تفسير القرطبي
القرطبي ج 11

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الحادي عشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51) ويوم يقول نادوا شركاءى الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52) ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53) قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم) قيل: الضمير عائد على إبليس وذريته، أي لم أشاورهم في خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت. وقيل: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السموات والارض " ولا خلق أنفسهم " أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني ؟. وقيل: الكناية في قوله: " ما أشهدتهم " ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الاطباء وسواهم من كل من يتخوض (1) في هذه الاشياء. وقال ابن عطية: وسمعت أبي رضي الله عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد (2) بن معاذ المهدوي بالمهدية يقول: سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف. وذكر هذا بعض الاصوليين. قال ابن عطية وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن، حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الاول بالمضلين، وتندرج هذه الطوائف في معناهم. قال الثعلبي: وقال بعض أهل العلم " ما أشهدتهم خلق السموات والارض " رد على المنجمين أن قالوا: إن الافلاك تحدث في الارض وفي بعضها في بعض، وقوله: " والارض " رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا: (1) من ج وفي ا: ينخرط وفي ك وى والبحر: يتخرص. (2) في ك: أبا عبد الله بن عبد الله. (*)
[ 2 ]
إن الارض كرية والافلاك تجري تحتها، والناس ملصقون عليها وتحتها، وقوله: " ولا خلق أنفسهم " رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرأ أبو جعفر: " ما أشهدناهم " بالنون والالف على التعظيم. الباقون بالتاء بدليل قوله: (وما كنت متخذ) يعني ما استعنتهم على خلق السموات والارض ولا شاورتهم. (وما كنت متخذ المضلين) يعني الشياطين. وقيل: الكفار. (عضدا) أي أعوانا يقال: أعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت. والاصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون، لان اليد قوامها العضد. يقال: عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه. ومنه قوله تعالى: " سنشد عضدك بأخيك " (1) [ القصص: 35 ] أي سنعينك بأخيك. ولفظ العضد على جهة المثل، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. وقرأ أبو جعفر الجحدري: " وما كنت " بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا. وفي عضد ثمانية أوجه: " عضدا " بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور، وهي أفصحها. و " عضدا " بفتح العين وإسكان الضاد، وهي لغة بني تميم. و " عضدا " بضم العين والضاد، وهي قراءة أبي عمرو والحسن. و " عضدا " بضم العين وإسكان الضاد، وهي قراءة عكرمة. و " عضدا " بكسر العين وفتح الضاد، وهي قراءة الضحاك. و " عضدا " بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر. وحكى هارون القارئ " عضدا " واللغة الثامنة " عضدا " على لغة من قال: كتف وفخذ. قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم) أي اذكروا يوم يقول الله: أين شركائي ؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي. وإنما يقول ذلك لعبدة الاوثان. وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر " نقول " بنون. الباقون بالياء، لقوله: " شركائي " ولم يقل: شركائنا. (فدعوهم) أي فعلوا ذلك. (فلم يستجيبوا لهم) أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا. (وجعلنا بينهم موبقا) قال أنس ابن مالك: هو واد في جهنم من قيح ودم. وقال ابن عباس: أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا. وقيل: بين الاوثان وعبدتها، نحو قوله: " فزيلنا بينهم " (2). (هامش) (1) راجع ج 1 ص 284. (2) راجع ج 8 ص 333. (*)
[ 3 ]
قال ابن الاعرابي: كل شئ حاجز بين شيئين موبق، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى: " موبقا " قال واد في جهنم يقال له موبق، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال: يحجز بينهم وبين المؤمنين. عكرمة: هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار. وروى زيد (1) بن درهم عن أنس بن مالك قال: " موبقا " (واد من قيح ودم في جهنم). وقال عطاء والضحاك: مهلكا في جهنم، ومنه يقال: أوبقته ذنوبه إيباقا. وقال أبو عبيدة: موعدا للهلاك. الجوهري: وبق يبق وبوقا هلك، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد، ومنه قوله تعالى: " وجعلنا بينهم موبقا ". وفيه لغة أخرى: وبق يوبق وبقا. وفيه لغة ثالثة: وبق يبق بالكسر فيهما، وأوبقه أي أهلكه. وقال زهير: ومن يشتري حسن الثناء بماله * يصن عرضه من كل شنعاء موبق قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة. قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار) " رأى " أصله رأي، قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها، ولهذا زعم الكوفيون أن " رأى " يكتب بالياء، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين. فأما البصريون الحذاق، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالالف. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالالف، ولا فرق بين ذوات الياء وبين [ ذوات ] الواو في الخط كما أنه لا فرق، بينهما في اللفظ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالالف، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة، وكسا جمع كسوة، وهما من ذوات الواو بالياء، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل. (فظنوا أنهم مواقعوها) " فظنوا " هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال: (3) * فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج (1) في الاصول: يزيد وهو تحريف والتصويب عن (التهذيب). (2) الزيادة من ك و (إعراب القرآن) للنحاس. (3) هو دريد بن الصمة، وتمام البيت: * سراتهم في الفارسى المسرد * (*)
[ 4 ]
أي أيقنوا، وقد تقدم (1). قال ابن عباس: (أيقنوا أنهم مواقعوها) وقيل: رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال. وفي الخبر: (إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة). والمواقعة ملابسة الشئ بشدة. [ وعن علقمة أنه قرأ (1) ]: " فظنوا أنهم ملافوها " أي مجتمعون فيها، واللفف الجمع. (ولم يجدوا عنها مصرفا) أي مهربا لاحاطتها بهم من كل جانب. وقال القتبي: معدلا ينصرفون إليه. وقيل: ملجأ يلجئون إليه، والمعنى واحد. وقيل: ولم تجد الاصنام مصرفا للنار عن المشركين. قوله تعالى: ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا (54) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتى وما أنذروا هزوا (56) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59) (1) راجع ج 1 ص 375 فما بعد. (2) الزيادة من تفسير (البحر المحيط). (*)
[ 5 ]
قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل) يحتمل وجهين: [ أحدهما ] ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية. الثاني ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في " سبحان " (1)، فهو على الوجه الاول زجر، وعلى الثاني بيان. (وكان الانسان أكثر شئ جدلا) أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن وقيل: الآية في أبي بن خلف. وقال الزجاج: أي الكافر أكثر شئ جدلا، والدليل على أنه أراد الكافر قوله " ويجادل الذين كفروا بالباطل ". وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له ما صنعت فيما أرسلت إليك فيقول رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك فيقول الله له هذه صحيفتك ليس فيها شئ من ذلك فيقول يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول ولا أقبلهم يا رب وكيف أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول الله تعالى هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك فقال يا رب ألم تجرني من الظلم قال بلى فقال يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي من نفسي فيقول الله تعالى الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك فيتفكر من ذا الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليلعن بعضا يقول لاعضائه لعنكن الله فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك الله أفتعلم أن الله تعالى يكتم حديثا فذلك قوله تعالى: " وكان الانسان أكثر شئ جدلا) " أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا. وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة [ ليلا ] (2) فقال: (ألا تصلون) فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: " وكان الانسان أكثر شئ جدلا ") قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) أي القرآن والاسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام (ويستغفروا ربهم إلا أن يأتيهم سنة الاولين) أي سنتنا في إهلاكهم (1) راجع ج 10 ص 264 فما بعد. (2) من ج. (*)
[ 6 ]
إي ما منعهم عن الايمان إلا حكمي عليهم بذلك، ولو حكمت عليهم بالايمان آمنوا. وسنة الاولين عادة الاولين في عذاب الاستئصال. وقيل: المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الاولين فحذف. وسنة الاولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك (1) " [ الانفال: 32 ] الآية. (أو يأتيهم العذاب قبلا) (2) نصب على الحال، ومعناه عيانا، قاله ابن عباس. وقال الكلبي: هو السيف يوم بدر. وقال مقاتل: فجأة. وقرأ أبو جعفر وعاصم والاعمش وحمزة ويحيى والكسائي " قبلا " بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله (3)، جمع قبيل نحو سبيل وسبل. النحاس: ومذهب الفراء أن " قبلا " جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا. ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانا. وقال الاعرج: وكانت قراءته " قبلا " معناه جميعا. وقال أبو عمرو: وكانت قراءته " قبلا " ومعناه عيانا. قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين) أي بالجنة لمن آمن (ومنذرين) أي مخوفين بالعذاب من الكفر. وقد تقدم. (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق) قيل: نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون: ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم (4). ومعنى: " يدحضوا " يزيلوا ويبطلوا وأصل الدحض الزلق. يقال: دحضت رجله أي زلقت، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت، وأدحضها الله. والادحاض الازلاق. وفي وصف الصراط: (ويضرب الجسر على جهنم (5) وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم) قيل: يا رسول الله وما الجسر ؟ قال: " دحض مزلقة " أي تزلق فيه القدم. قال طرفة: أبا منذر رمت الوفاء فهبته * وحدت كما حاد البعير عن الدحض (1) راجع ج 7 ص 398. (2) هذه قراءة (نافع) التي كان يقرأ بها المفسر رحمه الله تعالى. (3) في ك: كأنه. (4) راجع ج 10 ص 58. (5) تحل: تقع ويؤذن فيها وهو (بكسر الحاء) وقيل: (بضمها). النووي. (*)
[ 7 ]
(واتخذوا آياتي) يعني القرآن. (وما أنذروا) من الوعيد (هزوا) و " ما " بمعنى المصدر أي والانذار وقيل: بمعنى الذي، أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا، وقد تقدم في " البقرة " (1) بيانه. وقيل: هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الاولين، وقالوا للرسول: " هل هذا إلا بشر مثلكم " (2) [ الانبياء: 3 ] " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " (3) [ الزخرف: 31 ] و " ماذا أراد الله بهذا مثلا " (4) [ المدثر: 31 ]. قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها. (ونسى ما قدمت يداه) أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها، فالنسيان هنا بمعنى الترك قيل: المعنى نسي ما قدم لنفسه وحصل من العذاب، والمعنى متقارب. (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) بسبب كفرهم، أي نحن منعنا الايمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم. (وإن تدعهم إلى الهدى) أي إلى الايمان، (فلن يهتدوا إذا أبدا) نزل في قوم معينين، وهو يرد على القدرية قولهم، وقد تقدم معنى هذه الآية في " سبحان " (5) [ الاسراء: 1 ] وغيرها. قوله تعالى: (وربك الغفور ذو الرحمة) أي للذنوب. وهذا يختص به أهل الايمان دون الكفرة بدليل قوله: " إن الله لا يغفر أن يشرك به " (6) [ النساء: 48 ]. " ذو الرحمة " فيه أربع تأويلات: أحدها - ذو العفو. الثاني - ذو الثواب، وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الايمان دون الكفر. [ الثالث ] ذو النعمة. [ الرابع ] ذو الهدى، وهو على هذين الوجهين يعم أهل الايمان والكفر، لانه ينعم في الدنيا على الكافر، كإنعامه على المؤمن. وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر. ومعنى قوله: (لو يؤاخذهم بما كسبوا) أي من الكفر والمعاصي. (لعجل لهم العذاب) ولكنه يمهل. (بل لهم موعد) أي أجل مقدر يؤخرون إليه، نظيره: " لكل نبإ مستقر " (7) [ الانعام: 67 ]، " لكل أجل كتاب " (8) [ الرعد: 38 ] (1) راجع ج 3 ص 156 فما بعد. (2) راجع ص 269 من هذا الجزء. (3) راجع ج 16 ص 82. (4) راجع ج 19 ص 80. (5) راجع ج 10 ص 271. (6) راجع ج 5 ص 245. (7) راجع ج 7 ص 11. (8) راجع ج 9 ص 328. (*)
[ 8 ]
أي إذا حل لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة. (لن يجدوا من دونه موئلا) أي ملجأ، قاله ابن عباس وابن زيد، وحكاه الجوهري في الصحاح. وقد وأل يئل وألا ووءولا على فعول أي لجأ، وواءل منه على فاعل أي طلب النجاة. وقال مجاهد: محرزا. قتادة: وليا. وأبو عبيدة: منجى. وقيل: محيصا، والمعنى واحد. والعرب تقول: لا وألت نفسه أي لا نجت، ومنه قول الشاعر: لا وألت نفسك خليتها * للعامريين ولم تكلم وقال الاعشى: وقد أخالس رب البيت غفلته * وقد يحاذر مني ثم ما يئل أي ما ينجو. قوله تعالى: (وتلك القرى أهكلناهم) " تلك " في موضع رفع بالابتداء. " القرى " نعت أو بدل. و " أهلكناهم " في موضع الخبر محمول على المعنى، لان المعنى أهل القرى. ويجوز أن تكون " تلك " في موضع نصب على [ قول ] (1) من قال: زيدا ضربته، أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا. (وجعلنا لمهلكهم موعدا) (2) أي وقتا معلوما لم تعده. و " مهلك " من أهلكوا. وقرأ عاصم: " مهلكهم " بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك. وأجاز الكسائي والفراء " لمهلكهم " بكسر اللام وفتح الميم. النحاس: [ قال الكسائي ] (1) وهو أحب إلي لانه من هلك. الزجاج: [ مهلك (3) ] اسم للزمان والتقدير: لوقت مهلكهم، كما يقال: أتت الناقة على (4) مضربها. قوله تعالى: وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا (60) (1) الزيادة من (إعراب القرآن) للنحاس. (2) هذه قراءة الجمهور كما في البحر وغيره. (3) من ك. (4) ضرب الجمل الناقة يضربها إذا نزا عليها وأتت الناقة على مضربها: أي على الزمن والوقت الذي ضربها الفحل فيه جعلوا الزمان كالمكان. (*)
[ 9 ]
فيه أربه مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإذا قال موسى لفتاه لا أبرح) الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره. وقالت فرقة منها نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى ابن عمران. وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره. وفتاه: هو يوشع بن نون. وقد مضى ذكره في " المائدة " (1) وآخر " يوسف " (2). ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون. (لا أبرح) أي لا أزال أسير، قال الشاعر: (3) وأبرح ما أدام الله قومي * بحمد الله منتطقا مجيدا وقيل: " لا أبرح " لا أفارقك. (حتى أبلغ مجمع البحرين) أي ملتقاهما. قال قتادة: وهو بحر فارس والروم، وقاله مجاهد. قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول. وقيل: هما بحر الاردن وبحر القلزم. وقيل: مجمع البحرين عند طنجة، قاله محمد بن كعب. وروي عن أبي بن كعب: أنه بأفريقية. وقال السدي: الكر والرس (4) بأرمينية. وقال بعض أهل العلم: هو بحر الاندلس من البحر المحيط، حكاه النقاش، وهذا مما يذكر كثيرا. وقالت فرقة: إنما هما موسى والخضر، وهذا قول ضعيف، وحكي عن ابن عباس، ولا يصح، فإن الامر بين من الاحاديث أنه إنما وسم (5) له بحر ماء. وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن موسى عليه السلام قام خطيبا (هامش) * (1) راجع ج 6 ص 130 فما بعد. (2) راجع ج 9 ص 270 فما بعد. (3) هو خداش بن زهير يقول: لا أزال أجنب فرسى جوادا ويقال: إنه أراد قولا يستجاد في الثناء على قومي وفي (اللسان): (على الاعداء) يدل (بحمد الله). (4) الكر والرس: نهران. (5) في ج وك: إنما رسم له بحرتا. (*)
[ 10 ]
في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم) وذكر الحديث، واللفظ للبخاري. وقال ابن عباس: (لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكرهم بأيام الله، فخطب قومه فذكرهم ما آتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، واستخلفهم في الارض، ثم قال: وكلم الله نبيكم تكليما، واصطفاه لنفسه، وألقى علي (1) محبة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، فجعلكم أفضل أهل الارض، ورزقكم العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والتوراة بعد أن كنتم جهالا، فقال له رجل من بني إسرائيل: عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الارض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال: لا، فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث الله جبريل: أن يا موسى وما يدريك أين [ أضع ] (2) علمي ؟ بلى ! إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك، وذكر الحديث. قال علماؤنا: وقوله في الحديث: (هو أعلم منك) أي بأحكام وقائع مفصلة، وحكم نوازل معينة، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى: إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت، وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه واحد منهما ولا يعلمه الآخر، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة، وهمته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه أعلم منك، فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف (3) السبيل، فأمر بالارتحال على كل حال. وقيل له: احمل معك حوتا مالحا في مكتل - - وهو الزنبيل - فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل، فانطلق مع فتاه لما واتاه، مجتهدا طلبا قائلا: " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ". (أو أمضي حقبا) بضم الحاء والقاف وهو الدهر، والجمع أحقاب. وقد تسكن قافه فيقال حقب. وهو ثمانون سنة. ويقال: أكثر من ذلك. والجمع حقاب. والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون. (1) في ى: عليه. (2) الزيادة من كتب التفسير. (3) في ج وك: فكيف. (4) في البحر: الحقب السنون. (*)
[ 11 ]
الثانية - في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم وذلك كان دأب السلف الصالح وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام وصح لهم من الذكر والاجر والفضل أفضل الاقسام. قال البخاري: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث. الثالثة - قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه) للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدهما - أنه كان معه يخدمه والفتى في كلام العرب الشاب ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم: فتى على جهة حسن الادب وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحكم عبدى ولا أمتى وليقل فتاى وفتاتي) فهذات ندب إلى التواضع، وقد تقدم هذا قي (يوسف) (1). والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم ابن يوسف عليه السلام. ويقال: هو ابن أخت موسى عليه السلام. وقيل: إنما سمى فتى موسى لانه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا، وهذا معنى الاول. وقيل: إنما سماه فتى لانه قام مقام الفتى وهو العبد قال الله تعالى: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم (1)) وقال: (تراود فتاها عن نفسه (1)) قال ابن العربي: فظاهر القرآن يقتضى أنه عبد وفي الحديث: أنه كان يوشع بن نون. وفي (التفسير) أنه ابن أخته وهذا كله مما لا يقطع به والتوقف فيه أسلم. الرابعة - قوله تعالى: (أو أمضى حقبا) قال عبد الله بن عمر: والحقب ثمانون سنة. مجاهد: سبعون خريفا. قتادة: زمان، النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود: وجمعه أحقاب. (1) راجع ج 9 ص 194 وص 176 وص 222. (*)
[ 12 ]
قوله تعالى: فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا (61) فلما جاوزا قال لفتئه ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا (62) قال أرءيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسنيه إلا الشيطن أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا (63) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا علئ اثارهما قصصا (64) فوجدا عبدا من عبادنا ءاتينه رحمة من عندنا وعلمنه من لدنا علما (65) قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا) الضمير في قوله: " بينهما " للبحرين، قاله مجاهد. والسرب المسلك، قاله مجاهد [ أيضا ] (1). وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسرب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله: " نسيا حوتهما " وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل: المعنى، نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " (2) [ الرحمن: 22 ] وإنما يخرج من الملح، وقوله: " يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم " (3) وإنما الرسل من الانس لا من الجن. وفي البخاري: فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كبيرا، فذلك قوله عزوجل: " وإذ قال موسى لفتاه " يوشع بن نون - ليست عن سعيد (4) - قال: فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان (5) إذ تضرب (6) الحوت وموسى نائم (1) من ك. (2) راجع ج 17 ص 161. (3) راجع ج 7 ص 85. (4) أي قال ابن جريج - هو أحد رواة الحديث - ليست تسمية الفتى عن سعيد بن جبير. (قسطلاني). (5) ثريان: يقال مكان ثريان وأرض ثريا إذا كان في ترابهما بلل وندى. (6) تضرب: اضطرب وتحرك إذ حيى في المكمل. (*)
[ 13 ]
فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا أستيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر، قال لي عمرو (1): هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما). وفي رواية. وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار [ عليه ] (2) مثل الطاق (3)، فلما أستيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره "). وقيل: إن النسيان كان منهما لقوله تعالى: " نسيا " فنسب النسيان إليهما، وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لانه الذي أمر به، فلما مضيا كان فتاه هو الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا (فلما جاوزا) يعني الحوت هناك منسيا - أي متروكا - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكا في النسيان لان النسيان التأخير، من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ الله في أجلك. فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لانهما مضيا وتركا الحوت. قوله تعالى: (آتنا غداءنا) فيه مسألة واحدة، وهو اتخاذ الزاد في الاسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الاغمار (4)، الذين يقتحمون المهامه والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الارض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد. وفي صحيح البخاري: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى " وتزودوا " وقد مضى هذا في " البقرة " (5). واختلف في زاد موسى ما كان، فقال ابن عباس: كان حوتا مملوحا في زنبيل، وكانا يصيبان منه غداء وعشاء، فلما انتهيا إلى (1) أي قال ابن جريج قال لي عمرو... الخ. (2) من ج وك وى. (3) الطاق: عقد البناء. (4) الاغمار جمع غمر (بالضم): وهو الجاهل الغر الذى لم يجرب الامور. (5) راجع ج 2 ص 411 فما بعد. (*)
[ 14 ]
الصخرة على ساحل البحر، وضع فتاه (1) المكتل، فأصاب الحوت جري البحر فتحرك الحوت في المكتل، فقلب المكتل وانسرب الحوت، ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى. وقيل: إنما كان الحوت دليلا على موضع الخضر لقوله في الحديث: (أحمل معك حوتا في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثم) على هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت، وهذا ذكره شيخنا الامام أبو العباس وأختاره. وقال ابن عطية: قال أبي رضي الله عنه، سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم. وقوله: (نصبا) أي تعبا، والنصب التعب والمشقة. وقيل: عنى به هنا الجوع، وفي هذا دليل على جواز الاخبار بما يجده الانسان من الالم والامراض، وأن ذلك لا يقدح في الرضا، ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط. وفى قوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في " أنسانيه " وهو بدل الظاهر من المضمر، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وفي مصحف عبد الله " وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ". وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، فقال: ما كلفت كبيرا، فاعتذر بذلك القول. قوله تعالى: (وإتخذ سبيله في البحر عجبا) يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى، أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس. ويحتمل أن يكون قوله: " واتخذ سبيله في البحر " تمام الخبر، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه: " عجبا " لهذا الامر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الايسر ثم حي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب " الطبري ": رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شئ. قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شئ عليه قشرة رقيقة ليست (2) تحتها شوكه. ويحتمل أن يكون قوله: " واتخذ سبيله " إخبارا من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا، أي تعجب منه. وإما أن يخبر (1) في ك: صاحبه. (2) سقط من ك وى: ليست. (*)
[ 15 ]
عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس. ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية: أن الحوت إنما حيي لانه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة، ما مست قط شيئا إلا حيي). وفي التفسير: إن العلامة كانت أن يحيا الحوت، فقيل: لما نزل موسى بعد ما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شئ من ذلك الماء فحيي. وقال الترمذي في حديثه قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، ولا يصيب ماؤها شيئا (1) إلا عاش. قال: وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش. وذكر صاحب كتاب " العروس " أن موسى عليه السلام توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي، والله أعلم. قوله تعالى: (ذلك ما كنا نبغي) (2) أي قال موسى لفتاه أمر (3) الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثم، فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما. وفي البخاري: فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام ؟ ! من أنت ؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم. قال: فما شأنك ؟ قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا)، الحديث. وقال الثعلبي في كتاب " العرائس ": إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه فقال: وأنى بأرضنا السلام ؟ ! ثم رفع رأسه واستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: وما أدراك بي ؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي (4)، ثم قال: يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لاتبعك وأتعلم من علمك، ثم جلسا يتحدثان، فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء) وذكر الحديث على ما يأتي. (1) في ك: ميتا. (2) في الاصول: (نبغي) بالياء وهي قراءة (نافع). (3) في ك: لما مر الحوت وفقده. (4) الذي في كتاب (العرائس) للثعلبي. (فقال أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل ؟ قال نعم، قال يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل... الخ) ولعل ما هنا زيادة في بعض النسخ. (*)
[ 16 ]
قوله تعالى: (فوجدا عبدا من عبادنا) العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور، وبمقتضى الاحاديث الثابتة. وخالف من لا يعتد بقوله، فقال: ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر. وحكى أيضا هذا القول القشيري، قال: وقال قوم هو عبد صالح، والصحيح أنه كان الخضر، بذلك ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: سمي الخضر لانه كان إذا صلى اخضر ما حوله، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (إنما سمي الخضر لانه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء) هذا حديث صحيح غريب. الفروة هنا وجه الارض، قاله الخطابي وغيره. والخضر نبي عند الجمهور. وقيل: هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لان بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي. وأيضا فان الانسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي. وقيل: كان ملكا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن. والاول الصحيح، والله أعلم. قوله تعالى: (آتيناه رحمة من عندنا) الرحمة في هذه الآية النبوة. وقيل: النعمة. (وعلمناه من لدنا علما) أي علم الغيب. ابن عطية: كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر الاحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى علم الاحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم. قوله تعالى: قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66) قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا (69) قال فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا (70)
[ 17 ]
قوله تعالى: (قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) [ فيه مسألتان ]: الاولى - قوله تعالى: " قال له موسى هل أتبعك " هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل (1) المبالغ في حسن الادب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك ؟ وهذا كما في الحديث: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ وعلى بعض التأويلات يجئ كذلك قوله تعالى: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " [ المائدة: 112 ] حسب ما تقدم بيانه في " المائدة " (2). الثانية - في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضله الله، فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه، لانه نبي والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم. و " رشدا " مفعول ثان ب‍ " - تعلمني ". (قال) الخضر: (إنك لن تستطيع معي صبرا) أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي، لان الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب. وهي معنى قوله: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) والانبياء لا يقرون على منكر، لا يجوز لهم التقرير. أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وأنتصب " خبرا " على التمييز المنقول عن الفاعل. وقيل: على المصدر الملاقى في المعنى، لان قوله: " لم تحط ". معناه لم تخبره، فكأنه قال: لم تخبره خبرا، وإليه أشار مجاهد. والخبير بالامور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها. قوله تعالى: (قال ستجدني إن شاء الله صابرا) أي سأصبر بمشيئة الله. (ولا أعصى لك أمرا) أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله: " ولا أعصي لك أمرا " أم لا ؟ فقيل: يشمله كقوله: " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (3) [ الاحزاب: 35 ]. وقيل: استثنى في الصبر فصبر، وما استثنى في قوله: " ولا أعصي لك أمرا " فاعترض (1) في ك: المشترك. (2) راجع ج 6 ص 365. (3) راجع ج 14 ص 185. (*)
[ 18 ]
وسأل، قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه، لان الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا، والله أعلم. قوله تعالى: (قال فإن أتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والاعراض. قوله تعالى: فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71) قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا (72) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا (73) قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) [ فيه مسألتان ] الاولى - في صحيح مسلم والبخاري: (فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ [ موسى ] (1) إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها " لقد جئت شيئا إمرا. قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا. قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكانت الاولى من موسى نسيانا) قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقر في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. قال علماؤنا: حرف السفينة طرفها وحرف كل شئ طرفه، [ ومنه حرف الجبل ] (2) وهو أعلاه المحدد. والعلم هنا بمعنى المعلوم، كما قال: (1) الزيادة من البخاري. (2) الزيادة من كتب اللغة. (*)
[ 19 ]
" ولا يحيطون بشئ من علمه " (1) [ البقرة: 255 ] أي من معلوماته، وهذا من الخضر تمثيل، أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله، كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر، وإنما مثل له ذلك بالبحر لانه أكثر ما يشاهده مما بين أيدينا، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم، إذ لا نقص في علم الله، ولا نهاية لمعلوماته. وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر وفي (التفسير) عن أبي العالية: لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة. وقيل: خرج أهل السفينة إلى جزيرة، وتخلف الخضر فخرق السفينة، وقال ابن عباس: (لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية، وقال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل ! كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني ! قال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك ؟ قال: نعم. قال: كذا وكذا قال: صدقت، ذكره الثعلبي في كتاب (العرائس). الثانية - في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه. وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض. وقرأ حمزة والكسائي: " ليغرق " بالياء " أهلها " بالرفع فاعل يغرق، فاللام على قراءة الجماعة في " لتغرق " لام المآل مثل " ليكون لهم عدوا وحزنا " (2). وعلى قراءة حمزة لام كي، ولم يقل لتغرقني، لان الذي غلب عليه في الحال فرط الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم.. (إمرا) معناه عجبا، قاله القتبي، وقيل: منكرا، قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: الامر الداهية العظيمة، وأنشد: قد لقى الاقران مني نكرا * داهية دهياء إدا إمرا وقال الاخفش: يقال أمر أمره يأمر [ أمرا ] (3) إذا أشتد والاسم الامر. (1) راجع ج 3 ص 268. (2) راجع ج 13 ص 252. (3) الزيادة من كتب اللغة. (*)
[ 20 ]
قوله تعالى: (قال لا تؤاخذني بما نسيت) في معناه قولان: أحدهما - يروى عن ابن عباس، قال: هذا من معاريض الكلام. والآخر - أنه نسي فاعتذر، ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره، وقد تقدم، ولو نسى في الثانية لاعتذر. قوله تعالى: فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74) قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا (75) قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا (76) قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله) في البخاري قال يعلى قال سعيد: وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، " قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس " لم تعمل بالحنث (1)، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي: ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، قال له موسى: " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " قال (2) وهذه أشد من الاولى. " قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ". لفظ البخاري. وفي (التفسير): إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده (3) غلاما ليس فيهم أضوأ منه، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه، فقتله. قال أبو العالية: لم يره إلا موسى، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام. (1) لانها لم تبلغ الحلم وهو تفسير لقوله: (زكية) أي أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث بغير نفس. ولابي ذر: لم تعمل الخبث (بخاء معجمة وموحدة مفتوحتين). قسطلاني كذا في ك. (2) هو سفيان بن عيينة كما في القسطلاني. وقيل: كانت هذه أشد من الاولى لما فيها من زيادة (لك). (3) في ك وى: بيد غلام. (*)
[ 21 ]
قلت: ولا اختلاف بين هذه الاحوال الثلاثة، فإنه يحتمل أن يكون دمغه أولا بالحجر، ثم أضجعه فذبحه، ثم أقتلع رأسه، والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرأ الجمهور: " زاكية " بالالف. وقرأ الكوفيون وابن عامر: " زكية " بغير ألف وتشديد الياء، قيل: المعنى واحد، قاله الكسائي. وقال ثعلب: الزكية أبلغ. قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم تابت. قوله تعالى: " غلاما " اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا ؟ فقال الكلبي: كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الاخرى، فأخذه الخضر فصرعه، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي: واسم الغلام شمعون. وقال الضحاك: حيسون. وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى. وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى. وقال الجمهور: لم يكن بالغا، ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام، فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء. وكان الخضر قتله لما علم من سيره، وأنه طبع كافرا كما في صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لارهق أبويه كفرا، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك، فان الله تعالى الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء، وفي كتاب العرائس: إن موسى لما قال للخضر " أقتلت نفسا زكية " - الآية - غضب الخضر وأقتلع كتف الصبي الايسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبدا. وفد احتج أهل القول الاول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الاخيلية: (1) شفاها من الداء العضال الذي بها * غلام إذا هز القناة سقاها وقال صفوان لحسان: (2) تلق ذباب السيف عني فإنني * غلام إذا هوجيت لست بشاعر (1) البيت من قصيدة مدحت بها الحجاج بن يوسف وقبله: إذا نزل الحجاج أرضا مريضة * تتبع أقصى دائها فشفاها (2) قد كان حسان رضى الله عنه قال شعرا يعرض فيه صفوان بن المعطل ويمن أسلم من العرب من مضر فاعترضه ابن المعطل وضربه بالسيف وقال البيت. (راجع القصة في سيرة ابن هشام). (*)
[ 22 ]
وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يفسد في الارض، ويقسم لابويه أنه ما فعل، فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا وقوله: " بغير نفس " يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله لانه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس: كان شابا يقطع الطريق. وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " والكفر والايمان من صفات المكلفين، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لابويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه. والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق. قوله تعالى: " نكرا " اختلف الناس أيهما أبلغ " إمرا " أو قوله " نكرا " فقالت فرقة: هذا قتل بين، وهناك مترقب، ف‍ " - نكرا " أبلغ. وقالت فرقة: هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة ف‍ " إمرا " أبلغ. قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين وقوله: " إمرا " أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و " نكرا " بين في الفساد لان مكروهه قد وقع، وهذا بين. قوله: (إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني) شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الانبياء، والتزم للانبياء. وقوله: (قد بلغت من لدني عذرا) يدل على قيام الاعتذار (1) بالمرة الواحدة مطلقا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع، قاله ابن العربي. ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الاحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوم (2) ثلاثة، فتأمله. قوله تعالى: (فلا تصاحبني) كذا قرأ الجمهور أي تتابعني. وقرأ الاعرج: (تصحبني) بفتح التاء والباء وتشديد النون. وقرئ: (تصحبني) أي تتبعني. وقرأ يعقوب: (تصحبني) بضم التاء وكسر الحاء، ورواها سهل عن أبي عمرو قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك. " قد بلغت من لدن عذرا " أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي، وقرأ الجمهور: " من لدني " بضم الدال، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون، فهي " لدن " اتصلت بها ياء (1) في ك: الاعذار. (2) في ك وى: التلوم. ولعله الاشبه. (*)
[ 23 ]
المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم " لدني " بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون. وروي عن عاصم " لدني " بضم اللام وسكون الدال، قال ابن مجاهد: وهي غلط، قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة. وقرأ الجمهور: " عذر ". وقرأ عيسى: " عذرا " بضم الذال. وحكى الداني (1) أن أبيا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " عذري " بكسر الراء وياء بعدها. مسألة: أسند الطبري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لاحد بدأ بنفسه، فقال يوما: " رحمه الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال: " فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا "). والذي في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب) قال: وكان إذا ذكر أحدا من الانبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا وعلى أخى كذا. وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما). الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها، وهي الرقة والعار من تلك (2) الحرمة: يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة. وكأنه أستحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الانكار. قوله تعالى: فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا (77) قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (78) (1) كذا في ج وك وى. وفي ا: الداراني. وهو غلط. (2) في ج وك وى: ترك الحرمة. (*)
[ 24 ]
فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (حتى إذا أتيا أهل قرية) في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لئام " فطافا في المجلس (1) ف‍ " - استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدار يريد أن ينقض " يقول: مائل قال: " فأقامه " الخضر بيده قال له موسى: قوم أتيناهم فلم يضيفونا، ولم يطعمونا، " لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما). الثانية - واختلف العلماء في القرية فقيل: هي أبلة، قاله قتادة، وكذلك قال محمد ابن سيرين، وهى أبخل قرية وأبعدها من السماء. وقيل: أنطاكية وقيل: بجزيرة الاندلس، روي ذلك عن أبي هريرة وغيره، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء. وقالت فرقة: هي باجروان وهي بناحية أذربيجان. وحكى السهيلي وقال: إنها برقة. الثعلبي: هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة، وإليها تنسب النصارى، وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الارض كانت قصة موسى. والله أعلم بحقيقة ذلك. الثالثة - كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر، ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوت، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة، منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا (2) لغيره. قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه: " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع، والله أعلم. وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت (3). الرابعة - في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال (4) المتصوفة. والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة، (1) في ك وى: في المجالس. (2) في ك: متبعا. (3) في ك: والقوة. (4) في ك: للجهال من المتصوفة. (*)
[ 25 ]
بدليل قوله: " فأبوا أن يضيفوهما " فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الاليق بحال الانبياء، ومنصب الفضلاء والاولياء. وقد تقدم القول في الضيافة في " هود " (1) والحمد لله. ويعفو الله عن الحريري (2) حيث استخف في هذه الآية وتمجن، وأتى بخطل من القول وزل، فاستدل بها على الكدية (3) والالحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه، فقال: وإن رددت فما في الرد منقصة * عليك قد رد موسى قبل والخضر قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية، ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشئ فإياك أن تلعب بدينك. الخامسة - قوله تعالى: (جدارا) الجدار والجدر بمعنى، وفي الخبر: (حتى يبلغ الماء الجدر) (4). ومكان جدير بني حواليه جدار، وأصله الرفع. وأجدرت الشجرة طلعت، ومنه الجدري. السادسة - قوله تعالى: (يريد أن ينقض) أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: (مائل) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور. وجميع الافعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل، وهذا في كلام العرب وأشعارها كثير، فمن ذلك قول الاعشى: (1) راجع ج 9 ص 64 فما بعد. (2) هو صاحب المقامات المشهورة والبيت الذي لمح فيه إلى الآية من مقامته (الصعدية)، في ك: تسخف. (3) الكدية: تكفف الناس. (4) الحديث في مخاصمة الزبير لرجل من الانصار في سيول شريج الحرة فقال صلى الله عليه وسلم: " إسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " أراد ما دفع حول المزرعة كالجدار. (*)
[ 26 ]
أتنتهون ولا ينهي ذوي شطط (1) * كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل فأضاف النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الآخر: يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل وقال آخر: إن دهرا يلف شملي بجمل * لزمان يهم بالاحسان وقال آخر: في مهمه فلقت به هاماتها * فلق الفؤس إذا أردن نصولا أي ثبوتا في الارض، من قولهم: نصل السيف إذا ثبت في الرمية، فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤس في الارض، فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج. وقال حسان بن ثابت: لو أن اللؤم ينسب كان عبدا * قبيح الوجه أعور من ثقيف وقال عنترة: فازور من وقع القنا بلبانه * وشكا إلي بعبرة وتحمحم وقد (2) فسر هذا المعنى بقوله: * لو كان يدري ما المحاورة اشتكى * وهذا في هذا المعنى كثير جدا. ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان. وفي الحديث: (اشتكت النار إلى ربها). وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن، منهم أبو إسحق الاسفرايني وأبو بكر محمد بن داود الاصبهاني وغيرهما، فإن كلام الله عز وجل وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين، لانه يقص الحق كما أخبر الله تعالى في كتابه. ومما احتجوا به أن قالوا: لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز (1) الشطط: الجور والظلم يقول لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن الجائف الذي يغيب فيه الفتل. (2) أي عنترة وتمام البيت: * ولكان لو علم الكلام مكلمي * (*)
[ 27 ]
أيضا، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال، قال الله تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " (1) [ النور: 24 ] وقال تعالى: " وتقول هل من مزيد " (2) [ ق: 30 ] وقال تعالى: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " (3) [ الفرقان: 12 ] وقال تعالى: " تدعو من أدبر وتولى " (4) [ المعارج: 17 ] و (اشتكت النار إلى ربها) (واحتجت النار والجنة) وما كان مثلها حقيقة، وأن خالقها الذي أنطق كل شئ أنطقها. وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر (5) من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه). هذا في الآخرة. وأما في الدنيا، ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الانس وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده) [ قال أبو عيسى ] (6): وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب. السابعة - قوله تعالى: (فأقامه) قيل: هدمه ثم قعد يبنيه. فقال موسى للخضر: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " لانه فعل يستحق أجرا. وذكر أبو بكر الانباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه " قال أبو بكر: وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن، وأن بعض الناقلين أدخل [ تفسير ] (7) قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان، على ما قاله بعض الطاعنين، وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام، وهذا القول هو الصحيح، وهو الاشبه بأفعال الانبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والاولياء، وفي بعض الاخبار: إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن، وطوله على وجه الارض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، فأقامه الخضر (1) راجع ج 12 ص 210. (2) راجع ج 17 ص 18. (3) راجع ج 13 ص 6. (4) راجع ج 18 ص 286 فما بعد. (5) ليعذر: بالبناء للفاعل من الاعذار والمعنى: ليزيل الله عذره من قبل نفسه. (6) الزيادة من صحيح الترمذي. (7) زيادة يقتضيها السباق. وفي الاصول: (أدخل قرآنا... الخ). (*)
[ 28 ]
عليه السلام أي سواه بيده فاستقام، قاله الثعلبي في كتاب العرايس: فقال موسى للخضر: " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " أي طعاما نأكله، ففي هذا دليل على كرامات الاولياء، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة، هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي. وقول تعالى: " وما فعلته عن أمري " [ الكهف: 82 ] يدل على نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف (1) والاحكام، كما أوحى للانبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول، والله أعلم. الثامنة - واجب على الانسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه، لان في حديث النبي عليه الصلاة والسلام (إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي). قال أبو عبيد القاسم بن سلام: كان أبو عبيدة يقول: الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة، والبناء المرتفع، قال جرير: ألوى (2) بها شذب العروق مشذب * فكأنما وكنت على طربال يقال منه: وكن يكن إذا جلس، وفي الصحاح: الطربال القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام صوامعها. ويقال: طربل بوله إذا مده إلى فوق. التاسعة - كرامات الاولياء ثابتة، على ما دلت عليه الاخبار الثابتة، والآيات المتواترة ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد، أو الفاسق الحائد، فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، على الخلاف. ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال كان نبيا، لان إثبات النبوة لا يجوز بأخبار (1) كذا في ك وى. وفي ا وج وح: التكليف. (2) ألوى: ذهب بها حيث أراد. شذب العروق: ظاهر العروق لقلة اللحم، من قولهم: رجل مشذب أي خفيف قليل اللحم. (*)
[ 29 ]
الآحاد، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الامة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نبي بعدي) وقال تعالى: " وخاتم النبيين " (1) [ الاحزاب: 40 ] والخضر و [ إلياس ] (2) جميعا باقيان مع هذه الكرامة، فوجب أن يكونا غير نبيين، لانهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده. قلت: [ الجمهور أن ] (3) الحضر كان نبيا - على ما تقدم - وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، أي يدعي النبوة بعده أبتداء الله أعلم. العاشرة - اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا ؟ على قولين: أحدهما - أنه لا يجوز، وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بعين خوف المكر، لانه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له، وقد حكي عن السري أنه كان يقول: لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح: السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به، ولانه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف، وحصل له الامن. ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل: " تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا " (4) [ فصلت: 30 ] ولان الولي من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (إنما الاعمال بالخواتيم). القول الثاني - أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام يجوز أن يعلم أنه ولي، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم (5) أنه ولي الله تعالى، فجاز له أن يعلم ذلك. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله سبحانه وتعالى، وأشد خوفا وهيبة، فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم. وكان الشبلي يقول: أنا أمان هذا الجانب، فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم، واستولوا على بغداد، ويقول الناس: مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم. ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لانه (1) راجع ج 14 ص 196. (2) في الاصول: (دانيال) وهو تحريف. (3) من ج وك وى. (4) راجع ج 15 ص 357. (5) في ك وى: أن يعرفه. (*)
[ 30 ]
لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله، لجواز أن يكون ذلك استدراجا، فلما لم يجز ذلك لان فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا، لان فيه إبطال الكرامات. وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله: " فانسلخ منها " (1) [ الاعراف: 175 ] فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية. وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم، والله أعلم. والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الاظهار. وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الانبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له. وأما الاحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الانصاري (2) وهو جد (3) عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤا إلى فدفد (4)، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما فو الله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموا بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، وهم خبيب الانصاري وابن الدثنة ورجل آخرا (5)، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر ! والله لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لاسوة - يريد القتلى - فجزروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، فانطلقوا بخبيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو الذي قتل الحرث بن (1) راجع ج 7 ص 319 (2) وقيل: أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوى (3) قال القسطلاني: هذا وهم، وإنما هو خال عاصم لان أم عاصم جميلة بنت ثابت (4) فدفد: رابية مشرفة (5) الرجل الآخر هو عبد الله بن طارق (*)
[ 31 ]
عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبر عبيد الله بن عياض أن بنت الحرث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، [ قالت ] (1): ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لافعل ذلك. قالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل [ من ] (2) قطف عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله تعالى خبيبا، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: دعوني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين ثم قال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت (3)، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم قال: ولست أبالي حين أقتل مسلما * على أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات إلاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع فقتله بنو الحرث، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل أمرئ مسلم قتل صبرا، فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشئ منه يعرفونه، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر (4) فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا. وقال ابن إسحق في هذه القصة: وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد (5)، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه (6) الخمر فمنعهم الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته. وعن عمرو بن أمية الضمري: (1) من ج وك وى. (2) من ج وى. (3) في ك: لطولتهما. (4) الدبر: الزنابير أو ذكور النحل. (5) في ج وى: الشهيد. (6) القحف: الجمجمة. (*)
[ 32 ]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا وحده فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته، فوقع في الارض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم ألتفت فكأنما أبتلعته الارض. وفي رواية أخرى زيادة: فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة، ذكره البيهقي. الحادية عشرة - ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها وجهه (1) وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل بفلاة من الارض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فافرغ ماءه في حرة (2) فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته (3) فقال يا عبد الله ما أسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه) وفي رواية (وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل). قلت: وهذا الحديث لا يناقضه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا) خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن، فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الاعمال، وهي من أفضل الاموال، قال عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح). وقد أكثر الناس في كرامات الاولياء وما ذكرناه فيه كفاية، والله الموفق للهداية. الثانية عشرة - قوله تعالى: " لاتخذت عليه أجرا " فيه دليل على صحة جواز الاجارة، وهى سنة الانبياء والاولياء على ما يأتي بيانه في سورة " القصص " (4) إن شاء الله تعالى. وقرأ الجمهور " لاتخذت " وأبو عمرو " لتخذت " وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة، وهما (1) من ج وك وى. وهذا أشبه. (2) حرة: أرض ذات حجارة سود. والشرجة: طريق الماء ومسيله. (3) المسحاة: المجرفة من الحديد. (4) راجع ج 13 ص 267. (*)
[ 33 ]
