السماء فسبقته توبة أيوب. قال: يا رب سلطني على بدنه. قال: قد سلطتك على بدنه إلا على لسانه وقلبه وبصره، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها فصار في جسده ثآليل فحكها بأظفاره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه. وقال عند ذلك: " مسني الشيطان ". ولم يخلص إلى شئ من حشوة البطن، لأنه لا بقاء للنفس إلا بها فهو يأكل ويشرب، فمكث كذلك ثلاث سنين. فلما غلبه أيوب اعترض لامرأته في هيئة أعظم من هيئة بني آدم في القدر والجمال، وقال لها: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله وهم عندي. وعرض لها في بطن الوادي ذلك كله في صورته، أي أظهره لها، فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله. وذكروا كلاما طويلا في " سبب بلائه و " مراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي (1) صحح المحققون أنه من بنى اسرائيل كما جزم به الالوسى وغيره. والبئنيه بالتحريك وكسر النون وياء مشددة قرية بدمشق بينها وبين أذرعات. (2) الزيادة من قصص الانبياء للثعلبي. (3) زيادة يقنضيها السياق. (*)
[ 209 ]
نزل به، وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه، وقيل: استعان به مظلوم فلم ينصره فابتلي بسبب ذلك. وقيل: استضاف يوما الناس فمنع فقيرا الدخول فابتلي بذلك. وقيل: كان أيوب يغزو ملكا وكان له غنم في ولايته، فداهنه لأجلها بترك غزوه فابتلي. وقيل،: كان الناس يتعدون امرأته ويقولون نخشى العدوى وكانوا يستقذرونها، فلهذا قال. " مسني الشيطان ". وامرأته ليا بنت يعقوب. وكان أيوب في زمن يعقوب وكانت أمه ابنة لوط. وقيل: كانت زوجة أيوب رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام. ذكر القولين الطبري رحمه الله. قال ابن العربي: ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوما من العام فقول باطل، لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض، فكيف يرقى إلى محل الرضا، ويجول في مقامات الأنبياء، ويخترق السموات العلى، ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء، فيقف موقف الخليل ؟ ! إن هذا لخطب من الجهالة عظيم. وأما قولهم: إن الله تعالى قال له هل قدرت من عبدي أيوب على شئ فباطل قطعا، لأن الله عز وجل لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس الملعون، فكيف يكلم من تولى إضلالهم ؟ ! وأما قولهم: إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده فذلك ممكن في القدرة، ولكنه بعيد في هذه القصة. وكذلك قولهم: إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه فهو أبعد، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقر له - لعنة الله عليه - عين بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم. وأما قولهم: إنه قال لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لي لعافيته، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض، وأنه يسجد له، وأنه يعافي من البلاء، فكيف أن تستريب زوجة نبي ؟ ! ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها. وأما تصويره الأموال والأهل في واد للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال، ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه. (1) الفدم من الناس القليل الفهم والفطنة. (*)
[ 210 ]
ولو تصور لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن وهي فوقنا في المعرفة بذلك، فإنه لم يخل زمان قط من السحر وحديثه وجريه بين الناس وتصويره. قال القاضي: والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى: " إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " فلما رأوه قد شكا مس الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال. وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها. في إيمانها وكفرها، طاعتها وعصيانها، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه، ولا في خلق شئ غيرها، ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا، وإن كان موجودا منه خلقا، أدبا أدبنا به، وتحميدا علمناه. وكان من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم لربه به قول من جملته: " والخير في يديك والشر ليس إليك " على هذا المعنى. ومنه قول إبراهيم: " وإذا مرضت فهو يشفين " [ الشعراء: 80 ] وقال الفتى للكليم: " وما أنسانيه إلا الشيطان " [ الكهف: 63 ] وأما قولهم: انه استعان به مظلوم فلم ينصره، فمن لنا بصحة هذا القول. ولا يخلو أن يكون قادرا على نصره، فلا يحل لأحد تركه فيلام على أنه عصى وهو منزه عن ذلك،. أو كان عاجزا فلا شئ عليه في ذلك، وكذلك قولهم: إنه منع فقيرا من الدخول، إن كان علم به فهو باطل عليه وإن لم يعلم به فلا شئ عليه فيه. وأما قولهم: إنه داهن على غنمه الملك الكافر فلا تقل داهن ولكن قل دارى. ودفع الكافر والظالم عن النفس أو المال بالمال جائز، نعم وبحسن الكلام. قال ابن العربي القاضي أبو بكر رضى الله عنه: ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين، الأولى قوله تعالى: " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر " [ الأنبياء: 83 ] والثانية في: " ص " " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ". وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: " بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب " الحديث. وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه ؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا
[ 211 ]
وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله، تقرءونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب، فقالوا: " هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " [ البقرة: 79 ] ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسئلتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة. قوله تعالى: " اركض برجلك " الركض الدفع بالرجل. يقال: ركض الدابة وركض ثوبه برجله. وقال المبرد: الركض التحريك، ولهذا قال الأصمعي: يقال ركضت الدابة ولا يقال ركضت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ولا فعل لها في ذلك. وحكى سيبويه: ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر وحزنته فحزن، وفى الكلام إضمار أي قلنا له: " اركض " قال الكسائي. وهذا لما عافاه الله. " هذا مغتسل بارد وشراب " أي فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به، فذهب الداء من ظاهره، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه. وقال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية، فاغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه، وشرب من الاخرى فأذهب الله تعالى باطن دائه. ونحوه عن الحسن ومقاتل، قال مقاتل: نبعت عين حانزة واغتسل فيها فحرج صحيحا ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبا. وقيل: أ مر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء في جسده. والمغتسل الماء الذي يغتسل به، قال القتبي. وقيل: إنه الموضع الذي يغتسل فيه، قال مقاتل. الجوهري: واغتسلت بالماء، والغسول الماء الذي يغتسل به، وكذلك المغتسل، قال الله تعالى: " هذا مغتسل بارد وشراب " والمغتسل أيضا الذي يغتسل فيه، والمغسل والمغسل بكسر السين وفتحها مغسل الموتى والجمع المغاسل. واختلف كم بقي أيوب في البلاء، فقال ابن عباس: سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. وقال وهب بن منبه: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف، في السجن سبع سنين،
[ 212 ]
وعذب بختنصر وحول في السباع سبع سنين. ذكره أبو نعيم. وقيل: عشر سنين. وقيل: ثمان عشرة سنة. رواه أنس مرفوعا فيما ذكر الماوردي: قلت: وذكره ابن المبارك، أخبرنا يونس بن يزيد، عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب، وما أصابه من البلاء، وذكر أن البلاء الذي أصابه كان به ثمان عشرة سنة. وذكر الحديث القشيري. وقيل: أربعين سنة. قوله تعالى: " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم " تقدم في " الانبياء " الكلام فيه. " رحمة منا " أي نعمة منا. " وذكرى لاولى الالباب " أي عبرة لذوى العقول. قوله تعالى: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدنه صابرا نعم العبد إنه أواب فيه سنبع مسائل: الأولى - كان أيوب حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة، وفي سبب ذلك أربعة أقوال: أحدها ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب، فقال أداويه عل أنه إذا برئ قال أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه. قالت: نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. وقال: ويحك ذلك الشيطان. الثاني - ما حكاه سعيد بن المسيب، أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. الثالث - ما حكاه يحيى بن سلام وغيره: أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ، فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة. [ الرابع ] قيل: باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضرب به، (1) حول بمعنى مسخ، راجع قصة دانيال في قصص الأنيباء للثعلبي. (2) راجع ج 11 ص 323 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 213 ]
فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة. وقيل: الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس: إنه إثكال النخل الجامع بشماريخه. الثانيه - تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا. وذلك أن امرأة أيوب أخطأت فحلف ليضربنها مائة، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل، وهذا لا يجوز في الحدود. إنما أمره الله بذلك لئلا يضرب امرأته فوق حد الأدب. وذلك أنه ليس للزوج أن يضرب امرأته فوق حد الأدب، ولهذا قال عليه السلام: " واضربوهن ضربا غير مبرح " على ما تقدم في " النساء " بيانه. الثالثه - واختلف العلماء في هذا الحكم هل هو عام أو خاص بأيوب وحده، فروى عن مجاهد أنه عام للناس. ذكره ابن العربي. وحكي عن القشيري أن ذلك خاص بأيوب. وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي رباح أنه ذهب إلى أن ذلك حكم باق، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة بر. وروي نحوه الشافعي. وروى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المقعد الذي حملت منه الوليدة، وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة. وقال القشيري: وقيل لعطاء هل يعمل بهذا اليوم ؟ فقال: ما أنزل القرآن إلا ليعمل به ويتبع. ابن العربي: وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة. وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك: من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر. قال بعض علمائنا: يريد مالك قوله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " [ المائدة: 48 ] أي إن ذلك منسوخ بشريعتنا. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي أنه جلد الوليد بن عقبة بسوط له طرفان أربعين جلدة. وأنكر مالك هذا وتلا قول الله عز وجل: " فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " [ النور: 2 ] وهذا مذهب أصحاب الرأي. وقد احتج الشافعي لقوله بحديث، وقد تكلم في إسناده، والله أعلم. قلت: الحديث الذي أحتج به الشافعي خرجه أبو داود في سننه قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، قال حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني (1) راجع ج 5 ص 172 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 214 ]
أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة، أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث. قال ابن المنذر: وإذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو بار عند الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس الضرب إلا الضرب الذي يؤلم. الرابعة - قوله تعالى: " ولا تحنث " دليل على أن الاستثناء في اليمين لا يرفع حكمها إذا كان متراخيا. وقد مضى، القول فيه في [ المائدة ] يقال: حنث في يمينه يحنث إذا لم يبر بها. وعند الكوفيين الواو مقحمة أي فاضرب لا تحنث. الخامسة - قال ابن العربي: قوله تعالى: " فاضرب به ولا تحنث " يدل على أحد وجهين: إما أن يكون أنه لم يكن في شرعهم كفارة، وإنما كان البر والحنث. والثاني أن يكون صدر منه نذر لا يمين وإذا كان النذر معينا فلا كفارة فيه عند مالك وأبي حنيفة. وقال الشافعي: في كل نذر كفارة. قلت: قوله إنه لم يكن في شرعهم كفارة ليس بصحيح، فإن أيوب عليه السلام لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة، كما في حديث ابن شهاب، قال له صاحباه: لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه. فقال أيوب صلى الله عليه وسلم: ما أدري ما تقولان، غير أن ربي (1) واجع ج 6 ص 272 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية
[ 215 ]
عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكل يحلف بالله، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلى، فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد يذكره ولا يذكره إلا بحق فنادى ربه " أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " [ الأنبياء: 83 ] وذكر الحديث. فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب، وأن من كفر عن غيره بغير إذنه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة. السادسة - استدل بعض جهال المتزهدة، وطغام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب: " اركض برجلك " على جواز الرقص. قال أبو الفرج الجوزى: وهذا احتجاج بارد، لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرحل لينبع الماء. قال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الارض لينبع الماء إعجازا من الرقص، ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد أنحلها تحكم الهوام دلالة على جواز الرقص في الاسلام، جاز أن يجعل قوله سبحانه لموسى: " اضرب بعصاك الحجر " دلالة على ضرب المحاد باقضبان ! نعوذ باللله من التلاعب بالشرع. وقد احتج بعض قاصريهم بان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى: " أنت منى وأنا منك " فجعل. وقال الجعفر: أشبهت خلقي وخلقي " فجعل. وقال لزيد: " أنت أخونا ومولانا " فجعل. ومنهم من احتج بان الحبشه زفنت والنبى صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم. والجواب - أما العجل فهو نوع من الشى يفعل عند الفرح فاين هو والرقص، وكذلك زفن الحبشة نوع من الشى يفعل عند اللقاء للحرب. السابعة - قوله تعالى: " إنا وجدناه صابرا " أي على البلاء. " نعم العبد إنه أواب " أي تواب رجاع مطيع. وسئل سفيان عن عبدين ابتلى أحدهما فصبر، وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء، لأن الله تعالى أثنى على عبدين، أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا، فقال في وصف أيوب: " نعم العبد إنه أواب " وقال في وصف سليمان: " نعم العبد إنه أواب ". (1) في نسخة الا نحن. (2) كذا في الاصل وفى بعض النسخ " بالمخاد " بالخاة المعجمة. (*)
[ 216 ]
قلت: وقد رد هذا الكلام صاحب القوت وأستدل بقصة أيوب في تفضيل الفقير على الغني وذكر كلاما كثيرا شيد به كلامه، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع من كتاب " منهج العباد ومحجة السالكين والزهاد ". وخفي عليه أن أيوب عليه السلام كان أحد الأغنياء من الأنبياء قبل البلاء وبعده، وإنما ابتلي بذهاب ماله وولده وعظيم الداء في جسده. وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه صبروا على ما به امتحنوا وفتنوا. فأيوب عليه السلام دخل في البلاء على صفة، فخرج منه كما دخل فيه، وما تغير منه حال ولا مقال، فقد اجتمع مع أيوب في المعنى المقصود، وهو عدم التغير الذي يفضل فيه بعض الناس بعضا. وبهذا الاعتبار يكون الغني الشاكر والفقير الصابر سواء. وهو كما قال سفيان. والله أعلم. وفي حديث ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أيوب خرج لما كان يخرج إليه من حاجته فأوحى الله إليه: " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " فاغتسل فأعاد الله لحمه وشعره وبشره على أحسن ما كان ثم شرب فأذهب الله كل ما كان في جوفه من ألم أو ضعف وأنزل الله عليه ثوبين من السماء أبيضين فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر ثم أقبل يمشي إلى منزله وراث على امرأته فأقبلت حتى لقيته وهي لا تعرفه فسلمت عليه وقالت أي يرحمك الله هل رأيت هذا الرجل المبتلى ؟ قال من هو ؟ قالت نبي الله أيوب، أما والله ما رأيت أحدا قط أشبه به منك إذ كان صحيحا. قال فإني أيوب وأخذ ضغثا فضربها به " فزعم ابن شهاب أن ذلك الضغث كان ثماما. ورد الله إليه أهله ومثلهم معهم، فأقبلت سحابة حتى سجلت في أندر قمحه ذهبا حتى أمتلأ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيره وقطانيه فسجلت فيه ورقا حتى امتلأ. (1) الضمير يعود على سليمان عليه السلام. (2) راث: أبطأ. (3) التمام: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالجوص. (4) السحل الانصباب المتواصل. (5) الاندر: الموضع الذى يدرس فيه القمح وغيره. (6) القطانى: الحبوب التى تدخر كالمحص والعدس واللوبيا وما شاكلها. قوله تعالى: واذكر عبدنا ابرهيم واسحق ويعقوب اولى الايدى والابصر إنا أخلصنهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار
[ 217 ]
قوله تعالى: " واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب " وقرأ ابن عباس: " عبدنا " بإسناد صحيح، رواه ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عنه، وهي قراءة مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير، فعلى هذه القراءة يكون " إبراهيم " بدلا من " عبدنا " و " إسحاق ويعقوب " عطف. والقراءة بالجمع أبين، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ويكون " إبراهيم " وما بعده على البدل. النحاس: وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت: رأيت أصحابنا زيدا وعمرا وخالدا، فزيد وعمرو وخالد بدل وهم الأصحاب، وإذا قلت رأيت صاحبنا زيدا وعمرا وخالدا فزيد وحده بدل وهو صاحبنا، وزيد وعمرو عطف على صاحبنا وليسا بداخلين في المصاحبة إلا بدليل غير هذا، غير أنه قد علم أن قوله: " وإسحاق ويعقوب " داخل في العبودية. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الذبيح إسحاق لا إسماعيل، وهو الصحيح على ما ذكرناه في كتاب " الإعلام بمولد النبي عليه السلام ". " أولى الايدى والابصار " قال النحاس: أما " الأبصار " فمتفق على تأويلها أنها البصائر في الدين والعلم. وأما " الأيدي " فمختلف في تأويلها، فأهل التفسير يقولون: إنها القوة في الدين. وقوم يقولون: " الأيدي " جمع يد وهي النعمة، أي هم أصحاب النعم، أي الذين أنعم الله عز وجل عليهم. وقيل: هم أصحاب النعم والإحسان، لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا. وهذا أختيار الطبري. " وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار " أي الذين الصطفاهم من الادناس واختارهم لرسالته. ومصطفين جمع مصطفى والاصل مصتفى وقد مضى في " البقرة " عند قوله: " إن الله أصطفى لكم الدين " " والاخيار " جمع خير. وقرأ الاعمش وعبد لوارث والحسن (1) راجع ج 2 ص 133 في تفسير قوله تعالى 6 " ولقد اصطفيناه في الدنيا " فقيه الكلام على اشتقاق الفظ وليس في الاية المذكورة. (*)
[ 218 ]
وعيسى الثقفى " أولى الايد " بغير ياء في الوصل والوقف على معنى أولى القوة في طاعة الله. ويجوز أن يكون كمعنى قراءة الجماعة وحذفت الياء تخفيفا. قوله تعالى: " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " قراءة العامة " بخالصة " منونة وهى اختيار ابى عبيد وأبى حاتم. وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر " بخالصة ذكرى الدار " بالاضافة فمن نون خالصة ف " ذكرى الدار " بدل منها، التقدير إنا أخلصناهم بأن يذكروا الدار الآخرة ويتأهبوا لها، ويرغبوا فيها ويرغبوا الناس فيها. ويجوز أن يكون " خالصة " مصدرا لخلص و " ذكرى " في موضع رفع بأنها فاعلة، والمعنى أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار، أي تذكير الدار الآخرة. ويجوز أن يكون " خالصة " مصدرا لأخلصت فحذفت الزيادة، فيكون " ذكرى " على هذا في موضع نصب، التقدير: بأن أخلصوا ذكرى الدار. والدار يجوز أن يراد بها الدنيا، أي ليتذكروا الدنيا ويزهدوا فيها، ولتخلص لهم بالثناء الحسن عليهم، كما قال تعالى: " وجعلنا لهم لسان صدق عليا " [ مر يم: 50 ] ويجوز أن يراد بها الدار الآخرة وتذكير الخلق بها. ومن أضاف خالصة إلى الدار فهي مصدر بمعنى الإخلاص، والذكرى مفعول به أضيف إليه المصدر، أي بإخلاصهم ذكرى الدار. ويجوز أن يكون المصدر مضافا إلى الفاعل والخالصة مصدر بمعنى الخلوص، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار، و. هي الدار الآخرة أو الدنيا على ما تقدم. وقال ابن زيد: معنى أخلصناهم أي بذكر الآخرة، أي يذكرون الآخرة ويرغبون فيها ويزهدون في الدنيا. وقال مجاهد: المعنى إنا أخلصناهم بأن ذكرنا الجنة لهم. قوله تعالى: واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر وإن للمتقين لحسن ماب جنت عدن مفتحة لهم الأبوب متكين فيها يدعون فيها بفكهة كثيرة وشراب وعندهم قصرت الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ماله من نفاد
[ 219 ]
قوله تعالى: " واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل " مضى ذكر اليسع في " الأنعام " وذكر ذى الكفل في " النبياء. " " وكل من الأخيار " أي ممن اختير للنبوة. " هذا ذكر " بمعنى هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به في الدنيا أبدا. " وإن للمتقين لحسن مآب " أي لهم مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة. ثم بين ذلك بقوله تعالى: " جنات عدن " والعدن في اللغة الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام. وقال عبد الله ابن عمر: إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. " مفتحة " حال " لهم الأبواب " رفعت الأبواب لأنه اسم ما لم يسم فاعله. قال الزجاج: أي مفتحة لهم الأبواب منها. وقال الفراء: مفتحة لهم أبوابها. وأجاز الفراء: " مفتحة لهم الأبواب " بالنصب. قال الفراء: أي مفتحة الأبواب ثم جئت بالتنوين فنصبت. وأنشد هو وسيبويه: / ش ونأخذ بعده بذناب عيش / وأجب الظهر ليس له سنام / ش وإنما قال: " مفتحة " ولم يقل مفتوحة، لأنها تفتح لهم بالأمر لا بالمس. قال الحسن: تكلم: انفتحي فتنفح انغلقي فتنغلق. وقيل: تفتح لهم الملائكة الأبواب. قوله تعالى: " متكين فيها " هو حال قدمت على العامل فيها وهو قوله: " يدعون فيها " أي يدعون في الجنات متكئين فيها. " بفا كهة كثيرة " أي بألوان الفواكه " وشراب " أي وشراب كثير فحذف لدلالة الكلام عليه. قوله تعالى: " وعندهم قاصرات الطرف " أي على أزاواجهن لا ينظرن إلى غيرهم وقد مضى في " الصافات. " " أتراب " أي على سن واحد، وميلاد امرأة واحدة، وقد (1) راجع ج 7 ص 33 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 11 ص 327 طبعة أولى أو ثانية. (3) تفدمت هذه الرواية في ج 9 ص 311 بهذا اللفظ وهى توافق ما في تفسير الطبري وغيره عن عبد الله بن عمرو، ولفظ الأصل هنا " جنة عدن قصر في الجنة " الخ. (4) الحبرة " بكسر الحاء المهملة وفتحها " ضرب من البرود اليمنية مخطط. (5) البيت للنابغة والشاهد فيه نصب الظهر بأجب على نية التنوين، وقد وصف مرض النعمان بن المنذر وأنه إن هلك صار الناس في أسوإ حال وأضيق عيش، وتمسكوا منه بمثل ذنب بعير أجب وهو الذى لا سنام له من الهزال. (6) راجع ص 80 من هذا الجزه. (*)
[ 220 ]
تساوين في الحسن والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة. قال ابن عباس: يريد الآدميات. و " أتراب " جمع ترب وهو نعت لقاصرات، لأن " قاصرات " نكرة وإن كان مضافا إلى المعرفة. والدليل على ذلك أن الألف واللام يدخلانه كما قال: من القاصرات الطرف لودب محول / ومن الذر فوق الإتب منها لأثرا / ش قوله تعالى: " هذا ما توعدون ليوم الحساب " أي هذا الجزاء الذي وعدتم به. وقراءة العامة بالتاء أي ما توعدون أيها المؤمنون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب بالياء على الخبر، وهي قراءة السلمي واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: " وإن للمتقين لحسن مآب " فهو خبر. " ليوم الحساب " أي في يوم الحساب، قال الأعشى: / ش المهينين ما لهم لزمان / والسوء حتى إذا أفاق أفاقوا / ش أي في زمان السوء. قوله تعالى: " إن هذا لرزقنا ماله من نفاد " دليل على أن نعيم الجنة دائم لا ينقطع، كما قال: " عطاء غير مجذوذ " [ هود: 108 ] وقال: " لهم أجر غير " ممنون. " [ التين: 6 ]. قوله تعالى: هذا وإن للطاغين لشر ماب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وءاخر من شكله أزوج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قد متموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار قوله تعالى: " هذا وإن للطاغين لشر مآب " لما ذكر ما للمتقين ذكر ما للطاغين. قال الزجاج: " هذا " خبر ابتداء محذوف أي الأمر هذا فيوقف على " هذا " قال ابن الأنباري: " هذا " وقف حسن. ثم تبتدئ " وإن للطاغين " وهم الذين كذبوا الرسل. * (هامش) (1) قائله امرؤ القيس. المحول: الصغير. والإتب: درع المرأة. وبرده تشق فتلبس من غير كمين ولا جبب. (*)
[ 221 ]
" لشر مآب " أي منقلب يصيرون إليه. ثم بين ذلك بقوله: " جهنم يصلونها فبئس المهاد " أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، أو بئس الفراش لهم. ومنه مهد الصبي. وقيل: فيه حذف أي بئس موضع المهاد. وقيل: أي هذا الذي وصفت لهؤلاء المتقين، ثم قال: وإن للطاغين لشر مرجع فيوقف على " هذا " أيضا. قوله تعالى: " هذا فليذوقوه حميم وغساق " " هذا " في موضع رفع بالابتداء وخبره " حميم " على التقديم والتأخير، أي هذا حميم وغساق فليذوقوه. ولا يوقف على " فليذوقوه " ويجوز أن يكون " هذا " في موضع رفع بالابتداء و " فليذوقوه " في موضع الخبر، ودخلت الفاء للتنبيه الذي في " هذا " فيوقف على " فليذوقوه " ويرتفع " حميم " على تقدير هذا حميم. قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وحميم وغساق إذا لم تجعلهما خبرا فرفعهما على معنى هو حميم وغساق. والفراء يرفعهما بمعنى منه حميم ومنه غساق وأنشد: / ش حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس / ووغودر البقل ملوى ومحصود / ش وقال آخر: / ش لها متاع وأعوان غدون به / وقتب وغرب إذا ما أفرغ أنسحقا / ش ويجوز أن يكون " هذا " في موضع نصب بإضمار فعل يفسره " فليذوقوه " كما تقول زيدا اضربه. والنصب في هذا أولى فيوقف على " فليذوقوه " وتبتدئ " حميم وغساق " على تقدير الأمر حميم وغساق. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين في " وغساق ". وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي " وغساق " بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد في قول الأخفش. وقيل: معناهما مختلف، فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل نقل إلى فعال للمبالغة، نحو ضراب وقتال وهو فعال من غسق يغسق فهو غساق وغاسق. قال ابن عباس: هو الزمهرير يخوفهم (1) رواه السمين: أضاء البرق. (2) قائله زهير بن أبى سلمى يصف الناقة. الى يستقى عليها. وقتب وغرب للمتاع. والقتب أداة السانية، الغرب الدلو العظيمة. وانسحقا أي مضى وبعد سيلانه. (*)
[ 222 ]
ببرده. وقال مجاهد ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده. وقال غيرهما. إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره. وقال عبد الله بن عمرو: هو قيح غليظ لو وقع منه شئ بالمشرق لأنتن من في المغرب، ولو وقع منه شئ في المغرب لأنتن من في المشرق. وقال قتادة: هو ما يسيل من فروج الزناة ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح والنتن. وقال محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار. وهذا القول أشبه باللغة، يقال: غسق الجرح يغسق غسقا إذا خرج منه ماء أصفر، قال الشاعر: / ش إذا ما تذكرت الحياة وطيبها / وإلي جرى دمع من الليل غاسق / ش أي بارد. ويقال: ليل غاسق، لأنه أبرد من النهار. وقال السدي: الغساق الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم. وقال ابن زيد: الحميم دموع أعينهم، يجمع في حياض النار فيسقونه، والصديد الذي يخرج من جلودهم. والاختيار على هذا " وغساق " حتى يكون مثل سيال. وقال كعب: الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي حمة من عقرب وحية. وقيل: هو مأخوذ من الظلمة والسواد. والغسق أول ظلمة اليل، وقد غسق الليل يغسق إذا أظلم. وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا. قلت: وهذا أشبه على الاشتقاق الأول كما بينا، إلا أنه يحتمل أن يكون الغساق مع سيلانه أسود مظلما فيصح الاشتقاقان. والله أعلم. قوله تعالى: " وآخر من شكله أزواج " قرأ أبو عمرو: " وأخر " جمع أخرى مثل الكبرى والكبر. الباقون: " وآخر " مفرد مذكر. وأنكر أبو عمرو " وآخر " لقوله تعالى: " أزواج " أي لا يخبر بواحد عن جماعة. وأنكر عاصم الجحدري " وأخر " قال: ولو كانت " وأخر " لكان من شكلها. وكلا الردين لا يلزم والقراءتان صحيحتان. " وآخر " أي وعذاب آخر سوى الحميم والغساق. " من شكله " قال قتادة: من نحوه. قال ابن مسعود: هو (1) عله من العين. (*)
[ 223 ]
لا لزمهرير. وارتفع " وآخر " بالابتداء و " أزواج " مبتدأ ثان و " من شكله " خبره والجملة خبر " آخر ". ويجوز أن يكون " وآخر " مبتدأ والخبر مضمر دل عليه " هذا فليذوقوه حميم وغساق " لأن فيه دليلا على أنه لهم، فكأنه قال: ولهم آخر ويكون " من شكله أزواج " صفة لآخر فالمبتدأ متخصص بالصفة و " أزواج " مرفوع بالظرف. ومن قرأ " وأخر " أراد وأنواع من العذاب أخر، ومن جمع وهو يريد الزمهرير فعلى أنه جعل الزمهرير أجناسا فجمع لاختلاف الأجناس. أو على أنه جعل لكل جزء منه زمهريرا ثم جمع كما قالوا: شابت مفارقه. أو على أنه جمع لما في الكلام من الدلالة على جواز الجمع، لأنه جعل الزمهرير الذي هو نهاية البرد بإزاء الجمع في قول: " هذا فليذوقوه حميم وغساق " والضمير في " شكله " يجوز أن يعود على الحميم أو الغساق. أو على معنى " وآخر من شكله " ما ذكرنا، ورفع " أخر " على قراءة الجمع بالابتداء و " من شكله " صفة له وفيه ذكر يعود على المبتدإ و " أزواج " خبر المبتدإ. ولا يجوز أن يحمل على تقدير ولهم أخر و " من شكله " صفة لأخر و " أزواج " مرتفعة بالظرف كما جاز في الإفراد، لأن الصفة لا ضمير فيها من حيث ارتفع " أزواج " مفرد،، قاله أبو علي. و " أزواج " أي أصناف وألوان من العذاب. وقال يعقوب: الشكل بالفتح المثل وبالكسر الدل. قوله تعالى: " هذا فوج مقتحم معكم " قال ابن عباس: هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: " هذا فوج " يعني الأتباع والفوج الجماعة " مقتحم معكم " أي داخل النار معكم، فقالت السادة: " لا مرحبا بهم " أي لا اتسعت منازلهم في النار. والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد وغيره. وهو في مذهب الدعاء فلذلك نصب، قال النابغة: / ش لا مرحبا بغد ولا أهلا به / وإن كان تفريق الأحبة في غد / ش (1) يقال امرأة ذات شكل (با لكسر) أي ذات دلال، وهو حسن الحديث وحسن المزح والهيئة. (*)
[ 224 ]
قال أبو عبيدة العرب تقول: لا مرحبا بك، أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت. ! إنهم صالوا النار " قيل: هو من قول القادة، أي إنهم صالو النار كما صليناها. وقيل: هو من قول الملائكة متصل بقولهم: " هذا فوج مقتحم معكم " و " قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم " هو من قول الأتباع وحكى النقاش: إن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر، والفوج الثاني أتباعهم ببدر والظاهر من الآية أنها عامة في كل تابع ومتبوع. " أنتم قد متموه لنا " أي دعوتمونا إلى العصيان " فبئس القرار " لنا ولكم " قالوا " يعني الأتباع " ربنا من قدم لنا هذا " قال الفراء: من سوغ لنا هذا وسنه وقال غيره من قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى المعاصي " فزده عذابا ضعفا في النار " وعذابا بدعائه إيانا فصار ذلك ضعفا. وقال ابن مسعود: معنى عذابا ضعفا في النار الحيات والأفاعي. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار " [ الأعرا ف: 38 ]. قوله تعالى: وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كما نعدهم من الاشرار أتخذنهم سخريا أن زاغت عنهم الابصر إن ذلك لحق لحق تخاصم أهل النار قوله تعالى: " وقالوا " يعني أكابر المشركين " ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار " قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول أبو جهل: أين بلال أين صهيب أين عمار أولئك في الفردوس واعجبا لأبي جهل مسكين، أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو، قال: / ش ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا / ووموضع رجلي منه أسود مظلم / ش " أتخدناهم سخريا " قال مجاهد: أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا " أم زاغت عنهم الابصار " فلم نعلم مكانهم. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا، اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم. وقيل: معنى " أم زاغت عنهم الأبصار " أي أهم معنا في النار فلا
[ 225 ]
نراهم. وكان ابن كثير والأعمش وأبو عمر وحمزة والكسائي يقرءون " من الأشرار اتخذناهم " بحذف الألف في الوصل. وكان أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر يقرءون " أتخذناهم " بقطع الألف على الاستفهام وسقطت ألف الوصل، لأنه قد أستغنى عنها، فمن قرأ بحذف الألف لم يقف على " الأشرار " لأن " أتخذناهم " حال. وقال النحاس والسجستاني: هو نعت لرجال. قال ابن الأنباري: وهذا خطأ، لأن النعت لا يكون ماضيا ولا مستقبلا. ومن قرأ: " أتخذناهم " بقطع الألف وقف على " الأشرار " قال الفراء: والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب. " أم زاغت عنهم الأبصار " إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية، وإذا قرأت بغير الاستفهام فهي بمعنى بل. وقرأ أبو جعفر ونافع شيبة والمفضل وهبيرة ويحيى والاعمش وحمزة والكسائي " سخريا " بضم السين. الباقون بالكسر. قال أبو عبيدة: من كسر جعله من الهزء ومن ضم جعله من التسخير. وقد تقدم " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " " الحق " خبر إن و " تخاصم " خبر مبتدإ محذوف بمعنى هو تخاصم. ويجوز أن يكون بدلا من حق. ويجوز أن يكون خبر ابعد خبر. ويجوز أن يكون بدلا من ذلك على الموضع. أي إن تخاصم أهل النار في النار لحق. يعني قولهم: " لا مرحبا بكم " الآية وشبهه من قول أهل النار. قوله تعالى: قل إنما أنا منذر وما من اله الا الله الواحد القهار رب السوت والارض وما بينهما العزيز الغفر قل هو نبؤا عظيم أننتم عنه معرضون ما كان لى من علم بالملاء الاعلى إذ يختصمون إن يوحى الى الا انما انا نذير مبين قوله تعالى: " قل إنما أنا منذر " أي مخوف عقاب الله لمن عصاه وقد تقدم. " وما من اله " أي معبود " الا الله الواحد القهار " الذي لا شريك له " رب السوات
[ 226 ]
والأرض وما بينهما العزيز الغفار " بالرفع على النعت وإن نصبت الأول نصبته. ويجوز رفع الأول ونصب ما بعده على المدح. " والعزيز " معناه المنيع الذي لا مثل له. " الغفار " لالستار لذنوب خلقه. قوله تعالى: " قل هو نبأ عظيم " أي وقل لهم يا محمد " هو نبأ عظيم " أي ما أنذركم به من الحساب والثواب والعقاب خبر عظيم القدر فلا ينبغي أن يستخف به. قال معناه قتادة. نظيره قوله تعالى: " عم يتساءلون عن النبإ العظيم " [ النبأ: 1 - 2 ]. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يعني القرآن الذي أنبأكم به خبر جليل. وقيل: عظيم المنفعة " أنتم عنه معرضون ". قوله تعالى: " ما كان لى من علم بالملاء الاعلى إذ يختصمون " الملأ الأعلى هم الملائكة في قول ابن عباس والسدي اختصموا في أمر آدم حين خلق ف " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " [ البقرة: 30 ] وقال إبليس: " أنا خير منه " [ الأعراف: 12 ] وفي هذا بيان أن محمدا صلى الله عله وسلم أخبر عن قصة آدم وغيره، وذلك لا يتصور إلا بتأييد إلهي، فقد قامت المعجزة على صدقه، فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه، ولهذا وصل قوله بقوله: " قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ". وقول ثان رواه أبو الأشهب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سألني ربي فقال يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت المشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات والتعقيب في المساجد بانتظار الصلاة بعد الصلاة قال وما الدرجات قلت إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام " خرجه الترمذي بمعناه عن ابن عباس، وقال فيه حديث غريب. وعن معاذ بن جبل أيضا وقال حديث حسن صحيح. وقد كتبناه بكماله في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، وأوضحنا إشكاله والحمد لله. وقد مضى في " يس " القول في المشي إلى المساجد، وأن الخطا تكفر السيئات، وترفع الدرجات. وقيل: الملأ الأعلى الملائكة والضمير في " يختصمون " لفرقتين. يعني قول من قال منهم الملائكة بنات الله، (1) السبرات جمع سبرة بسكون الباء وهى شدة البرد. (2) راجع ص 12 وما بعدها من هذا الجزء. (*)
[ 227 ]
ش ومن قال آلهة تعبد. وقيل: الملأ الأعلى هاهنا قريش، يعني اختصامهم فيما بينهم سرا، فأطلع الله نبيه على ذلك. " إن يوحى نالى الا أنما أنا نذير مبين " أي إن يوحى إلي إلا الإنذار. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " إلا إنما " بكسر الهمزة، لأن الوحي قول، كأنه قال: يقال لي إنما أنت نذير مبين، ومن فتحها جعلها في موضع رفع، لأنها اسم ما لم يسم فاعله. قال الفراء: كأنك قلت ما يوحى إلي إلا الإنذار، النحاس: ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى إلا لأنما. والله أعلم. قوله تعالى: إذ قال ربك للملئكة انى خلق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له سجدين فسجد الملئكة كلهم أجمعون إلا ابليس استكبر وكان من الكفرين قوله تعالى: " إذ قال ربك للملائكة " " إذ " من صلة " يختصمون " المعنى، ما كان لي من علم بالملأ الأعلى حين يختصمون حين " قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ". وقيل: " إذ قال " بدل من " إذ يختصمون " و " يختصمون " يتعلق بمحذوف، لأن المعنى ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. " فإذا سويته " " إذا " ترد الماضي إلى المستقبل، لأنها تشبه حروف الشرط وجوابها كجوابه، أي خلقته. " ونفخت فيه من روحي " أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري. فهذا معنى الإضافة، وقد مضى هذا المعنى مجودا في " النساء " في قوله في عيسى " وروح منه " [ النساء: 171 ]. " فقعوا له ساجدين " نصب على الحال. وهذا سجود تحية لا سجود عبادة. وقد مضى في " البقرة ". " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " أي امتثلوا الأمر وسجدوا له خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه " إلا إبليس " أنف من السجود له جهلا بأن السجود له طاعة لله، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى. وقد مضى الكلام في، هذا في " البقرة " مستوفى. (1) زيادة يقتضيها المقام وذكرها أبو حيان في تفسيره. (2) راجع ج 6 ص 22 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 1 ص 293 طبعة ثانيه أو ثالثه. (4) راجع ج 1 ص 296 وما بعدها طبعة ثانيه أو ثالثه. (*)
[ 228 ]
قوله تعالى: قال يابليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى استكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قالف فاخرج منها فانك رجيم وإن عليك لعنتنى الى يوم الدين قال رب فانظرني الى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قوله تعالى: " قال يا إبليس ما منعك " أي صرفك وصدك " أن تسجد " أي عن أن تسجد " لما خلقت بيدى " أضاف خلقه إلى نفسه تكريما له، وإن كان خالق كل شي وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد. فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئا بيده إلا على سبيل الإعظام والتكرم، فذكر اليد هنا بمعنى هذا. قال مجاهد: اليد ها هنا بمعنى التأكيد والصلة، مجازه لما خلقت أنا كقوله: " ويبقى وجه ربك " [ الرحمن: 27 ] أي يبقى ربك. وقيل: التشبيه في اليد في خلق الله تعالى دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، وإنما هما صفتان من صفات ذاته تعالى. وقيل: أراد باليد القدرة، يقال: مالي بهذا الأمر يد. وما لي بالحمل الثقيل يدان. ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلا بالقدرة بالإجماع. وقال الشاعر: / ش تحملت من عفراء ما ليس لي به / وولا للجبال الراسيات يدان / ش وقيل: " لما خلقت بيدي " لما خلقت بغير واسطة. " أستكبرت " أي عن السجود " أم كنت من العالمين " أي المتكبرين على ربك. وقرأ محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير وأهل مكة " بيدي استكبرت " موصولة الألف على الخبر وتكون أم منقطعة بمعنى بل مثل: " أم يقولون (1) في الاصول ذلفاء وهو تحزيف. والبيت لعروة بن حزام. (*)
[ 229 ]
افتراه " [ السجدة: 3 ] وشبهه. ومن استفهم فام معادلة لهمزة الاستفهام وهو تقرير وتوبيخ. أي استكبرت بنفسك حين أبيت السجود لآدم، أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت لهذا. قوله تعالى: " قال أنا خير منه " قال الفراء: من العرب من يقول أنا أخير منه وأشر منه، وهذا هو الأصل إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال. " خلقتني من نار وخلقته من طين " فضل النار على الطين وهذا جهل منه، لأن الجواهر متجانسة فقاس فأخطأ القياس. وقد مضى في " الأعراف " بيانه. " قال فاخرج منها " يعني من الجنة " فانك رجيم " أي مرجوم بالكواكب والشهب " وإن عليك لعنتي " أي طردي وإبعادي من رحمتي " الى يوم الدين " تعريف بإصراره على الكفر لأن اللعن منقطع حينئذ، ثم بدخوله النار يظهر تحقيق اللعن " قال رب فانظرني الى يوم يبعثون " أراد الملعون ألا يموت فلم يجب إلى ذلك، وأخر إلى وقت معلوم، وهو يوم يموت الخلق فيه، فاخر إليه تهاونا به. " قال فبعزتك لا غوينهم أجمعين " لما طرده بسبب آدم حلف بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات وإدخال الشبهة عليهم، فمعنى: " لأغوينهم " لأستدعينهم إلى المعاصي وقد علم أنه لا يصل إلا إلى الوسوسة، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه، ولهذا قال: " إلا عبادك منهم المخلصين " أي الذي أخلصتهم لعبادتك، وعصمتهم مني. وقد مضى في " الحجر " بيانه. قوله تعالى: قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما اسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو الا ذكر للعلمين ولتعلمن نباه بعد حين قوله تعالى: " قال فالحق والحق أقول " هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي. وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة برفع الأول. وأجاز الفراء فيه (1) راجع ج 7 ص 171 طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 10 ص 28 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 230 ]
الخفض. ولا اختلاف في الثاني في أنه منصوب ب " أقول " ونصب الأول على الإغراء أي فاتبعوا الحق واستمعوا الحق، والثاني بإيقاع القول عليه. وقيل: هو بمعنى أحق الحق أي أفعله. قال أبو علي: الحق الأول منصوب بفعل مضمر أي يحق الله الحق، أو على القسم وحذف حرف الجر، كما تقول: الله لأفعلن، ومجازه: قال فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه. " والحق أقول " جملة اعترضت بين القسم والمقسم عليه، وهو توكيد القصة، وإذا جعل الحق منصوبا بإضمار فعل كان " لأملأن " على إرادة القسم. وقد أجاز الفراء وأبو عبيدة أن يكون الحق منصوبا بمعنى حقا " لأملأن جهنم " وذلك عند جماعة من النحويين خطأ، لا يجوز زيدا لأضربن، لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها فلا يعمل فيه. والتقدير على قولهما لأملأن جهنم حقا. ومن رفع " الحق " رفعه بالابتداء، أي فأنا الحق أو الحق مني. رويا جميعا عن مجاهد. ويجوز أن يكون التقدير هذا الحق. وقول ثالث على مذهب سيبويه والفراء أن معنى فالحق لأملأن جهنم بمعنى فالحق أن أملأ جهنم. وفي الخفض قولان وهي قراءة ابن السميقع وطلحة بن مصرف: أحدهما أنه على حذف حرف القسم. هذا قول الفراء قال كما يقول: الله عز وجل لأفعلن. وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلطه فيه أبو العباس ولم يجز الخفض، لأن حروف الخفض لا تضمر، والقول الآخر أن تكون الفاء بدلا من واو القسم، كما أنشدوا: / ش فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع / ش " لاملان جهنم منك " أي من نفسك وذريتك " وممن تبعك " من بني آدم " أجمعين ". قوله تعالى: " قل ما اسئلكم عليه من أجر " أي من جعل على تبليغ الوحي وكنى به عن غير مذكور. وقيل هو راجع إلى قوله: " أءنزل عليه الذكر من بيننا " [ ص: 8 ]. " وما أنا من المتكلمين " أي لا أتكلف ولا أتخرص ما لم أومر به. وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: (1) البيت لامرى القيس من معلقته وتمامه: / ش فألهيتها عن ذى تمائم محول / ش (*)
[ 231 ]
من سئل عما لم يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلف، فإن قوله لا أعلم علم، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ". وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للمتكلف ثلاث علامات ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم ". وروى الدارقطني من حديث نافع عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له، فقال له عمر: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور ". وفي الموطإ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا، فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. وقد مضى القول في المياه في سورة " الفرقان ". " إن هو الا ذكر " يعني القرآن " للعالمين " من الجن والإنس. " ولتعلمن نبأه بعد حين " أي نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق " بعد حين " قال قتادة: بعد الموت. وقال الزجاج. وقال ابن عباس وعكرمة وابن زيد: يعني يوم القيامة. وقال الفراء: بعد الموت وقبله. أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول: " بعد حين " أي في المستأنف أي إذا أخذتكم سيوف المسلمين. قال السدي: وذلك يوم بدر. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين. وسئل عكرمة عمن حلف ليصنعن كذا إلى حين. قال: إن من الحين ما لا تدركه كقوله تعالى: " ولتعلمن نبأه بعد حين " ومنه ما تدركه، كقوله تعالى: " تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " [ إبراهيم: 25 ] من صرام النخل إلى طلوعه ستة أشهر. وقد مضى القول في هذا في " البقرة " و " إبراهيم " والحمد لله. (1) المقراة الحوض الذى يحتمع فيه الماء. النهاية لابن الاثير. (2) راجع ج 13 ص 45 طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 1 ص 321 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (4) راجع ج 9 ص 360 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 232 ]
سورة الزمر يقال سورة الغرف. قال وهب بن منبه: من أحب أن يعرف قضاء الله عز وجل في خلفه لفليقرأ سورة الغرف. وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وقال ابن عباس: إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما " الله نزل أحسن الحديث " [ الزمر: 23 ] والأخرى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " [ الزمر: 53 ] الآية. وقال آخرون: إلا سبع آيات من قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " [ الزمر: 53 ] إلى آخر سبع آيات نزلت في وحشي وأصحابه على ما يأتي. روى الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وهي خمس وسبعون آية. وقيل: اثنتان وسبعون آية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى اللله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحنه هو الله الواحد القهار قوله تعالى: " تنزيل الكتاب " رفع بالابتداء وخبره " من الله العزيز الحكيم ". ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل، قال الفراء. وأجاز الكسائي والفراء أيضا " تنزيل " بالنصب على أنه مفعول به. قال الكسائي: أي اتبعوا واقرءوا " تنزيل الكتاب ". وقال الفراء: هو على الإغراء مثل قوله: " كتاب الله عليكم " [ النساء: 24 ] أي الزموا. والكتاب القرآن. سمي بذلك لأنه مكتوب.
[ 233 ]
قوله تعالى: " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق " أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق، أي بالصدق وليس بباطل وهزل. " فاعبد الله مخلصا " " مخلصا " فيه مسئلتان: الاولى - " مخلصا " نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا " له الدين " أي الطاعة. وقيل: العبادة وهو مفعول به. " ألا لله الدين الخالص " أي الذى لا يشو به شئ. وفي حديث الحسن عن أبى هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إنى أتصدق بالشئ. وأصنع الشئ أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذى نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا لله الدين الخالص " وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " و " النساء " و " الكهف " مستوفى. الثانية - قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان أن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية. قوله تعالى: " والذين اتخذوا من دونه أولياء " يعنى الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم ؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام ؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف " فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة " [ الأحقاف: 28 ] والزلفى القربة، أي ليقربونا إليه تقريبا، فوضع " زلفى " في موضع المصدر. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد " والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله (1) راجع ج 3 ص 307 طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 5 س 425 طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 11 ص 69 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 234 ]
زلفى " وفي حرف أبي " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله زلفى " ذكره النحاس. قال: والحكاية في هذا بينة. " إن الله يحكم بينهم " أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق. " إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار " أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد، أي للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام، كما قال الله تعالى: " ورضيت لكم الإسلام دينا " وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم. قوله تعاى: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء " أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. " سبحانه " أي تنزيها له عن الولد " هو الله الواحد القهار ". قوله تعالى: خلق السموت والارض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفر خلقكم من نفس وحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانعم ثمنية ازوج يخلقكم في بطون امهتكم خلقا من بعد خلق في ظلمت ثلث ذلكم الله ربكم له الملك لا اله الا هو فانى تصرفون قوله تعالى: " خلق السموات والارض بالحق " أي هو القادر على الكمال المستغني عن الصاحبة والولد، ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به. ونبه بهذا على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل. قوله تعالى: " يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل " قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشئ بعضه على بعض، يقال كور المتاع أي ألقى بعضه على بعض، (1) تقدم في غير موضع ج 1 ص 149 طبعة ثانيه أو ثالثه وج 9 ص 340 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 235 ]
ومنه كور العمامة. وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية. قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل وهو معنى قوله تعالى: " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " [ فاطر: 13 ] وقيل: تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه، ويغشى النهار على الليل فيذهب ظلمته، وهذا قول قتادة. وهو معنى قوله تعالى: " يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " [ الأعراف: 5 4 ]. " وسخر الشمس والقمر " أي بالطلوع والغروب لمنافع العباد. " كل يجزى لاجل مسمى " أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب. وقيل: الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهى فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها. قال الكلبي: يسيران إلى أقصى منازلهما، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه. وقد تقدم بيان هذا في سورة " يس ". " ألا هو العزيز الغفار " " ألا " تنبيه أي تنبهوا فإني أنا " العزيز " الغالب " الغفار " الساتر لذنوب خلقه برحمته. " قوله تعالى: " خلقكم من نفس واحدة " يعني آدم عليه السلام " ثم جعل منها زوجها " يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في " الأعراف " وغيرها. " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " أخبر عن الأزواج بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج، ومثله قوله تعالى: " قد أنزلنا عليكم لباسا " [ الأعراف: 26 ] الآية. وقيل: أنزل أنشأ وجعل. وقال سعيد بن جبير: خلق. وقيل: إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض، كما قيل في قوله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " [ الحديد: 25 ] فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد. وقيل: " وأنزل لكم من الأنعام " أي أعطاكم. وقيل: جعل الخلق إنزالا، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى: خلق لكم كذا بأمره النازل. قال قتادة: من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد (1) في نسخ الاصل: حتى. (2) راجع ص 29 وما بعدها من هذا الجزء طبعة أولى أو ثانية. (3) راجع ج 7 ص 337 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 236 ]
زوج. وقد تقدم هذا. " يخلقكم في بطون امهاتكم خلقا من بعد خلق " قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. ابن زيد: " خلقا من بعد خلق " خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم. وقيل: في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره الماوردي. " في ظلمات ثلاث " ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير: ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل. والقول الأول أصح. وقيل: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. " ذلكم الله " أي الذي خلق هذه الأشياء " ربكم له الملك لا إله إلا هو ". " فأنى تصرفون " أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. وقرأ حمزة " إمهاتكم " بكسر الهمزة والميم. والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم. قوله تعالى: إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور قوله تعالى: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم " شرط وجوابه. " ولا يرضى لعباده الكفر " أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم. وقال ابن عباس والسدى: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [ الإسراء: 65 ]. وكقوله: " عينا يشرب بها عباد الله " [ الإنسان: 6 ] أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة. وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عزوجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة. (1) راجع ج 7 ص 113 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 237 ]
قوله تعالى: " وإن تشكروا يرضه لكم " أي يرضى الشكر لكم، لأن " تشكروا " يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في [ البقرة ] وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل " لئن شكرتم لأزيدنكم " [ إبراهيم: 7 ] وإما ثناؤه فهو صفة ذات. و " يرضه " بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم. وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع. واختلس الباقون. " ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور " تقدم في غير موضع. قوله تعالى: وإذا مس الإنسن ضر دعا ربه منيا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله اندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحب النار أمن هو قنت ءانآء اليل ساجدا وقائما يحذر الأخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أو لوا الألبب قوله تعالى: " وإذا مس الإنسان " يعنى الكافر " ضر " أي شدة من الفقر والبلاء " دعا ربه منيبا إليه " أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه. " ثم إذا خوله نعمة منه " أي أعطاه وملكه. يقال: خولك الله الشئ أي ملكك إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد: / ش هنالك إن يستخولوا المال يخولوا / ووإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا / ش (1) راجع ج 1 ص 397 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة، وج 2 ص 172 طبعة ثانية. (2) في الأصول: ورش عن نافع، وفي البيضاوى: وقرأ ابن كثير ونافع في رواية الخ يعنى ورواية أخرى بالا ختلاس كما هو المشهور في رواية ورش. (3) راجع ج 7 ص 157 طبعة أولى أو ثانية. وج 10 ص 230 طبعة أولى أو ثانية. (4) البيت لزهبر، ويروى: هنالك إن يست خبلوا المال يخبلوا. والإخيال الإعارة أي يستعيرون الناقة للا ننقاع بألبانها وأوبارها والفرس للغزو عليها. وإن ييسروا يغلوا: أي إذا قامروا بالميسر يأخذون. سمان الإبل فيقامرون عليها. (*)
[ 238 ]
وخول الرجل: حشمه الواحد خائل. قال أبو النجم: / ش أعطى فلم يبخل ولبخل / وكوم الذرى من خول المخول / ش " نسى ما كان يدعو إليه من قبل " أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل فكشف الضر عنه. ف " ما " على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي. وقيل: بمعنى من كقوله: " ولا أنتم عابدون ما أعبد " [ الكافرون: 3 ] والمعنى واحد. وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل. أي ترك كون الدعاء منه إلى الله، فما والفعل على هذا القول مصدر. " وجعل لله أندادا " أي أوثانا وأصناما. وقال السدي: يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم. " ليضل عن سبيله " أي ليقتدي به الجهال. " قل تمتع بكفرك قليلا " أي قل لهذا الإنسان " تمتع " وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل. " إنك من اصحاب النار " أي مصيرك إلى النار. قوله تعالى: " أمن هو قانت آناه الليل " بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي " أمن " بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة: " أمن هو " بالتخفيف على معنى النداء، كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين، كما قال أوس بن حجر: / ش أبني لبينى لستم بيد / وإلا يدا ليست لها عضد / ش وقال آخر هو ذو الرمة: / ش أدارا بحزوي هجت للعين عبرة / وفماء الهوى يرفض أو يترقرق / ش فالتقدير على هذا " قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار " يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة، كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: إن الألف في " أمن " ألف استفهام أي " أمن هو قانت آناء الليل " أفضل ؟ أم من جعل لله أندادا ؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد
[ 239 ]
" أمن " فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير " أمن هو قانت " فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس: وأم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي، والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر. وفي قانت أربعة أوجه: أحدها أنه المطيع، قاله ابن مسعود. الثاني أنه الخاشع في صلاته، قاله ابن شهاب. الثالث أنه القائم في صلاته، قاله يحيى ابن سلام. الرابع أنه الداعي لربه. وقول ابن مسعود يجمع ذلك. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل " وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال: " طول القنوت " وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال: ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن. وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع وغض البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين. قال النحاس: أصل هذا أن القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع: قال لي ابن عمر قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق، فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا ؟ فقلت: كنت أتزين قال: فالله أحق أن تتزين له. واختلف في تعيين القانت ها هنا، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن عمر: هو عثمان رضي الله عنه. وفال مقاتل: إنه عمار بن ياسر. الكلبى: صهيب وأبو ذر وابن مسعود. وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال. " آناء الليل " قال الحسن: ساعاته، أوله وأوسطه وآخره. وعن ابن عباس: " آناء الليل " جوف الليل. قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه. وقيل: ما بين المغرب والعشاء. وقول الحسن عام. " يحذر الاخرة " قال سعيد بن جبير: أي عذاب الآخرة. " ويرجو رحمة ربه " أي
[ 240 ]
نعيم الجنة. وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال: هذا متمن. ولا يقف على قوله: " رحمة ربه " من خفف " أمن هو قانت " على معنى النداء، لأن قوله: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر، على ما تقدم بيانه. قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. " إنما يتذكر اولوا الالباب " أي أصحاب العقول من المؤمنين قوله تعالى: قل يعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله وسعة انما يوفى الصبرون اجرهم بغير حساب قوله تعالى: " قل يا عباد الذين آمنوا " أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين " اتقوا ربكم أي أتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم. وقال ابن عباس: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم فال: " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة. وقيل: المعنى للذين أحسنفي الدنيا حسنة في الدنيا، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائد في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القشيري: والأول أصح، لأن الكافر قد نال نعم الدنيا. قلت: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء. " وأرض الله واسعة " فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في " النساء " وقيل: المراد أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها، كما قال: " عرضها السماوات والأرض " [ آل عمران: 133 ] والجنة قد تسمى أرضا، * (هتمش) * (1) راجع ج 1 س 161 طبعة أو ثالثه. (2) راجع ج 5 ص 348 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 241 ]
قال الله تعالى: وقالوا الحمدلله الذى صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوا من الجنة حيث نشاء " [ الزمر: 74 ] والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا. الماوردي: يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق، لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه، لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان. قلت: فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية، إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم. " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " أي بغير تقدير. وقيل: يزاد على الثواب، لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب. وقيل: " بغير حساب " أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و " الصابرون " هنا الصائمون، دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل: " الصوم لي وأنا أجزي به " قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا، وحكي عن علي رضي الله عنه. وقال مالك بن أنس في قوله: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجرهم. وقال قتادة: لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان، حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ". وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أد الفرائض تكن من أعبد الناس وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا " ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم
[ 242 ]
" إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ". ولفظ صابر يمدح به وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر على كذا، قال النحاس. وقد مضى في " البقرة " مستوفى. قوله تعالى: قل إنى امرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وامرت لان أكون أول المسلمين قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له دينى فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الجسرين المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ذلكم يخوف الله به عباده يعباد فاتقون قوله تعالى: " قل إنى أمرت ان اعبد الله مخلصا له الدين " تقدم أول السورة " وامرت لان أكون أول المسلمين " من هذه الامة، وكذلك كان فانه كان أول من خالف دين آبائه وخلع الاصنانم وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم. واللام في قوله: " لان أكون " صلة زائدة، قاله الجرجاني وغيره. وقيل: لام أجل. وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة " لأن أكون أول المسلمين ". يريد عذاب يوم القيامة. وقاله حين دعاه قومه إلى دين آبائه، قال أكثر أبو حمزة الثمالي وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح: 2 ] فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صلى الله عليه وسلم. (1) راجع ج 2 ص 174 وما بعدها طبعة ثانيه. (*)
[ 243 ]
قوله تعالى: " قل الله أعبد " " الله " نصب ب " أعبد "، " مخلصا له ديني " طاعتي وعبادتي. " فاعبدوه ما شئتم من دونه " أمر تهديد ووعيد وتوبيخ، كقوله تعالى: " اعملوا ما شئتم " [ فصلت: 40 ]. وقيل بآية السيف. قوله تعالى: " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " قال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. في رواية عن ابن عباس فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له ذلك، المنزل والاهل الا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: " أولئك هم الوارثون " [ المؤمنون: 10 ]. قوله تعالى: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " سمى ما تحتهم ظللا، لأنها تظل من تحتهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " [ الأعراف: 41 ] وقوله: " يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ". [ العنكبوت: 55 ]. " ذلك يخوف الله به عباده " قال ابن عباس: أولياءه. " يا عباد فاتقون " أي يا أوليائي فخافون. وقيل: هو عام في المؤمن والكافر. وقيل: خاص بالكفار. قوله تعالى: والذين اجتنبوا الطغوت أن يعبدوها وأنا بوا الى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالبب قوله تعالى: " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها " قال الاخفش: الطاغوت جمع ويجوز أن تكون واحدة مؤنثه. وقد تقدم. أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها. قال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل: إنه الكاهن. وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت. وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، و " أن " في موضع نصب بدلا من الطاغوت، تقديره: والذين (1) راجع ج 5 ص 280 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 244 ]
أجتنبوا عبادة الطاغوت. " وأنابوا الى الله " أي رجعوا إلى عبادته وطاعته. " لهم البشرى " في الحياة الدنيا بالجنة في العقبى. روي أنها نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم، سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا. وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: " فبشر عباد. الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. وقيل: يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص. وقيل: يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو. وقيل: إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام " لا إله إلا الله ". وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم، واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم. " اولئك الفذين هداهم الله " لما يرضاه. " واولئك هم اولو الالباب " أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم قوله تعالى: أفمن حق عليه كلمة العذاب أفانت تنقذ من في النار قوله تعالى: " أفمن حق عليه كلمة العذاب أفانت تنقذ من في النار " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. وكرر الاستفهام في قوله: " أفأنت " تأكيدا لطول الكلام، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون " [ المؤمنون: 35 ] على ما تقدم. والمعنى: " أفمن حق عليه كلمة العذاب " أفأنت تنقذه. والكلام شرط وجوابه. وجئ بالاستفهام، ليدل على التوقيف والتقرير. وقال الفراء: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه (1) راجع ج 12 ص 122 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 245 ]
كلمة العذاب. والمعنى واحد. وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، وما بعده مستأنف وقال: " أفمن حق عليه " وقال في موضع آخر: " حقت كلمة العذاب " [ الزمر: 71 ] لأن الفعل إذا تقدم ووقع بينه وبين الموصوف به حائل جاز التذكير والتأنيث، على أن التأنيث هنا ليس بحقيقي بل الكلمة في معنى الكلام والقول، أي أفمن حق عليه قول العذاب. قوله تعالى: لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهر وعد الله لا يخلف الله الميعاد قوله تعالى: " لكن الذين اتقوا ربهم " لما بين أن للكفار ظلا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و " لكن " ليس للاستدرار، لأنه لم يأت نفي كقوله: ما رأيت زيدا لكن عمرا، بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يأت. " غرف مبنية " قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت " تجرى من تحتها الانهار " أي هي جامعة لأسباب النزهة. " وعد الله " نصب على المصدر، لأن معنى " لهم غرف " وعدهم الله ذلك وعدا. ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. " لا يخلف الله الميعاد " أي ما وعد الفريقين. قوله تعالى: ألم تر ان الله انزل من السماء ماء فسلكه ينبيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألونه ثم يهيج فتريه مصفراثم يجعله حطما ان في ذلك لذكرى لاولى الالبب قوله تعالى: " ألم تر ان الله انزل من السماء ماء " أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء. " أنزل من السماء " أي من السحاب " ماء " أي المطر " فسلكه " أي فأدخله في الأرض
[ 246 ]
وأسكنه فيها، كما قال: " فأسكناه في الأرض " [ المؤمنون: 18 ]. " ينابيع " جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض. النحاس: وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر: / ش ينباع من ذفرى غضوب جسرة / ش أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا، نبوعا خرج. والينبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في " سبحان ". " ثم يخرج به " أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض " زرعا " هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا. قال الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا. " ثم يهيج " أي ييبس. " فتراه " أي بعد خضرته " مصفرا " قال المبرد قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: كذلك هاج النبت. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري: هاج النبت هياجا أي يبس. وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات، وهاج هائجه أي ثار غضبه، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. " ثم يجعله حطاما " أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل: هو مثل ضربه الله للدنيا، أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. " إن في ذلك لذكرى لاولى الالباب ". قوله تعلى: أفمن شرح الله للاسلم فهو على نور من ربه فويل للقسية قلوبهم من ذكر الله اولئك في ظلل مبين (1) قائله عنترة: ويروى، غضوب حرة. وتمامه: / شزيافة مثل الفنيق المقرم / ش (2) راجع ج 10 ص 330 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 247 ]
شرح فتح ووسع. قال ابن عباس: وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه. وقال السدي: بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه، فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. " فهو على نور من ربه " أي على هدى من ربه كمن طبع على قلبه وأقساه. ودل على هذا المحذوف قوله: " فويل للقاسية قلوبهم " قال المبرد: يقال قسا القلب إذا صلب، وكذلك عتا وعسا مقاربة لها. وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين. والمراد بمن شرح الله صدره هاهنا فيما ذكر المفسرون على وحمزة رضى الله عنهما. وحكى انقاش أنه عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وقال مقاتل: عمار بن ياسر، وعنه أيضا والكلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والاية عامة فيمن شرح الله صدره بخلق الايمان فيه. وروى مرة عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول الله قوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " كيف انشرح صدره ؟ قال " إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح " قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك ؟. قال: " الانابة الى دار الجلود واتجافى عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله " وخرجه الترمذي الحكيم في " نوادر الاصول " من حديث ابن عمر: أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين اكيس ؟ قال: " أكثر هم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع " قالوا: فما آية ذلك يا نبى الله ؟ قال: " الانابة الى دار الحلود والتجافى عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت " فذكر صلى الله عليه وسلم خصالا ثلاثة، ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الايمان، فان الانابة انما هي أعمال البر، لان دار الجلود انما وضعت جزاء لاعمال البر، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم قال بعقب ذلك " جزاء بما كانوا يعملون " فالجنة جزاء الاعمال، فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو انابته الى دار الجلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا، ولها عن طلبها، وأقبل على 0 (1) هو مرة بن شراحيل الهمداني يروى عن أبى بكر وعمر وعلى وأبى ذر وحذيفة وابن مسعود الخ... التهذيب. (*)
[ 248 ]
ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور. وإذا احكم اموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر، واقفا متادبا متثبتا حذرا بنئرع عما يربيه الى ما لا يريبه فقد ايتعد للموت. فهذه علامتهم في الظاهر. وإنما صار هكذا الرؤية بالنور الذى ولج القلب. وقوله: " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله: قيل: المراد أبو لهب وولده، ومعنى " من ذكر الله " أن قلوبهم نزداد قسوة من سماع ذكره. وقيل: إن " من " بمعنى عن والمعنى قست عن قبول ذكر الله. وهذا اختيار الطبري. وعن آبى سعيد الجدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فانى جعلت فيهم رحمتى ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فانى جعلت فيهم سخطى ". وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم الانزع الرحمة من قلوبهم، قوله تعلاى: الله نزل احسن الحديث كتبا متشبها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء ومن يظلل الله فماله من هاد فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " نزل أحسن الحديث " يعنى القرآن لما قال " فيتبعون أحسنه " بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبى وقاص قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حدثتنا فانزل اله عزوجل " الله نزل أحسن الحديث " فقالوا: لو قصصت علينا فنزل " نحن نقص عليك أحسن القصص " فقالوا: لو ذكرتنا فنزل " ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " الآية. وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملموا ملة فقالوا له: حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدث. وسمى القرآن حديثا، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث به
[ 249 ]
أصحابه وقومه، وهو كقوله: " فباى حديث بعده يومنون " وقوله: " أفمن هذا الحديث تعجبون " وقوله: فذرني ومن يكذب بهذا الحديث " [ القلم: 4 4 ] قال القشيري: وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فيدل على أن كلامه محدث وهو وهم، لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " وقد قالوا: إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الرب تعالى. " كتابا " نصب على البدل من " أحسن الحديث " ويحتمل أن يكون حالا منه. " متشابها " يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وقال قتادة: يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه، لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز. ثم وصفه فقال: " مثانى " تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثنى للتلاوة فلا يمل. " تقشعر " تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد. " ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله " أي عند آية الرحمة. وقيل: الى العمل بكتاب الله والتصديق به. وقيل: " إلى ذكر الله " يعنى الاسلام. الثانيه - عن أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرى عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فان أناسا اليوم إذا قرى عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحى: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقطا فقال: ما بال هذا ؟ قالوا: إنه إذا قرى عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ماكان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه سلم. وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرى عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله الى آخره فان رمى بنفسه فهو صادق. وقال أبو عمران
[ 250 ]
الجونى: وعظ موسى عليه السلام بنى إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه، فأوحى الله الى موسى، قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فانى لا احب المبذرين، يشرح لى عن قلبه. قال زيد بن أسلم: ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقا النبي صلى الله عليه وسلم: " اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة ". وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها ". وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار ". وعن شهر بن حوشب عن أم الدپرداء قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة ؟ قلت: بلى، قالت: فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب. وعن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك ؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. يقال: اقشعر جلد الرجل أقشعرارا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم، لأنها زائدة، يقال أخذته قشعريرة. قال امرؤ القيس: / ش فبت أكابد ليل التمام / ووالقلب من خشية مقشعر / ش وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجز هم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظاما له، وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه، وهو كقوله تعالى: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " [ الحشر: 21 ] فالتصدع قريب من الاقشعرار، والخشوع قريب من قوله: " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه. " ذلك هدى اله " أي القرآن هدى الله. وقيل: أي الذى وهبه الله لهؤلاء منخشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله. " ومن يظلل الله فماله من هاد " أي من خذله فلا مرشد له. وهو يرد على القدرية وغيرهم. وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله. ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله: " هاد " في الموضعين بالياء، الباقون بغيرياء. (1) ليل التمام: أطون ما يكون من ليالى الشتاء. (*)
[ 251 ]
قوله تعالى: أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيمة وقيل للظلمين ذوقوا ما كنتم تكيبون كذب الذين من قبلهم فاتهم العذاب من حيث لا يشعرون فاذاقهم الله الخزى في الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعملون قوله تعالى: " أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب " قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفا في النار فأول شئ تمس منه النار وجهه. وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه، لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال. والخبر محذوف. قال الأخفش: أي " أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب " أفضل أم من سعد، مثل: " أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة " [ فصلت: 40 ]. " وقيل للظالمين " أي وتقول الخزنة للكافرين " ذوقوا ما كنتم تكسبون " أي جزاء كسبكم من المعاصي. ومثله " هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " [ التوبة: 35 ]. قوله تعاى: " كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. فاذاقهم الله الخزى في الحياة الدنيا " تقدم معناه. وقال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شئ قد ذاقته، أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي من المكروه والخزاية من الاستحياء " ولعذاب الاخرة أكبر " أي مما أصابهم في الدنيا " لو كانوا يعلمون ". قوله تعالى: ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون (1) راجع ج 2 ص 79 طبعة ثانيه. (*)
[ 252 ]
قوله تعالى: " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " أي من كل مثل يحتاجون إليه، مثل قوله تعالى: " ما فرطنا في الكتاب من شئ " [ الأنعام: 38 ] وقيل: أي ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء. " لعلهم يتذكرون " يتعظون. " قرآنا عربيا " نصب على الحال. قال الأخفش: لأن قوله جل وعز: " في هذا القرآن " معرفة. وقال علي بن سليمان: " عربيا " نصب على الحال و " قرآنا " توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا فقولك صالحا هو المنصوب على الحال. وقال الزجاج: " عربيا " منصوب على الحال و " قرآنا " توكيد. " غير ذى عوج " النحاس: أحسن ما قيل فيه قول الضحاك، قال: غير مختلف. وهو قول ابن عباس، ذكره الثعلبي. وعن ابن عباس أيضا غير مخلوق، ذكره المهدوي وقاله السدي فيما ذكره الثعلبي. وقال عثمان بن عفان: غير متضاد. وقال مجاهد: غير ذي لبس. قال / ش وقد أتاك يقين غير ذي عوج / ومن الإله وقول غير مكذوب / ش " لعلهم يتقون " الكفر والكذب. قوله تعاى: ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون قوله تعالى: " ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون " قال الكسائي: نصب " رجلا " لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه: ضرب الله مثلا برجل " فيه شركاء متشاكسون " قال الفراء: أي مختلفون. وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكسا بوزن قفل فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر، يقال: رجل شكس وشرس وضرس وضبس. ويقال: رجل ضبس وضبيس أي (1) الزيادة من حاشية الجمل نقلا عن القرطبى. (*)
[ 253 ]
شرس عسر شكس، قاله الجوهري. الزمخشري: والتشاكس والتشاخس الاختلاف. يقال: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه. ويقال: شاكسني فلان أي ماكسني وشاحني في حقي. قال الجوهري: رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق. قال الراجز: / ش شكس عبوس عنبس عذور / ش وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق. وقد شكس بالكسر شكاسة. وحكى الفراء: رجل شكس. وهو القياس، وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة. " ورجلا سلمنا لرجل " أي خالصا لسيد واحد، وهو مثل من يعبد الله وحده. " هل يستويان مثلا " هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه، فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطأه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم. وقرأ أهل الكوفة وأهل المدينة: " ورجلا سالما " وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب: " ورجلا سالما " واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه. قال: لأن السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا. النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم، لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع آخر، كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك. ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم غيره، لأنه يقال شئ سالم أي لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة. واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة " سلما " قال وهذا الذي لا تنازع فيه. وقرأ سعيد ابن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر " سلما " بكسر السين وسكون اللام. و سلما وسلما مصدران، والتقدير: ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و " مثلا " صفة على التمييز، والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. " الحمدلله بل أكثرهم لا يعلمون " الحق فيتبعونه.