لغتان بمعنى واحد من الاخذ، مثل قولك: تبع واتبع، وتقى واتقى. وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم. وفي حديث أبي بن كعب: لو شئت لاوتيت أجرا). وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض، فعند ذلك قال له الخضر: " هذا فراق بيني وبينك " بحكم ما شرطت على نفسك. وتكريره " بيني وبينك " وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. قال سيبويه: كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك، أي منا. وقال ابن عباس: وكان قول موسى في السفينة والغلام لله، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شئ من الدنيا، فكان سبب الفراق. وقال وهب بن منبه: كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) تأويل الشئ مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت. وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى لا عجبا له. وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم ! فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه ! فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر ! قوله تعالى: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا (80) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما (81) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82)
[ 34 ]
قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) استدل بهذا من قال: إن المسكين أحسن حالا من الفقير، وقد مضى هذا المعنى مستوفي في سورة " براءة " (1). وقد وقيل: إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون على قلت (2) في لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين، إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين. وقال كعب وغيره: كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر. وقد ذكر النقاش أسماءهم، فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما، والثاني أعور، والثالث أعرج، والرابع آدر، والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم، والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم، ذكره الثعلبي. وقرأت فرقة: " لمساكين " بتشديد السين، واختلف في ذلك فقيل: هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة، وكل الخدمة تصلح لامساكه فسمى الجميع مساكين. وقالت فرقة: أراد بالمساكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك. والاظهر قراءة: " مساكين " بالتخفيف جمع مسكين، وأن معناها: إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم. والله أعلم. قوله تعالى: (فأردت أن أعيبها) أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشئ فعاب إذا صار ذا عيب، فهو معيب وعائب. وقوله: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) قرأ ابن عباس وابن جبير: (صحيحة) وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان (صالحة). و (وراء) أصلها بمعنى خلف، فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. والاكثر على أن معنى (وراء) هنا أمام، يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا ". قال ابن عطية: " وراءهم " هو عندي على بابه، وذلك (1) راجع ج 8 ص 168 فما بعد. (2) من ج وك وى: أي على شرف هلاك أو خوف. في ط الاولى قلة وليست بصواب. (*)
[ 35 ]
أن هذه الالفاظ إنما تجئ مراعى بها الزمان وذلك أن الحدث (1) المقدم الموجود هو الامام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الالفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك، ومن قرأ " أمامهم " أراد في المكان، أي كأنهم يسيرون إلى بلد، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة أمامك) (2) يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان، وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الالفاظ، ووقع لقتادة في كتاب الطبري " وكان وراءهم ملك " قال قتادة: أمامهم ألا تراه يقول: من " ورائهم جهنم " (3) وهي بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها، قاله الزجاج. قلت: وما اختاره هذا الامام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة، قال الهروي قال ابن عرفة: يقول القائل كيف قال " من ورائه " وهي أمامه ؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قطرب أن هذا من الاضداد، وأن وراء في معنى قدام، وهذا غير محصل، لان أمام ضد وراء، وإنما يصلح هذا [ في الاماكن ] (4) والاوقات، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال: ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه، لانه يخلفه إلى وقت وعده، وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال: إنما يقال هذا في الاوقات، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك، قال الفراء: وجوزه غيره، والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك، فأخبر الله تعالى الخضر حتى عيب السفينة، وذكره الزجاج. وقال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال: أحدها - يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الاضداد قال الله تعالى: " من ورائهم جهنم " [ الجاثية: 10 ] أي من أمامهم: وقال الشاعر: (5) أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا (1) في ج وك وى: الحادث المقدم الوجود. (2) الحديث في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة. (3) راجع ج 16 ص 159. (4) من ج وك وى. (5) هو سوار بن المضرب. (*)
[ 36 ]
يعني أمامي. والثاني - أن وراء تستعمل في موضع أمام في المواقيت والازمان لان الانسان قد يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها. الثالث - أنه يجوز في الاجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما، وهذا قول علي بن عيسى. واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هدد بن بدد. وقيل: الجلندي، وقاله السهيلي. وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال: هو [ هدد بن بدد والغلام المقتول ] (1) اسمه جيسور، وهكذا قيدناه في (الجامع) من رواية يزيد المروزي، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حيسون. وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها، ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدم. وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله: فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة، الحديث. وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله: " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " (2) [ البقرة: 216 ]. قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين) جاء في صحيح الحديث: (أنه طبع يوم طبع كافرا) وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا، وقد تقدم. [ هذا المعنى ] (3). قوله تعالى: (فخشينا أن يرهقهما) قيل: هو من كلام الخضر عليه السلام، وهو الذي يشهد له سياق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين، أي خفنا (أن يرهقهما طغيانا وكفرا)، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة. وقيل: هو من كلام الله تعالى وعنه عبر الخضر. قال الطبري: معناه فعلمنا، وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا، وهذا كما كنى عن العلم بالخوف في قوله " إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " (2) [ البقرة: 229 ]. وحكى أن أبيا قرأ: " فعلم ربك " وقيل: الخشية بمعنى الكراهة، يقال: فرقت بينهما خشية أن (1) الزيادة من صحيح البخاري. (2) راجع ج 3 ص 39 وص 137. (3) من ج وك وى. (*)
[ 37 ]
يقتتلا، أي كراهة ذلك. قال ابن عطية: والاظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للابوين. وقرأ ابن مسعود " فخاف ربك " وهذا بين في الاستعارة، وهذا نظير ما وقع في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و " يرهقهما " يجشمهما ويكلفهما، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه. قوله تعالى: (فأردنا أن يبدلهما ربهما) قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال، وقرأ عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال، أي أن يرزقهما الله ولدا. (خيرا منه زكاة) أي دينا وصلاحا، يقال: بدل وأبدل مثل مهل وأمهل ونزل وأنزل. (وأقرب رحما) قرأ ابن عباس " رحما " بالضم، قال الشاعر: وكيف بظلم جارية * ومنها اللين والرحم الباقون بسكونها، ومنه قول رؤبة بن العجاج: يا منزل الرحم على إدريسا * ومنزل اللعن على إبليسا واختلف عن أبي عمرو. و " رحما " معطوف على " زكاة " أي رحمة، يقال: رحمه رحمة ورحما، وألفه للتأنيث، ومذكره رحم. وقيل: إن الرحم هنا بمعنى الرحم، قرأها ابن عباس. " وأوصل رحما " أي رحما، وقرأ أيضا " أزكى منه ". وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بدلا جارية، قال الكلبي فتزوجها نبي من الانبياء فولدت له نبيا فهدى الله تعالى على يديه أمة من الامم. قتادة: ولدت أثنى عشر نبيا، وعن ابن جريج أيضا أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم وكان المقتول كافرا. وعن ابن عباس: فولدت جارية ولدت نبيا، وفي رواية: أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا، وقاله جعفر بن محمد عن أبيه، قال علماؤنا: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الانبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم، ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الاولاد وإن كانوا قطعا من الاكباد، ومن سلم
[ 38 ]
للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما. فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب. قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين) هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم، واسمهما أصرم وصريم (1). وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتم بعد بلوغ) هذا هو الظاهر. وقد يحتمل أن يبقى عليهما أسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين، على معنى الشفقة عليهما. وقد تقدم (2) أن اليتم في الناس من قبل فقد الاب، وفي غيرهم من الحيوان من قبل فقد الام. ودل قوله: " في المدينة " على أن القرية تسمى مدينة، ومنه الحديث (أمرت بقرية (3) تأكل القرى) وفي حديث الهجرة (لمن أنت) فقال الرجل: من أهل المدينة، يعني مكة. قوله تعالى: (وكان تحته كنز لهما) اختلف الناس في الكنز، فقال عكرمة وقتادة: كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع، وقد مضى القول (4) فيه. وقال ابن عباس: كان علما في صحف مدفونة. وعنه أيضا قال: كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وروي نحوه عن عكرمة وعمر مولى غفرة، ورواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (وكان أبوهما صالحا) ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دنية (5). وقيل: هو الاب السابع، قاله جعفر بن محمد. وقيل: العاشر فحفظا فيه وإن لم يذكر بصلاح، وكان يسمى كاشحا، قاله مقاتل اسم أمهما دنيا (6)، ذكره النقاش (7). ففيه ما يدل على أن الله تعالى (1) في ج وك وى: أصيرم. (2) راجع ج 2 ص 14. (3) القرية هي مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى أكلها القرى ما يفتح على أيدى أهلها من المدن ويصيبون من غنائمها. (4) راجع ج 8 ص 123. (5) دنية: لحا وهو الاب الاقرب. (6) في روح المعاني: دهنا. (7) في ى: النحاس. (*)
[ 39 ]
يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه. وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته (1)، وعلى هذا يدل قوله تعالى: " إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين " (2) [ الاعراف: 196 ]. قوله تعالى: (وما فعلته عن أمرى) يقتضي أن الخضر نبي، وقد تقدم الخلاف في ذلك. (ذلك تأويل) أي تفسير. (ما لم تسطع عليه صبرا) قرأت فرقة: " تستطيع ". وقرأ الجمهور: " تسطع " قال أبو حاتم: كذا نقرأ كما في خط المصحف. وهنا خمس مسائل: الاولى - إن قال قائل: لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها، قيل له: اختلف في ذلك، فقال عكرمة لابن عباس: لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه ؟ فقال: شرب الفتى من الماء فخلد، وأخذه العالم فطبق عليه سفينة (3) ثم أرسله في البحر، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه. قال القشيري: وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون، فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته، والاظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر. وقال شيخنا الامام أبو العباس: يحتمل أن يكون أكتفي بذكر المتبوع عن التابع والله أعلم. الثانية - إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة: " فأرادت أن أعيبها " فأضاف العيب إلى نفسه ؟ قيل له: إنما أسند الارادة في الجدار إلى الله تعالى لانها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله تعالى أن يريده. وقيل: لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى الله تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للادب لانها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الارادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله: " وإذا مرضت فهو يشفين " (4) فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقص ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الالفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما (1) في هامش ج: ذويه. (2) راجع ج 7 ص 342. (3) في ج وك: سفينته. (4) راجع ج 13 ص 110. (*)
[ 40 ]
قال (1) تعالى: " بيدك الخير " (2) [ آل عمران: 26 ] وأقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع، إذ هو على كل شئ قدير، وهو بكل شئ خبير. ولا اعتراض بما حكاه عليه السلام عن ربه عز وجل أنه يقول يوم القيامة: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني) فإن ذلك تنزل في الخطاب وتلطف في العتاب مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال وبمقادير ثواب هذه الاعمال. وقد تقدم هذا المعنى. والله تعالى أعلم. ولله تعالى أن يطلق على نفسه ما يشاء، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الاوصاف الجميلة والافعال الشريفة. جل وتعالى عن النقائص والآفات علوا كبيرا. وقال في الغلام: " فأردنا " فكأنه أضاف القتل إلى نفسه، والتبديل إلى الله تعالى. والاشد كمال الخلق والعقل. وقد مضى الكلام فيه في " الانعام " (3) والحمد لله. الثالثة - قال شيخنا الامام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الاحكام الشرعية، فقالوا: هذه الاحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الانبياء (4) والعامة، وأما الاولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يزاد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الاكدار، وخلوها عن الاغيار، فتتجلى لهم العلوم الالهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: أستفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب، لانه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته (5) وكلامه المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس (1) في ج وك وى: قاله. (2) راجع ج 4 ص 55. (3) راجع ج 7 ص 134 فما بعد. (4) كذا في الاصول وهو واضح. (5) في ج وك وى: رسالاته. (*)
[ 41 ]
إن الله سميع بصيرا " (1) [ الحج: 75 ] وقال تعالى: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " (2) [ الانعام: 241 ] وقال تعالى: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " (3) [ البقرة: 213 ] [ الآية ] (4) إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شئ منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه [ هو ] (4) حكم الله تعالى وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو ما قاله [ رسول الله ] (4) عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي) الحديث. الرابعة - ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: [ إنه ] (4) حي لانه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الارض وأنه يحج البيت. قال بن عطية: وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي ابن أبي طالب رضى الله عنه وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الاسلام ظهور، والله العليم بتفاصيل الاشياء لا رب غيره. ومما يقضي بموت الخضر عليه السلام الآن قوله عليه السلام: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الارض أحد) (5). قلت: إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، والصحيح القول الثاني وهو أنه حي على ما نذكره. وهذا والحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله ابن عمر قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على (1) راجع ج 12 ص 98. (2) هذه قراءة نافع التي كان يقرأ بها المفسر. راجع ج 7 ص 79. (3) راجع ج 3 ص 30. (4) من ج وك وى. (5) الحديث كما في الاصول تصحيحه بما يأتي بعد. (*)
[ 42 ]
ظهر الارض أحد) قال ابن عمر: فوهل (1) الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الاحاديث عن مائة سنة، وإنما قال [ رسول الله ] (2) عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الارض أحد) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ورواه أيضا من حديث جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: (تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الارض من نفس منفوسة (3) تأتي عليها مائة سنة) وفي أخرى قال سالم: تذاكرنا أنها (هي مخلوقة يومئذ). وفي أخرى: (ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ). وفسرها عبد الرحمن صاحب السقاية قال: نقص (4) العمر. وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث قال علماؤنا: وحاصل ما تضمنه هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أخبر قبل موته بشهر أن كل من كان من بني آدم موجودا في ذلك لا يزيد عمره على مائة سنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نفس منفوسة) وهذا اللفظ لا يتناول الملائكة ولا الجن إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل، لقوله: (ممن هو على ظهر الارض أحد) وهذا إنما يقال بأصل وضعه على من يعقل، فتعين أن المراد بنو آدم. وقد بين ابن عمر هذا المعنى، فقال: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول: إن الخضر حي لعموم قوله: (ما من نفس منفوسة) لان العموم وإن كان مؤكد الاستغراق فليس نصا فيه، بل هو قابل للتخصيص. فكما لم يتناول عيسى عليه السلام، فإنه لم يمت ولم يقتل فهو حي بنص القرآن ومعناه، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة (5)، فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام وليس مشاهد للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا، فمثل هذا العموم لا يتناوله. وقد قيل: إن أصحاب الكهف أحياء (1) وهل إلى الشئ كضرب أي غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب والمعنى أن الصحابة رضى الله عنهم غلطوا وذهب وهمهم إلى خلاف الصواب في تأويل مقالة النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يقول: تقوم الساعة عند انقضاء مائة سنة فبين ابن عمر مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ويجوز وهل كتعب. (2) من ج وى. (3) منفوسة: مولودة. (4) في ج وى: بعض العمر. (5) الجساسة: دابة الارض التي تخرج آخر الزمان وسميت جساسة لتجسسها الاخبار للدجال. (*)
[ 43 ]
ويحجون مع عيسى عليه الصلاة والسلام، كما تقدم. وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا. وقد ذكر أبو إسحق الثعلبي في كتاب (العرائس) له: والصحيح أن الخضر (1) نبي معمر محجوب عن الابصار، وروى محمد بن المتوكل عن [ ضمرة بن ربيعة ] عن عبد الله ابن [ شوذب ] (2) قال: الخضر عليه السلام من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام في الموسم. وعن عمرو بن دينار قال: إن الخضر وإلياس لا يزالان حيين في الارض ما دام القرآن على الارض، فإذا رفع ماتا. وقد ذكر شيخنا الامام أبو محمد عبد المعطي ابن محمود بن عبد المعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنهم رأوا الخضر عليه السلام ولقوه، يفيد مجموعها غلبة الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما. وقد جاء في صحيح مسلم: (أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو - من خير الناس) الحديث، وفي آخره قال أبو إسحق: يعني (3) أن هذا الرجل هو الخضر. وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف: بسند يرفعه (4) إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء، وذكر أن فيه ثوابا عظيما ومغفرة ورحمة لمن قاله في أثر كل صلاة، وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة مغفرتك. وذكر أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الدعاء بعينه نحوا مما ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في سماعه من الخضر. وذكر أيضا اجتماع إلياس مع النبي عليه الصلاة والسلام. وإذا جاز بقاء إلياس إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاز بقاء الخضر، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول، وأنهما يقولان عند افتراقهما: (ما شاء الله ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله ما شاء الله ما شاء الله، توكلت على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل) وأما خبر إلياس فيأتي في " الصافات " (5) إن شاء الله تعالى. وذكر أبو عمر (1) في ج وك: والخضر على جميع الاقوال. (2) الزيادة والتصويب من (عقد الجمان) للعينى نقلا عن الثعلبي. وفي ج وك وى: روى محمد بن المتوكل عن ضمرة عن عبد الله بن سوار ". (3) في ج وك وى: يقال (4) كذا في ا وك وفي ج: يوقفه (5) راجع ج 15 ص 115. (*)
[ 44 ]
ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أهل البيت " كل نفس ذائقة الموت " (1) [ أل عمران: 185 ] - الآية - إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. فكانوا يرون أنه الخضر عليه الصلاة السلام. يعني أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. والالف واللام في قوله: (على الارض) للعهد لا للجنس وهي أرض العرب، بدليل تصرفهم فيها وإليها غالبا دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزر الهند والسند مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يعلم علمه. ولا جواب عن الدجال. قال السهيلي: واختلف في اسم الخضر اختلافا متباينا، فعن ابن منبه أنه قال: أيليا ابن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين ابن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحق، وأن أباه كان ملكا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فرباه، فلما شب وطلب الملك - أبوه - كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه من الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته وبحث عن جلية أمره عرف أنه ابنه (2) فضمه لنفسه (3) وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك لاسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. وقيل: لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يصح. وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قوله عليه الصلاة والسلام: (إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الارض ممن هو عليها أحد) يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة. (1) راجع ج 4 ص 297. (2) في ج: عرف اسمه. (3) في ك: إلى نفسه. (*)
[ 45 ]
قلت: قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه، وبينا حياة الخضر إلى الآن، والله أعلم. الخامسة - قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني، قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران. قوله تعالى: ويسئلونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا (83) إنا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شئ سببا (84) فأتبع سببا (85) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا (86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87) وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88) ثم أتبع سببا (89) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا (90) كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا (91) قوله تعالى: (ويسئلونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا) قال ابن إسحق: وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الاسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الارض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شئ من الخلق. قال ابن إسحق: حدثني من يسوق الاحاديث عن الاعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان [ رجلا ] (1) من أهل مصر اسمه مرزبان ابن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح. قال ابن هشام: واسمه الاسكندر (1) من ج وك وى. (*)
[ 46 ]
وهو الذي بنى الاسكندرية فنسبت إليه. قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي - وكان خالد رجلا قد أدرك الناس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: (ملك مسح الارض من تحتها بالاسباب). وقال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال: [ عمر ] (1) اللهم غفرا (2) أما رضيتم أن تسموا بأسماء الانبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ! فقال ابن إسحق: فالله أعلم أي ذلك كان ؟ أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا ؟ والحق ما قال. قلت: وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر، سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال علي: أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الانبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ! وعنه أنه عبد ملك (بكسر اللام) صالح نصح الله فأيده. وقيل: هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الارض. وذكر الدار قطني في كتاب الاخبار أن ملكا يقال له رباقيل (3) كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الارض يوم القيامة، وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة (4)، فيما ذكر بعض أهل العلم. وقال السهيلي: وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الارض مشارقها ومغاربها، كما أن قصة خالد ابن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين. ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها: نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد ابن سنان فلم تخرج بعد. واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا، فأما اسمه فقيل: هو الاسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال: المقدوني. وقيل: اسمه هرمس. ويقال: اسمه هرديس. وقال ابن هشام: هو الصعب (1) من ج وك وى. (2) في ج: عفوا. (3) كذا في الاصول وفي قصص الانبياء الثعلبي (رفائيل) وفي الدر المنثور (زرافيل). (4) الساهرة: أرض يجددها الله يوم القيامة. (*)
[ 47 ]
ابن ذي يزن الحميري من ولد وائل بن حمير، وقد تقدم قول ابن إسحق. وقال وهب بن منبه: هو رومي. وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام أن ذا القرنين شاب من الروم. وهو حديث واهي السند، قاله ابن عطية. قال السهيلي: والظاهر من علم الاخبار أنهما اثنان: أحدهما - كان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال: إنه الذي قضى لابراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام. والآخر: أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام. وقيل: إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان. وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل: إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما، ذكره الثعلبي وغيره. والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر: (1) فلثمت فاها آخذا بقرونها * شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وقيل: إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين. وقيل: إنما سمي بذلك لانه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا. وقالت طائفة: إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين، أو قرني الشيطان بها. وقال وهب بن منبه: كان له قرنان تحت عمامته. وسأل ابن الكواء عليا رضي الله تعالى عنه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا ؟ فقال: لاذا ولاذا، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين. واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم: كان بعد موسى. وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى وقيل: كان في وقت إبراهيم وإسمعيل. وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الاعظم، وقد ذكرناه في " البقرة " (2). وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها (1) هو عمر بن أبي ربيعة والنزيف: المحموم الذى منع من الماء والسكران. والحشرج: النقرة في الجبل يجتمع فيها الماء فيصفو، والكوز الصغير اللطيف أيضا. (2) راجع ج 3 ص 289. (*)
[ 48 ]
أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمروذ وبختنصر، وسيملكها من هذه الامة خامس لقوله تعالى: " ليظهره على الدين كله " (1) [ التوبة: 33 ] وهو المهدي وقد قيل: إنما سمي ذا القرنين لانه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه. وقيل: لانه أنقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي. وقيل: لانه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا. وقيل: لانه أعطي علم الظاهر والباطن. وقيل: لانه دخل الظلمة والنور. وقيل: لانه ملك فارس والروم. قوله تعالى: (إنا مكنا له في الارض) قال علي رضي الله عنه: (سخر له السحاب، ومدت له الاسباب، وبسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء. وفي حديث عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال: (إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الاسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له أنظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الارض كلها وهذا السواد الذي تراه محيطا بها هو البحر وإنما أراد الله تعالى أن يريك الارض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الارض. فعلم الجاهل وثبت العالم) الحديث. قوله تعالى: (وآتيناه من كل شئ سببا) قال ابن عباس: من كل شئ علما يتسبب به إلى ما يريد. وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: من كل شئ يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شئ يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الاعداء. وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شئ. (فأتبع سببا) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: " فأتبع سببا " مقطوعة الالف. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو: " فاتبع سببا " بوصلها، أي اتبع سببا من الاسباب التي أوتيها. قال الاخفش: تبعته وأتبعته بمعنى، مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " (2) [ الصافات: 10 ] ومنه الاتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح. قال النحاس: وأختار أبو عبيد قراءة (1) راجع ج 8 ص 128 وص 291. وج 18 ص 86. (2) راجع ج 15 ص 64. (*)
[ 49 ]
أهل الكوفة قال: لانها من السير، وحكى هو والاصمعي أنه يقال: تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه، قال أبو عبيد: ومثله، " فأتبعوهم مشرقين " (1). قال النحاس: وهذا [ من ] (2) التفريق وإن كان الاصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل. وقوله عز وجل: " فأتبعوهم مشرقين " [ الشعراء: 60 ] ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر. والحق في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون. (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة) قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي " حامية " أي حارة. الباقون " حمئة " أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول: حمأت البئر حمأ (بالتسكين) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ (بالتحريك) كثرت حمأتها. ويجوز أن تكون " حامية " من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء. وقد يجمع بين القراءتين فيقال: كانت حارة وذات حمأة. وقال عبد الله بن عمرو: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت، فقال: (نار الله الحامية لولا مايزعها من أمر الله لاحرقت ما على الارض). وقال ابن عباس: أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم " في عين حمئة "، وقال معاوية: هي " حامية " فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فأنا مع أمير المؤمنين، فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا: يا كعب كيف تجد هذا في التوراة ؟ فقال: أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس. وقال الشاعر وهو تبع اليماني: قد كان ذو القرنين قبلي مسلما * ملكا تدين له الملوك وتسجد بلغ المغارب والمشارق يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد (3) الخلب: الطين. والثأط: الحمأة. والحرمد: الاسود. وقال القفال قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا حتى وصل إلى جرمها ومسها، لانها تدور (1) راجع ج 13 ص 105. (2) من ك. (3) حرمد (بالفتح والكسر) كجعفر وزبرج. (*)
[ 50 ]
مع السماء حول الارض من غير أن تلتصق بالارض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الارض، بل هي أكبر من الارض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الارض الملساء كأنها تدخل في الارض، ولهذا قال: " وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا " ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد (1) أنهم أول من تطلع عليهم. وقال القتبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم. (ووجد عندها قوما) أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية: جرجيسا، يسكنها قوم من نسل ثمود (2) بقيتهم الذين آمنوا بصالح، ذكره السهيلي. وقال وهب ابن منبه: (كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الاسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله تعالى: يا ذا القرنين ! إني باعثك إلى أمم الارض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الارض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الارض كله، وأمتان بينهما عرض الارض كله، وأمم في وسط الارض منهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج، فأما اللتان بينهما طول الارض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الاخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الارض فأمة في قطر الارض الايمن يقال لها هاويل، وأما الاخرى التي في قطر الارض الايسر يقال لها تأويل. فقال ذو القرنين: إلهي ! قد ندبتني لامر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الامم بأي قوة أكاثرهم ؟ وبأي صبر أقاسيهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة ؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك، أشرح لك صدرك فتسمع كل شئ، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شئ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شئ، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك. فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الامة التي عند مغرب الشمس، لانها (1) في ك: المراد. (2) في ك: هود. ولعله خطأ من الناسخ. (*)
[ 51 ]
كانت أقرب الامم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله. وألسنة مختلفة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد: إنا آمنا، فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم أنطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامه يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الارض اليمنى يريد الامة التي في قطر الارض الايمن وهى هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الامم، فإذا قطع البحار والانهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، وأخذ جيوشهم وأنطلق إلى ناحية الارض الاخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الاولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الارض اليسرى يريد تأويل، وهي الامة التي تقابل هاويل بينهما عرض الارض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الامم التي في وسط الارض من الجن الانس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت له أمة صالحة من الانس: يا ذا القرنين ! إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا ليس لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الانس، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الارض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الارض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة
[ 52 ]
فسيملئون الارض، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ ذكر الحديث، وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية. قوله تعالى: (قلنا يا ذا القرنين) قال القشيري أبو نصر: إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى. (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) قال إبراهيم بن السرى: خيره بين هذين كما خير محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (1) [ المائدة: 42 ] ونحوه. وقال أبو إسحق الزجاج: المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين، قال النحاس: ورد علي بن سليمان عليه قوله، لانه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل: " ثم يرد إلى ربه " ؟ وكيف يقول: " فسوف نعذبه " فيخاطبه بالنون ؟ قال: التقدير، قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر النحاس: هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شئ. أما قوله: " قلنا يا ذا القرنين " فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه: " فإما منا بعد وإما فداء " (2) [ محمد: 4 ]، وأما إشكال " فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه " فإن تقديره أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله تعالى: " إما أن تعذب " وبين الاستبقاء في قوله عز وجل: " وإما أن تتخذ فيهم حسنا ". قال لاولئك القوم: (أما من ظلم) أي أقام على الكفر منكم، (فسوف نعذبه) أي بالقتل: (ثم يرد إلى ربه) أي يوم القيامة: (فيعذبه عذابا نكرا) أي شديدا في جهنم. (وأما من آمن) أي تاب من الكفر: (وعمل صالحا) قال أحمد بن يحيى: (أن) في موضع نصب في (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) قال: ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو، كما قال: فسيرا فإما حاجة تقضيانها * وإما مقيل صالح وصديق (فله جزاء الحسنى) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم: " فله جزاء الحسنى " بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار. و " الحسنى " في موضع خفض بالاضافة ويحذف التنوين للاضافة، أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله: (1) راجع ج 6 ص 182 فما بعد. (2) راجع ج 16 ص 225 فما بعد. (*)
[ 53 ]
" حق اليقين " (1) [ الواقعة: 95 ]، " ولدار الآخرة " (2) [ الانعام: 32 ]، قاله الفراء. ويحتمل أن يريد ب‍ " الحسنى " الاعمال الصالحة. ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين، أي أعطيته وأتفضل عليه. ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون " الحسنى " في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبى إسحق " فله جزاء الحسنى " إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود. وقرأ سائر الكوفيين " فله جزاء الحسنى " منصوبا منونا، أي فله الحسنى جزاء. قال الفراء: " جزاء " منصوب على التمييز. وقيل: على المصدر، وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال، أي مجزيا بها جزاء. وقرأ ابن عباس ومسروق: " فله جزاء الحسنى " منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل " فله جزاء الحسنى " في أحد الوجهين [ في الرفع ] (3). النحاس: وهذا عند غيره خطأ لانه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره: فله الثواب جزاء الحسنى. قوله تعالى: (ثم أتبع سببا) تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل. (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام، يقال: طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا. والمطلع والمطلع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري. المعنى: أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس. والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة فهذا معنى قوله تعالى: (وجدها تطلع على قوم). وقد أختلف فيهم، فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك، وقاله مقاتل. وقال قتادة: يقال لهما (4): الزنج وقال الكلبي: هم تارس وهاويل ومنسك، حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر. وقيل: هم أهل جابلق (4) وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا. والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس (5)، ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، وبين كل بابين فرسخ. ووراء جابلق أمم وهم تافيل (6) وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج. (1) راجع ج 17 ص 232. (2) راجع ج 10 ص 100 (3) كذا في ك وى. (4) في ك: إنهم. (5) في ج: جابرلقا. جابرسا. (6) كذا في الاصول. وتقدم تأويل. ولعل هذا تحريف من النساخ. (*)
[ 54 ]
وأهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام (مر بهم ليلة الاسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الامم الآخرين فلم يجيبوه)، ذكره السهيلي وقال: اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه، والله أعلم. قوله تعالى: (لم نجعل لهم من دونها سترا) أي حجابا يستترون منها عند طلوعها. قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم، يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها. وقال أمية: وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس، فقال بعضهم: خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالاخرى وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا: فيم جئتم ؟ قلنا: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما أرتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج. وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها: لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتى تطلع الشمس. قالوا: ما هذه العظام ؟ قالوا: هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال فولوا هاربين في الارض. وقال الحسن: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا (1) في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم. قلت: وهذه الاقوال تدل على أن لا مدينة هناك. والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة. (1) في ك: تهربوا. (*)
[ 55 ]
قوله تعالى: ثم أتبع سببا (92) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا (93) قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94) قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا (96) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97) قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا (98) قوله تعالى: (ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين) وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. روى عطاء الخراساني عن ابن عباس: " بين السدين " الجبلين أرمينية وأذربيجان (وجد من دونهما) أي من ورائهما: (قوما لا يكادون يفقهون قولا). وقرأ حمزة والكسائي: " يفقهون " بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما. الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون. والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم. قوله تعالى: (قالوا يا ذا القرنين) أي قالت له أمة من الانس صالحة: (إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض) قال الاخفش: من همز " يأجوج " فجعل الالفين من الاصل يقول: يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الالفين زائدتين يقول: " ياجوج " من يججت ومأجوج من مججت وهما غير مصروفين، قال رؤبة: لو أن يأجوج ومأجوج معا * وعاد عاد واستجاشوا تبعا
[ 56 ]
ذكره الجوهري. وقيل: إنما لم ينصرفا لانهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين، علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث. وقالت فرقة: هو معرب من أج وأجج علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث. وقال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فمن همز " يأجوج " فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الاجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس، وأما " مأجوج " فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولا من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في إفسادهم، [ فقال ] (1) سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل بني آدم. وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الافساد المعلوم من البشر، والله أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم من ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان). وقال كعب الاحبار: آحتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الاب لا من جهة الام. وهذا فيه نظر، لان الانبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل). يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد: (هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل ذكره القشيري. وقال عبد الله بن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال، عليه الصلاة والسلام: (يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف [ أمة ] (2) كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل (1) من ج وك. (2) الزيادة من الدر المنثور. (*)
[ 57 ]
منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح) قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: (هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الارز (1) - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالاخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس). وقال علي رضي الله تعالى عنه: وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والاخرى جلدة يصيفون فيها، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، حتى يقولون: ننقبه غدا إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم، ثم يهلكهم الله تعالى بالنغف (2) في رقابهم. ذكره الغزنوي. وقال علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده). قلت: وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجه في السنن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون (3) الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ (4) - فيقولون قهرنا أهل الارض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن دواب الارض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم) قال الجوهري: (1) الارز: شجر الصنوبر. (2) النغف (بالتحريك): دود يكون في أنوف الابل والغنم واحدتها نغفة. (3) ينشفون الماء: أي ينزحونه. (4) هذا من كلام الراوى. (هامش ابن ماجه). (*)
[ 58 ]
شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة، وأشكر الضرع أمتلا لبنا. وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الاظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الابل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الاخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. قال السدي: بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك. وقاله قتادة. قلت: وإذا كان هذا فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر) في رواية (ينتعلون الشعر) خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام: (اتركوا الترك ما تركوكم). وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين - قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الاعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لانفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء). الغائط المطمئن من الارض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة. وبنو قنطوراء هم الترك. يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لابراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك.
[ 59 ]
قوله تعالى: (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (1)) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (فهل نجعل لك خرجا) استفهام على جهة حسن الادب. " خرجا " أي جعلا. وقرئ: " خراجا " والخرج أخص من الخراج. يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك. وقال الازهري: الخراج يقع على الضريبة، ويقع على [ مال ] (2) الفئ، ويقع على الجزية وعلى الغلة. والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الاموال. والخرج: المصدر. وقوله تعالى: (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) أي ردما، والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل. وثوب مردم أي مرقع قاله الهروي. يقال: ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها. والردم أيضا الاسم وهو السد. وقيل: الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشئ على الشئ من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض. ومنه قول عنترة: * هل غادر الشعراء من متردم * (3) أي من قول يركب بعضه على بعض. وقرئ " سدا " بالفتح في السين، فقال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد. وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة: ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح. ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرءوا " سدا " بالفتح وقبله " بين السدين " بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي. وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة. وقال ابن أبي إسحق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح. الثانية - في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون (4) ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه. (1) قراءة نافع. (2) من ك. (3) تمامه: * أم هل عرفت الدار بعد توهم * (4) في ك: ينكلون. (*)
[ 60 ]
قوله تعالى: (قال ما مكنى فيه ربي خير) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " قال ما مكني فيه ربي خير " المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الابدان، أي برجال وعمل منكم بالابدان (1)، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد. وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته (2) بأنفسهم أجمل به وأسرع في أنقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج. وقرأ ابن كثير وحده: " ما مكنني " بنونين. وقرأ الباقون: " ما مكني فيه ربي ". الثانية - في هذه الآية دليل على أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفئ عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم، وذلك بثلاثة شروط: الاول: ألا يستأثر عليهم بشئ. الثاني - أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم. الثالث - أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتصريف بتدبير، فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال: لست أحتاج إليه وإنما أحتاج إليكم. " فأعينوني بقوة " أي اخدموا بأنفسكم معي، فان الاموال عندي والرجال عندكم، ورأى أن الاموال لا تغني عنهم، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالاجر عليهم، فكان التطوع بخدمة الابدان أولى. وضابط الامور لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك، المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالامر. والله تعالى الموفق للصواب. قوله تعالى: (آتوني زبر الحديد) أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة، (1) في ج وك: بالايدي. (2) في ك: معونتهم. (*)
[ 61 ]
لانه قد ارتبط من قوله: إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الابدان. و " زبر الحديد " قطع الحديد. وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه زبرة الاسد لما اجتمع من الشعر على كاهله. وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه. وقرأ أبو بكر والمفضل " ردما ايتوني " من الاتيان الذي هو المجئ، أي جيئوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر: (1) * أمرتك الخير... * حذف الجار فنصب الفعل. وقرأ الجمهور " زبر " بفتح الباء. وقرأ الحسن بضمها، وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه. قوله تعالى: (حتى إذا ساوى) يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه. (بين الصدفين) قال أبو عبيدة: هما جانبا الجبل، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما. وقاله الزهري وابن عباس، كأنه يعرض عن الآخر، من الصدوف قال، الشاعر: كلا الصدفين ينفذه سناها * توقد مثل مصباح الظلام ويقال للبناء المرتفع: صدف تشبيه بجانب الجبل. وفي الحديث: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي. قال أبو عبيد: الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع. ابن عطية: الصدفان الجبلان المتناوحان (2) ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال: صدفان للاثنين، لان أحدهما يصادف الآخر. وقرأ نافع وحمزة والكسائي " الصدفين " بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبد العزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لانها أشهر اللغات. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: " الصدفين " بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: " الصدفين " بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجرف والجرف. فهو تخفيف. وقرأ ابن الماجشون: بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة: " بين الصدفين " بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد. وهما الجبلان المتناوحان. (1) هو عمرو بن معدى كرب الزبيدى والبيت بتمامه: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به * فقد تركتك ذا مال وذا نشب (2) التناوح: التقابل. (*)
[ 62 ]
قوله تعالى: " قال انفخوا " إلى آخر الآية أي على زبر الحديد بالاكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى: " حتى إذا جعله نارا " ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على تلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن أستوى العمل فصار جبلا صلدا. قال قتادة: هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: يا رسول الله ! إني رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: (كيف رأيته) قال: رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد رأيته). ومعنى " حتى إذا جعل نارا " أي كالنار. ومعنى: (آتوني أفرغ عليه قطرا) أي أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير. ومن قرأ: " ائتوني " فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا. والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر، لانه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء. وقالت فرقة: القطر الحديد المذاب. وقالت فرقة منهم ابن الانباري: الرصاص المذاب. وهو مشتق من قطر يقطر قطرا. ومنه " وأسلنا له عين القطر " (1). قوله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه، لانه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام. وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا. وروي: في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ: وفي عرضه خمسون فرسخ، قاله وهب بن منبه. (وما استطاعوا له نقبا) لبعد عرضه وقوته. وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وعقد وهب بن منبه بيده تسعين - وفي رواية - وحلق بإصبعه الابهام والتي تليها، وذكر الحديث. وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن يأجوج ومأجوج (1) راجع ج 14 ص 268. (*)
[ 63 ]
يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستخرقونه [ غدا ] (1) إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس) الحديث وقد تقدم. قوله تعالى: " فما اسطاعوا " بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور. وقيل: هي لغة بمعنى استطاعوا. وقيل: بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا: اسطاعوا. وحذف بعضهم منه الطاء فقال: استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة. وقرأ حمزة وحده: " فما اسطاعوا " بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه، قال أبو علي: هي غير جائزة (2). وقرأ الاعمش " فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " بالتاء في الموضعين. قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي) القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج. وقرأ ابن أبي عبلة " هذه رحمة من ربي ". قوله تعالى: (فإذا جاء وعد ربي) أي يوم القيامة. وقيل: وقت خروجهم. (جعله دكا) أي مستويا بالارض، ومنه قوله تعالى: " إذا دكت الارض دكا " (3) [ الفجر: 21 ] قال ابن عرفة: أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى: " جعله دكا " قال اليزيدي: أي مستويا، يقال: ناقة دكاء إذا ذهب سنامها. وقال القتبي: أي جعله مدكوكا ملصقا بالارض. وقال الكلبي: قطعا متكسرا، قال: * هل غير غاد دك غارا فانهدم * (1) من ك وى. وفي ا وح وج: فستحفرونه. (2) وقال النحاس: لا يقدر أحد أن يتعلق بها، لان السين ساكنة والطاء المدغمة ساكنة، وقال سيبويه: هذا محال. (3) راجع 20 ص 54. (*)
[ 64 ]
وقال الازهري: يقال دككته أي دققته. ومن قرأ " دكاء " أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات. قرأ حمزة وعاصم والكسائي " دكاء " بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره: جعله في مثل دكاء، ولا بد من تقدير هذا الحذف. لان السد مذكر فلا يوصف بدكاء. ومن قرأ: " دكا " فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض، ويحتمل أن يكون " جعل " بمعنى خلق. وينصب " دكا " على الحال. وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين. قوله تعالى: وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (99) وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا (100) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا (101) أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا (102) قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقآئه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (105) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (106) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحين كانت لهم جنات الفردوس نزلا (107) خالدين فيها لا يبغون عنها حولا (108) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)
[ 65 ]
قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) الضمير في " تركنا " لله تعالى، أي تركنا الجن والانس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج " يومئذ " أي وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض. واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هم وخوف، فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض. وقيل: تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم. قلت: فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها، وأبعدها آخرها، وحسن الاول، لانه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله تعالى: " فإذا جاء وعد ربي ". والله أعلم. قوله تعالى: (ونفخ في الصور) تقدم في (الانعام) (1). (فجمعناهم جمعا) يعني الجن والانس في عرصات القيامة. (وعرضنا جهنم) أي أبرزناها لهم. (يومئذ للكافرين عرضا) (الذين كانت أعينهم) في موضع خفض نعت " للكافرين ". (في غطاء عن ذكرى) أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل الله تعالى. (وكانوا لا يستطيعون سمعا) أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى، فهم بمنزلة من صم. قوله تعالى: (أفحسب الذين كفروا) أي ظن. وقرأ علي وعكرمة ومجاهد وابن محيصن: " أفحسب " بإسكان السين وضم الباء، أي كفاهم. (أن يتخذوا عبادي) يعني عيسى والملائكة وعزيرا. (من دوني أولياء) ولا أعاقبهم، ففي الكلام حذف. وقال الزجاج: المعنى، أفحسبوا أن ينفعهم ذلك. (إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا). قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا) إلى قوله: (وزنا) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا) - الآية - فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر. روى البخاري عن مصعب قال: (1) راجع ج 7 ص 20 فما بعد. (*)