[ 254 ]
قوله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيمة عندن ربكم تختصمون قرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق " إنك مائت وإنهم مائتون " وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبد الله بن الزبير. النحاس: ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و " مائت " في المستقبل كثير في كلام العرب، ومثله ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام. وقال الحسن والفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من فارقته الروح، فلذلك لم تخفف هنا. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم. وقال ثابت البناني: نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل، فقال: ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين، قال: وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر. قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون ". وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم، فاحتمل خمسة أوجه أحدها أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة. الثاني أن يذكره حثا على العمل. الثالث أن يذكره توطئة للموت. الرابع لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره، حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية فأمسك. الخامس ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره، لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم، قال ابن عباس وغيره. وفي خبر فيه طول: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد. وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال: " نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه " فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد. وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين: " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " فقلنا: وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد، حتى رأيت
[ 255 ]
بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها فينا نزلت. وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا. وقال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما خصومتنا بيننا ؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا بيننا. وقيل تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى، فيستوفي من حسنات الظالم بقدر مظلمته، ويردها في حسنات من وجبت له. وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون من المفلس " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرفي النار " خرجه مسلم. وقد مضى المعنى مجودا في " آل عمران " وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شئ فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " وفي الحديث المسند " أول ما تقع الخصومات في الدنيا " وقد ذكرنا هذا الباب كله في التذكرة مستوفى. قوله تعالى: فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكفرين والذى جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون لهم ما يشاءؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسواأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم باحسن الذى كانوا يعملون راجع ج 4 ص طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 256 ]
قوله تعالى: " فمن أظلم " أي لا أحد أظلم " ممن كذب على الله " فزعم أن له ولدا وشريكا " وكذب بالصدق " يعني القرآن " أليس في جهنم " لاستفهام تقرير " مثوى للكافرين " أي مقام للجاحدين، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذ أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا، ولو كان من أثوى لكان مثوى. وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة. وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى: / ش أثوى وقصر ليلة ليزودا / وومضى وأخلف من قتيلة موعدا / ش والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، ويروى البيت أثوى على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى. قوله تعالى: والذى جاء بالصدق " في موضع رفع بالابتداء وخبره " أولئك هم المتقون " واختلف في الذي جاء بالصدق وصدق به، فقال علي رضي الله عنه: " الذي جاء بالصدق " النبي صلى الله عليه وسلم " وصدق به " أبو بكر رضي الله عنه. وقال مجاهد: النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه. السدي: الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة: " الذي جاء بالصدق " النبي صلى الله عليه وسلم: " وصدق به " المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله: " أولئك هم المتقون " كما قال: " هدى للمتقين " [ البقرة: 2 ]. وقال النخعي ومجاهد: " الذي جاء بالصدق وصدق به " المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه، فيكون " الذي " على هذا بمعنى جمع كما تكون من بمعنى جمع. وقيل: بل حذفت منه النون لطول الاسم، وتأول الشعبي على أنه واحد. وقال: " الذي جاء بالصدق " محمد صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا خبره جماعة، كما يقال لمن يعظم هو فعلوا، وزيد فعلوا كذا وكذا. وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله عز وجل، قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري. وفي قراءة ابن مسعود " والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به " وهي قراءة على التفسير. وفي قراءة أبي صالح الكوفي " والذي جاء بالصدق وصدق به " مخففا على معنى وصدق بمجيئه
[ 257 ]
به، أي صدق في طاعة الله عز وجل، وقد مضى في " البقرة " الكلام في " الذي " وأنه يكون واحدا ويكون جمعا. " لهم ما يشاءؤن عند ربهم " أي من النعيم في الجنة، كما يقال: لك إكرام عندي، أي ينالك مني ذلك. " ذلك جزاء المحسنين " الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة. قوله تعالى: " ليكفر الله عنهم " أي صدقوا " ليكفر الله عنهم ". " أسوا الذى عملوا " أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. " ويجزيهم أجرهم " أي يثيبهم على الطاعات الدنيا " بأحسن الذى كانوا يعملون " وهي الجنة. قوله تعالى: اليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يظلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام قوله تعالى: " أليس الله بكاف عبده " حذفت الياء من " كاف " لسكونها وسكون التنوين بعدها، وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي. وقراءة العامة " عبده " بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي " عباده " وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيد قراءة الجماعة لقوله عقيبه: " ويخوفونك بالذين من دونه ". ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس، كقوله عز من قائل: " إن الإنسان لفي خسر " [ العصر: 2 ] وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية. والكفاية شر الأصنام، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام، حتى قال إبراهيم عليه السلام. " وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله " [ الأنعام: 81 ]. وقال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب. (1) راجع ج 1 ص 212 طبعة ثانيه أو ثالثه. (*)
[ 258 ]
قوله تعالى: " ويخوفونك بالذين من دونه " وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان، فقالوا: أتسب آلهتنا ؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أو تصيبنك بسوء. وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها: أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شئ، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم، كما قال: " أم يقولون نحن جميع منتصر " [ القمر: 44 ] " ومن يضلل الله فما له من هاد " تقدم. " ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام " أي ممن عاداه أو عادى رسله. قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السموت والارض ليقولنه الله قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله ان أرادنى الله بضر هل هن كشفت ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكت رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون قل يقوم اعملوا على مكانتكم إنى عمل فسوف تعلمون من ياتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا انزلنا عليك الكتب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن فانما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل قوله تعالى: " ولئن سألتهم " أي ولئن سألتهم يا محمد " من خلق السموات والارض ليقولن الله " بين أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو الله، وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بالهتهم التى هي مخلوقة لله تعالى، وأنت رسول الله الذى خلقها وخلق السموات والأرض. " قل أفرايتم " أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا " أفرأيتم " إن أرادنى الله بضر " بشدة وبلاء " هل هن كاشفات ضره " يعنى هذه الاصنام " أو أرادنى
[ 259 ]
برحمة " نعمة ورخاء " هل هن ممسكات رحمته " قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع. فنزلت " قل حسى وترك الجواب لدلالة الكلام عليه يعنى فسيقولون لا (أي لا تكشف ولا تمسك) ف " قل " أنت " حسى الله " أي عليه توكلت أي أعتمدت و " عليه يتوكل لمتوكلون " يعتمد المعتمدون. وقد تقدم الكلام في التوكل. وقرأ نافع وابن كثير والكوفون ما عدا عاصما " كاشفات ضره " بغيره تنوين. وقرأ أبو عمر ووشيبه وهر المعروفة من قراءة الحسن وعاصم " هل هن كاشفات ضره ". " ممسكات رحمته " بالتنوين على الاصل وهو اختيار أبى عبيد وأبى حاتم، لانه اسم فاعل في معنى الاستقبال، وإذا كان كذلك كان التنوين أجود. قال الشاعر: / شالضاربون عميرا عن بيوتهم / وبالليل يوم عمير ظالم عادى. / ش ولو كان ماضيا لم يجز فيه التنوين، وحذف التنوين على التحقيق فإذا حذفت التنوين لى يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالاضافة. وحذف التنوين كثير في كلام العرب موجود حسن قال الله تعالى " هديا بالغ الكعبة " وقال: " إنا مرسلو الناقة " قال سيبويه: ومثل ذلك " غير محلى الصيد " وأنشد سيبويه: / ش هل أنت باعث دينار لحاجتنا / وأو عبد رب أخاعون بن مخراق / ش وقال النابغة: ش / أحكم كحكم فتاه الحى إذ نظرات / وإلى حمام شراع وارد الثمد معناه وارد الثمد فحذف التنوين، مثل " كاشفات ضره. " قوله تعالى: " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل " أي مكانتي أي على جهتى الى تمكنت عنتدى " فسوف تعلمون. " وقرأ أبو بكر بالجمع " مكاناتكم ". وقد مضى في " الأنعام. " (1) الزيادة من حاشية الجمل نقلا ع القرطبى. (2) راجع ج 4 ص 189 وص 253 طبعة أولى أو ثانية. (3) يقول الشاعر للنعمان بن المنذر وكان واجدا عليه: كن حكيما في أمرى كحكم زرقاء اليمامة في حزرها للحمام التى مرت طائرة بها. وخبرها مشهور. والشراع: الموضع الذى ينحدر منه إلى الماء والثمد: الماء القليل على وجه الأرض. (4) راجع ج 7 ص 89 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 260 ]
" من يأتيه عذاب يخزيه " أي يهينه ويذله أي في الدنيا وذلك بالجوع والسيف. " ويحل عليه " أي في الآخرة " عذاب مقيم. " قوله تعالى: " إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس با لحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل " تقدم الكلام في هذه الاية مستوفى في غير موضع. قوله تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت في منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لأيت لقوم يتفكرون فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " أي يقبضها عند فناء آجالها " والتى لم تمت في منامها " اختلف فيه. فقيل: يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها " فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الأخرى " وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها، قال ابن عيسى. وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها. قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى " أي يعيدها. قال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين، وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة. (1) راجع ج 8 ص 388 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) في نسخة: قاله أبو عيسى. (*)
[ 261 ]
وقال ابن زيد: النوم وفاة والموت وفاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون. " وقال عمر: النوم أخو الموت. وروي مرفوعا من حديث جابر بن عبد الله قيل: يا رسول الله أينام أهل الجنة ؟ قال: " لا النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها " خرجه الدارقطني. وقال ابن عباس: " في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحريك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. " وهذا قول ابن الأنباري والزجاج. قال القشيري أبو نصر: وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شئ واحد، ولهذا قال: " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " فإذا يقبض الله الروح في حالين في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شئ مقبوض، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله: " ويرسل الأخرى " أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان. فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية. " فيمسك التي قضى عليها الموت " بألا يخلق فيها الإدراك كيف وقد خلق فيها الموت ؟ " ويرسل الأخرى " بأن يعيد إليها الإحساس. الثانية - وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح، هل هما شئ واحد أو شيئان على ما ذكرنا. والأظهر أنهما شئ واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب. من ذلك حديث أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر " وحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره " قال: " فذلك حين يتبع بصره نفسه " خرجهما مسلم. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (1) شق بصره: أي انفتح. (*)
[ 262 ]
" تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء " وذكر الحديث وإسناده صحيح خرجه ابن ماجة، وقد ذكرناه في " التذكرة. " وفي صحيح، مسلم عن أبي هريرة قال: " إذا خرجت روح المؤمن تلقاها " ملكان يصعدان بها. " وذكر الحديث. وقال بلال في حديث الوادي: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي: " يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا. " الثالثة - والصحيح فيه أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة، يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف ويدرج، وبه إلى السماء يعرج، لا يموت ولا يفنى، وهو مما له أول وليس له آخر، وهو بعينين ويدين، وأنه ذو ريح طيبة وخبيثة، كما في حديث أبي هريرة. وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض، وقد ذكرنا الأخبار بهذا كله في كتاب " التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة. " وقال تعالى: " فلولا إذا بلغت الحلقوم " [ الواقعة: 83 ] يعني النفس إلى خروجها من الجسد، وهذه صفة الجسم. والله أعلم. الرابعة - خرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها. " وقال البخاري وابن ماجة والترمذي: " فارحمها " بدل " فاغفر لها " وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " زاد الترمذي " وإذا استيقظ فليقل الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره. " وخرج البخاري عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول: " اللهم باسمك أموت وأحيا " وإذا استيقظ قال: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. "
[ 263 ]
قوله تعالى: " فيمسك التي قضى عليها الموت " هذه قراءة العامة على أنه مسمى الفاعل " الموت " نصبا، أي قضى الله عليها وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، لقوله في أول الآية: " الله يتوفى الأنفس " فهو يقضي عليها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزه والكسائي " قضي عليها الموت " على ما لم يسم فاعله. النحاس: والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام، لأنهم قد أجمعوا على " ويرسل، " ولم يقرءوا " ويرسل، ". وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء، ويحيي ويميت، لا يقدر على ذلك سواه. " إن في ذلك لآيات " يعني في قبض الله نفس الميت والنائم، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت " لقوم يتفكرون. " وقال الأصمعي سمعت معتمرا يقول: روح الإنسان مثل كبة الغزل، فترسل الروح، فيمضي ثم تمضي ثم تطوى فتجئ فتدخل، فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شئ في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد. وقيل غير هذا، وفي التنزيل: " ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " [ الإسراء: 85 ] أي لا يعلم حقيقته إلا الله. وقد تقدم في [ سبحان ]. قوله تعالى: أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيا ولا يعقلون قل لله الشفعة جميعا له ملك السموت والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون با لأخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون قوله تعالى: " أم اتخذوا من دون الله شفعاء " أي بل اتخذوا يعني الأصنام وفي الكلام ما يتضمن لم، أي " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " لم يتفكروا ولكنهم اتخذوا آلهتم شفعاء. " قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا " أي قل لهم يا محمد أتتخذونهم شفعاء وإن كانوا (1) كبة الغزل: ما جمع منه. (2) راجع ج 1 ص 323 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 264 ]
لا يملكون شيئا من الشفاعة " ولا يعقلون " لأنها جمادات. وهذا استفهام إنكار. " قل لله الشفاعة جميعا " نص في أن الشفاعة لله وحده كما قال: " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " [ البقرة: 255 ] فلا شافع إلا من شفاعته " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " [ الأنبياء: 28 ]. " جميعا " نصب على الحال. فإن قيل: " جميعا " إنما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة واحدة. فالجواب أن الشفاعة مصدر والمصدر يؤدي عن الاثنين والجميع " له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون " قوله تعالى: " وإذا ذكر الله وحده " نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه، وعلى الحال عند يونس. " اشمأزت " قال المبرد انقبضت. وهو قول ابن عباس ومجاهد. وقال قتادة: نفرت واستكبرت وكفرت وتعصت. وقال المؤرج أنكرت. وأصل الاشمئزاز النفور والازورار. قال عمرو بن كلثوم: / ش إذا عض الثقاف بها اشمأزت / ووولتهم عشوزنة زبونا / ش وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع وهو المذعور. وكان المشركون إذا قيل لهم " لا إله إلا الله " نفروا وكفروا. " وإذا ذكر الذين من دونه " يعني الأوثان حين ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته سورة [ النجم ] تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى. قاله جماعة المفسرين. " إذا هم يستبشرون " أي يظهر في وجوههم البشر والسرور. قوله تعالى: قل اللهم فاطر السموت والأرض علم الغيب والشهدة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب يوم القيمة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (1) الثقاف ما تقوم به الرماح. وعشوزنة صلبة شديدة. والزبون الدفوع. والبيت في وصف قناة، وقبله: / ش فإن قناتنا يا عمرو أعيت / وعلى الأعداء قبلك أن تلينا / ش (2) راجع ما قبل في هذا الكلام من ميافاته للعصمة وتأويلات في قوله تعالى في سورة الحج: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " ج 12 ص 79 وما بعدها (*)
[ 265 ]
قوله تعالى: " قل اللهم فاطر السموات والأرض " نصب لأنه نداء مضاف وكذا " عالم الغيب " ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا. " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " وفي صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شئ كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته " اللهم رب جبريل وميكائيل " وإسرافيل " فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " ولما بلغ الربيع بن خيثم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهم قرأ " قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ". وقال سعيد بن جبير: إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، قوله تعالى: " قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ". قوله تعالى: " ولو أن للذين ظلموا " أي كذبوا وأشركوا " ما في الأرض جميعا ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب " أي من سوء عذاب ذلك اليوم. وقد مضى هذا في سورة " آل عمران " و " الرعد ". " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " من أجل ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقاله السدي. وقيل: عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة. ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم من غير توبة ف " بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " من دخول النار. وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة ابن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديد، فقيل له: ما هذا الجزع ؟ قال: (1) راجع ج 4 ص 131 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 9 ص 307 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 266 ]
أخاف آية من كتاب الله " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. " وبدا لهم " أي ظهر لهم " سيئات ما كسبوا " أي عقاب ما كسبوا من الكفر والمعاصي. " وحاق بهم " أي أحاط بهم ونزل " ما كانوا به يستهزئون. " قوله تعالى: فإذا مس الإنسن ضر دعانا ثم إذا خولنه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصلبهم سيات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيات ما كسبوا وما هم بمعجزين أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن في ذلك لا يت لقوم يؤمنون قوله تعالى: " فإذا مس الإنسان ضر دعانا " قيل: إنها نزلت في حذيفة بن المغيرة. " ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته عل علم " قال قتادة: " على علم " عندي بوجوه المكاسب، وعنه أيضا " على علم " على خير عندي قيل: " على علم " أي على علم من الله بفضلي. وقال الحسن: " على علم " أي بعلم علمني الله إياه. وقيل: المعنى أنه قال قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة، " فقال الله: " بل هي فتنة " أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها. قال الفراء: أنث " هي " لتأنيث الفتنة، ولو كان بل هو فتنة لجاز. النحاس: التقدير بل أعطيته فتنة. " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار. قوله تعالى: " قد قالها " أنث على تأنيث الكلمة. " الذين من قبلهم " يعني الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال: " إنما أوتيته على علم عندي ". " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " " ما " للجحد أي لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقيل:
[ 267 ]
أي فما الذي أغنى أموالهم ؟ ف " ما " استفهام. " فأصابهم سيئات ما كسبوا " أي جزاء سيئا ت أعمالهم. وقد يسمى جزاء السيئة سيئة. " والذين ظلموا " أي أشركوا " من هولاء " لا لأمة " سيصيبهم سيئات ما كسبوا " أي بالجوع والسيف. " وما هم بمعجزين " أي فائتين الله ولا سابقيه. وقد تقدم. قوله تعالى: " أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لايات لقوم يومنون " خص المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها. ويعلم أن سعة الرزق قد يكو مكرا واستدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما. قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم وأنيبوا الى ربكم وأسلموا له من قبل أن ياتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما انزل اليكم من ربكم من قبل أن ياتيكم العذاب بغته وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يحسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن السخرين أو تقول لو أن الله هديني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فاكون من المحسنين بلى قد جاءتك ءايتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكفرين قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وإن شئت حذفت الياء، لأن النداء موضع حذف. النحاس: ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، أتعدت (1) راجع ج 7 ص 88 طبعة أولى أو ثانيه. وج 8 ص 351 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 268 ]
أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه. فأصبحت أنا وعياش ابن عتبة وحبس عنا هشام، وإذا به قدفتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " إلى قوله تعالى: " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه: إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " ذكره البخاري بمعناه. وقد مضى في آخر " الفرقان ". وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا: بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية. وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة، لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه: وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله " قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، هل يقبل الله منى توبة ؟ فصمت (1) الاضاة غدير. (2) راجع ج 13 ص 76 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 269 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " [ الفرقان: 68 إلى آخر الآية فتلاها عليه، فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء: 48 ] فدعا به فتلا عليه، قال: فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " فقال: نعم الآن لا أرى شرطا. فأسلم. وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم ". وفي مصحف ابن مسعود " إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء ". قال أبو جعفر النحاس: وهاتان القراءتان على التفسير، أي يغفر الله لمن يشاء. وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة، ودل على أنه يريد التائب ما بعده " وأنيبوا إلى ربكم " فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك " وإني لغفار لمن تاب " [ طه: 82 ] فهذا لا إشكال فيه. وقال علي بن أبي طالب: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وقد مضى هذا في [ سبحان ]. وقال عبد الله بن عمر: وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قول تعالى: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " [ الرعد: 6 ] وقد مضى في [ الرعد ] (2). وقرئ " ولا تقنطوا " بكسر النون وفتحها. وقد مضى في " الحجر (3) " بيانه. قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم) أي ارجعوا إليه بالطاعة، لما بين أن من تاب من الشرك يغفر له أمر بالتوبة والرجوع إليه، والانابة الرجوع إلى الله بالاخلاص. (وأسلموا له) أي اخضعوا له وأطيعوا (من قبل أن يأتيكم العذاب) في الدنيا (1) راجع ج: 1 ص 322 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 9 ص 285 طبعة أولى أو ثانية. (3) راجع ج 10 ص 36 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 270 ]
(ثم لا تنصرون) أي لا تمنعون من عذابه، وروى من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الانابة وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله ". قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغثة وأنتم لا تسعرون) " أحسن ما أنزل " هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: الترموا طاعته، واجتنبوا مصيته، وقال السدى: الاحسن ما أمر الله به في كتابه، وقال ابن زيد: يعنى المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه، وقال: أنزل الله كتبا التوراة والانجيل والزبور، ثم أنزل القرآن وأمر باتباعه فهو الاحسن وهو المعجز، وقيل: هذا أحسن لانه ناسخ قاض على جميع الكتب وجميع الكتب منسوخة - وقيل: يعنى العفو، لان الله تعالى خير نبيه عليه السلام بين العفو والقصاص، وقيل ما علم الله النبي عليه السلام وليس بقرآن فهو حسن، وما أوحى إليه من القرآن فهو الاحسن، وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الامم الماضية. قوله تعالى: (أن تقول نفس يا حسرتا) " أن " في موضع نصب أي كراهة " أن تقول " وعند الكوفيين لئلا تقول وعند البصريين حذر " أن تقول ". وقيل: أي من قبل " أن تقول نفس " لانه قال قبل هذا: " من قبل أن يأتيكم العذاب ". الزمخشري: فإن قلت لم نكرت ؟ قلت، لان المراد بها بعض الانفس وهى نفس الكافر، ويجوز أن يريد نفسا متميزه من الانفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعقاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير كما قال الاعشى: ورب بقيع لو هتفت بجوه * أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، ونظيره رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت، ولا يقصد إلا التكثير. " يا حسرتا " والاصل " يا حسرتي " فأبدل من الياء ألف، لانها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت، وربما ألحقوا بها الهاء، أنشد الفراء: يا مرحباه بحمار ناجية (1) * إذا أتى قربته للسانية (1) الناجية: السريعة. وفى تفسير الفراء ناهية بدل ناجية وكذا روى في اللسان وشرح القاموس في مادة سنا. والسانية هنا مصدر على فاعلة بمعنى الاستسقاء، أراد قربته للسناية (*)
[ 271 ]
وربما ألحقوا بها الياء بعد الالف، لتدل على الاضافة، وكذلك قرأها أبو جعفر: يا حسرتاى والحسرة الندامة. (على ما فرطت في جنب الله) قال الحسن: في طاعة الله. وقال الضحاك: أي في ذكر الله عزوجل. قال: يعنى القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة: في جنب الله أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار: يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره ومنه " والصاحب بالجنب " أي على ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة وقال الزجاج: أي على ما فرطت في الطريق الذى هو طريق الله الذى دعاني إليه، والعرب تسمى السبب والطريق إلى الشئ جنبا، تقول تجرعت في جنبك غصصا، أي لاجلك وسببك ولاجل مرضاتك. وقيل: " في جنب الله " أي في الجانب الذى يؤدى إلى رضا الله عزوجل وثوابه، والعرب تسمى الجانب جنبا، قال الشاعر: قسم مجهودا لذاك القلب * الناس جنب والامير جنب يعنى الناس من جانب والامير من جانب، وقال ابن عرفه: أي تركت من أمر الله، يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتى، قال كثير: ألا تتقين الله في جنب عاشق * له كبد حرى عليك تقطع وكذا قال مجاهد، أي ضيعت من أمر الله. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما جلس رجل مجلسا ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجع لم يذكر الله عزوجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة " أي حسرة (1)، خرجه أبو داود بمعناه. وقال إبراهيم التيمى: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره وعلى الاخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عزوجل، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمى هو، (وإن كنت لمن الساخرين) أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا، بأولياء الله، قال قتادة: لم يكفه أن ضيع (1) فسرها ابن الاثير في النهاية بالنقص أو التبعه (*).
[ 272 ]
طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل " إن كنت " النصب على الحال، كأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي فرطت في حال سخريتي، وقيل وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى. قوله تعالى: (أو تقول) هذه النفس (لو أن الله هداني) أي أرشدني إلى دينه (لكنت من المتقين) أي الشرك والمعاسى، وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق، وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله: " سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما إشركا " فهى كلمة حق أريد بها باطل، كما قال على رضى الله عنه لما قال قائل من الخوارج لا حكم إلا لله، (أو تقول) يعنى هذه النفس (حين ترى العذاب لو أن لي كرة) أي رجعة، (فأكون) نصب على جواب التمنى، وإن شئت كان معطوفا على " كرة " لان معناه أن أك ر، كما قال الشاعر (1): للبس عباءة وتقر عيني * أحب إلى من لبس الشفوف وأنشد الفراء: فمالك منها غير ذكرى وخشية * وتسأل عن ركبانها أين يمموا فنصب و (تسأل) على موضع الذكرى، لان معنى الكلام فمالك منها إلا أن تذكر، ومنه للبس عباءة وتقر، أي لان ألبس عباءة وتقر، وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بنى إسرائيل وجد رقعة، إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل لعيمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة، فقال: ولاى شئ أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمرى في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن، وقال (1) قائله ميسون بنت مجدل الكلبية (*).
[ 273 ]
قتادة: هؤلان أصناف، صنف منهم قال: " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ". وصنف منهم قال: " لو أن الله هداني لكنت من المتقين "، وقال آخر: " لو أن لى كرة فأكون من المحسنين " فقال الله تعالى ردا لكلامهم (بلى قد جاءتك آياتي) قال الزجاج: " بلى " جواب النفى وليس في الكلام لفظ النفى، ولكن معنى " لو أن الله هداني " ما هداني، وكأن هذا القائل قال ما هديت، فقيل، بلى قد بين لك طريق الهدي فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. " آياتي " أي القرآن، وقيل: عنى بالايات المعجزات، أي وضح الدليل فأنكرته وكذبته، (واستكبرت) أي تكبرت عن الايمان (وكنت من الكفافرين). وقال: " استكبرت وكنت " وهو خطاب الذكر، لان النفس تقع على الذكر والانثى. يقال،: ثلاثة أنفس، وقال المبرد: تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد. وروى الربيع ابن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ " قد جاءتك آياتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ". وقرأ الاعمش " بلى قد جاءته آياتي " وهذا يدل على التذكر - والربيع ابن أنس لم يلحق أم سلمة إلا أن القراءة جائزة، لان النفس تقع للمذكر والمؤنث. وقد أنكر هذه القراءة بعضهم وقال: يجب إذا كسر التاء أن تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم، إلا تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم، ألا ترى أن قبله، " أن تقول نفس: ثم قال: " وإن كنت لمن الساخرين " ولم يقل من السواخر ولا من الساخرات، والتقدير في العربية على كسر التاء " واستكبرت وكنت " من الجمع الساخرين أو من الناس الساخرين أو من القوم الساخرين. قوله تعالى: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60) وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61) الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل (62) له مقاليد السموات والارض والذين كفروا بايات الله اولئك هم الخاسرون (63) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون
[ 274 ]
قوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) أي مما أحاط بهم من غضب الله ونقمته، وقال الاخفش: " ترى " غير عامل في قوله: وجوههم مسودة: إنما هو ابتداء وخبر، الزمخشري: جملة في موضع الحال إن كان " ترى " من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب، (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال عليه السلام: " سفه الحق وغمص الناس " أي اختقارهم، وقد مضى في " البقرة " (1) وغيرها، وفى حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم " يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم ". قوله تعالى: (وينجى الله الذين اتقوا) وقرئ " وينجى " أي من الشرك والمعاصي. (بمفازتهم) على التوحيد قراءة العامة لانها مصدر، وقرأ الكوفيون " بمفازاتهم " وهو جائز كما تقول بسعاداتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الاية من حديث أبى هريرة، قال: " يحشر الله مع كل امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح فكلما كان رعب أو خوف قال له لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت بالمعنى به فإذا كثر ذلك عليه قال فما أحسنك فمن أنت فيقول أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلى فوالله لاحملنك ولادفعن عنك فهى التى قال الله " وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولاهم يحزنون ". (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل) أي حافظ وقائم به، وقد تقدم. قوله تعالى: (له مقاليد السموات والارض واحدها مقليد. وقيل: مقلاد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد والمقاليد المفاتيح عن ابن عباس، وغيره، وقال السدى: خزائن السموات والارض، وقال غيره: خزائن السموات المطر وخزائن الارض النبات، وفيه لغة أخرى أقاليد وعليها يكون واحدها إقليد، قال الجوهرى: والاقليد المفتاح، والمقلد مفتاح كالمنجل ربما يقلد به الكلاء كما يقلد القت إذا جعل حبالا، أي يقتل والجمع المقاليد، وأقلد البحر على خلق كثير أي غرقهم كأنه أغلق عليهم، وخرج البيهقى عن ابن عمر أن عثمان بن (1) راجع ج 1 ص 296 طبعة ثانية أو ثالثة (*).
[ 275 ]
عفان رضى الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: " له مقاليد السموات والارض " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما سألني عنها أحد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده استغفر الله ولا حول ولا قوة إل بالله العلى العظيم هو الاول والاخر والظاهر والباطن يحيى ويميت بيده الخير وهو على كل شئ قدير " ذكره الثعلبي في تفسيره، وزاد من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله ست خصال: أولها يحرس من إبليس، والثانية يحضره اثنا عشر ألف ملك، والثالثة يعطى قنطارا من الاجر، والرابعة ترفع له درجة، والخامسة يزوجه الله من الحور العين.، والسادسة يكون له من الاجر كمن قرأ القرآن والتوراة والانجيل والزبور، وله أيضا من الاجر كمن حج واعتمر فقبلت حجته وعمرته. فإن مات من ليلته مات شهيدا، وروى الحارث عن على قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد فقال: " يا على لقد سألت عن عظيم المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قولة ألا بالله الاول والاخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير " من قالها عشرا إذا أصبح، وعشرا إذا أمسى أعطاه الله خصالا ستا أولها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان، والثانية يعطى قنطارا في الجنة هو أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة ترفع له درجة لا ينالها إلا الابرار، والرابعة يزوجه الله من الحور العين، والخامسة يشهده اثنا عشر ألف ملك يكتبونها له في رق منشور ويشهدون له بها يوم القيامة والسادسة يكون له من الاجر كأنما قرأ التوراة والانجيل والزبور والفرقان، وكمن حج واعتمر فقبل الله حجته وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أو شهره طبع بطابع الشهداء وقيل: المقاليد الطاعة يقال ألقى إلى فلان بالمقاليد أي أطاعه فيما يأمره، فمعنى الاية له طاعة من في السموات والارض. قوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله) أي بالقرآن والحجج والدلالات. (أولئك هم الخاسرون) تقدم.
[ 276 ]
قوله تعالى: قل أفغير الله تأمروني أعبد) وذلك حين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الاصنام وقالوا هو دين آبائك، و " غير " نصب ب " أعبده " على تقدير أعبد غير الله فيما تأمرونني، ويجوز أن ينتصب ب " تأمروني " على حذف حرف الجز، التقدير: أتأمروني بغير الله أن أعبد، لان أن مقدرة وأن والفعل مصدر، وهى بدل من غير، التقدير: أتأمروني بعبادة غير الله، وقرأ نافع " تأمروني " بنون واحدة مخففة وفتح الياء، وقرأ ابن عامر " تأمرونني، بنونين مخففتين على الاصل. الباقون بنون واحدة مشددة على الادغام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لانها وقعت في مصحف عثمان بنون واحدة، وقرأ نافع على حذف النون الثانية وإنما كانت المحذوفة الثانية، لان التكرير والتثقيل يقع بها، وأيضا حذف الاولى لا يجوز، لانها دلالة الرفع، وقد مضى في " الانعام " (1) بيانه عند قوله تعالى: " أتحاجوني ". " أعبد " أي أن أعبد فلما حذف " أن " رفع، قاله الكسائي، ومنه قول الشاعر: * إلا أيهذا الزاجري أحضر الوغي (2) * والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ " أعبد " بالنصب. قوله تعالى: ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66). قوله تعالى: (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت) قيل: إن في الكلام تقديما وتأخيرا، والقدير: لقد أوحى إليك لئن أشركت وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك، وقيل: هو على بابه، قال مقاتل: أي أوحى إليك وإلى الانبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف، ثم قال: " لئن أشركت " يا محمد (ليحبطن عملك) وهو خطاب للنبي راجع ج 7 ص 29 طبعة أولى أو ثانية. (2) البيت من معلقة طرفة وتمامه: * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى * (*).
[ 277 ]
صلى الله عليه وسلم خاصة، وقيل: الخطاب له والمراد أمته، إذ قد علم الله إنه لا يشرك ولا يقع منه إشراك، وإلا حباط الابطال والفساد، قال القشيري: فمن أرتد لم تنفعه طاعاته السابقة ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر، ولهذا قال: " من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " فالمطلق ها هنا محمول على المقيد، ولهذا قلنا من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الاسلام لا يجب عليه إعادة الحج. قلت: هذا مذهب الشافعي، وعند مالك تجب عليه الاعادة وقد مضى في " البقرة " (1) بيان هذا مستوفى. قوله تعالى: (بل الله فاعبد) النحاس: في كتابي عن أبى إسحق لفظ اسم الله عزوجل منصوب ب اعبد " قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين، قال النحاس: وقال الفراء يكون منصوبا بإضمار فعل، وحكاه المهدوى عن الكسائي، فأما الفاء فقال: الزجاج: إنها للمجازاة، وقال الاخفش: هي زائدة، وقال ابن عباس: فاعبد: أي فوحد، وقال غيره: بل الله: فأطع (وكن من الشاكرين) لنعمة بخلاف المشركين: قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويت بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67) ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه اخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره) قال المبرد: ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر، قال النحاس: والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذ عبدوا معه غيره وهو خالق الاشياء ومالكها، ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال: (والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات يمينه). ثم نزه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة (1) راجع ج 3 ص 48 طبعة أولى أو ثانية (*).
[ 278 ]
فقال: (سبحانه وتعالى عما يشركون). وفى الترمذي عن عبد الله قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: " وما قدروا الله حق قدره ". قال: هذا حديث حسن صحيح. وفى البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله الارض يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الارض ". وفى الترمذي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: " والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه " قالت: قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال: " على جسر جهنم " في رواية " على الصراط يا عائشة " قال: حديث حسن صحيح، وقوله: " والارض جميعا قبضته " ويقبض الله الارض " عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته، يقال ما فلان إلا في قبضتي، بمعنى ما فلان إلا في قدرتي، والناس يقولون الاشياء في قبضته يريدون في ملكه وقدرته، وقد يكون معنى القبض والطى إفناء الشئ وإذهابه فقوله جل وعز: " والارض جميعا قبضته " يحتمل أن يكون المراد به والارض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة، والمراد بالارض الارضون السبع، يشهد لذلك شاهدان قوله: " والارض جميعا " ولان الموضع موضع تفخيم وهو مقتض للمبالغة، وقوله: " والسموات مطويات بيمينه " ليس يريد به طيا بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب، يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره، وانطوى عنا دهر بمعنى المضى والذهاب، واليمين في كلام العرب قد تون بمعنى القدرة والملك، ومنه قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " يريد بن الملك، وقال: " لاخذنا منه باليمين " أي بالقوة والقدرة أي لاخذنا قوته وقدرته، قال الفراء والمبرد: اليمين القوة والقدرة، وأنشداء: إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين (1) قائله الحطيئة، وقيل هو للشماخ (*).
[ 279 ]
وقال آخر: ولما رأيت الشمس أشرق نورها * تناولت منها حاجتي بيمين (1) قتلت شنيفا ثم فاران بعده * وكان على الايات غير أمين وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شئ أيضا، لان الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال: " والامر يومئذ لله " وقال: " مالك يوم الدين " حسب ما تقدم في " الفاتحة " (2) ولذلك قال في الحديث: " ثم يقول أنا الملك أين ملوك الارض " وقد زدنا هذا الباب في " التذكرة " بيانا، وتكلمنا على ذكر الشمال في حديث ابن عمر، قوله: " ثم يطوى الارض بشماله ". قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) بين ما يكون بعد قبض الارض وطى السماء وهو النفخ في الصور، وإنما هما نفختان، يموت الخلق في الاولى منهما ويحيون في الثانية. وقد مضى الكلام في هذا في " النمل " (3) و " الانعام " (4) أيضا، والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام، وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن صاحبي الصور بأيديهما - أو في أيديهما - قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران " خرجه ابن ماجه في السنن، وفى كتاب أبى داود عن أبى سعيد الخدرى قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور، وقال: " عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل " واختلف في المستثنى من هم ؟ فقيل: هم الشهداء متقلدين أسيافهم حول العرش. روى مرفوعا من حديث أبى هريرة فيما ذكر القشيري، ومن حديث عبد الله بن عمر فيما ذكر الثعلبي، وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام. وروى من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا " ونفخ في الصور فصعق من (1) كذا في الاصول ولم نعثر على هذين اللبيتين فيما لدينا من المراجع. (2) راجع ج 1 ص 142 طبعة ثانية أو ثالثة. (3) راجع ج 13 ص 239 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (4) راجع ج ط ص 20 طبعة أولى أو ثانية (*).
[ 280 ]
في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله " فقالوا: يا نبي الله من هم الذين استثنى الله تعالى ؟ قال: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول الله لملك الموت يا ملك الموت من بقى من خلقي وهو أعلم فيقول يا رب بقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله تعالى خذ نفس إسرافيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقى فيقول تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والاكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لابد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربى تبارك وتعاليت يا ذا الجلال والاكرام " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الظرب (1) من الظراب " ذكره الثعلبي، وذكره النحاس أيضا من حديث محمد بن إسحق، عن يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز: " فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله " قال: جبرئيل وميكائيل وحملة العرش وملك الموت وإسرافيل " وفى هذا الحديث: " إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام " وحديث أبى هريرة في الشهداء أصح على ما تقدم في " النمل " (2)، وقال الضحاك: هو رضوان والحور ومالك والزبانية. وقيل: عقارب أهل النار وحياتها. وقال الحسن: هو الله الواحد القهار وما يدع أحد من أهل السماء والارض إلا أذاقه الموت. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه، وقيل: الاستثناء في قوله: " إلا من شاء الله " يرجع إلى من مات قبل النفخة الاولى، أي فيموت من في السموات والارض إلا من سبق موته، لانهم كانوا قد ماتوا، وفى الصحيحين وابن ماجه واللفظ له عن أبى هريرة قال قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من الانصار يده فلطمه، قال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) الظرب ككتف الجبل الصغير والجمع ظراب، وقد يجمع في القلة على أظرب. (2) راجع ج 13 ص 241 طبعة أولى أو ثانية (*).
[ 281 ]
فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قال الله عزوجل " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدرى أرفع رأسه قبلى أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى كذب " وخرجه الترمذي أيضا وقال فيه: حديث حسن صحيح، قال القشيرى: ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاء قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله، فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة، ويجوز أن تكون بالموت، ولا يبعد أن تكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوزه العقل، والامر في وقوعه موقوف على خبر صدق قلت: جاء في بعض طرق أبى هريرة أنه عليه السلام قال: " لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش (1) فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق قبلى أم كان ممن استثنى الله " خرجه مسلم، ونحوه عن أبى سعيد الخدرى، والافاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة، والله أعلم. قوله تعالى: " فإذا قيام ينظرون " أي فإذا الاموات من أهل الارض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون وقيل: قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذى وعدوا به، وقيل: هذا النظر بمعنى الانتظار، أي ينتظرون ما يفعل بهم، وأجاز الكسائي قياما بالنصب، كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسا. قوله تعالى: وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجائ بالنبين والشدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70) باطش بجانب العرش: أي متعلق به بقوة (*).
[ 282 ]
قوله تعالى: (وأشرقت الارض بنور ربها) إشراقها إضاءتها، يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وشرقت إذا طلعت. ومعنى " بنور ربها " بعدل ربها، قاله الحسن وغيره، وقال الضحاك: بحكم ربها، والمعنى واحد: أي أنارت وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات والعدل نور. وقيل: إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الارض فتشرق الارض به، وقال ابن عباس: النور المذكور هاهنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضئ به الارض، وروى أن الارض يومئذ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين يأتي لفصل القضاء. والمعنى أنها أشرقت بنور خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه على حد إضافة الملك إلى المالك. وقيل: إنه اليوم الذى يقضى فيه بين خلقه، لانه نهار لاليل معه. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير " وأشرقت الارض " على ما لم يسم فاعله وهى قراءة على التفسير، وقد ضل قوم هاهنا فتوهما أن الله عزوجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن (مشابهة) (1) المحسوسات، بل هو منور السموات والارض، فمنه كل نور خلقا وإنشاء. وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: " وأشرقت الأرض بنور ربها " يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح " تنظرون إلى الله عز وجل لا تضامون في رؤيت " وهو يروى على أربعة أوجه: لا تضامون ولا تضارون ولا تضامون ولا تضارون، فمعنى " لا تضام، ون " لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك. و " لا تضار، ون " لا يلحقكم ضير. و " لا تضامون " لا ينضم بعضكم إلى بعض ليسأله أن يريه. و (لا تضار، ون) لا يخالف بعضكم بعضا. يقال: ضاره مضارة وضرارا أي خالفه. " قوله تعالى: " ووضع الكتاب " قال لابن عباس: يريد اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يريد الكتاب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. " وجئ بالنبين " أي جئ بهم فسألهم عما أجابتهم به أممهم. " والشهداء " الذين شهدوا على الأمم من أمة (1) في الأصول: مبا ينه المحسوسات وهو تحريف. (*)
[ 283 ]
محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " [ البقرة: 143 وقيل: المراد بالشهداء الذي استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله، قاله السدي. قال ابن زيد: هم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. قال الله تعالى: " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " [ ق: 21 ] فالسائق يسوقها إلى الحساب والشهيد يشهد عليها، وهو الملك الموكل بالإنسان على ما يأتي بيانه في [ ق ]. " وقضى بينهم بالحق " أي بالصدق والعدل. " وهم لا يظلمون " قال سعيد بن جبير: لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم. " ووفيت كل نفس ما عملت " من خير أو شر. " وهم أعلم بما يفعلون " في الدنيا ولا حاجة به عز وجل إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك فتشهد الكتب، إلزاما للحجة. قوله تعالى: وسيق الذين كفروا الى جهنمزمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوبها وقال لهم خزنتها ألم ياتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايت ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكم حقت كلمة العذاب على الكفرين قيل ادخلوا ابوب جهنم خلدين فيها فبئس مثوى المتكبرين قوله تعالى: " وسييق الذين كفروا الى جهنم زمرا " هذا بيان توفية كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار والمؤمن إلى الجنة. والزمر: الجماعات واحدتها زمرة كظلمة وغرفة. وقال الأخفش وأبو عبيدة: " زمرا " جماعات متفرقة بعضها إثر بعض. قال الشاعر: / ش وترى الناس إلى منزله / وزمرا تنتابه بعد زمر / ش وقال آخر: / ش حتى احزألت / وز مر بعد زمر / ش (1) آية 21 من السورة المذكورة. (*)
[ 284 ]
وقيل: دفعا وزجرا بصوت كصوت المزمار. " حتى إذا جاءوا فتحت أبوابها " جواب إذا، وهي سبعة أبواب. وقد مضى في " الحجر ". " وقال لهم خزنتها " واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، " يقولون لهم تقريعا وتوبيخا. " ألم يأتكم رسل منكم " يتلون عليكم آيات ربكم " أي الكتب المنزلة على الأنبياء. " وينذرونكم " أي يخوفونكم " لقاء يومكم هذا قالوا بلى " أي قد جاءتنا، وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " وهي قوله تعالى: " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " [ السجدة: 13 ]. " قيل ادخلوا أبواب جهنم " أي يقال لهم ادخلوا جهنم. وقد مضى الكلام في أبوابها. قال وهب: تستقبلهم الزبانية بمقامع من نار فيدفعونهم بمقامعهم، فإنه ليقع في الدفعة الواحدة إلى النار بعدد ربيعة ومضر. " فبئس مثوى المتكبرين " تقدم بيانه. قوله تعالى: وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى إذا جاءوا وفتحت أبوبها وقال لهم خزنتها سلم عليكم طبتم فادخلوها خلدين وقالوا الحمد الله الذى صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوا من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العملين وترى الملئكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمدالله رب العلمين قوله تعالى: " وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا " يعني من الشهداء والزهاد والعلماء والقراء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته. وقال في حق الفريقين " وسيق " بلفظ واحد، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالأسارى والخارجين (1) راجع ج 10 ص 30 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 10 ص 100 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 285 ]
على السلطان إذا سيقواإلى حبس أو قتل، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين. " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " قيل: الواو هنا للعطف عطف على جملة والجواب محذوف. قال المبرد: أي سعدوا وفتحت، وحذف الجواب بليغ في كلام العرب. وأنشد: / ش فلو أنها نفس تموت جميعة / وولكنها نفس تساقط أنفسا / ش فحذف جواب لو والتقدير لكان أروح. وقال الزجاج: " حتى إذا جاءوها " دخلوها وهو قريب من الأول. وقيل: الواو زائدة. قال الكوفيون وهو خطأ عند البصريين. وقد قيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى، والتقدير حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة، بدليل قوله: " جنات عدن مفتحة لهم الأبواب " [ ص: 50 ] وحذف الواو في قصة أهل النار، لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا لهم. ذكره المهدوي وحكى معناه النحاس قبله. قال النحاس: فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول، فقد تكلم فيه بعض أهل العلم بقول لا أعلم أنه سبقه إليه أحد، وهو أنه لما قال الله عز وجل في أهل النار: " حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها " دل بهذا على أنها كانت مغلقة ولما قال في أهل الجنة: " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " دل بهذا على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيئوها، والله أعلم. وقيل: إنها واو الثمانية. وذلك من عادة قريش أنهم يعدون من الواحد فيقولون خمسة ستة سبعة وثمانية، فإذا بلغوا السبعة قالوا وثمانية. قاله أبو بكر بن عياش. قال الله تعالى: " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام " [ الحاقة: 7 ] وقال: " التائبون العابدون " [ التوبة: 112 ] ثم قال في الثامن: " والناهون عن المنكر " [ التوبة: 112 ] وقال: " ويقولون سبعة وثامنهم " [ الكهف: 22 ] وقال " ثيبات وأبكارا " [ التحريم: 5 ] وقد مضى القول في هذا في " براءة " مستوفى وفي " الكهف " أيضا. * (ه آم ش) * (1) البين لامرى القيس. " وتموت جميعة " بمعنى أنه مريض فنفسه لا تخرج بمرة ولكنها تموت شيئا بعد شئ وهو معنى تساط أنفسا. (2) راجع ج 8 ص 271 طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 10 ص 382 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 286 ]
قلت: وقد استدل بهذا من قال إن أبواب الجنة ثمانية، وذكروا حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ الوضوء - ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " خرجه مسلم وغيره. وقد خرج الترمذي حديث عمر هذا وقال فيه: " فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة " بزيادة من وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التذكرة وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا، وذكر نا هناك عظم أبوابها وسعتها حسب ما ورد في الحديث من ذلك، فمن أراده وقف عليه هناك. " وقال لهم خزنتها " قيل: الواو ملغاة تقديره حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم " أي في الدنيا. قال مجاهد: بطاعة الله. وقيل: بالعمل الصالح. حكاه النقاش والمعنى واحد. وقال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه: " سلام عليكم " بمعنى التحية " طبتم فادخلوها خالدين ". قلت: خرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ". وحكى النقاش: إن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم وذلك قوله تعالى: " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " [ الإنسان: 21 ] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم فعندها يقول لهم خزنتها: " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " وهذا يروى معناه عن علي رضي الله عنه. " وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده " أي إذا دخلوا الجنة (1) يبلغ الوضوء: يوصل الوضوء الى مواضعه، الى مواضعه فالوضوء. فيه مفتوح الواو. ومعنى يسبع الوضوء يكمله على الوجه المسنون، فالوضوء فيه مضموم الواو. (هامش مسلم). (*)
[ 287 ]
قالوا هذا. " وأورثنا الارض " أي أرض الجنة قيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت تكون لأهل النار لو كانوا مؤمنين، قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين وقيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير. " فنعم أجر العاملين " قيل: هو من قولهم أي نعم الثواب هذا. وقيل: هو من قول الله تعالى، أي نعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتهم. قوله تعالى: " وترى الملائكة " يا محمد " حافين " أي محدقين " من حول العرش " في ذلك اليوم " يسبحون بحمد ربهم " متلذذين بذلك لا متعبدين به أي يصلون حول العرش شكرا لربهم. والحافون أخذ من حنافات الشى ونواحيه. قال الاخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم الاسم الا مجتمعين. ودخلت " من " على " حول " لانه ظرف والفعل يتعدى الى الظرف بحرف وبغير حرف. وقال الاخفش: " من " زائده أي حافين حول العرش. وهو كقولك: ما جاءني من أحد، فمن توكيد. الثعلبي: والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح وتحذفها أحيانا، فيقولون: سبح بحمد ربك وسبح حمدالله قال الله تعالى: " سبح اسم ربك الاعلى " وقال " فسبح باسم ربك العظيم ". " وقضى بينهم بالحق " بين أهل الجنة والنار. وقيل: قضى بين النبينين الذين جئ بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق والعدل. " وقيل الحمدلله رب العالمين " أي يقول المؤمنون الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا. وقال قتادة في هذه الاية: افتتح الله أول الخلق بالحمد لله فقال: " وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين " فلزم الاقتداء به، والأخذ في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمته بحمده. وقيل: إن قول " الحمد لله رب العالمين " من قول الملائكة فعلى هذا يكون حمدهم لله تعالى على عدله وقضائه. وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة " الزمر " فتحرك المنبر مرتين. ثم تفسير سورة " الزمر "
[ 288 ]
تفسير سورة غافر وهي سورة المؤمن، وتسمى سورة الطول وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وعن الحسن إلا قوله: " وسبح بحمد ربك " [ غافر: 55 ] لأن الصلوات نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما " إن الذين يجادلون في آيات الله " [ غافر: 56 ] والتي بعدها. وهي خمس وثمانون آية. وفي مسند الدارمي قال: حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمين العرائس. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحواميم ديباج القرآن " وروي عن ابن مسعود مثله. وقال الجوهري وأبو عبيدة: وآل حم سور في القرآن. قال ابن مسعود: آل حم ديباج القرآن. قال الفراء: إنما هو كقولك آل فلان وآل فلان كأنه نسب السورة كلها إلى حم، قال الكميت: / ش وجدنا لكم في آل حاميم آية / وتأولها منا تقي ومعزب / ش قال أبو عبيدة: هكذا رواها الأموي بالزاي، وكان أبو عمرو يرويها بالراء. فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب. وقال أبو عبيدة: الحواميم سور في القرآن على غير قياس، وأنشد / ش وبالحواميم التي قد سبغت / ش قال: والأولى أن تجمع بذوات حم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لكل شئ ثمرة وإن ثمرة القرآن ذوات حم هن روضا ت حسان مخصبات متجاورات فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب " ذكرهما الثعلبي. وقال أبو عبيد: وحدثني حجاج بن محمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال: رأى رجل سبع جوار حسان مزينات في النوم فقال لمن أنتن بارك الله فيكن فقلن نحن لمن قرأنا نحن الحواميم. (1) الاية التى ذكرها هي قوله تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى " يقول الشاعر: من تأول هذه الايه لم يسعه الا التشيع لال النب صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم، وإبدا. المودة. وتقى: ساكت عنه للتقية. ويروى: تقى معرب، كمكلم أي مبين لما في نفسه. (2) صدره: / شو بالطواسين التى قد ثلثت. / ش (*)
[ 289 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: " حم " تنزيل الكتب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا اله الا هو إليه المصير ما يجدل فئ ايت الله الا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلد قوله تعالى: " حم " اختلف في معناه، فقال عكرمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حم " اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك " قال ابن عباس: " حم " اسم الله الأعظم. وعنه: " الر " و " حم " و " ن " حروف الرحمن مقطعة. وعنه أيضا: اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وقال قتادة: إنه اسم من أسماء القرآن. مجاهد: فواتح السور. وقال عطاء الخراساني: الحاء افتتاح اسمه حميد وحنان وحليم وحكيم، والميم افتتاح اسمه ملك ومجيد ومنان ومتكبر ومصور، يدل عليه ما روى أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما " حم " فإنا لا نعرفها في لساننا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بدء أسماء وفواتح سور " وقال الضحاك والكسائي: معناه قضي ما هو كائن. كأنه أراد الإشارة إلى تهجي " حم "، لأنها تصير حم بضم الحاء وتشديد الميم، أي قضي ووقع. وقال كعب بن مالك: / ش فلما تلاقيناهم ودارت بنا الرحى / ووليس لأمر حمه الله مدفع / ش وعنه أيضا: إن المعنى حم أمر الله أي قرب، كما قال الشاعر: / ش قد حم يومي فسر قوم / وقوم بهم غفلة ونوم / ش ومنه سميت الحمى، لأنها تقرب من المنية. والمعنى المراد قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه كيوم بدر. وقيل: حروف هجاء، قال الجرمي: ولهذا تقرأ ساكنة الحروف
[ 290 ]
فخرجت مخرج التهجي وإذا سميت سورة بشئ من هذه الحروف أعربت، فتقول: قرأت " حم " فتنصب، وقال الشاعر: / ش يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا / وتلا حاميم قبل التقدم / ش وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: " حم " بفتح الميم على معنى اقرأ حم أو لالتقاء الساكنين. ابن أبي إسحاق وأبو السمال بكسرها. والإمالة والكسر للالتقاء الساكنين، أو على وجه القسم. وقرأ أبو جعفر بقطع الحاء من الميم. الباقون بالوصل. وكذلك في " حم. عسق ". وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بالإمالة في الحاء. وروي عن أبي عمرو بين اللفظين وهي قراءة نافع وأبي جعفر وشيبة. الباقون بالفتح مشبعا. قوله تعالى: " تنزيل الكتاب " ابتداء والخبر " من الله العزيز العليم ". ويجوز أن يكون " تنزيل " خبرا لمبتدإ محذوف، أي هذا " تنزيل الكتاب ". ويجوز أن يكون " حم " مبتدأ و " تنزيل " خبره والمعنى: أن القرآن أنزله الله وليس منقولا ولا مما يجوز أن يكذب به. قوله تعالى: " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " قال الفراء: جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة. وقال الزجاج: هي خفض على البدل. النحاس: وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن " غافر الذنب وقابل التوب " يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين ولا يجوز أن يكونا نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل، ويجوز النصب على الحال، فأما " شديد العقاب " فهو نكره ويكون خفضه على البدل. قال ابن عباس: " غافر الذنب " لمن قال: " لا إله إلا الله " " وقابل التوب " ممن قال: " لا إله إلا الله " " شديد العقاب " لمن لم يقل: " لا إله إلا الله ". وقال ثابت البناني: كنت إلى سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا تمر فيه الدواب، قال: فاستفتحت " حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " فمر علي رجل على دابة فلما قلت " غافر الذنب " قال: قل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، فلما قلت: " قابل التوب " قال: (1) قائله شريح بن أوفى العبسى - وقيل هو للاشتر النخعي. (*)
[ 291 ]
قل يا قابل التوب تقبل توبتي، فلما قلت: " شديد العقاب " قال: قل يا شديد العقاب اعف عني، فلما قلت: " ذي الطول " قال: قل يا ذا الطول طل علي بخير، فقمت إليه فأخذ ببصري، فالتفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا. وقال أهل الإشارة: " غافر الذنب " فضلا " وقابل التوب " وعدا " شديد العقاب " عدلا " لا إله إلا هو إليه المصير " فردا. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: " بسم الله الرحمن. حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. و " التوب " يجوز أن يكون مصدر تاب يتوب توبا، ويحتمل أن يكون جمع توبة نحو دومة ودوم وعزمة وعزم، ومنه قوله: / ش فيخبو ساعة ويهب ساعا / ش ويجوز أن يكون التوب بمعنى التوبة. قال أبو العباس: والذي يسبق إلى قلبي أن يكون مصدرا، أي يقبل هذا الفعل، كما تقول قالا قولا، وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات. " ذى الطول " على البدل وعلى النعت، لأنه معرفة. وأصل الطول الإنعام والفضل يقال منه: اللهم طل علينا أي انعم وتفضل. قال ابن عباس: " ذي الطول " ذي النعم. وقال مجاهد: ذي الغنى والسعة، ومنه قوله تعالى: " ومن لم يستطع منكم طولا " [ النساء: 25 ] أي غنى وسعة. وعن ابن عباس أيضا: " ذي الطول " ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله. وقال عكرمة: (1) قائله القطامى وصدره: / شو كنا كالحريق أصاب غابا / ش (*)
[ 292 ]
" ذي الطول " ذي المن. قال الجوهري: والطول بالفتح المن، يقال منه طال عليه وتطول عليه إذا امتن عليه. وقال محمد بن كعب: " ذي الطول " ذي التفضل، قال الماوردي: والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب. والتفضل إحسان غير مستحق. والطول مأخوذ من الطول كأنه طال بإنعامه على غيره. وقيل: لأنه طالت مدة إنعامه. " لا اله الا هو إليه المصير " أي المرجع. قوله تعالى: " ما يجادل في آيات الله الا الذين كفروا " سجل سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق، وإطفاء نور الله تعالى. وقد دل على ذلك في قوله تعالى: " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ". [ غافر: 5 ]. فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله. وقد مضى هذا المعنى في [ البقرة ] عند قوله تعالى: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " [ البقرة: 258 ] مستوفى. " فلا يغررك " وقرئ: " فلا يغرك " " تقلبهم " أي تصرفهم " في البلاد " فإني إن أمهلتهم لا أهملهم بل أعاقبهم. قال ابن عباس: يريد تجارتهم من مكة إلى الشام وإلى اليمن. وقيل: " لا يغررك " ما هم فيه من الخير والسعة في الرزق فإنه متاع قليل في الدنيا. وقال الزجاج: " لا يغررك " سلامتهم بعد كفرهم فإن عاقبتهم الهلاك. وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: قوله: " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا "، وقوله: " وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد " [ البقرة: 176 ]. قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل امة برسولهم لياخذوه وجدلوا بالبطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا
[ 293 ]
أنهم أصحب النار الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنت عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذريتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح " على تأنيث الجماعة أي كذبت الرسل. " والاحزاب من بعدهم " أي والأمم الذين تحزبوا عل أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود فمن بعدهم. " وهمت كل امة برسولهم لياخذوه " أي ليحبسوه ويعذبوه وقال قتادة والسدي: ليقتلوه. والأخذ يرد بمعنى الإهلاك، كقوله: " ثم أخذتهم فكيف كان نكير " [ الحج: 44 ]. والعرب تسمي الأسير الأخيذ، لأنه مأسور للقتل، وأنشد قطرب قول الشاعر: / ش فإما تأخذوني تقتلوني / وفكم من آخذ يهوى خلودي / ش وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان: أحدهما عند دعائه لهم. الثاني عند نزول العذاب بهم. " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " أي ليزيلوا. ومنه مكان دحض أي مزلقة، والباطل داحض، لأنه يزلق ويزل فلا يستقر. قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. " فأخذتهم " أي بالعذاب. " فكيف كان عقاب " أي عاقبة الأمم المكذبة. أي أليس وجدوه حقا. قوله تعالى: " وكذلك حقت " أي وجبت ولزمت، مأخوذ من الحق لأنه اللازم. " كلمة ربك " هذه قراءة العامة على التوحيد. وقرأ نافع وابن عامر: " كلمات " جمعا. (1) في تفسير السمين: / ش وكم من واحد يهوى خلودي / ش (*)
[ 294 ]
" على الذين كفروا أنهم " قال الأخفش: أي لأنهم وبأنهم. قال الزجاج: ويجوز إنهم بكسر الهمزة. " أصحاب النار " أي المعذبون بها وتم الكلام. ثم ابتدأ فقال: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا " ويروى: أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشراف الملائكة وأفضلهم. ففي الحديث: " أالله تبارك وتعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة ". ويقال: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوامه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، ورافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائة ألف صف، وقد وضعوا الإيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس: " العرش " بضم العين، ذكر جميعه الزمخشري رحمه الله. وقيل: اتصل هذا بذكر الكفار، لأن المعنى والله أعلم - " الذين يحملون العرش ومن حوله " ينزهون الله عز وجل عما يقوله الكفار " ويستغفرون للذين آمنوا " أي يسألون لهم المغفرة من الله تعالى. وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله عز وجل، وأمر ملائكة بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة. وروى ابن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام) ذكره البيهقي وقد مضى في " البقرة " في آية الكرسي عظم العرش وأنه أعظم المخلوقات. وروى ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن كعب الأحبار أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش قال: لن يخلق الله خلقا أعظم مني، فاهتز فطوقه الله بحية، للحية (1) راجع ج 3 ص 276 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 295 ]
سبعون ألف جناح، في الجناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان. يخرج من أفواهها في كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا وعدد الملائكة أجمعين، فالتوت الحية بالعرش، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية به. وقال مجاهد: بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة، وحجاب نور وحجاب ظلمة. " ربنا " أي يقولون " ربنا وسعت كل شى رحمة وعلما " أي وسعت رحمتك وعلمك كل شى فلما نقل الفعل عن الرحمة والعلم نصب على التفسير " فاغفر للذين تابوا " أي من الشرك والمعاصي " واتبعوا سبيلك " أي دين الاسلام " وقهم عذاب الجحيم " أي اصرفه عنهم حتى لا يصل إليهم. قال ابراهيم نخعى: كان أصحاب عبد الله يقولون الملائكة خير ن ابن الكواء هم يستغفرون لمن في الارض وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر. قال ابراهيم: وكانوا يقولون لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة. وقال مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان وتلا هذه الاية. وقال يحيى بن معاذ الرازي لاصحابه في هذه اليد: افهموها فما فيالعالم جنة أرجى منهات ان ملكا واحدا لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين. وقال خلف بن هشام البزاز القارى. كنت أقرأ على سليم بن عيسى فلما بلغت " ويستغفرون للذين آمنوا " بكى ثم قال: يا خلف ما أكرم المؤمن على الله نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له. قوله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن " يروى أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن. قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصديقون والشهداء وأئمة العدل. " التي وعدتهم " " التي " في محل نصب نعتا للجنات. " ومن صلح " " من " في محل نصب عطفا على الهاء والميم في قوله " وأدخلهم ". " ومن صلح " بالإيمان (1) هذه الخبر وأشباهه من الاسرائيليات التى يحشرها أهل القصص وليس مما يصح. (*)
[ 296 ]
" من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " وقد مضى في " الرعد " نظير هذه الآية. قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة، فيقول: يا رب أين أبي وجدي وأمي ؟ وأين ولدي وولد ولدي ؟ وأين زوجاتي ؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك، فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم، فيقال ادخلوهم الجنة. ثم تلا: " الذين يحملون العرش ومن حوله " إلى قوله: " ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ". ويقرب من هذه الآية قوله: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " [ الطور: 21 ]. قوله تعالى: " وقهم السيئات " قال قتادة: أي وقهم ما يسوءهم، وقيل: التقدير وقهم عذاب السيئات وهو أمر من وقاه الله يقيه وقاية بالكسر، أي حفظه. " ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته " أي بدخول الجنة " و ذلك هو الفوز العظيم " أي النجاة الكبيرة. قوله تعالى: إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون الى الايمن فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل الى خروج من سبيل ذلكم بانه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير قوله تعالى: إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم " قال الأخفش: " لمقت " هذه لام الابتداء وقعت بعد " ينادون " لأن معناه يقال لهم والنداء قول. وقال غيره: المعنى يقال لهم: " لمقت الله " إياكم في الدنيا " إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " " أكبر " من مقت بعضكم بعضا يوم القيامة، لأن بعضهم عادى بعضا ومقته يوم القيامة، فأذعنوا عند ذلك، وخضعوا وطلبوا الخروج من النار. وقال الكلبي: يقول كل إنسان من أهل النار لنفسه مقتك يا نفس، فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله (1) راجع ج 9 ص 312 طبعة أولى أو ثانيه. (2) بل هو دعاء لانه من الخلق الى الخالق. (*)
[ 297 ]
إياكم إذ أنتم في الدنيا وقد بعث إليكم الرسل فلم تؤمنو أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون " لمقت الله " إياكم في الدنيا " إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " " أكبر من مقتكم أنفسكم " اليوم. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة: المعنى " لمقت الله " لكم " إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " " أكبر من مقتكم أنفسكم " إذ عاينتم النار. فإن قيل: كيف يصح أن يمقتوا أنفسهم ؟ ففيه وجهان: أحدهما أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت. الثاني أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى، وعلموا أن نفوسهم هي التي أبقتهم في المعاصي مقتوها. وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل النار لما يئسوا مما عند الخزنة وقال لهم مالك: " إنكم ماكثون " على ما يأتي. قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما قد ترون، فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا، كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا، فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم، ثم جزعوا فنادوا " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " [ إبراهيم: 21 ] أي من ملجأ، فقال إبليس عند ذلك: " إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان " [ إبراهيم: 22 ] إلى قوله: " ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي " [ إبراهيم: 22 ] يقول: بمغن عنكم شيئا " إني كفرت بما أشركتمون من قبل " [ إبراهيم: 22 ] فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم. قال: فنودوا " لمقت الله أكبر من مقتهم أنفسهم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون " إلى قوله: " فهل إلى خروج من سبيل " قال فرد عليهم: " ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير " ذكره ابن المبارك. قوله تعالى: " قالوا ربنا أمتنا اثنين " اختلف أهل التأويل في معنى قولهم: " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " فقال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا، ثم أحياهم للبعث والقيامة، فهاتان حياتان موتتان، وهو قوله تعالى: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " [ البقرة: 28 ]. وقال السدي: أميتوا في الدنيا ثم أحياهم في القبور للمسألة، ثم أميتوا ثم أحيوا في الآخرة. وإنما صار إلى هذا، لأن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على
[ 298 ]
النطفة. واستدل العلماء من هذا في إثبات سؤال القبر، ولو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة ؟ والروح عند من يقصر أحكام الآخرة على الأرواح لا تموت ولا تتغير ولا تفسد، وهو حي لنفسه لا يتطرق إليه موت ولا غشية ولا فناء. وقال ابن زيد في قوله: " ربنا أمتنا اثنتين... " الآية قال: خلقهم في ظهر آدم وأخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. وقد مضى هذا في " البقرة ". " فاعترفوا بذنوبنا " اعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم. " فهل إلى خروج من سبيل " أي هل نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعتك، نظيره: " هل إلى مرد من سبيل " [ الشورى: 44 ] وقوله: " فارجعنا نعمل صالحا " [ السجدة: 12 ] وقوله: " يا ليتنا نرد " [ الأنعام: 27 ] الآية. قوله تعالى: " ذلكم بانه إذا دعى الله وحده كفرتم " " ذلكم " في موضع رفع أي الأمر " ذلكم " أو " ذلكم " العذاب الذي أنتم فيه بكفركم. وفي الكلام متروك تقديره فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد. وذلك لأنكم " إذا دعي الله " أي وحد الله " وحده كفرتم " وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله. قال الثعلبي: وسمعت بعض العلماء يقول: " وإن يشرك به " بعد الرد إلى الدنيا لو كان به " تؤمنوا " تصدقوا المشرك، نظيره: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " " فالحكم لله العلى الكبير " عن أن تكون له صاحبة أو ولد. قوله تعالى: هو الذى يريكم ءايته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر الا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الذين ولو كره الكفرون رفيع الدرجت ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم برزون لا يحفى على الله منهم شى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ان الله سريع الحساب
[ 299 ]
قوله تعالى: " هو الذى يريكم آياته " أي دلائل توحيده وقدرته " وينزل لكم من السماء رزقا " جمع بين إظهار الآيات وإنزال الرزق، لأن بالآيات قوام الأبدان، وبالرزق قوام الأبدان. وهذه الآيات هي السموات والأرضون وما فيهما وما بينهما من الشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والبخار والأنهار والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا. " وما يتذكر " أي ما يتعظ بهذه الآيات فيوحد الله " إلا من ينيب " أي يرجع إلى طاعة الله. " فادعوا الله " أي اعبدوه " مخلصين له الدين " أي العبادة. وقيل: الطاعة. " و لو كره الكافرون " عبادة الله فلا تعبدوا أنتم غيره. قوله تعالى: " رفيع الدرجات ذو العرش " " ذو العرش " على إضمار مبتدأ. قال الأخفش: ويجوز نصبه على المدح. ومعنى " رفيع الدرجات " أي رفيع الصفات. وقال ابن عباس والكلبي وسعيد بن جبير: رفيع السموات السبع. وقال يحيى بن سلام: هو رفعة درجة أوليائه في الجنة ف " رفيع " على هذا بمعنى رافع فعيل بمعنى فاعل. وهو على القول الأول من صفات الذات، ومعناه الذي لا أرفع قد را منه، وهو المستحق لدرجات المدح والثناء، وهي أصنافها وأبوابها لا مستحق لها غيره قال الحليمي. وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى والحمد لله. " ذو العرش " أي خالقه ومالكه لا أنه محتاج إليه. وقيل: هو من قولهم: ثل عرش فلان أي زال ملكه وعزه، فهو سبحانه " ذو العرش " بمعنى ثبوت ملكه وسلطانه وقد بيناه في الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. " يلقى الروح " أي الوحي والنبوة " على من يشاء من عباده " وسمي ذلك روحا لأن الناس يحيون به، أي يحيون من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح. وقال ابن زيد: الروح القرآن، قال الله قوله تعالى: " رفيع الدرجات ذو العرش " " ذو العرش " على إضمار مبتدا. قال الاخفش: ويجوز نصبه على المدح. ومعنى " رفيع الدرجات " أي رفيع الصفات. وقال ابن عباس والكلبي وسعيد بك جبير: رفيع السموات السبع. وقال يحيى بن سلام: هو رفعة درجة أوليائه في الجنة ف " رفيع " على هذا بمعنى رافع فعيل بمعنى فاعل. وهو على القول الاول من صفات الذات، ومعناه الذى لا أرفع قدرامنه، وهو المستحق لدرجات المدح والثناء وهى أصنافها وأبوابها لا مستحق لها غيره قاله الحليمى. وقد ذكرناه في " الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى " والحمد لله. " ذو العرش " أي خالقه ومالكه لا أنه محتاج إليه. وقيل: هو من قولهم ثل عرش فلان أي زال ملكه وعزه فهو سبحانه " ذوالعرش " بمعنى ثبوت ملكه وسلطانه وقد بيناه في " الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى " " يلقى الروح " أي الوحى والنبوة " على من يشاء من عباده " وسمى ذلك روحا لان الناس يحيون بها، أي يحيون من موت الكفر كما تحيا الابدان بالارواح. وقال ابن زيد: الروح القرآن، قال الله تعلى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " وقيل " الروح جبرئيل، قال الله تعالى " نزل به الروح الامين على قلبك " وقال: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ". " من أمره " أي من قوله. وقيل: من قضائه. وقيل: " من " بمعنى الباء أي بأمره. " على من يشاء من عباده " وهم الانبياء يشاء هو أن يكونوا أنبياء وليس لانحد فيهم مشيئة.