[ 66 ]
سألت أبي " قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا " أهم الحرورية ؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى. وأما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين. والآية معناها التوبيخ، أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا، فهم الاخسرون أعمالا، وهم " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " في عبادة من سواي. قال ابن عباس: يريد كفار أهل مكة. وقال علي: هم الخوارج أهل حروراء. وقال مرة: هم الرهبان أصحاب الصوامع). وروي أن ابن الكواء سأله عن الاخسرين أعمالا فقال له: أنت وأصحابك. قال ابن عطية: ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك: " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم ". وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة (1) عبدة الاوثان، وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه (2) الآية. و " أعمالا " نصب على التمييز. و " حبطت " قراءة الجمهور بكسر الباء. وقرأ ابن عباس: " حبطت " بفتحها (3). الثانية - قوله تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) قراءة الجمهور " نقيم " بنون العظمة. وقرأ مجاهد: بياء الغائب، يريد فلا يقيم الله عز وجل، وقرأ عبيد بن عمير " فلا يقوم " ويلزمه أن يقرأ: " وزن " وكذلك قرأ مجاهد: " فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن ". قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الاكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة. قلت: هذا لا يقال مثله من جهة الرأي، وقد ثبت معناه مرفوعا صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم (فلا نقيم له يوم القيامة وزنا). والمعنى أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري: يؤتى بأعمال (1) في ج: العرب. (2) في ك وى: من صدر الآية. (3) في ج: بفتح الباء. (*)
[ 67 ]
كجبال تهامة فلا تزن شيئا. وقيل: يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة، كأنه قال: فلا قدر لهم عندنا يومئذ (1)، والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم الاكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين). ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن) وهذا ذم. وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الاكل والشره، والدعة والراحة والامن والاسترسال مع النفس على شهواتها، فهو عبد نفسه لا عبد ربه، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به، وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الاكل فقال: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم " (2) [ محمد: 12 ] فإذا كان المؤمن يتشبه بهم، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الايمان، والقيام بوظائف الاسلام ؟ ! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائما، وليله نائما. وقد مضى في " الاعراف " (3) هذا المعنى، وتقدم فيها ذكر الميزان (3)، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الاعمال فلا معنى للاعادة. وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حمش (4) ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة: (تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الارض) فدل هذا على أن الاشخاص توزن، ذكره الغزنوي. قوله تعالى: (ذلك جزاؤهم " ذلك " إشارة إلى ترك الوزن، وهو في موضع رفع بالابتداء " جزاؤهم " خبره و (جهنم) بدل من المبتدإ الذي هو " ذلك " و " ما " في قوله: " بما كفروا " مصدرية، والهزء الاستخفاف والسخرية، وقد تقدم. (1) في ك: يوم القيامة. (2) راجع ج 16 ص 234. (3) راجع ج 7 ص 191 فما بعد وص 165. (4) حمش الساق: دقيقها. (*)
[ 68 ]
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) قال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها. وقال أبو أمامة الباهلي: الفردوس سرة الجنة. وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس ؟ قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والارض فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة - أراه قال - وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) وقال مجاهد: والفردوس البستان بالرومية. الفراء: هو عربي. والفردوس حديقة في الجنة. وفردوس اسم روضة دون اليمامة. والجمع فراديس، قال أمية بن أبي الصلت الثقفي: كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة * فيها الفراديس والفومان والبصل والفراديس موضع بالشام. وكرم مفردس أي معرش. (خالدين فيها) أي دائمين. (لا يبغون عنها حولا) أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها. والحول بمعنى التحويل، قاله أبو علي. وقال الزجاج: حال من مكانه حولا كما يقال: عظم عظما. قال: ويجوز أن يكون من الحيلة، أي لا يحتالون منزلا غيرها. وقال الجوهري: التحول التنقل من موضع إلى وضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى: " خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ". قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) نفد الشئ إذا تم وفرغ، وقد تقدم. (ولو جئنا بمثله مددا) أي زيادة على البحر عددا أو وزنا. وفي مصحف أبي " مدادا " وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد. وانتصب " مددا " على التمييز أو الحال. وقال ابن عباس: قالت اليهود لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " (1) [ الاسراء: 85 ] قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن (1) راجع ج 10 ص 323. (*)
[ 69 ]
أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ؟ فنزلت: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر " الآية. وقيل: قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح ؟ ! فقال الله تعالى قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة، قال ابن عباس: " لكلمات ربي " أي مواعظ ربي. وقيل: عنى بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فرائد الكلمات، ولانه ينوب منا بها، فجازت العبادة عنها بصيغة الجمع تفخيما، وقال الاعشى: ووجه نقي اللون صاف يزينه * مع الجيد لبات لها ومعاصم فعبر باللبات عن اللبة. وفي التنزيل " نحن أولياؤكم " (1) [ فصلت: 31 ] و " إنا نحن نزلنا الذكر " (2) [ الحجر: 9 ] " وإنا لنحن نحيي ونميت " (2) [ الحجر: 23 ] وكذلك " إن إبراهيم كان أمة " (2) [ النحل: 120 ] لانه ناب مناب أمة. وقيل: أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه سبحانه وتعالى. وقال السدي: أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب. وقال عكرمة: لنفد البحر قبل أن ينفد ثواب من قال لا إله إلا الله. ونظير هذه الآية: " ولو أن ما في الارض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " (3) [ لقمان: 27 ]. وقرأ حمزة والكسائي: " قبل أن ينفد " بالياء لتقدم الفعل. قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله تعالى، وعلم الله تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله. (فمن كان يرجو لقاء ربه) أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه (فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري قال: يا رسول الله إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد به وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه) فنزلت الآية. وقال طاوس قال رجل: يا رسول الله ! إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت (1) راجع ج 15 ص 357. (2) راجع ج 10 ص 5 وص 18 وص 198. (3) راجع ج 13 ص 76. (*)
[ 70 ]
هذه الآية. وقال مجاهد: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ! إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ". قلت: والكل مراد، والآية تعم ذلك كله وغيره من الاعمال. وقد تقدم في سورة " هود " (1) حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس. وقد تقدم في سورة " النساء " (2) الكلام على الرياء، وذكرنا من الاخبار هناك ما فيه كفاية. وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل: معنى قوله تعالى: " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " إنه لا يرائي بعمله أحدا. وروى الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى في (نوادر الاصول) قال: حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الواحد ابن زيد عن عبادة بن نسي قال: أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: ما الذي أبكاك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك ؟ قال: (أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي) قلت: ما هو يا رسول الله ؟ قال: (الشرك والشهوة الخفية) قلت: يا رسول الله ! وتشرك أمتك من بعدك ؟ قال: (يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراءون بأعمالهم) قلت: [ يا رسول الله ] (3) والرياء شرك هو ؟ قال: (نعم). قلت: فما الشهوة الخفية ؟ قال: (يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر) قال عبد الواحد: فلقيت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد ! أخبرني عن الرياء أشرك هو ؟ قال: نعم، أما تقرأ " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ". وروى إسمعيل بن أسحق قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال: كان عبادة بن الصامت وشداد (1) راجع ج 9 ص 14. (2) راجع ج 5 ص 180 فما بعد. (3) من ج وك وى. (*)
[ 71 ]
ابن أوس جالسين، فقالا: إنا نتخوف على هذه الامة من الشرك والشهوة الخفية، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء. وقالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك) ثم تلا " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). قلت: وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا، وقد ذكرناه في " النساء " (1). وقال سهل بن عبد الله: وسئل الحسن عن الاخلاص والرياء فقال: من الاخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). (والذين يؤتون ما آتوا " (2) [ المؤمنون: 10 ] الآية، يؤتون الاخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم، وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا، قيل لها: كيف يكون هذا ؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله تعالى والدار الآخرة فهو رياء. وقال علماؤنا رضي الله تعالى عنهم: وقد يفضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به، كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لابي عبد الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله ؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال يا أبا عبد الله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الاصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك ؟ ! فقال: وأنا مع ذلك صائم. أين هذا من قول الاشعث بن قيس وقد صلى فخفف، فقيل له إنك خففت، فقال: إنه لم يخالطها رياء، فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، والتصنع من صلاته، وقد تقدم في " النساء " (1) دواء الرياء من قول لقمان، وأنه كتمان العمل. وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: أنبأنا الحماني قال: أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن (3) معقل بن يسار قال قال أبو بكر وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك، قال: (هو فيكم أخفى من دبيب النمل (1) راجع ج 5 ص 181. (2) راجع ج 12 ص 132. (3) في ك: قال. (*)
[ 72 ]
وسأدلك على شئ إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات). وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر " فمن كان يرجو لقاء ربه " فقال: إنها لآخر آية نزلت من السماء. وقال عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوحى إلي أنه من قرأ " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له). وقال معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الارض إلى السماء) وعن ابن عباس أنه قال له رجل: إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم، فقال: (إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي " إلى آخر السورة فإن الله تعالى يوقظك متى شئت من الليل)، ذكر هذه الفضائل الثعلبي رضي الله تعالى عنه. وفي مسند الدارمي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الاوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقوم من الليل قامها، قال عبدة: فجربناه فوجدناه كذلك. قال ابن العربي: كان شيخنا الطرطوشي الاكبر يقول: لا تذهب بكم الازمان في مصاولة الاقران، ومواصلة الاخوان، وقد ختم سبحانه وتعالى البيان بقوله: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعيادة ربه أحدا ". تفسير سورة مريم عليها السلام وهي مكية بإجماع. وهي تسعون وثمان آيات ولما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: إن ثأركم بأرض الحبشة، فأهدوا إلى النجاشي، وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله ابن أبي ربيعة، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلى الله عليه
[ 73 ]
وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم " كهيعص " وقاموا تفيض أعينهم من الدمع، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " [ المائدة: 82 ]. وقرأ إلى قوله: " الشاهدين " (1). ذكره أبو داود. وفي السيرة، فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شئ ؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: اقرأه علي. قال: فقرأ " كهيعص " فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، فقال النجاشي: [ إن ] (2) هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا، وذكر تمام الخبر. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: كهيعص (1) ذكر رحمت ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه نداء خفيا (3) قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4) وإني خفت الموالى من ورآءى وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا (5) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6) يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7) قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8) قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9) (1) راجع ج 6 ص 285 فما بعد. (2) من ج وك وى. (*)
[ 74 ]
قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (10) فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11) يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا من لدنا وزكوة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15) قوله تعالى: (كهيعص) تقدم الكلام في أوائل السور (1). وقال ابن عباس في " كهيعص ": أن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، ذكره ابن عزيز. القشيري عن ابن عباس، معناه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بهم، صادق في وعده، ذكره الثعلبي عن الكلبي السدي ومجاهد والضحاك. وقال الكلبي أيضا: الكاف من كريم وكبير وكاف، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، والمعنى واحد. وعن ابن عباس أيضا: هو اسم من أسماء الله تعالى، وعن علي رضي الله عنه هو اسم الله عز وجل وكان يقول: يا كهيعص اغفر لي، ذكره الغزنوي. السدي: هو اسم الله الاعظم الذي سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. وقتادة: هو اسم من أسماء القرآن، ذكره عبد الرزاق عن معمر عنه. وقيل: هو اسم للسورة، وهو اختيار القشيري في أوائل الحروف، وعلى هذا قيل: تمام الكلام عند قوله: " كهيعص " كأنه إعلام باسم السورة، كما تقول: كتاب كذا أو باب كذا ثم تشرع في المقصود. وقرأ أبو جعفر هذه الحروف متقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء: وابن عامر وحمزة بالعكس، وأمالهما جميعا الكسائي وأبو بكر وخلف. وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة نافع وغيره. وفتحهما الباقون. وعن خارجة: أن الحسن كان يضم كاف، وحكى غيره أنه كان يضم ها، وحكى إسمعيل بن إسحق أنه كان يضم يا. قال أبو حاتم: ولا يجوز ضم الكاف ولا (2) الهاء والياء، قال النحاس: قراءة أهل المدينة (1) راجع ج 1 ص 154 فما بعد. (2) من ك. (*)
[ 75 ]
من أحسن ما في هذا، والامالة جائزة في هاويا. وأما قراءة الحسن فأشكلت على جماعة حتى قالوا: لا تجوز، منهم أبو حاتم. والقول فيها ما بينه هرون القارئ، قال: كان الحسن يشم الرفع فمعنى هذا أنه كان يومئ، كما حكى سيبويه أن من العرب من يقول: الصلاة والزكاة يومئ إلى الواو، ولهذا كتبتا (1) في المصحف بالواو. وأظهر الدال من هجاء " ص " نافع وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد، وأدغمها الباقون. قوله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا. إذ نادى ربه نداء خفيا). فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ذكر رحمة ربك " في رفع " ذكر " ثلاثة أقوال، قال الفراء: هو مرفوع ب‍ " - كهيعص "، قال الزجاج: هذا محال، لان " كهيعص " ليس هو مما أنبأنا الله عز وجل به عن زكريا، وقد خبر الله تعالى عنه وعن ما بشر به، وليس " كهيعص " من قصته. وقال الاخفش: التقدير، فيما يقص (2) عليكم ذكر رحمة ربك. والقول الثالث: أن المعنى هذا الذي يتلوه عليكم ذكر رحمة ربك. وقيل: " ذكر رحمة ربك " رفع بإضمار مبتدإ، أي هذا ذكر رحمة ربك، وقرأ الحسن " ذكر رحمة ربك " أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرى " ذكر " على الامر. " ورحمة " تكتب ويوقف عليها بالهاء وكذلك كل ما كان مثلها، لا اختلاف فيها بين النحويين. واعتلوا في ذلك أن هذه الهاء لتأنيث الاسماء فرقا بينها وبين الافعال. الثانية - قوله تعالى: " عبده " قال الاخفش: هو منصوب ب‍ " - رحمة ". " زكريا " بدل منه، كما تقول: هذا ذكر ضرب زيد عمرا، فعمرا منصوب بالضرب، كما أن " عبده " منصوب بالرحمة. وقيل: هو على التقديم والتأخير، معناه: ذكر ربك عبده زكريا برحمة، ف‍ " - عبده " منصوب بالذكر، ذكره الزجاج والفراء. وقرأ بعضهم " عبده زكريا " بالرفع، وهي قراءة أبي العالية. وقرأ يحيى بن يعمر: " ذكر " بالنصب على معنى هذا القرآن ذكر رحمة عبده زكريا. وتقدمت اللغات والقراءة في " زكريا " في " آل عمران " (3). (1) من ج وك وفي ا وج وى: كتبها. (2) في ك: نقص. (3) راجع ج 4 ص 70. (*)
[ 76 ]
الثالثة - قوله تعالى: (إذ نادى ربه نداء خفيا) مثل قوله: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " [ الاعراف: 55 ] (1) وقد تقدم. والنداء الدعاء والرغبة، أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله: " فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب " (2) [ آل عمران: 39 ] فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء، فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن، ولانه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل: مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل: لما كانت الاعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل: " خفيا " سرا من قومه في جوف الليل، والكل محتمل والاول أظهر، والله أعلم. وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الاخفاء في سورة " الاعراف " (1) وهذه الآية نص في ذلك، لانه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسمعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي) وهذا عام. قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الامام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس: " إذ نادى ربه نداء خفيا ". قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا. قوله تعالى: (قال رب إني وهن العظم منى) فيه مسألتان (3): الاولى - قوله تعالى: " قال رب إنى وهن " قرئ " وهن " بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن. وقال أبو زيد يقال: وهن يهن ووهن يوهن. وإنما ذكر العظم لانه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته، ولانه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن (1) راجع ج 7 ص 223 فما بعد. (2) راجع ج 4 ص 74. (3) كذا في الاصول إلا أنها ثلاث غيرك ففيها مسئلتان. (*)
[ 77 ]
منه. ووحده لان الواحد هو الدال على معنى الجنسية، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن، ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. الثانية - قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا) أدغم السين في الشين أبو عمرو. وهذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب. والاشتعال انتشار شعاع النار، شبه به انتشار الشيب في الرأس، يقول: شخت وضعفت، وأضاف الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا عليه السلام. " وشيبا " في نصبه وجهان: أحدهما - أنه مصدر لان معنى اشتعل شاب، وهذا قول الاخفش. وقال الزجاج: وهو منصوب على التمييز. النحاس: قول الاخفش أولى لانه مشتق من فعل فالمصدر أولى به. والشيب مخالطة الشعر الابيض الاسود. الثالثة - قال العلماء: يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه وما يليق بالخضوع، لان قوله تعالى: " وهن العظم مني " إظهار للخضوع. وقوله: (ولم أكن بدعائك رب شقيا) إظهار لعادات تفضله في إجابته أدعيته، أي لم أكن بدعائي إياك شقيا، أي لم تكن تخيب دعائي إذا دعوتك، أي إنك عودتني الاجابة فيما مضى. يقال: شقي بكذا أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده. وعن بعضهم: أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه في وقت كذا، فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته. قوله تعالى: (وإنى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وإني خفت الموالى " قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي ابن الحسين ويحيى بن يعمر رضي الله تعالى عنهم: " خفت " بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من " الموالي " لانه في رفع ب‍ " خفت " ومعناه انقطعت [ أي ] (1) بالموت. وقرأ الباقون " خفت " بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من " الموالي " لانه (1) من ج وك. (*)
[ 78 ]
في موضع نصب ب‍ " - خفت " و " الموالي " هنا الاقارب بنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب. والعرب تسمي بني العم الموالي. قال الشاعر: (1) مهلا بني عمنا مهلا موالينا * لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق أن يرثه غير الولد. وقالت طائفة: إنما كان مواليه مهملين للدين فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وليا يقوم بالدين بعده، حكى هذا القول الزجاج، وعليه فلم يسل من يرث ماله، لان الانبياء لا تورث. وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معشر الانبياء لا نورث ما تركنا صدقة) وفي كتاب أبي داود: (إن العلماء ورثة الانبياء وأن الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم). وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله: " يرثني ". الثانية - هذا الحديث يدخل في التفسير المسند، لقوله تعالى: " وورث سليمان داود " (2) وعبارة عن قول زكريا: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " وتخصيص للعموم في ذلك، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده، وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب، هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض، وإلا ما روى عن الحسن أنه قال: " يرثني " مالا " ويرث من آل يعقوب " النبوة والحكمة، وكل قول يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدفوع مهجور، قاله أبو عمر. قال ابن عطية: والاكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال، ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الانبياء لا نورث) ألا يريد به العموم، بل على أنه غالب أمرهم، فتأمله. والاظهر الاليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة مستعارة. ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه. وقال أبو صالح وغيره: قوله " من آل يعقوب " يريد العلم والنبوة. (1) هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وهو من شعراء بني هاشم في عهد بني أمية. (2) راجع ج 13 ص 163. (*)
[ 79 ]
الثالثة - قوله تعالى: " من ورائي " قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء. وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي. الباقون بالهمز والمد وسكون الياء. والقراء على قراءة " خفت " مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان. وهي قراءة شاذة بعيدة جدا، حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز. قال كيف يقول: خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي ؟ !. النحاس: والتأويل لها ألا يعني بقوله: " من ورائي " أي من بعد موتى، ولكن من ورائي في ذلك الوقت، وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا " أيهم يكفل مريم " (1). ابن عطية " من ورائي " من بعدي في الزمن، فهو الوراء على ما تقدم في " الكهف " (2). الرابعة - قوله تعالى: " وكانت امرأتي عاقرا " آمرأته هي إيشاع بنت فاقوذا ابن قبيل، وهي أخت حنة بنت فاقوذا، قاله الطبري. وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في " آل عمران " (1) بيانه. وقال القتبي: آمرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة. وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه. وفي حديث الاسراء قال عليه الصلاة والسلام: (فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى) شاهدا للقول الاول (3). والله أعلم. والعاقر التي لا تلد لكبر سنها، وقد مضى بيانه في " آل عمران ". والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر. ومنه قوله تعالى: " ويجعل من يشاء عقيما " (4) [ الشورى: 50 ]. وكذلك العاقر من الرجال، ومنه قول عامر بن الطفيل: لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا * جبانا فما عذري لدى كل محضر الخامسة - قوله تعالى: " فهب لي من لدنك وليا " سؤال ودعاء. ولم يصرح بولد لما علم من حاله وبعده عنه بسبب المرأة. قال قتادة: جرى له هذا الامر وهو ابن بضع وسبعين سنة. مقاتل: خمس وتسعين سنة، وهو أشبه، فقد كان غلب على ظنه انه لا يولد له لكبره، ولذلك قال: " وقد بلغت من الكبر عتيا ". وقالت طائفة: بل طلب الولد، (1) راجع ج 4 ص 85 وص 79. (2) راجع ص 34 وما بعدها من هذا الجزء. (3) المراد بالقول الاول هنا قول القتبي. (4) راجع ج 16 ص 48. (*)
[ 80 ]
ثم طلب أن تكون الاجابة في أن يعيش حتى يرثه، تحفظا من أن تقع الاجابة في الولد ولكن يحترم، ولا يتحصل منه الغرض. السادسة - قال العلماء: دعاء زكريا عليه السلام في الولد إنما كان لاظهار دينه، وإحياء نبوته، ومضاعفة لاجره لا للدنيا، وكان ربه قد عوده الاجابة، ولذلك قال: " ولم أكن بدعائك رب شقيا " أي بدعائي إياك. وهذه وسيلة حسنة، أن يتشفع إليه بنعمه، ويستدر (1) فضله بفضله، يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله، فقال له حاتم: من أنت ؟ قال: أنا الذي أحسنت إليه عام أول، فقال: مرحبا بمن تشفع إلينا بنا. فإن قيل كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن ؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الانبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى، فإنه تعالى قال: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " [ آل عمران: 37 ] فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته، فقال تعالى: " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " (2) [ آل عمران: 38 ] الآية. السابعة - إن قال قائل: هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الاموال والاولاد، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك، فقال: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " (3) [ التغابن: 15 ]. " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " (3) [ التغابن: 14 ]. فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في " آل عمران " (2) بيانه. ثم إن زكريا عليه السلام تحرز فقال: (ذرية طيبة) وقال: " واجعله رب رضيا ". والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لانس خادمه فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته) فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الاكثار من الهلكة. وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أولاه وأخراه أقتداء بالانبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء، [ الاولياء ] (4) وقد تقدم في " آل عمران " (2) بيانه. (1) في ا وج: ويسأله (2) راجع ج 4 ص 72 فما بعد. (3) راجع ج 18 ص 140 فما بعد. (4) من ج وك وى. (*)
[ 81 ]
قوله تعالى: (يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يرثني " قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة: " يرثني ويرث " بالرفع فيهما. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب والاعمش والكسائي: بالجزم فيهما، وليس هما جواب " هب " على مذهب سيبويه، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث، والاول أصوب في المعنى لانه طلب وارثا موصوفا، أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حاله وصفته، لان الاولياء منهم من لا يرث، فقال: هب لي الذي يكون وارثي، قاله أبو عبيد، ورد قراءة الجزم، قال: لان معناه إن وهبت ورث، وكيف يخبر الله عز وجل بهذا وهو أعلم به منه ؟ ! النحاس: وهذه حجة متقصاة (1)، لان جواب الامر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة، تقول: أطع الله تعالى يدخلك الجنة، أي إن تطعه يدخلك الجنة. الثانية - قال النحاس: فأما معنى " يرثني ويرث من آل يعقوب " فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة، قيل: هي وراثة نبوة. وقيل: هي وراثة حكمة. وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال، لان النبوة لا تورث، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح عليه السلام وهو نبي مرسل. ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن، وفي الحديث (العلماء ورثة الانبياء). وأما وراثة المال فلا يمتنع، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث ما تركنا صدقة) فهذا لا حجة فيه، لان الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى: لا نورث الذي تركنا صدقة، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف شيئا يورث عنه، وإنما كان الذي أباحه الله عز وجل إياه في حياته بقوله تبارك اسمه: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول " [ الانفال: 41 ] لان معنى " لله " لسبيل الله، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول صلى الله عليه وسلم ما دام حيا، فإن قيل: ففي بعض الروايات (إنا معاشر الانبياء لا نورث ما تركنا صدقة) ففيه التأويلان جميعا، أن يكون " ما " بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر: وأختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: (لا نورث ما تركنا صدقة) على قولين: أحدهما - وهو (1) في ج وك وى: مستفيضة. (2) راجع ج 8 ص 1. (*)
[ 82 ]
الاكثر وعليه الجمهور - أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما ترك صدقة. والآخر - أن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يورث، لان الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره، وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية، وسائر علماء المسلمين على القول الاول. الثالثة - قوله تعالى: " من آل يعقوب " قيل: هو يعقوب بن إسرائيل، وكان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران، ويرجع نسبها إلى يعقوب، لانها من ولد سليمان بن داود وهو من ولد يهوذا بن يعقوب، وزكريا من ولد هرون أخي موسى، وهرون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب، وكانت النبوة في سبط يعقوب بن إسحق. وقيل: المعنى بيعقوب ها هنا يعقوب بن ما ثان أخو عمران بن ما ثان أبي مريم أخوان من نسل سليمان بن داود عليهما السلام، لان يعقوب وعمران ابنا ما ثان، وبنو ما ثان رؤساء بني إسرائيل، قاله مقاتل وغيره. وقال الكلبي: وكان آل يعقوب أخواله، وهو يعقوب بن ما ثان، وكان فيهم الملك، وكان زكريا من ولد هرون بن عمران أخي موسى. وروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله - تعالى - زكريا ما كان عليه من ورثته). ولم ينصرف يعقوب لانه اعجمي. الرابعة - قوله تعالى: " واجعله رب رضيا " أي مرضيا في أخلاقه وأفعاله. وقيل: راضيا بقضائك وقدرك. وقيل: رجلا صالحا ترضى عنه. وقال أبو صالح: نبيا كما جعلت أباه نبيا. قوله تعالى: " يا زكريا " في الكلام حذف، أي فاستجاب الله دعاءه فقال: " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى " فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها - إجابة دعائه، وهي كرامة. الثاني - إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث - أن يفرد بتسميته، وقد تقدم معنى تسميته [ بيحيى ] (1) في " آل عمران " (2). وقال مقاتل: سماه يحيى لانه حيي بين أب شيخ وأم عجوز، وهذا فيه نظر، لما تقدم من أن امرأته كانت عقيما لا تلد. والله أعلم. (1) من ج وك. (2) راجع ج 4 ص 75 فما بعد. (*)
[ 83 ]
قوله تعالى: (لم نجعل له من قبل سميا) أي لم نسم أحدا قبل يحيى بهذا الاسم، قاله ابن عباس وقتادة وابن أسلم والسدي. ومن عليه تعالى بأن لم يكل تسميته إلى الابوين. وقال مجاهد وغيره: " سميا " معناه مثلا ونظيرا، وهو مثل قوله تعالى: " هل تعلم له سميا " (1) [ مريم: 65 ] معناه مثلا ونظيرا [ وهذا ] (2) كأنه من المساماة والسمو، هذا فيه بعد، لانه لا يفضل على إبراهيم وموسى، اللهم إلا أن يفضل في خاص كالسؤدد والحصر حسب ما تقدم بيانه " في آل عمران " (3). وقال ابن عباس أيضا: معناه لم تلد العواقر مثله ولدا. وقيل: إن الله تعالى اشترط القبل، لانه أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الآية دليل وشاهد على أن الاسامي السنع (4) جديرة بالاثرة، وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنزه عن النبز حتى قال قائل: سنع الاسامي مسبلي أزر * حمر تمس الارض بالهدب وقال رؤبة للنسابة البكري وقد سأله عن نسبه: أنا ابن العجاج، فقال: قصرت وعرفت. قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام) ليس على معنى الانكار لما أخبر الله تعالى به، بل على سبيل التعجب من قدرة الله تعالى أن يخرج ولدا من امرأة عاقر وشيخ كبير. وقيل: غير هذا مما تقدم في " آل عمران " (3) بيانه. (وقد بلغت من الكبر عتيا) يعني النهاية في الكبر واليبس والجفاف، ومثله العسي، قال الاصمعي: عسا الشئ يعسو عسوا وعساء ممدود أي يبس وصلب، وقد عسا الشيخ يعسو عسيا ولى وكبر مثل عتا، يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا وعتيا كبر وولى، وعتوت يا فلان تعتو عتوا وعتيا. والاصل عتو لانه من ذوات الواو، فأبدلوا من الواو ياء، لانها أختها وهي أخف منها، والآيات على الياءات. ومن قال: " عتيا " كره الضمة مع الكسرة والياء، وقال الشاعر: إنما يعذر الوليد ولا يع‍ * - ذر من كان في الزمان عتيا (1) راجع ص 130 من هذا الجزء. (2) من ج وك. (3) راجع ج 4 ص 74 وص 79. (4) الجميلة. (*)
[ 84 ]
وقرأ ابن عباس " عسيا " وهو كذلك في مصحف أبي. وقرأ يحيي بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص: " عتيا " بكسر العين وكذلك " جثيا " و " صليا " حيث كن. وضم حفص " بكيا " خاصة، وكذلك الباقون في الجميع، وهما لغتان. وقيل: " عتيا " قسيا، يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب. قوله تعالى: (قال كذلك قال ربك هو علي هين) أي قال له الملك " كذلك قال ربك " والكاف في موضع رفع، أي الامر كذلك، أي كما قيل لك: " هو علي هين ". قال الفراء: خلقه علي هين. (وقد خلقتك من قبل) أي من قبل يحيى. وهذه قراءة أهل المدينة والبصرة وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين " وقد خلقناك " بنون وألف بالجمع على التعظيم. والقراءة الاولى أشبه بالسواد. (ولم تك شيئا) أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا، فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده. قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية) طلب آية على حملها (1) بعد بشارة الملائكة إياه، وبعد قول الله تعالى: " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " زيادة طمأنينة، أي تمم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى منه بيحيى لا من الشيطان، لان إبليس أو همه ذلك. قاله الضحاك وهو معنى قول السدي، وهذا فيه نظر لاخبار الله تعالى بأن الملائكة نادته حسب ما تقدم في " آل عمران " (2). (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) تقدم في (آل عمران) (2) بيانه فلا معنى للاعادة. قوله تعالى: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فخرج على قومه من المحراب " أي أشرف عليهم من المصلى. والمحراب أرفع المواضع، وأشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما أرتفع من الارض، دليله محراب داود عليه السلام على ما يأتي. واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة: (1) في ج وك: حبلها. (2) راجع ج 4 ص 80 فما بعد. (*)
[ 85 ]
هو مأخوذ من الحرب كأن (؟ يلازمه) يحارب الشيطان والشهوات. وقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب (بفتح الراء) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا. الثانية - هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم. وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الامصار، فأجاز ذلك الامام أحمد [ ابن حنبل ] (1) وغيره متمسكا بقصة المنبر. ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الامام. قلت: وهذا فيه نظر، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه (2)، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو - ينهى عن ذلك ! قال: بلى، قد ذكرت حين مددتني. وروي أيضا عن عدي بن ثابت الانصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم) أو نحو ذلك، فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي. قلت: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة، وهو النزول والصعود، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام. وهذا أولى مما أعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر، لان كثيرا من الائمة يوجد لا كبر عندهم، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا، والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " قال الكلبي وقتادة وابن منبه: أوحى إليهم أشار. القتبي: أومأ (3). مجاهد: كتب على الارض. عكرمة: كتب في كتاب. والوحي في كلام العرب الكتابة، ومنه قول ذي الرمة: (1) من ج وك. (2) في ج: جذبه. (3) في ج وك: أوصى. (*)
[ 86 ]
سوى الاربع الدهم اللواتي كأنها * بقية وحي في بطون الصحائف وقال عنترة: كوحي صحائف من عهد كسرى * فأهداها لاعجم طمطمي (1) و " بكرة وعشيا " ظرفان. وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت، قال: وقد يكون العشي جمع عشية. الرابعة - قد تقدم الحكم في الاشارة في " آل عمران " (2). واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا، أو أرسل إليه رسولا، فقال مالك: إنه يحنث إلا أن ينوي مشافهته، ثم رجع فقال: لا ينوى في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله. قال ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه. وقال أشهب: لا يحنث إذا قرأه الحالف، وهذا بين، لانه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم. فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته، وقال ابن الماجشون: وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا بر، ولو علماه جميعا لم يبر، حتى يعلمه لان علمهما مختلف. الخامسة - واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الاخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه، قال الكوفيون: إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شئ. قال الطحاوي: الخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة. قوله تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) في الكلام حذف، المعنى فولد له ولد وقال الله تعالى للمولود: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة ". وهذا اختصار يدل الكلام عليه. و " الكتاب " التوراة بلا خلاف. " بقوة " أي بجد واجتهاد، قاله مجاهد. وقيل العلم به، والحفظ له والعمل به، وهو الالتزام لاوامره، والكف عن نواهيه، قاله زيد بن أسلم، وقد تقدم (1) الطمطمى: الاعجم الذي لا يفصح. (2) راجع ج 4 ص 81. (*)
[ 87 ]
في " البقرة " (1). [ قوله تعالى ] (2): (وآتيناه الحكم صبيا) قيل: الاحكام والمعرفة بها. وروى معمر أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقت. فأنزل الله تعالى " وآتيناه الحكم صبيا ". وقال قتادة: كان ابن سنتين أو ثلاث سنين. وقال مقاتل: كان ابن ثلاث سنين. و " صبيا " نصب على الحال. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا. وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا). وقال قتادة: إن يحيى عليه السلام لم يعص الله [ تعالى ] (3) قط بصغيرة ولا كبيرة ولا هم بامرأة. وقال مجاهد: وكان طعام يحيى عليه السلام العشب، كان للدمع في خديه مجار ثابتة. وقد مضى الكلام في معنى قوله: " وسديدا وحصورا " [ آل عمران: 39 ] في " آل عمران " (4). قوله تعالى: (وحنانا من لدنا) " حنانا " عطف على " الحكم ". وروي عن ابن عباس أنه قال: والله ما أدري ما " الحنان " ؟. وقال جمهور المفسرين: الحنان الشفقة والرحمة والمحبة، وهو فعل من أفعال النفس. النحاس: وفي معنى الحنان عن ابن عباس قولان: أحدهما - قال: تعطف الله عز وجل عليه بالرحمة. والقول الآخر ما أعطيه من رحمه الناس حتى يخلصهم من الكفر والشرك (5). وأصله من حنين الناقة على ولدها. ويقال: حنانك وحنانيك، قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: حنانيك تثنية الحنان. وقال أبو عبيدة: والعرب تقول: حنانك يا رب وحنانيك يا رب بمعنى واحد، تريد رحمتك. وقال أمرؤ القيس: ويمنحها بنو شمجى بن جرم * معيزهم حنانك ذا الحنان (6) وقال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا * حنانيك بعض الشر أهون من بعض وقال الزمخشري: " حنانا " رحمة لابويه وغيرهما وتعطفا وشفقة، وأنشد سيبويه: فقالت حنان ما أتى بك هاهنا * أذو نسب أم أنت بالحي عارف (1) راجع ج 1 ص 437. (2) من ج وك. (3) من ك. (4) راجع ج 4 ص 86. (5) في ج: الشر. (6) (حنانك ذا الحنان) معناه: رحمتك يا رحمن. رواية اللسان: ويمنعها. (*)
[ 88 ]
قال ابن الاعرابي: الحنان من صفة الله تعالى مشددا الرحيم. والحنان مخفف: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبركة. ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الامور في ذات الله تعالى، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل في حديث بلال: والله لئن قتلتم هذا العبد لاتخذن قبره حنانا، وذكر هذا الخبر الهروي، فقال: وفي حديث بلال ومر عليه ورقة بن نوفل وهو يعذب فقال: والله لئن قتلتموه لاتخذنه حنانا، أي لا تمسحن به. وقال الازهري: معناه لا تعطفن عليه ولا ترحمن عليه لانه من أهل الجنة. قلت: فالحنان العطف، وكذا قال مجاهد. و " حنانا " أي تعطفا منا عليه أو منه على الخلق، قال الحطيئة: تحنن علي هداك المليك * فإن لكل مقام مقالا عكرمة: محبة. وحنة الرجل امرأته لتوادهما، قال الشاعر: فقالت حنان ما أتى بك هاهنا * أذو نسب أم أنت بالحي عارف قوله تعالى: (وزكاة) " الزكاة " التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير والبر، أي جعلناه مباركا للناس يهديهم. وقيل: المعنى زكيناه بحسن الثناء عليه كما تزكي الشهود إنسانا. وقيل: " زكاة " صدقة به على أبويه، قاله ابن قتيبة. (وكان تقيا) أي مطيعا لله تعالى، ولهذا لم يعمل خطيئة ولم يلم بها. قوله تعالى: (وبرا بوالديه) البر بمعنى البار وهو الكثير البر. و (جبارا) متكبرا وهذا وصف ليحيى عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح. قوله تعالى: " وسلام عليه يوم ولد " قال الطبري وغيره: معناه أمان. ابن عطية: والاظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الامان، لان الامان متحصل له بنفي العصيان عنه وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله تعالى عليه، وحياه في المواطن التي الانسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى (1) عظيم الحول. (1) في ج وك: وعظم الهول. (*)
[ 89 ]
قلت: وهذا قول حسن، وقد ذكرنا معناه عن سفيان بن عيينة في سورة " سبحان " (1) [ الاسراء: 1 ] عند قتل يحيى. وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى التقيا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى: ادع الله لي فأنت خير مني، فقال له عيسى: بل أنت ادع الله لي فأنت خير مني، سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي، فانتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى، بأن قال: إدلاله التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي أقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه. قال ابن عطية: ولكل وجه. قوله تعالى: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21) فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23) فنادها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24) وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25) فكلى واشربي وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) (1) راجع ج 10 ص 220. (*)
[ 90 ]
قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم) القصة إلى آخرها. هذا ابتداء قصة ليست من الاولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي عرفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. (إذ انتبذت) أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي، قال الله تعالى: " فنبذوه وراء ظهورهم " (2) [ آل عمران: 187 ]. (من أهلها) أي ممن كان معها. " إذ " بدل من " مريم " بدل اشتمال، لان الاحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت، فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله، وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفا على سدانة المعبد (2) وخدمته والعبادة فيه، فتنحت من الناس لذلك، ودخلت المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عيها جبريل عليه السلام. فقوله: (مكانا شرقيا) أي مكانا من جانب الشرق. والشرق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشرق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لانهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الانوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شئ أفضل من سواها، حكاه الطبري. وحكى عن آبن عباس أنه قال: إني لاعلم الناس لم أتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل: " إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة، وقالوا: لو كان شئ من الارض خيرا من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوة مريم، فقيل: كانت نبية بهذا الارسال والمحاورة للملك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رؤي جبريل [ عليه السلام ] (3) في صفة دحية [ الكلبي ] (3) حين سؤاله عن الايمان والاسلام. والاول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في " أل عمران " (4) والحمد لله. قوله تعالى: (فأرسلنا إليها روحنا) قيل: هو روح عيسى عليه السلام، لان الله تعالى خلق الارواح قبل الاجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصا وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه (1) راجع ج 2 ص 40 وص 305 ج 4. (2) في ج وك: المتعبد. (3) من ج وك. (4) راجع ج 4 ص 83 وما بعدها. (*)
[ 91 ]
السلام، لقوله: (فتمثل لها) أي تمثل الملك لها. (بشرا) تفسير أو حال. (سويا) أي مستوي الخلقة، لانها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلا حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء ف‍ (- قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) أي ممن يتقي الله. البكالي: فنكص جبريل عليه السلام فزعا من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي: كان رجلا صالحا فتعوذت به تعجبا. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت: " إن كنت تقيا ". وقيل: تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت قاله وهب بن منبه، حكاه مكي وغيره ابن عطية: وهو ضعيف ذاهب مع التخرص. فقال لها جبريل عليه السلام: (إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) جعل الهبة من قبله لما كان الاعلام بها من قبله. وقرأ ورش عن نافع " ليهب لك " على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل: معنى " لاهب " بالهمز محمول على المعنى، أي قال: أرسلته لاهب لك. ويحتمل " ليهب " بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة. فلما سمعت مريم ذلك من قوله استفهمت عن طريقه ف‍ (- قالت أنى يكون لي غلاما ولم يمسسني بشر) أي بنكاح. (ولم أك بغيا) أي زانية. وذكرت هذا تأكيدا، لان قولها لم يمسسني بشر يشمل الحلال والحرام. وقيل: ما استبعدت من قدرة الله تعالى شيئا ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد ؟ من قبل الزوج في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء ؟ وروي أن جبريل عليه السلام حين قال لها هذه المقالة نفخ في جيب درعها وكمها، قاله ابن جريج. ابن عباس: أخذ جبريل عليه السلام ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى. قال الطبري: وزعمت النصارى أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع أثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، فكان جميع عمرها نيفا (1) وخمسين سنة. وقوله: (ولنجعله) متعلق بمحذوف، أي ونخلقه لنجعله: (آية) دلالة على قدرتنا عجيبة (ورحمة) [ أي ] (2) لمن آمن به. (وكان أمرا مقضيا) مقدرا (3) في اللوح مسطورا. (1) في ج: ستا وخمسين. (2) من ك. (3) في ج: مقدورا. (*)
[ 92 ]
قوله تعالى: (فانتبذت به مكانا قصيا) أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد، قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال، وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر، لان الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل. وقيل: غير ذلك على ما يأتي: قوله تعالى: (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) " أجاءها " [ بمعنى ] (1) أضطرها، وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاءه (2) به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه. وقرأ شبيل ورويت عن عاصم " فاجأها " من المفاجأة. وفي مصحف أبي " فلما أجاءها المخاض ". وقال زهير: وجار سار معتمدا إلينا * أجاءته المخافة والرجاء وقرأ الجمهور " المخاض " بفتح الميم. وابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا. وناقة ماخض أي دنا ولادها. " إلى جذع النخلة " كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن ولهذا لم يقل إلى النخلة. (قالت يا ليتني مت قبل هذا) تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما - أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني - لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزا، وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة " يوسف " (3) عليه السلام. والحمد لله. قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا). النسي في كلام العرب الشئ الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه. (1) من ج وك. (2) في ك جاءه وأجاءه. (3) راجع ج 9 ص 269. (*)
[ 93 ]
وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم، الانساء جمع نسي وهو الشئ الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه: أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة * ولست بنسي في معد ولا دخل وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فقول مريم: " نسيا منسيا " أي حيضة ملقاة. وقرئ " نسيا " بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز: " نسئا " بكسر النون. وقرأ نوف البكالي: " نسئا " بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرأ بكر بن حبيب: " نسا " بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضا أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: مريم أشعرت أنت أني حملت ؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، وذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم، قال السدي فذلك قوله: " مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " (1) [ آل عمران: 39 ]. وذكر أيضا من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي: قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس، قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملا على عرف النساء (2)، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر. قاله عكرمة، ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظا لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم. قوله تعالى: (فنادها من تحتها) قرئ بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد ب‍ " - من " جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وقاله علقمة والضحاك وقتادة، ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الامور الخارقة للعادة التي لله [ تعالى ] (3) فيها مراد عظيم. وقوله: (1) راجع ج 4 ص 74. (2) في ج وك: عرف البشر. (3) من ك. (*)
[ 94 ]
(ألا تحزني) تفسير النداء، و " أن " مفسرة بمعنى أي، المعنى: فلا تحزني بولادتك. (قد جعل ربك تحتك سريا) يعني عيسى. والسري من الرجال العظيم الخصال السيد. قال الحسن: كان والله سريا من الرجال. ويقال: سري فلان على فلان أي تكرم. وفلان سري من قوم سراه. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سريا لان الماء يسري فيه، قال الشاعر: سلم (1) ترى الدالي منه أزورا * إذا يعب في السرى هرهرا وقال لبيد: فتوسطا عرض السرى وصدعا (2) * مسجورة متجاورا قلامها وقيل: ناداها عيسى (3)، وكان ذلك معجزة وآية وتسكينا لقلبها، والاول أظهر. وقرأ ابن عباس: (فناداها ملك من تحتها) قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الارض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها. قوله تعالى: (وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. فكلي واشربي وقرى عينا) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وهزي " أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع. والباء في قوله: " بجذع " زائدة مؤكدة كما يقال: خذ بالزمام، وأعط بيدك قال الله تعالى: " فليمدد بسبب إلى السماء " (4) أي فليمدد سببا. وقيل: المعنى وهزي إليك رطبا على جذع النخلة. " وتساقط " أي تتساقط فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة " تساقط " مخففا فحذف التي أدغمها غيره. وقرأ عاصم في رواية حفص " تساقط " بضم التاء مخففا وكسر القاف. وقرئ: " تتساقط " بإظهار التاءين و " يساقط " بالياء وإدغام التاء " وتسقط " (1) السلم: الدلو التي لها عروة واحدة كدلو السقائين. والمدالي: المستقى بالدلو. والهرهرة: صوت الماء إذا جرى. (2) أي شق العير والاتان النبت الذى على الماء. ومسجورة: عين مملوءة. والمتجاور المتقارب والقلام: نبت وقيل: هو القصب. والبيت من معلقته. (3) أي على قراءة من فتح من وتحتها. (4) راجع ج 12 ص 22. (*)
[ 95 ]
و " يسقط " و " تسقط " و " يسقط " بالتاء للنخلة وبالياء للجذع، فهذه تسع قراءات ذكرها الزمخشري رحمة الله تعالى عليه. " رطبا " نصب بالهز، أي إذا هززت الجذع هززت بهزه " رطبا جنيا " وعلى الجملة ف‍ " - رطبا " يختلف نصبه بحسب معاني القراءات، فمرة يستند الفعل إلى الجذع، ومرة إلى الهز، ومرة إلى النخلة. " وجنيا " معناه قد طابت وصلحت للاجتناء، وهي من جنيت الثمرة. ويروى عن ابن مسعود - ولا يصح - أنه قرأ " تساقط عليك رطبا جنيا برنيا " (1). وقال مجاهد: " رطبا جنيا " قال: كانت عجوة. وقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن قوله: " رطبا جنيا " فقال: لم يذو. قال وتفسيره: لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه، وهذا هو الصحيح. قال الفراء: الجني والمجني واحد يذهب إلى أنهما بمنزلة القتيل والمقتول والجريح والمجروح. وقال غير الفراء: الجني المقطوع من نخلة واحدة، والمأخوذ من مكان نشأته، وأنشدوا: وطيب ثمار في رياض أريضة * وأغصان أشجار جناها على قرب يريد بالجنى ما يجنى منها أي يقطع ويؤخذ. قال ابن عباس: كان جذعا نخزا فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم أخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا، ثم رطبا، كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شئ. الثانية - استدل بعض الناس من هذه الآية على أن الرزق وإن كان محتوما، فإن الله تعالى قد وكل ابن آدم إلى سعي ما فيه، لانه أمر مريم بهز النخلة (2) لترى آية، وكانت الآية تكون بألا تهز. الثالثة - الامر بتكليف الكسب في الرزق سنة الله تعالى في عباده، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، خلافا لما تقوله جهال المتزهدة، وقد تقدم هذا المعنى والخلاف فيه. وقد كانت قبل ذلك يأتيها رزقها من غير تكسب كما قال: " كلما دخل عليها زكريا المحراب (1) البرني: ضرب من التمر أصفر مدور وهو أجود التمر واحد برنية. (2) في ج وك: الجذع. (*)
[ 96 ]
وجد عندها رزقا " (1) الآية [ آل عمران: 37 ]. فلما ولدت أمرت بهز الجذع. قال علماؤنا: لما كان قلبها فارغا فرغ الله جارحتها عن النصب، فلما ولدت عيسى وتعلق قلبها بحبه، واشتغل سرها بحديثه وأمره، وكلها إلى كسبها، وردها إلى العادة بالتعلق بالاسباب في عباده. وحكى الطبري عن ابن زيد أن عيسى عليه السلام قال لها: لا تحزني، فقالت له وكيف لا أحزن وأنت معي ؟ ! لا ذات زوج ولا مملوكة ! أي شئ عذري عند الناس ؟ ! ! " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فقال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. الرابعة - قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لاطعمه مريم ولذلك قالوا: التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك. وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، ذكره الزمخشري. قال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: " رطبا جنيا " الجني من التمر ما طاب من غير نقش ولا إفساد. والنقش أن ينقش من أسفل البسرة حتى ترطب، فهذا مكروه، يعني مالك أن هذا تعجيل للشئ قبل وقته، فلا ينبغي لاحد أن يفعله، وإن فعله فاعل ما كان ذلك مجوزا لبيعه، ولا حكما بطيبه. وقد مضى هذا القول في الانعام (2). والحمد لله. وعن طلحة بن سليمان " جنيا " بكسر الجيم للاتباع، أي جعلنا (3) لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما الاكل والشرب، والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين. وهو [ معنى ] (4) قوله تعالى: (فكلي واشربي وقرى عينا) أي فكلي من الجني، وأشربي من السري، " وقري عينا " برؤية الولد النبي. وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور. وحكى الطبري قراءة " وقري " بكسر القاف وهي لغة نجد. يقال: قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت. وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد. ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. وضعف فرقة هذا وقالت: الدمع كله حار، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن، وفلان قرة عيني، أي (1) راجع ج 4 ص 69. (2) راجع ج 7 ص 50 وما بعدها. (3) في ج وك: جمعنا. (4) الزيادة من الكشاف للزمخشري. (*)
[ 97 ]
نفسي تسكن بقربه. وقال الشيباني: " وقري عينا " معناه نامي حضها على الاكل والشرب والنوم. قال أبو عمرو: أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره. و " عينا " نصب على التمييز، كقولك: طب نفسا. والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين، وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير. ومثله طبت نفسا، وتفقأت شحما، وتصببت عرقا، ومثله كثير. قوله تعالى: (فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فإما ترين " الاصل في ترين ترأيين (1) فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار " تريين " ثم قلبت الياء الاولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الالف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث، فحذفت الالف لالتقاء الساكنين، فصار ترين، ثم حذفت النون علامة للجزم لان إن حرف شرط وما صلة فبقي ترى، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين، لان النون المثقلة بمنزلة نونين الاولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد: * إما ترى رأسي حاكى لونه (2) * وقول الافوه: * إما ترى رأسي أزرى به (3) * وإنما دخلت النون هنا بتوطئة " ما " كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة " ترين " بسكون الياء وفتح النون خفيفة، قال أبو الفتح: وهى شاذة. الثانية - قوله تعالى: " فقولي إني نذرت " هذا جواب الشرط وفيه إضمار، أي فسألك عن ولدك " فقولي إني نذرت للرحمن صوما " أي صمتا، قاله ابن عباس وأنس ابن مالك. وفي قراءة أبي بن كعب " إنى نذرت للرحمن صوما صمتا " وروي عن أنس. (1) أي قبل التوكيد ودخول الجازم وهي بوزن تمنعين. (2) تمامه: * طرت صبح تحت أذيال الدجى * (3) تمامه: * مأس زمان ذي انتكاس مئوس * (*)
[ 98 ]
وعنه أيضا " وصمتا " بواو، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا، فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم. والذي تتابعت به الاخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت، لان الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام. وقيل: هو الصوم والمعروف، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالاشارة. وعلى هذا تخرج قراءة أنس " وصمتا " بواو، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الاحرام بالحج أو العمرة. ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل عليه السلام - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها، وتتبين الآية فيقوم عذرها. وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الالفاظ التي في الآية، وهو قول الجمهور. وقالت فرقة: معنى " قولي " بالاشارة لا بالكلام. الزمخشري: وفيه أن السكوت عن السفيه واجب، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. الثالثة - من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال إنه قربة فيلزم بالنذر، ويحتمل أن يقال: ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس، كنذر القيام في الشمس ونحوه. وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا، وقد تقدم. وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام. وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل، خرجه البخاري عن ابن عباس (1). وقال ابن زيد والسدي: كانت سنة الصيام عندهم الامساك عن الاكل والكلام. قلت: ومن سنتنا نحن في الصيام الامساك عن الكلام القبيح، قال عليه الصلاة والسلام (إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن آمرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم). وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). (1) الحديث كما في البخاري عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه). (*)
[ 99 ]
قوله تعالى: فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28) قوله تعالى: (فأتت به قومها تحمله) روى أن مريم لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها، أتت به تحمله من المكان القصي الذى كانت انتبذت فيه. قال ابن عباس: خرجت من عندهم حين أشرقت الشمس، فجاءتهم عند الظهر ومعها صبي تحمله، فكان الحمل والولادة في ثلاث ساعات من النهار. وقال الكلبي: ولدت حيث لم يشعر بها قومها، ومكثت أربعين يوما للنفاس، ثم أتت قومها تحمله، فلما رأوها ومعها الصبي حزنوا وكانوا أهل بيت صالحين، فقالوا منكرين: (لقد جئت شيئا فريا) أي جئت بأمر عظيم كالآتي بالشئ يفتريه. قال مجاهد: " فريا " عظيما. وقال سعيد بن مسعدة: أي مختلقا مفتعلا، يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد. والولد من الزنى كالشئ المفترى. قال الله تعالى: " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " (1) [ الممتحنة: 12 ] أي بولد يقصد إلحاقه بالزوج وليس منه. يقال: فلان يفري الفري أي يعمل العمل البالغ، وقال أبو عبيدة: الفرى العجيب النادر، وقاله الاخفش. قال: فريا عجيبا. والفري القطع كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع القول بكونه عجيبا نادرا. وقال قطرب: الفرى الجديد من الاسقية، أي جئت بأمر جديد بديع لم تسبقي إليه. وقرأ أبو حيوة: " شيئا فريا " بسكون الراء. وقال السدى ووهب بن منبه: لما أتت به قومها تحمله تسامع بذلك بنو إسرائيل، فاجتمع رجالهم ونساؤهم، فمدت آمرأة يدها إليها لتضربها فأجف الله شطرها فحملت كذلك. وقال آخر: ما أراها إلا زنت فأخرسه الله تعالى، فتحامى الناس من أن يضربوها، أو يقولوا لها كلمة تؤذيها، وجعلوا يخفضون إليها القول ويلينون، فقالوا: " يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أي عظيما قال (2) الراجز: (1) راجع ج 18 ص 70 فما بعد. (2) هو زرارة بن صعب بن دهر يخاطب العامرية وكان قد خرج معها في سفر يمتارون من اليمامة فلما امتاروا وصدروا جعل زرارة بن صعب يأخذه بطنه فكان يتخلف خلف القوم فقالت العامرية: لقد رأيت رجلا دهريا * يمشى وراء القوم سيتهيا * كأنه مضطغن صبيا * يريد أنه امتلا بطنه فأجابها زرارة بالابيات. و (حجريا) منسوب إلى حجر اليمامة وهو قصبتها. (*)
[ 100 ]
قد أطعمتني دقلا حوليا * مسوسا مدودا حجريا * قد كنت تفرين به الفريا * أي [ تعظمينه ] (1). قوله تعالى: (يا أخت هرون) اختلف الناس في معنى هذه الاخوة ومن هرون ؟ فقيل: هو هارون أخو موسى، والمراد من كنا نظنها مثل هرون في العبادة تأتي بمثل هذا. قيل: على هذا كانت مريم من ولد هرون أخي موسى فنسبت إليه بالاخوة لانها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم وللعربي يا أخا العرب. وقيل كان لها أخ من أبيها اسمه هرون، لان هذا الاسم كان كثيرا في بنى إسرائيل تبركا باسم هرون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بنى إسرائيل، قاله الكلبى. وقيل: هرون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم اسمه هرون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى هرون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل، إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة ما كنت أهلا لذلك. وقال كعب الاحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: إن مريم ليست بأخت هرون أخى موسى، فقالت له عائشة: كذبت. فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو أصدق وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة. قال: فسكتت. وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقال إنكم تقرءون " يا أخت هرون " وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم). وقد جاء في بعض طرقه في غير الصحيح أن النصارى قالوا له: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هرون وبينهما في المدة ستمائة سنة ؟ ! قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، وذكر الحديث. والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الانبياء، والله أعلم. (1) في الاصول: (تطعمينه) ولعله تصحيف. (*)
[ 101 ]
قلت: فقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى وهرون زمان مديد. الزمخشري: كان بينهما وبينه ألف سنة أو أكثر فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهرون، وإن صح فكما قال السدي لانها كانت من نسله، وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أخا صداء (1) قد أذن فمن أذن فهو يقيم) وهذا هو القول الاول. ابن عطية: وقالت فرقة بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هرون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ، ذكره الطبري ولم يسم قائله. قلت: ذكره الغزنوي عن سعيد بن جبير أنه كان فاسقا مثلا في الفجور فنسبت إليه. والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها ؟ ! وهذا من التعريض الذي يقوم مقام التصريح. وذلك يوجب عندنا الحد وسيأتي في سورة " النور " القول فيه إن شاء الله تعالى (2). وهذا القول الاخير يرده الحديث الصحيح، وهو نص صريح فلا كلام لاحد معه، ولا غبار عليه. والحمد لله. وقرأ عمر بن لجأ التيمى: (ما كان أباك آمرؤ (3) سوء). قوله تعالى: فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إني عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33) فيه خمس مسائل الاولى - قوله تعالى: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا) التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت (1) هو زياد بن الحرث الصدائي كان قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذن لصلاة الفجر فأذن فأراد بلال أن يقيم فقال صلى الله عليه وسلم: " إن أخا صداء قد أذن... " الحديث. (2) راجع ج 12 ص 159 فما بعده (3) قال في (البحر): يجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة وحسن ذلك قليلا كونها فيها مسوغ جواز الابتداء بالنكرة وهو الاضافة. (*)
[ 102 ]
ب‍ " إني نذرت للرحمن صوما " وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها ب‍ " - قولي " إنما أريد به الاشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير " كيف نكلم من كان في المهد صبيا " و " كان " هنا ليس يراد بها الماضي (1)، لان كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى هو [ الآن ] (2). وقال أبو عبيدة: (كان) هنا لغو، كما قال: (3) * وجيران لنا كانوا كرام * وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله: " وإن كان ذو عسرة " (4) وقد تقدم. وقال ابن الانباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت " صبيا " ولا أن يقال " كان " بمعنى حدث، لانه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحر وتكتفي به. والصحيح أن " من " في معنى الجزاء و " كان " بمعنى يكن، والتقدير: من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه ؟ ! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية، أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء، كقوله تعالى " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار " (5) أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إلى منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلى إحسان يكن إليه مني مثله. " والمهد " قيل: كان سريرا كالمهد. وقيل " المهد " هاهنا حجر الام. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده: (إني عبد الله) وهي: الثانية - فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و " قال إني عبد الله " فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وبربوبيته، ردا على من غلا من بعده في شأنه. والكتاب الانجيل، قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوة كما علم آدم (1) في ج وك: المضى. (2) الزيادة من كتب التفسير. (3) هو الفرزدق وصدر البيت: * فكيف إذا رأيت ديار قوم * (4) راجع ج 3 ص 371. (5) راجع ج 13 ص 6. (*)
[ 103 ]
الاسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الازل، وإن لم يكن الكتاب منزلا في الحال، وهذا أصح. (وجعلني مباركا) أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له. التستري (1): وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف. (وأوصاني بالصلاة والزكاة) أي لاؤديهما إذا أدركني التكليف، وأمكنني أداؤهما، على القول الاخير الصحيح. (ما دمت حيا) [ ما ] (2) في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي. [ قوله تعالى ] (2): (وبرا بوالدتي) قال ابن عباس: لما قال " وبرا بوالدتي " ولم يقل بوالدي علم أنه شئ من جهة الله تعالى. (ولم يجعلني جبارا) أي متعظما متكبرا يقتل ويضرب على الغضب. وقيل: الجبار الذي لا يرى لاحد عليه حقا قط. (شقيا) أي خائبا من الخير. ابن عباس: عاقا. وقيل: عاصيا لربه وقيل: لم يجعلني تاركا لامره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره. الثالثة - قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت. وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا: إن هذا لامر عظيم. وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية، ثم عاد إلى حالة الاطفال، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة. ولم ينقل أنه دام نطقه، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره من وقت الولاد لكان مثله مما لا ينكتم، وهذا كله مما يدل على فساد القول الاول، ويصرح بجهالة قائله. ويدل أيضا على أنه تكلم في المهد خلافا لليهود والنصارى. والدليل على ذلك إجماع الفرق على أنها لم تحد. وإنما صح براءتها من الزنى بكلامه في المهد. ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجبا على الامم (1) في ك: الفشيري. (2) من ج وك. (*)
[ 104 ]
السالفة، والقرون الخالية الماضية، فهو مما يثبت حكمه ولم ينسخ في شريعة أمره. وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع، يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل، لا مسكن له، صلى الله عليه وسلم. الرابعة - الاشارة بمنزلة الكلام وتفهم ما يفهم القول. كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال: " فأشارت إليه " وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: (كيف نكلم) وقد مضى هذا في " آل عمران " (1) مستوفى. الخامسة - قال الكوفيون: لا يصح قذف الاخرس ولا لعانه. وروى مثله عن الشعبي، وبه قال الاوزاعي وأحمد وإسحق، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه، وهذا لا يصح من الاخرس ضرورة، فلم يكن قاذفا، ولا يتميز بالاشارة بالزنى من الوطئ الحلال والشبهة. قالوا: واللعان عندنا شهادات، وشهادة الاخرس لا تقبل بالاجماع. قال ابن القصار: قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الالسنة ما عدا العربية، فكذلك إشارة الاخرس. وما ذكروه من الاجماع في شهادة الاخرس فغلط. وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ. قال ابن المنذر: والمخالفون يلزمون الاخرس الطلاق والبيوع وسائر الاحكام، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك. قال المهلب: وقد تكون الاشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة. وفي إجماع العقول على أن العيان أقوى من الخبر دليل على أن الاشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام. (والسلام علي) أي السلامة علي من الله تعالى. قال الزجاج: ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الالف واللام. وقوله: (يوم ولدت) يعني في الدنيا. وقيل: من همز الشيطان كما تقدم في " آل عمران " (1). (ويوم أموت) يعني (1) راجع ج 4 ص 81 وص 68. (*)
[ 105 ]
في القبر (ويوم أبعث حيا) يعني في الآخرة. لان له أحوالا ثلاثة: في الدنيا حيا، وفي القبر ميتا، وفي الآخرة مبعوثا، فسلم في أحواله كلها وهو معنى قول الكلبي. ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان. وقال قتادة: ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يحيى الموتى، ويبرئ الاكمه والابرص في سائر آياته (1) فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي أرضعك، فقال لها عيسى عليه السلام: طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به. قوله تعالى: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذى فيه يمترون (34) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35) وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36) فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين (38) وانذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39) إنا نحن نرث الارض ومن عليها وإلينا يرجعون (40) قوله تعالى: (ذلك عيسى ابن مريم) أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة، وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الاله أو ابن الاله. (قول الحق) قال الكسائي: " قول الحق " نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم [ قول الحق ] (2). وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: (يريد هذا كلام عيسى [ ابن مريم ] (3) صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل، وأضيف القول إلى الحق كما قال: (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون) (4) [ الاحقاف: 16 ] أي الوعد والصدق. وقال: (1) في ج: زمانه. (2) زيادة يقتضيها المقام. (3) من ج وك. (4) راجع ج 16 ص 195 فما بعد. (*)
[ 106 ]
" ولدار الآخرة خير " (1) [ الانعام: 32 ] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر " قول الحق " بالنصب على الحال، أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الاشارة في (ذلك). الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لان ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبد الله: " قال الحق ". وقرأ الحسن: " قول الحق " بضم القاف، وكذلك في " الانعام " (2) " قول الحق ". والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. (الذى) من نعت عيسى. (فيه يمترون) أي يشكون، أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل: " يمترون " يختلفون. ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الارض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الاسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط (3) من الناس) [ آل عمران: 21 ]. وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: (فاختلف الاحزاب من بينهم) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قوله (الذي فيه تمترون) بالتاء المعجمة من فوق وهي فراءة أبي عبد الرحمن السلمي وغيره. قال ابن عباس: فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه، ذكره الماوردي. قلت: ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الانجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوحى إلى يوسف النجار (1) راجع ج 10 ص 100 فما بعد. (2) راجع ج 7 ص 17 فما بعد. (3) راجع ج 4 ص 46. (*)
[ 107 ]
في الحلم وقال له: قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه: وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التى بظاهر القاهرة (1)، وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الارض (2)، ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر. وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الاشمونين (3) وقسقام (4) المعروفة الآن بالمحرقة (5) فلذلك يعظمها النصارى إلى الان، ويحضرون إليها في عيد الفصح من كل مكان، لانها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم. قوله تعالى: (ما كان لله) أي ما ينبغي له ولا يجوز: (أن يتخذ من ولد) " من " صلة للكلام، أي أن يتخذ ولدا. و " أن " في موضع رفع اسم " كان " أي ما كان لله أن يتخذ ولدا، أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: (سبحانه) أن يكون له ولد. (إذا قضى أمرا فإنما يقول لك كن فيكون) تقدم في (البقرة) (6) مستوفى. (إن الله ربي وربكم) قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو: بفتح " أن " وأهل الكوفة " وإن " بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي " كن فيكون. إن الله " بغير واو على العطف على " قال إني عبد الله ". وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى، ولان الله ربي وربكم، وكذا " وأن المساجد لله " ف‍ " - أن " في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع (1) بضاحية المطرية. (2) في ك: ذلك المكان. (3) الاشمونين: إحدى قرى مركز ملوى. (4) قسقام: هي القوصية الآن إحدى قرى مركز منفلوط. (5) المحرقة: وتعرف اليوم بالدير المحرق بمركز منفلوط. (6) راجع ج 2 ص 87 فما بعد. (7) راجع ج 19 ص 19 (*)
[ 108 ]
خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم، وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى، والامر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس: حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم، فهي معطوفة على قوله: " أمرا " من قوله: " إذا قضى أمرا " والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ ب‍ " - أن " على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الاوجه الباقية. (فاعبدوه هذا صراط مستقيم) أي دين قويم لا اعوجاج فيه. قوله تعالى: (فاختلف الاحزاب من بينهم) " من " زائدة أي اختلف الاحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام. فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله، فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في " النساء " (1). وقال ابن عباس: المراد من بالاحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور. ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا، أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة. قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب، فتقول: أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) [ المائدة: 116 ] (1). وقيل: " أسمع " (1) راجع ج 6 ص 21 فما بعد وص 374 فما بعد. (*)
[ 109 ]
بمعنى الطاعة، أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم. (ولكن الظالمون اليوم) يعني في الدنيا. (في ضلال مبين) وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الارحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله ؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك، قال معناه قتادة وغيره. قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر) روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. " إذ قضي الامر " أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح (1) فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون " خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجه من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب " التذكرة " وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الاحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة. قوله تعالى: (إنا نحن نرث الارض ومن عليها) أي نميت سكانها فنرثها. (وإلينا يرجعون) يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في " الحجر " (2) وغيرها. (1) الاملح: الذى بياضه أكثر من سواده وقيل النفى البياض. (2) راجع ج 10 ص 18 فما بعد. (*)
[ 110 ]
قوله تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لابيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا (46) قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما توعدن من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48) فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50) قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) المعنى: واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره. وقد تقدم معنى الصديق في " النساء " (1) واشتقاق الصدق في " البقرة " (2) فلا معنى للاعادة. ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الانداد، فهؤلاء لم يتخذون الانداد ؟ ! وهو كما قال " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " (2) [ البقرة: 130 ]. قوله تعالى: (إذ قال لابيه) وهو آزر وقد تقدم (3). (يا أبت) قد تقدم القول فيه في (يوسف) (4) (لم تعبد) أي لاي شي تعبد: (ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك (1) راجع ج 5 ص 272. (2) راجع ج 1 ص 233 وج 2 ص 132. (3) راجع ج 7 ص 22. (4) راجع ج 9 ص 121. (*)
[ 111 ]
شيئا) يريد الاصنام. (يأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب إلى ما أدعوك إليه. (أهدك صراطا سويا) أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة. (يا أبت لا تعبد الشيطان) أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده. (إن الشيطان كان للرحمن عصيا) (كان) صلة زائدة وقيل: [ كان ] (1) بمعنى صار. وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن. وعصيا وعاص بمعنى واحد قاله الكسائي. (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) أي إن مت على ما أنت عليه. ويكون " أخاف " بمعنى أعلم. ويجوز أن يكون " أخاف " على بابها فيكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب. (فتكون للشيطان وليا) أي قرينا في النار. (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) أي أترغب عنها إلى غيرها. (لئن لم تنته لارجمنك) قال الحسن: يعني بالحجارة. الضحاك: بالقول، أي لاشتمنك. ابن عباس: لاضربنك. وقيل: لاظهرن أمرك. (واهجرني مليا). قال ابن عباس: أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبنك منى معرة، واختاره الطبري، فقوله: " مليا " على هذا حال من إبراهيم. وقال الحسن ومجاهد: " مليا " دهرا طويلا، ومنه قول المهلهل: فتصدعت صم الجبال لموته * وبكت عليه المرملات مليا قال الكسائي: يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه. قوله تعالى: (قال سلام عليك) لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد، لانه لم يؤمر بقتاله على كفره. والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية، قال الطبري: معناه أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال النقاش: حليم خاطب سفيها، كما قال: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا (2) سلاما " [ الفرقان: 63 ]. وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق، وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها. قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر ؟ قال: نعم، قال الله تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين (3) (1) من ك. (2) راجع ج 13 ص 67 فما بعد. (3) راجع ج 18 ص 58 فما بعد. (*)
[ 112 ]
ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين " (1) [ الممتحنة: 8 ]. وقال: " قد كانت " لكم أسوة حسنة في إبراهيم " (1) [ الممتحنة: 4 ] الآية، وقال إبراهيم لابيه " سلام عليك ". قلت: الاظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة، وفي الباب حديثان صحيحان: روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه) خرجه البخاري ومسلم. وفي الصحيحين عن أسامة ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة (2) في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الاوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث. فالاول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لان ذلك إكرام، والكافر ليس أهله. والحديث الثاني يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للآخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص. وقال النخعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبى هريرة (لا تبدءوهم بالسلام) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه، قال علقمة: فقلت له يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدءوا بالسلام ؟ ! قال: نعم، ولكن حق الصحبة. وكان أبو أمامة (3) إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه، فقيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الاوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم. (1) راجع ج 18 ص 58 فما بعد، وص 55 فما بعد. (2) في ج وك: معاذ. (3) في الطبعة الاولى: أسامة وليس بصحيح. (*)
[ 113 ]
قلت: وقد احتج أهل المقالة الاولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الامة، لحديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة) الحديث، ذكره الترمذي الحكيم، وقد مضى في الفاتحة (1) بسنده. وقد مضى الكلام في معنى قوله: " سأستغفر لك ربي ". وارتفع السلام بالابتداء، وجاز ذلك مع نكرته لانه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة. قوله تعالى: (إنه كان بي حفيا): الحفي المبالغ في البر والالطاف، يقال: حفي به وتحفى إذا بره. وقال الكسائي يقال: حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: " إنه كان بي حفيا " أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته. قوله تعالى: (واعتزلكم): العزلة المفارقة وقد تقدم في " الكهف " (2) بيانها. وقوله: (عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا) قيل: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه. ولهذا قال: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب) أي آنسنا وحشته بولد، عن ابن عباس وغيره. وقيل: " عيسى " يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل. وقيل: دعا لابيه بالهداية. ف‍ " عسى " شك لانه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا ؟ والاول أظهر. وقوله: (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) أي أثنينا عليهم ثناء حسنا، لان جميع الملل تحسن الثناء عليهم. واللسان يذكر ويؤنث، وقد تقدم (3). قوله تعالى: واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا (52) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا (53) (1) راجع ج 1 ص 130. (2) راجع ج 10 ص 367. (3) راجع ج 1 ص 121. (*)
[ 114 ]
قوله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى) أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى. (إنه كان مخلصا) (1) في عبادته غير مرائي. وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام، أي أخلصناه فجعلناه مختارا. (وناديناه) أي كلمناه ليلة الجمعة. (من جانب الطور الايمن) أي يمين موسى، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر، قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. (وقربناه نجيا) نصب على الحال، أي كلمناه من غير وحي. وقيل: أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه. وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: " وقربناه نجيا " أي أدنى حتى سمع صريف الاقلام. (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبيا) وذلك حين سأل فقال: " وأجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي " (2). قوله تعالى: واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلوة والزكوة وكان عند ربه مرضيا (55) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسمعيل) اختلف فيه، فقيل: هو إسمعيل ابن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسمعيل الذبيح أبو العرب ابن إبراهيم. وقد قيل: إن الذبيح إسحق، والاول أظهر على ما تقدم ويأتي في " والصافات " (3) إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الانبياء تشريفا له وإكراما، كالتلقيب بنحو الحليم والاواه والصديق، ولانه المشهور المتواصف (4) من خصاله. (1) بكسر اللام قراءة (نافع). (2) راجع ص 191 فما بعد من هذا الجزء. (3) راجع ج 15 ص 98 فما بعد. (4) كذا في ج وا وح وك. وفي ى: المتراحف وصوابه: المتراصف: أي المنتظم. (*)
[ 115 ]
الثانية - صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين، وضده وهو الخلف مذموم، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين على ما تقدم بيانه في " براءة " (1). وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسمعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى. هذا في قول من يرى أنه الذبيح. وقيل: وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسمعيل وانتظر الرجل يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له: ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس. وقيل: انتظره ثلاثة أيام. وقد فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه، ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبى الحمساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: (يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك) لفظ أبي داود. وقال يزيد الرقاشي: انتظره إسمعيل اثنين وعشرين يوما، ذكره الماوردي. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظر سنة. وذكره القشيري قال: فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال: إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل: إن إسمعيل لم يعد شيئا إلا وفى به، وهذا قول صحيح، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية، والله أعلم. الثالثة - من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم (العدة دين). وفي الاثر (وأي (2) المؤمن واجب) أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لاجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة، ولا يقضى به. والعرب تمتدح بالوفاء، وتذم بالخلف والغدر، وكذلك سائر الامم، ولقد أحسن القائل: متى ما يقل حر لصاحب حاجة * نعم يقضها والحر للواي ضامن (1) راجع ج 8 ص 212 فما بعد. (2) الوأي، الوعد. (*)
[ 116 ]
ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده، ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحا وثناء، وبما خالفه ذما. الرابعة - قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه. قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه والاوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزم منها (1) شئ لانها منافع لم يقبضها في العارية لانها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري " واذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد "، وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري (2): ورأيت إسحق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. الخامسة - (وكان رسولا نبيا) قيل: أرسل إسمعيل إلى جرهم. وكل الانبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا، وخص إسمعيل بالذكر تشريفا له. والله أعلم. السادسة - (وكان يأمر أهله) قال الحسن: يعني أمته. وفي حرف ابن مسعود " وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة ". (وكان عند ربه مرضيا) أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي والفراء: من قال مرضى بناه على رضيت قالا: وأهل الحجاز يقولون: مرضو. وقال الكسائي والفراء: من العرب من يقول رضوان (3) ورضيان فرضوان على مرضو، ورضيان على مرضى ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان. قال أبو جعفر النحاس: سمعت أبا إسحق الزجاج يقول: يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى: " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال (4) الناس ". (1) في ى: لا يلزم فيها بشئ. (2) قاله في (التاريخ الاوسط) كما في (تهذيب التهذيب). (3) أي في تثنية الرضا. (4) راجع ج 13 ص 36. (*)
[ 117 ]
قوله تعالى: واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا (57) قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا) إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري: وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى، وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح، لانه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا، فامتناعه من الصرف دليل على العجمة، وكذلك إبليس أعجمي وليس من الابلاس كما يزعمون، ولا يعقوب من العقب، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت، ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات، يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي مشتقا من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما: وهو جد نوح وهو خطأ، وقد تقدم في " الاعراف " (1) بيانه. وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون. والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة (2) من بني آدم، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم. [ فالله أعلم ] (3). قوله تعالى: (ورفعناه مكانا عليا) قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما: يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله كعب الاحبار. وقال ابن عباس والضحاك: يعني السماء السادسة، ذكره المهدوي. قلت: ووقع في البخاري (4) عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، الحديث وفيه: كل سماء فيها أنبياء - قد سماهم - منهم إدريس في الثانية. وهو وهم، والصحيح أنه في السماء (1) راجع ج 7 ص 232 فما بعد. (2) يتأمل هذا مع ما ثبت من نبوة آدم وشيث. (3) من ج وك وى. (4) في ج: من حديث شريف. (*)
[ 118 ]
الرابعة، كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره مسلم في الصحيح. وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة). خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما: أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: (يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد ! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس)، يقول إدريس: اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه ؟ فقال الله تعالى: " أما إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته " فقال: يا رب اجمع بينى وبينه، واجعل بينى وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي قال نعم. ثم حمله (1) على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم قال لملك الموت: لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال: ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال ": " نعم " ثم نظر في ديوانه، فقال: إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال " وكيف " ؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال: فإني أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقى من أجل إدريس شئ. فرجع الملك فوجده ميتا. وقال السدي: إنه نام ذات يوم، واشتد عليه حر الشمس، فقام وهو منها في كرب فقال: اللهم خفف عن ملك الشمس حرها، وأعنه على ثقلها، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه، ومثلها عن يساره يخدمونه، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه، فقال ملك الشمس: يا رب من أين لي هذا ؟. قال " دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس " ثم ذكر نحو حديث كعب. قال فقال له ملك الشمس: أتريد حاجة ؟ قال: نعم وددت أني لو رأيت الجنة. (1) في ج: حمله ملك الشمس. (*)
[ 119 ]
قال: فرفعه على جناحه، ثم طار به، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء، ينظر يمينا وشمالا، فسلم عليه ملك الشمس، وقال: يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت: سبحان الله ! ولاي معنى رفعته هاهنا ؟ قال: رفعته لاريه الجنة. قال: فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت: يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة، فنزلت فإذا هو معك، فقبض روحه فرفعها إلى الجنة، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة، فذلك قوله تعالى: " ورفعناه مكانا عليا " قال وهب بن منبه: كان يرفع لادريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لاهل الارض في زمانه، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة آدمي، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس، وقال له: من أنت ! قال أنا ملك الموت، أستأذنت ربي أن أصحبك فأذن لى، فقال: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي ؟ قال: أن تقبض روحي. فأوحى (1) الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبضه ورده الله إليه بعد ساعة، وقال له ملك الموت: ما الفائدة في قبض روحك ؟ قال لا ذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة (2): إن لي إليك حاجة أخرى. قال: وما هي ؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار، فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات، فرأى النار فصعق، فلما أفاق قال أرني الجنة، فأدخله الجنة، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما، فقال مالك لا تخرج ؟ قال: لان الله تعالى قال: " كل نفس ذائقة الموت " (3) [ آل عمران: 185 ] وأنا ذقته، وقال: " وإن منكم إلا واردها " (4) [ مريم: 71 ] وقد وردتها، وقال: " وما هم منها بمخرجين " (5) [ الحجر: 48 ] فكيف أخرج ؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت: " بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج " فهو حي هنالك فذلك قوله تعالى " ورفعناه مكانا عليا " قال النحاس: قول إدريس: " وما هم منها بمخرجين " يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس، ثم نزل القرآن به. قال وهب ابن منبه: فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة يعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء. (1) في ج: فأذن الله له. (2) في ج وك: بعد حين. (3) راجع ج 4 ص 297. (4) راجع ص 135 من هذا الجزء: إن صح هذا فهو دليل على ورود النظر. (5) راجع ج 10 ص 33. (*)
[ 120 ]
قوله تعالى: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم) يريد إدريس وحده. (وممن حملنا مع نوح) يريد إبراهيم وحده (ومن ذرية إبراهيم) يريد إسمعيل وإسحق ويعقوب. (و) من ذرية (إسرائيل) موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى. فكان لادريس ونوح شرف القرب من آدم، ولابراهيم شرف القرب من نوج ولاسمعيل وإسحق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم. (وممن هدينا) أي إلى الاسلام: (واجتبينا) بالايمان. (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن). وقرأ شبل بن عباد المكي " يتلى " بالتذكير لان التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. (خروا سجدا وبكيا) وصفهم بالخشوع لله والبكاء. وقد مضى في " سبحان " (1) [ الاسراء: 1 ]. يقال بكى يبكي بكاء وبكى وبكيا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت كما قال الشاعر: (2) بكت عيني وحق لها بكاها * وما يغني البكاء ولا العويل " وسجدا " نصب على الحال " وبكيا " عطف عليه. الثانية - في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب. قال الحسن: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) الصلاة. وقال الاصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها. والمروى عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون (1) راجع ج 10 ص 341 فما بعد. (2) هو عبد الله بن رواحة يبكى حمزة بن عبد المطلب رحمه الله وأنشده أبو زيد لكعب بن مالك في أبيات. (*)
[ 121 ]
عند تلاوته، قال الكيا: وفي هذه [ الآية ] (1): دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الانبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه. الثالثة - احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ. قال الكيا: وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى. وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الانبياء عليهم الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة. الرابعة - قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة " ألم تنزيل " قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة " سبحان " قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال: اللهم أجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا (61) لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (63) تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (63) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف) أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي هذه الامة (1) من ك. (*)
[ 122 ]
أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الازقة زنى. وقد تقدم القول في " خلف " في " الاعراف " (1) فلا معنى للاعادة. الثانية - قوله تعالى: (أضاعوا الصلاة) وقرأ عبد الله والحسن: " أضاعوا الصلوات " على الجمع. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك، وقد قال عمر: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية، فقال مجاهد: النصارى خلفوا بعد اليهود. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء: هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، أي يكون في هذه الامة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها، فقال القرظي: هي إضاعة كفر وجحد بها. وقال القاسم بن مخيمرة، وعبد الله بن مسعود: هي إضاعة أوقاتها، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ، لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه (ارجع فصل فإنك لم تصل) ثلاث مرات خرجه مسلم، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف (2): منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال منذ أربعين عاما. قال: ما صليت، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي، وفي الترمذي عن أبي مسعود الانصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل) يعني صلبه في الركوع والسجود، قال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود، قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة، قال صلى الله عليه وسلم (تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى أذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا). وهذا ذم لمن يفعل ذلك. وقال فروة بن خالد بن سنان: استبطأ (1) راجع ج 7 ص 310 فما بعد. (2) أي نقص والتطفيف يكون بمعنى الزيادة والنقص. (*)
[ 123 ]
أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقرأ الضحاك هذه الآية، ثم قال: والله لان أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له. وقال الحسن: عطلوا المساجد، واشتغلوا بالصنائع والاسباب. " واتبعوا الشهوات " أي اللذات والمعاصي. الثالثة - روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له: يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به، قلت: بلى. قال: (إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الاعمال على ذلك). قال يونس: وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لفظ أبي داود. وقال: حدثنا موسى بن إسمعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زرارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال: (ثم الزكاة مثل ذلك) (ثم تؤخذ الاعمال على حسب ذلك). وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر - قال همام: لا أدري هذا من كلام قتادة أو من الرواية - فإن انتقص من فريضته شئ قال انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك). خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شئ قال انظروا هل تجدون له من
[ 124 ]
تطوع يكمل ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الاعمال تجري على حسب ذلك) قال النسائي: أخبرنا إسحق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال أنبأنا حماد بن سلمة عن الازرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أكملها وإلا قال الله عز وجل انظروا لعبدي من تطوع فإن وجد له تطوع قال أكملوا به الفريضة). قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " التمهيد " أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون - والله أعلم - فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها، أو لم يحسن ركوعها وسجودها ولم يدر قدر ذلك وأما من تركها، أو نسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا واشتغل بالتطوع عن أداء فرضها وهو ذاكر له فلا يكمل له فريضة من تطوعه والله أعلم. وقد روى من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير عن عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه وسجوده زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم). قال أبو عمر: وهذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وليس بالقوي وإن كان صح كان معناه أنه خرج من صلاة كان قد أتمها عند نفسه وليست في الحكم بتامة [ والله أعلم ] (1). قلت: فينبغي للانسان أن يحسن فرضه ونفله حتى يكون له نفل يجده زائدا على فرضه يقربه من ربه كما قال سبحانه وتعالى: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " الحديث. فأما إذا كان نفل يكمل به الفرض فحكمه في المعنى حكم الفرض. ومن لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى وأولى ألا يحسن التنفل لا جرم تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان والخلل لخفته عندهم وتهاونهم به حتى كأنه غير معتد به. ولعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه ويظن به العلم تنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك لعدم معرفته بالحديث فكيف بالجهال الذين لا يعلمون. وقد قال العلماء: ولا يجزئ ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا (1) من ب وج وط وز وك. (*)
[ 125 ]
وساجدا وجالسا. وهذا هو الصحيح في الاثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر. وهذه رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك. وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " (1). وإذا كان هذا فكيف يكمل بذلك التنفل ما نقص من هذا الفرض على سبيل الجهل والسهو ؟ ! بل كل ذلك غير صحيح ولا مقبول لانه وقع على غير المطلوب والله أعلم. [ الرابعة ] (2) - قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات) وعن علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات) هو من بنى [ المشيد ] (3) وركب المنظور (4) وليس المشهور. قلت: الشهوات عبارة عما يوافق الانسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه. وفي الصحيح: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات). وما ذكر عن علي رضي الله عنه جزء من هذا. قوله تعالى: (فسوف يلقون غيا) قال ابن زيد: شرا أو ضلالا أو خيبة، قال: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغولا يعدم على الغي لائما وقال عبد الله بن مسعود: هو واد في جهنم. والتقدير عند أهل اللغة فسوف يلقون هذا الغي، كما قال جل ذكره: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما " (6) [ الفرقان: 68 ] والاظهر أن الغي اسم للوادي سمي به لان الغاوين يصيرون إليه. قال كعب: يظهر في آخر الزمان قوم بأيديهم سياط كأذناب البقر ثم قرأ [ الآية ] (7): " فسوف يلقون غيا " أي هلاكا وضلالا في جهنم. وعنه: غي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا فيه بئر يسمى البهيم كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البئر فتسعر بها جهنم. وقال ابن عباس: غي واد في جهنم وأن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصر على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ولاهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه. (1) راجع ج 1 ص 190 فما بعد. (2) من ب وج وز وط وك. (3) كذا في روح المعاني وهو الصواب وفي الاصول وكثير من المراجع: (من بني الشديد). (4) في ى: وركب المقطور. ولعله أشبه. (5) البيت للمرقش كما في اللسان. (6) راجع ج 13 ص 76. (7) من ب وج وز وط وك. (*)
[ 126 ]
قوله تعالى: (إلا من تاب) أي من تضييع الصلاة واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة ربه. (وآمن) به (وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة). قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر: (يدخلون) بفتح الخاء. وفتح الياء الباقون. (ولا يظلمون شيئا) أي لا ينقص من أعمالهم الصالحة شئ إلا أنهم (1) يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبعمائة. (جنات عدن) بدلا من الجنة فانتصبت. قال أبو إسحق الزجاج: ويجوز " جنات عدن " على الابتداء. قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان " جنة عدن " لان قبله " يدخلون الجنة ". (التي وعد الرحمن عباده بالغيب) أي من عبده وحفظ عهده بالغيب وقيل: آمنوا بالجنة ولم يروها. - إنه كان وعده مأتيا) " مأتيا " مفعول من الاتيان. وكل ما وصل إليك فقد وصلت إليه تقول: أتت علي ستون سنة وأتيت على ستين سنة. ووصل إلي من فلان خير ووصلت منه إلى خير. وقال القتبي: " مأتيا " بمعنى آت فهو مفعول بمعنى فاعل. و " مأتيا " مهموز لانه من أتى يأتي. ومن خفف الهمزة جعلها ألفا. وقال الطبري: الوعد هاهنا الموعود وهو الجنة أي يأتيها أولياؤه. (لا يسمعون فيه لغوا) أي في الجنة. واللغو معناه الباطل من الكلام والفحش منه والفضول وما لا ينتفع به. ومنه الحديث: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والامام يخطب فقد لغوت) ويروى " لغيت " وهي لغة أبي هريرة كما قال الشاعر (2): ورب أسراب حجيج كظم * عن اللغا ورفث التكلم قال ابن عباس: اللغو كل ما لم يكن فيه ذكر الله تعالى أي كلامهم في الجنة حمد الله وتسبيحه. (إلا سلاما) أي لكن يسمعون سلاما فهو من الاستثناء المنقطع يعني سلام بعضهم على بعض وسلام الملك عليهم قاله مقاتل وغيره. والسلام آسم جامع للخير والمعنى أنهم لا يسمعون فيها إلا ما يحبون. قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) أي لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا أي في قدر هذين الوقتين إذ لا بكرة ثم ولا عشيا (1) في ى: إلا أنه. (2) هو رؤبة ونسبه ابن بري العجاج. (اللسان). (*)
[ 127 ]
كقوله تعالى: " غدوها شهر ورواحها (1) شهر " أي قدر شهر، قال معناه ابن عباس وابن جريج وغيرهما. وقيل: عرفهم اعتدال أحوال أهل الجنة وكان أهنأ النعمة عند العرب التمكين من المطعم والمشرب بكرة وعشيا. قال يحيى بن أبي كثير وقتادة كانت العرب في زمانها من وجد غداء وعشاء معا فذلك هو الناعم فنزلت. وقيل: أي رزقهم فيها غير منقطع كما قال: (لا مقطوعة ولا ممنوعة) (2) كما تقول: أنا أصبح وأمسي في ذكرك. أي ذكري لك دائم. ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم والعشي بعد فراغهم من لذاتهم لانه يتخللها فترات أنتقال من حال إلى حال. وهذا يرجع إلى القول الاول. وروى الزبير ابن بكار عن إسمعيل بن أبي أويس قال قال مالك بن أنس: طعام المؤمنين في اليوم مرتان وتلا قول الله عز وجل " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " ثم قال: وعوض الله عز وجل المؤمنين في الصيام السحور بدلا من الغداء ليقووا به على عبادة ربهم. وقيل: إنما ذكر ذلك لان صفة الغداء وهيئته [ غير ] (3) صفة العشاء وهيئته، وهذا لا يعرفه إلا الملوك. وكذلك يكون في الجنة رزق الغداء غير رزق العشاء تتلون عليهم النعم ليزدادوا تنعما وغبطة. وخرج الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول) من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا قال رجل: يا رسول الله هل في الجنة من ليل ؟ قال (وما هيجك على هذا) قال سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس هناك ليل إنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة) وهذا في غاية البيان لمعنى الآية وقد ذكرناه في كتاب (التذكرة). وقال العلماء: ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبدا إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الابواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الابواب. ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما. (1) راجع ج 14 ص 268. (2) راجع ج 17 ص 210. (3) من ب وز وط وك. (*)
[ 128 ]
قوله تعالى: (تلك الجنة التي) أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها (نورث) بالتخفيف. وقرأ يعقوب: " نورث " بفتح الواو وتشديد الراء. والاختيار التخفيف، لقوله تعالى: " أورثنا الكتاب " (1) [ فاطر: 32 ]. (من عبادنا من كان تقيا) قال ابن عباس: (أي من أتقاني وعمل بطاعتي). وقيل هو على التقديم والتأخير تقديره نورث من كان تقيا من عبادنا. قوله تعالى: وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64) رب السموات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا (65) روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى لجبريل (ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا) قال: فنزلت هذه الآية (وما نتنزل إلا بأمر ربك) إلى آخر الآية. قال هذا حديث حسن غريب. ورواه البخاري: حدثنا خلال بن يحيى حدثنا عمر بن ذر قال سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا) فنزلت: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " الآية، قال كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: (ما الذي أبطأك) قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم، ولا تنقون رواجبكم (2)، ولا تستاكون، قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا. وقال مجاهد أيضا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي: أحتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوه عنه قال عكرمة: فأبطأ عليه أربعين يوما. وقال مجاهد: أثنتي عشرة ليلة. وقيل: خمسة عشر يوما وقيل ثلاثة عشر وقيل ثلاثة أيام فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أبطأت علي حتى (1) راجع ج 14 ص... (2) الرواجب: ما بين عقد الاصابع من داخل أو مفاصل أصول االاصابع واحدتها راجبة. (*)
[ 129 ]
ساء ظني واشتقت إليك) فقال جبريل عليه السلام إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت الآية (وما نتنزل إلا بأمر ربك) وأنزل: (والضحى والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى) (1). ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم. وقيل: هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك وعلى هذا تكون الآية متصلة بما قبل. وعلى ما ذكرنا من الاقوال قيل: تكون غير متصلة بما قبلها والقرآن سور ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة " وما نتنزل " أي قال الله تعالى قل يا جبريل " وما نتنزل إلا بأمر ربك ". وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنا إذا أمرنا نزلنا عليك. الثاني - إذا أمرك ربك نزلنا عليك فيكون الامر على [ الوجه ] (2) الاول متوجها إلى النزول وعلى الوجه الثاني متوجها إلى التنزيل. قوله تعالى: (له) أي لله. (ما بين أيدينا) أي علم ما بين أيدينا (وما خلفنا وما بين ذلك) قال ابن عباس وابن جريج: ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الاخرة. " وما بين ذلك " البرزخ. وقال قتادة ومقاتل: " له ما بين أيدينا " من أمر الآخرة " وما خلفنا " ما مضى من الدنيا " وما بين ذلك " ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة. الاخفش: " ما بين أيدينا " ما كان قبل أن نخلق " وما خلفنا " ما يكون بعد أن نموت " وما بين ذلك " ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت. وقيل: " ما بين أيدينا " من الثواب والعقاب وأمور الآخرة " وما خلفنا " ما مضى من أعمالنا في الدنيا (وما بين ذلك) أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة. ويحتمل خامسا: " ما بين أيدينا " السماء " وما خلفنا " الارض " وما بين ذلك " أي ما بين السماء والارض. وقال ابن عباس في رواية " له ما بين أيدينا " يريد الدنيا إلى الارض " وما خلفنا " يريد السموات وهذا على عكس ما قبله " وما بين ذلك " يريد الهواء ذكر الاول الماوردي والثاني القشيري. الزمخشري: وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها. ولم يقل ما بين ذينك لان المراد ما بين ما ذكرنا كما قال " لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك " (3) (1) راجع ج 20 ص 91 فما بعد. (2) من ب وج وز وط وك وى. (3) راجع ج 1 ص 448. (*)