[ 300 ]
" لينذر يوم التلاق " أي إنما يبعث الرسول لإنذار يوم البعث. فقوله: " لينذر " يرجع إلى الرسول. وقيل: لينذر الله ببعثه الرسل إلى الخلائق " يوم التلاق ". وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميقع " لتنذر " بالتاء خطابا للنبي عليه السلام. " يوم التلاق " قال ابن عباس وقتاده: يوم تلتقي أهل السماء وأهل الأرض. وقال قتادة أيضا وأبو العالية ومقاتل: يلتقي فيه الخلق والخالق. وقيل: العابدون والمعبودون. وقيل: الظالم والمظلوم. وقيل: يلقى كل إنسان جزاء عمله. وقيل: يلتقي الأولون والآخرون على صعيد واحد، روي معناه عن ابن عباس. وكله صحيح المعنى. " يوم هم بارزون " يكون بدلا من يوم الأول. وقيل: " هم " في موضع رفع بالابتداء و " بارزون " خبره والجملة في موضع خفض بالإضافة، فلذلك حذف التنوين من " يوم " وإنما يكون هذا عند سيبويه إذا كان الظرف بمعنى إذ، تقول لقيتك يوم زيد أمير. فإن كان بمعنى إذا لم يجز نحو أنا ألقاك يوم زيد أمير. ومعنى: " بارزون " خارجون من قبورهم لا يسترهم شئ، لأن الأرض يومئذ قاع صفصف لا عوج فيها ولا أمتا على ما تقدم في " طه " بيانه. " لا يخفى على الله منهم شئ " قيل: إن هذا هو العامل في " يوم هم بارزون " أي لا يخفى عليه شئ منهم ومن أعمالهم " يوم هم بارزون ". " لمن الملك اليوم " وذلك عند فناء الخلق. وقال الحسن: هو السائل تعالى وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه سبحانه فيقول: " لله الواحد القهار ". النحاس: وأصح ما قيل فيه ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله جل وعز عليها، فيؤمر مناد ينادي " لمن الملك اليوم " فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم " لله الواحد القهار " فيقول المؤمنون هذا الجواب " سرورا وتلذذا، ويقوله الكافرون غما وانقيادا وخضوعا. فأما أن يكون هذا والخلق غير موجودين فبعيد، لأنه لا فائدة فيه، والقول صحيح عن ابن مسعود وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل. راجع ج 11 ص 246 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 301 ]
قلت: والقول الأول ظاهر جدا، لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوي المدعين وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه ومتكبر وملكه وانقطعت نسبهم ودعاويهم، ودل على هذا قوله الحق عند قبض الأرض والأرواح وطي السماء: " أنا الملك أين ملوك الأرض " كما تقدم في حديث أبي هريرة وفي حديث ابن عمر، ثم يطوي الأرض بشماله والسموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وعنه قوله سبحانه: " لمن الملك اليوم " هو انقطاع زمن الدنيا وبعده يكون البعث والنشر. قال محمد بن كعب قوله سبحانه: " لمن الملك اليوم " يكون بين النفختين حين فني الخلق وبقي الخالق فلا يرى غير نفسه مالكا ولا مملوكا فيقول: " لمن الملك اليوم " فلا يجيبه أحد، لأن الخلق أموات فيجيب نفسه فيقول: " لله الواحد القهار " لأنه بقي وحده وقهر خلقه. وقيل: إنه ينادي مناد فيقول: " لمن الملك اليوم " فيجيبه أهل الجنة: " لله الواحد القهار " فالله أعلم. ذكره الزمخشري. قوله تعالى: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " أي يقال لهم إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " من خير أو شر. " لا ظلم اليوم " أي لا ينقص أحد شيئا مما عمله. " إنن الله سريع الحساب " أي لا يحتاج إلى تفكر وعقد يد كما يفعله الحساب، لأنه العالم الذي لا يعزب عن علمه شئ فلا يؤخر جزاء أحد للاشتغال بغيره، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم كذلك في ساعة واحدة. وقد مضى هذا المعنى في " البقرة ". وفي الخبر: ولا ينتصف النهار حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. قوله تعالى: وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كظمين ما للظلمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه (1) راجع ج 2 ص 435 طبعة ثانيه. (*)
[ 302 ]
لا يقضون بشى ان الله هو السميع البصير أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا في الارض فاخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بانهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينت فكفروا فاخذهم الله إنه قوى شديد العقاب قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الازفة " أي يوم القيامة. سميت بذلك لأنها قريبة، إذ كل ما هو آت قريب. وأزف فلان أي قرب يأزف أزفا، قال النابغة: / ش أزف الترحل غير أن ركابنا / ولما تزبر حالنا وكأن قد / ش أي قرب. ونظير هذه الآية: " أزفت الآزفة " [ النجم: 57 ] أي قربت الساعة. وكان بعضهم يتمثل ويقول: / ش أزف الرحيل وليس لي من زاد غير / والذنوب لشقوتي ونكادي / ش " إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " على الحال وهو محمول على المعنى. قال الزجاج: المعنى إذ قلوب الناس " لدى الحناجر " في حال كظمهم. وأجاز الفراء أن يكون التقدير " وأنذرهم " كاظمين. وأجاز رفع " كاظمين " على أنه خبر للقلوب. وقال: المعنى إذ هم كاظمون. وقال الكسائي: يجوز رفع " كاظمين " على الابتداء. وقد قيل: إن المراد ب " يوم الآزفة " يوم حضور المنية، قاله قطرب. وكذا " إذ القلوب لدى الحناجر " عند حضور المنية. والأول أظهر. وقال قتادة: وقعت في الحناجر المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة كما قال: " وأفئدتهم هواء ". وقيل: هذا إخبار عن نهاية الجزع، كما قال: " وبلغت القلوب الحناجر " وأضيف اليوم إلى " الآزفة " على تقدير يوم القيامة " الآزفة " أو يوم المجادلة " الآزفة ". وعند الكوفيين هو من باب إضافة الشئ إلى (1) آية 57 من سورة النجم. (*)
[ 303 ]
نفسه مثل مسجد الجامع وصلاة الأولى. " ما للظالمين من حميم " أي من قريب ينفع " ولا شفيع يطاع " فيشفع فيهم. قوله تعالى: " يعلم خائنة الاعين " قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير أي يعلم الأعين الخائنة وقال ابن عباس: هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها. وعنه: هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها. وقال مجاهد هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه. وقال قتادة: هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى. وقال الضحاك: هي قول الإنسان ما رأيت وقد رأى أو رأيت وما رأى. وقال السدي: إنها الرمز بالعين. وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة. وقال الفراء: " خائنة الأعين " النظرة الثانية " وما تخفي الصدور " النظرة الأولى. وقال ابن عباس: " وما تخفي الصدور " أي هل يزني بها لو خلا بها أو لا. وقيل: " وما تخفي الصدور " تكنه وتضمره. ولما جئ بعبدالله بن أبي سرح إلى رسول الله لى الله عليه وسلم، بعد ما اطمأن أهل مكة وطلب له الأمان عثمان رضي الله عنه، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: " نعم " فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: " ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه " فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال: " إن النبي لا تكون له خائنة أعين ". " والله يقضى بالحق " أي يجازي من غض بصره عن المحارم، ومن نظر إليها، ومن عزم على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها. " والذين يدعون من دونه " يعني الأوثان " لا يقضون بشى " لأنها لا تعلم شيئا ولا تقدر عليه ولا تملك. وقراءة العامة بالياء على الخبر عن الظالمين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ نافع وشيبة وهشام: " تدعون " بالتاء. " إن الله هو السميع البصير " " هو " زائدة فاصلة. ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء وما بعدها خبر والجملة خبر إن. (1) عبد الله بن أبى سرح: كان يكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين، فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة. راجع قصته في ج 7 ص 40 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 304 ]
قوله تعالى: " أولم يسيروا في الارض فينظروا " في موضع جزم عطف على " يسيروا " ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد. " كيف كان عاقبة " اسم كان والخبر في " كيف ". و " واق " في موضع خفض معطوف على اللفظ. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد، لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالة عليها وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في غير موضع فأغنى عن الإعادة. قوله تعالى: ولقد ارسلنا موسى بايتنا وسلطن مبين إلى فرعون وهمن وقرون فقالوا سحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكفرين إلا في ظلل وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد وقال موسى إنى عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب قوله تعالى: " ولقد أرسلما موسى باياتنا " وهي التسع الآيات المذكورة في قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " [ الإسراء: 101 ] وقد مضى تعيينها. " وسلطان مبين " أي بحجة واضحة بينة، وهو يذكر ومؤنث. وقيل: أراد بالسلطان التوراة. " إلى فرعون وهامان وقارون " خصهم بالذكر لأن مدار التدبير في عداوة موسى كان عليهم، ففرعون الملك وهامان الوزير وقارون صاحب الأموال والكنوز فجمعه الله معهما، لأن عمله في الكفر والتكذيب كأعمالهما. " فقالوا ساحر كذاب " لما عجزوا عن معارضته حملوا المعجزات على السحر. (1) راجع ج 9 ص 324 طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 10 ص 335 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 305 ]
قوله تعالى: " فلما جاءهم بالحق من عندنا " وهي المعجزة الظاهرة " قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه " قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم فيمتنع الإنسان من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيعتضدوا بالذكور من أولادهم. فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب. كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرجوا من مصر، فأغرقهم الله. وهذا معنى قوله تعالى: " وما كيد الكافرين الا في ضلال " أي في خسران وهلاك، وان الناس لا يمتنعون من الايمان وإن فعل بهم مثل هذا فكيده يذهب باطلا. قوله تعالى: " وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه " أقتل " جزم، لأنه جواب الأمر " وليدع " جزم، لأنه أمرو " ذروني " ليس بمجزوم وإن كان أمرا ولكن لفظه لفظ المجزوم وهو مبني. وقيل: هذا يدل على أنه قيل لفرعون: إنا نخاف أن يدعو عليك فيجاب، فقال: " وليدع ربه " أي لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى. " إنى أخاف أن يبدل دينكم " أي عبادتكم لي إلى عبادة ربه " أو أن يظهر في الارض الفساد " إن لم يبدل دينكم فإنه يظهر في الأرض الفساد. أي يقع بين الناس بسببه الخلاف. وقراءة المدنيين وأبي عبد الرحمن السلمي وابن عامر وأبي عمرو: " وأن يظهر في الأرض الفساد " وقراءة الكوفيين " أو أن يظهر " بفتح الياء " الفساد " بالرفع وكذلك هي في مصاحف الكوفيين: " أو " بألف وإليه يذهب أبو عبيد، قال: لأن فيه زيادة حرف وفيه فصل، ولأن " أو " تكون بمعنى الواو. النحاس: وهذا عند حذاق النحويين لا يجوز أن تكون بمعنى الواو، لأن في ذلك بطلان المعاني، ولو جاز أن تكون بمعنى الواو لما احتيج إلى هذا ها هنا، لأن معنى الواو " إني أخاف " الأمرين جميعا ومعنى " أو " لأحد الأمرين أي " إني أخاف أن يبدل دينكم " فإن أعوزه ذلك أظهر في الأرض الفساد. قوله تعالى: " وقال موسى إنى عذت بربي وربكم " لما هدده فرعون بالقتل استعاذ موسى بالله " من كل متكبر " أي متعظم عن الإيمان بالله، وصفته أنه " لا يؤمن بيوم الحساب ".
[ 306 ]
قوله تعالى: وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمنه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاء كم بالبينت من ربكم وإن يك كذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب (28) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى " وقال رجل مؤمن " ذكر بعض المفسرين: أن اسم هذا الرجل حبيب. وقيل: شمعان بالشين المعجمة. قال السهيلي: وهو أصح ما قيل فيه. وفي تاريخ الطبري رحمه الله: اسمه خبرك. وقيل: حزقيل. ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء. الزمخشري: واسمه سمعان أو حبيب. وقيل: خربيل أو حزبيل. واختلف هل كان إسرائيليا أو قبطيا فقال الحسن وغيره: كان قبطيا. ويقال: إنه كان ابن عم فرعون، قاله السدي. قال: وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام، ولهذا قال: " من آل فرعون " وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى: " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى " [ القصص: 20 ] الآية. وهذا قول مقاتل. وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " [ القصص: 20 ]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم " وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا تعجب من مشركي قومك. وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون، فلهذا لم يتعرض له بسوء. وقيل: كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون، عن السدي أيضا. ففي الكلام على هذا تقديم (1) في هامش الطبري حبرك، وفي نسخة جبرك. (2) الزيادة أوردها الجمل في حاشيته عن القرطبى. (*)
[ 307 ]
ف " من " عنده متعلقة بمحذوف صفة لرجل، تأخير، والتقدير: وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون. أي من أهله وأقاربه. ومن جعله إسرائيليا ف " من " متعلقة ب " يكتم " في موضع المفعول الثاني ل " يكتم ". القشيري: ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه. قال الله تعالى: " ولا يكتمون الله حديثا " [ النساء: 42 ] وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول. الثانية - قوله تعالى: " أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله " أي لان يقول ومن أجل " أن يقول ربى الله " ومن أجل " أن يقول ربي الله " ف " أن " في موضع نصب بنزع الخافض. " وقد جاءكم بالبينات " يعنى الايات التسع " من ربكم وان يك كاذبا فعليه كذبه " ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه، ولكم تلطفا في الاستكفاف واستنزلا عن الاذى. ولو كان و " إن يكن " بالنون جاز ولكم حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه، ولانها نون الاعراب على قول أبى العباس. " وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم " أن إن لم يصبكم الا بعض الذى يعدكم به هلكتم. ومذهب أبى عبيدة أن معنى " بعض الذى يعدكم " كل الذى يعدكم، وأنشد قول لبيد: / ش تراك أمكنه إذا لم أرضها / وأو برتبط بعض النفوس حمامها / ش فبعض بمعنى كل لان البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ. وذكر الماوردى: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام، كما قال الشاعر: / ش قد يدرك المتانى بعض حاجته / ووقد يكون مع المتعجل الزلل / ش وقيل أيضا: قال ذلك لانه حذرهم أنواعا من العذاب كل نوع منها مهلك فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الانواع. وقيل وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الاخرة إن كفروا فالمعنى يصبكم أحد العذابين. وقيل: أي يصبكم هذا العذاب الذى يقوله في الدنيا (1) ويروى: أو يعتلق بدل يرتبط كما في اللسان وغيره. (2) هو عمر القطامى. (*)
[ 308 ]
وهو بعض الوعيد، ثم يترادف العذاب في الاخرة أيضا. وقيل: وعدهم العذاب إن كفروا والثواب ان آمنوا، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا. " إن الله لا يهدى من هو مسرف " على نفسه " كذاب " على ربه إشارة الى موسى ويكون هذا من قول المؤمن. وقيل: " مسرف " في عناده " كذاب " في ادعائه اشارة الى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى. الثالثه - قوله تعالى: " يكتم ايمانه " قال القاضى أبو بكر بن العربي: ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم ايمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمنا باعتقاده، وقد قال مالك: إن الرجل إذا نوى الكفر بقلبه كان كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه، وأما إذا نوى الايمان بقلبه فلا يكون مؤمنا بحال حتى يتلفظ بلسانه، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى، انما تمنعه من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الايمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله. الر ابعه - روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني باشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة، واذ أقبل عقبة بن أبى معيط، فاخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " لفظ البخاري. خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل هذا يجؤه وهذا يتلتله، فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا (1) وجاء يجؤه رجآ ضربه. والتلتلة التحريك والإقلاق والزعزمة. (*)
[ 309 ]
ويقول بأعلى صوته: ويلكم: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " والله إنه لرسول الله، فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ. فقال علي: والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، إن ذلك رجل كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل مال ودمه لله عز وجل. قلت: قول علي رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه، وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه. في نوادر الأصول أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها: ما أشد شئ رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: كان المشركون قعودا في المسجد، ويتذا كرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقول في آلهتهم، فبينا هم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شئ صدقهم، فقالوا: ألست تقول كذا في آلهتنا قال: " بلى " فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، إكرام إكرام. قوله تعالى: يقوم لكم الملك اليوم ظهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذئ امن يقوم إنى أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود
[ 310 ]
والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويقوم إنى أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد قوله تعالى. " يا قوم لكم الملك اليوم " هذا من قول مؤمن آل فرعون، وفي قوله " يا قوم " دليل على أنه قبطي، ولذلك أضافهم إلى نفسه فقال: " يا قوم " ليكونوا أقرب إلى قبول وعظه " لكم الملك " فأشكروا الله على ذلك. " ظاهرين في الأرض " أي غالبين وهو نصب على الحال أي في حال ظهوركم. والمراد بالأرض أرض مصر في قول السدي وغيره، كقوله: " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ". [ يوسف: 21 ] أي في أرض مصر. " فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " أي من عذاب الله تحذيرا لهم من نقمه إن كان موسى صادقا، فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور حجته فقال: " ما أريكم إلا ما أرى ". قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما أشير عليكم إلا ما أرى لنفسي. " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " في تكذيب موسى والإيمان بي. قوله تعالى: " وقال الذى آمن يا قوم " زادهم في الوعظ " إنى أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب " يعني أيام العذاب التي عذب فيها المتحزبون على الأنبياء المذكورين فيما بعد. قوله تعالى: " يا قوم إنى أخاف عليكم يوم التناد " زاد في الوعظ والتخويف وأفصح عن إيمانه، إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم بقوله الحق " فوقاه الله سيئات ما مكروا ". وقراءة العامة " التناد " بتخفيف الدال وهو يوم القيامة، قال أمية بن أبي الصلت: / ش وبث الخلق فيها إذ دحاها / وفهم سكانها حتى التناد / ش سمي بذلك لمناداة الناس بعضهم بعضا، فينادي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار: " أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة: " أن أفيضوا علينا من الماء " وينادي المنادى أيضا بالشقوة
[ 311 ]
والسعادة: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا. وهذا عند وزن الأعمال. وتنادي الملائكة أصحاب الجنة: " أن تلكمو الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " [ الأعراف: 43 ] وينادى حين يذبح الموت: يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت. وينادي كل قوم بإمامهم إلى غير ذلك من النداء. وقرأ الحسن وابن السميقع ويعقوب وابن كثير ومجاهد: " التناد " بإثبات الياء في الوصل والوقف على الأصل. وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة " يوم التناد " بتشديد الدال. قال بعض أهل العربية: هذا لحن، لأنه من ند يند إذا مر على وجهه هاربا، كما قال الشاعر: / ش وبرك هجود قد أثارت مخافتي / ونواديها أسعى بعضب مجرد / ش قال: فلا معنى لهذا في القيامة. قال أبو جعفر النحاس: وهذا غلط والقراءة بها حسنة على معنى يوم التنافر. قال الضحاك: ذلك إذا سمعوا زفير جهنم ندوا هربا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: " يوم التناد ". وقوله: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض " [ الرحمن: 33 ] الآية. وقوله: " والملك على أرجائها " [ الحاقة: 17 ] ذكره ابن المبارك بمعناه. قال: وأخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا عبد الجبار بن عبيدالله بن سلمان في قوله تعالى: " إني أخاف عليكم يوم التناد. يوم تولون مدبرين " ثم تستجيب لهم أعينهم بالدمع فيبكون حتى ينفد الدمع، ثم تستجيب لهم أعينهم بالدم فيبكون حتى ينفد الدم، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح. قال: يرسل عليهم من الله أمر فيولون مدبرين، ثم تستجيب لهم أعينهم بالقيح، فيبكون حتى ينفد القيح فتغور أعينهم كالخرق في الطين. وقيل: إن هذا يكون عند نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور نفخة الفزع. ذكره علي بن معبد والطبري وغيرهما من حديث أبي هريرة، وفيه فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل ما في بطونها وتشيب الولدان وتتطاير الشياطين (1) هو طرفة. في اللسان: نواديه أمشى. يقول: إبل باركة نيام، ونواديها أي ماند منها. ويروى هواديه أي أواثلها. أي أثارت مخافتي نوادي هذا البرك حال مشى إليه بالسيف. (*)
[ 312 ]
هاربة فتلقاها الملائكة تضرب وجوهها ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهي التي يقول الله تعالى: " يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد " الحديث بكماله. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة وتكلمنا عليه هناك. وروي عن علي ابن نصر عن أبي عمرو إسكان الدال من " التناد " في الوصل خاصة. وروى أبو معمر عن عبد الوارث زيادة الياء في الوصل خاصة وهو مذهب ورش. والمشهور عن أبي عمرو حذفها في الحالين. وكذلك قرأ سائر السبعة سوى ورش على ما ذكرنا عنه وسوى ابن كثير على ما تقدم. وقيل: سمي يوم القيامة يوم التناد، لأن الكافر ينادي فيه بالويل والثبور والحسرة. قاله ابن جريج. وقيل: فيه إضمار أي إني أخاف عليكم عذاب يوم التناد، فالله أعلم. " يوم تولون مدبرين " على البدل من " يوم التناد " ومن يظلل الله فما له من هاد " أي من خلق الله في قلبه الضلال فلا هادي له. وفي قائله قولان: أحدهما موسى. الثاني مؤمن آل فرعون وهو الأظهر. والله أعلم. قوله تعالى: ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينت فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجدلون فئ ايت الله بغير سلطن أتهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار قوله تعالى: " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " قيل: إن هذا من قول موسى. وقيل: هو من تمام وعظ مؤمن آل فرعون، ذكرهم قديم عتوهم على الأنبياء، وأراد يوسف بن يعقوب جاءهم بالبينات " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " [ يوسف: 39 ] قال ابن جريج: هو يوسف بن يعقوب بعثه الله تعالى رسولا إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات وهي الرؤيا. وقال ابن عباس: هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبيا
[ 313 ]
عشرين سنة. وحكى النقاش عن الضحاك: أن الله تعالى بعث إليهم رسولا من الجن يقال له يوسف. وقال وهب بن منبه: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف عمر. وغيره يقول: هو آخر. النحاس: وليس في الآية ما يدل على أنه هو، لأنه إذا أتى بالبينات نبي لمن معه ولمن بعده فقد جاءهم جميعا بها وعليهم أن يصدقوه بها. " فما زلتم في شك مما جاءكم به " أي أسلافكم كانوا في شك. " حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا " أي من يدعي الرسالة " كذلك يضل الله " أي مثل ذلك الضلال " يضل الله من هو مسرف " مشرك " مرتاب " شاك في وحدانيه الله تعالى. قوله تعالى: " الذين يجادلون في آيات الله " أي في حججه الظاهرة " بغير سلطان " أي بغير حجة وبرهان و " الذين " في موضع نصب على البدل من " من " وقال الزجاج: أي كذلك يضل الله الذين يجادلون في آيات الله ف " الذين " نصب. قال: ويجوز أن يكون رفعا على معنى هم الذين أو على الابتداء والخبر " كبر مقتا ". ثم قيل: هذا من كلام مؤمن آل فرعون. وقيل: ابتداء خطاب من الله تعالى. " مقتا " على البيان أي " كبر " جدالهم " مقتا "، كقوله: كبرت كلمة " [ الكهف: 5 ] ومقت الله تعالى ذمه لهم ولعنه إياهم وإحلال العذاب بهم. " كذلك " أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك " يطبع الله " أي يختم " على كل قلب متكبر جبار " حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق. وقراءة العامة " على كل قلب متكبر " بإضافة قلب إلى المتكبر واختاره أبو حاتم وأبو عبيد. وفي الكلام حذف والمعنى: " كذلك يطبع الله على كل قلب " على كل " متكبر جبار " فحذف " كل " الثانية لتقدم ما يدل عليها. وإذا لم يقدر حذف " كل " لم يستقم المعنى، لأنه يصير معناه أنه يطبع على جميع قلبه وليس المعنى عليه. وإنما المعنى أنه يطبع على قلوب المتكبرين الجبارين قلبا قلبا. ومما يدل على حذف " كل " قول أبي دؤاد: / ش أكل امرئ تحسبين امرأ / وونار توقد باليل نارا / ش (1) هو جارية بن الحجاج الإيادى. وقيل اسمه حنظلة بن الشرقي، وكان في عصر كعب بن مامة الإيادى الذى يضرب به المثل في الجود. " الشعر والشعراء لابن قتيبة ". (*)
[ 314 ]
يريد وكل نار. وفي قراءة ابن مسعود " على قلب كل متكبر " فهذه قراءة على التفسير والإضافة. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن ذكوان عن أهل الشام " قلب " منون على أن " متكبر " نعت للقلب فكني بالقلب عن الجملة، لأن القلب هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أي على كل ذي قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب. قوله تعالى: وقال فرعون يهمن ابن لى صرحا لعلى أبلغ الأسبب أسبب السموت فأطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه كذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب قوله تعالى: " وقال فرعون يا هامان ابن لى صرحا " لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم، وإن لم يصح ثبتهم على دينهم، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح. وقد مضى في [ القصص ] ذكره. " لعلى أبلغ الأسباب. أسباب السموات " " أسباب السموات " بدل من الأول. وأسباب السماء أبوابها في قول قتادة والزهري والسدي والأخفش، وأنشد: / ش ومن هاب أسباب المنايا ينلنه / وولو رام أسباب السماء بسلم / ش وقال أبو صالح: أسباب السموات طرقها. وقيل: الأمور التي تستمسك بها السموات. وكرر أسباب تفخيما، لأن الشئ إذا أبهم ثم أوضح كان تفخيما لشأنه. والله أعلم. " فأطلع إلى إله موسى " فأنظر إليه نظر مشرف عليه. توهم أنه جسم تحويه الأماكن. وكان فرعون (1) راجع ج 3 ص 288 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) البيت من معلقة زهر بن أبى سلمى (*)
[ 315 ]
يدعي الألوهية ويرى تحقيقها بالجلوس في مكان مشرف. وقراءة العامة " فأطلع " بالرفع نسقا على قوله: " أبلغ " وقرأ الأعرج والسلمي وعيسى وحفص " فأطلع " بالنصب، قال أبو عبيدة: على جواب " لعل " بالفاء. النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت. ومعنى الرفع " لعلي أبلغ الأسباب " ثم لعلي أطلع بعد ذلك، إلا أن ثم أشد تراخيا من الفاء. " وإنى لأظنه كاذبا " أي وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه إلها دوني، وإنما أفعل ما أفعل لإزاحة العلة. وهذا يوجب شك فرعون في أمر الله. وقيل: إن الظن بمعنى اليقين أي وأنا أتيقن أنه كاذب وإنما أقول ما أقول لإزالة الشبهة عمن لا أتيقن ما أتيقنه. قوله تعالى: " وكذلك زين لفرعون سوء عمله " أي الشرك والتكذيب. " وصد عن السبيل " قراءة الكوفيين " وصد " على ما لم يسم فاعله وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ويجوز على هذه القراءة " وصد " بكسر الصاد نقلت كسرة الدال عل الصاد، وهي قراءة يحيى بن وثاب وعلقمة. وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن بكرة " وصد عن السبيل " بالرفع والتنوين. الباقون " وصد " بفتح الصاد والدال. أي صد فرعون الناس عن السبيل. " وما كيد فرعون إلا في تباب " أي في خسران وضلال، ومنه: " تبت يدا أبي لهب " [ المسد: 1 ] وقوله: " وما زادوهم غير تتبيب " [ هود: 101 ] وفي موضع " غير تخسير " [ هود: 63 ] فهد الله صرحه وغرقه هو وقومه على ما تقدم. قوله تعالى: وقال الذئ امن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يقوم إنما هذه الحيوة الدنيا متع وإن الاخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صلحا من ذكر أو إنثى وهو مؤمن فأولك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير (1) راجع ج 13 ص 288 وما بعدها طبعة إولى أو ثانية. (*)
[ 316 ]
حساب ويقوم ما لى أدعوكم إلى النجوة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفر لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الأخرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحب النار فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد قوله تعالى: " وقال الذى آمن يا قوم اتبعون " هذا من تمام ما قاله مؤمن آل فرعون، أي اقتدوا بي في الدين. " اهدكم سبيل الرشاد " أي طريق الهدى وهو الجنة. وقيل من قول موسى. وقرأ معاذ بن جبل " الرشاد " بتشديد الشين وهو لحن عند أكثر أهل العربية، لأنه إنما يقال أرشد يرشد ولا يكون فعال من أفعل إنما يكون من الثلاثي، فإن أردت التكثير من الرباعي قلت: مفعال. قال النحاس: يجوز أن يكون رشاد بمعنى يرشد لا على أنه مشتق منه، ولكن كما يقال لآال من اللؤلؤ فهو بمعناه وليس جاريا عليه. ويجوز أن يكون رشاد من رشد يرشد أي صاحب رشاد، كما قال: / ش كليني لهم يا أميمة ناصب / ش الزمخشري: وقرئ " الرشاد " فعال من رشد بالكسر كعلام أو من رشد بالفتح كعباد. وقيل: من أرشد كجبار من أجبر وليس بذاك، لأن فعالا من أفعل لم يجئ إلا في عدة أحرف، نحو دراك وسار وقصار وجبار. ولا يصح القياس على هذا القليل. ويجوز أن يكون نسبته إلى الرشد كعواج وبتات غير منظور فيه إلى فعل. ووقع في المصحف " اتبعون " (1) البيت للنابغة الذ بيانى وتمامه: * وليل أقاسيه بطى الكواكب * (2) العواج: بياع العاج. والبتات: بياع البت وهو كساء غليظ. (*)
[ 317 ]
بغير ياء. وقرأها يعقوب وابن كثير بالإثبات في الوصل والوقف. وحذفها أبو عمرو ونافع في الوقف وأثبتوها في الوصل، إلا ورشا حذفها في الحالين، وكذلك الباقون، لأنها وقعت في المصحف بغير ياء ومن أثبتها فعلى الأصل. قوله تعالى: " يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع " أي يتمتع بها قليلا ثم تنقطع وتزول. " وإن الآخرة هي دار القرار " أي الاستقرار والخلود. ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان. بين ذلك بقوله: " من عمل سيئة " يعني الشرك " فلا يجزى إلا مثلها " وهو العذاب. " ومن عمل صالحا " قال ابن عباس: يعني لا إله إلا الله. " وهو مؤمن " مصدق بقلبه لله وللأنبياء. " فاولئك يدخلون الجنة " بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن وأبي عمرو ويعقوب وأبي بكر عن عاصم، يدل عليه " يرزقون فيها بغير حساب " الباقون " يدخلون " بفتح الياء. قوله تعالى: " و يا قوم مالى أدعوكم الى النجاة " أي إلى طريق الإيمان الموصل إلى الجنان " و تدعونني الى النار " بين أن ما قال فرعون من قوله: " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " [ غافر: 29 ] سبيل الغي عاقبته النار وكانوا دعوه إلى اتباعه، ولهذا قال: " تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم " وهو فرعون " وأنا أدعوكم أي العزيز الغفار ". " لاجرم " تقدم الكلام فيه ومعناه حقا. " أن ما تدعونني إليه " " ما " بمعنى الذى " ليس له دعوه " قال الزجاج: ليس له استجابة دعوة تنفع، وقال غيره: ليس له دعوة توجب له الالوهية " في الدنيا ولا في الاخرة ". وقال الكلبى: ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الاخرة. وكان فرعون أولا يدعو الناس الى عبادة الاصنام، ثم دعاهم الى عبادة البقر، فكانت تعبد ما كانت شابة، فإذا هرمت أمر بذبحها، ثم دعا باخرى لتعبد، ثم لما طال عليه الزمان قال أنا ربكم الاعلى. " وأن المسرفين هم اصحاب النار " قال قتادة وابن سيرين: يعنى المشركين. وقال مجاهد والشعبى: هم السفهاء و السفاكون للدماء بغير حقها. وقال عكرمة: الجبارون (1) راجع ج 9 ص 20 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 318 ]
والمتكبرون. وقيل: هم الذين تعدوا حدود الله. وهذا جامع لما ذكر. و " أن " في المواضع في موضع نصب باسقاط حرف الجر. وعلى ما حكاه سيبويه عن الخليل من أن " لاجرم " رد لكلام يجوز أن يكون موضع " أن " رفعا على تقدير وجب أن ما تدعونني إليه، كانه قال وجب بطلان ما تدعونني إليه، والمرد الى الله، وكون المسفرين هم أصحاب النار. قوله تعالى: " فستذكرون ما أقول لكم " تهديد ووعيد. و " ما " يجوز أن تكون بمعنى الذي أي الذي أقوله لكم. ويجوز أن تكون مصدرية أي فستذكرون قولي لكم إذا حل بكم العذاب. " وأفوض امرى الى الله " أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه. وقيل: هذا يدل على أنهم أرادوا قتله. وقال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه. وقد قيل: القائل موسى. والأظهر أنه مؤمن آل فرعون، وهو قول ابن عباس. قوله تعالى: فوقه الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا ءال فرعون أشد العذاب قوله تعالى: " فوقاه الله سيئات ما مكروا " أي من الحاق أنواع العذاب به فطلبوه فما وجدوه لانه فوض أمره الى الله. قال قتادة: كان قبطيا فنجاه الله مع بنى اسرائيل. فالهاء على هذا لمؤمن آل فرعون. وقيل: إنها لموسى على ما تقدم من الخلاف. " وحاق بال فرعون سوء العذاب " قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقا وحيوقا إذ نزل ولزم. ثم بين العذاب فقال: " النار يعرضون عليها " وفيه ستة أوجه: يكون رفعا على البدل من " سوء ". ويجوز أن يكون بمعنى هو النار. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء. وقال الفراء: يكون مرفوعا بالعائد على معنى النار عليها يعرضون، فهذه أربعة أوجه في الرفع، وأجاز الفراء النصب، لأن بعدها عائدا وقبلها ما يتصل به، وأجاز الأخفش الخفض على البدل من " العذاب ". والجمهور على أن هذا العرض في البرزخ. احتج بعض أهل العلم في تثبيت
[ 319 ]
عذاب القبر بقوله: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " ما دامت الدنيا. كذلك قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ومحمد بن كعب كلهم قال: هذه الآية تدل على عذاب القبر في الدنيا، ألا تراه يقول عن عذاب الآخرة: " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ". وفي الحديث عن ابن مسعود: أن أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار تعرض على النار بالغداة والعشي فيقال هذه داركم. وعنه أيضا: إن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين فذلك عرضها. وروى شعبة عن يعلى بن عطاء قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أبو هريرة إذا أصبح ينادي: أصبحنا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار. فإذا أمسى نادى: أمسينا والحمد لله وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أبا هريرة أحد إلا تعوذ بالله من النار. وفي حديث صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الكافر إذا مات عرض على النار بالغداة والعشي ثم تلا: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " وإن المؤمن إذا مات عرض روحه على الجنة بالغداة والعشي " وخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ". قال الفراء: في الغداة والعشي بمقادير دلك في الدنيا. وهو قول مجاهد. قال: " غدوا وعشيا " قال: من أيام الدنيا. وقال حماد بن محمد الفزاري: قال رجل للأوزاعي رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب، بيضا صغارا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله، فإذا كان العشاء رجعت مثلها سودا. قال: تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون، يعرضون على النار غدوا وعشيا، فترجع إلى أوكارها وقد أحترقت رياشها وصارت سودا، فينبت عليها من الليل رياشها بيضا وتتناثر السود، ثم تغدو فتعرض على النار غدوا وعشيا، ثم ترجع إلى وكرها فذلك دأبها ما كانت في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وهو الهاوية. قال الأوزاعي: فبلغنا أنهم (1) في نسخ الاصل ميمون بن ميسرة وهو تحريف، والتصويب عن " التهذيب ". (*)
[ 320 ]
ألفا ألف وستمائة ألف. و " غدوا " مصدر جعل ظرفا على السعة. " وعشيا " عطف عليه وتم الكلام. ثم تبتدى و " يوم تقوم الساعة " على أن تنصب يوما بقوله: " أدخلوا " ويجوز أن يكون منصوبا ب " يعرضون " على معنى " يعرضون " على النار في الدنيا " ويوم تقوم الساعة " فلا يوقف عليه. وقرأ نافع وأهل المدينة وحمزة والكسائي: " أدخلوا " بقطع الألف وكسر الخاء من أدخل وهي اختيار أبي عبيد، أي يأمر الملائكة أن يدخلوهم، ودليله " النار يعرضون عليها ". الباقون " أدخلوا " بوصل الألف وضم الخاء من دخل أي يقال لهم: " أدخلوا " يا " آل فرعون أشد العذاب " وهو اختيار أبي حاتم. قال: في القراءة الأولى: " آل " مفعول أول و " أشد " مفعول ثان بحذف الجر، وفي القراءة الثانية منصوب، لأنه نداء مضاف. وآل فرعون: من كان على دينه وعلى مذهبه، وإذا كان من كان على دينه ومذهبه في أشد العذاب كان هو أقرب إلى ذلك. وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن العبد يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت مؤمنا منهم يحيى بن زكريا ولد مؤمنا وحيي مؤمنا ومات مؤمنا وإن العبد يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت كافرا منهم فرعون ولد كافرا وحيي كافرا ومات كافرا " ذكره النحاس. وجعل الفراء في الآية تقديما وتأخيرا مجازه: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ". " النار يعرضون عليها غدواوعشيا " فجعل العرض في الآخرة، وهو خلاف ما ذهب إليه الجمهور من انتظام الكلام على سياقه على ما تقدم. والله أعلم. قوله تعالى: وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفو اللذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينت قالوا بلى قالوا فادعواغ وما دعوا الكفرين إلان في ضلل.