[ 130 ]
أي بين ما ذكرنا. (وما كان ربك نسيا) أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل وقيل: المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي. وقيل: المعنى أنه عالم بجميع الاشياء متقدمها ومتأخرها ولا ينسى شيئا منها. قوله تعالى: (رب السموات والارض وما بينهما) أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما، فكما إليه تدبير الازمان كذلك إليه تدبير الاعيان. (فاعبده) أي وحده لذلك. وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى كما يقوله أهل الحق وهو القول الحق لان الرب في هذا الموضع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والارض دخل في ذلك اكتساب الخلق ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الاطلاق وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود. (واصطبر لعبادته) أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك بل اشتغل بما أمرت به. وأصل اصطبر اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء كما تقول من الصوم: اصطام. (هل تعلم له سميا) قال ابن عباس: يريد هل تعلم له ولدا أي نظيرا (1)، أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن. وقاله مجاهد. مأخوذ من المساماة. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: هل تعلم له أحدا سمي الرحمن. قال النحاس: وهذا أجل إسناد علمته روي في هذا الحرف وهو قول صحيح ولا يقال الرحمن إلا لله. قلت وقد مضى هذا مبينا في البسملة (2). والحمد لله. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (هل تعلم له سميا) قال: مثلا. ابن المسيب: عدلا. قتادة والكلبي هل تعلم أحدا يسمى الله تعالى غير الله أو يقال له الله إلا الله وهل بمعنى لا، أي لا تعلم. والله تعالى أعلم. (1) في ط الاولى: أي. خطأ. (2) راجع ج 1 ص 103 فما بعد. (*)
[ 131 ]
قوله تعالى: ويقول الانسان أءذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا (69) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70) وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72) قوله تعالى: (ويقول الانسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا) الانسان هنا أبي ابن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت قاله الكلبي ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري وقال المهدوي نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس. واللام في " لسوف أخرج حيا " للتأكد. كأنه قيل له إذا ما مت لسوف تبعث حيا فقال " أئذا ما مت لسوف أخرج حيا " ! قال ذلك منكرا فجاءت اللام في الجواب كما كانت في القول الاول ولو كان مبتدئا لم تدخل اللام لانها للتأكيد والايجاب وهو منكر للبعث. وقرا ابن ذكوان " إذا ما مت " على الخبر والباقون بالاستفهام على أصولهم بالهمز. وقرأ الحسن وأبو حيوة: " لسوف اخرج حيا " قاله استهزاء لانهم لا يصدقون بالبعث. والانسان هاهنا الكافر. قوله تعالى: (أولا يذكر الانسان) أي أو لا يذكر هذا القائل (أنا خلقناه من قبل) أي من قبل سؤاله وقول هذا القول (ولم يك شيئا) فالاعادة مثل الابتداء فلم يناقض. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمر وأبو جعفر " أولا يذكر " وقرأ شيبة ونافع وعاصم: " أو لا يذكر " بالتخفيف. والاختيار التشديد وأصله يتذكر لقوله تعالى " إنما يتذكر أولو الالباب " (1) وأخواتها وفي حرف أبي " أولا يتذكر " وهذه القراءة على التفسير لانها مخالفة لخط المصحف: ومعنى " يتذكر " يتفكر ومعنى " يذكر " يتنبه ويعلم قاله النحاس. (1) راجع ج 15 ص 340. (*)
[ 132 ]
قوله تعالى: (فوربك لنحشرنهم) أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين. (والشياطين) أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم. قيل: يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة كما قال: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " (1) [ الصافات: 22 ] الزمخشري والواو في " والشياطين " يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع. والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذي أغووهم، يقرنون (2) كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت هذا إذا أريد بالانسان الكفرة خاصة فإن أريد الاناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين ؟ قلت إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة. فإن قلت: هلا عزل السعداء عن الاشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء ؟ قلت لم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الاحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم (3) وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم فإن قلت ما معنى إحضارهم جثيا ؟ قلت أما إذا فسر الانسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم عتلا (4) على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو قال الله تعالى " وترى كل أمة جاثية " (5) [ كل ] (6) على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات من تجاثي أهلها على الركب. لما في ذلك من الاستيفاز والقلق (7) وإطلاق الجثا خلاف الطمأنينة أو لما (8) يدهمهم من شدة الامر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجثون على ركبهم جثوا. وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم. على أن " جثيا " حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لانه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب. ويقال: إن معنى (لنحضرنهم حول جهنم جثيا) (1) راجع ج 15 ص 72 فما بعد. (2) كذا في ا وفي ب وج وز وط وك. يقرن. وفي ى: يحشر. (3) في ز: حزنهم. (4) العتل: الدفع والارهاق بالسوق العنيف. قعد مستوفز أي غير مطمئن. (5) راجع ج 16 ص 174. (6) من ج وط وك. (7) الاستيفاز: عدم الاطمئنان قال الجوهري: (8) في ج: ولما يدهمهم. (*)
[ 133 ]
أي جثيا على ركبهم عن مجاهد وقتادة أي أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام. و " حول جهنم " يجوز أن يكون داخلها كما تقول: جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به فقوله: (حول جهنم) على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول. ويجوز أن يكون قبل الدخول. و " جثيا " جمع جاث. يقال: جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما. وأجثاه غيره. وقوم جثي أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وجثي أيضا بكسر الجيم لما بعدها من الكسر. وقال ابن عباس: " جثيا " جماعات. وقال مقاتل: جمعا جمعا وهو على هذا التأويل جمع جثوة وجثوة وجثوة ثلاث لغات وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع فأهل الخمر على حدة وأهل الزنى على حدة وهكذا قال طرفة: ترى جثوتين من تراب عليهما * صفائح صم من صفيح منضد وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب. وهو على هذا التأويل جمع جاث على ما تقدم. وذلك لضيق المكان أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما. وقيل: جثيا على ركبهم للتخاصم كقوله تعالى: " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " (1). وقال الكميت: هم تركوا سراتهم جثيا * وهم دون السراة مقرنينا قوله تعالى: (ثم لننزعن من كل شيعة) أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين (أيهم أشد على الرحمن عتيا) النحاس: وهذه آية مشكلة في الاعراب لان القراء كلهم يقرءون " أيهم " بالرفع إلا هرون القارئ الاعور فإن سيبويه حكى عنه " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم " بالنصب أوقع على أيهم لننزعن. قال أبو إسحق: في رفع " أيهم " ثلاثة أقوال، قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية والمعنى ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشد على الرحمن عتيا وأنشد الخليل فقال: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل * فأبيت لا حرج ولا محروم أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم. وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحق يختار هذا القول ويستحسنه قال: لانه معنى قول أهل التفسير. وزعم أن معنى (1) راجع ج 15 ص 254. (*)
[ 134 ]
" ثم لننزعن من كل شيعة " ثم لننزعن من كل فرقة الاعتى فالاعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحق في معنى الآية. وقال يونس: " لننزعن " بمنزلة الافعال التي تلغى ورفع " أيهم " على الابتداء. المهدوي: والفعل هو " لننزعن " عند يونس معلق قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع " أيهم أشد " لا أنه ملغى. ولا يعلق عند الخليل وسيبويه مثل " لننزعن " إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه. وقال سيبويه: " أيهم " مبني على الضم لانها خالفت أخواتها في الحذف، لانك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في " أيهم " جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما، قال: وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لانها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة ؟ ! ولم يذكر أبو إسحق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الاقوال. أبو علي: إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لانه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في " من قبل ومن بعد " (1) ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لان الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه. قال أبو جعفر: وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحق قال الكسائي: " لننزعن " واقعة على المعنى كما تقول: لبست من الثياب وأكلت من الطعام ولم يقع " لننزعن " على " أيهم " فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع " من كل شيعة " وقوله: " أيهم أشد " جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة " من " في الواجب. وقال الفراء: المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى: " لننزعن " لننادين. المهدوى: ونادى فعل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في " أيهم " معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى: ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول: ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة (1) راجع ج 14 ص 1 فما بعد. (*)
[ 135 ]
أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال " أيهم " متعلق ب‍ " شيعة " فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون. و " عتيا " نصب على البيان. [ قوله تعالى ] (1): (ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) (2) أي أحق بدخول النار يقال: صلى يصلى صليا نحو مضى الشئ يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا. وقال الجوهري: ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الاحراق قلت: أصليته بالالف وصليته تصلية وقرئ " ويصلى سعيرا " (3). ومن خفف فهو من قولهم: صلى فلان بالنار (بالكسر) يصلى صليا أحترق قال الله تعالى " هم أولى بها صليا " قال العجاج: (4) * والله لولا النار أن نصلاها * ويقال أيضا صلي بالامر إذا قاسى حره وشدته. قال الطهوي: ولا تبلى بسالتهم وإن هم * صلوا بالحرب حينا بعد حين واصطليت بالنار وتصليت بها. قال أبو زبيد: وقد تصليت حر حربهم * كما تصلى المقرور من قرس وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق. قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وإن منكم " هذا قسم والواو يتضمنه. ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يموت لاحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة (1) من ب وج وز وك. (2) (صليا) بضم الصاد قراءة (نافع) وعليها التفسير. (3) راجع ج 19 ص 270. (4) ونسبه في اللسان مادة (فيه) إلى الزفيان، وأورده في أبيات هي: ما بال عين شوقها أستبكاها * في رسم دار لبست بلاها تالله لولا النار أن نصلاها * أو يدعو الناس علينا الله * لما سمعنا لامير قاها * القاه: الطاعة. (*)
[ 136 ]
القسم) (1) قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية (وإن منكم إلا واردها) ذكره أبو داود الطيالسي فقوله: " إلا تحلة القسم " يخرج في التفسير المسند لان القسم المذكور في هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى " وإن منكم إلا واردها " وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى: " والذاريات ذروا " إلى قوله " إنما توعدون لصادق. وإن الدين لواقع " (2) والاول أشهر، والمعنى متقارب. الثانية - وأختلف الناس في الورود فقيل: الورود الدخول روي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم. " ثم ننجي الذين أتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " أسنده أبو عمر في كتاب " التمهيد ". وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس [ عن الحسين ] (3) أنه كان يقرأ: " وإن منكم إلا واردها " الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن. وفي مسند الدارمي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر (4) الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته). وروى عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الازرق الخارجي: أما أنا وأنت فلابد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك. وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في " التذكرة ". وقالت فرقة: الورود الممر على الصراط. وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الاحبار والسدي ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الحسن أيضا قال: ليس الورود الدخول إنما تقول: وردت البصرة ولم أدخلها. قال: فالورود أن يمروا على الصراط. قال أبو بكر الانباري: وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها (1) (إلا تحلة القسم): أي لا يدخل النار ليعاقبه بها ولكنه يجوز عليها فلا يكون ذلك إلا بقدر ما يبر الله به قسمه. (2) راجع ج 17 ص 29. (3) من ب وج وز وط وك. (4) الحضر (بالضم): العدو وشد الرجل: عدوه أيضا. (*)
[ 137 ]
مبعدون " (1) قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها. وكان هؤلاء يقرءون " ثم " بفتح الثاء " ننجي الذين أتقوا ". واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الاولى بأن معنى قوله: " أولئك عنها مبعدون " عن العذاب فيها والاحراق بها. قالوا: فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة. ويستدلون بقوله تعالى: " ثم ننجي الذين آتقوا " بضم الثاء ف‍ " ثم " تدل على نجاء بعد الدخول. قلت: وفي صحيح مسلم (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم) قيل: يا رسول الله وما الجسر ؟ قال: (دحض مزلة (2) فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم) الحديث. وبه أحتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنته هذه الآية لا الدخول فيها. وقالت فرقة: بل هو ورود إشراف وأطلاع وقرب. وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين آتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة " ونذر الظالمين " أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى " ولما ورد ماء مدين) (3) أي أشرف عليه لا أنه دخله. وقال زهير: فلما وردن الماء زرقا (4) جمامه * وضعن عصي الحاضر المتخيم وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية) قالت فقلت: يارسول الله وأين قول الله تعالى " وإن منكم إلا واردها " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمه " ثم ننجي الذين آتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا "). أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة. (1) راجع ص 345 من هذا الجزء. (2) دحض مزلة: هما بمعنى وهو الموضع الذي نزل فيه الاقدام ولا تستقر. (3) راجع ج 13 ص 267. (4) يقال: ماء أزرق إذا كان صافيا. وجمام جمع جم وجمة وهو الماء المجتمع. والحاضر: النازل على الماء. والمتخيم: المقيم وأصله من تخيم إذا نصب الخيمة. يصف زهير الظعائن بأنهن في أمن ومنعة فإذا نزلن نزلن آمنات كنزول من هو في أهله ووطنه. والبيت من معلقته. (*)
[ 138 ]
الحديث. ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول: " هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار ") أسنده أبو عمر قال: حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسمعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسمعيل بن عبيد الله [ عن أبي صالح ] (1) الاشعري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عاد مريضا فذكره. وفي الحديث (الحمى حظ المؤمن من النار). وقالت فرقة: الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى. واحتجوا بحديث ابن عمر: (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) الحديث. وروى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ: " وإن منهم " ردا على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله " فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا. ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا. ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا. وإن منهم) (مريم: 68 ] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شغب (2) في هذه القراءة. وقالت فرقة: المراد ب‍ (- منكم) الكفرة والمعنى: قل لهم يا محمد. وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في (منكم) راجعة إلى الهاء في (لنحشرنهم والشياطين. ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا) فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء، فقد عرف ذلك في قوله عز وجل " وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " (3) [ الانسان: 21 - 22 ] معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء وقال الاكثر: المخاطب العالم كله ولابد من ورود الجميع وعليه نشأ (1) الزيادة من (تهذيب التهذيب) وتفسير الطبري. (2) كذا في ب وج وك: بالمعجمة. وفي ا وز وط بالمهملة. (3) راجع ج 19 ص 141 فما بعد. (*)
[ 139 ]
الخلاف في الورود. وقد بينا أقوال العلماء فيه. وظاهر الورود الدخول لقوله عليه الصلاة والسلام: (فتمسه النار) لان المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين. قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا: إنا نرد النار ؟ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا. قلت: وهذا القول يجمع شتات لاقوال فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها. نجانا الله تعالى منها بفضله وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما. فإن قيل: فهل يدخل الانبياء النار ؟ قلنا: لا نطلق هذا ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والاولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون. وقال أبن الانباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة: جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في (يونس) (1). الثالثة - الاستثناء في قوله عليه السلام (إلا تحلة القسم) يحتمل أن يكون أستثناء منقطعا: لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ (إلا تحلة القسم) أي لكن تحلة القسم لابد منها في قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها " وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شئ من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يموت لاحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار) والجنة الوقاية والستر ومن وقى النار وستر عنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى. الرابعة: هذا الحديث يفسر الاول لان فيه ذكر الحسبة، ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له. ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا (2) من النار - أو - (1) راجع ج 8 ص 324 فما بعد. (2) (كان): بالافراد واسمها ضمير يعود. على الموت المفهوم مما سبق أي كان موتهم له حجابا. ولابي ذر عن الكشميهني (كانوا له حجابا). (قسطلاني). (*)
[ 140 ]
دخل الجنة) فقوله عليه السلام (لم يبلغوا الحنث) - ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث - دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة - والله أعلم - لان الرحمة إذا نزلت بآبائهم أستحال أن يرحموا من أجل [ من ] (1) ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم في المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط، إلى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول، وأن قوله عليه الصلاة والسلام (الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه) الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يشق بدليل الاحاديث والاجماع. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله تعالى عنها: (يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم) ساقط ضعيف مردود بالاجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به. وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة ابن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الانصار مات له أبن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك) فقالوا: يارسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال (بل للمسلمين عامة) قال أبو عمر: هذا حديث ثابت صحيح بمعنى (2) ما ذكرناه مع إجماع الجمهور، وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه. قال أبو عمر: الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته، فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الاغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين. وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى " وإن منكم إلا واردها " قوله: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها (1) من ب وز وط وك. (2) في ا وب وج وز وط وك. وفي ى: يعني. (*)
[ 141 ]
مبعدون " [ الانبياء: 101 ] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها. وفي الخبر: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي). الخامسة - قوله تعالى: " كان على ربك حتما مقضيا " الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما. " مقضيا " أي قضاه الله تعالى عليكم. وقال ابن مسعود: أي قسما واجبا. قوله تعالى: (ثم ننجي الذين اتقوا) أي نخلصهم (ونذر الظالمين فيها جثيا) وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لانه لم يقل: وندخل الظالمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو. وقالت المرجئة: لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلد. وقد مضى بيان هذا في غير موضع. وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة " ثم ننجي " مخففة من أنجى. وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي. وثقل الباقون. وقرأ ابن أبي ليلى: " ثمه " بفتح الثاء أي هناك. و " ثم " ظرف إلا أنه مبني لانه غير محصل فبني كما بني ذا، والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فتثبت في الوصل تاء. قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (74) قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا (57) قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى: " أئذا ما مت لسوف أخرج حيا " [ مريم: 66 ]. وقال فيهم: " ونذر الظالمين فيها جثيا " أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا - إن كنا على باطل - أكثر أموالا وأعز نفرا. وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه
[ 142 ]
المحق في دينه وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و " بينات " معناه مرتلات الالفاظ ملخصة المعاني، مبينات المقاصد، إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا. أو ظاهرات الاعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى: " وهو الحق مصدقا " (1) لان آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة وحججا. (قال الذين كفروا) يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. (للذين آمنوا) يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا). قرأ ابن كثير وأبن محيصن وحميد وشبل بن عباد " مقاما " بضم الميم وهو موضع الاقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الاقامة. الباقون " مقاما " بالفتح، أي منزلا ومسكنا. وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالامور الجليلة، أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا. " وأحسن نديا " أي مجلسا، عن ابن عباس. وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي. ومنه دار الندوة لان المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم. وناداه جالسه في النادي. قال: * أنادي به آل الوليد وجعفرا * والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي [ والمنتدى ] (2) والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري. قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) أي من أمة وجماعة. (هم أحسن أثاثا) أي متاعا كثيرا، قال: (3) وفرع يزين المتن أسود فاحم * أثيث كقنو النخلة المتعثكل (1) راجع ج 2 ص 29. (2) الزيادة من (الصحاح) للجوهري. (3) هو امرؤ القيس. والفرع: الشعر التام. والمتن ماعن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم الشديد السواد. وأثيث: كثير أصل النبات. والقنو: العذق وهو الشمراخ. والمتعثكل الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته. وقيل: المتدلي. (*)
[ 143 ]
والاثاث متاع البيت. وقيل: هو ماجد الفرش والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن ابن علي الطوسي فقال: تقادم العهد من أم الوليد بنا * دهرا وصار أثاث البيت خرثيا وقال ابن عباس: هيئة. مقاتل ثيابا " ورئيا " أي منظرا حسنا. وفيه خمس قراءات: قرأ أهل المدينة: " وريا " بغير همز. وقرأ أهل الكوفة: " ورئيا " بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ: " وريا " بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الاعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس (1): " هم أحسن أثاثا وزيا " بالزاي، فهذه أربع قراءات. قال أبو إسحق: ويجوز " هم أحسن أثاثا وريئا " بياء بعدها همزة. النحاس: وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران: أحدهما - أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رءوس الآيات لانها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس: الرئي المنظر، فالمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا. والوجه الثاني - أن جلودهم مرتوية من النعمة، فلا يجوز الهمز على هذا. وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر " ورئيا " بالهمز تكون على الوجه الاول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الاصل. وقراءة طلحة بن مصرف (وريا) بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى اليائين. المهدوي: ويجوز أن يكون " ريئا " فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم " وريا " على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة. وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال: أشاقتك الظعائن يوم بانوا * بذي الرئي الجميل من الاثاث ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا، أي أمتلات وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والاعسم المكي (2) (1) الذى في الشواذ لسعيد بن جبير. (2) في التهذيب: الكوفي. (*)
[ 144 ]
ويزيد البربري " وزيا " بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت، فيكون أصلها زويا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (زويت لي الارض) أي جمعت، أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى، فليعش هؤلاء ما شاءوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا، أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به. قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة) أي في الكفر (فليمدد له الرحمن مدا) أي فليدعه في طيغان جهله وكفره فلفظه لفظ الامر ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك أشد لعقابه. نظيره: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " (1) [ آل عمران: 178 ] وقوله: " ونذرهم في طغيانهم يعمهون " (2) [ الانعام: 110 ] ومثله كثير، أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد. وقيل: هذا دعاء أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده: فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط. وعلى هذا فليس قوله: " فليمدد " خبرا. قوله تعالى: (حتى إذا رأوا ما يوعدون) قال: " رأوا " لان لفظ " من " يصلح للواحد والجمع. و " إذا " مع الماضي بمعنى المستقبل، أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والاسر، وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. (فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا) أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم: (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا). قوله تعالى: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل: يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل. (1) راجع ج 4 ص 286 فما بعد. (2) راجع ج 7 ص 65. (8)
[ 145 ]
ويحتمل ثالثا - أي " ويزيد الله الذين آهتدوا " إلى الطاعة " هدى " إلى الجنة والمعنى متقارب. وقد تقدم القول في معنى زيادة الاعمال وزيادة الايمان والهدى في " آل عمران " (1) وغيرها. (والباقيات الصالحات) تقدم في (الكهف) (2) القول فيها. (خير عند ربك ثوابا) أي جزاء: (وخير مردا) أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا. و (المرد) مصدر كالرد، أي وخير ردا على عاملها بالثواب، يقال: هذا أرد عليك أي أنفع لك. وقيل " خير مردا " أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله. قوله تعالى: أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا (77) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80) قوله تعالى: (أفرأيت الذى كفر بآياتنا) روى الائمة - واللفظ لمسلم - عن خباب قال: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد. قال: فقلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت ؟ ! فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الاعمش، فنزلت هذه الآية: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا " إلى قوله: " ويأتينا فردا ". في رواية قال: كنت قينا (3) في الجاهلية فعملت للعاص بن وائل عملا، فأتيته أتقاضاه. خرجه البخاري أيضا. وقال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينا فصاغ للعاص حليا ثم تقاضاه أجرته فقال العاص: ما عندي اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضيني فقال العاص: يا خباب ما لك ؟ ! ما كنت هكذا، وأن كنت لحسن الطلب. فقال خباب: إني كنت على دينك فأما اليوم فأنا على دين الاسلام مفارق لدينك، قال: أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ؟ قال خباب: بلى قال فأخرني حتى أقضيك (1) راجع ج 4 ص 280 فما بعد. (2) راجع ج 10 ص 414 فما بعد. (3) القين: الحداد والصائغ. (*)
[ 146 ]
في الجنة - استهزاء - فو الله لئن كان ما تقول حقا إني لاقضيك فيها، فوالله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها مني، فأنزل الله تعالى " أفرأيت الذي كفر بآياتنا " يعني العاص ابن وائل الآيات. " أطلع الغيب " قال ابن عباس: (أنظر في اللوح المحفوظ) ؟ !. وقال مجاهد: أعلم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا ؟ ! " أم آتخذ عند الرحمن عهدا " قال قتادة والثوري: أي عملا صالحا. وقيل: هو التوحيد. وقيل: هو من الوعد. وقال الكلبي: عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة. " كلا " رد عليه أي لم يكن ذلك لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا وتم الكلام عند قوله: " كلا ". وقال الحسن: إن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة. والاول أصح لانه مدون في الصحاح. وقرأ حمزة والكسائي: " وولدا " بضم الواو، والباقون بفتحها. واختلف في الضم والفتح على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد يقال ولد وولد كما يقال عدم وعدم. وقال الحرث بن حلزة: ولقد رأيت معاشرا * قد ثمروا مالا وولدا وقال آخر: فليت فلانا كان في بطن أمه * وليت فلانا كان ولد حمار والثاني - أن قيسا تجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا. قال الماوردي: وفي قوله تعالى: " لاوتين مالا وولدا " وجهان: أحدهما - أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله تعالى على طاعته وعبادته، قاله الكلبي. الثاني: أنه أراد في الدنيا وهو قول الجمهور وفيه وجهان محتملان: أحدهما إن أقمت على دين آبائي وعبادة آلهتي لاوتين مالا وولدا. الثاني: ولو كنت على باطل لما أوتيت مالا وولدا. قلت: قول الكلبي أشبه بظاهر الاحاديث بل نصها يدل على ذلك قال مسروق: سمعت خباب بن الارت يقول: جئت العاصي بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده. فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد. فقلت: لا حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لميت ثم مبعوث ؟ ! فقلت: نعم. فقال: إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت [ أفرأيت الذى كفر بآياتنا ] (1) الآية قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (1) من ب وج وز وط وك وى. (*)
[ 147 ]
قوله تعالى: (أطلع الغيب) ألفه ألف أستفهام لمجئ " أم " بعدها ومعناه التوبيخ وأصله أاطلع فحذفت الالف الثانية لانها ألف وصل فإن قيل فهلا أتوا بمدة بعد الالف فقالوا أطلع كما قالوا " الله خير " (1) " آلذكرين حرم " (2) قيل له كان الاصل في هذا " أالله " " أالذكرين " فأبدلوا من الالف الثانية مدة ليفرقوا بين الاستفهام والخبر وذلك أنهم لو قالوا: الله خير بلا مد لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله: " أطلع " لان ألف الاستفهام مفتوحة وألف الخبر مكسورة وذلك أنك تقول في الاستفهام: أطلع ؟ أفترى ؟ أصطفى ؟ أستغفرت ؟ بفتح الالف، وتقول في الخبر: إطلع، إفترى، إصطفى، إستغفرت لهم بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر قوله تعالى: (كلا) ليس في النصف (3) الاول ذكر " كلا " وإنما جاء ذكره في النصف الثاني. وهو يكون بمعنيين: أحدهما بمعنى حقا. والثاني بمعنى لا. فإذا كانت بمعنى حقا جاز الوقف على ما قبله ثم تبتدئ " كلا " أي حقا. وإذا كانت بمعنى لا كان الوقف على " كلا " جائز كما في هذه الآية لان المعنى: لا ليس الامر كذا. ويجوز أن تقف على قوله " عهدا " وتبتدئ " كلا " أي حقا " سنكتب ما يقول " وكذا قوله تعالى: " لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا " (4) [ المؤمنون: 100 ] يجوز الوقف على " كلا " وعلى " تركت ". وقوله: " ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (5). قال كلا " الوقف على " كلا " لان المعنى لا - وليس الامر كما تظن. " فاذهبا ". فليس للحق في هذا المعنى موضع. وقال الفراء " كلا " بمنزلة سوف لانها صلة وهي حرف رد فكأنها " نعم " و " لا " في الاكتفاء. قال: وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة، لا تقف على كلا لانها بمنزلة إي ورب الكعبة. قال الله تعالى " كلا والقمر " (6) [ المدثر: 32 ] فالوقف على " كلا " قبيح لانه صلة لليمين. وكان أبو جعفر محمد بن سعدان يقول في " كلا " مثل قول الفراء وقال الاخفش معنى (1) راجع ج 13 ص 219 فما بعد. (2) راجع ج 7 ص 113. (3) أي من القرآن قال الالوسى: (وهذا أول موضع فيه من القرآن وقد تكرر في النصف الاخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعا). (4) راجع ج 12 ص 149 فما بعد. (5) راجع ج 13 ص 91. (6) راجع ج 19 ص 82. (*)
[ 148 ]
كلا الردع والزجر وقال أبو بكر بن الانباري وسمعت أبا العباس يقول: لا يوقف على " كلا " جميع القرآن لانها جواب والفائدة تقع فيما بعدها. والقول الاول هو قول أهل التفسير. قوله تعالى: (سنكتب ما يقول) أي سنحفظ عليه قوله فنجازيه به في الآخرة. (ونمد له من العذاب مدا) أي سنزيده عذابا فوق عذاب. (ونرثه ما يقول) أي نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد. وقال ابن عباس وغيره: أي نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه. وقيل: نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد ونجعله لغيره من المسلمين. (ويأتينا فردا) أي منفردا لا مال له ولا ولد ولا عشيرة تنصره. قوله تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا. قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا) يعني مشركي قريش. و " عزا " معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا. والعز المطر الجود أيضا قاله الهروي. وظاهر الكلام أن " عزا " راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله. ووحد لانه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله فقال الله تعالى: (كلا) أي ليس الامر كما ظنوا وتوهموا بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الاصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال (2): " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " (3) [ القصص: 63 ] وذلك أن الاصنام جمادات لا تعلم العبادة " ويكونون عليهم ضدا " أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم عن مجاهد والضحاك: يكونون لهم أعداء. ابن زيد: يكونون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق وتقول: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و " كلا " هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا " سيكفرون بعبادتهم " وقرأ (1) المطر الجود: الغزير. (2) في ك: قالوا. (3) راجع ج 13 ص 303 فما بعد. (*)
[ 149 ]
أبو نهيك: " كلا سيكفرون " بالتنوين. وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها. قال المهدوي " كلا " ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم، وقد تقع لتحقيق ما بعدها والتنبيه عليه كقوله: " كلا إن الانسان ليطغى " (1) [ العلق: 6 ] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف عليها في المعنى الاول فان صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها. فمن نون (كلا) من قوله: (كلا سيكفرون بعبادتهم) مع فتح الكاف فهو مصدر كل ونصبه بفعل مضمر والمعنى: كل هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة. " ليكونوا لهم عزا " فيوقف على هذا على " عزا " وعلى " كلا ". وكذلك في قراءة الجماعة لانها تصلح للرد لما قبلها والتحقيق لما بعدها. ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال: سيكفرون. " كلا سيكفرون بعبادتهم " يعني الآلهة. قلت: فتحصل في " كلا " أربعة معان: التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الاول. وقال الكسائي: " لا " تنفى فحسب و " كلا " تنفي شيئا وتثبت شيئا فإذا قيل: أكلت تمرا قلت: كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول وقيل: وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله: " ليكونوا لهم عزا " والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته. ثم قيل: الآية في عبدة الاصنام فأجري الاصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة. وقيل: فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم. قوله تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84) يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85) ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86) (1) راجع ج 20 ص 122 فما بعد. (*)
[ 150 ]
قوله تعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين) أي سلطناهم عليهم بالاغواء وذلك حين قال لابليس: " واستفزز من أستطعت منهم بصوتك " (1) [ الاسراء: 64 ]. وقيل " أرسلنا " أي خلينا يقال: أرسلت البعير أي خليته، أي خلينا الشياطين وإياهم ولم نعصمهم من القبول منهم. الزجاج: قيضنا. (تؤزهم أزا) قال ابن عباس: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية. وعنه تغريهم إغراء بالشر: أمض أمض في هذا الامر حتى توقعهم في النار. حكى الاول الثعلبي والثاني الماوردي والمعنى واحد. الضحاك: تغويهم إغواء مجاهد: تشليهم إشلاء وأصله الحركة والغليان، ومنه الخبر المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم (قام إلى الصلاة ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء). وائتزت القدر ائتزازا اشتد غليانها. والاز التهييج والاغراء قال الله تعالى " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " أي تغريهم على المعاصي. والاز الاختلاط. وقد أززت الشئ أؤزه أزا أي ضممت بعضه إلى بعض قاله الجوهري. قوله تعالى: (فلا تعجل عليهم) أي تطلب العذاب لهم. (إنما نعد لهم عدا) قال الكلبي: آجالهم يعني الايام والليالي والشهور والسنين إلى أنتهاء أجل العذاب. وقال الضحاك: الانفاس. ابن عباس: أي نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم. وقيل الخطوات. وقيل: اللذات. وقيل: اللحظات وقيل الساعات. وقال قطرب: نعد أعمالهم عدا. وقيل لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثما. روي: أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه فقال: إذا كانت الانفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد. وقيل في هذا المعنى: حياتك أنفاس تعد فكلما * مضى نفس منك أنتقصت به جزءا يميتك ما يحييك في كل ليلة * ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا ويقال: إن أنفاس ابن آدم بين اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس: أثنا عشر ألف نفس في اليوم وأثنا عشر ألفا في الليلة - والله أعلم - فهي تعد وتحصى إحصاء ولها عدد معلوم وليس لها مدد فما أسرع ما تنفد. (1) راجع ج 10 ص 288. (*)
[ 151 ]
قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) في الكلام حذف أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته. كقوله: " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " (1) [ الصافات: 99 ] وكما في الخبر (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله). والوفد اسم للوافدين كما يقال: صوم وفطر وزور فهو جمع الوافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهو من وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة إذا خرج إلى ملك في فتح أو أمر خطير. الجوهري: يقال وفد فلان على الامير أي ورد رسولا فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصحب وجمع الوفد وفاد (2) ووفود والاسم الوفادة وأوفدته أنا إلى الامير أي أرسلته. وفي التفسير: " وفدا " أي ركبانا على نجائب طاعتهم. وهذا لان الوافد في الغالب يكون راكبا والوفد الركبان ووحد لانه مصدر. ابن جريج: وفدا على النجائب. وقال عمرو بن قيس الملائي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفني ؟ فيقول لا - إلا إن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا آركبني اليوم وتلا " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول: هل تعرفني ؟ فيقول: لا - إلا إن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك. فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السئ طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك. وتلا " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " (3) [ الانعام: 31 ]. ولا يصح من قبل إسناده. قاله ابن العربي في " سراج المريدين ". وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم القشيري عن ابن عباس بلفظه ومعناه. وقال أيضا عن ابن عباس: من كان يحب [ ركوب ] (4) الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تروث ولا تبول لجمها من الياقوت الاحمر ومن الزبرجد الاخضر ومن الدر الابيض وسروجها من السندس والاستبرق ومن كان يحب ركوب الابل فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول أزمتها من الياقوت والزبرجد ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من [ زبرجد و ] (4) ياقوت قد أمنوا الغرق وأمنوا الاهوال. وقال أيضا عن علي رضي الله عنه: ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه: يارسول الله ! (1) راجع ج 15 ص 97. (2) في ج وب وز وك: أوفاد. (3) راجع ج 6 ص 423. (4) من ب وج وز وط وك وى. (*)
[ 152 ]
إنى قد رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا فما وفد الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم لا يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبونها حتى يقرعوا باب الجنة). ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن علي أبين. وقال علي لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله ! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدا إلا ركبانا. قال: (يا علي إذا كان المنصرف من ببن يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوى بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " (1) [ الزمر: 73 ]. قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلا (2) إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (يأيها الناس إنكم تحشرون إلى الله - تعالى - حفاة عراة غرلا) الحديث. خرجه البخاري ومسلم وسيأتي بكماله في سورة " المؤمنين " إن شاء الله تعالى. وتقدم في " آل عمران " (3) من حديث عبد الله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى. ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء فيكون حديث ابن عباس مخصوصا ! والله أعلم. وقال أبو هريرة: " وفدا " على الابل. ابن عباس: ركبانا يؤتون بنوق من الجنة عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها وقال علي: ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رجالها من ذهب ونجب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن حركوها طارت. وقيل: يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن على ما تقدم عن ابن عباس. والله أعلم. وقيل إنما قال: " وفدا " لان من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبشارات وينتظرون الجوائز فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب. (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) السوق الحث على السير. و " وردا " عطاشا قاله ابن عباس (1) راجع ج 15 ص 284 فما بعد. (2) الغرل (جمع الاغرل): وهو الاقلف. (3) راجع ج 4 ص 273. (*)
[ 153 ]
وأبو هريرة رضى الله عنهما والحسن. والاخفش والفراء وابن الاعرابي: حفاة مشاة. وقيل: أفرادا (1). وقال الازهري: أي مشاة عطاشا كالابل ترد الماء فيقال جاء ورد بني فلان. القشيري: وقوله: (وردا) يدل على العطش لان الماء إنما يورد في الغالب للعطش. وفي " التفسير " مشاة عطاشا تتقطع أعناقهم من العطش وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة. وقيل " وردا " أي الورود كقولك: جئتك إكراما لك أي لاكرامك أي نسوقهم لورود النار. قلت: ولا تناقض بين هذه الاقوال فيساقون عطاشا حفاة مشاة أفرادا (1). قال ابن عرفة: الورد القوم يردون الماء، فسمي العطاش وردا لطلبهم ورود الماء كما تقول: قوم صوم أي صيام وقوم زور أي زوار فهو اسم على لفظ المصدر واحدهم وارد. والورد أيضا الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل. والورد الماء الذى يورد. وهذا من باب الايماء بالشئ إلى الشئ. والورد الجزء [ من القرآن ] (2) يقال: قرأت وردي. والورد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت. فظاهره لفظ مشترك. وقال الشاعر يصف قليبا (3). * يطمو إذا الورد عليه التكا (4) أي الوراد الذين يريدون الماء. قوله تعالى: (لا يملكون الشفاعة) أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لاحد (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) وهم المسلمون فيملكون الشفاعة فهو استثناء الشئ من غير جنسه أي لكن " من اتخذ عند الرحمن عهدا " يشفع، ف‍ " - من " في موضع نصب على هذا. وقيل: هو في موضع رفع على البدل من الواو في " يملكون " أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة " إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " فإنه يملك وعلى هذا يكون الاستثناء (1) في ا: أفواجا. (2) الزيادة من (اللسان). (3) القليب: البئر. (4) صدره: * صبحن من وشحى قليبا سكا * وشحى: اسم بئر. والسك: الضيقة. والتك الورد: ازدحم وضرب بعضه بعضا. وطمت البئر تطمو طموا وتطمى طميا: امتلات. (*)
[ 154 ]
متصلا. و " المجرمين " في قوله: " ونسوق الجرمين إلى جهنم وردا " يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون فإنهم يملكونها بأن يشفع فيهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي) خرجه مسلم بمعناه. وقد تقدم. وتظاهرت الاخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيشفعون، وعلى القول الاول يكون الكلام متصلا بقوله: " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " فلا تقبل غدا شفاعة عبدة الاصنام لاحد، ولا شفاعة الاصنام لاحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم أي لا تنفعهم شفاعة كما قال: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) (1). وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين ولا يملك أحدا شفاعة. " إلا من أتخذ عند الرحمن عهدا " أي إذا أذن له الله (2) في الشفاعة. كما قال: " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " (3) [ البقرة: 255 ]. وهذا العهد هو الذي قال: " أم اتخذ عند الرحمن عهدا " وهو لفظ جامع للايمان وجميع [ الاعمال ] (2) الصالحات التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع. وقال ابن عباس: العهد لا إله إلا الله. وقال مقاتل وابن عباس أيضا: لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله وتبرأ من الحول والقوة (4) لله ولا يرجو إلا الله تعالى. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاصحابه: (أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا) قيل يا رسول الله وما ذاك ؟ قال (يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك [ (فلا تكلني إلى (5) نفسي ] فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة). (1) راجع ج 19 ص 82. (2) في ب وج وز وك: الرب. (3) راجع ج 3 ص 268 فما بعد. (4) أي من حوله وقوته لله. (5) الزيادة من رواية الترمذي. (*)
[ 155 ]
قوله تعالى: وقالوا أتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) إن كل من في السموات والارض إلا آتى الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95) قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) يعنى اليهود والنصارى، ومن زعم أن الملائكة بنات الله. وقرأ يحيى والاعمش وحمزة والكسائي وعاصم وخلف: " ولدا " بضم الواو وإسكان اللام، في أربعة مواضع: من هذه السورة قوله تعالى: لاتين مالا وولدا " [ مريم: 77 ] وقد تقدم، وقوله: " أن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ". وفي سورة نوح " ماله وولده " (1) [ نوح: 21 ]. ووافقهم في " نوح " خاصة ابن كثير ومجاهد وحميد وأبو عمرو ويعقوب. والباقون في الكل بالفتح في الواو واللام وهما لغتان مثل والعرب والعرب والعجم والعجم قال: ولقد رأيت معاشرا * قد ثمروا مالا وولدا وقال آخر: وليت فلانا كان في بطن أمه * وليت فلانا كان ولد حمار وقال في معنى ذلك النابغة: مهلا فداء لك الاقوام كلهم * وما أثمر من مال ومن ولد ففتح. وقيس يجعلون الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا. قال الجوهري: الولد قد يكون واحدا وجمعا وكذلك الولد بالضم. ومن أمثال بني أسد: ولدك من دمى عقبيك (2). وقد يكون الولد جمع الولد مثل أسد وأسد والولد بالكسر لغة في الولد. النحاس: وفرق (1) راجع ج 18 ص 306. (2) أي من نفست به فأدمى النفاس عقبيك فهو ابنك. (*)
[ 156 ]
أبو عبيدة بينهما فزعم أن الولد يكون للاهل والولد جميعا. قال أبو جعفر وهذا قول مردود لا يعرفه أحد من أهل اللغة ولا يكون الولد والولد إلا ولد الرجل، وولد ولده، إلا أن ولدا أكثر في كلام العرب، كما قال: مهلا فداء لك الاقوام كلهم * وما أثمر من مال ومن ولد قال أبو جعفر وسمعت محمد بن الوليد يقول: يجوز أن يكون ولد جمع ولد كما يقال وثن ووثن وأسد وأسد، ويجوز أن يكون ولد وولد بمعنى واحد كما يقال عجم وعجم وعرب وعرب كما تقدم. قوله تعالى (لقد جئتم شيئا إدا) أي منكرا عظيما، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. قال الجوهري: الاد والادة الداهية والامر الفظيع ومنه قوله تعالى: " لقد جئتم شيئا إدا " وكذلك الآد مثل فاعل. وجمع الادة إدد. وأدت فلانا داهية تؤده أدا (بالفتح). والاد أيضا الشدة. [ والاد الغلبة والقوة ] (1) قال الراجز: نضون عني شدة وأدا * من بعد ما كنت صملا جلدا (2) انتهى كلامه. وقرأ أبو عبد الرحمن (3) السلمي: " أدا " بفتح الهمزة. النحاس: يقال أد يؤد أدا فهو آد والاسم الاد، إذا جاء بشئ عظيم منكر. وقال الراجز: قد لقي الاقران مني نكرا * داهية دهياء إدا إمرا عن غير النحاس الثعلبي: وفيه ثلاث لغات " إدا " بالكسر وهي قراءة العامة " وأدا " بالفتح وهى قراءة السلمي و " آد " مثل ماد وهي لغة لبعض العرب رويت عن ابن عباس وأبي العالية، وكأنها مأخوذة من الثقل [ يقال ]: آده الحمل يئوده أودا أثقله. قوله تعالى: (تكاد السموات) قراءة العامة هنا وفي " الشورى " (4) بالتاء. وقراءة نافع ويحيى والكسائي " يكاد " بالياء لتقدم الفعل. (يتفطرن منه) أي يتشققن. وقرأ نافع وابن كثير وحفص وغيرهم: بتاء بعد الياء وشد الطاء من التفطر هنا وفي " الشورى ". (1) في الاصول: الاد القوة والشدة في ج الاد: أيضا القوة. وصوابه كما في اللسان: الاد بالكسر الشدة والاد بالفتح الغلبة والقوة. (2) الصمل الشديد الصلب. وورد في كتب اللغة: (صملا نهدا) والنهد: القوى الشديد. (3) ليس في الاصول أبو عبد الله إلا نسخة ا. (4) راجع ج 16 ص 4. (*)
[ 157 ]
ووافقهم حمزة وابن عامر في " الشورى ". وقرأ هنا " ينفطرن " من الانفطار: وكذلك قرأها أبو عمرو وأبو بكر والمفضل في السورتين. وهي اختيار أبي عبيد، لقوله تعالى: " إذا السماء انفطرت " (1) [ الانفطار: 1 ] وقوله: " السماء منفطر به " (1) [ المزمل: 18 ]. وقوله: (وتنشق الارض) أي تتصدع. (وتخر الجبال هدا) قال ابن عباس: هدما أي تسقط بصوت شديد. وفي الحديث (اللهم إنى أعوذ بك من الهد والهدة) قال شمر قال أحمد بن غياث المروزي: الهد الهدم والهدة الخسوف. وقال الليث هو الهدم الشديد كحائط يهد بمرة يقال: هدني الامر وهد ركني أي كسرني وبلغ مني قاله الهروي والجوهري: وهد البناء يهده هدا كسره وضعضعه وهدته المصيبة أي أوهنت ركنه وانهد الجبل أي انكسر. الاصمعي: والهد الرجل الضعيف يقول الرجل للرجل إذا أوعده: إنى لغير هد أي غير ضعيف. وقال ابن الاعرابي: الهد من الرجال الجواد الكريم وأما الجبان الضعيف فهو الهد بالكسر وأنشد (2): ليسوا بهدين في الحروب إذا * تعقد فوق الحراقف النطق والهدة صوت وقع الحائط ونحوه تقول منه: هد يهد (بالكسر) هديدا والهاد صوت يسمعه أهل الساحل يأتيهم من قبل البحر له دوي في الارض وربما كانت منه الزلزلة ودويه هديده. النحاس " هدا " مصدر لان معنى " تخر " تهد. وقال غيره: حال أي مهدودة (أن دعوا للرحمن ولدا) " أن " في موضع نصب عند الفراء لان دعوا ومن أن دعوا فموضع " أن " نصب بسقوط الخافض. وزعم الفراء أن الكسائي قال: هي في موضع خفض بتقدير الخافض. وذكر ابن المبارك: حدثنا مسعر عن واصل عن عون بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود: إن الجبل ليقول للجبل يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله ؟ فإن قال: نعم سربه ثم قرأ عبد الله " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " الآية قال: (3) أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير ؟ !. قال: وحدثني عوف عن غالب بن عجرد (4) قال: (1) راجع 19 ص 242 وص 47 فما بعد. (2) البيت للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. والحراقف (جمع حرقفة): مجتمع رأس الفخذ. والنطق (جمع نطاق): ما تشد به الاوساط. (3) أي قال عون كما في (الدر المنثور) وغيره. (4) كذا في الاصول ولعله (غالب بن حجرة) وط هنا تحريف. (*)
[ 158 ]
حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال: إن الله تعالى لما خلق الارض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الارض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة، فلم تزل الارض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة قولهم " اتخذ الرحمن ولدا " فلما قالوها اقشعرت الارض وشاك الشجر. وقال ابن عباس: اقشعرت الجبال وما فيها من الاشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الاشجار الشوك. وقال ابن عباس أيضا وكعب: فزعت السموات والارض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة فاستعرت جهنم وشاك الشجر واكفهرت الارض وجدبت حين قالوا: اتخذ الله ولدا. وقال محمد بن كعب: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة لقوله تعالى " تكاد لسموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا " قال ابن العربي: وصدق فإنه قول عظيم سبق به القضاء والقدر ولولا أن الباري تبارك وتعالى لا يضعه كفر الكافر ولا يرفعه إيمان المؤمن ولا يزيد هذا في ملكه كما لا ينقص ذلك من ملكه لما جرى شئ من هذا على الالسنة ولكنه القدوس الحكيم الحليم فلم يبال بعد ذلك بما يقول المبطلون قوله تعالى: (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) نفى عن نفسه سبحانه وتعالى الولد لان الولد يقتضي الجنسية والحدوث على ما بيناه في " البقرة " (1) أي لا يليق به ذلك ولا يوصف به ولا يجوز في حقه لانه لا يكون ولد إلا من والد يكون له والد وأصل والله سبحانه يتعالى عن ذلك ويتقدس. قال: (2) في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة * ما ينبغي دونها سهل ولا جبل (1) راجع ج 2 ص 85. (2) هو ابن أحمر الباهلي يصف جبلا. والخلقاء: الصخرة ليس فيها وصم ولا كسر أي الملساء. والعنقاء: أكمة جبل مشرف. (*)
[ 159 ]
(إن كل من في السموات والارض إلا آتى الرحمن عبدا) " إن " نافية بمعنى ما أي ما كل من في السموات والارض إلا وهو يأتي يوم القيامة مقرا له بالعبودية خاضعا ذليلا كما قال: " وكل أتوه داخرين " (1) [ النمل: 87 ] أي صاغرين أذلاء أي الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولدا له عز وجل تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. و " آتي " بالياء في الخط والاصل التنوين فحذف استخفافا وأضيف. الثانية - في هذه الآية دليل على أنه لا يجوز أن يكون الولد مملوكا للوالد خلافا لمن قال إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق عليه إلا إذا أعتقه. وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الاولاد والملك فإذا ملك الوالد ولده بنوع من التصرفات عتق عليه. ووجه الدليل عليه من هذه الآية أن الله تعالى جعل الولدية والعبدية في طرفي تقابل فنفى أحدهما وأثبت الآخر ولو اجتمعا لما كان لهذا القول فائدة يقع الاحتجاج بها وفي الحديث الصحيح (لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) خرجه مسلم. فإذا لم يملك الاب ابنه مع مرتبته عليه فالابن بعدم ملك الاب أولى لقصوره عنه. الثالثة - ذهب إسحق بن راهويه في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شركا له في عبد) أن المراد به ذكور العبيد دون إناثهم فلا يكمل على من أعتق شركا في أنثى وهو على خلاف ما ذهب إليه الجمهور من السلف ومن بعدهم فإنهم لم يفرقوا بين الذكر والانثى لان لفظ العبد يراد به الجنس كما قال تعالى: " إن كل من في السموات والارض إلا آتى الرحمن عبدا " فإنه قد يتناول الذكر والانثى من العبيد (2) قطعا. وتمسك إسحق بأنه قد حكى عبدة في المؤنث. الرابعة - روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تبارك وتعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله ليس يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الاحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن لي كفوا أحد) وقد تقدم في [ البقرة ] (3) وغيرها وإعادته في مثل هذا الموضع حسن جدا. (1) راجع ج 13 ص 239 فما بعد. (2) كذا في ج وفي ا وح: العبد. (3) تقدم الحديث في ج 2 ص 85 بلفظ آخر. (*)
[ 160 ]
قوله تعالى: (لقد أحصاهم) أي علم عددهم (وعدهم عدا) تأكيد أي فلا يخفى عليه أحد منهم. قلت: ووقع لنا في أسمائه سبحانه المحصي أعني في السنة من حديث أبي هريرة خرجه الترمذي واشتقاق هذا الفعل يدل عليه. وقال الاستاذ أبو إسحق الاسفرايني: ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الاوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " (1). ووقع في تفسير ابن عباس أن معنى " لقد أحصاهم وعدهم عدا " يريد أقروا له بالعبودية وشهدوا له بالربوبية. قوله تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي واحدا لا ناصر له ولا مال معه لينفعه (2) كما قال تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " (3) فلا ينفعه إلا ما قدم من عمل وقال: " وكلهم آتيه " على لفظ وعلى المعنى آتوه. وقال القشيري: وفيه إشارة إلى أنكم لا ترضون لانفسكم باستعباد أولادكم والكل عبيده فكيف رضيتم له مالا ترضون لانفسكم. وقد رد عليهم في مثل هذا في أنهم لا يرضون لانفسهم بالبنات ويقولون: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك وقولهم: الاصنام بنات الله. وقال: " فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم " (4). قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96) قوله تعالى: " إن الذين آمنوا " أي صدقوا. " وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " أي حبا في قلوب عباده. كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه - قال - فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الارض. فذلك قوله تعالى: " سيجعل لهم (1) راجع ج 18 ص 213 فما بعد. (2) كذا في الاصول إلا ا: ينفعه. (3) راجع ج 13 ص 113 فما بعد. (4) راجع ج 7 ص 89 فما بعد. (*)
[ 161 ]
الرحمن ودا " وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الارض) " قال هذا حديث حسن صحيح. وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الاصول. وحدثنا أبو بكر بن سابق الاموي قال: حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله أعطى المؤمن الالفة (1) والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين - ثم تلا - " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ". واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: (قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة) فنزلت الآية ذكره الثعلبي. وقال ابن عباس: نزلت في عبد الرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه. وكان هرم بن حيان يقول: ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الايمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقيل: يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة. قلت: إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء - قال - ثم يوضع له القبول في الارض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه [ قال ] (2) فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه - قال - فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الارض). قوله تعالى: وإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97) (1) في ب وج وز وط: المقه: والمقه بكسر الميم وآخره هاء: المحبة وفي ك: الشفقة. (2) من ب وج وط وك. (*)
[ 162 ]
قوله تعالى: فإنما يسرناه بلسانك) أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله. وقيل: أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. (لتبشر به المتقين) [ أي المؤمنين ] (1) (وتنذر به قوما لدا) اللد جمع الالد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى: " ألد الخصام (2) " وقال الشاعر: أبيت نجيا للهموم كأنني * أخاصم أقواما ذوي جدل لدا وقال أبو عبيدة: الالد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل. الحسن: اللد الصم عن الحق. قال الربيع: صم أذان القلوب. مجاهد: فجارا. الضحاك: مجادلين في الباطل. ابن عباس: شدادا في الخصومة. وقيل: الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد. وخصوا بإلانذار لان الذي لا عناد عنده يسهل انقياده قوله تعالى: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (94) قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد. " أو تسمع لهم ركزا " أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا [ على ] (3) أعمالهم. وقيل: حسا، قاله ابن زيد. وقيل: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قاله اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد: وتوجست ركز الانيس فراعها * عن ظهر غيب والانيس سقامها (4) وقيل: الصوت الخفي. ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الارض. وقال طرفة: وصادقتا سمع التوجس للسري * لركز خفي أو لصوت مندد (5) (1) من ب وج وز وط وك. (2) راجع ج 3 ص 14 فما بعد. (3) من ب وج وط وك وز. (4) توجست: تسمعت البقرة صوت الناس فأفزعها ولم تر الناس. والانيس سقامها معناه: والانيس هلاكها: أي يصيدها. (5) يصف طرفة في هذا البيت أذني ناقته يعنى أذنيها لا تكذبها النبأة. والمندد صفة للصوت والصوت المندد المبالغ في النداء. ويروى: (لصوت مندد) بالاضافة وكسر الدال والاولى هي الرواية الجيدة. (*)
[ 163 ]
وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب: إذا توجس ركزا مقفر ندس * بنبأة الصوت ما في سمعه كذب أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع. والندس الحاذق فيقال: ندس وندس كما يقال: حذر وحذر ويقظ ويقظ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب. بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة طه عليه السلام سورة طه عليه السلام مكية في قول الجميع. نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه. روى الدار قطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك [ وأختك ] (1) قد صبوا (2) فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خباب وكانوا يقرءون: " طه ". فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه - وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب - فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ: " طه ". وذكره ابن إسحق مطولا: فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله فلقيه نعيم ابن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر ؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الارض وقد قتلت محمدا ؟ ! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم ؟ !. فقال: وأي أهل بيتي ؟. قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الارت معه صحيفة فيها (1) من ب وج وز وط وك. (2) صبا الرجل: خرج من دين إلى دين آخر. (*)
[ 164 ]
" طه " يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال: ما هذه الهينمة (1) التي سمعت ؟ قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لاخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال لها: لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها " طه " [ فقرأها ] (2) فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر والله إني لارجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أيد الاسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب) فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم وذكر الحديث. مسألة أسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تبارك وتعالى قرأ " طه " و " يس " قبل أن يخلق السموات والارض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لامة ينزل هذا عليها وطوبى لاجواف تحمل هذا وطوبى لالسنة تتكلم بهذا) قال ابن فورك معنى قوله: (إن الله تبارك وتعالى قرأ " طه " و " يس ") أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه من الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول: قرأت الشئ إذا تتبعته وتقول: ما قرأت هذه (1) الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم. (2) من ب وج وط وز وك. (*)
[ 165 ]
الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقراءته إسماعه وإفهامه بعبارات يخلقها وكتابة يحدثها. وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله: " فاقرءوا ما تيسر من القرآن " " فاقرءوا ما تيسر منه " (1). ومن أصحابنا من قال معنى قوله: (قرأ) أي تكلم به وذلك مجاز كقولهم ذقت هذا القول (2) ذواقا بمعنى أختبرته. ومنه قول تعالى: " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " (3) أي أبتلاهم الله تعالى به فسمي ذلك ذواقا والخوف لا يذاق على الحقيقة لان الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح. قال ابن فورك: وما قلناه أولا أصح في تأويل هذا الخبر لان كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الاوقات والازمنة لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان. قوله تعالى: طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3) تنزيلا ممن خلق الارض والسموات العلى (4) الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى (6) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى (8) قوله تعالى: " طه " اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: هو من الاسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي. وقيل: إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه. وأنشد الطبري في ذلك فقال: (4) دعوت بطه في القتال فلم يجب * فخفت عليه أن يكون موائلا (1) راجع ج 19 ص 50 فما بعد. (2) في ب وج وط وز وك: هذا الامر. (3) راجع ج 10 ص 193 فما بعد. (4) هو متمم بن نويرة وواءل: طلب النجاة. (*)
[ 166 ]
ويروى مزايلا. وقال عبد الله بن عمرو: يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب: هو بلغة طئ وأنشد ليزيد بن المهلهل: إن السفاهة طه من شمائلكم * لا بارك الله في القوم الملاعين وكذلك قال الحسن: معنى " طه " يا رجل. وقاله عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد. وحكى الطبري: أنه بالنبطية يا رجل. وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال: إن السفاهة طه من خلائقكم * لا قدس الله أرواح الملاعين وقال عكرمة أيضا: هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي. والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمنية في عك وطئ وعكل أيضا. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به. وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى به كما سماه محمدا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لي عند ربي عشرة أسماء) فذكر أن فيها طه ويس وقيل: هو اسم للسورة ومفتاح لها. وقيل: إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسوله بعلمه. وقيل: إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معنى واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشئ كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار. وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل " طاء " يا طامع الشفاعة للامة " هاء " يا هادي الخلق إلى الله (1). وقيل: الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب. وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين. بيانه قوله تعالى: " سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب " (2) وقوله: " وقذف في قلوبهم الرعب " (3). وقيل: الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هو ان أهل النار في النار. وقول سادس: إن معنى. " طه " طوبى لمن اهتدى قاله مجاهد ومحمد بن الحنفية. (1) في الاصول جميعا: يا هادي الخلق إلى الملة. (2) راجع ج 4 ص 232 فما بعد. (3) راجع ج 18 ص 3 فما بعد. (*)
[ 167 ]
وقول سابع: إن معنى " طه " طإ الارض وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له: طإ الارض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الانباري. وقد ذكر القاضي عياض في " الشفاء " أن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الاخرى فأنزل الله تعالى: " طه " يعني طإ الارض يا محمد. (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى). الزمخشري: وعن الحسن " طه " وفسر بأنه أمر بالوطئ وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الارض بقدميه معا وأن الاصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت [ ألفا ] (1) في (يطا) فيمن قال: *...... لا هناك المرتع (2) * ثم بنى عليه هذا الامر والهاء للسكت. وقال مجاهد: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الاية يصلي وينام. وقال مقاتل والضحاك: فلما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم قام هو وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى " طه " يقول: يا رجل " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " أي لتتعب، على ما يأتي. وعلى هذا القول: إن " طه " [ طاها أي ] (3) طإ الارض فتكون الهاء والالف ضمير الارض أي طإ الارض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة. وقرأت طائفة: " طه " وأصله طأ بمعنى (1) الزيادة من تفسير الزمخشري. (2) الشعر للفرزدق وتمام البيت: راحت بمسلمة البغال عشية * فارعي فزارة لا هناك المرتع قال هذا حين عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق ووليها عمر بن هبيرة الفزاري فهجاهم الفرزدق ودعا لقومه ألا يهنئوا النعمة بولايته. وأراد بغال البريد التي قدمت بمسلمة عند عزله. (شواهد سيبويه). (3) الزيادة من كتب التفسير. (*)
[ 168 ]
طإ الارض فحذفت الهمزة وأدخلت هاء السكت: وقال زر بن حبيش: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود " طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " فقال له عبد الله: " طه " فقال: يا أبا عبد الرحمن أليس قد أمر أن يطأ الارض برجليه أو بقدميه. فقال: " طه " كذلك أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمال أبو عمرو وأبو إسحق الهاء وفتحا الطاء. وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والاعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد. الباقون بالتفخيم قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة. النحاس: لا وجه للامالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: إحداهما أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة فتكون الامالة والعلة الاخرى أن الطاء من الحروف الموانع للامالة فهاتان علتان بينتان. قوله تعالى: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وقرئ. " ما نزل عليك القرآن لتشقى ". قال النحاس: بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود. وقال أبو جعفر: وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول: إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء. والشقاء يمد ويقصر. وهو من ذوات الواو. وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب. قال الشاعر: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله * وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم فمعنى لتشقى: " لتتعب " بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى " فلعلك باخع نفسك على آثارهم " (1) [ الكهف: 6 ] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة. وروى أن أبا جهل [ بن هشام ] (2) - لعنه الله تعالى - والنضر بن الحرث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك شقي لانك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بأن دين الاسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وعلى الاقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدت (3) قدماه فقال له جبريل: أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة. (1) راجع ج 10 ص 353. (2) من ب وج وط وز وك. (3) كذا في ب وج وط وز وى. أي تورمت كذا في ا. (*)
[ 169 ]
قوله تعالى: (إلا تذكرة لمن يخشى) قال أبو إسحق الزجاج: هو بدل من " تشقى " أي ما أنزلناه إلا تذكرة. النحاس: وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. (تنزيلا) مصدر أي نزلناه تنزيلا. وقيل: بدل من قوله " تذكرة ". وقرأ أبو حيوة الشامي: " تنزيل " بالرفع على معنى هذا تنزيل. (ممن خلق الارض والسموات العلا) أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقوله: كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله ثم قال: (الرحمن على العرش استوى) ويجوز النصب على المدح. قال أبو إسحق الخفض على البدل. وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن. النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر " له ما في السموات وما في الارض " فلا يوقف على " استوى " وعلى البدل من المضمر في " خلق " فيجوز الوقف على " استوى ". وكذلك إذا كان خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على " العلا ". وقد تقدم القول في معنى الاستواء في " الاعراف " (1). والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما يكون استواء المخلوقين. وقال ابن عباس يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة (له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى) يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى. وقال محمد بن كعب يعني الارض السابعة. ابن عباس (2): الارض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها " فتكن في صخرة أو في السموات أو في الارض " والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله تعالى. وقال وهب بن منبه: على وجه الارض سبعة أبحر والارضون سبع (1) راجع ج 7 ص 219 فما بعد. (2) هذه الرواية وما شاكلها رواها عن ابن عباس رواة غير ثقات وقد تكلم العلماء في هذه الرواية وأمثالها. (*)
[ 170 ]
بين كل أرضين بحر فالبحر الاسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرده لاحرقت جهنم كل من عليها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه (1) إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق. قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) قال ابن عباس: السر ما حدث به الانسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره. وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسر به غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى: الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا " السر " ما أسر ابن آدم في نفسه " وأخفى " ما خفى على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما يستقبل علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره: " السر " ما أضمره الانسان في نفسه " وأخفى " منه ما لم يكن ولا أضمره أحد. وقال ابن زيد: " السر " [ سر ] (2) الخلائق " وأخفى " منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي [ هو ] (2) " أخفى " ما ليس في سر الانسان وسيكون في نفسه كما قال ابن عباس. (الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى) " الله " رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدإ أو على البدل من الضمير في " يعلم ". وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: [ " الرحمن على العرش استوى " وأنزل ]: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " (3) وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى ". وقد تقدم التنبيه عليها في سورة (الاعراف) (4). (1) في ب وج وز وط وك وى: غلظه. (2) من ب وج وز وط وك وى. (3) راجع ج 10 ص 342. (4) راجع ج 7 ص 325 فما بعد. (*)
[ 171 ]
قوله تعالى: وهل أتاك حديث موسى (9) إذ رءا نارا فقال لاهله أمكثوا إني آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (10) فلما أتاها نودى يا موسى (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلوة لذكرى (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى (15) فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى (16) قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى) قال أهل المعاني: هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه، أليس قد أتاك ؟ وقيل: معناه وقد أتاك، قاله ابن عباس. وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. (إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إني آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضى الاجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا: يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة - لما سبق في علم الله تعالى - وكانت ليلة مظلمة. وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله وغنمه، وولد له في الطريق غلام في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور (1) المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق " فقال لاهله أمكثوا " أي أقيمو بمكانكم. " إني آنست نارا " أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة (1) في ى: توره. (*)
[ 172 ]
ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار - فيما روى - وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا: وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة " لاهله امكثوا " بضم الهاء، وكذا في " القصص " (1). قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت بهو يارجل، فجاء به على الاصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال: " امكثوا " ولم يقل أقيموا، لان الاقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. و " آنست " أبصرت، قاله ابن الاعرابي. ومنه قوله: " فإن آنستم منهم رشدا " (2) [ النساء: 6 ] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال: قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا، فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما. " هدى " أي هاديا. قوله تعالى: (فلما أتاها) يعني النار (نودى) أي من الشجرة كما في سورة " القصص " أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي: (يا موسى إني أنا ربك). قوله تعالى: (فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى) فيه خمس مسائل: الاولى: قوله تعالى: " فاخلع نعليك " روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت) قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الاعرج [ حميد - هو ابن علي الكوفي (3) - ] منكر الحديث، وحميد ابن قيس الاعرج المكي صاحب مجاهد ثقة، والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرأ العامة " إني " بالكسر، أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير (1) راجع ج 13 ص 280. (2) راجع ج 5 ص 33 فما بعد. (3) الزيادة من الترمذي. (*)
[ 173 ]
وابن محيصن وحميد " أني " بفتح الالف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الارض. فقيل: أمر بطرح النعلين، لانها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى، قاله كعب وعكرمة وقتادة. وقيل: أمر بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج. وقيل: أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت. وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طإ الارض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الانسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الاعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: (إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك) قال: فخلعتهما. وقول خامس: إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الاهل والولد. وقد يعبر عن الاهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: (1) من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج. وقيل: لان الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ [ على ] (2) بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه، كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: (قم فأنذر. وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر) (3) [ المدثر: 2 - 3 - 4 - 5 ] والله أعلم بالمراد من ذلك. الثانية - في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. وقال أبو الاحوص: زار عبد الله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى، فقال أبو موسى لعبدالله: تقدم. فقال عبد الله: تقدم أنت في دارك. فتقدم وخلع (4) نعليه، فقال عبد الله: أبا الوادي المقدس أنت ؟ ! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت (1) قوله في التعبير: يعنى تعبير الرؤيا. (2) من ب وج وز وط وى. (3) راجع ج 19 ص 58 فما بعد. (4) في ب وج وز وط: نزع. (*)
[ 174 ]
لانس أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين قال: نعم. ورواه النسائي عن عبد الله ابن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) وقال: (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما). صححه أبو محمد عبد الحق. وهو يجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى: " خذوا زينتكم عند كل مسجد " (1) [ الاعراف: 31 ] على ما تقدم. وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها. الثالثة - فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك، فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه). وقال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذ بهما مسلما. وما رواه عبد الله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة. الرابعة - فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول (2) بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأوراثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا ؟ قولان عندنا. وأطلق الاجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الاوزاعي وأبو ثور. وقال (1) راجع ج 7 ص 188 فما بعد. (2) في ك: من قبل. (*)
[ 175 ]
أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك كله إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل، لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة " النحل " (1). ومضى في سورة " براءة " (2) القول في إزاله النجاسة والحمد لله. الخامسة - قوله تعالى: (إنك بالوادي المقدس طوى) المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والارض المقدسة أي المطهرة، سميت بذلك لان الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الاماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الازمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا أعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين، فقد شاركه في ذلك غيره. و (طوى) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك: هو واد عميق مستدير مثل الطوى. وقرأ عكرمة: " طوى ". الباقون " طوى ". قال الجوهري: " طوى " اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. وقال بعضهم: " طوى " مثل " طوى " وهو الشئ المثنى، وقالوا في قوله: " المقدس طوى ": طوي مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له: " طوى " لان موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي، فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: (إنك بالوادي المقدس) الذي طويته طوى، أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين، فهو مصدر من طويته طوى أيضا. (1) راجع ج 10 ص 156 فما بعد. (2) راجع ج 8 ص 262 فما بعد. (*)
[ 176 ]
قوله تعالى: (وأنا اخترتك) أي أصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي " وأنا اخترتك ". وقرأ حمزة " وأنا أخترناك ". والمعنى واحد إلا أن " وأنا أخترتك " ها هنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام، لقوله عز وجل: " يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك " وعلى هذا النسق جرت المخاطبة، قاله النحاس. قوله تعالى: (فاستمع لما يوحى) فيه مسألة واحدة - قال ابن عطية: وحدثني أبي - رحمه الله - قال سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه: " استمع لما يوحى " وقف على حجر، واستند إلى حجر، ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل لباسه صوفا. قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم (1) الله " [ الزمر: 18 ] وذم على خلاف هذا الوصف فقال: " نحن أعلم بما يستمعون به " (2) الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " (3) [ الاعراف: 204 ] وقال ها هنا: " فاستمع لما يوحى " لان بذلك ينال الفهم عن الله تعالى. روى عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر، والاصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشئ سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم. وقال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نورا. (1) راجع ج 15 ص 243 فما بعد. (2) راجع ج 10 ص 272. (3) راجع ج 7 ص 353. (*)
[ 177 ]
قوله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) فيه سبع مسائل: الاولى - اختلف في تأويل قوله: " لذكري " فقيل: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لاذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الاضافة إلى الفاعل وإلى المفعول. وقيل: المعنى، أي حافظ بعد التوحيد على الصلاة. وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه، وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمى الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله: " فاسعوا إلى ذكر الله " (1) [ الجمعة: 9 ]. وقيل: المراد إذا نسيت فتذكرت فصل كما في الخبر (فليصلها إذا ذكرها). أي لا تسقط الصلاة بالنسيان. الثانية - روى مالك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول (أقم الصلاة لذكري)). وروى أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث حجاج بن حجاج (2) - وهو حجاج الاول الذي روى عنه يزيد بن زريع - قال حدثنا قتادة عن أنس بن مالك [ رضى الله عنه (3) ] قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يرقد عن الصلاة ويغفل عنها قال: (كفارتها أن يصليها إذا ذكرها) تابعه إبراهيم بن طهمان عن حجاج، وكذا يروي همام بن يحيى عن قتادة. وروى الدارقطني عن أبي هريرة [ رضى الله عنه (3) ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) فقوله: (فليصلها إذا ذكرها) دليل على وجوب القضاء على النائم والغافل، كثرت الصلاة أو قلت، وهو مذهب عامة العلماء وقد حكى خلاف شاذ لا يعتد به، لانه مخالف لنص الحديث عن بعض الناس فيما زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء. قلت: أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، ونص على أوقات معينة، فقال: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " (4) الآية وغيرها من الآي. ومن أقام بالليل ما أمر بإقامته بالنهار، أو بالعكس لم يكن فعله مطابقا لما أمر به، ولا ثواب له على فعله وهو عاص، وعلى هذا الحد كان لا يجب عليه قضاء ما فات وقته. ولولا قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) لم ينتفع أحد بصلاة وقعت في غير وقتها، وبهذا الاعتبار كان قضاء لا أداء، لان القضاء بأمر متجدد وليس بالامر الاول. (1) راجع ج 18 ص 97 فما بعد. (2) في ج وط وك وى. ابن أبي الحجاج وما أثبتناه في الاصل هو ما عليه التهذيب. (3) من ج وك. (4) راجع ج 10 ص 302 فما بعد. (*)
[ 178 ]
الثالثة - فأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا إلا داود. ووافقه أبو عبد الرحمن الاشعري الشافعي، حكاه عنه ابن القصار. والفرق بين المتعمد والناسي والنائم، حط المأثم، فالمتعمد مأثوم وجميعهم قاضون. والحجة للجمهور قوله تعالى: " أقيموا الصلاة " (1) [ الانعام: 72 ] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعدها. هو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الامر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير مأثومين، فالعامد أولى. وأيضا قوله: (من نام عن صلاة أو نسيها) والنسيان الترك، قال الله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " (2) [ التوبة: 67 ] و " نسوا الله فأنساهم أنفسهم " (3) [ الحشر: 19 ] سواء كان مع ذهول أو لم يكن، لان الله تعالى لا ينسى. وإنما معناه تركهم. و " ما ننسخ من آية أو ننسأها " (4) [ البقرة: 106 ] أي نتركها. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره. قال الله تعالى: " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " وهو تعالى لا ينسى [ فيكون ذكره بعد نسيان (5) ] وإنما معناه علمت. فكذلك يكون معنى قوله: (إذا ذكرها) أي علمها. وأيضا فإن الديون التي للآدمين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الابراء كان في ديون الله تعالى ألا يصح فيها الابراء أولى ألا يسقط قضاؤها إلا بإذن منه. وأيضا فقد اتفقنا أنه لو ترك يوما من رمضان متعمدا بغير عذر لوجب قضاؤه فكذلك الصلاة. فان قيل فقد روى عن مالك: من ترك الصلاة متعمدا لا يقضي أبدا. فالاشارة إلى أن ما مضى لا يعود، أو يكون كلاما خرج على التغليظ، كما روي عن ابن مسعود وعلي: أن من أفطر في رمضان عامدا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه. ومع هذا فلا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الاداء، وإتباعه بالتوبة، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. وقد روى أبو المطوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يجزه صيام الدهر وإن صامه) وهذا يحتمل أن لو صح كان معناه التغليظ، وهو حديث ضعيف خرجه أبو داود. وقد جاءت الكفارة بأحاديث (6) صحاح، وفي بعضها قضاء اليوم، والحمد لله تعالى. الرابعة - قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها) الحديث يخصص عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ) (1) راجع ج 1 ص 344 فما بعد. (2) راجع ج 8 ص 199 فما بعد. (3) راجع ج 18 ص 43. (4) راجع ج 2 ص 61. (5) من ج وك وط وى. (6) في ب وز وك: بأسانيد. (*)
[ 179 ]
والمراد بالرفع هنا رفع المأثم لا رفع الفرض عنه، وليس هذا من باب قوله: (وعن الصبي حتى يحتلم) وإن كان ذلك جاء في أثر واحد، فقف على هذا الاصل. الخامسة - اختلف العلماء في هذا المعنى فيمن ذكر صلاة فائتة وهو في آخر وقت صلاة، أو ذكر صلاة وهو في صلاة، فجملة مذهب مالك: أن من ذكر صلاة وقد حضر وقت صلاة أخرى، بدأ بالتي نسي إذا كان خمس صلوات فأدنى، وإن فات وقت هذه. وإن كان أكثر من ذلك بدأ بالتي حضر وقتها، وعلى نحو هذا مذهب أبي حنيفة والثوري والليث، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم. وقد روى عن الثوري وجوب الترتيب، ولم يفرق بين القليل والكثير. وهو تحصيل مذهب الشافعي. قال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه. وذكر الاثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر. وقال: لا ينبغي لاحد أن يصلي صلاة وهو ذاكر لما قبلها لانها تفسد عليه. وروى الدارقطني عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ذكر أحدكم صلاة وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسي) وعمر بن أبي عمر مجهول (1). قلت: وهذا لو صح كانت حجة للشافعي في البداءة بصلاة الوقت. والصحيح ما رواه أهل الصحيح عن جابر بن عبد الله: أن عمر يوم الخندق جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله والله ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فو الله إن صليتها) (2) فنزلنا البطحان (3) فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوضأنا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها (1) عمر بن أبي عمر: هو أحد رواة هذا الحديث عن مكحول عن ابن عباس. ولفظ الحديث في الدارقطني هكذا: (إذا نس أحدكم الصلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسى) كذا في ب وز وك. (2) إن نافية أي ما صليتها. (3) بطحان (بالضم أو الصواب الفتح وكسر الطاء): موضع بالمدينة. (*)
[ 180 ]
المغرب. وهذا نص في البداءة بالفائتة قبل الحاضرة، ولا سيما والمغرب وقتها واحد مضيق غير ممتد في الاشهر عندنا، وعند الشافعي كما تقدم. وروى الترمذي عن أبي عبيدة بن عبد الله ابن مسعود عن أبيه: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالاذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء،. وبهذا أستدل العلماء على أن من فاتته صلوات، قضاها مرتبة كما فاتته إذا ذكرها في وقت واحد. واختلفوا إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال: يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة، وبه قال مالك والليث والزهري وغيرهم كما قدمناه. الثاني - يبدأ بالحاضرة وبه قال الحسن والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث والمحاسبي وابن وهب من أصحابنا. الثالث - يتخير فيقدم أيتهما شاء، وبه قال أشهب. وجه الاول: كثرة الصلوات ولا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة مع الكثرة، قاله القاضي عياض. واختلفوا في مقدار اليسير، فعن مالك: الخمس فدون، وقد قيل: الاربع فدون لحديث جابر، ولم يختلف المذهب أن الست كثير. السادسة - وأما من ذكر صلاة وهو في صلاة، فإن كان وراء الامام فكل من قال بوجوب الترتيب ومن لم يقل به [ يقول (1) ]، يتمادى مع الامام حتى يكمل صلاته. والاصل في هذا ما رواه مالك والدار قطني عن ابن عمر قال: (إذا نسي أحدكم صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الامام فليصل مع الامام فإذا فرغ من صلاته فليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد صلاته التي صلى مع الامام) لفظ الدارقطني، وقال موسى بن هرون: وحدثناه أبو إبراهيم الترجماني، قال: حدثنا سعيد [ به ] (2) ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهم في رفعه، فإن كان قد رجع عن رفعه فقد وفق للصواب. ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يصلى التي ذكر، ثم يصلي التي صلى مع الامام إلا أن يكون بينهما أكثر من خمس صلوات، على ما قدمنا ذكره عن الكوفيين. وهو مذهب جماعة من أصحاب مالك المدنيين. وذكر الخرقي (3) عن (1) في ك وط وى. (2) الزيادة من الدار قطني. (3) هذه النسبة إلى بيع الخرق والثياب. (*)
[ 181 ]
أحمد بن حنبل أنه قال: من ذكر صلاة وهو في أخرى فإنه يتمها ويقضي المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت واسعا فإن خشى خروج الوقت وهو فيها أعتقد ألا يعيدها، وقد أجزأته ويقضي التي عليه. وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين سلم من ركعتين، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. هذا هو الظاهر من مذهب مالك، وليس عند أهل النظر من أصحابه كذلك، لان قوله فيمن ذكر صلاة في صلاة قد صلى منها ركعة أنه يضيف إليها أخرى ويسلم. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة ولو انهدمت عليه كما ذكر وبطلت لم يؤمر أن يضيف إليها أخرى، كما لو أحدث بعد ركعة لم يضف إليها أخرى. السابعة - روى مسلم عن أبى قتادة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديث الميضأة بطوله، وقال فيه ثم قال: (أما لكم في أسوة) ثم قال: (أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الاخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها) وأخرجه الدارقطني هكذا بلفظ مسلم سواء، فظاهره يقتضي إعادة المقضية مرتين عند ذكرها وحضور مثلها من الوقت الآتى، ويعضد هذا الظاهر ما أخرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين، وذكر القصة وقال في آخرها: (فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها). قلت: وهذا ليس على ظاهره، ولا تعاد غير مرة واحدة، لما رواه الدار قطني عن عمران ابن حصين قال: سرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة - أو قال في سرية - فلما كان وقت السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالا فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام فصلينا الغداة، فقلنا: يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم). وقال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بهذا وجوبا، ويشبه
[ 182 ]
أن يكون الامر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. والصحيح ترك العمل لقوله عليه السلام: (أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم) ولان الطرق الصحاح من حديث عمران بن حصين ليس فيها من تلك الزيادة شئ، إلا ما ذكر من حديث أبي قتادة وهو محتمل كما بيناه. قلت: ذكر الكيا الطبري في [ أحكام القرآن ] له أن من السلف من خالف قوله عليه الصلاة والسلام: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) فقال: يصبر إلى مثل وقته فليصل، فإذا فات الصبح فليصل من الغد. وهذا قول بعيد شاذ. قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) آية مشكلة، فروي عن سعيد بن جبير أنه قرأ " أكاد أخفيها " بفتح الهمزة، قال: أظهرها. " لتجزى " أي الاظهار للجزاء، رواه أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء بن إياس عن سعيد ابن جبير. وقال النحاس: وليس لهذه الرواية طريق غير هذا. قلت: وكذا رواه أبو بكر الانباري في كتاب الرد، حدثني أبي حدثنا محمد بن الجهم حدثنا الفراء حدثنا الكسائي، ح - وحدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يوسف حدثنا يحيى الحماني حدثنا محمد بن سهل. قال النحاس، وأجود من هذا الاسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ: " أكاد أخفيها " بضم الهمزة. قلت: وأما قراءة ابن جبير " أخفيها " بفتح الهمزة بالاسناد المذكور فقال أبو بكر الانباري قال الفراء: معناه أظهرها من خفيت الشئ أخفيه إذ أظهرته. وأنشد الفراء لامرئ القيس: فإن تدفنوا الداء لا نخفه * وإن تبعثوا الحرب لا نقعد أراد لا نظهره، وقد قال بعض اللغويين: يجوز أن يكون " أخفيها " بضم الهمزة معناه أظهرها لانه يقال: خفيت الشئ وأخفيته إذا أظهرته، فأخفيته من حروف الاضداد يقع على الستر والاظهار. وقال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد، النحاس: وهذا حسن، وقد
[ 183 ]
حكاه عن أبي الخطاب (1) وهو رئيس من رؤساء اللغة لا يشك في صدقه، وقد روى عنه سيبويه وأنشد: وإن تكتموا الداء لا نخفه * وإن تبعثوا الحرب لا نقعد كذا رواه أبو عبيدة عن أبي الخطاب بضم النون. وقال أمرؤ القيس أيضا: خفاهن من أنفاقهن كأنما * خفاهن ودق من عشي مجلب (2) أي أظهرهن. وروى: " من سحاب مركب " بدل " من عشي مجلب ". وقال أبو بكر الانباري: وتفسير للآية آخر: " إن الساعة آتية أكاد " انقطع الكلام على " أكاد " وبعده مضمر أكاد آتي بها، والابتداء " أخفيها لتجزى كل نفس " قال ضابئ البرجمي: (3) هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله أراد وكدت أفعل، فأضمر مع كدت فعلا كالفعل المضمر معه في القرآن. قلت: هذا الذي اختاره النحاس، وزيف القول الذي قبله فقال يقال: خفى الشئ يخفيه إذا أظهره، وقد حكى أنه يقال: أخفاه أيضا إذا أظهره، وليس بالمعروف، قال: وقد رأيت علي بن سليمان لما أشكل عليه معنى " أخفيها " عدل إلى هذا القول، وقال: معناه كمعنى " أخفيها ". قال النحاس: ليس المعنى على أظهر ولا سيما و " أخفيها " قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة إلى الشاذة، ومعنى المضمر أولى، ويكون التقدير: إن الساعة آتية أكاد آتي بها، ودل: " آتية " على آتي بها، ثم قال: " أخفيها " على الابتداء. وهذا معنى صحيح، لان الله عز وجل قد أخفى الساعة التي هي القيامة، والساعة التي يموت فيها الانسان ليكون الانسان يعمل، والامر عنده مبهم فلا يؤخر التوبة. (1) هو الاخفش الاكبر عبد الحميد بن عبد المجيد. (2) خفاهن: اظهرهن. والانفاق: (جمع نفق): وهو الحجر. والودق: المطر. والمجلب: الذى له جلبة. وقبله: ترى الغار في مستيفع القاع لاحبا * على جدد الصحراء من شد ملهب يقول: وقع حوافر الفرس على الارض أخرج الفأر من حجرتها لانه ظنه مطرا. (3) قاله وهو محبوس حبسه سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه لهجائه بعض بني جرول بن نهشل ولم يزل في حبسه إلى أن مات. (*)
[ 184 ]
قلت: وعلى هذا القول تكون اللام في " لتجزى " متعلقة ب‍ " - أخفيها ". وقال أبو على: هذا من باب السلب وليس من باب الاضداد، ومعنى " أخفيها " أزيل عنها خفاءها، وهو سترها كخفاء الاخفية [ وهي الاكسية ] (1) والواحد خفاء بكسر الخاء [ ما تلف به ] (1) القربة، وإذا زال عنها سترها ظهرت. ومن هذا قولهم: أشكيته، أي أزلت شكواه، وأعديته أي قبلت استعداءه ولم أحوجه إلى إعادته. وحكى أبو حاتم عن الاخفش: أن " كاد " زائدة موكدة. قال: ومثله " إذا أخرج يده لم يكد يراها " (2) [ النور: 40 ] لان الظلمات التي ذكرها الله تعالى بعضها يحول بين الناظر والمنظور إليه. وروى معناه عن ابن جبير، والتقدير: إن الساعة آتية أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. وقال الشاعر: (3) سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه * فما إن يكاد قرنه يتنفس أراد فما يتنفس. وقال آخر: وألا ألوم النفس فيما أصابني * وألا أكاد بالذي نلت أنجح معناه: وألا أنجح بالذي نلت، فأكاد توكيد للكلام. وقيل: المعنى " أكاد أخفيها " أي أقارب ذلك، لانك إذا قلت: كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام، وأن يكون لم يقم. ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه على هذا الجواب. قال اللغويون: كدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء. وشاهده قول الله عزت عظمته: " فذبحوها وما كادوا يفعلون " (4) [ البقرة: 71 ] معناه: وفعلوا بعد إبطاء لتعذر وجدان البقرة عليهم. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما فعلت ولا قاربت إذا أكد الكلام بأكاد. وقيل: معنى. " أكاد أخفيها " أريد أخفيها. قال الانباري: وشاهد هذا قول الفصيح من الشعر: كادت وكدت وتلك خير إرادة * لو عاد من لهو الصبابة ما مضى معناه: أرادت وأردت. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين فيما ذكره الثعلبي: إن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف أبي. وفي مصحف ابن مسعود: أكاد (1) من ك وز. (2) راجع ج 12 ص 283 فما بعد. (3) هو زيد الخيل. (4) راجع ج 1 ص 452 فما بعد. (*)
[ 185 ]
أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق. وفي بعض القراءات: فكيف أظهرها لكم. وهذا محمول على أنه جاء على ما جرت به عادة العرب في كلامها، من أن أحدهم إذا بالغ في كتمان الشئ قال: كدت أخفيه من نفسي. والله تعالى لا يخفي عليه شئ، قال معناه قطرب وغيره. [ والله أعلم ] (1) وقال الشاعر: أيام تصحبني هند وأخبرها * ما أكتم النفس من حاجي وأسراري فكيف يخبرها بما تكتم نفسه. ومن هذا [ الباب ] (1) قوله صلى الله عليه وسلم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) الزمخشري وقيل معناه: أكاد أخفيها من نفسي، ولا دليل في الكلام على هذا المحذوف، ومحذوف لا دليل عليه مطرح، والذي غرهم منه أن في مصحف أبي: أكاد أخفيها من نفسي، وفي بعض المصاحف: أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها. قلت: وقيل إن معنى قول من قال أكاد أخفيها من نفسي، أي إن إخفاءها كان من قبلي ومن عندي لا من قبل غيري. وروي عن ابن عباس أيضا: أكاد أخفيها من نفسي، ورواه طلحة بن عمرو عن عطاء. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا أظهر عليها أحدا. وروى عن سعيد بن جبير قال: قد أخفاها. وهذا على أن كاد زائدة. أي إن الساعة آتية أخفيها، والفائدة في إخفائها التخويف والتهويل. وقيل: تعلق " لتجزى " بقول تعالى: (وأقم الصلاة) فيكون في الكلام تقديم وتأخير، أي أقم الصلاة لتذكرني. (لتجزي كل نقس بما تسعى) أي بسعيها. (إن الساعة آتية أكاد أخفيها). والله أعلم. وقيل: هي متعلقة بقوله: (آتية) أي إن الساعة آتية لتجزي (فلا يصدنك عنها) أي لا يصرفنك عن الايمان بها والتصديق لها. (من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) أي فتهلك. وهو في موضع نصب بجواب النهي. قوله تعالى: وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكؤ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مأرب أخرى (18) (1) من ج وط وك وى. (*)
[ 186 ]
فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما تلك بيمينك) قيل: كان هذا الخطاب من الله تعالى لموسى وحيا، لانه قال: (فاستمع لما يوحى) ولابد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك. ويجوز أن يكون ما أراه في الشجرة آية كافية له في نفسه، ثم تكون اليد والعصا زيادة توكيد، وبرهانا يلقى به قومه. واختلف في " ما " في قوله: (وما تلك) فقال الزجاج والفراء: هي اسم ناقص وصلت ب‍ " - يمينك " أي ما التي بيمينك ؟ وقال الفراء أيضا: " تلك " بمعنى هذه، ولو قال: ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشئ: ومقصود السؤال تقرير الامر حتى يقول موسى: هي عصاي، لتثبت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الازل. وقال ابن الجوهري وفي بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن، فقيل له: ألقها لترى منها العجب فتعلم أنه لا ملك عليها ولا تنضاف إليك. وقرأ ابن أبي إسحق: " عصي " على لغة هذيل، ومثله " يا بشرى " (1) و " محيي " (2) وقد تقدم. وقرأ الحسن: " عصاي " بكسر الياء لالتقاء الساكنين. ومثل هذا قراءة حمزة: " وما أنتم بمصرخي " (3) [ إبراهيم: 22 ]. وعن ابن أبي إسحق سكون الياء. الثانية - في هذه الآية دليل على جواب السؤال (4) بأكثر مما سئل، لانه لما قال: " وما تلك بيمينك يا موسى " ذكر معاني أربعة: وهي: إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا، والتوكؤ، والهش والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه عظمها وجمهورها وأجمل سائر ذلك. وفي الحديث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: ألهذا حج ؟ قال (نعم ولك أجر). ومثله في الحديث كثير. الثالثة - قوله تعالى: (أتوكأ عليها) أي أتحامل عليها في المشي والوقوف، ومنه الاتكاء (وأهش بها) " وأهش " أيضا، ذكره النحاس. وهي قراءة النخعي (5)، أي أخبط بها (1) راجع ج 9 ص 152 وص 357. (2) راجع ج 7 ص 152. (3) راجع ج 9 ص 357. (4) في ج وط وك وى: المسئول. (5) وروى عن النخعي أيضا أنه قرأ: (وأهش) بضم الهمزة والشين من (أهش) رباعيا. (*)
[ 187 ]
الورق، أي أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها، فيسهل على غنمي تناوله فتأكله. قال الراجز: أهش بالعصا على أغنامي * من ناعم الاراك والبشام يقال: هش على غنمه يهش بضم الهاء في المستقبل. وهش إلى الرجل يهش بالفتح. وكذلك هش للمعروف يهش وهششت أنا: وفي حديث عمر: هششت يوما فقبلت وأنا صائم. قال شمر: أي فرحت واشتهيت. قال: ويجوز هاش بمعنى هش. قال الراعي: فكبر للرؤيا وهاش فؤاده * وبشر نفسا كان قبل يلومها أي طرب. والاصل في الكلمة الرخاوة. يقال رجل هش وزوج هش. وقرأ عكرمة: " وأهس " بالسين غير معجمة، قيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: معناهما مختلف، فالهش بالاعجام خبط الشجر، والهس بغير إعجام زجر الغنم، ذكره الماوردي، وكذلك ذكر الزمخشري. وعن عكرمة: " وأهس " بالسين أي أنحي عليها زاجرا لها والهس زجر الغنم. الرابعة - قوله تعالى: (ولى فيها مآرب أخرى) أي حوائج. واحدها مأربة ومأربة ومأربة. وقال: " أخرى " على صيغة الواحد، لان مآرب في معنى الجماعة، لكن المهيع (1) في توابع جمع ما لا يعقل الافراد والكناية عنه بذلك، فإن ذلك يجري مجرى الواحدة المؤنثة، كقوله تعالى " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " (2) [ الاعراف: 180 ] وكقوله: " يا جبال أوبي معه " (3) [ سبأ: 10 ] وقد تقدم هذا في " الاعراف " (2). الخامسة - تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الارض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الارض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم. (1) المهيع: الطريق الواضح الواسع البين. (2) راجع ج 7 ص 325 وص 327 فما بعد. (3) راجع ج 14 ص 264 فما بعد. (*)
[ 188 ]
وروى عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للانبياء، وعلامة للمؤمن. وقال الحسن البصري: فيها ست خصال، سنة للانبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الاعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات. ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوة إذا أعيا. ولقي الحجاج أعرابيا فقال: من أين أقبلت يا أعرابي ؟ قال: من البادية. قال: وما في يدك ؟ قال: عصاي أركزها لصلاتي (1)، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي لتتسع خطوتي، وأثب بها النهر، وتؤمنني من العثر، وألقي عليها كسائي فيقيني الحر، ويدفئني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي محمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الابواب، وأتقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الاقران، ورثتها عن أبي، وأورثها بعدي ابني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى، كثيرة لا تحصى. قلت: منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة (2) تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أم بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها، وذلك ثابت في الصحيح. والحربة والعنزة والنيزك والآلة اسماء لمسمى واحد. وكان له محجن وهو عصا معوجة الطرف يشير به إلى الحجر إذا لم يستطع أن يقبله، ثابت في الصحيح أيضا. وفي الموطأ عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، وكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في بزوغ الفجر. وفي الصحيحين: أنه عليه الصلاة والسلام كان له مخصرة (3). والاجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل. وقد جمع الله لموسى (1) في ج: لصلواتي. (2) العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا وفيها سنان مثل سنان الرمح. (3) المخصرة بالخاء المعجمة والصاد المهملة: ما يختصره الانسان بيده فيمسكه من عصا أو عكازة أو مقرعة أو قضيب وقد يتكئ عليه. النهاية. (*)
[ 189 ]
في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام، ما آمن به السحرة المعاندون. واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته، وكان يخطب بالقضيب - وكفى بذلك فضلا على شرف حال العصا - وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء، وعادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب. وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والاشارة بها إلى المعاني. والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم. قال مالك: كان عطاء بن السائب يمسك المخصرة يستعين بها. قال مالك: والرجل إذا كبر لم يكن مثل الشباب يقوى بها عند قيامه. قلت: وفي مشيته كما قال بعضهم: قد كنت أمشي على رجلين معتمدا * فصرت أمشي على أخرى من الخشب قال مالك رحمه الله ورضي عنه: وقد كان الناس إذا جاءهم المطر خرجوا بالعصي يتوكئون عليها، حتى لقد كان الشباب يحبسون عصيهم، وربما أخذ ربيعة العصا من بعض من يجلس إليه حتى يقوم. ومن منافع العصا ضرب الرجل نساءه بها فيما يصلحهم، ويصلح حاله وحالهم معه. ومنه قوله عليه السلام: (وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) (1) في إحدى الروايات. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال لرجل أوصاه:: (لا ترفع عصاك عن أهلك أخفهم في الله) رواه عبادة بن الصامت، خرجه النسائي. ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (علق سوطك حيث يراه أهلك) وقد تقدم هذا في " النساء " (2). ومن فوائدها التنبيه على الانتقال من هذه الدار، كما قيل لبعض الزهاد: مالك تمشي على عصا ولست بكبير ولا مريض ؟ قال: إني أعلم أني مسافر، وأنها دار قلعة، وأن العصا من آلة السفر، فأخذه بعض الشعراء فقال: حملت العصا لا الضعف أوجب حملها * علي ولا أني تحنيت من كبر ولكنني ألزمت نفسي حملها * لاعلمها أن المقيم على سفر (1) هذا من حديث فاطمة بنت قيس حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أبا جهم بن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطباها فقال: (أما أبو جهم فرجل لا يرفع عصاه عن النساء وأما معاوية فصعلوك لا مال له) الترمذي. (2) راجع ج 5 ص 174. (*)
[ 190 ]
قوله تعالى: قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20) قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى (21) واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) لنريك من آياتنا الكبرى (23) قوله تعالى: (قال ألقها يا موسى): لما أراد الله تعالى أن يدربه في تلقي النبوة وتكاليفها أمره بإلقاء العصا، " فألقاها " موسى فقلب الله أوصافها وأعراضها. وكانت عصا ذات شعبتين فصارت الشعبتان لها فما وصارت حية تسعى أي تنتقل، وتمشي وتلتقم الحجارة فلما رآها موسى عليه السلام رأى عبرة ف‍ " - ولى مدبرا ولم يعقب " (1) [ النمل: 10 ]. فقال الله له: " خذها ولا تخف " وذلك أنه " أوجس في نفسه خيفة " [ طه: 67 ] أي لحقه ما يلحق البشر. وروي أن موسى تناولها بكمي جبته فنهي عن ذلك، فأخذها بيده فصارت عصا كما كانت أول مرة وهى سيرتها الاولى، وإنما أظهر له هذه الآية لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون. ويقال: إن العصا بعد ذلك كانت تماشيه وتحادثه ويعلق عليها أحماله، وتضئ له الشعبتان بالليل كالشمع، وإذا أراد الاستقاء انقلبت الشعبتان كالدلو وإذا اشتهى ثمرة ركزها في الارض فأثمرت تلك الثمرة. وقيل: إنها كانت من آس الجنة. وقيل: أتاه جبريل بها. وقيل: ملك. وقيل قال له شعيب: خذ عصا من ذلك البيت فوقعت بيده تلك العصا، وكانت عصا آدم عليه السلام هبط بها من الجنة. والله أعلم. قوله تعالى: " فإذا هي حية تسعى " النحاس: ويجوز " حية " يقال: خرجت فإذا زيد جالس وجالسا. والوقف " حيه " بالهاء. والسعي المشي بسرعة وخفة. وعن ابن عباس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شئ خافه ونفر منه. وعن بعضهم، إنما خاف منه لانه عرف ما لقي آدم منها. وقيل لما قال له ربه: " لا تخف " بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها. " سنعيدها سيرتها الاولى " سمعت علي بن سليمان يقول: التقدير إلى سيرتها، مثل " واختار موسى قومه " (2) [ الاعراف: 155 ] قال: ويجوز (1) راجع ج 13 ص 283. (2) راجع ج 7 ص 293 فما بعد. (*)
[ 191 ]
قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك) يجوز في غير القرآن ضم بفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، والفتح أجود لخفته، والكسر على الاصل. ويجوز الضم على الاتباع. ويد أصلها يدي على فعل، يدل على ذلك أيد. وتصغيرها يدية. والجناح العضد، قاله مجاهد. وقال: " إلى " بمعنى تحت. قطرب: " إلى جناحك " إلى جيبك، ومنه قول الراجز: * أضمه للصدر والجناح * وقيل: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح. لانه مائل في محل الجناح. وقيل إلى عندك. وقال مقاتل " إلى " بمعنى مع أي مع جناحك. (تخرج بيضاء من غير سوء) من غير برص نورا ساطعا، يضئ بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا. عن ابن عباس وغيره: فخرجت نورا مخالفة للونه. و " بيضاء " نصب على الحال، ولا ينصرف لان فيها ألفي التأنيث لا يزايلانها فكأن لزومهما علة ثانية، فلم ينصرف في النكرة، وخالفتا الهاء لان الهاء تفارق الاسم. و " من غير سوء " " من " صلة " بيضاء " كما تقول: ابيضت من غير سوء. (آية أخرى) سوى العصا. فأخرج يده من مدرعة له مصرية لها شعاع مثل شعاع الشمس يعشي (1) البصر. و " آية " منصوبة على البدل من بيضاء، قاله الاخفش. النحاس: وهو قول حسن. وقال الزجاج: المعنى آتيناك آية أخرى أو (2) نؤتيك، لانه لما قال: " تخرج بيضاء من غير سوء " دل على أنه قد آتاه آية أخرى. (لنريك من آياتنا الكبرى) يريد العظمى. وكان حقه (3) أن يقول الكبيرة وإنما قال: " الكبرى " لوفاق رءوس الآي. وقيل: فيه إضمار، معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى دليله قول ابن عباس يد موسى أكبر آياته. قوله تعالى: اذهب إلى فرعون إنه طغى (24) قال رب أشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي (28) واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (31) وأشركه في أمري (32) كي نسبحك كثيرا (33) ونذكرك كثيرا (34) إنك كنت بنا بصيرا (35) (1) في ب وز وك: يغشى. بالمعجمة. (2) في ك: أي. (3) هذه العبارة يجب اطراحها في كلام الباري فالكبرى معناها العظمى. محققه. (*)