[ 321 ]
قوله تعالى: " وإذ يتحاجون في النار " أي يختصمون فيها " فيقول الضعفاء للذين استكبروا " عن الانقياد للأنبياء " إنا كنا لكم تبعا " فيما دعوتمونا إليه من الشرك في الدنيا " فهل أنتم مغنون " أي متحملون " عنا نصيبا من النار " أي جزاءا من العذاب. والتبع يكون واحدا ويكون جمعا في قول البصريين واحده تابع. وقال أهل الكوفة: هو جمع لا واحد له كالمصدر فلذلك لم يجمع ولو جمع لقيل أتباع. " قال الذين استكبروا إنا كل فيها " أي في جهنم. قال الأخفش: " كل " مرفوع بالابتداء. الكسائي والفراء " إنا كلا فيها " بالنصب على النعت والتأكيد للمضمر في " إنا " وكذلك قرأ ابن السميقع وعيسى بن عمر والكوفيون يسمون التأكيد نعتا. ومنع ذلك سيبويه، قال: لأن " كلا " لا تنعت ولا ينعت بها. ولا يجوز البدل فيه لأن المخبر عن نفسه لا يبدل منه غيره، وقال معناه المبرد قال: لا يجوز أن يبدل من المضمر هنا، لأنه مخاطب ولا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لأنهما لا يشكلان فيبدل منهما، هذا نص كلامه. " إن الله قد حكم بين العباد " أي لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، فكل منا كافر. قوله تعالى: " وقال الذين في النار " من الأمم الكافرة. ومن العرب من يقول اللذون على أنه جمع مسلم معرب، ومن قال: " الذين " في الرفع بناه كما كان في الواحد مبنيا. وقال الأخفش: ضمت النون إلى الذي فأشبه خمسة عشر فبني على الفتح. " لخزنة جهنم " خزنة جمع خازن ويقال: خزان وخزن. " ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " " يخفف " جواب مجزوم وإن كان بالفاء كان منصوبا، إلا أن الأكثر في كلام العرب في جواب الأمر وما أشبهه أن يكون بغير فاء وعلى هذا جاء القرآن بأفصح اللغات كما قال: / ش قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل / ش قال محمد بن كعب القرظي: بلغني أو ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، فقال الله تعالى: " وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " فسألوا يوما (1) هو امرؤ القيس والبيت من معلقته، وتمامه: / ش بسقط اللوى بين الدخول فحومل / ش
[ 322 ]
واحدا يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم " أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " الخبر بطوله وفي الحديث عن أبى الدرداء خرجه الترمذي وغيره قال: يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع، فيأكلونه لا يغنى عنهم شيئا فستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب، فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيستغيثون بالملائكة يقولون: " ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " فيجيبوهم " أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " أي خسار وتبار. قوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الاشهد يوم لا ينفع الظلمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنى اسرائيل الكتب هدى وذكرى لاولى الالبب. قوله تعالى: " إنا لننصر رسلنا " ويجوز حذف الضمة لثقلها فيقال: " رسلنا " والمراد موسى عليه السلام. " والذين آمنوا في الحياة الدنيا " في موضع نصب عطف على الرسل، والمراد المؤمن الذي وعظ. وقيل: هو عام في الرسل والمؤمنين، ونصرهم بإعلاء الحجج وإفلاحها في قول أبي العالية. وقيل: بالانتقام من أعدائهم. قال السدي: ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله عز وجل من ينتقم لهم، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا. قوله تعالى: " ويو م يقوم الأشهاد " يعني يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: " الأشهاد " أربعة: الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد. وقال مجاهد والسدي: " الأشهاد " الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتكذيب. وقال قتادة: الملائكة والأنبياء. ثم قيل:
[ 323 ]
" الأشهاد " جمع شهيد مثل شريف وأشراف. وقال الزجاج: " الأشهاد " جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه ولكن ما جاء منه مسموعا أدي كما سمع، وكان على حذف الزائد. وأجاز الأخفش والفراء: " ويوم تقوم الأشهاد " بالتاء على تأنيث الجماعة. وفي الحديث عن أبي الدرداء وبعض المحدثين يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقا على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم " ثم تلا: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا ". وعنه عليه السلام أنه قال: " من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله عز وجل يوم القيامة ملكا يحميه من النار ومن ذكر مسلما بشئ يشينه به وقفه الله عز وجل على جسر من جهنم حتى يخرج مما قال ". " يوم " بدل من يوم الأول. " لا ينفع الظالمين معذرتهم " قرأ نافع والكوفيون " ينفع " بالياء. الباقون بالتاء. " ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " اللعنة " البعد من رحمة الله و " سوء الدار " جهنم. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الهدى " هذا دخل في نصرة الرسل في الدنيا والآخرة أي آتيناه التوراة والنبوة. وسميت التوراة هدى بما فيها من الهدى والنور، وفي التنزيل: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " [ المائدة: 44 ]. " وأورثنا بنى اسرائيل الكتاب " يعني التوراة جعلناها لهم ميراثا. " هدى " بدل من الكتاب ويجوز بمعنى هو هدى، يعني ذلك الكتاب. " وذكرى لاولثيث الالباب " أي موعظة لأصحاب العقول. قوله تعالى: فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكر ان الذين يجدلون فئ آيت الله بغير سلطن أتهم ان في صدورهم الا كبر ماهم ببلغيه فاستعذ بالله انه هو السميع البصير لخلق السموات والارض أكبر من (1) رواه سهل ين معاذ بن أنس عن أبيه. النحاس. (*)
[ 324 ]
خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما يستوى الاعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوما الصلحت ولا المسى قليلا ما تتذكرون ان الساعة لاتيه لاريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون قوله تعالى: " فاصبر ان وعد الله حق " أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين، كما صبر من قبلك " إن وعد الله حق " بنصرك وإظهارك، كما نصرت موسى وبني إسرائيل. وقال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. " واستغفر لذنبك " قيل: لذنب أمتك حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: لذنب نفسك على من يجوز الصغائر على الأنبياء. ومن قال لا تجوز قال: هذا تعبد للنبي عليه السلام بدعاء، كما قال تعالى: " وآتنا ما وعدتنا " [ آل عمران: 194 ] والفائدة زيادة الدرجات وأن يصير الدعاء سنة لمن بعده. وقيل: فاستغفر الله من ذنب صدر منك قبل النبوة. " وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار " يعني صلاة الفجر وصلاة العصر، قال الحسن وقتادة. وقيل: هي صلاة كانت بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتا عشية. عن الحسن أيضا ذكره الماوردي. فيكون هذا مما نسخ والله أعلم. وقوله: " بحمد ربك " بالشكر له والثناء عليه. وقيل: " وسبح بحمد ربك " أي استدم التسبيح في الصلاة وخارجا منها لتشتغل بذلك عن استعجال النصر. قوله تعالى: " إن الذين يجادلون " يخاصمون " في آيات الله بغير سلطان " أي حجة " أتاهم إن في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه " قال الزجاج: المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه. قدره على الحذف. وقال غيره: المعنى ما هم ببالغي الكبر على غير حذف، لأن هؤلاء قرأوا أنهم أن اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم قل ارتفاعهم، ونقصت أحوالهم، وأنهم يرتفعون إذا لم يكونوا تبعا، فأعلم الله عز وجل أنهم لا يبلغون الارتفاع الذي أملوه بالتكذيب. والمراد المشركون. وقيل: اليهود، فالآية مدنية على هذا كما تقدم أول السور.
[ 325 ]
والمعنى: إن تعظموا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن الدجال سيخرج عن قريب فيرد الملك إلينا، وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله فذلك كبر لا يبلغونه فنزلت الآية فيهم. قال أبو العالية وغيره. وقد تقدم في [ آل عمران ] أنه يخرج ويطأ البلاد كلها إلا مكة والمدينة. وقد ذكرنا خبره مستوفى في كتاب التذكرة. وهو يهودي واسمه صاف ويكنى أبا يوسف. وقيل: كل من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا حسن، لأنه يعم. وقال مجاهد: معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها والمعنى واحد. وقيل: المراد بالكبر الأمر الكبير أي يطلبون النبوة أو أمرا كبيرا يصلون به إليك من القتل ونحوه، ولا يبلغون قوله تعالى: " فاستعد بالله " قيل: من فتنة الدجال على قول من قال إن الآية نزلت في اليهود. وعلى القل الآخر من شر الكفار. قيل: من مثل ما ابتلوا به من الكفر والكبر. " إنه هو المسيع البصير " هو " يكون فاصلا ويكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن على ما تقدم. قوله تعالى: " لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس " مبتدأ وخبره. قال أبو العالية: أي أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث، أي هما أكبر من إعادة خلق الناس فلم اعتقدوا عجزي عنها. " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ذلك. قوله تعالى: " وما يستوى الاعمى والبصير " أي المؤمن والكافر والضال والمهتدي. " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي ولا يستوي العامل للصالحات " ولا المسى " الذي يعمل السيئات. " قليلا ما يتذكرون " قراءة العامة بياء على الخبر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأجل ما قبله من الخبر وما بعده. وقرأ الكوفيون بالتاء على الخطاب. (1) زيادة يقنضيها السياق. (2) راجع ج 4 ص 89 وما بعدها وص 100 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 326 ]
قوله تعالى: " إن الساعة لاتيه " هذه لام التأكيد دخلت في خبر إن وسبيلها أن تكون في أول الكلام، لأنها توكيد الجملة إلا أنها تزحلق عن موضعها، كذا قال سيبويه. تقول: إن عمر لخارج، وإنما أخرت عن موضعها لئلا يجمع بينها وبين إن، لأنهما يؤديان عن معنى واحد، وكذا لا يجمع بين إن وأن عند البصريين. وأجاز هشام إن أن زيدا منطلق حق، فإن حذفت حقا لم يجز عند أحد من النحويين علمته، قاله النحاس. " لا ريب فيها " لا شك ولامرية. " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " أي لا يصدقون بها وعندها يبين فرق ما بين الطائع والعاصي. قوله تعالى: وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ان الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خلق كل شى لا اله الا هو فانى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بايت الله يجحدون الله الذى جعل لكم الارض قرارا والسماء ربكم فتبارك الله رب العلمين هو الحى لا اله الا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العلمين. قوله تعالى: " وقال ربكم ادعوني استجب لكم " الاية روى النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ " وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة. وكذا قال أكثر المفسرين
[ 327 ]
وأن المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم. وقيل: هو الذكر والدعاء والسؤال. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع " ويقال الدعاء: هو ترك الذنوب. وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي: كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك، وقال تعالى لهذه الأمة: " لتكونوا شهداء على الناس " [ البقرة: 143 ] وكان يقال للنبي: ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج: 78 ] وكان يقال للنبي ادعني استجب لك، وقال لهذه الأمة: " ادعوني استجب لكم ". قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي. وقد جاء مرفوعا، رواه ليث عن شهربن حوشب عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة: " ادعوني استجب لكم " وكان الله إذا بعث النبي قال: ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج: 78 ] وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس " ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وكان خالد الربعي يقول: عجيب لهذه الأمة قيل لها: " ادعوني استجب لكم " أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا ؟ قال: مثل قوله تعالى: " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات " [ البقرة: 25 ] فها هنا شرط، وقوله: " وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق " [ يونس: 2 ]، فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: " فادعوا الله مخلصين له الدين " [ غافر: 14 ] فها هنا شرط، وقوله تعالى: " ادعوني استجب لكم " ليس فيه شرط. وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. وقد قيل: إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في " البقرة " بيانه. أي " استجب لكم " إن شئت، كقوله: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " [ الأنعام: 41 ]. وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم (1) راجع ج 2 ص 309 طبعة ثانيه. (*)
[ 328 ]
في " البقرة " بيانه فتأمله هناك. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم " سيدخلون " بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله. الباقون " يدخلون " بفتح الياء وضم الخاء. ومعنى " داخرين " صاغرين أذلاء وقد تقدم. قوله تعالى: " الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه " " جعل " هنا بمعنى خلق، والعرب تفرق بين جعل إذا كانت بمعنى خلق وبين جعل إذ لم تكن بمعنى خلق، فإذا كانت بمعنى خلق فلا تعديها إلا إلى مفعول واحد، وإذا لم تكن بمعنى خلق عدتها إلى مفعولين، نحو قوله: إنا جعلناه قرآنا عربيا " وقد مضى هذا المعنى في موضع. " والنهار مبصرا " أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم. " إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " فضله وإنعامه عليهم. بين الدلالة على وحدانيته وقدرته. " لا اله الا هو فانى تؤفكون " أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله كذلك، أي كما صرفتم عن الحق مع قيام الدليل عليه ف " كذلك يؤفك " يصرف عن الحق " الذين كانوا بآيات الله يجحدون ". قوله تعالى: " الله الذى جعل لكم الارض قرارا " زاد في تأكيد التعريف والدليل، أي جعل لكم الأرض مستقرا لكم في حياتكم وبعد الموت. " والسماء بناء " تقدم. " وصوركم فاحسن صوركم " أي خلقكم في أحسن صورة. وقرأ أبو رزين والاشهب العقيلى " صوركم " بكسر الصاد، قال الجوهرى: والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة وينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجوارى: / ش أشبهن من بقر الخلصاء أعينها / وهن أحسن من صيرانها صورا / ش (1) راجع ج 10 ص 111 وج 13 ص 242 طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 6 ص 386 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 1 ص 229 طبعة ثانيه أو ثالثه. (*)
[ 329 ]
والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر والصوار أيضا وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر بقوله: / ش إذا لاح الصوار ذكرت ليلى / ووأذكرها إذا نفخ الصوار / ش والصيار لغة فيه. " ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين " تقدم " هو الحى " أي الباقي الذي لا يموت " لا اله الا هو فادعون مخلصين له الدين " أي الطاعة والعبادة. " الحمد لله رب العالمين " قال الفراء: هو خبر وفيه إضمار أمر أي ادعوه واحمدوه. وقد مضى هدا كله مستوفى في " البقرة " وغيرها. وقال ابن عباس: من قال: " لا إله إلا الله " فليقل " الحمد لله رب العالمين ". قوله تعالى: قل إنى نهيت أن اعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينت من ربى وامرت أن أسلم لرب العلمين هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم تكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون قوله تعالى: " قل إنى نهيت " أي قل يا محمد: نهاني الله الذي هو الحي القيوم ولا إله غيره " أن اعبد " غيره. " لما جاءني البينات من ربى " أي دلائل توحيده " وامرت أن أسلم " أذل وأخضع " لرب العالمين " وكانوا دعوه إلى دين آبائه، فأمر أن يقول هذا. (1) الزيادة من الصحاح الجوهرى لايتم الكلام الا بها. (2) راجع ج 7 ص 223 طبعة أولى أو ثانيه. وج 1 ص 136 طبعة ثانيه أو ثالثه. (3) مضى هذا الكلام للمصنف في تفسير الفاتحة ج 1 ص 136 فليراجع هناك لا في البقرة ولعل ما في الاصل تحريف.
[ 330 ]
قوله تعالى: " هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا " أي أطفالا. وقد تقدم هذا. " ثم لتبلغوا أشدكم " وهي حالة اجتماع القوة وتمام العقل. وقد مضى في [ الأنعام ] بيانه. " ثم لبكونوا شيوخا " بضم الشين قراءة نافع وابن محيصن وحفص وهشام ويعقوب وأبو عمرو على الأصل، لأنه جمع فعل، نحو: قلب وقلوب ورأس ورؤوس. وقرأ الباقون بكسر الشين لمراعاة الياء وكلاهما جمع كثرة، وفي العدد القليل أشياخ والأصل أشيخ، مثل فلس وأفلس إلا أن الحركة في الياء ثقيلة. وقرئ " شيخا " على التوحيد، كقوله: " طفلا " والمعنى كل واحد منكم، واقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس. وفي الصحاح: جمع الشيخ شيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء، والمرأة شيخة. قال عبيد: / ش كأنها شيخة رقوب / ش وقد شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك على أصله وشيخوخة، وأصل الياء متحركة فسكنت، لأنه ليس في الكلام فعلول. وشيخ تشييخا أي شاخ. وشيخته دعوته شيخا للتبجيل. وتصغير الشيخ شييخ وشييخ أيضا بكسر الشين ولا تقل شويخ النحاس: وإن اضطر شاعر جاز أن يقول أشيخ مثل عين وأعين إلا أنه حسن في عين، لأنها مؤنثة. والشيخ من جاوز أربعين سنة. " ومنكم من يتو في من قبل " قال مجاهد: أي من قبل أن يكون شيخا، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. " ولتبلغوا أجلا مسمى " قال مجاهد: الموت للكل. واللام لام العاقبة. " ولعلكم تعقلون " ذلك فتعلموا أن لا إله غيره. (1) راجع ج 12 ص 11 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 7 ص 134 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية. (3) هو عبيد بن الأبرص. (4) الرقوب: التى ترقب ولدها خوف أن يموت. البيت في وصف فرسه، وتمامه: * باتت على أرم عذوبا * (5) الزيادة من كتب اللغة. (*)
[ 331 ]
قوله تعالى: " هو الذى يحيى ويميت " زاد في التنبيه أي هو الذي يقدر على الإحياء والإماتة. " فإذا قضى أمرا " أي أراد فعله قال " له كن فيكون ". ونصب " فيكون " ابن عامر على جواب الأمر. وقد مضى في [ البقرة ] القول فيه. قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يجدلون فئ ايت الله أنى يصرفون الذين كذبوا با لكتب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلل في أعنقهم والسلسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أنى ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيا كذلك يضل الله الكفرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبوب جهنم خلدين فيها فبئس مثوى المتكبرين فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتو فينك فإلينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي باية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قبضي بالحق وخسر هنالك المبطلون قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون " قال ابن زيد: هم المشركون بدليل قوله: " الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا ". وقال أكثر المفسرين: نزلت في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية (1) راجع ج 2 ص 87 ثانية. (*)
[ 332 ]
فلا أدري فيمن نزلت. قال أبو قبيل: لا أحسب المكذبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا. وقال عقبة بن عامر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " نزلت هذه الآية في القدرية " ذكره المهدوي. قوله تعالى: " إذا الأغلال في أعناقهم " أي عن قريب يعلمون بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار وغلت أيديهم إلى أعناقهم. قال التيمي: لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل لوهصه حتى يبلغ الماء الأسود. " والسلاسل " بالرفع قراءة العامة عطفا على الأغلال. قال أبو حاتم: " يسحبون " مستأنف على هذه القراءة. وقال غيره: هو في موضع نصب على الحال، والتقدير: " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " مسحوبين. وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعكرمة وابن مسعود " والسلاسل " بالنصب " يسحبون " بفتح الياء والتقدير في هذه القراءة ويسحبون السلاسل. قال ابن عباس: إذا كانوا يجرونها فهو أشد عليهم. وحكي عن بعضهم " والسلاسل " بالجر ووجهه أنه محمول على المعنى، لأن المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل، قال الفراء. وقال الزجاج: ومن قرأ " والسلاسل يسحبون " بالخفض فالمعنى عنده وفي " السلاسل يسحبون ". قال ابن الأنباري: والخفض على هذا المعنى غير جائز، لأنك إذا قلت زيد في الدار لم يحسن أن تضمر " في " فتقول زيد الدار، ولكن الخفض جائز. على معنى إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، فتخفض السلاسل على النسق على تأويل الأغلال، لأن الأغلال في تأويل الخفض، كما تقول: خاصم عبد الله زيدا العاقلين فتنصب العاقلين. ويجوز رفعهما، لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه صاحبه، أنشد الفراء: / ش قد سالم الحيات منه القدما / والأفعون والشجاع الشجعما / ش فنصب الأفعوان على الإتباع للحيات إذا سالمت القدم فقد سالمتها القدم. فمن نصب السلاسل أو خفضها لم يقف عليها. " الحميم " لا لمتناهي في الحر. وقيل: الصديد المغلي. " ثم في النار (1) الشجعم: الضخم من الحيات. (*)
[ 333 ]
يسجرون " أي يطرحون فيها فيكونون وقودا لها، قال مجاهد. يقال: سجرت التنور أي أوقدته، وسجرته ملأته، ومنه " والبحر المسجور " [ الطور: 6 ] أي المملوء. فالمعنى على هذا تملأ بهم النار وقال الشاعر يصف وعلا: / ش إذا شاء طالع مسجورة / وترى حولها النبع والسمسما / ش أي عينا مملوءة. " ثم قيل لهم أينما كنتم تشركون من دون الله " وهذا تقريع وتوبيخ. " قالوا ضلوا عنا " أي هلكوا وذهبوا عنا وتركونا في العذاب، من ضل الماء في اللبن أي خفي. وقيل: أي صاروا بحيث لا نجدهم. " بل لم نكن ندعو من قبل شيئا " أي شيئا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع. وليس هذا إنكارا لعبادة الأصنام، بل هو اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة، قال الله تعلى: " كذلك يضل الله الكافرين " أي كما فعل بهؤلاء من الإضلال يفعل بكل كافر. قوله تعالى: " ذلكم " أي ذلكم العذاب " بما كنتم تفرحون " بالمعاصي يقال لهم ذلك توبيخا. أي إنما نالكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأتباع والصحة. وقيل إن فرحهم بها عندهم أنهم قالوا للرسل: نحن نعلم أنا لا نبعث ولا نعذب. وكذا قال مجاهد في قوله جل وعز: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم " [ غافر: 83 ]. " وبما كنتم تمرحون " قال مجاهد وغيره: أي تبطرون وتأشرون. وقد مضى في " سبحان " بيانه. وقال الضحاك: الفرح السرور، والمرح العدوان. وروى خالد عن ثور عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين ويبغض كل حبر سمين " فأما أهل بيت لحمين: فالذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة. وأما الحبر السمين: فالمتحبر بعلمه ولا يخبر بعلمه الناس، يعني المستكثر من علمه ولا ينتفع به الناس. ذكره الماوردي. وقد قيل في (1) راجع ج 10 ص 260 طبعة أولى أو ثانيه. (2) الحديث في النهاية " إن الله ليبغض أهل البيت اللحمين ". (*)
[ 334 ]
اللحمين: أنهم الذين يكثرون أكل اللحم، ومنه قول عمر: اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر، ذكره المهدوي. والأول قول سفيان الثوري. " ادخلوا أبواب جهنم " أي يقال لهم ذلك اليوم، وقد قال الله تعالى: " لها سبعة أبواب " [ الحجر: 44 ]. " فبئس مثومى المتكبرين " تقدم جميعه. قوله تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق " هذا تسلية للنبي عليه السلام، أي إنا لينتقم لك منهم إما في حياتك أو في الآخرة. " فاما نرينك " في موضع جزم بالشرط وما زائدة للتوكيد وكذا النون وزال الجزم وبني الفعل على الفتح. " أو نتوفينك " عطف عليه " فإلينا يرجعون " الجواب. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك " عزاه أيضا بما لقيت الرسل من قبله. " منهم من قصصنا عليك " أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوا من قومهم. " ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن ياتي باية " لا يأتي بها من قبل نفسه وإنما هي من عند الله أي من قبل نفسه " الا باذن الله فإذا جاء أمر الله " أي إذا جاء الوقت المسمى لعذابهم أهلكهم الله، وانما التاخير لاسلام من علم الله اسلامه منهم ولمن في أصلابهم من المؤمنين. وقيل: أشار بهذا الى القتل ببدر. " قضى بينهم بالحق وخسر هنالك المبطلون " أي الذين يتبعون الباطل والشرك. قوله تعالى: الله الذى جعل لكم الانعم لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منفع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم ءايته فائ ايت الله تنكرون قوله تعالى: " الله الذى جعل لكم الانعام " قال أبو إسحاق الزجاج: الأنعام ها هنا الإبل. " لتركبوا منها ومنها تأكلون " فاحتج من منع أكل الخيل وأباح أكل الجمال بأن (1) الضراوة في قول عمر العادة في النفشس الطلابة لاكل اللحم، وهى حال ناشئة عن الاعتياد. (2) راجع ج 10 ص 30 وص 100 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 335 ]
الله عز وجل قال في الأنعام: " ومنها تأكلون " وقال في الخيل: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " [ النحل: 8 ] ولم يذكر إباحة أكلها. وقد مضى هذا في " النحل " مستوفى. قوله تعالى: " ولكم فيها منافع " في الوبر والصوف والشعر واللبن والزبد والسمن والجبن وغير ذلك. " ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم " أي تحمل الأثقال والأسفار. وقد مضى في " النحل " بيان هذا كله فلا معنى لإعادته. ثم قال: " وعليها " يعني الأنعام في البر " وعلى الفلك " في البحر " تحملون. ويريكم آياته " أي آياته الدالة على وحدانيته وقدرته فيما ذكر. " فاى آيات الله تنكرون " نصب " أيا " ب " تنكرون "، لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله، ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار في " أي " الرفع، ولو كان الاستفهام بألف أو هل وكان بعدهما اسم بعده فعل معه هاء لكان الاختيار النصب، أي إذا كنتم لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر قوله تعالى: أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عقبه الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينت فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن فلما راوا باسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنابه مشكرين فلم يك ينفعهم إيمنهم لما رأوا بأسنا سنت الله التى قد خلت في عباده وخسر هنالك الكفرون قوله تعالى: " أفلم يسيروا في الارض " حتى يشاهدوا آثار الامم السالفة " كانوا أكثر منهم " عددا " وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " من الانبيه والاموال وما أدلوا به من الاولاد والاتباع، يقال: دلوت بفلان اليك أي استشفعت (1) راجع ج 10 ص 96 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 10 ص 71 طبعة أولى أو ثانيه.
[ 336 ]
به إليك. وعلى هذا " ما " للجحد أي فلم يغن عنهم ذلك شيئا. وقيل: " ما " للاستفهام أي أي شئ أغنى عنهم كسبهم حين هلكوا ولم ينصرف " وزن أفعل. وزعم الكوفيون أن كل ما لا ينصرف فإنه يجوز أن ينصرف إلا أفعل من كذا فإنه لا يجوز صرفه بوجه في شعر ولا غيره إذا كانت معه من. قال أبو العباس: ولو كانت من المانعة من صرفه لوجب ألا يقال: مررت بخير منك وشر منك ومن عمرو. قوله تعالى: " فلما جائتهم رسلهم بالبينات " أي بالآيات الواضحات. " فرحوا بما عندهم من العلم " في معناه ثلاثة أقوال. قال مجاهد: إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا: نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث. وقيل: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو " يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا " [ الروم: 7 ]. وقيل: الذين فرحوا الرسل لما كذبهم قومهم أعلمهم الله عز وجل أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين ف " فرحوا بما عندهم من العلم " بنجاة المؤمنين " وحاق بهم " أي بالكفار " ما كانوا به يستهزؤن " أي عقاب استهزائهم بما جاء به الرسل صلوات الله عليهم. قوله تعالى: " فلما رأوا باسنا " أي عاينوا العذاب. " قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " أي بالاوثان التى أشركناهم في العبادة " فلم يك ينفعهم ايمانهم " بالله عند معاينة العذاب وحين رأوا البأس. " سنة الله " مصدر، لأن العرب تقول: سن يسن سنا وسنة، أي سن الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. وقد مضى هذا مبينا في " النساء " و " يونس " وأن التوبة لا تقبل بعد رؤية العذاب وحصول العلم الضروري. وقيل: أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في إهلاك الكفرة ف " سنة الله " منصوب على التحذير والإغراء. " وخسر هنالك الكافرون " قال الزجاج: وقد كانوا خاسرين من قبل ذلك إلا أنه بين لنا الخسران لما رأوا العذاب. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي " لم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " " وخسر هنالك الكافرون " كسنتنا في جميع الكافرين ف " سنة " نصب بنزع الخافض أي كسنة الله في الأمم كلها. والله أعلم. ثم تفسير سورة " غافر " والحمد لله. (1) الزيادة من اعراب القرآن للنحاس. (2) راجع ج 5 ص 92 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 8 ص 384 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 337 ]
سورة فصلت مكية في قول الجميع وهى أربع وخمسون، وقيل: ثلاث وخمسون آية. بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتب فصلت ءايته قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فاعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفئ اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل اننا عملون قوله تعالى: " حم. تنزيل من الرحمن الرحيم " قال الزجاج: " تنزيل " رفع بالابتداء وخبره " كتاب فصلت آياته " وهذا قول البصريين. وقال الفراء: يجوز أن يكون رفعه على إضمار هذا. ويجوز أن يقال: " كتاب " بدل من قوله: " تنزيل ". وقيل: نعت لقوله: " تنزيل ". وقيل: " حم " أي هذه " حم " كما تقول با ب كذا، أي هو باب كذا ف " حم " خبر ابتداء مضمر أي هو " حم "، وقوله: " تنزيل " مبتدأ آخر، وقوله: " كتاب " خبر. " فصلت آياته " أي بينت وفسرت. قال قتادة: ببيان حلاله من حرامه، وطاعته من معصيته. الحسن: بالوعد والوعيد. سفيان: بالثواب والعقاب. وقرئ " فصلت " أي فرقت بين الحق والباطل، أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولك فصل أي تباعد من البلد. " قرانا عربيا " في نصبه وجوه، قال الأخفش: هو نصب على المدح. وقيل: على إضمار فعل، أي اذكر " قرآنا عربيا ". وقيل: على إعادة الفعل، أي فصلنا " قرآنا عربيا ". وقيل: على الحال أي " فصلت آياته " في حال كونه " قرآنا عربيا ". وقيل: لما شغل " فصلت " بالآيات حتى صارت بمنزلة الفاعل انتصب. " قرآنا " لوقوع البيان عليه. وقيل: على القطع. " لقوم يعلمون " قال الضحاك: أي إن
[ 338 ]
القرآن منزل من عند الله. وقال مجاهد: أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. وقيل: يعلمون العربية فيعجزون عن مثله ولو كان غير عربي لما علموه. قلت: هذا أصح، والسورة نزلت تقريعا وتوبيخا لقريش في إعجاز القرآن. " بشيرا ونذيرا " حالان من الآيات والعامل فيه " فصلت ". وقيل: هما نعتان للقرآن " بشيرا " لأولياء الله " نذيرا " لأعدائه. وقرئ " بشير ونذير " صفة للكتاب. أو خبر مبتدإ محذوف " فأعرض أكثرهم " يعني أهل مكة " فهم لا يسمعون " سماعا ينتفعون به. وروي أن الريان بن حرملة قال: قال الملأ من قريش وأبو جهل قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم آتانا ببيان من أمره، فقال عتبة ابن ربيعة: والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر، وعلمت من ذلك علما لا يخفى علي إن كان كذلك. فقالوا: إيته فحدثه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد أنت خير أم قصي بن كلاب ؟ أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فبم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا، وتسفه أحلامنا، وتذم ديننا ؟ فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا إليك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك. والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال: " قد فرغت يا أبا الوليد " قال: نعم. (قال فاسمع منى) قال يا بن أخى أسمع. قال " بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " إلى قول: " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " [ فصلت: 13 ] فوثب عتبة ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم، وناشده الله والرحم ليسكتن، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فجاءه أبو جهل، فقال:، (1) الزيادة من سيرة ابن هشام. (*)
[ 339 ]
أصبوت إلى محمد ؟ أم أعجبك طعامه ؟ فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد تعلمون أني من أكثر قريش مالا، ولكني لما قصصت عليه القصة أجابني بشئ والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: " مثل صاعقة عاد وثمود " [ فصلت: 13 ] وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فوالله لقد خفت أن ينزل بكم العذاب، يعني الصاعقة. وقد روى هذا الخبر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد له عن محمد بن كعب القرظي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " حم. فصلت " حتى انتهى إلى السجدة فسجد وعتبة مصغ يستمع، قد اعتمد على يديه من وراء ظهره. فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة قال له: " يا أبا الوليد قد سمعت الذي قرأت عليك فأنت وذاك " فانصرف عتبة إلى قريش في ناديها فقالوا: والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي مضى به من عندكم. ثم قالوا: ما وراءك أبا الوليد ؟ قال: والله لقد سمعت كلاما من محمد ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة، فأطيعوني في هذه وأنزلوها بي، خلوا محمدا وشأنه واعتزلوه، فوالله ليكونن لما سمعت من كلامه نبأ، فان أصابته العرب كفيتموه بأيدي غيركم، وإن كان ملكا أو نبيا كنتم أسعد الناس به، لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم. فقالوا: هيهات سحرك محمد يا أبا الوليد. وقال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما شئتم. قوله تعالى: " وقالوا قلوبنا في اكنة مما تدعونا إليه " الأكنة جمع كنان وهو الغطاء. وقد مضى في " البقرة ". قال مجاهد: الكنان للقلب كالجنة للنبل. " وفي آذاننا وقر " أي صمم، فكلامك لا يدخل أسماعنا، وقلوبنا مستورة من فهمه. " و من بيننا وبينك حجاب " أي خلاف في الدين، لأنهم يعبدون الأصنام وهو يعبد الله عز وجل. قال معناه الفراء وغيره. وقيل: ستر مانع عن الإجابة. وقيل: إن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب. استهزاء منه. حكاه النقاش وذكره القشيري. فالحجاب هنا (!) راجع ج 2 ص 25 طبعة ثانيه. (*)
[ 340 ]
الثوب. " فاعمل اننا عاملون " أي اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك، قاله الكلبي. وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها. وقيل: أعمل بما يقتضيه دينك، فإنا عاملون بما يقتضيه ديننا. ويحتمل خامسا: فاعمل لآخرتك فإنا نعمل لدنيانا، ذكره الماوردي. قله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله وحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة وهم بالأخرة هم كفرون إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم أجر غير ممنون قوله تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم " أي لست بملك بل أنا من بني آدم. قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع. " يوحى إلى " أي من السماء على أيدي الملائكة " أنما إلهكم إله واحد " " ف " آمنوا به و " استقيموا إليه " أي وجهوا وجوهكم بالدعاء له والمسألة إليه، كما يقول الرجل: أستقم إلى منزلك، أي لا تعرج على شئ غير القصد إلى منزلك. " واستغفروه " أي من شرككم. " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " قال ابن عباس: لا يشهدون " أن لا إله إلا الله " وهي زكاة الأنفس. وقال قتادة: لا يقرون بالزكاة أنها واجبة. وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة. قرعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفر مع منع وجوب الزكاة عليه. وقال الفراء وغيره: كان المشركون ينفقون النفقات، ويسقون الحجيج ويطعمونهم، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيهم هذه الآية. " وهم بالآخرة هم كافرون " فلهذا لا ينفقون في الطاعة ولا يستقيمون ولا يستغفرون. (1) لم يذكر المصنف إلا أربعة أقوال ولعل الخامس ما ذكره الكشاف: " فا عمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك. " (*)
[ 341 ]
لالزمخشري: فإن قلت لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة ؟ قلت: لأن أحب شئ إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته ألا ترى إلى قوله عز وجل: " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم " [ البقرة: 265 ] أي يثبتون أنفسهم، ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا، فقويت عصبتهم ولانت شكيمتهم، وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة، فنصبت لهم الحروب وجوهدوا. وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة. قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " قال ابن عباس: غير مقطوع، مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته، ومنه قول ذي الإصبع: / ش إني لعمرك ما بابي بذي غلق / وعلى الصديق ولا خيري بممنون / ش وقال آخر: / ش فترى خلفها من الرجع والوق / وع منينا كأنه أهباء / ش يعني بالمنين الغبار المنقطع الضعيف. وعن ابن عباس أيضا ومقاتل: غير منقوص. ومنه المنون، لأنها تنقص منه الإنسان أي قوته، وقال قطرب، وأنشد قول زهير: / ش فضل الجياد على الخيل البطاء فلا / ويعطي بذلك ممنونا ولا نزقا / ش قال الجوهري: والمن القطع، ويقال النقص، ومنه قوله تعالى: " لهم أجر غير ممنون ". وقال لبيد: / ش غبس كواسب لا يمن طعامها / ش (1) الزيادة من تفسير الزمخشري. (2) اللظلة في اللغة: النكنة من بياض أو سواد، والمراد بها هنا الشى اليسير من حطام الدنيا. (3) ويروى: ولا زادي بممنون. (4) البيت من قصيدة يمدح بها هرم بن سنان. (5) صدر البيت: * لمعفر قهد تنازع شلوه * وقد وقع هذا البيت غلطا في بعض نسخ الجوهرى فراجع تحقيقه في اللسان مادة " من. " (*)
[ 342 ]
وقال مجاهد: " غير ممنون " غير محسوب. وقيل: " غير ممنون " عليهم به. قال السدي: نزلت في الزمني والمرضى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه. قوله تعالى: قل أنكم لتكفرون بالذى خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العلمين وجعل فيها روسى من فوقها وبرك فيها وقدر فيها أقوتها في أربعة أيام سوآء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصبيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم قوله تعالى: " قل أئنكم لتكفرون بالذى خلق الأرض في يومين " أئنكم " بهمزتين الثانية بين بين و " أائنكم " بألف بين همزتين وهو استفهام معناه التوبيخ. أمره بتوبيخهم والتعجب من فعلهم، أي لم تكفرون بالله وهو خالق السموات والأرض ؟ ! " في يومين " الأحد والاثنين. " وتجعلون له أندادا " أي أضدادا وشركاء " ذلك رب العالمين. " " وجعل فيها " أي في الأرض " رواسي من فوقها " يعني الجبال. وقال وهب: لما خلق الله الأرض مادت على وجه الماء، فقال لجبريل ثبتها يا جبريل. فنزل فأمسكها فغلبته الرياح، قال: يا رب أنت أعلم لقد غلبت فيها فثبتها بالجبال وأرساها " وبارك فيها " بما خلق فيها من المنافع. قال السدي: أنبت فيها شجرها. " وقدر فيها أقواتها " قال السدي والحسن: أرزاق أهلها ومصالحهم. وقال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها في يوم الثلاثاء والأربعاء. وقال عكرمة والضحاك: معنى " قدر فيها أقواتها " أي أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من
[ 343 ]
التجارات والأشجار والمنافع في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد. قال عكرمة: حتى إنه في بعض البلاد ليتبايعون الذهب بالملح مثلا بمثل. وقال مجاهد والضحاك: السابري من سابور، والطيالسة من الري، والحبر اليمانية من اليمن. " في أربعة أيام " يعني في تتمة أربعة أيام. ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما، أي في تتمة خمسة عشر يوما. قال معناه ابن الأنباري وغيره. " سواء للسائلين " قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة. الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين. واختاره الطبري. وقرأ الحسن، البصري ويعقوب الحضرمي " سواء للسائلين " بالجر وعن ابن القعقاع " سواء " بالرفع، فالنصب على المصدر و " سواء " بمعنى استواء أي استوت استواء. وقيل: على الحال والقطع، والجر على النعت لأيام أو لأربعة أي " في أربعة أيام " مستوية تامة. والرفع على الابتداء والخبر " للسائلين " أو على تقدير هذه " سواء للسائلين ". وقال أهل المعاني: معنى " سواء للسائلين " ولغير السائلين، أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لا يسأل. قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء وهى دخان " أي عمد إلى خلقها وقصد لتسويتها. والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال، يدل عليه قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " [ البقرة: 29 ] وقد مضى القول هناك. وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله: " ثم استوى إلى السماء " يعني صعد أمره إلى السماء، وقال الحسن. ومن قال: إنه صفة ذاتية زائدة قال: استوى في الأزل بصفاته. و " ثم " ترجع إلى نقل السماء من صفة الدخان إلى حالة الكثافة، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، على ما مضى في [ البقرة ] عن ابن مسعود وغيره. " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها " أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي. قال ابن عباس: قال الله تعالى للسماء: أطلعي شمسك (1) راجع ج 1 ص 254 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 344 ]
وقمرك وكواكبك، واجري رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقي أنهارك واخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين " قالتا أتينا طائعين " في الكلام حذف أي أتينا أمرك " طائعين ". وقيل: معنى هذا الأمر التسخير، أي كونا فكانتا كما قال تعالى: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " [ النحل: 40 ] فعلى هذا قال ذلك قبل خلقهما. وعلى القول الأول قال ذلك بعد خلقهما. وهو قول الجمهور. وفي قوله تعالى لهما وجهان: أحدهما أنه قول تكلم به. الثاني أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد، ذكره الماوردي. " قالتا أتينا طائعين " فيه أيضا وجهان: أحدهما أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما، ومنه قول الراجز: / ش امتلأ الحوض وقال قطني / ومهلا رويدا قد ملأت بطني / ش يعني ظهر ذلك فيه. وقال أكثر أهل العلم: بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى: قال أبو نصر السكسكي: فنطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء ما بحيالها، فوضع الله تعالى فيه حرمه. وقال: " طائعين " ولم يقل طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى، لأنهما سموات وأرضون، لأنه أخبر عنهما وعمن فيهما، وقيل: لما وصفهن بالقول والإجابة وذلك من صفات من يعقل أجراهما في الكناية مجرى من يعقل، ومثله: " رأيتهم لي ساجدين " [ يوسف: 4 ] وقد تقدم. وفي حديث: إن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب لو أن السموات والأرض حين قلت لهما " ائتيا طوعا أو كرها " عصياك ما كنت صانعا بهما ؟ قال كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما. قال: يا رب وأين تلك الدابة ؟ قال: في مرج من مروجي. قال: يا رب وأين ذلك المرج ؟ قال علم من علمي. ذكره الثعلبي. وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة " آتيا " بالمد والفتح. وكذلك قوله: " آتينا طائعين " على معنى أعطيا الطاعة من أنفسكما " قالتا " أعطينا " طائعين " فحذف المفعولين جميعا. ويجوز وهو أحسن أن يكون " آتينا " فاعلنا فحذف مفعول واحد. ومن قرأ " آتينا " فالمعنى جئنا بما فينا، على ما تقدم بيانه في غير ما موضع والحمد لله. (1) راجع ج 7 ص 344 وج 9 ص 122 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 345 ]
قوله تعالى: " فقضاهن سبع سموات في يومين " أي أكملهن وفرغ منهن. وقيل. أحكمهن كما قال: / ش وعليهما مسرودتان قضاهما / وداود أو صنع السوابغ تبع / ش " في يومين " سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما قال تعالى: " خلق السموات والأرض في ستة أيام " [ الأعراف: 54 ] على ما تقدم في [ الأعراف ] بيانه. قال مجاهد: ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون. وعن عبد الله بن سلام قال: خلق الله الأرض في يومين، وقدر فيها أقواتها في يومين، وخلق السموات في يومين، خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وقدر فيها أقواتها في يومين، وخلق السموات في يومين، خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وقدر فيها أقواتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السموات في يوم الخميس ويوم الجمعة، وأخر ساعة في يوم الجمعة خلق الله آدم في عجل، وهي التي تقوم فيها الساعة، وما خلق الله من دابة إلا وهي تفزع من يوم الجمعة إلا الإنس والجن. على هذا أهل التفسير، إلا ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: " خلق الله التربة يوم السبت " الحديث، وقد تكلمنا على إسناده في أول سورة (الأنعام). " وأوحى في كل سماء أمرها " قال قتادة والسدي: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وخلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد والثلوج. وهو قول ابن عباس، قال: ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة بحذاء الكعبة، والذي في السماء الدنيا هو البيت المعمور. وقيل: أوحى الله في كل سماء، أي أوحى فيها ما أراده وما أمر به فيها. والإيحاء قد يكون أمرا، لقوله: " بأن ربك أوحى لها " [ الزلزلة: 5 ] وقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين " [ المائدة: 111 ] أي أمرتهم وهو أمر تكوين. " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " أي بكواكب تضئ وقيل: إن في كل سماء كواكب تضئ. وقيل: بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا. " وحفظا " أي وحفظناها حفظا، أي من الشياطين الذين يسترقون السمع. وهذا (1) هو أبو ذؤيب الهذلى. والصنع بفتحتين الحاذق. (2) راجع ج 7 ص 219 طبعة أولى أو ثانية. (3) راجع ج 6 ص 384 طبعة أولى أو ثانية. (*)
[ 346 ]
لا لحفظ بالكواكب التي ترجم بها الشياطين على ما تقدم في [ الحجر ] بيانه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء. وقال في آية أخرى: " أم السماء بناها " [ النازعات: 27 ] ثم قال: " والأرض بعد ذلك دحاها " [ النازعات: 30 ] وهذا يدل على خلق السماء أولا. وقال قوم: خلقت الأرض قبل السماء، فأما قوله: " والأرض بعد ذلك دحاها " [ النازعات: 30 ] فالدحو غير الخلق، فالله خلق الأرض ثم خلق السموات، ثم دحا الأرض أي مدها وبسطها، قال ابن عباس. وقد مضى هذا المعنى مجودا في " البقرة " والحمد لله. " ذلك تقدير العزيز العليم ". قوله تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صعقة مثل صعقة عاد وثمود إرا جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لأنزل ملئكة فإنا بمآ أرسلتم به كفرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بايتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام تحسات لنذيقهم عذاب الخزى في الحيوة الدنيا ولعذاب الأخرة أخرى وهم لا ينصرون قوله تعالى: " فإن أعرضوا " يعني كفار قريش عما تدعوهم إليه يا محمد من الإيمان. " فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " أي خوفتكم هلاكا مثل هلاك عاد وثمود. " إذا جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم " يعني من أرسل إليهم وإلى من قبلهم " ألا تعبدوا إلا الله " موضع " أن " نصب بإسقاط الخافض أي ب " ألا تعبدوا " " و " قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة " بدل الرسل " فإنا بما أرسلتم به كافرون " من الإنذار والتبشير. قيل: هذا استهزاء منهم. وقيل: إقرا بإرسالهم ثم بعده جحود وعناد. (1) راجع ج 10 ص 10 طبعة أولى أو ثانية. (2) راجع ج 1 ص 255 وما بعدها طبعة ثانية أو ثالثة. (*)
[ 347 ]
قوله تعالى: " فأما عاد فاستكبروا في الأرض " على عباد الله هود ومن آمن معه " بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة " اغتروا بأجسامهم حين تهددهم بالعذاب، وقالوا: نحن نقدر على دفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا. وذلك أنهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم. وقد مضى في [ الأعراف ] عن ابن عباس: أن أطولهم كان مائة ذراع وأقصرهم كان ستين ذراعا. فقال الله تعالى ردا عليهم: " أولم يروا أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " وقدرة، وإنما يقدر العبد بإقدار الله، فالله أقدر إذا. " وكانوا باياتنا يجحدون " أي بمعجزاتنا يكفرون. قوله تعالى، " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا " هذا تفسير الصاعقة التي أرسلها عليهم، أي ريحا باردة شديدة البرد وشديدة الصوت والهبوب. ويقال: أصلها صرر من الصر وهو البرد فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل، كقولهم كبكبوا أصله كببوا، وتجفجف الثوب أصله تجفف. أبو عبيدة: معنى صرصر: شديدة عاصفة. عكرمة وسعيد بن جبير: شديد البرد. وأنشد قطرب قول الحطيئة: / ش المطعمون إذا هبت بصرصرة / ووالحاملون إذا استودوا على الناس / ش استودوا: إذا سئلوا الدية. مجاهد: الشديدة السموم. وروى معمر عن قتادة قال: باردة. وقاله عطاء، لأن " صرصرا " مأخوذ من صر والصر في كلام العرب البرد كما قال: / ش لها عذر كقرون النسا / وء ركبن في يوم ريح وصر / ش وقال السدي: الشديدة الصوت. ومنه صر القلم والباب يصر صريرا أي صوت. ويقال: درهم صري وصري للذي له صوت إذا نقد. قال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد، ويجوز أن يكون من صرير الباب، ومن الصرة وهي الصيحة. ومنه " فأقبلت امرأته في صرة " [ الذاريات: 29 ]. وصرصر اسم نهر بالعراق. " في أيام نحسات " أي مشئومات، (1) راجع ج 7 ص 236 طبعة أولى أو ثانية. (2) الزيادة من اللسان عن ابن السكيت لأن هذا الكلام له. (3) هو امرؤ القيس يصف فرسه. (*)
[ 348 ]
قاله مجاهد وقتادة. كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك " سبع ليال وثمانية أيام حسوما " [ الحاقة: 7 ] قال ابن عباس: ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. وقيل: " نحسات " باردات، حكاه النقاش. وقيل: متتابعات، عن ابن عباس وعطية. الضحاك: شداد. وقيل: ذات غبار، حكاه ابن عيسى. ومنه قول الراجز: / ش قد اغتدى قبل طلوع الشمس / وللصيد في يوم قليل النحس / ش قال الضحاك وغيره: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودرت الرياح عليهم في غير مطر، وخرج منهم قوم إلى مكة يستسقون بها للعباد، وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه، وكانت طلبتهم ذلك من الله تعالى عند بيته الحرام مكة مسلمهم وكافرهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتي، مختلفة أديانهم، وكلهم معظم لمكة، عارف حرمتها ومكانها من الله تعالى. وقال جابر بن عبد الله والتيمي: إذا أراد الله بقوم خيرا أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وسلط عليهم كثرة الرياح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " نحسات " بإسكان الحاء على أنه جمع نحس الذي هو مصدر وصف به. الباقون: " نحسات " بكسر الحاء أي ذوات نحس. ومما يدل على أن النحس مصدر قوله: " في يوم نحس مستمر " [ القمر: 19 ] ولو كان صفة لم يضف اليوم إليه، وبهذا كان يحتج أبو عمرو على قراءته، واختاره أبو حاتم. واختار أبو عبيد القراءة الثانية وقال: لا تصح حجة أبي عمرو، لأنه أضاف اليوم إلى النحس فأسكن، وإنما كان يكون حجة لو نون اليوم ونعت وأسكن، فقال: " في يوم نحس " [ القمر: 19 ] وهذا لم يقرأ به أحد نعلمه. وقال المهدوي: ولم يسمع في " نحس " إلا الإسكان. قال الجوهري: وقرئ في قوله " في يوم نحس " [ القمر: 19 ] على الصفة، والإضافة أكثر وأجود. وقد نحس الشئ بالكسر فهو نحس أيضا، قال الشاعر: / ش أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم / وطيا وبهراء قوم نصرهم نحس / ش ومنه قيل: أيام نحسات. " لنذيقهم " أي لكي نذيقهم " عذاب الخزى في الحياة الدنيا " أي العذاب بالريح العقيم. " ولعذاب الآخرة أخزى " أي أعظم وأشد. " وهم لا ينصرون. "
[ 349 ]
قوله تعالى: واما ثمود فهدينهم فاستحبوا العمى على الهدى فاخذتهم صعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون قوله تعالى: " وأما ثمود فهديناهم " أي بينا لهم الهدى والضلال، عن ابن عباس وغيره. وقرأ الحسن وابن أبي إسحق وغيرهما " وأما ثمود " بالنصب وقد مضى الكلام فيه في [ الأعراف ]. " فاستحبوا العمى على الهدى " أي اختاروا الكفر على الإيمان. وقال أبو العالية: اختاروا العمى على البيان. السدي: اختاروا المعصية على الطاعة. " فاخذتهم صاعقة العذاب الهون " " الهون " بالضم الهوان. وهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ابن مضر أخو كنانة وأسد. وأهانه: استخف به. والاسم الهوان والمهانة. وأضيف الصاعقة إلى العذاب، لأن الصاعقة اسم للمبيد المهلك، فكأنه قال مهلك العذاب، أي العذاب المهلك. والهون وإن كان مصدرا فمعناه الإهانة والإهانة عذاب، فجاز أن يجعل أحدهما وصفا للآخر، فكأنه قال: صاعقة الهون. وهو كقولك: عندي علم اليقين، وعندي العلم اليقين. ويجوز أن يكون الهون اسما مثل الدون، يقال: عذاب هون أي مهين كما قال: " ما لبثوا في العذاب المهين ". [ سبأ: 14 ]. وقيل: أي صاعقة العذاب الهون. " بما كانوا يكسبون " من تكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة، على ما تقدم. " ونجينا الذين آمنوا " يعني صالحا ومن آمن به، أي ميزناهم عن الكفار، فلم يحل بهم ما حل بالكفار، وهكذا يا محمد نفعل بمؤمني قومك وكفارهم. قوله تعالى: ويوم يحشر أعداء الله الى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصرهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطلق كل شى وهو خلقكم اول مرة واليه ترجعون (1) راجع ج 7 ص 238 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 350 ]
قوله تعالى: " ويوم يحشر أعداء الله الى النار فهم يوزعون " قرأ نافع " نحشر " بالنون " أعداء " بالنصب. الباقون " يحشر " بياء مضمومة " أعداء " بالرفع ومعناهما بين. وأعداء الله: الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره. " فهم يوزعون " يساقون ويدفعون إلى جهنم. قال قتادة والسدي: يحبس أولهم عل آخرهم حتى يجتمعوا، قال أبو الأحوص: فإذا تكاملت العدة بدئ بالأكابر فالأكابر جرما. وقد مضى في " النمل " الكلام في " يوزعون " [ النمل: 17 ] مستوفى. قوله تعالى: " حتى إذا جاءوها " " ما " زائدة " شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " الجلود يعني بها الجلود أعيانها في قول أكثر المفسرين وقال السدي وعبيدالله بن أبي جعفر والفراء: أراد بالجلود الفروج، وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوية: / ش المرء يسعى للسلا / ومة والسلامة حسبه / ش / ش أو سالم من قد تثنى / وجلده وابيض رأسه / ش وقال: جلده كناية عن فرجه. " وقالوا " يعنى الكفار " لجلودهم لم شهدتم علينا " وإنما كنا نجادل عنكم " قالوا أنطلقنا الله الذى انطق كل شى " لما خاطبت وخوطبت اجريت مجرى من يعقل. " وهو خالقكم أول مرة " أي ركب الحياة فيكم بعد أن كنتم نطفا، فمن قدر عليه قدر على أن ينطق الجلود وغيرها من الاعضاء. وقيل: " وهو خلقكم أول مرة " ابتداء كلام من الله. " واليه ترجعون " وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله فضحك فقال: " هل تدرون مم أضحك " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجزني من الظلم قال: يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله قال ثم يخلي بينه وبين الكلام قال فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل " وفي حديث أبي هريرة ثم يقال: " الآن نبعث شاهدنا (1) راجع ج 13 ص 167 وما بعدها طبعة أولى وثانيه. (2) كذا في الاصول ولم نعثر على هذين البيتين. (*)
[ 351 ]
عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه (ولحمه وعظامه) انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه " خرجه أيضا مسلم. قوله تعالى: وما كنتم تسترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا أبصركم ولا جلودكم ولكم ظننتم ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أردئكم فاصبحتم من الخسرين فان يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين وقيظنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس انهم كانوا خسرين قوله تعالى: " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم " يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم: ويجوز أن يكون من قول الله عز وجل أو الملائكة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر، قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم: فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول ؟ فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله عز وجل: " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم " الآية، خرجه الترمذي فقال: اختصم عند البيت ثلاثة نفر. ثم ذكره بلفظه حرفا حرفا وقال: حديث حسن صحيح، حدثنا هناد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة ابن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال قال عبد الله: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة (1) الزيادة من صحيح مسلم. (2) ليعذر من نفسه: على بناء الفاعل من الاعذار والمعنى ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه، ولشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر. (هامش مسلم). (*)
[ 352 ]
نفسر كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم قرشي وختناه ثقفيان أو ثقفي وختناه قرشيان فتكلموا بكلام لم أفهمه فقال أحدهم: أترون ان الله يسمع كلامنا هذا، فقال الاخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه: وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمعه، فقال الاخر: ان سمع منه شيئا سمعه كله، فقال عبد الله: فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى: " وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " الى قوله: " فاصبحتم من الخاسرين " قال: هذا حديث حسن صحيح. قال الثعلبي: والثقفي عبد ياليل، وختناه ربيعة وصفوان بن أمية. ومعنى " تستترون " تستخفون في قول أكثر العلماء، أي ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرا من شهادة الجوارح عليكم، لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية. وقيل: الاستتار بمعنى الاتقاء، أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة: " وما كنتم تستترون " أي تظنون " أن يشهد عليكم سمعكم " بأن يقول سمعت الحق وما وعيت وسمعت ما لا يجوز من المعاصي " ولا أبصاركم " فتقول رأيت آيات الله وما اعتبرت ونظرت فيما لا يجوز " ولا جلودكم " تقدم. " ولكن ظننتم ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " من أعمالكم فجادلتم على ذلك حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " قال: " إنكم تدعون يوم القيامة مفدمة أفواهكم بفدام فأول ما يبين عن الإنسان فخذه وكفه " قال عبد الله بن عبد الأعلى الشامي فأحسن. / ش العمر ينقص والذنوب تزيد / وتقال عثرات الفتى فيعود / ش / ش هل يستطيع جحود ذنب واحد / رجل جوارحه عليه شهود / ش / ش والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي / تقليلها وعن الممات يحيد / ش (1) كذا في الاصول وفي كتاب " أدب الدنيا والدين ": عبد الاعلى بن عبد الله الشامي. (*)
[ 353 ]
وعن معقل بن يسارعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه يابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا ويقول الليل مثل ذلك " ذكره أبو نعيم الحافظ وقد ذكرناه في كتاب التذكرة في باب شهادة الأرض والليالي والأيام والمال. وقال محمد بن بشير فأحسن: / ش مضى أمسك الأدنى شهيدا معدلا / وويومك هذا بالفعال شهيد / ش / ش فإن تك بالأمس اقترفت إساءة / وفثن بإحسان وأنت حميد / ش / ش ولا ترج فعل الخير منك إلى غد / ولعل غدا يأتي وأنت فقيد / ش قوله تعالى: " وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرادكم " أي أهلككم فأوردكم النار. قال قتادة: الظن هنا بمعنى العلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله فإن قوما أساءوا الظن بربهم فأهلكهم " فذلك قوله: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ". وقال الحسن البصري: إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي وكذب، ولو أحسن الظن لأحسن العمل، وتلا قول الله تعالى: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ". وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظن بربه فليفعل، فإن الظن اثنان ظن ينجي وظن يردي. وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية: هؤلاء قوم كانوا يدمنون المعاصي ولا يتوبون منها ويتكلمون على المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، ثم قرأ: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ". قوله تعالى: " فان يصبروا فالنار مثوى لهم " أي فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم. نظيره: " فما أصبرهم على النار " [ البقرة: 175 ] على ما تقدم. " وإن يستعتبوا " في الدنيا وهم مقيمون على كفرهم " فما هم من المعتبين ". وقيل: المعنى " فإن يصبروا " (1) راجع ج 2 ص 236 طبعة ثانيه. (*)
[ 354 ]
في النار أو يجزعوا " فالنار مثوى لهم " أي لا محيص لهم عنها، ودل على الجزع قوله: " وإن يستعتبوا " لأن المستعتب جزع والمعتب المقبول عتابه، قال النابغة: / ش فإن أك مظلوما فعبد ظلمته / ووإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب / ش أي مثلك من قبل الصلح والمراجعة إذا سئل. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة. تقول: عاتبته معاتبة، وبينهم أعتوبة يتعاتبون بها. يقال: إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي راجعا عن الإساءة، والاسم منه العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. واستعتب وأعتب بمعنى، واستعتب أيضا طلب أن يعتب، تقول: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. فمعنى " وإن يستعتبوا " أي طلبوا الرضا لم ينفعهم ذلك بل لا بد لهم من النار. وفي التفاسير: وإن يستقيلوا ربهم فما هم من المقالين. وقرأ عبيد بن عمير وأبو العالية " وإن يستعتبوا " بفتح التاء الثانية وضم الياء على الفعل المجهول " فما هم من المعتبين " بكسر التاء أي إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته لما سبق لهم في علم الله من الشقاء، قال الله تعالى: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " [ الأنعام: 28 ] ذكره الهروي. وقال ثعلب: يقال أعتب إذا غضب وأعتب إذا رضي. قوله تعالى: " وقيضنا لهم قرناء " قال النقاش: أي هيأنا لهم شياطين. وقيل: سلطنا عليهم قرناء يزينون عندهم المعاصي، وهؤلاء القرناء من الجن والشياطين ومن الإنس أيضا، أي سببنا لهم قرناء، يقال: قيض الله فلانا لفلان أي جاءه به وأتاحه له، ومنه قوله تعالى: " وقيضنا لهم قرناء ". القشيري: ويقال قيض الله لي رزقا أي أتاحه كما كنت أطلبه، والتقييض الإبدال ومنه المقايضة، قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما تقول بيعان. " فزينوا لهم مابين أيديهم " من أمر الدنيا فحسنوه لهم حتى آثروه على الاخرة " وما خلفهم " حسنوا لهم ما بعد مماتهم ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة، عن مجاهد. وقيل: المعنى " قيضنا لهم قرناء " في النار " فزينوا لهم " أعمالهم في الدنيا، والمعنى قدرنا عليهم أن ذلك سيكون وحكمنا به عليهم. وقيل: المعنى أحوجناهم إلى الأقران، أي أحوجنا
[ 355 ]
الفقير إلى الغني لينال منه، والغني إلى الفقير ليستعين به فزين بعضهم لبعض المعاصي. وليس قوله: " وما خلفهم " عطفا على " ما بين أيديهم " بل المعنى وأنسوهم ما خلفهم ففيه هذا الإضمار قال ابن عباس: " ما بين أيديهم " تكذيبهم بأمور الآخرة " وما خلفهم " التسويف والترغيب في الدنيا. الزجاج: " ما بين أيديهم " ما عملوه " وما خلفهم " ما عزموا على أن يعملوه. وقد تقدم قول مجاهد. وقيل: المعنى لهم مثل ما تقدم من المعاصي " وما خلفهم " ما يعمل بعدهم. " وحق عليهم القول في امم " أي وجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم. وقيل: " في " بمعنى مع، فالمعنى هم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم فيما دخلوا فيه. وقيل: " في أمم " في جملة أمم، ومثله قول الشاعر: / ش إن تك عن أحسن الصنيعة مأ / وفوكا ففي آخرين قد أفكوا / ش يريد فأنت في جملة آخرين لست في ذلك بأوحد. ومحل " في أمم " النصب على الحال من الضمير في " عليهم " أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم. " إنهم كانوا خاسرين " أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة. قوله تعالى: وقال الذين كفروا لا يسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوا الذى كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بايتنا يجحدون وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين (1) هو عمرو بن أذينة. (*)
[ 356 ]
قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " لما أخبر تعالى عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن فقالوا: " لا تسمعوا ". وقيل: معنى " لا تسمعوا " لا تطيعوا، يقال: سمعت لك أي أطعتك. " والغوا فيه " قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول. وقيل: إنهم فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن. وقال مجاهد: المعنى " والغوا فيه " بالمكاء والتصفيق والتخليط في المنطق. حتى يصير لغوا. وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول. وقال أبو العالية وابن عباس أيضا: قعوا فيه. وعيبوه. " لعلكم تغلبون " محمدا على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب. وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن أبي إسحق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي " والغوا " بضم الغين وهي لغة من لغا يلغو. وقراءة الجماعة من لغي يلغى قال الهروي: وقوله: " والغوا فيه " قيل: عارضوه بكلام لا يفهم. يقال: لغوت ألغو وألغى، ولغي يلغى ثلاث لغات. وقد مضى معنى اللغو في " البقرة " وهو ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل. قوله تعالى: " فلنديقن الذين كفروا عذابا شديدا " قد تقدم أن الذوق يكون محسوسا، ومعنى العذاب الشديد: ما يتوالى فلا ينقطع. العذاب في جميع أجزائهم. " ولنجزينهم أسوا الذى كانوا يعملون " أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. وأسوأ الأعمال الشرك. " قوله تعالى: " ذلك جزاء اعداء الله النار " أي ذلك العذاب الشديد، ثم بينه بقوله " النار " وقرأ ابن عباس " ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد " فترجم بالدار عن النار وهو مجاز الآية. و " ذلك " ابتداء و " جزاء " الخبر و " النار " بدل من " جزاء " أو خبر مبتدأ مضمر، والجملة في موضع بيان للجملة الأولى. (1) راجع ج 3 ص 99 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 357 ]
قوله تعالى: " وقال الذين كفروا " يعني في النار فذكره بلفظ الماضي والمراد المستقبل " ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والانس " يعني إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع: (ما من مسلم يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من ذنبه لأنه أول من سن القتل) خرجه الترمذي، وقيل: هو بمعنى الجنس وبني على التثنية لاختلاف الجنسين. " نجعلها تحت اقدامنا ليكونا سألوا ذلك حتى يشتفوا منهم بأن يجعلوهم تحت أقدامهم " ليكونا من الاسفلين " في النار وهو الدرك الأسفل سألوا أن يضعف الله عذاب من كان سبب ضلالتهم من الجن والإنس. وقرأ ابن محيص والسوسى عن أبى عمرو وابن عامر وأبو بكر والمفضل " أرنا بإسكان الراء وعن أبى عمرو أيضا باختلاسها. وأشبع الباقون كسرتها وقد تقدم في " الاعراف ". قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملئكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التى كنتم توعدون نحن اولياؤكم في الحيوة الدنيا وفي الاخرة ولكم فيها ما تشتهى انفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم قوله تعالى: ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " قال عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤ ناعند الله، فلم يستقيموا. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، فاستقام. وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " قال: " قد قال الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام 2 قال: حديث غريب. ويروى في هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي معنى " استقاموا "، ففي صحيح مسلم (1) هكذا في نسخ الاصل وصوابه في البقرة في ج 2 ص 127 طبعة ثانيه. (*)
[ 358 ]
عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - وفي رواية - غيرك. قال: " قل آمنت بالله ثم استقم " زاد الترمذي قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: " هذا ". وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: " ثم استقاموا " لم يشركوا بالله شيئا. وروى عنه الأسود بن هلال أنه قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " و " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة، فقال أبو بكر: لقد حملتموها على غير المحمل " قالوا ربنا الله ثم استقاموا " فلم يلتفتوا إلى إله غيره " ولم يلبسوا إيمانهم " بشرك " أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ". وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر وهو يخطب: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " فقال: استقاموا والله على الطريقة لطاعته ثم لم يرغوا روغان الثعالب. وقال عثمان رضي الله عنه: ثم أخلصوا العمل لله. وقال علي رضي الله عنه: ثم أدوا الفرائض. وأقوال التابعين بمعناها. قال ابن زيد وقتادة: استقاموا على الطاعة لله. الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا. وقال سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الربيع: اعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقيل: استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرارا. وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. وقال أنس: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: " هم أمتي ورب الكعبة ". وقال الإمام ابن فورك: السين سين الطلب مئل استسقى أي سألوا من الله أن يثبتهم على الدين. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة. قلت: وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا، وداموا على ذلك. نتنزل علهيم الملائكة " قال ابن زيد ومجاهد: عند الموت. وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث. وقال ابن عباس: هي بشرى تكون لهم من
[ 359 ]
الملائكة في الآخرة. وقال وكيع وابن زيد: البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث. " إلا تخافوا " أي ب " ألا تخافوا " فحذف الجار. وقال مجاهد: لا تخافوا الموت. " ولا تحزنوا " على أولادكم فان الله خليفتكم عليهم. وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، وقال عكرمة ولا تخافوا أمامكم، ولا تحزنوا على ذنوبكم. " وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون ". قوله تعالى: " نحن اولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة " أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة " نحن أولياؤكم " قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. وقال السدي: أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى، والله ولي المؤمنين ومولاهم. " ولكم فيها ما تشتهى انفسكم " أي من الملاذ. " ولكم فيها ما تدعون " تسألون وتتمنون. " نزلا " أي رزقا وضيافة وقد تقدم في [ آل عمران ] وهو منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلا. وقيل: على الحال. وقيل: هو جمع نازل، أي لكم ما تدعون نازلين، فيكون حالا من الضمير المرفوع في " تدعون " أو من المجرور في " لكم ". قوله تعالى: ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وقال اننى من المسلمين (33) ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عدوة كانه ولى حميم (34) وما يلقها الا الذين صبروا وما يلقها الا ذو حظ عظيم (35) واما ينزغنك من الشياطين نزغ فاستعذ بالله انه هو السميع العليم. (1) راجع ج 4 ص 321 طبعة إولى أو ثانية. (*)
[ 360 ]
قوله تعالى " ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا " هذا توبيخ للذين تواصوا باللغو في القرآن. والمعنى: أي كلام أحسن من القرآن، ومن أحسن قولا من الداعي إلى الله وطاعته وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه. وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين. قال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذنا لأصحاب عبد الله بن مسعود، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذنت فقلت: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فقل وأنا من المسلمين، ثم قرأ هذه الآية، قال ابن العربي: والأول أصح، لأن الآية مكية والأذان مدني، وإنما يدخل فيها بالمعنى، لا أنه كان المقصود وقت القول، ويدخل فيها أبو بكر الصديق حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم وقد خنقه الملعون: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " [ غافر: 28 ] وتتضمن كل كلام حسن فيه ذكر التوحيد والإيمان. قلت: وقول ثالث وهو أحسنها، قال الحسن: هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله. وكذا قال قيس بن أبي حازم قال: نزلت في كل مؤمن. قال: ومعنى " وعمل صالحا " الصلاة بين الأذان والإقامة. وقاله أبو أمامة، قال: صلي ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة: " وعمل صالحا " صلى وصام. وقال الكلبي: أدى الفرائض. قلت: وهذا أحسنها مع اجتناب المحارم وكثرة المندوب. والله أعلم. " وقال اننى من المسلمين " قال ابن العربي: وما تقدم يدل على الإسلام، لكن لما كان الدعاء بالقول والسيف يكون للاعتقاد ويكون للحجة، وكان العمل يكون للرياء والإخلاص، دل على أنه لا بد من التصريح بالاعتقاد لله في ذلك كله، وأن العمل لوجهه. مسألة: لما قال الله تعالى: " وقال إنني من المسلمين " ولم يقل له اشترط إن شاء الله، كان في ذلك رد على من يقول أنا مسلم إن شاء الله.