[ 192 ]
قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى) لما آنسه بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول، أمره بالذهاب إلى فرعون، وأن يدعوه. و " طغى " معناه عصى وتكبر وكفر وتجبر وجاوز الحد. (قال رب أشرح لي صدري. ويسر لي أمري. وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. واجعل لي وزيرا من أهلي. هارون أخي) طلب الاعانة لتبليغ الرسالة. ويقال: إن الله أعلمه بأنه ربط على قلب فرعون وأنه لا يؤمن، فقال موسى: يا رب فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه، فأتاه ملك من خزان الريح فقال: يا موسى انطلق إلى ما أمرك الله به. فقال موسى عند ذلك: " رب أشرح لي صدري " أي وسعه ونوره بالايمان والنبوة. (ويسر لي أمري) أي سهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. (وأحلل عقدة من لساني) يعني العجمة التي كانت فيه من جمرة النار التي أطفأها في فيه وهو طفل. قال ابن عباس: كانت في لسانه رتة. وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم وهو طفل فلطمه لطمة، وأخذ بلحيته فنتفها فقال فرعون لآسية: هذا عدوي فهات الذباحين. فقالت آسية: على رسلك فإنه صبي لا يفرق بين الاشياء. ثم أتت بطستين فجعلت في أحدهما جمرا وفي الآخر جوهرا فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها في فيه على لسانه، فكانت تلك الرتة. وروي أن يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ. ولما دعاه قال إي رب تدعوني ؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها. وعن بعضهم: إنما لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة. ثم اختلف هل زالت تلك الرتة، فقيل: زالت بدليل قوله " قد أوتيت سؤلك يا موسى " [ طه: 36 ] وقيل: لم تزل كلها، بدليل قوله حكاية عن فرعون: " ولا يكاد يبين " (1) [ الزخرف: 52 ]. ولانه لم يقل: احلل كل لساني، فدل على أنه بقى في لسانه شئ من الاستمساك. وقيل: زالت بالكلية بدليل قوله " أوتيت سؤلك " [ طه: 36 ] وإنما قال فرعون: " ولا يكاد يبين " [ الزخرف: 52 ] لانه عرف منه تلك العقدة في التربية، وما ثبت عنده أن الآفة زالت. (1) راجع ج 16 ص 99. (*)
[ 193 ]
قلت: وهذا فيه نظر، لانه لو كان ذلك لما قال فرعون: " ولا يكاد يبين " حين كلمه موسى بلسان ذلق فصيح. والله أعلم. وقيل: إن تلك العقدة حدثت بلسانه عند مناجاة ربه، حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. (يفقهوا قولي) أي يعملوا ما أقوله لهم ويفهموه (1). والفقه في كلام العرب الفهم. قال أعرابي لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه. تقول منه: فقه الرجل بالكسر. وفلان لا يفقه ولا ينقه (2). وأفقهتك الشئ. ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. وفاقهته إذا باحثته في العلم، قاله الجوهري. والوزير المؤازر كالاكيل المؤاكل، لانه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. في كتاب النسائي عن القاسم بن محمد: سمعت عمتي (3) تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه). ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله) رواه البخاري. فسأل موسى الله تعالى أن يجعل له وزيرا، إلا أنه لم يرد أن يكون مقصورا على الوزارة حتى لا يكون شريكا له في النبوة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. وعين فقال " هرون " وانتصب على البدل من قوله: " وزيرا ". أو يكون منصوبا ب‍ " - اجعل " على التقديم والتأخير، والتقدير: واجعل لي هرون أخي وزيرا. وكان هرون أكبر من موسى بسنة، وقيل: بثلاث. (اشدد به أزرى) أي ظهري. والازر الظهر من موضع الحقوين، ومعناه تقوى به نفسي، والازر القوة وأزره قواه. ومنه قوله تعالى: " فآزره فاستغلظ " (4) [ الفتح: 29 ] وقال أبو طالب: (5) أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب وقيل: الازر العون، أي يكون عونا يستقيم به أمري. قال الشاعر: شددت به أزري وأيقنت أنه * أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه (1) في ج وز وك: يفقهوه. (2) معناه لا يعلم ولا يفهم. ونقهت الحديث أنقهه إذا فهمته. (3) في ج وى: عمى. (4) راجع ج 16 ص 295. (5) هذا البيت من قصيدة له قالها في أمر الشعب والصحيفة. (*)
[ 194 ]
وكان هرون أكثر لحما من موسى، وأتم طولا، وأبيض جسما، وأفصح لسانا. ومات قبل موسى بثلاث سنين. وكان في جبهة هرون شامة، وعلى أرنبة أنف موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، ولم تكن على أحد قبله ولا تكون على أحد بعده، وقيل: إنها كانت سبب العقدة (1) التي في لسانه. والله أعلم. (وأشركه في أمرى) أي في النبوة وتبليغ الرسالة. قال المفسرون: كان هارون يومئذ بمصر، فأمر الله موسى أن يأتي هرون، وأوحى إلى هرون وهو بمصر أن يتلقى موسى، فتلقاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحى إليه، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آتي فرعون فسألت ربي أن يجعلك معي رسولا. وقرأ العامة " أخي اشدد " بوصل الالف " وأشركه " بفتح الهمزة على الدعاء، أي أشدد يا رب أزري وأشركه معي في أمري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحرث وأبو حيوة والحسن وعبد الله ابن أبي إسحق " أشدد " بقطع الالف " وأشركه " [ بضم الالف أي أنا أفعل ذلك أشدد أنا به أزري (وأشركه) (2) ] أي أنا يا رب " في أمري ". قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله: " أجعل لي وزيرا " وهذه القراءة شاذة بعيدة، لان جواب مثل هذا إنما يتخرج بمعنى الشرط والمجازاة، فيكون المعنى: إن تجعل لي وزيرا من أهلي أشدد به أزري، وأشركه في أمري. وأمره النبوة والرسالة، وليس هذا إليه صلى الله عليه وسلم فيخبر به، إنما سأل الله عز وجل أن يشركه معه في النبوة. وفتح الياء من " أخي " ابن كثير وأبو عمر. (كي نسبحك كثيرا) قيل: معنى " نسبحك " نصلي لك. ويحتمل أن يكون التسبيح باللسان. أي ننزهك عما لا يليق بجلالك. " وكثيرا " نعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نعتا لوقت. والادغام حسن. وكذا (ونذكرك كثيرا). (إنك كنت بنا بصيرا) قال الخطابي: البصير المبصر، والبصير العالم بخفيات الامور، فالمعنى، أي عالما بنا، ومدركا لنا في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا [ أيضا ] (3) كذلك يا رب. قوله تعالى: قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36) ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (38) أن أقذفيه في التابوت فأقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي (1) في ب وج وز وط وك وى: سبب العقلة في لسانه. ولهذا اللفظ وجه. (2) من ب وط وز وك. (3) من ب وج وى. (*)
[ 195 ]
وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39) إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى (40) واصطنعتك لنفسي (41) اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري (42) قوله تعالى: (قال أوتيت سؤلك يا موسى) لما سأله شرح الصدر، وتيسير الامر إلى ما ذكر، أجاب سؤله، وأتاه طلبته ومرغوبه. والسؤل الطلبة، فعل بمعنى مفعول، كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول. وقوله تعالى: (ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي قبل هذه، وهي حفظه سبحانه له من شر الاعداء في الابتداء، وذلك حين الذبح. والله أعلم. والمن الاحسان والافضال. وقوله: (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) قيل: " أوحينا " ألهمنا. وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس [ رضى الله عنهما (1) ]: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين. (أن أقذفيه في التابوت) قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره وكان أسمه حزقيل. وكان التابوت من جميز. (فأقذفيه في اليم) أي اطرحيه في البحر: نهر النيل. (فليلقه) قال الفراء: " فاقذفيه في اليم " أمر وفيه معنى المجازاة. أي اقذفيه يلقه اليم. وكذا قوله: " اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم " (2). [ العنكبوت: 12 ]. (يأخذه عدو لي وعدو له) يعني فرعون، فاتخذت تابوتا، وجعلت فيه نطعا ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وخصاصه - يعني شقوقه - ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى دار فرعون. وروى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه وقيرته وجصصته، ثم ألقته في اليم. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية، إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبي أصبح (1) من ج وك. (2) راجع ج 13 ص 330 فما بعد. (*)
[ 196 ]
الناس، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر القرآن يدل على أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه، فرأى فرعون التابوت بالساحل فأمر بأخذه. ويحتمل أن يكون إلقاء اليم بموضع من الساحل، فيه فوهة (1) نهر فرعون، ثم أداه النهر إلى حيث البركة. والله أعلم. وقيل: وجدته ابنة فرعون وكان بها برص، فلما فتحت التابوت شفيت. وروي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فأعياهم، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا فعالجته ففتحته، فإذا صبي نوره بين عينيه، وهو يمص إبهامه لبنا فأحبوه. وكانت لفرعون بنت برصاء، وقال له الاطباء: لا تبرأ إلا من قبل البحر يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرئت. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برئت. والله أعلم. وقيل: وجدته جوار لامرأة فرعون، فلما نظر إليه فرعون فرأى صبيا من أصبح الناس وجها، فأحبه فرعون. فذلك قوله تعالى: (وألقيت عليك محبة مني) قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال ابن عطية (2): جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه. وقال عكرمة: المعنى جعلت فيك حسنا وملاحة فلا يراك أحد إلا أحبك. وقال الطبري: المعنى ألقيت عليك رحمتي. وقال ابن زيد: جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك. (ولتصنع على عينى) قال ابن عباس: يريد أن ذلك بعيني حيث جعلت في التابوت، وحيث ألقي التابوت في البحر، وحيث التقطك جواري آمرأة فرعون، فأردن أن يفتحن التابوت لينظرن ما فيه، فقالت منهن واحدة: لا تفتحنه حتى تأتين به سيدتكن فهو أحظى لكن عندها، وأجدر بألا تتهمكن بأنكن وجدتن فيه شيئا فأخذتموه لانفسكن. وكانت أمرأة فرعون لا تشرب من الماء إلا ما استقينه أولئك الجواري. فذهبن بالتابوت إليها مغلقا، فلما فتحته رأت صبيا لم ير مثله قط، وألقى عليها محبته فأخذته فدخلت به على فرعون، فقالت له: [ القصص: 9 ] " قرة عين لي ولك " (3) قال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن فرعون قال (1) فوهة الوادي بالضم والشد: فمه كفوهته. (2) في ب وج وز وط وك وى: عطية. (3) راجع ج 13 ص 250 فما بعد. (*)
[ 197 ]
نعم هو قرة عين لي ولك لآمن وصدق) فقالت: هبه لي ولا تقتله، فوهبه لها. وقيل: " ولتصنع على عيني " أي تربى وتغذى على مرأى مني، قاله قتادة. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، يقال: صنعت الفرس وأصنعت إذا أحسنت القيام عليه. والمعنى. " ولتصنع على عيني " فعلت ذلك. وقيل: اللام متعلقة بما بعدها من قوله: " إذ تمشي أختك " على التقديم والتأخير ف‍ " - إذ " ظرف " لتصنع ". وقيل: الواو في " ولتصنع " زائدة. وقرأ ابن القعقاع " ولتصنع " بإسكان اللام على الامر، وظاهره للمخاطب والمأمور غائب. وقرأ أبو نهيك: " ولتصنع " بفتح التاء. والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي وعلى عين منى. ذكره المهدوي. " إذ تمشي أختك " العامل في " إذ تمشي " " ألقيت " أو " تصنع ". ويجوز أن يكون بدلا من " إذ أوحينا " وأخته اسمها مريم. (فتقول هل أدلكم على من يكفله) وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا، فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي ؟. قالت: أمي. فقالوا: لها لبن ؟ قالت: لبن أخى هرون. وكان هرون أكبر من موسى بسنة. وقيل: بثلاث. وقيل: بأربع، وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، قاله ابن عباس. فجاءت الام فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: (فرجعناك إلى أمك) وفى مصحف أبي " فرددناك ". (كي تقر عينها ولا تحزن) وروى عبد الحميد عن ابن عامر " كي تقر عينها " بكسر القاف. قال الجوهرى: وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. ورجل قرير العين، وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في (مريم) (1). " ولا تحزن " أي على فقدك. (وقتلت نفسا) قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي (1) راجع ص 81 فما بعد من هذا الجزء. (*)
[ 198 ]
عشرة سنة. في صحيح مسلم: وكان قتله خطأ، على ما يأتي. (فنجيناك من الغم) أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. (وفتناك فتونا) أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرساله، وقال قتادة: بلوناك بلاء. مجاهد: أخلصناك إخلاصا. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها: حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الاطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ندله من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له: أتعبتني وأتبعت نفسك، ولم يغضب عليه. قال وهب ابن منبه: ولهذا آتخذه الله تعالى كليما، وقد مضى في (النساء) (1). قوله تعالى: (فلبثت سنين في أهل مدين) يريد عشر سنين أتم الاجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده. وقوله: (ثم جئت على قدر يا موسى) قال ابن عباس وقتادة وعبد الرحمن بن كيسان: يريد موافقا للنبوة والرسالة، لان الانبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل: " على قدر " على وعد. وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجئ فيه. والمعنى واحد. أي جئت في الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر: نال الخلافة أو كانت له قدرا * كما أتى ربه موسى على قدر قوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي) قال ابن عباس: أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل: " اصطنعتك " خلقتك، مأخوذ من الصنعة. وقيل: قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمرى ونهى. (أذهب أنت وأخوك بآياتي) قال ابن عباس: يريد التسع الآيات التي أنزلت عليه. (ولا تنيا في ذكرى) قال ابن عباس: تضعفا أي في أمر الرسالة، وقاله قتادة. وقيل: تفترا. قال الشاعر: (2) فما ونى محمد مذان غفر * له الاله ما مضى وما غبر (1) راجع ج 6 ص 18. (2) هو العجاج. (*)
[ 199 ]
والونى الضعف والفتور، والكلال والاعياء [ وكله مراد في الآية ] (1). وقال امرؤ القيس: مسح إذا ما السابحات على الونى * أثرن غبارا بالكديد المركل (2) ويقال: ونيت في الامر أني ونى وونيا أي ضعفت فأنا وان وناقة وانية وأونيتها أنا أضعفتها وأتعبتها: وفلان لا ينى كذا، أي لا يزال، وبه فسر أبان معنى الآية واستشهد بقول طرفة: كأن القدور الراسيات أمامهم * قباب بنوها لا تني أبدا تغلى وعن ابن عباس أيضا: لا تبطئا. وفي قراءة ابن مسعود: " ولا تهنا في ذكري " وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي. قوله تعالى: أذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (اذهبا) قال في أول الآية: " اذهب أنت وأخوك بآياتي " وقال هنا: " اذهبا " فقيل: أمر الله تعالى موسى وهرون في هذه الآية بالنفوذ إلى دعوة فرعون، وخاطب أولا موسى وحده تشريفا له، ثم كرر للتأكيد. وقيل: بين بهذا أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل: الاول أمر بالذهاب إلى كل الناس، والثاني بالذهاب إلى فرعون. الثانية - في قوله تعالى: (فقولا له قولا لينا) دليل على جواز الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال: " فقولا له قولا لينا " وقال: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " [ طه: 46 ] فكيف بنا فنحن أولى بذلك. وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه، وهذا واضح. (1) من ب وج وى. (2) مسح معناه يصب الجرى صبا. والسابحات اللاتي عدوهن سباحة والسباحة في الجرى بسط الايدي. والكديد: الموضع الغليظ. والمركل: الذي يركل بالايدي. ومعنى البيت: أن الخيل السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جريا مهلا. (*)
[ 200 ]
الثالثة - واختلف الناس في معنى قوله: (لينا) فقالت فرقة منهم الكلبي وعكرمة: معناه كنياه، وقاله ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قيل: وكنيته أبو العباس. وقيل: أبو الوليد. وقيل: أبو مرة، فعلى هذا القول تكنية الكافر جائزة إذا كان وجيها ذا شرف وطمع بإسلامه. وقد (1) يجوز ذلك وإن لم يطمع بإسلامه، لان الطمع ليس بحقيقة توجب عملا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه) ولم يقل وإن طمعتم في إسلامه، ومن الاكرام دعاؤه بالكنية. وقد قال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية: (أنزل أبا وهب) فكناه. وقال لسعد: (ألم تسمع ما يقوله أبو حباب) يعني عبد الله بن أبي. وروى في الاسرائيليات أن موسى عليه السلام قام على باب فرعون سنة، لا يجد رسولا يبلغ كلاما حتى خرج. فجرى له ما قص الله علينا من ذلك، وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم مع الظالمين، وربك أعلم بالمهتدين. وقيل قال له موسى: تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين، على أن لك شبابا لا يهرم إلى الموت، وملكا لا ينزع منك إلى الموت، وينسأ في أجلك أربعمائة سنة، فإذا مت دخلت الجنة. فهذا القول اللين. وقال ابن مسعود: القول اللين قوله تعالى " فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى " (2) [ النازعات: 18 - 19 ]. وقد قيل أن القول اللين قول موسى: يا فرعون إنا رسولا ربك رب العالمين. فسماه بهذا الاسم لانه [ كان ] (3) أحب إليه مما سواه مما قيل له، كما يسمى عندنا الملك ونحوه. قلت: القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشئ يلين لينا، وشئ لين ولين مخفف منه، والجمع أليناء. فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه. وقد قال الله تعالى: " وقولوا للناس حسنا " (4) [ البقرة: 83 ]. على ما تقدم في " البقرة " بيانه والحمد لله. الرابعة - قوله تعالى: (لعله يتذكر أو يخشى) معناه: على رجائكما وطمعكما، فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر، قاله كبراء النحويين: سيبويه وغيره. وقد تقدم في أول (البقرة) (5). قال الزجاج: " لعل " لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون. وقيل " لعل " هاهنا بمعنى (1) في ج وك: وقيل. (2) راجع ج 19 ص 189 فما بعد. (3) من ب وج وي وك وى. (4) راجع ج 2 ص 16 فما بعد. (5) راجع ج 1 ص 227. (*)
[ 201 ]
الاستفهام. والمعنى فانظر هل يتذكر. وقيل: هي بمعنى كي. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن قول هرون لموسى لعله يتذكر أو يخشى، قاله الحسن. وقيل: إن لعل وعسى في جميع القرآن لما قد وقع. وقد تذكر فرعون حين أدركه الغرق وخشي فقال: " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " (1) [ يونس: 90 ]. ولكن لم ينفعه ذلك، قاله أبو بكر الوراق وغيره. وقال يحيي بن معاذ في هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول أنا الاله فكيف رفقك بمن يقول أنت الاله ؟ !. وقد قيل: إن فرعون ركن إلى قول موسى لما دعاه، وشاور امرأته فآمنت وأشارت عليه بالايمان، فشاور هامان فقال: لا تفعل، بعد أن كنت مالكا تصير مملوكا، وبعد أن كنت ربا تصير مربوبا. وقال له: أنا أردك شابا فخضب لحيته بالسواد فهو أول من خضب. قوله تعالى: قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45) قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) قال الضحاك: " يفرط " يعجل. قال: و " يطغى " يعتدى. النحاس: التقدير نخاف أن يفرط علينا منه أمر، قال الفراء: فرط منه أمر أي بدر، قال: وأفرط أسرف. قال: وفرط ترك. وقراءة الجمهور " يفرط " بفتح الياء وضم الراء، ومعناه يعجل ويبادر بعقوبتنا. يقال: فرط مني أمر أي بدر، ومنه الفارط في الماء الذي يتقدم القوم إلى الماء. أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه، قاله المبرد. وقرأت فرقة منهم ابن محيصن " يفرط " بفتح الياء والراء، قال المهدوي: ولعلها لغة. وعنه أيضا بضم الياء وفتح الراء ومعناها أن يحمله حامل التسرع إلينا. وقرأت طائفة " يفرط " بضم الياء وكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن محيصن أيضا. ومعناه يشطط في أذيتنا، قال الراجز: * قد أفرط العلج علينا وعجل * قوله تعالى: قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46) (1) راجع ج 8 ص 377 فما بعد. (*)
[ 202 ]
فيه مسألتان: الاولى - قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف، والخوف من الاعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الاسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لان تختلف الاسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه -: قد خاف من كان خيرا من عامر، موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له: [ الرجل ] (1): " إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين " (2) [ القصص: 20 - 21 ] وقال: " فأصبح في المدينة خائفا يترقب " (2) [ القصص: 18 ] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: " فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى " [ طه: 67 - 68 ]. قلت: ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحدا، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم: كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو أرض - البعداء (3) البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذي ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم. قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم (1) من ك. (2) راجع ج 13 ص 264 فما بعد وص 259. (3) البعداء: أي في النسب. البغضاء: أي في الدين وقول أسماء: كذبت يا عمر أي أخطأت وقد استعملوا كذب يعنى أخطأ. (*)
[ 203 ]
[ عليه ] (1) كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الارض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك. الثانية - قوله تعالى: " إنني معكما " يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الامير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقوله: " أسمع وأرى " عبارة عن الادراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين. قوله تعالى: فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى (47) إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (48) قال فمن ربكما يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى (50) قوله تعالى: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك) في الكلام حذف، والمعنى: فأتياه فقالا له ذلك. (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي خل عنهم. (ولا تعذبهم) أي بالسخرة والتعب في العمل. وكانت بنو إسرائيل عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم، ويستخدم (2) نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن مالا يطيقونه. (قد جئناك بآية من ربك) قال ابن عباس: يريد العصا واليد. وقيل: إن فرعون قال له: وما هي ؟ فأدخل يده في جيب قميصه، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع مثل شعاع الشمس، غلب نورها على نور الشمس فعجب منها. ولم يره العصا إلا يوم الزينة. (والسلام على من أتبع الهدى) قال الزجاج: أي من أتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل وعذابه. قال: وليس بتحية، [ قال: ] (3) والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب. (1) الزيادة يقتضيها السياق. (2) في ا: يستحى. (3) من ب وج وط وك وى. (*)
[ 204 ]
الفراء: السلام على من اتبع الهدى ولمن اتبع الهدى سواء. (إنا قد أوحى إلينا أن العذاب) يعني الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في جهنم في الآخرة. (على من كذب) أنبياء الله (وتولى) أعرض عن الايمان. وقال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لانهم لم يكذبوا ولم يتولوا. قوله تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى) ذكر فرعون موسى دون هرون لرءوس الآي. وقيل: خصصه بالذكر لانه صاحب الرسالة والكلام والآية. وقيل إنهما جميعا بلغا الرسالة وإن كان ساكتا، لانه في وقت الكلام إنما يتكلم واحد، فإذا انقطع وازره الآخر وأيده. فصار لنا في هذا البناء فائدة علم، أن الاثنين إذا قلدا أمرا فقام به أحدهما، والآخر شخصه هناك موجود مستغنى عنه في وقت دون وقت أنهما أديا الامر الذي قلدا وقاما به واستوجبا الثواب، لان الله تعالى قال: " أذهبا إلى فرعون " وقال: " اذهب أنت وأخوك " وقال: " فقولا له " فأمرهما جميعا بالذهاب وبالقول، ثم أعلمنا في وقت الخطاب بقوله: " فمن ربكما " أنه كان حاضرا مع موسى. (قال) موسى: (ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه) أي أنه يعرف بصفاته، وليس له أسم علم حتى يقال فلان بل هو خالق العالم، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة، ولو كان الخطاب معهما لقالا: قالا ربنا. " وخلقه " أول مفعولي أعطى، أي أعطى خليقته كل شئ يحتاجون إليه ويرتفقون به، أو ثانيهما أي أعطى كل شئ صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، على قول الضحاك على ما يأتي. (ثم هدى) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: أعطى كل شئ زوجه من جنسه، ثم هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه، وعن ابن عباس: ثم هداه إلى الالفة والاجتماع والمناكحة. وقال الحسن وقتادة: أعطى كل شئ صلاحه، وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: أعطى كل شئ صورة، لم يجعل خلق الانسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الانسان، ولكن خلق كل شئ فقدره تقديرا. وقال الشاعر: وله في كل شئ خلقة * وكذاك الله ما شاء فعل
[ 205 ]
يعني بالخلقة الصورة، وهو قول عطية ومقاتل. وقال الضحاك: أعطى كل شئ خلقه من المنفعة المنوطة به المطابقة له. يعني اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والاذن للسمع. وقيل: أعطى كل شئ ما ألهمه من علم أو صناعة. وقال الفراء: خلق الرجل للمرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الاناث ثم هدى الذكر للانثى. فالتقدير على هذا أعطى كل شئ مثل خلقه. قلت: وهذا معنى قول ابن عباس. والآية بعمومها تتناول جميع الاقوال. وروى زائدة عن الاعمش أنه قرأ " الذي أعطى كل شئ خلقه " بفتح اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحق. ورواها نصير عن الكسائي وغيره، أي أعطى بنى آدم كل شئ خلقه مما يحتاجون إليه. فالقراءتان متفقتان في المعنى. قوله تعالى: قال فما بال القرون الاولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (52) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (قال فما بال) البال الحال، أي وما حالها وما شأنها، فأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ. وقيل: المعنى فما بال القرون الاولى لم يقروا بذلك. أي فما بالهم ذهبوا وقد عبدوا غير ربك. وقيل: إنما سأله عن أعمال القرون الاولى فأعلمه أنها محصاة عند الله تعالى، ومحفوظة عنده في كتاب. أي هي مكتوبة فسيجازيهم غدا بها وعليها. وعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو كتاب مع بعض الملائكة. الثانية - هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى. فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الانسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه. وروينا بالاسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له: أنكتب ما نسمع
[ 206 ]
منك ؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب، فقال: " علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي). وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال: كان رجل من الانصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (استعن بيمينك) وأومأ إلى الخط. وهذا نص. وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لابي شاه - رجل من اليمن - لما سأله كتبها. أخرجه مسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيدوا العلم بالكتابة). وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما. وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب، فروى أبو نصرة (1) قال قيل لابي سعيد: أنكتب حديثكم هذا ؟ قال: لم تجعلونه قرآنا ؟ ولكن احفظوا كما حفظنا. وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء - قال خالد: ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا، فلما حفظته محوته - وابن عون والزهري. وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه، منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة. وقال هشام بن حسان: ما كتبت حديثا قط إلا حديث الاعماق (2) فلما حفظته محوته. قلت: وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا. وحديث الاعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالاعماق - أو - بدابق) الحديث ذكره في كتاب الفتن. وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ منهم الاعمش وعبد الله بن أدريس وهشيم وغيرهم. وهذا احتياط على الحفظ. والكتب أولى على الجملة، وبه وردت الآي والاحاديث، وهو مروى عن عمر وعلي وجابر وأنس رضي الله عنهم، ومن يليهم من كبراء التابعين كالحسن (1) كذا في ب وط وى وهو الصواب. وأبو نضرة المنذر بن مالك بن قطعة. (2) الاعماق: موضع من أطراف المدينة ودابق: اسم موضع سوق بها. والشك من الراوي. (*)
[ 207 ]
وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير، ومن بعدهم من أهل العلم، قال الله تعالى " وكتبنا له في الالواح من كل شئ " (1) [ الاعراف: 145 ]. وقال تعالى: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون " (2) [ الانبياء: 105 ]. وقال تعالى: " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة " (1) [ الاعراف: 156 ] الآية. وقال تعالى: " وكل شئ فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر " (3) [ القمر: 52 - 53 ]. وقال: " علمها عند ربي في كتاب " إلى غير هذا من الآي. وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الاول لقرب العهد، وتقارب الاسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله، أو يرغب عن حفظه (4) والعمل به، فأما والوقت متباعد، والاسناد غير متقارب، والطرق مختلفة، والنقلة متشابهون، وآفة النسيان معترضة، والوهم غير مأمون، فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى، والدليل على وجوبه أقوى، فإن أحتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه) خرجه مسلم، فالجواب أن ذلك كان متقدما، فهو منسوخ بأمره بالكتابة، وإباحتها لابي شاه وغيره. وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه. وكذا ما روى عن أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن الثالثة - قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد، ثم الحبر خاصة دون المداد (5) لان السواد أصبغ الالوان، والحبر أبقاها على مر الدهور. وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة. ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال: رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه، فقال: لم تخفيه وتستره ؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لان صورته في الابصار سواد، وفي البصائر بياض. وقال خالد بن زيد: الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق (6) في ثوب العروس. وأخذ هذا المعنى أبو عبد الله البلوى فقال: مداد المحابر طيب الرجال * وطيب النساء من الزعفران فهذا يليق بأثواب ذا * وهذا يليق بثوب الحصان (1) راجع ج 7 ص 280 فما بعد وص 296. (2) راجع ص 349 من هذا الجزء. (3) راجع ج 17 ص 149. (4) في ب وج وز وط ك وى: تحفظه. (5) لا فرق في اللغة بين المداد والحبر ولعل المراد الكتابة بالحبر الاسود خاصة فالتفرقة بحسب اللون على ما يبدو. (6) الخلوق: طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره. (*)
[ 208 ]
وذكر الماوردي أن عبد الله (1) بن سليمان فيما حكى، رأى على بعض ثيابه أثر صفرة، فأخذ من مداد الدواة وطلاه به، ثم قال: المداد بنا أحسن من الزعفران، وأنشد: إنما الزعفران عطر العذارى * ومداد الدوي عطر الرجال الرابعة - قوله تعالى: (لا يضل ربي ولا ينسى) اختلف في معناه على أقوال خمسة، الاول: إنه ابتداء كلام، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين. وقد كان الكلام تم في قوله: " في كتاب ". وكذا قال الزجاج، وأن معنى " لا يضل " لا يهلك من قوله: " أئذا ضللنا في الارض " (2) [ السجدة: 10 ]. " ولا ينسى " شيئا، نزهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني: " لا يضل " لا يخطئ، قاله ابن عباس، أي لا يخطئ في التدبير، فمن أنظره فلحكمة أنظره، ومن عاجله فلحكمة عاجله. القول الثالث: " لا يضل " لا يغيب. قال ابن الاعرابي: أصل الضلال الغيبوبة، يقال: ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشئ. قال: ومعنى. " لا يضل ربي ولا ينسى " أي لا يغيب عنه شئ ولا يغيب عن شئ. القول الرابع: قاله الزجاج أيضا: وقال النحاس وهو أشبهها بالمعنى -: أخبر الله عز وجل أنه لا يحتاج إلى كتاب، والمعنى لا يضل عنه علم شئ من الاشياء ولا معرفتها، ولا ينسى ما علمه منها. قلت: وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الاعرابي. وقول خامس: إن " لا يضل ربي ولا ينسى " في موضع الصفة ل‍ " - كتاب " أي الكتاب غير ضال عن الله عز وجل، أي غير ذاهب عنه. " ولا ينسى " أي غير ناس له فهما نعتان ل‍ " - كتاب ". وعلى هذا يكون الكلام متصلا، ولا يوقف على " كتاب ". تقول العرب. ضلني الشئ إذا لم أجده، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم تجده فيه. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه " لا يضل " بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه. قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد، يقال: ضل عن الطريق، وأضل الشئ إذا أضاعه. ومنه قرأ من قرأ " لا يضل ربي " أي لا يضيع، هذا مذهب العرب. (1) في (أدب الدنيا والدين): عبيد الله بن سليمان. (2) راجع ج 14 ص 91. (*)
[ 209 ]
قوله تعالى: الذى جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لاولى النهى (54) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى (55) قوله تعالى: (الذى جعل لكم الارض مهادا (1)) " الذي " في موضع [ رفع ] (2) نعت ل‍ " - ربي " أي لا يضل ربي الذي جعل. ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي هو " الذي ". ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الكوفيون: " مهدا " هنا وفي " الزخرف " بفتح الميم وإسكان الهاء. الباقون " مهادا " واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لاتفاقهم على قراءة: " ألم نجعل الارض مهادا " (3) [ النبأ: 6 ]. النحاس: والجمع أولى لان " مهدا " مصدر وليس هذا موضع مصدر إلا على حذف، أي ذات مهد. المهدوي: ومن قرأ " مهدا " جاز أن يكون مصدرا كالفرش أي مهد لكم الارض مهدا، وجاز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي ذات مهد. ومن قرأ: " مهادا " جاز أن يكون مفردا كالفراش. وجاز أن يكون جمع " مهد " استعمل استعمال الاسماء فكسر. ومعنى " مهادا " أي فراشا وقرارا تستقرون عليها. (وسلك لكم فيها سبلا) أي طرقا. نظيره " والله جعل لكم الارض بساطا. لتسلكوا منها سبلا فجاجا " (4) [ نوح: 19 - 20 ]. وقال تعالى: " الذي جعل لكم الارض مهادا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون " (5) [ الزخرف: 10 ] (وأنزل من السماء ماء) تقدم معناه. وهذا آخر كلام موسى، ثم قال الله تعالى: " فاخرجنا به ". وقيل: كله من كلام موسى. والمعنى (فأخرجنا به) أي بالحرث والمعالجة، لان الماء المنزل سبب خروج النبات. ومعنى (أزواجا) ضروبا وأشباها، أي أصنافا من النبات المختلفة الازواج والالوان. وقال الاخفش: التقدير أزواجا شتى من نبات. قال: وقد يكون النبات شتى، ف‍ " شتى " يجوز أن يكون نعتا لازواج، ويجوز أن يكون نعتا للنبات. و " شتى " (1) (مهادا) بالجمع: قراءة (نافع) وعليها الاصل. (2) من ب وج وز وي وك وى. (3) راجع ج 19 ص 169 فما بعد. (4) راجع ج 18 ص 306. (5) راجع ج 16 ص 64. (*)
[ 210 ]
مأخوذ من شت الشئ أي تفرق. يقال: أمر شت أي متفرق. وشت الامر شتا وشتاتا تفرق، واشتت مثله. وكذلك التشتت. وشتته تشتيتا فرقه. وأشت بي قومي أي فرقوا أمري. والشتيت المتفرق. قال رؤبة يصف إبلا: جاءت معا واطرقت شتيتا * وهي تثير الساطع السختيتا (1) وثغر شتيت أي مفلج. وقوم شتى، وأشياء شتى، وتقول: جاءوا أشتاتا، أي متفرقين، واحدهم شت، قاله الجوهري. قوله تعالى: (كلوا وارعوا أنعامكم) أمر إباحة. " وارعوا " من رعت الماشية الكلا، ورعاها صاحبها رعاية، أي أسامها وسرحها، لازم ومعتد. (إن في ذلك لآيات لاولى النهى) أي العقول. الواحدة نهية. قال لهم ذلك، لانهم الذين ينتهى إلى رأيهم. وقيل: لانهم ينهون النفس عن القبائح. وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله: " فمن ربكما يا موسى ". وبين أنه إنما يستدل على الصانع اليوم بأفعاله. قوله تعالى: (منها خلقناكم) يعني آدم عليه السلام لانه خلق من الارض، قاله أبو إسحق الزجاج وغيره. وقيل: كل نطفة مخلوقة من التراب، على هذا يدل ظاهر القرآن. وروى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته) أخرجه أبو نعيم الحافظ في باب ابن سيرين، وقال: هذا حديث غريب من حديث عون لم نكتبه إلا من حديث أبي عاصم النبيل، وهو أحد الثقات الاعلام من أهل البصرة. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة (الانعام) (2) عن ابن مسعود. وقال عطاء الخراساني: إذا وقعت النطفة في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ومن التراب، فذلك قوله تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخري ". وفي حديث البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد المؤمن إذا خرجت روحه صعدت به الملائكة فلا يمرون بها على ملا من الملائكة (1) السختيت: دقاق التراب: وهو الغبار الشديد الارتفاع. ويروى: (الشختيتا بالشين المعجمة. (2) راجع ج 6 ص 387 فما بعد. (*)
[ 211 ]
إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون لها فيفتح فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل " اكتبوا لعبدي كتابا في عليين وأعيدوه إلى الارض فإنى منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى " فتعاد روحه في جسده) وذكر الحديث. وقد ذكرناه بتمامه في كتاب " التذكرة " وروى من حديث علي رضي الله عنه، ذكره الثعلبي. ومعنى " وفيها نعيدكم " أي بعد الموت " ومنها نخرجكم " أي للبعث والحساب. (تارة أخرى) يرجع هذا إلى قوله: " منها خلقناكم " لا إلى " نعيدكم ". وهو كقولك: اشتريت ناقة ودارا وناقة أخرى، فالمعنى: من الارض أخرجناكم ونخرجكم بعد الموت من الارض تارة أخرى. قوله تعالى: ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى (56) قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى (58) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (59) فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60) قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افتراى (61) قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها) أي المعجزات الدالة على نبوة موسى. وقيل: حجج الله الدالة على توحيده. (فكذب وأبى) أي لم يؤمن. وهذا يدل على أنه كفر عنادا لانه رأى الآيات عيانا لا خبرا. نظيره " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ". (1) قوله تعالى: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) لما رأى الآيات التي أتاه بها موسى قال: إنها سحر، والمعنى: جئت لتوهم الناس أنك جئت بآية توجب اتباعك والايمان بك، حتى تغلب على أرضنا وعلينا. (فلنأتينك بسحر مثله) أي لنعارضنك (1) راجع ج 13 ص 163. (*)
[ 212 ]
بمثل ما جئت به ليتبين للناس أن ما أتيت به ليس من عند الله. (فاجعل بيننا وبينك موعدا) هو مصدر، أي وعدا. وقيل: الموعد اسم لمكان الوعد، كما قال تعالى: " وإن جهنم لموعدهم أجمعين " (1) [ الحجر: 43 ] فالموعد ها هنا مكان. وقيل: الموعد اسم لزمان الوعد، كقوله تعالى: " إن موعدهم الصبح " (2) [ هود: 81 ] فالمعنى: اجعل لنا يوما معلوما، أو مكانا معروفا. قال القشيري: والاظهر أنه مصدر ولهذا قال: (لا نخلفه) أي لا نخلف ذلك الوعد، والاخلاف أن يعد شيئا ولا ينجزه. وقال الجوهري: والميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والاعرج: " لا نخلفه " بالجزم جوابا لقوله " اجعل ". ومن رفع فهو نعت ل‍ " - موعد " والتقدير: موعدا غير مخلف. (مكانا سوى) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة " سوى " بضم السين. الباقون بكسرها، وهما لغتان مثل عدا وعدا وطوى وطوى. واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين لانها اللغة العالية الفصيحة. وقال النحاس: والكسر أعرف وأشهر. وكلهم نونوا الواو، وقد روي عن الحسن، واختلف عنه ضم السين بغير تنوين. واختلف في معناه فقيل: سوى هذا المكان، قاله الكلبي. وقيل: مكانا مستويا يتبين للناس ما بيناه فيه، قاله ابن زيد. ابن عباس: نصفا. مجاهد: منصفا، وعنه أيضا وقتادة عدلا بيننا بينك. وقال النحاس: وأهل التفسير على أن معنى " سوى " نصف وعدل وهو قول حسن، قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل، يعنى مكانا عدل، بين المكانين فيه النصفة، وأصله من قولك: جلس في سواء الدار بالمد أي في وسطها، ووسط كل شئ أعدله، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " (3) [ البقرة: 143 ] أي عدلا، وقال زهير: أرونا خطة لا ضيم فيها * يسوي بيننا فيها السواء وقال أبو عبيدة والقتبي: وسطا بين الفريقين، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي: وإن أبانا كان حل ببلدة * سوى بين قيس قيس عيلان والفزر والفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم. وقال الاخفش: " سوى " إذا كان بمعنى غير أو بمعنى العدل يكون فيه ثلاث لغات: إن ضممت السين أو كسرت قصرت فيهما جميعا. وإن فتحت مددت، تقول: مكان سوى وسوى وسواء، أي عدل ووسط فيما بين الفريقين. قال موسى بن جابر: (1) راجع ج 10 ص 29 فما بعد. (2) راجع ج 9 ص 81 (2) راجع ج 2 ص 153 (*)
[ 213 ]
* وجدنا أبانا كان حل ببلدة * البيت. وقيل: " مكانا سوى " أي قصدا، وأنشد صاحب هذا القول: لو تمنت حبيبتي ما عدتني * أو تمنيت ما عدوت سواها وتقول: مررت برجل سواك وسواك وسوائك أي غيرك. وهما في هذا الامر سواء وإن شئت سواءان. وهم سواء للجميع وهم أسواء، وهم سواسية مثل ثمانية على غير قياس. وانتصب " مكانا " على المفعول الثاني ل‍ " - جعل ". ولا يحسن انتصابه بالموعد على أنه مفعول أو ظرف له، لان الموعد قد وصف، والاسماء التي تعمل عمل الافعال إذا وصفت أو صغرت لم ينبغ (1) أن تعمل لخروجها عن شبه الفعل، ولم يحسن حمله على أنه ظرف وقع موقع المفعول الثاني، لان الموعد إذا وقع بعده ظرف لم تجره العرب مجرى المصادر مع الظروف، لكنهم يتسعون فيه كقوله تعالى: " إن موعدهم الصبح " (2) [ هود: 81 ] و " موعدكم يوم الزينة ". واختلف في يوم الزينة، فقيل هو يوم عيد كان لهم يتزينون ويجتمعون فيه، قاله قتادة والسدي وغيرهما. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: كان يوم عاشوراء. وقال سعيد بن المسيب: يوم سوق كان لهم يتزينون فيها، وقاله قتادة أيضا. وقال الضحاك: يوم السبت. وقيل: يوم النيروز، ذكره الثعلبي. وقيل: يوم يكسر فيه الخليج، وذلك أنهم كانوا يخرجون فيه يتفرجون ويتنزهون، وعند ذلك تأمن الديار المصرية من قبل النيل. وقرأ الحسن والاعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص " يوم الزينة " بالنصب. ورويت عن أبي عمرو، أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا. والباقون بالرفع على أنه خبر الابتداء. (وأن يحشر الناس ضحا) أي وجمع الناس، ف‍ " - أن " في موضع رفع على قراءة من قرأ: " يوم " بالرفع. وعطف " وأن يحشر " يقوي قراءة الرفع، لان " أن " لا تكون ظرفا، وإن كان المصدر الصريح يكون ظرفا كمقدم الحاج، لان من قال: آتيك مقدم الحاج لم يقل آتيك أن يقدم الحاج. النحاس: وأولى من هذا أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة. والضحا مؤنثة تصغرها العرب بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها ضحوة، قاله النحاس. وقال الجوهري: (1) كذا في جميع الاصول. (2) راجع ج 9 ص 281. (*)
[ 214 ]
ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحا وهي حين تشرق الشمس، مقصورة تؤنث وتذكر، فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل مثل صرد ونغر، وهو ظرف غير متمكن مثل سحر، تقول: لقيته ضحا، وضحا إذ أردت به ضحا يومك لم تنونه، ثم بعده الضحاء ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الاعلى. وخص الضحا لانه أول النهار، فلو امتد الامر فيما بينهم كان في النهار متسع. وروى عن ابن مسعود والجحدري وغيرهما: " وأن يحشر الناس ضحا " على معنى وأن يحشر الله الناس ونحوه. وعن بعض القراء " وأن تحشر الناس " والمعنى وأن تحشر أنت يا فرعون الناس وعن الجحدري أيضا " وأن نحشر " بالنون وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه، وكبت الكافر، وزهوق الباطل على رءوس الاشهاد، وفي المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، ويكثر المحدث بذلك الامر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جمع أهل الوبر والمدر. قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده) أي حيله وسحره، والمراد جمع السحرة. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصى. وقيل: كانوا أربعمائة. وقيل: كانوا اثنى عشر ألفا. وقيل: أربعة عشرا ألفا. وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا. وقيل: كانوا مجتمعين على رئيس يقال له شمعون. وقيل: كان اسمه يوحنا معه أثنا عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، مع كل عريف ألف ساحر. وقيل كانوا ثلثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف وكان رئيسهم أعمى. (ثم أتى) أي أتى الميعاد. (قال لهم موسى) أي قال لفرعون والسحرة (ويلكم) دعاء عليهم بالويل. وهو بمعنى المصدر. وقال أبو إسحق الزجاج: هو منصوب بمعنى ألزمهم الله ويلا. قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله تعالى: " يا ويلنا من بعثنا " (1) [ يس: 52 ] (لا تفتروا على الله كذبا) أي لا تختلقوا عليه الكذب، ولا تشركوا به، ولا تقولوا للمعجزات إنها سحر. (فيسحتكم بعذاب) من عنده أي يستأصلكم بالاهلاك. (1) راجع ج 15 ص 39 فما بعد. (*)
[ 215 ]
يقال فيه: سحت وأسحت بمعنى. وأصله من استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون " فيسحتكم " من أسحت، الباقون " فيسحتكم " من سحت وهذه لغة أهل الحجاز و [ الاولى (1) لغة ] بني تميم. وانتصب على جواب النهي. وقال الفرزدق. وعض زمان يابن مروان لم يدع * من المال إلا مسحتا (2) أو مجلف (3) الزمخشري: وهذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. (وقد خاب من افترى) أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من آدعى على الله ما لم يأذن به. قوله تعالى: فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فأجمعوا كيدكم ثم أئتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64) قوله تعالى: (فتنازعوا أمرهم بينهم) أي تشاوروا، يريد السحرة. (وأسروا النجوى) قال قتادة " قالوا ": إن كان ما جاء به سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر، وهذا الذي أسروه. وقيل الذي أسروا قولهم " إن هذان لساحران " الآيات قاله السدي ومقاتل. وقيل الذي أسروا قولهم: إن غلبنا اتبعناه، قاله الكلبي، دليله من ظهر من عاقبة أمرهم. وقيل: كان سرهم أن قالوا حين قال لهم موسى " ويلكم لا تفتروا على الله كذبا " [ طه: 61 ]: ما هذا بقول ساحر. و " النجوى " المنجاة يكون اسما ومصدرا، وقد تقدم في " النساء " (4) بيانه. (1) الزيادة من كتب التفسير. (2) ويروى: (إلا مسحت) ومن وراه كذلك جعل معنى. (لم يدع) لم يتقار ومن رواه (إلا مسحتا) جعل (لم يدع) بمعنى لم يترك. ورفع (مجلف) بإضمار كأنه قال: أو هو مجلف. (اللسان). (3) المجلف: الذي بقيت منه بقية. (4) راجع ج 5 ص 382 فما بعد. (*)
[ 216 ]
قوله تعالى: (إن هذين لساحران) قرأ أبو عمرو " إن هذين لساحران ". ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة، وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين، ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري، فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للاعراب مخالفة للمصحف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم: في رواية حفص عنه " إن هذان " بتخفيف " إن " " لساحران " وابن كثير يشدد نون " هذان ". وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الاعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران. وقرأ المدنيون والكوفيون: " إن هذان " بتشديد " إن " " لساحران " فوافقوا المصحف وخالفوا الاعراب. قال النحاس: فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الائمة، وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ " إن هذان إلا ساحران " وقال الكسائي في قراءة عبد الله: " إن هذان ساحران " بغير لام، وقال الفراء في حرف أبي " إن ذان إلا ساحران " فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف. قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الانباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأها قوم حتى قال أبو عمرو: إني لاستحي من الله [ تعالى ] (1) أن أقرأ " إن هذان ". وروى عروة عن عائشة رضى الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى " لكن الراسخون في العلم " (2) ثم قال: " والمقيمين " (2) وفي " المائدة " " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون " (2) [ المائدة: 69 ] و " إن هذان لساحران " فقالت: يابن أختي ! هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال: لحن وخطأ، فقال له قائل: ألا تغيروه ؟ فقال: دعوه فإنه لا يحرم حلالا ولا يحلل حرما. القول الاول من الاقوال الستة: أنها لغة بنى الحرث بن كعب وزبيد وخثعم. وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالالف، (1) من ك: (2) راجع ج 6 ص 13، وص 246. راجع ما نقله القرطبي في رد هذا الكلام ج 6 ص 15. وكان إغفال المصنف لهذا أولى لانه قدح في خط المصحف المروى عن أئمة اللغة الثقات. (*)
[ 217 ]
يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى: " ولا أدراكم به " [ يونس: 16 ] على ما تقدم (1). وأنشد الفراء لرجل من بني أسد (2) - قال: وما رأيت أفصح منه: فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى * مساغا لناباه الشجاع لصمما (3) ويقولون: كسرت يداه وركبت علاه، بمعنى يديه وعليه، قال شاعرهم: (4) تزود منا بين أذناه ضربة * دعته إلى هابي التراب عقيم وقال آخر: (5) * طاروا علاهن فطر علاها * أي عليهن وعليها. وقال آخر: (6) إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها أي إن أبا أبيها وغايتها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية، إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته، منهم أبو زيد الانصاري، وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني، وأبو الخطاب الاخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحرث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: وأعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الاولى منهما حرف مد ولين وهو حرف الاعراب، قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الاعراب، يوجب أن الاصل ألا يتغير، فيكون " إن هذان " جاء (1) راجع ج 8 ص 320 فما بعد. (2) هو المتلمس كما في (اللسان). (3) صمم الشجاع في عضته: أي عض ونيب فلم يرسل ما عض. (4) هو هوبر الحارثي. والهابي من التراب ما ارتفع ودق. (5) قيل: هو لبعض أهل اليمن وأن قبله: أي قلوص راكب تراها * طأروا علاهن فطر علاها واشدد بمثنى حقب حقواها * ناجية وناجيا أباها والحقو: الخاصرة. والناجية: السريعة. (6) نسبه الجوهري لابي النجم وأن قبله: واها لسلمى ثم واها واها * هي المنى لو أننا نلناها ياليت عيناها لنا وفاها * بثمن نرضى به أباها إن أباها... الخ. ونسبه بعضهم لرؤبة. وقيل: لبعض أهل اليمن وأن قبله: أي قلوص راكب تراها * طاروا علاهن... الخ. (*)
[ 218 ]
على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى " استحوذ عليهم الشيطان " (1) [ المجادلة: 19 ] ولم يقل استحاذ، فجاء هذا ليدل على الاصل، وكذلك " إن هذان " ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذ كان الائمة قد رووها. القول الثاني: أن يكون " إن " بمعنى نعم، كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي ب‍ " - إن " بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن " إن " تأتي بمعنى أجل، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد وإسمعيل بن إسحق القاضي يذهبان، قال النحاس: ورأيت أبا إسحق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه. الزمخشري: وقد أعجب به أبو إسحق. النحاس: وحدثنا علي بن سليمان، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوري، ثم لقيت عبد الله بن أحمد [ هذا ] (2) فحدثني، قال حدثني عمير بن المتوكل، قال حدثنا محمد ابن موسى النوفلي من ولد حرث بن عبد المطلب، قال حدثنا عمر بن جميع الكوفي عن جعفر ابن محمد عن أبيه عن علي - وهو ابن الحسين - عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه " ثم يقول: " أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان ابن سعيد بن العاص " قال أبو محمد الخفاف قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو " إن الحمد لله " بالنصب إلا أن العرب تجعل " إن " في معنى نعم كأنه أراد صلى الله عليه وسلم نعم الحمد لله، وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح [ في ] (3) خطبها بنعم. وقال الشاعر في معنى نعم: قالوا غدرت فقلت إن وربما * نال العلا وشفى الغليل الغادر وقال عبد الله بن قيس الرقيات: بكر العواذل في الصبا * ح يلمنني وألومهنه ويقلن شيب قد علا * ك وقد كبرت فقلت إنه فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل: " إن هذان لساحران " بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلب: ليت شعري هل للمحب شفاء * من جوى حبهن إن اللقاء (1) راجع ج 17 ص 305. (2) الزيادة من (إعراب القرآن) للنحاس. (3) من ب وج وط وك (*)
[ 219 ]
قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئا لانه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام ها هنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا: اللام ينوي بها التقديم، كما قال: خالي لانت ومن جرير خاله * ينل العلاء ويكرم الاخوالا آخر: أم الحليس لعجوز شهربه * ترضى من الشاة بعظم الرقبه أي لخالي ولام الحليس، وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني. قال أبو الفتح: " هما " المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكد وتترك المؤكد. القول الثالث: قاله الفراء أيضا [ قال ] (1): وجدت الالف دعامة ليست بلام الفعل فزدت عليها نونا ولم أغيرها كما قلت: " الذي " ثم زدت عليه نونا فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك. القول الرابع: قاله بعض الكوفيين قال الالف في " هذان " مشبهة بالالف في يفعلان فلم تغير. القول الخامس: قال أبو إسحق: النحويون القدماء يقولون الهاء ها هنا مضمرة، والمعنى إنه هذان لساحران، قال ابن الانباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب " إن " و " هذان " خبر " إن " و " ساحران " يرفعها " هما " المضمر [ والتقدير ] (2) إنه هذان لهما ساحران. والاشبه (3) عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم " إن " و " هذان " رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء. القول السادس: قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي، فقلت: بقولك، فقال: سألني إسمعيل بن إسحق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال: " هذا " في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فقال: ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به، قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به، فتبسم. (1) من ب وج وط وك. (2) الزيادة يقتضيها السياق. (3) في ب وك: الا ثبت. (*)
[ 220 ]
قوله تعالى: (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) هذا من قول فرعون للسحرة، أي غرضهما إفساد دينكم الذي أنتم عليه، كما قال فرعون: " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد " (1) [ غافر: 26 ]. ويقال فلان حسن الطريقة أي حسن المذهب. وقيل: طريقة القوم أفضل القول، وهذا الذي ينبغي أن يسلكوا طريقته ويقتدوا به، فالمعنى: ويذهبا بسادتكم ورؤسائكم، استمالة لهم. أو يذهبا ببني إسرائيل وهم الاماثل وإن كانوا خولا لكم لما يرجعون إليه من الانتساب إلى الانبياء. أو يذهبا بأهل طريقتكم فحذف المضاف. و " المثلى " تأنيث الامثل، كما يقال الافضل والفضلي. وأنث الطريقة على اللفظ، وإن كان يراد بها الرجال. ويجوز أن يكون التأنيث على الجماعة. وقال الكسائي: " بطريقتكم " بسنتكم وسمتكم. و " المثلى " نعت كقولك امرأة كبرى. تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم. قوله تعالى: (فأجمعوا كيدكم) الاجماع الاحكام والعزم على الشئ. تقول: أجمعت الخروج وعلى الخروج أي عزمت. وقراءة كل الأمصار " فأجمعوا " إلا أبا عمرو فإنه قرأ: " فاجمعوا " بالوصل وفتح الميم. وأحتج بقوله تعالى: " فجمع كيده ثم أتى ". قال النحاس: وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف قراءته هذه، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس. قال: لانه احتج ب‍ " - جمع " وقوله عز وجل: " فجمع كيده " قد ثبت هذا فيبعد أن يكون بعده " فاجمعوا " ويقرب أن يكون بعده " فأجمعوا " أي اعزموا وجدوا، ولما تقدم ذلك وجب أن يكون هذا بخلاف معناه. يقال: أمر مجمع ومجمع عليه. قال النحاس: ويصحح قراءة أبي عمرو " فاجمعوا " أي اجمعوا كل كيد لكم وكل حيلة فضموه مع أخيه. وقاله أبو إسحق. الثعلبي: القراءة بقطع الالف وكسر الميم لها وجهان: أحدهما - بمعنى الجمع، تقول: أجمعت الشئ وجمعته بمعنى واحد، وفي الصحاح: وأجمعت الشي جعلته جميعا، قال أبو ذؤيب يصف حمرا: فكأنها بالجزع بين نبايع * وأولات ذي العرجاء نهب مجمع (1) راجع ج 15 ص 304 فما بعد. (2) نبايع: اسم مكان أو جبل أو واد في بلاد هذيل ويجمع على (نبايعات). (*)
[ 221 ]
أي مجموع. والثاني - أنه بمعنى العزم والاحكام، قال الشاعر: يا ليت شعري والمنى لا تنفع * هل أغدون يوما وأمري مجمع * أي محكم. (ثم ائتوا صفا) قال مقاتل والكلبي: جميعا. وقيل: صفوفا ليكون أشد لهيبتكم. وهو منصوب بوقوع الفعل عليه على قول أبي عبيدة، قال يقال: أتيت الصف يعني المصلى، فالمعنى عنده ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه يوم العيد. وحكى عن بعض فصحاء العرب: ما قدرت أن آتي الصف، يعني المصلى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون، فيكون على هذا مصدرا في موضع الحال. ولذلك لم يجمع. وقرئ: " ثم ايتوا " بكسر الميم وياء. ومن ترك الهمزة أبدل من الهمزة ألفا. (وقد أفلح اليوم من استعلى) أي من غلب. وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم. قوله تعالى: قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69) فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71)
[ 222 ]