[ 361 ]
قوله تعالى: " ولا تستوى الحسنة ولا السيئة " قال الفراء: " لا " صلة أي " ولا تستوي الحسنة والسيئة " وأنشد: / ش ما كان يرضى رسول الله فعلهم / ووالطيبان أبو بكر ولا عمر / ش أراد أبو بكر وعمر، أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد، وما المشركون عليه من الشرك. قال ابن عباس: الحسنة لاإله إلا الله، والسيئة الشرك. وقيل: الحسنة الطاعة، والسيئة الشرك. وهو الأول بعينه. وقيل: الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة. وقيل: الحسنة العفو، والسيئة الانتصار. وقال الضحاك: الحسنة العلم، والسيئة الفحش. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الحسنة حب آل الرسول، والسيئة بغضهم. " قوله تعالى: " ادفع بالتى هي أحسن " نسخت بآية السيف، وبقي المستحب من ذلك: حسن العشرة والاحتمال والإغضاء. قال ابن عباس: أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضا: هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك. وكذلك يروى في الأثر: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه. وقال مجاهد: " بالتي هي أحسن " يعني السلام إذا لقي من يعاديه، وقاله عطاء. وقول ثالث ذكره القاضي أبو بكربن العربي في الأحكام وهو المصافحة. وفي الأثر: " تصافحوا يذهب الغل ". ولم ير مالك المصافحة، وقد اجتمع مع سفيان فتكلما فيها فقال سفيان: قد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة، فقال له مالك: ذلك خاص. فقال له سفيان: ما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصنا، وما عمه يعمنا، والمصافحة ثابتة فلا وجه لإنكارها. وقد روى قتادة قال قلت لأنس: هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم. وهو حديث صحيح. وفي الأثر: (من تمام المحبة الأخذ باليد). ومن حديث محمد بن إسحق وهو إمام مقدم، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه - والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده - فاعتنقه وقبله.
[ 362 ]
قلت: قد روي عن مالك جواز المصافحة وعليها جماعة من العلماء. وقد مضى ذلك في " يوسف " وذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما ". قوله تعالى: " فإذا الذى بينك وبينه عداوة كانه ولى حميم " أي قريب صديق. قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له وليا بعد أن كان عدوا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام حميما بالقرابة. وقيل: هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه، ذكره الماوردي. والأول ذكره الثعلبي والقشيري وهو أظهر، لقوله تعالى: " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ". وقيل: كان هذا قبل الأمر بالقتال. قال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي ابن أبي طالب فناداه علي يا قنبر دع شاتمك، وآله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. وأنشدوا: / ش وللكف عن شتم اللئيم تكرما / وأضر له من شتمه حين يشتم / ش وقال آخر: / ش وما شئ أحب إلى سفيه / وإذا سب الكريم من الجواب / ش / ش متاركة السفيه بلا جواب / وأشد على السفيه من السباب / ش وقال محمود الوراق: / ش سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب / ووإن كثرت منه لدي الجرائم / ش / ش فما الناس إلا واحد من ثلاثة / وشريف ومشرف ومثل مقاوم / ش (1) راجع ج 9 ص 266 طبعة أولى أو ثانيه. (2) الابيات التالية معزوة ف يكتاب " أدب الدنيا والدين " ص 252 منبع وزاة المعارف الى الخليل بن أحمد (*)
[ 363 ]
/ ش فأما الذي فوقي فأعرف قدره / وواتبع فيه الحق والحق لازم / ش / ش وأما الذي دوني فإن قال صنت عن / وإجابته عرضي وإن لام لائم / ش / ش وأما مثلي فإن زل أو هفا / وتفضلت إن الفضل بالحلم حاكم / ش " وما يلقاها " يعني هذه الفعلة الكريمة والخصلة الشريفة " إلا الذين صبروا " بكظم الغيظ واحتمال الأذى. " وما يلقاها الا ذو حظ عظيم " أي نصيب وافر من الخير، قاله ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: الحظ العظيم الجنة. قال الحسن: والله ما عظم حظ قط دون الجنة. وقيل الكناية في " يلقاها " عن الجنة أي ما يلقاها الا الصابرون والمعنى متقارب. قوله تعالى: " واما ينزغنك من الشيطان نزغ " تقدم في آخر " الاعراف " مستوفى. " فاستعذ بالله " من كيد وشره " إنه هو السميع " لاستعاذتك " العليم " بافعالك وأقوالك. قوله تعالى: ومن ءايته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن وان كنتم اياه تعبدون فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له باليل والنهار وهم لا يسئمون ومن ءايته انك ترى الرض خشعه فإذا أنزلنا عليها المارء اهتزت وربت ان الذى احياها لمحى الموتى انه على كل شى قدير. قوله تعالى " ومن آياته " علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته " الليل والنهار والشمس والقمر " وقد مضى في غير موضع. ثم نهى عن السجود لهما، لانهما وان كانا خلقين فليس ذلك لفضيلة لهما في انفسهما فيستحقان بها العبادة مع الله. لان خالقهما هو الله (1) راجع ج 7 ص 347 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (2) راجع ج 2 ص 192 وما بعدها طبعة ثانيه. (*)
[ 364 ]
لو شاء لأعدمهما أو طمس نورهما. " واسجدوا لله الذى خلقهن " وصورهن وسخرهن، فالكناية ترجع إلى الشمس والقمر والليل والنهار. وقيل: للشمس والقمر خاصة، لأن الاثنين جمع. وقيل: الضمير عائد على معنى الآيات " إن كنتم إياه تعبدون " وإنما أنث على جمع التكثير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر والمؤنث لأنه فيما لا يعقل. " فان استكبروا " يعنى الكفار عن السجود لله " فالذين عند ربك " من الملائكة " يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسامون " أي لا يملون عبادته. قال زهير / ش سمئت تكاليف الحياة ومن يعش / وثمانين حولا لا أبالك يسام / ش مسألة - هذه الآية آية سجدة بلا خلاف، واختلفوا في موضع السجود منها. فقال مالك: موضعه " إن كنتم إياه تعبدون "، لأنه متصل بالأمر. وكان علي وابن مسعود وغيرهم يسجدون عند قوله: " تعبدون ". وقال ابن وهب والشافعي: موضعه " وهم لا يسأمون " لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال. وبه قال أبو حنيفة. وكان ابن عباس يسجد عند قوله: " يسأمون ". وقال ابن عمر: اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي وأبي صالح ويحيى بن وثاب وطلحة وزبيد الياميين والحسن وابن سيرين. وكان أبو وائل وقتادة وبكر بن عبد الله يسجدون عند قوله: " يسأمون ". قال ابن العربي: والأمر قريب. مسألة: ذكر ابن خويز منداد: أن هذه الآية تضمنت صلاة كسوف القمر والشمس، وذلك أن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف. قلت: صلاة الكسوف ثابتة في الصحاح البخاري ومسلم وغيرهما. واختلفوا في كيفيتها اختلافا كثيرا، لاختلاف الآثار، وحسبك ما في صحيح مسلم من ذلك، وهو العمدة في الباب. والله الموفق للصواب. (1) هذه النسبة الى يامة بطن من همدان. (*)
[ 365 ]
قوله تعالى: " ومن آياته انك ترى الارض خاشعه " الخطاب لكل عاقل أي " ومن آياته " الدالة على أنه يحيي الموتى " أنك ترى الأرض خاشعة " أي يابسة جدبة، هذا وصف الأرض بالخشوع، قال النابغة: / ش رماد ككحل العين لأيا أبينه / وونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع / ش والأرض الخاشعة، الغبراء التي تنبت. وبلدة خاشعة: أي مغبرة لا منزل بها. ومكان خاشع. " فإذا انزلنا عليها الماء اهتزت " أي بالنبات، قال مجاهد. يقال: اهتز الإنسان أي تحرك، ومنه: / ش تراه كنصل السيف يهتز للندى / وإذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا / ش " وربت " أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت، قال مجاهد. أي تصعدت عن النبات بعد موتها. وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: ربت واهتزت. والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض، وقد يكونان بعد خروج النبات إلى وجه الأرض، فربوها ارتفاعها. ويقال للموضع المرتفع: ربوة ورابية، فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولا وعرضا. وقرأ أبو جعفر وخالد " وربأت " ومعناه عظمت، من الربيئة. وقيل: " اهتزت " أي استبشرت بالمطر " وربت " أي انتفخت بالنبات. والأرض إذا انشقت بالنبات: وصفت بالضحك، فيجوز وصفها بالاستبشار أيضا. ويجوز أن يقال الربو والاهتزاز واحد، وهي حالة خروج النبات. وقد مضى هذا المعنى في " الحج " " إن الذى أحياها لمحيى الموتى انه على كل شى قدير " تقدم في غير موضع. (1) شبه ارماد بكحل العين لسواده فانه يسود متى تقادم عهده واصابته الامطار. والنؤى حفير حول الخيمة. والجذم الاصل. واثلم مهدوم. وخاشع تداعت آثاره واستوى بالارض. يريد أن ذلك الرماد تغير ولم أتبينه الا بعد لاى أي بعد جهد ومشقه. (2) راجع ج 13 ص 13 طبعة أولى أو ثانيه. (3) راجع ج 14 ص 45 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 366 ]
قوله تعالى: إن الذين يلحدون فئ ايتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير ام من ياتئ امنا يوم القيمة اعملوا ما شئتم انه بما تعملون بصير ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وانه لكتب عزيز لا ياتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك ان ربك لذو مغفرة وذو عقاب اليم قوله تعالى: " ان الذين يلحدون في آياتنا " أي يميلون عن الحق في أدلتنا. والإلحاد: الميل والعدول. ومنه اللحد في القبر لأنه أميل إلى ناحية منه. يقال: ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل. ولحد لغة فيه. وهذا يرجع إلى الذين قالوا: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " وهم الذين ألحدوا في آياته ومالوا عن الحق فقالوا: ليس القرآن من عند الله، أو هو شعر أو سحر، فالآيات آيات القرآن. قال مجاهد: " يلحدون في آياتنا " أي عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية واللغو والغناء. وقال ابن عباس: هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه. وقال قتادة: " يلحدون في آياتنا " يكذبون في آياتنا. وقال السدي: يعاندون ويشاقون. وقال ابن زيد: يشركون ويكذبون. والمعنى متقارب. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل. وقيل: الآيات المعجزات، وهو يرجع إلى الأول فإن القرآن معجز. " أفمن يلقى في النار " على وجهه وهو أبو جهل في قول ابن عباس وغيره. " خير امن ياتي آمنا يوم القيامة " قيل: النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل. وقيل: عمار ابن ياسر. وقيل: حمزة. وقيل: عمر بن الخطاب. وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي. وقيل: المؤمنون. وقيل: إنها على العموم، فالذي يلقى في النار الكافر، والذي يأتي آمنا يوم القيامة المؤمن، قال ابن بحر. " اعملوا ما شئتم " أمر تهديد، أي بعد ما علمتم أنهما لا يستويان فلا بد لكم من الجزاء. " إنه بما تعملون بصير " وعيد بتهديد وتوعد.
[ 367 ]
قوله تعالى: " ان الذين كفروا بالذكر لما جاءهم " الذكر ها هنا القرآن في قول الجميع، لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه من الأحكام. والخبر محذوف تقديره هالكون أو معذبون. وقيل: الخبر " أولئك ينادون من مكان بعيد " [ فصلت: 44 ] واعترض قوله: " ما يقال لك " ثم رجع إلى الذكر فقال: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا " ثم قال: " أولئك ينادون " [ فصلت: 44 ] والأول الاختيار، قال النحاس: عند النحويين جميعا فيما علمت. " وإنه لكتاب عزيز " أي عزيز على الله، قاله ابن عباس، وعنه: عزيز من عند الله. وقيل: كريم على الله. وقيل: " عزيز " أي أعزه الله فلا يتطرق إليه باطل. وقيل: ينبغي أن يعز ويجل وألا يلغى فيه. وقيل: " عزيز " من الشيطان أن يبدله، قاله السدي. مقاتل: منع من الشيطان والباطل. السدي: غير مخلوق فلا مثل له. وقال ابن عباس أيضا: " عزيز " أي ممتنع عن الناس أن يقولوا مثله. " لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " أي لا يكذبه شئ مما أنزل الله من قبل ولا ينزل من بعده يبطله وينسخه، قال الكلبي. وقال السدي وقتادة: " لا يأتيه الباطل " يعني الشيطان " من بين يديه ولا من خلفه " لا يستطيع أن يغير ولا يزيد ولا ينقص. وقال سعيد بن جبير: لا يأتيه التكذيب " من بين يديه ولا من خلفه ". ابن جريج: " لا يأتيه الباطل " فيما أخبر عما مضى ولا فيما أخبر عما يكون. وعن ابن عباس: " من بين يديه " من الله تعالى: " ولا من خلفه " يريد من جبريل صلى الله عليه وسلم، ولا من محمد صلى الله عليه وسلم. " تنيل من حكيم حميد " ابن عباس: " حكيم " في خلقه " حميد " إليهم. قتادة: " حكيم " في أمره " حميد " إلى خلقه. قوله تعالى: " ما يقال لك " أي من الأذى والتكذيب " الا ما قد قيل للرسل من قبلك " يعزي نبيه ويسليه " ان ربك لذو مغفرة " لك ولأصحابك " وذو عقاب اليم " يريد لأعدائك وجيعا. وقيل أي ما يقال لك من اخلاص العبادة لله الا ما قد أوحى الى من قبلك، ولا خلاف بين الشرائع فيما يتعلق بالتوحيد وهو كقوله، " ولقد اوحى اليك والى الذين (1) زيادة يقنضيها السياق. (*)
[ 368 ]
من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك " أي لم تدعهم الا الى ما تدعو إليه جميع الانبياء فلا معنى لانكارهم عليك وقيل: هو استفهام أي أي شى يقال لك " إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ". وقيل: " إن ربك " كلام مبتدا وما قبله كلام تام اذا كان الخبر مضمرا. وقيل: هو متصل ب " ما يقال لك ". " ان ربك لذو مغفرة وذو عقاب اليم " أي إنما امرت بالانذار والتبشير. قوله تعالى: ولو جعلنه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءايته ءأعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يومنون فئ آذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد قوله تعالى " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته أأعجمى وعربى " فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا " أي بلغة غير العرب " لقالوا لولا فصلت آياته " أي بينت بلغتنا فاننا عرب لا نفهم الاعجمية. فبين أمخ أنزله بلسانهم ليتقرر به معنى الاعجاز، إذ هم أعلم الناس بانواع الكلام نظما ونثرا. وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله. ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان. الثانيه - وإذا ثبت هذا ففيه دليل على أن القرآن عربي، وأنه نزل بلغة العرب، وأنه ليس أعجميا، وأنه إذا نقل عنها إلى غيرها لم يكن قرآنا. الثالثه - قوله تعالى: " أأعجمى وعربى " وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي " ااعجمي وعربي " بهمزتين مخففتين، والعجمي الذي ليس من العرب كان فصيحا أوغير فصيح، والأعجمي الذي لا يفصح كان من العرب أو من العجم، فالأعجم ضد الفصيح وهو الذي لا يبين كلامه. ويقال للحيوان غير الناطق أعجم، ومنه " صلاة النهار عجماء " أي لا يجهر فيها بالقراء فكانت النسبة إلى الأعجم آكد، لأن الرجل العجمي الذي ليس من العرب قد يكون
[ 369 ]
فصيحا بالعربية، والعربي قد يكون غير فصيح، فالنسبة إلى الأعجمي آكد في البيان. والمعنى أقرآن أعجمي، ونبي عربي ؟ وهو استفهام إنكار. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم والمغيرة وهشام عن ابن عامر " أعجمي " بهمزة واحدة على الخبر. والمعنى " لولا فصلت آياته " فكان منها عربي يفهمه العرب، وأعجمي يفهمه العجم. وروى سعيد بن جبير قال قالت قريش: لولا أنزل القرآن أعجميا وعربيا فيكون بعض آياته عجميا وبعض آياته عربيا فنزلت الآية. وأنزل في القرآن من كل لغة فمنه " السجيل " وهي فارسية وأصلها سنك كيل، أي طين وحجر، ومنه " الفردوس " رومية وكذلك " القسطاس " وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وابن ذكوان وحفص على الاستفهام، إلا أنهم لينوا الهمزة على أصولهم. والقراءة الصحيحة قراءة الاستفهام. والله أعلم. قوله تعالى: " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " أعلم الله أن القرآن هدى وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع. " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر " أي صمم عن سماع القرآن. ولهذا تواصوا باللغو فيه. ونظير هذه الآية: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " [ الإسراء: 82 ] وقد مضى مستوفى. وقراءة العامة " عمى " على المصدر. وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص ومعاوية وسليمان بن قتة " وهو عليهم عم " بكسر الميم أي لا يتبين لهم. واختار أبو عبيد القراءة الأولى، لإجماع الناس فيها، ولقوله أولا: " هدى وشفاء " ولو كان هاد وشاف لكان الكسر في " عمى " أجود، ليكون نعتا مثلهما، تقديره: " والذين لا يؤمنون " في ترك قبوله بمنزلة من في آذانهم " وقر وهو " يعنيي القرآن " عليهم " ذو عمى، لأنهم لا يفقهون فحذف المضاف وقيل المعل والوقر عليهم عمى. " اولئك ينادون من مكان بعيد " يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل. وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي يفهم: أنت تسمع من قريب. ويقال للذي لا يفهم: أنت تنادى من بعيد. أي كأنه ينادى من موضع بعيد منه فهو لا يسمع النداء (1) راجع ج 10 ص 315 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه.
[ 370 ]
ولا يفهمه. وقال الضحاك: " ينادون " يوم القيامة بأقبح أسمائهم " من مكان بعيد " فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وفضيحتهم. وقيل: أي من لم يتدبر القرآن صار كالأعمى الأصم، فهو ينادى من مكان بعيد فينقطع صوت المنادي عنه وهو لم يسمع. وقال علي رضي الله عنه ومجاهد: أي بعيد من قلوبهم. وفي التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون. وحكى معناه النقاش. قوله تعالى: ولقد ءاتينا موسى الكتب فاختلف فيه ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وانهم لفى شك منه مريب من عمل صلحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلم للعبيد قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " فاختلف فيه " أي آمن به قوم وكذب به قوم. والكناية ترجع إلى الكتاب، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم. وقيل الكناية ترجع إلى موسى. " ولو لا كلمة سبقت من ربك " أي في إمهالهم. " لقضى بينهم " أي بتعجيل العذاب. " وإنهم لفى شك منه " من القرآن " مريب " أي شديد الريبة. لاتاهم العذاب كما فعل بغيرهم من الامم. وقيل: تأخير العذاب لما يخرج من أصلابهم من المؤمنين. قوله تعالى: " من عمل صالحا فلنفسه " شرط وجوابه " ومن أساء فعليها ". والله جل وعز مستغن عن طاعة العباد، فمن أطاع فالثواب له، ومن أساء فالعقاب عليه. " وما ربك بظلام للعبيد " نفى الظلم عن نفسه جل وعز قليله وكثيره، وإذا انتفت المبالغة انتفى غيرها، دليله قوله الحق: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " [ يونس: 44 ] وروى العدول الثقات، (1) راجع ج 9 ص 59 طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 371 ]
والأئمة الأثبات، عن الزاهد العدل، عن أمين الأرض، عن أمين السماء، عن الرب جل جلاله: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " الحديث. وأيضا فهو الحكيم المالك، وما يفعله المالك في ملكه لا اعتراض عليه، إذ له التصرف في ملكه بما يريد. قوله تعالى: إليه يرد علم الساعة وما تخرح من ثمرت من اكمامها وما تحمل من انثى ولا تضع الا بعلمه ويوم يناديهم اين شركاءى قالوا ءاذنت مامنا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا مالهم من محيص قوله تعالى: " إليه يرد علم الساعة " أي حين وقتها. وذلك أنهم قالوا: يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى قيام الساعة فنزلت: " وما تخرج من ثمرات " " من " زائدة أي وما تخرج ثمرة. " من أكمامها " أي من أوعيتها، فالأكمام أوعية الثمرة، واحدها كمة وهي كل ظرف لمال أو غيره، ولذلك سمي قشر الطلع أعني كفراه الذي ينشق عن الثمرة كمة، قال ابن عباس: الكمة الكفرى قبل أن تنشق، فإذا انشقت فليست بكمة. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة [ الرحمن ]. وقرأ نافع وابن عامر وحفص " من ثمرات " على الجمع. الباقون " ثمرة " على التوحيد والمراد الجمع، لقوله: " وما تحمل من أنثى " والمراد الجمع، يقول: " إليه يرد علم الساعة " كما يرد إليه علم الثمار والنتاج. " ويوم يناديهم " أي ينادي الله المشركين " أين شركائي " الذين زعمتم في الدنيا أنها آلهة تشفع. " قالوا " يعني الأصنام. وقيل: المشركون. ويحتمل أن يريدهم جميعا العابد والمعبود " آذانك " أسمعناك وأعلمناك. يقال: آذن يؤذن: إذا أعلم، قال: / ش آذنتنا ببينها أسماء / ورب ثاو يمل منه الثواء / ش (1) في تفسير قوله تعالى: " والنخل ذات الاكمام " آية 11. (2) هو الحرث بن حلزة، والبيت مطلع معلقته. (*)
[ 372 ]
" مامنا من شهيد " أي نعلمك ما منا أحد يشهد بأن لك شريكا. لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنام منهم كما تقدم في غير موضع. وضل عنهم " أي بطل عنهم " ما كانوا يدعون من قبل " في الدنيا " وظنوا " أي أيقنوا وعلموا " مالهم من محيص " أي فرار عن النار. و " ما " هنا حرف وليس باسم، فلذلك لم يعمل فيه الظن وجعل الفعل ملغى، تقديره: وظنوا أنهم مالهم محيص ولا مهرب. يقال: حاص يحيص. حيصا ومحيصا إذا هرب. وقيل: إن الظن هنا الذي هو أغلب الرأي، لا يشكون في أنهم أصحاب النار ولكن يطمعون أن يخرجوا منها. وليس يبعد أن يكون لهم ظن ورجاء إلى أن يؤيسوا. قوله تعالى: لا يسئم الانسن من دعاء الخير وان مسه الشر فيئوس قنوط ولئن أذقنه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت الى ربى ان لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الانسن أعرض ونابجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض قوله تعالى: " لايسام الانسان من دعاء الخير " أي لا يمل من دعائه بالخير. والخير هنا المال والصحة والسلطان والعز. قال السدى: والانسان ها هنا يراد به الكافر. وقيل: الوليد بن المغيرة. وقيل: عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف. وفي قراءة عبد الله " لا يسأم الإنسان من دعاء المال ". " وان مسه الشر " لا لفقر والمرض " فيئوس " من روح الله " قنوط " من رحمته. وقيل: " يؤؤس " من إجابة الدعاء " قنوط " بسوء الظن بربه. وقيل: " يؤؤس " أي يئس من زوال ما به من المكروه " قنوط " أي يظن أنه يدوم، والمعنى متقارب. (1) راجع ج 13 ص 303 وما بعدها طبعة أولى أو ثانيه. (*)
[ 373 ]
قوله تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منا " عاقبة ورخاء وغنى " من بعد ضراء مسته " ضر وسقم وشدة وفقر. " ليقولن هذالى " أي هذا شئ أستحقه على الله لرضاه بعملي، فيرى النعمة حتما واجب على الله تعالى، ولم يعلم أنه ابتلاه بالنعمة والمحنة، ليتبين شكره وصبره. وقال ابن عباس: " هذا لي " أي هذا من عندي. " وما أظن الساعة قائمه ولئن رجعت الى ربى ان لى عنده للحسنى " أي الجنة، واللام للتأكيد. يتمنى الأماني بلا عمل. قال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب: للكافر أمنيتان أما في الدنيا فيقول: " لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى "، وأما في الآخرة فيقول: " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " [ الأنعام: 27 ] و " ياليتني كنت ترابا " [ النبأ: 40 ]. " فلننبئن الذين كفروا بما عملوا " أي لنجزينهم. قسم أقسم الله عليه. " ولنذيقنهم من عذاب غليظ " شديد. قوله تعالى: وإذا أنعمنا على الانسان " يريد الكافر " أعرض وناى بجانبه " وقال ابن عباس: يريد عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أعرضوا عن الإسلام وتباعدوا عنه. ومعنى " نأى بجانبه " أي ترفع عن الانقياد إلى الحق وتكبر على أنبياء الله. وقيل: " نأى " تباعد. يقال: نأيته ونأيت عنه نأيا بمعنى تباعدت عنه، وأنا يته فانتأى أبعدته فبعد، وتناءوا تباعدوا، والمنتأى الموضع البعيد، قال النابغة / ش فإنك كالليل الذي هو مدركي / ووإن خلت أن المنتأى عنك واسع / ش وقرأ يزيد بن القعقاع و " ناء بجانبه " بالألف قبل الهمزة. فيجوز أن يكون من " ناء " إذا نهض. ويجوز أن يكون على قلب الهمزة بمعنى الأول. " وإذا مسه الشر " أي أصابه المكروه " فذو دعاء عريض " كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة. يقال: أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر. وقال ابن عباس: " فذو دعاء عريض " فذو تضرع واستغاثة. والكافر يعرف ربه في البلاء ولا يعرفه في الرخاء.
[ 374 ]
قوله تعالى: قل أرءايتم ان كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم ءايتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك انه على كل شى شهيد الا انهم في مرية من لقاء ربهم الا انه بكل شى محيط قوله تعالى: " قل أرايتم " أي قل لهم يا محمد " أرأيتم " يا معشر المشركين. " إن كان " هذا القرآن " من عند الله ثم كفرتم به من أضل " أي فأي الناس أضل، أي لا أحد أضل منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم. وقيل: قوله: " إن كان من عند الله " يرجع إلى الكتاب المذكور في قوله: " آتينا موسى الكتاب " [ البقرة: 53 ] والأول أظهر وهو قول ابن عباس. قوله تعالى: " سنريهم آياتنا في الافاق " أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا " في الآفاق " يعني خراب منازل الأمم الخالية " وفي أنفسهم " بالبلايا والأمراض. وقال ابن زيد: " في الآفاق " آيات السماء " وفي أنفسهم " حوادث الأرض. وقال مجاهد: " في الآفاق " فتح القرى، فيسر الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموما، وفي ناحية المغرب خصوصا من الفتوج التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة وتغليب قليلهم على كثيرهم، وتسليط ضعفائهم على أقويائهم، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة عن المعهود خارقة للعادات " وفي أنفسهم " فتح مكة. وهذا اختيار الطبري. وقال المنهال بن عمرو والسدي. وقال قتادة والضحاك: " في الآفاق " وقائع الله في الأمم " وفي أنفسهم " يوم بدر. وقال عطاء وابن زيد أيضا " في الآفاق " يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات
[ 375 ]
والأشجار والجبال والبحار وغيرها. وفي الصحاح: الآفاق النواحي، واحدها أفق وأفق مثل عسر وعسر، ورجل أفقي بفتح الهمزة والفاء: إذا كان من آفاق الأرض. حكاه أبو نصر. وبعضهم يقول: أفقي بضمها وهو القياس. وأنشد غير الجوهري: / ش أخذنا بافاق السماء عليكم / ولنا قمراها والنجوم الطوالع / ش " وفي أنفسهم " من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول، فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد ويتميز ذلك من مكانين، وبديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وفى أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة. وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه. وقيل: " وفي أنفسهم " من كونهم نطفا إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم كما تقدم في [ المؤمنون ] بيانه. وقيل: المعنى سيرون ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن وأخبار الغيوب " حتى يتبين لهم انه الحق " فيه أربعة أوجه [ أحدها ] أنه القرآن. [ الثاني ] الإسلام جاءهم به الرسول ودعاهم إليه. [ الثالث ] أن ما يريهم الله ويفعل من ذلك هو الحق. [ الرابع ] أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الحق. " أو لم يكف بربك " في موضع رفع بأنه فاعل " بيكف " و " أنه " بدل من " ربك " فهو رفع إن قدرته بدلا على الموضع، وجر " إن " قدرته بدلا على اللفظ. ويجوز أن يكون نصبا بتقدير حذف اللام، والمعنى أو لم يكفهم ربك بما دلهم عليه من توحيده، لأنه " على كل شئ شهيد " وإذا شهده جازى عليه. وقيل: المعنى " أو لم يكف بربك " في معاقبته الكفار. وقيل: المعنى " أو لم يكف بربك " يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار. وقيل: " أو لم يكف بربك " شاهدا على أن القرآن من عند الله. وقيل: " أو لم يكف بربك أنه على كل شئ " مما يفعله العبد " شهيد " والشهيد بمعنى العالم، أو هو من اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وفى أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة. وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه. وقيل: " وفي أنفسهم " من كونهم نطفا إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم كما تقدم في [ المؤمنون ] بيانه. وقيل: المعنى سيرون ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن وأخبار الغيوب " حتى يتبين لهم انه الحق " فيه أربعة أوجه [ أحدها ] أنه القرآن. [ الثاني ] الإسلام جاءهم به الرسول ودعاهم إليه. [ الثالث ] أن ما يريهم الله ويفعل من ذلك هو الحق. [ الرابع ] أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الحق. " أو لم يكف بربك " في موضع رفع بأنه فاعل " بيكف " و " أنه " بدل من " ربك " فهو رفع إن قدرته بدلا على الموضع، وجر " إن " قدرته بدلا على اللفظ. ويجوز أن يكون نصبا بتقدير حذف اللام، والمعنى أو لم يكفهم ربك بما دلهم عليه من توحيده، لأنه " على كل شئ شهيد " وإذا شهده جازى عليه. وقيل: المعنى " أو لم يكف بربك " في معاقبته الكفار. وقيل: المعنى " أو لم يكف بربك " يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار. وقيل: " أو لم يكف بربك " شاهدا على أن القرآن من عند الله. وقيل: " أو لم يكف بربك أنه على كل شئ " مما يفعله العبد " شهيد " والشهيد بمعنى العالم، أو هو من الشهادة التي هي الحضور " الا انهم في مرية " في شك " من لقاء ربهم " في الآخرة. وقال السدي: أي من البعث. " إلا إنه بكل شى محيط " أي أحاط علمه بكل شئ. (1) راجع ج 12 ص 109 طبعة أولى أو ثانيه. (*) قاله السدي. وقال الكلبي: أحاطت قدرته بكل شئ. وقال الخطابي: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شئ علما، وأحصى كل شئ عددا. وهذا الاسم أكثر ما يجئ في معرض الوعيد، وحقيقته الإحاطة بكل شئ، واستئصال المحاط به، وأصله محيط نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت. يقال منه: أحاط يحيط إحاطة وحيطة، ومن ذلك حائط الدار، يحوطها أهلها. وأحاط ت الخيل بفلان: إذا أخذ مأخذا حاصرا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: " وأحيط بثمره " [ الكهف: 42 ] والله أعلم بصواب ذلك.