قوله تعالى: (قالوا يا موسى) يريد السحرة. (إما أن تلقى) عصاك من يدك (وإما أن نكون أول من ألقى) تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم. (قال بل ألقوا فإذا حبالهم) في الكلام حذف، أي فألقوا، دل عليه المعنى. وقرأ الحسن: (وعصيهم) بضم العين. قال هارون القارئ: لغة بنى تميم " وعصيهم " وبها يأخذ الحسن. الباقون بالكسر اتباعا لكسرة الصاد. ونحوه دلي ودلي وقسي وقسي. (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى). وقرأ ابن عباس وأبو حيوة وابن ذكوان وروح عن يعقوب: " تخيل " بالتاء، وردوه إلى العصي والحبال إذ هي مؤنثة. وذلك أنهم لطخوا العصي بالزئبق، فلما أصابها حر الشمس ارتهشت واهتزت. قال الكلبي: خيل إلى موسى أن الارض حيات وأنها تسعى على بطنها. وقرئ: " تخيل " بمعنى تتخيل وطريقه طريق " تخيل " ومن قرأ " يخيل " بالياء رده إلى الكيد. وقرئ " نخيل " بالنون على أن الله هو المخيل للمحنة والابتلاء. وقيل: الفاعل. " أنها تسعى " ف‍ " - أن " في موضع رفع، أي يخيل إليه سعيها، قاله الزجاج. وزعم الفراء أن موضعها موضع نصب، أي بأنها ثم حذف الباء. والمعنى في الوجه الاول: تشبه إليه من سحرهم وكيدهم حتى ظن أنها تسعى. وقال الزجاج: ومن قرأ بالتاء جعل " أن " في موضع نصب أي تخيل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن تكون في موضع رفع بدلا من الضمير في " تخيل " وهو عائد على الحبال والعصي، والبدل فيه بدل اشتمال. و " تسعى " معناه تمشي. قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) أي أضمر. وقيل: وجد. وقيل: أحس. أي من الحيات وذلك على ما يعرض من طباع البشر على ما تقدم. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: خاف حين أبطأ عليه الوحي بإلقاء العصا أن يفترق الناس قبل ذلك فيفتتنوا. وقال بعض أهل الحقائق: إن كان السبب أن موسى عليه السلام لما التقى بالسحرة وقال لهم: " ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب " التفت فإذا جبريل على يمينه فقال له يا موسى ترفق بأولياء الله. فقال موسى: يا جبريل هؤلاء سحرة جاءوا بسحر عظيم ليبطلوا المعجزة، وينصروا دين فرعون، ويردوا دين الله، تقول: ترفق
[ 223 ]
بأولياء الله ! فقال جبريل: هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة. فلما قال له ذلك، أوجس في نفس موسى وخطر أن ما يدريني ما علم الله في، فلعلي أكون الآن في حالة، وعلم الله في على خلافها كما كان هؤلاء. فلما علم الله ما في قلبه أوحى الله إليه " لا تخف إنك أنت الاعلى " أي الغالب لهم في الدنيا، وفي الدرجات العلا في الجنة، للنبوة والاصطفاء الذي أتاك الله به. وأصل " خيفة " خوفة فانقلبت الواو ياء لانكسار الخاء. قوله تعالى: (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) (1) ولم يقل وألق عصاك، فجائز أن يكون تصغيرا لها، أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك، فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وجائز أن يكون تعظيما لها أي لا تحفل بهذه الاجرام الكثيرة الكبيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شئ وأنزره عندها، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. و " تلقف " بالجزم جواب الامر، كأنه قال: إن تلقه تتلقف، أي تأخذ وتبتلع. وقرأ السلمي وحفص: " تلقف " ساكنة اللام من لقف يلقف لقفا. وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة الشامي ويحيى بن الحرث " تلقف " بحذف التاء ورفع الفاء، على معنى فإنها تتلقف. والخطاب لموسى. وقيل: للعصا. واللقف الاخذ بسرعة، يقال: لقفت الشئ " بالكسر " ألقفه لقفا، وتلقفته أيضا أي تناولته بسرعة. عن يعقوب: يقال رجل لقف ثقف أي خفيف حاذق. واللقف " بالتحريك " سقوط الحائط. ولقد لقف الحوض لقفا أي تهور من أسفله وأتسع. وتلقف وتلقم وتلهم بمعنى. وقد مضى في (الاعراف) (2). لقمت اللقمة " بالكسر " لقما، وتلقمتها إذا ابتلعتها في مهلة. وكذلك لهمه " بالكسر " إذا ابتلعه. " ما صنعوا " أي الذي صنعوه. وكذا (إنما صنعوا) أي إن الذي صنعوه " كيد " بالرفع " سحر " بكسر السين وإسكان الحاء، وهى قراءة الكوفيين إلا عاصما. وفيه وجهان: أحدهما - أن يكون الكيد مضافا إلى السحر (1) تلقف بالتشديد قراءة (نافع). (2) راجع ج 7 ص 257 فما بعد. (*)
[ 224 ]
على الاتباع من غير تقدير حذف. والثاني - أن يكون في الكلام حذف أي كيد ذي سحر. وقرأ الباقون: " كيد " بالنصب (1) بوقوع الصنع عليه و " ما " كافة ولا تضمر هاء " ساحر " بالاضافة. والكيد في الحقيقة على هذه القراءة مضاف للساحر لا للسحر. ويجوز فتح " أن " على معنى لان ما صنعوا كيد ساحر. (ولا يفلح الساحر حيث أتى) أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الارض. وقيل: حيث احتال. وقد مضى في (البقرة) (2) حكم الساحر ومعنى السحر فتأمله هناك. قوله تعالى: (فألقى السحرة سجدا) لما رأوا من عظيم الامر وخرق العادة في العصا، فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي، وكانت حمل ثلثمائة بعير ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى. وقد مضى في (الاعراف) (3) هذا المعنى وأمر العصا مستوفى. (قالوا آمنا برب هرون وموسى. قال آمنتم له) أي به، يقال: آمن له وآمن به، ومنه " فآمن له لوط " (4) [ العنكبوت: 26 ] وفي الاعراف (قال آمنتم به قبل أن آذن لكم). إنكار منه عليهم، أي تعديتم وفعلتم ما لم آمركم به. (إنه لكبيركم الذى علمكم السحر). أي رئيسكم في التعليم، وإنما غلبكم لانه أحذق به منكم. وإنما أراد فرعون بقول هذا ليشبه على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته. (فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل. قال سويد بن أبي كاهل: هم صلبوا العبدي في جذع نخلة * فلا عطست شيبان إلا بأجدعا فقطع وصلب حتى ماتوا رحمهم الله تعالى. وقرأ ابن محيصن هنا وفي الاعراف " فلاقطعن " " ولاصلبنكم " بفتح الالف والتخفيف من قطع وصلب. (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) يعني أنا أم رب موسى. (1) العبارة هنا على إطلاقها تفيد أن هذه قراءة الجمهور. والجمهور قرأ: (كيد ساحر) برفع (كيد) كما في (البحر) وغيره قال في البحر: وقرأ الجمهور: (كيد) بالرفع. (2) راجع ج 2 ص 43 فما بعد. (3) راجع ج 7 ص 259. (4) راجع ج 13 ص 339. (*)
[ 225 ]
قوله تعالى: قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فأقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحيوة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (84) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76) قوله تعالى: (قالوا) يعني السحرة (لن نؤثرك) أي لن نختارك (على ما جاءنا من البينات) قال ابن عباس: يريد من اليقين والعلم. وقال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة، فلهذا قالوا: " لن نؤثرك ". وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب ؟ فقيل لها: غلب موسى وهرون، فقالت: آمنت برب موسى وهرون. فأرسل إليها فرعون فقال: أنظروا أعظم صخرة فإن مضت (1) على قولها فألقوها عليها، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزع روحها، وألقيت الصخرة على جسدها وليس في جسدها (2) روح. وقيل: قال مقدم السحرة لمن يثق به لما رأى من عصا موسى ما رأى: انظر إلى هذه الحية هل تخوفت ؟ (3) فتكون جنيا أو لم تتخوف فهي من صنعة الصانع الذي لا يعزب عليه مصنوع، فقال: ما تخوفت، فقال: آمنت برب هرون وموسى. (والذى فطرنا) قيل: هو معطوف على " ما جاءنا من البينات " أي لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولا على الذي فطرنا أي خلقنا. وقيل: هو قسم أي والله لن نؤثرك. (فاقضى ما أنت قاض) التقدير: ما أنت قاضيه. وليست " ما " ها هنا التي تكون مع الفعل بمنزلة المصدر، لان تلك توصل بالافعال، وهذه موصولة بابتداء وخبر. (1) في ب وا وج وط وك: مرت. (2) في ا وب وط وك وي: وليس فيها روح. (3) في ب وج وط: (تجوفت أو لم تتجوف - ما تجوفت) بالجيم. (*)
[ 226 ]
قال ابن عباس: فاصنع ما أنت صانع. وقيل: فاحكم ما أنت حاكم، أي من القطع والصلب. وحذفت الياء من قاض في الوصل لسكونها وسكون التنوين. واختار سيبويه إثباتها في الوقف لانه قد زالت علة [ التقاء ] (1) الساكنين. (إنما تقضى هذه الحياة الدنيا) أي إنما ينفذ أمرك فيها. وهي منصوبة على الظرف، والمعنى: إنما تقضى في متاع هذه الحياة الدنيا. أو وقت هذه الحياة الدنيا، فتقدر حذف المفعول. ويجوز أن يكون التقدير: إنما تقضي أمور هذه الحياة الدنيا، فتنتصب انتصاب المفعول و " ما " كافة لان. وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل " ما " بمعنى الذي وتحذف الهاء من تقضي ورفعت " هذه الحياة الدنيا ". (إنا آمنا بربنا) أي صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى. (ليغفر لنا خطايانا) يريدون الشرك الذي كانوا عليه. (وما أكرهتنا عليه من السحر) " ما " في موضع نصب معطوفة على الخطايا. وقيل: لا موضع لها وهى نافية، أي ليغفر لنا خطايانا من السحر وما أكرهتنا عليه. النحاس: والاول أولى. المهدوي: وفيه بعد، لقولهم: " إن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين " (2) وليس هذا بقول مكرهين، ولان الاكراه ليس بذنب، وإن كان يجوز أن يكونوا أكرهوا على تعليمه صغارا. قال الحسن: كانوا يعلمون السحر أطفالا ثم عملوه مختارين بعد. ويجوز أن يكون " ما " في موضع رفع بالابتداء ويضمر الخبر، والتقدير: وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا. و " من السحر " على هذا القول والقول الاول يتعلق ب‍ " - أكرهتنا ". وعلى أن " ما " نافية يتعلق ب‍ " - خطايانا ". (والله خير وأبقى) أي ثوابه خير وأبقى فحذف المضاف، قاله ابن عباس. وقيل: الله خير لنا منك وأبقى عذابا لنا من عذابك لنا وهو جواب قوله: " ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " وقيل: الله خير لنا إن أطعناه، وأبقى عذابا منك إن عصيناه. قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرما) قيل: هو من قول السحرة لما آمنوا. وقيل: ابتداء كلام من الله عز وجل. والكناية في " إنه " ترجع إلى الامر والشأن. ويجوز إن من يأت، ومنه قول الشاعر: إن من يدخل الكنيسة يوما * يلق فيها جآذرا وظباء (3) (1) من ب وج وط وك وى. (2) راجع ج 7 ص 258. (3) البيت للاخطل وهو نصراني. (*)
[ 227 ]
أراد إنه من يدخل، أي أن الامر هذا، وهو أن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة. والمجرم الكافر. وقيل: الذي يقترف المعاصي ويكتسبها. والاول أشبه لقوله تعالى: (فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا) وهذه صفة الكافر المكذب الجاحد - على ما تقدم بيانه في سورة (النساء) (1) وغيرها - فلا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته. قال الشاعر: ألا من لنفس لا تموت فينقضى * شقاها ولا تحيا حياة لها طعم وقيل: نفس الكافر معلقة في حنجرته أخبر الله تعالى عنه فلا يموت بفراقها، ولا يحيا باستقرارها. ومعنى. (من يأت ربه مجرما) من يأت موعد ربه. ومعنى (ومن يأته مؤمنا) أي يمت عليه ويوافيه مصدقا به. (قد عمل) أي وقد عمل " الصالحات " أي الطاعات وما أمر به ونهى عنه. (فأولئك لهم الدرجات العلا) أي الرفيعة التي قصرت دونها الصفات. ودل قوله: " ومن يأته مؤمنا " على أن المراد بالمجرم المشرك. قوله تعالى: (جنات عدن) بيان للدرجات وبدل منها، والعدن الاقامة. وقد تقدم (2) بيانه. (تجري من تحتها) أي من تحت غرفها وسررها (الانهار) من الخمر والعسل واللبن والماء. وقد تقدم. (خالدين فيها) أي ماكثين دائمين. (وذلك جزاء من تزكى) أي من تطهر من الكفر والمعاصي. ومن قال هذا من قول السحرة قال: لعل السحرة سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون. قلت: ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم أنطقهم بذلك لما آمنوا، والله أعلم. قوله تعالى: ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) وأضل فرعون قومه وما هدى (79) قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) تقدم الكلام في هذا مستوفى. (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) أي يابسا لا طين فيه ولا ماء. وقد مضى في (البقرة) (3) (1) راجع ج 5 ص 253. (2) راجع ج 10 ص 396. (3) راجع ج 1 ص 389 فما بعد. (*)
[ 228 ]
ضرب موسى البحر وكنيته إياه وإغراق فرعون فلا معنى للاعادة. (لا تخاف دركا) أي لحاقا من فرعون وجنوده. " ولا تخشى " قال ابن جريج قال أصحاب موسى [ له ] (1): هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر قد غشينا، فأنزل الله تعالى: " لا تخاف دركا ولا تخشى " أي لا تخاف دركا من فرعون ولا تخشى غرقا من البحر أن يمسك إن غشيك. وقرأ حمزة " لا تخف " على أنه جواب الامر. التقدير إن تضرب لهم طريقا في البحر لا تخف. و " لا تخشى " مستأنف على تقدير: ولا أنت تخشى. أو يكون مجزوما والالف مشبعة من فتحة، كقوله: " فأضلونا السبيلا " (2) [ الاحزاب: 67 ] أو يكون على حد قول الشاعر: (3) * كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا * على تقدير حذف الحركة كما تحذف حركة الصحيح. وهذا مذهب الفراء. وقال آخر: هجوت زبان ثم جئت معتذرا * من هجو زبان لم تهجو ولم تدع وقال آخر (4): ألم يأتيك والانباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد قال النحاس: وهذا من أقبح الغلط أن يحمل كتاب الله عز وجل على الشذوذ من الشعر، وأيضا فإن الذي جاء به من الشعر لا يشبه من الآية شيئا، لان الياء والواو مخالفتان للالف، لانهما تتحركان والالف لا تتحرك، وللشاعر إذا اضطر أن يقدرهما متحركتين ثم تحذف الحركة للجزم، وهذا محال في الالف، والقراءة الاولى أبين لان بعده " ولا تخشى " مجمع عليه بلا جزم، وفيها ثلاث تقديرات: الاول - أن يكون " لا تخاف " في موضع الحال من المخاطب، التقدير: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا غير خائف ولا خاش. الثاني أن يكون في موضع النعت للطريق، لانه معطوف على يبس الذي هو صفة، ويكون التقدير: لا تخاف فيه، فحذف الراجع من الصفة. والثالث - أن يكون منقطعا خبر ابتداء محذوف تقديره: وأنت لا تخاف. (1) من ب وج وز وط وك وى. (2) راجع ج 14 ص 249. (3) هو عبد يغوث بن وقاص من شعراء الجاهلية. وصدر البيت: * وتضحك مني شيخة عبشمية * (4) البيت من أبيات لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي وكان قد نشأت بينه وبين الربيع بن زياد شحناء في شأن درع فاستاق إبل الربيع وباعها بمكة من عبد الله بن جدعان القرشى. (*)
[ 229 ]
قوله تعالى: (فأتبعهم فرعون بجنوده) أي أتبعهم ومعه جنوده، وقرئ " فاتبعهم " بالتشديد فتكون الباء في " بجنوده " عدت الفعل إلى المفعول الثاني، لان اتبع يتعدى إلى مفعول واحد. أي تبعهم ليلحقهم بجنوده أي مع جنوده كما يقال: ركب الامير بسيفه أي مع سيفه. ومن قطع " فأتبع " يتعدى إلى مفعولين: فيجوز أن تكون الباء زائدة، ويجوز أن يكون اقتصر على مفعول واحد. يقال: تبعه وأتبعه ولحقه وألحقه بمعنى واحد. وقوله: " بجنوده " في موضع الحال، كأنه قال: فأتبعهم سائقا جنوده. (فغشيهم من اليم ما غشيهم) أي أصابهم من البحر ما غرقهم، وكرر على معنى التعظيم والمعرفة بالامر. (وأضل فرعون قومه وما هدى) أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خير ولا نجاة، لانه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه، لان بين أيديهم البحر. فلما ضرب موسى البحر بعصاه أنفلق منه أثنا عشر طريقا وبين الطرق الماء قائما كالجبال. وفي سورة الشعراء: " فكان كل فرق كالطود العظيم " (1) أي الجبل الكبير، فأخذ كل سبط طريقا. وأوحى الله إلى أطواد الماء أن تشبكي فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، فكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، فلما أقبل فرعون ورأى الطرق في البحر والماء قائما أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. وقيل إن قوله: " وما هدى " تأكيد لاضلاله إياهم. وقيل: هو جواب قول فرعون: " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " (2) [ غافر: 29 ] فكذبه الله تعالى. وقال ابن عباس " وما هدى " أي ما هدى نفسه بل أهلك نفسه وقومه. قوله تعالى: يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ووعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (81) وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82) (1) راجع ج 13 ص 100 فما بعد. (2) راجع ج 15 ص 305 فما بعد. (*)
[ 230 ]
قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد انجيناكم من عدوكم) لما أنجاهم من فرعون قال لهم هذا ليشكروه. (وواعدناكم جانب الطور الايمن) " جانب " نصب على المفعول الثاني ل‍ " واعدنا " ولا يحسن أن ينتصب على الظرف، لانه ظرف مكان محض غير مبهم. وإنما تتعدى الافعال والمصادر إلى ظروف المكان بغير حرف جر إذا كانت مبهمة. قال مكى: هذا أصل لا خلاف فيه، وتقدير الآية. وواعدناكم إتيان جانب الطور، ثم حذف المضاف. قال النحاس: أي أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل: وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور الايمن فيؤتيه التوراة، فالوعد كان لموسى ولكن خوطبوا به لان الوعد كان لاجلهم. وقرأ أبو عمرو " ووعدناكم " بغير ألف واختاره أبو عبيد، لان الوعد إنما هو من الله تعالى لموسى خاصة، والمواعدة لا تكون إلا من اثنين. وقد مضى في (البقرة) (1) هذا المعنى. و " الايمن " نصب، لانه نعت للجانب وليس للجبل يمين ولا شمال، فإذا قيل: خذ عن يمين الجبل فمعناه خذ على يمينك من الجبل. وكان الجبل على يمين موسى إذ أتاه. (ونزلنا عليكم المن والسلوى) أي في التيه. وقد تقدم القول فيه (2). (كلوا من طبيات ما رزقناكم) أي من لذيذ الرزق. وقيل: من حلاله إذ لا صنع فيه لآدمي فتدخله شبهة. (ولا تطغوا) أي لا تحملنكم السعة والعافية أن تعصوا، لان الطغيان التجاوز إلى ما لا يجوز. وقيل: المعنى، أي لا تكفروا النعمة ولا تنسوا [ شكر النعم ولا شكر ] (2) المنعم بها عليكم. وقيل: أي ولا تستبدلوا بها شيئا آخر كما قال: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " (2) [ البقرة: 61 ] وقيل: لا تدخروا منه لاكثر من يوم وليلة، قال ابن عباس: فيتدود عليهم ما ادخروه، ولولا ذلك ما تدود طعام أبدا. (فيحل عليكم غضبي) أي يجب وينزل، وهو منصوب بالفاء في جواب النهي من قوله: " ولا تطغوا ". (فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) قرأ الاعمش ويحيى بن وثاب والكسائي: " فيحل " بضم الحاء (ومن يحلل) بضم اللام الاولى. والباقون بالكسر وهما لغتان. وحكى (1) راجع ج 1 ص 394 وص 406. (2) من ب وط وى. (*)
[ 231 ]
أبو عبيدة وغيره: أنه يقال حل يحل إذا وجب وحل يحل إذا نزل. وكذا قال الفراء: الضم من الحلول بمعنى الوقوع والكسر من الوجوب. والمعنيان متقاربان إلا أن الكسر أولى، لانهم قد أجمعوا على قوله: " ويحل عليه عذاب مقيم " (1) [ هود: 39 ]. وغضب الله عقابه ونقمته وعذابه. " فقد هوى " قال الزجاج: فقد هلك، أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار، من هوى يهوي هويا أي سقط من علو إلى سفل، وهوى فلان أي مات. وذكر ابن المبارك: أخبرنا إسمعيل بن عياش قال حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شفى الاصبحي (2) قال: إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه، قال الله تعالى: " سأرهقه صعودا " (3) [ المدثر: 17 ] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله (4) قال الله تعالى " ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " وذكر الحديث، وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة ". قوله تعالى: (وإني لغفار لمن تاب) أي من الشرك. (وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) أي أقام على إيمانه حتى مات عليه، قاله سفيان الثوري وقتادة وغيرهما. وقال ابن عباس: أي لم يشك في إيمانه، ذكره الماوردي والمهدوي. وقال سهل بن عبد الله التستري وابن عباس أيضا: أقام على السنة والجماعة، ذكره الثعلبي. وقال أنس: أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ذكره المهدوي، وحكاه الماوردي عن الربيع بن أنس. وقول خامس: أصاب العمل، قاله ابن زيد، وعنه أيضا تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل، ذكر الاول المهدوي، والثاني الثعلبي. وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أن لذلك ثوابا وعليه عقابا، وقاله الفراء. وقول ثامن: " ثم اهتدى " في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ثابت البناني. والقول الاول أحسن هذه الاقوال - إن شاء الله - وإليه يرجع سائرها. قال وكيع عن سفيان: كنا نسمع في قوله عز وجل: " وإني لغفار لمن تاب " أي من الشرك " وآمن " أي بعد الشرك " وعمل صالحا " صلى وصام " ثم أهتدى " مات على ذلك. (1) راجع ج 9 ص 33. (2) بالتصغير بن ماتع (بالتاء المثناة الفوقية) الاصبحي. (3) راجع ج 19 ص 72. (4) في ك: قعره. (*)
[ 232 ]
قوله تعالى: وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (86) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري (87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى (88) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89) قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى) أي ما حملك على أن تسبقهم. قيل: عنى بالقوم جميع بني إسرائيل، فعلى هذا قيل: استخلف هرون على بني إسرائيل، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات. فقوله: (هم أولاء على أثري) ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي إليهم. وقيل: لا بل كان أمر هرون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به. وقال قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله. [ عز وجل ] (1) وقيل: لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الامر حتى شق قميصه، ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده، فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى: " وما أعجلك عن قومك يا موسى " فبقي صلى الله عليه وسلم متحيرا عن الجواب [ لهذه (2) الكلمة لما استقبله من صدق الشوق فأعرض عن الجواب ] وكنى عنه بقوله: " هم أولاء على أثري " وإنما سأله السبب الذي أعجله بقوله " ما " فأخبر عن مجيئهم بالاثر. ثم قال: (وعجلت إليك رب لترضى) فكنى عن (1) من ى. وفي ك: تعالى. (2) من ا وب وج وز وط وك وى. (*)
[ 233 ]
ذكر الشوق وصدقه (1) إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: " وعجلت إليك رب لترضى " قال: شوقا. وكانت عائشة رضى الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول: هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك، رواه سفيان عن معسر عن عائشة رضى الله عنها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول: " إنه حديث عهد بربي " فهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم وممن بعده من قبيل الشوق، ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه: " طال شوق الابرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق ". وقال ابن عباس: كان الله عالما ولكن قال: " وما أعجلك عن قومك " رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة (2) عليه، فقال مجيبا لربه: " هم أولاء على أثري ". قال أبو حاتم قال عيسى: بنو تميم يقولون: " هم أولى " مقصورة مرسلة، وأهل الحجاز يقولون " أولاء " ممدودة. وحكى الفراء " هم أولاء على أثري " وزعم أبو إسحق الزجاج: أن هذا لا وجه له. قال النحاس: وهو كما قال، لان هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن يكون اسما مبهما فإضافته محال، وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا، لان ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ ابن أبي إسحق ونصر ورويس عن يعقوب " على إثري " بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان. " وعجلت إليك رب لترضى " أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة، والعجلة خلاف البطء. قوله تعالى: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك) أي أختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل. (وأضلهم السامري) أي دعاهم إلى الضلالة أو هو سببها. وقيل: فتناهم ألقيناهم في الفتنة: أي زينا لهم عبادة العجل، ولهذا قال موسى: " إن هي إلا فتنتك " (3) [ الاعراف: 155 ]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان السامري من قوم يعبدون البقر (4)، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر. وقيل: كان رجلا (1) في ب وج وك وى: وصرفه. (2) المراد بالرقة هنا التعطف. (3) راجع ج 7 ص 294 فما بعد. (4) أي من أهل الهند كما في بعض الاخبار. (*)
[ 234 ]
من القبط، وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه. وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان. قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) حال وقد مضى في (الاعراف) (1) بيانه مستوفى. (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا) وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل: وعدهم النصر والظفر. وقيل: وعده قوله: " وإني لغفار لمن تاب وآمن " الآية. (أفطال عليكم العهد) أي أفنسيتم، كما قيل، والشئ قد ينسى لطول العهد. (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) " يحل " أي يجب وينزل. والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى: أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم، لان أحدا لا يطلب غضب الله (2)، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب. (فأخلفتم موعدى) لانهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي: ومعناه بطاقتنا. ابن زيد: لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " بملكنا " بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لانها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشئ أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف، كأنه قال: بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقرأ حمزة والكسائي: " بملكنا " بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله: " قالوا " عام يراد به الخاص، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور: " ما أخلفنا موعدك بملكنا " وكانوا أثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف. (ولكنا حملنا) بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة، قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس. الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لانهم حملوا حلى القوم (1) راجع ج 7 ص 286 فما بعد. (2) في ب وج وز وط وك: غضب الرب. (*)
[ 235 ]
معهم وما حملوه كرها. (أوزارا) أي أثقالا (من زينة القوم) أي من حليهم، وكانوا استعاروه حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل: هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم، وأيضا فالاوزار هي الاثقال في اللغة. (فقذفناها) أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلى فقذفناه في النار ليذوب، أي طرحناه فيها. وقيل: طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. قال قتادة: إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام. وقال معمر: الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر. وقال ابن عباس: لما أنسكبت الحلى في النار، جاء السامري وقال لهرون: يا نبي الله أؤلقى ما في يدي - وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي - فقذف التراب فيه، وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان كما قال للبلاء والفتنة، فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها. وقيل: خواره وصوته كان بالريح، لانه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الاول كان عجلا من لحم ودم، وهو قول الحسن وقتادة والسدي. وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مر هرون بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا ؟ فقال: ينفع ولا يضر، فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، فقال: اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا، وكان الخوار من أجل دعوة هرون. قال ابن عباس: خار كما يخور الحي من العجول. وروى أن موسى قال: يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار ؟ قال الله تبارك وتعالى: أنا. قال موسى صلى الله عليه وسلم: وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال: صدقت يا حكيم
[ 236 ]
الحكماء. وقد تقدم هذا كله في سورة (الاعراف) (1). (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى) أي قال السامري ومن (2) تبعه وكانوا ميالين إلى التشبيه، إذ قالوا " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " (1). الاعراف: 138 " (فنسى) أي فضل موسى [ وذهب ] (3) بطلبه فلم يعلم مكانه، وأخطأ الطريق إلى ربه. وقيل: معناه فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: أي فنسى موسى أن يذكر لكم أنه إلهه. وقيل: الخطاب خبر عن السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الايمان فضل، قاله ابن الاعرابي. فقال الله تعالى محتجا عليهم: " أفلا يرون " أي يعتبرون ويتفكرون. في (أن‍) - ه (لا يرجع إليهم قولا) أي لا يكلمهم. وقيل: لا يعود إلى الخوار والصوت. (ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا) فكيف يكون إلها ؟ ! والذى يعبده موسى صلى الله عليه وسلم يضر وينفع ويثيب ويعطى ويمنع. و " أن لا يرجع " تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت " أن " وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن. قال في فتية من سيوف الهند قد علموا * أن هالك كل من يحفى وينتعل وقد يحذف (4) مع التشديد، قال: فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي * ولكن زنجي عظيم المشافر أي ولكنك. قوله تعالى: ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91) قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93) قوله تعالى: (ولقد قال لهم هرون من قبل) أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم (يا قوم إنما فتنتم به) أي ابتليتم وأضللتم به، أي بالعجل. (وإن ربكم الرحمن)
[ 237 ]
لا العجل. (فاتبعوني) في عبادته. (وأطيعوا أمرى) لا أمر السامري. أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و (قالوا لن نبرح عليه عاكفين) أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل (حتى يرجع إلينا موسى) فينظر هل يعبده كما عبدناه، فتوهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هرون في أثنى عشر ألفا، الذين (1) لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال للسبعين معه: هذا صوت الفتنة، فلما رأى هرون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و (قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) أي أخطئوا الطريق وكفروا. (ألا تتبعن) " لا " زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي. وقيل: ما منعك عن اتباعي في الانكار عليهم. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم. وقيل: ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. (أفعصيت أمرى) يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي، قاله ابن عباس. وقيل: معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى: " أفعصيت أمري " قيل: إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه " وقال موسى لاخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " (2) [ الاعراف: 142 ]، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والانكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره. مسألة - وهذا كله أصل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد مضى هذا المعنى في آل عمران والنساء والمائدة والانعام والاعراف والانفال. وسئل الامام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية ؟ وأعلم - حرس الله مدته - أنه أجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شئ من الاديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين، [ يرحمكم الله ] (3) وهذا القول الذي يذكرونه (1) كذا في ب وج وط وى. والذي في ا: من الذين. (2) راجع ج 7 ص 277. (3) من ب وط وى. (*)
[ 238 ]
يا شيخ كف عن الذنوب * قبل التفرق والزلل واعمل لنفسك صالحا * ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى * ومشيب رأسك قد نزل وفي مثل هذا ونحوه (1). الجواب: - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الاسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق. قوله تعالى: قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94) قال فما خطبك يا سامري (95) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96) قال فأذهب فإن لك في الحيوة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه عاكفا لنخرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما (98) قوله تعالى: (يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) ابن عباس: أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره، لان الغيرة في الله ملكته، أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف (1) في ب وج وط وك: وجوه. (*)
[ 239 ]
أو عقوبة. وقد قيل: إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة كما يأخذ الانسان بلحية نفسه. وقد مضى هذا في (الاعراف) (1) مستوفى. والله عز وجل أعلم بما أراد نبيه عليه السلام. (إني خشيت أن تقول فرقت بين بيني إسرائيل) أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لاتبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم، وربما أدى الامر إلى سفك الدماء، وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك. وهذا جواب هرون لموسى السلام عن قوله " أفعصيت أمري " وفي الاعراف " إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الاعداء " (1) [ الاعراف: 150 ] لانك أمرتني أن أكون معهم. وقد تقدم. ومعنى (ولم ترقب قولي) لم تعمل بوصيتي في حفظ [ - هم، لانك أمرتني أن أكون معهم ] (2)، قاله مقاتل. وقال أبو عبيدة: لم تنتظر عهدي وقدومي. فتركه موسى ثم أقبل على السامري ف‍ (- قال فما خطبك يا سامرى) أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت ؟ قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم " قالوا يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة " (1) [ الاعراف: 138 ] فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل. ف‍ " - قال " السامري مجيبا لموسى: " بصرت بما لم يبصروا به " يعني: رأيت ما لم يروا، رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شئ إلا صار له روح ولحم ودم فلما سألوك أن تجعل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك. وقال علي رضى الله عنه: لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام إلى السماء، أبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس. وقيل قال السامري: رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شئ إلا صار له روح ودم. وقيل: رأى جبريل يوم نزل على رمكة (3) وديق، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر. ويقال: إن أم السامري جعلته حين وضعته في غار خوفا (1) راجع ج 7 ص 289 فما بعد وص 286 وص 253. (2) من ب وج وط وك. (2) الرمكة: الفرس والبرذونة التي تتخذ النسل معرب. وهي هنا الفرس. والوديق: التي تشتهى الفحل. (*)
[ 240 ]
من أن يقتله فرعون، فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كف السامري في فم السامري، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ. وقد تقدم هذا المعنى في " الاعراف " (1). ويقال: إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار. وقرأ حمزة والكسائي والاعمش وخلف: " بما لم تبصروا " بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة " فقبصت قبصة " بصاد غير معجمة. وروي عن الحسن ضم القاف من " قبصة " والصاد غير معجمة. الباقون: (قبضت قبضة) بالضاد المعجمة. والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الاصابع، ونحوهما الخضم والقضم، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض، ذكره المهدوي. ولم يذكر الجوهري " قبصة " بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر " القبضة " بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شئ، يقال: أعطاه قبضة من سويق أو تمر أي كفا منه، وربما جاء بالفتح. قال: والقبض بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس، قال الكميت: لكم مسجدا الله المزوران والحصى * لكم قبصه من بين أثرى وأقترى (2) (فنبذتها) أي طرحتها في العجل. (وكذلك سولت لي نفسي) أي زينته، قاله الاخفش. وقال ابن زيد: حدثتني نفسي. والمعنى متقارب. قوله تعالى: (قال فأذهب) أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا (فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. [ والله أعلم ] (3) قال الشاعر: تميم كرهط السامري وقوله * ألا لا يريد السامري مساسا (1) راجع ج 7 ص 274. (2) أي من بين مثر ومقل. (3) من ك. (*)
[ 241 ]
قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة، وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلى بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك - لا مساس - وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت. ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى: " فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل: لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، كما قال الشاعر: حمال رايات بها قناعسا * حتى تقول الازد لا مسابسا (1) مسألة: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة (2) الذين خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج. ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لاعادته. والحمد لله وحده. وقال هرون القارئ: ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه، فقال سيبويه: هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل. وقال أبو إسحق: لا مساس نفي وكسرت السين لان الكسرة من علامة التأنيث، تقول: فعلت يا امرأة (3). قال النحاس وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا أعتل الشئ من ثلاث جهات وجب أن يبني، وإذا أعتل من جهتين وجب ألا ينصرف، لانه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء، فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة، فلما وجب البناء فيه وكانت الالف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين، كما تقول: اضرب الرجل. ورأيت أبا إسحق (1) كذا في الاصول ولم نقف عليه. (2) في ك: وصاحبيه. (3) كذا في النحاس. والذى في الاصول: فعلت المرأة. (*)
[ 242 ]
يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى أمرة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقوله أحد. وقال الجوهر في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على الكسر لانه معدول عن المصدر وهو المس. وقرأ أبو حيوة " لا مساس ". (وإن لك موعدا لن تخلفه) يعني يوم القيامة. والموعد مصدر، أي إن لك وعدا لعذابك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " تخلفه " بكسر اللام وله معنيان: أحدهما - ستأتيه ولن تجده مخلفا، كما تقول: أحمدته أي وجدته محمودا. والثاني - على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه. الباقون بفتح اللام، بمعنى: إن الله لن يخلفك إياه. قوله تعالى: (وانظر إلى إلهك الذى ظلت عليه) أي دمت وأقمت عليه. " عاكفا " أي ملازما، وأصله ظللت، قال: (1) خلا أن العتاق من المطايا * أحسن به فهن إليه شوس أي أحسسن. وكذلك قرأ الاعمش بلامين على الاصل. وفي قراءة ابن مسعود: " ظلت " بكسر الظاء. يقال: ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت، فمن قال: ظلت حذف اللام الاولى تخفيفا، ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. (لنحرقنه) قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق. وقرأ الحسن وغيره: بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي " لنحرقنه " بفتح النون وضم الراء خفيفة، من حرقت الشئ أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: حرق نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف، فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءتان الاوليان معناهما الحرق بالنار. وقد يمكن جمع ذلك فيه، قال السدي: ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم برد عظامه بالمبرد وحرقه. وفي حرف ابن مسعود: " لنذبحنه ثم لنحرقنه " واللحم والدم إذا أحرقا (1) هو أبو زبيد والشوس (بالتحريك) قال ابن سيده: أن ينظر بإحدى عينيه ويميل وجهه في شق العين التي ينظر بها ويكون ذلك خلقة ويكون من الكبر والتيه والغضب. (*)
[ 243 ]
صارا رمادا فيمكن تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل: عرف موسى ما صير به الذهب رمادا، وكان ذلك من آياته. ومعنى " لننسفنه " لنطيرنه. وقرأ أبو رجاء " لننسفنه " بضم السين لغتان، والنسف نفض الشئ ليذهب به الريح وهو التذرية، والمنسف ما ينسف به الطعام، وهو شئ متصوب (1) الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه، يقال: اعزل النسافة وكل الخالص. ويقال: أتانا فلان كأن لحيته منسف، حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم. والمنسفة آلة يقلع بها البناء، ونسفت البناء نسفا قلعته، ونسفت البعير الكلا ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله، وانتسفت الشئ اقتلعته، عن أبي زيد. قوله تعالى: (إنما إلهكم الله الذى لا إله إلا هو وسع كل شئ علما) لا العجل، أي وسع كل شئ علمه، يفعل الفعل عن العلم، ونصب على التفسير. وقرأ مجاهد وقتادة " وسع كل شئ علما ". قوله تعالى: كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا (99) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا (100) خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا (101) يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا (301) نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما (104) قوله تعالى: (كذلك) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. أي كما قصصنا عليك خبر موسى " كذلك نقص عليك " قصصا كذلك من أخبار ما قد سبق، ليكون تسلية لك، وليدل على صدقك. (وقد آتيناك من لدنا ذكرا) يعني القرآن. وسمي القرآن ذكرا، لما فيه من الذكر كما سمي الرسول ذكرا، لان الذكر كان ينزل عليه. وقيل: " آتيناك من لدنا ذكرا " أي شرفا، كما قال تعالى " وإنه لذكر لك " (2) [ الزخرف: 44 ] أي شرف وتنويه باسمك. (1) في ب وز: منصوب. (2) راجع ج 16 ص 93. (*)
[ 244 ]
قوله تعالى: (من أعرض عنه) أي القرآن فلم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه (فإنه يحمل يوم القيامة وزرا) أي إثما عظيما وحملا ثقيلا. (خالدين فيه) يريد مقيمين فيه، أي في جزائه وجزاؤه جهنم. (وساء لهم يوم القيامة حملا) يريد بئس الحمل حملوه يوم القيامة. وقرأ داود ابن رفيع: " فإنه يحمل ". قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور) قراءة العامة " ينفخ " بضم الياء على الفعل المجهول. وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحق بنون مسمى الفاعل. واستدل أبو عمرو بقوله تعالى: " ونحشر بنون. وعن ابن هرمز " ينفخ " بفتح الياء أي ينفخ إسرافيل. أبو عياض: " في الصور ". الباقون: " في الصور " وقد تقدم هذا في (الانعام) (1) مستوفى وفي كتاب (التذكرة). وقرأ طلحة بن مصرف " ويحشر " بضم الياء " المجرمون " رفعا بخلاف المصحف. والباقون " ونحشر المجرمين " أي المشركين. (زرقا) حال من المجرمين، والزرق خلاف الكحل. والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه، أي تشوه خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. وقال الكلبي والفراء: " زرقا " أي عميا. وقال الازهري: [ أي ] (2) عطاشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش، وقاله الزجاج، قال: لان سواد العين يتغير ويزرق من العطش. وقيل: إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، يقال: أبيضت عيني لطول انتظاري لكذا. وقول خامس: إن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف، قال الشاعر: لقد زرقت عيناك يابن مكعبر * كما كل ضبي من اللؤم أزرق يقال: رجل أزرق العين، والمرأة زرقاء بينة الزرق. والاسم الزرقة. وقد زرقت عينه بالكسر وازرقت عينه ازرقاقا، وازراقت عينه ازريقاقا. وقال سعيد بن جبير: قيل لابن عباس في قوله: " ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " وقال في موضع آخر: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما " (3) [ الاسراء: 97 ] فقال: إن ليوم القيامة حالات، فحالة يكونون فيها زرقا، وحالة عميا. (يتخافتون بينهم) أصل الخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته خفته. [ والمعنى ] (4) (1) راجع ج 7 ص 20 فما بعد. (2) من ك. (3) راجع ج 10 ص 333. (4) من ب وج وط وك. (*)
[ 245 ]
يتسارون، قاله مجاهد، أي يقول بعضهم لبعض في الموقف سرا (إن لبثتم) أي ما لبثتم يعني في الدنيا، وقيل: في القبور (إلا عشرا) يريد عشر ليال. وقيل: أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة، يرفع العذاب في تلك المدة عن الكفار. - في قول ابن عباس - فيستقصرون تلك المدة. أو مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة، ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه أنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا يعني لبثهم في الدنيا، عن قتادة، فالتقدير: إلا مثل يوم. وقيل: إنهم من شدة هول المطلع نسوا ما كانوا فيه من نعيم الدنيا رأوه كيوم. وقيل: أراد بيوم لبثهم ما بين النفختين، أو لبثهم في القبور على ما تقدم. " وعشرا " و " يوما " منصوبان ب‍ " - لبثتم ". قوله تعالى: ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا (105) فيذرها قاعا صفصفا (106) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (107) يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا (108) يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا (109) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (110) قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال) أي عن حال الجبال يوم القيامة. (فقل) [ فقد ] (1) جاء هذا بفاء وكل سؤال في القرآن " قل " بغير فاء إلا هذا، لان المعنى إن سألوك عن الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط. وقد علم الله أنهم يسئلونه عنها، فأجابهم قبل السؤال، وتلك أسئلة تقدمت سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال، فلذلك كان بغير فاء، وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد، فتفهمه. (ينسفها) يطيرها. " نسفا " قال ابن الاعرابي وغيره: يقلعها قلعا من أصولها ثم يصيرها رملا يسيل سيلا، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا. قال: ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ، ثم كالهباء المنثور. (فيذرها) أي يذر مواضعها (قاعا صفصفا) القاع الارض الملساء (1) من ك. (*)
[ 246 ]
بلا نبات ولا بناء (1)، قاله ابن الاعرابي. وقال الجوهري: والقاع المستوي من الارض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسر ما قبلها. وقال الفراء: القاع مستنقع الماء والصفصف القرعاء. الكلبي: هو الذي لا نبات فيه. وقيل: المستوى من الارض كأنه على صف واحد في استوائه، قاله مجاهد. والمعنى واحد في القاع والصفصف، فالقاع الموضع المنكشف، والصفصف المستوى الاملس. وأنشد سيبويه (2): وكم دون بيتك من صفصف * ودكداك رمل وأعقادها و " قاعا " نصب على الحال والصفصف. (لا ترى) في موضع الصفة. (فيها عوجا) قال ابن الاعرابي: العوج التعوج في الفجاج. والامت النبك. وقال أبو عمرو: الامت النباك وهي التلال الصغار واحدها نبك، أي هي أرض مستوية لا انخفاض فيها ولا ارتفاع. تقول: امتلا فما به أمت، وملات القربة ملئا لا أمت فيه، أي لا استرخاء فيه. والامت في اللغة المكان المرتفع. وقال ابن عباس: " عوجا " ميلا. قال: والامت الاثر مثل الشراك. وعنه أيضا " عوجا " واديا " ولا أمتا " رابية. وعنه أيضا: العوج [ الانخفاض ] (3) والامت الارتفاع وقال قتادة: " عوجا " صدعا. (ولا أمتا) أي أكمة. وقال يمان: الامت الشقوق في الارض. وقيل: الامت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل ويدق في مكان، حكاه الصولي. قلت: وهذه الآية تدخل في باب الرقي، ترقى بها الثآليل وهي التي تسمى عندنا " بالبراريق " واحدها " بروقة "، تطلع في الجسد وخاصة في اليد: تأخذ ثلاث أعواد من تبن الشعير، يكون في طرف كل عود عقدة، تمر كل عقدة على الثآليل وتقرأ الآية مرة، ثم تدفن الاعواد في مكان ندي، تعفن وتعفن الثآليل فلا يبقى لها أثر، جربت ذلك في نفسي وفي غيري فوجدته نافعا إن شاء الله تعالى. (4) قوله تعالى: (يومئذ يتبعون الداعي) يريد إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور (لا عوج له) أي لا معدل لهم عنه، أي عن دعائه لا يزيغون ولا ينحرفون بل يسرعون إليه ولا يحيدون (1) في ك: ماء. (2) البيت للاعشى وقد وصف بعد المسافة بينه وبين الممدوح الذي قصده ليستوجب بذلك جائزته. والدكداك: من الرمل المستوى. الاعقاد (جمع) عقدة وهو المنعقد من الرمل المتراكب. (3) زيادة يقتضيها المعنى. (4) في ك: نافعا بالله ولله الحمد. وفي ز: نافعا باذن الله والحمد لله. (*)
[ 247 ]
عنه. وعلى هذا أكثر العلماء. وقيل: " لا عوج له " أي لدعائه. وقيل: يتبعون الداعي اتباعا لا عوج له، فالمصدر مضمر، والمعنى: يتبعون صوت الداعي للمحشر، نظيره: " واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب " (1) [ ق: 41 ] الآية. وسيأتي. (وخشعت الاصوات) أي ذلت وسكنت، عن ابن عباس قال: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع، فكل لسان ساكت هناك للهيبة. (للرحمن) أي من أجله. (فلا تسمع إلا همسا) الهمس الصوت الخفي، قاله مجاهد. عن ابن عباس: الحس الخفي. الحسن وابن جريج: هو صوت وقع الاقدام بعضها على بعض إلى المحشر، ومنه قول الراجز: * وهن يمشين بنا هميسا * يعني صوت أخفاف الابل في سيرها. ويقال للاسد الهموس، لانه يهمس في الظلمة، أي يطأ وطئا خفيا. قال رؤبة يصف نفسه بالشدة: ليث يدق الاسد الهموسا * والاقهبين (2) الفيل والجاموسا وهمس الطعام، أي مضغه وفوه منضم، قال الراجز: لقد رأيت عجبا مذ أمسا * عجائزا مثل السعالي خمسا * يأكلن ما أصنع همسا همسا وقيل: الهمس تحريك الشفة واللسان. وقرأ أبي بن كعب: " فلا ينطقون إلا همسا ". والمعنى متقارب، أي لا يسمع لهم نطق ولا كلام ولا صوت أقدام. وبناء " ه‍ م س " أصله الخفاء كيفما تصرف، ومنه الحروف المهموسة، وهي عشرة يجمعها قولك: " حثه شخص فسكت " وإنما سمي الحرف مهموسا لانه ضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس. قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن) " من " في موضع نصب على الاستثناء الخارج من الاول، أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن. (ورضى له قولا) أي رضي قوله في الشفاعة. وقيل: المعنى، أي إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضى. قال ابن عباس: هو قول لا إله إلا الله. (1) راجع ج 17 ص 26. (2) سمى الفيل والجاموس أقهبين للونهما وهو الغيرة. (*)
[ 248 ]
قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم) أي من أمر الساعة. (وما خلفهم) من أمر الدنيا قاله قتادة. وقيل: يعلم ما يصيرون إليه من ثواب أو عقاب " وما خلفهم " ما خلفوه وراءهم في الدنيا. ثم قيل: الآية عامة في جميع الخلق. وقيل: المراد الذين يتبعون الداعي. والحمد لله. قوله تعالى: (ولا يحيطون به علما) الهاء في " به " لله تعالى، أي أحد لا يحيط به علما، إذ الاحاطة مشعرة بالحد ويتعالى الله عن التحديد. وقيل: تعود على العلم، أي أحد لا يحيط علما بما يعلمه الله. وقال الطبري: الضمير في " أيديهم " و " خلفهم " و " يحيطون " يعود على الملائكة، أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها. قوله تعالى: وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما (111) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112) قوله تعالى: (وعنت الوجوه) أي ذلت وخضعت، قاله ابن الاعرابي وغيره. ومنه قيل للاسير عان. قال أمية بن أبي الصلت: مليك على عرش السماء مهيمن * لعزته تعنو الوجوه وتسجد وقال أيضا وعنا له وجهي وخلقي كله * في الساجدين لوجهه مشكورا قال الجوهري: عنا يعنو خضع وذل وأعناه غيره، ومنه قوله تعالى: " وعنت الوجوه للحي القيوم ". ويقال أيضا: عنا فيهم فلان أسيرا، أي قام فيهم على إساره واحتبس. وعناه غيره تعنية حبسه. والعاني الاسير. وقوم عناة ونسوة عوان. وعنت أمور نزلت. وقال ابن عباس: " عنت " ذلت. وقال مجاهد: خشعت. الماوردي: والفرق بين الذل والخشوع (1) - وإن تقارب معناهما - أن الذل أن يكون ذليل النفس، والخشوع (1) أن يتذلل لذي طاعة. وقال الكلبي " عنت " أي علمت. عطية العوفي: استسلمت. وقال طلق (1) في ك: الخضوع. (*)
[ 249 ]
ابن حبيب: إنه وضع الجبهة والانف على الارض في السجود. النحاس: " وعنت الوجوه " في معناه قولان: أحدهما: أن هذا في الآخرة. وروى عكرمة عن ابن عباس " وعنت الوجوه للحي القيوم " قال: الركوع والسجود، ومعنى " عنت " في اللغة القهر والغلبة، ومنه فتحت البلاد عنوة أي غلبة، قال الشاعر (1): فما أخذوها عنوة عن مودة * ولكن ضرب المشرفي استقالها وقيل: هو من العناء بمعنى التعب، وكنى عن الناس بالوجوه، لان أثار الذل إنما تتبين في الوجه. (للحي القيوم) وفي القيوم ثلاث تأويلات، أحدها: أنه القائم بتدبير الخلق. الثاني - أنه القائم على كل نفس بما كسبت. الثالث - أنه الدائم الذي لا يزول ولا يبيد. وقد مضى في (البقرة) (2) هذا. (وقد خاب من حمل ظلما) أي خسر من حمل شركا. قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن) لان العمل لا يقبل من غير إيمان. و " من " في قوله " من الصالحات " للتبعيض، أي شيئا من الصالحات. وقيل: للجنس. (فلا يخاف) قرأ ابن كثير ومجاهد وابن محيصن: " يخف " بالجزم جوابا لقوله: " ومن يعمل ". الباقون " يخاف " رفعا على الخبر، أي فهو لا يخاف، أو فإنه لا يخاف. (ظلما) أي نقصا لثواب طاعته، ولا زيادة عليه في سيئاته. (ولا هضما) بالانتقاص من حقه. والهضم النقص والكسر، يقال: هضمت ذلك من حقي أي حططته وتركته. وهذا يهضم الطعام أي ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح ضامرة البطن. الماوردي: والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضم المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه، قال المتوكل الليثي: إن الاذلة واللئام لمعشر * مولاهم المتهضم المظلوم قال الجوهري: ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم. وتهضمه أي ظلمه واهتضمه إذا ظلمه وكسر عليه حقه. (1) أنشده الفراء لكثير كما في (اللسان). (2) راجع ج 3 ص 271 فما بعد. (*)
[ 250 ]
قوله تعالى: وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (113) فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (114) قوله تعالى: (وكذلك) أي كما بينا لك في هذه السورة من البيان ف‍ (- كذلك جعلناه قرآنا عربيا) أي بلغة العرب. (وصرفنا فيه من الوعيد) أي بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب. (لعلهم يتقون) أي يخافون الله فيجتنبون معاصيه، ويحذرون عقابه. (أو يحدث لهم ذكرا) أي موعظة. وقال قتادة: حذرا وورعا. وقيل: شرفا، فالذكر هاهنا بمعنى الشرف، كقوله: " وإنه لذكر لك ولقومك " (1) [ الزخرف 44 ]. وقيل: أي ليتذكروا العذاب الذي توعدوا به. وقرأ الحسن: " أو نحدث " بالنون، وروي عنه رفع الثاء وجزمها. قوله تعالى: (فتعالى الله الملك الحق) لما عرف العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن نزه نفسه عن الاولاد والانداد فقال: " فتعالى الله " أي جل الله (الملك الحق)، أي ذو الحق. (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) علم نبيه كيف يتلقى القرآن. قال ابن عباس: كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك وأنزل: " ولا تعجل بالقرآن ". وهذا كقوله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به " (2) [ القيامة: 16 ] على ما يأتي. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا تتله قبل أن تتبينه. وقيل: " ولا تعجل " أي لا تسل إنزاله " من قبل أن يقضى إليك " أي يأتيك " وحيه ". وقيل: المعنى لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله. وقال الحسن: نزلت في رجل لطم وجه امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها القصاص فنزل " الرجال قوامون على النساء " (3) [ النساء 34 ] ولهذا قال: " وقل رب زدني علما " أي فهما، لانه عليه السلام حكم بالقصاص وأبى الله ذلك. وقرأ ابن مسعود وغيره: " من قبل أن نقضي " بالنون وكسر الضاد " وحيه " بالنصب. (1) راجع ج 16 ص 93. (2) راجع ج 19 ص 104. (3) راجع ج 5 ص 168. (*)
[ 251 ]
قوله تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما (115) قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى) قرأ الاعمش باختلاف عنه " فنسي " بإسكان الياء وله معنيان: أحدهما - ترك، أي ترك الامر والعهد، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ومنه " نسوا الله فنسيهم " (1) [ التوبة 67 ]. و [ وثانيهما ] (2) قال ابن عباس: " نسي " هنا من السهو والنسيان، وإنما أخذ الانسان من أنه عهد إليه فنسي. قال ابن زيد: نسى ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس. وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان، وأن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا. ومعنى " من قبل " أي من قبل أن يأكل من الشجرة، لانه نهى عنها. والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي طاعة بني آدم الشيطان أمر قديم، أي إن نقض هؤلاء العهد فإن آدم أيضا عهدنا إليه فنسي: حكاه القشيري وكذلك الطبري. أي وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي، ويخالفوا رسلي، ويطيعوا إبليس فقدما فعل ذلك أبوهم آدم. قال ابن عطية: وهذا التأويل ضعيف، وذلك كون آدم مثالا للكفار الجاحدين بالله ليس بشئ وآدم إنما عصى بتأويل، ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما الظاهر في الآية إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بالقرآن، مثل له بنبي قبله عهد إليه فنسي فعوقب، ليكون أشد في التحذير، وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والعهد ها هنا في معنى الوصية، " ونسي " معناه ترك، ونسيان الذهول لا يمكن هنا، لانه لا يتعلق بالناسي عقاب. والعزم المضي على المعتقد في أي شئ كان، وآدم عليه السلام قد كان يعتقد ألا يأكل من الشجرة لكن لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده. والشئ الذي عهد إلى آدم هو ألا يأكل من الشجرة، وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له. واختلف في معنى قوله: (ولم نجد له عزما) فقال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، ومواظبة على التزام الامر. قال (1) راجع ج 18 ص 43. (2) زيادة يقتضيها السياق. (*)
[ 252 ]
النحاس: وكذلك هو في اللغة، يقال: لفلان عزم أي صبر وثبات على التحفظ من المعاصي حتى يسلم منها، ومنه. " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " (1) [ الاحقاف: 35 ]. وعن ابن عباس أيضا وعطية العوفي: حفظا لما أمر به، أي لم يتحفظ مما نهيته حتى نسي وذهب عن علم ذلك بترك الاستدلال، وذلك أن إبليس قال له: إن أكلتها خلدت في الجنة يعني عين تلك الشجرة، فلم يطعه فدعاه إلى نظير تلك الشجرة مما دخل في عموم النهي وكان يجب أن يستدل عليه فلم يفعل، وظن أنها لم تدخل في النهي فأكلها تأويلا، ولا يكون ناسيا للشئ من يعلم أنه معصية. وقال ابن زيد: " عزما " محافظة على أمر الله. وقال الضحاك: عزيمة أمر. ابن كيسان: إصرارا ولا إضمارا للعود إلى الذنب. قال القشيري: والاول أقرب إلى تأويل الكلام، ولهذا قال قوم: آدم لم يكن من أولي العزم من الرسل، لان الله تعالى قال: " ولم نجد له عزما ". وقال المعظم: كان الرسل أولو العزم، وفي الخبر: " ما من نبي إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ما خلا يحيى بن زكريا " فلو خرج آدم بسبب خطيئته من جملة أولى العزم لخرج جميع الانبياء سوى يحيى. وقد قال أبو أمامة: أن أحلام بني آدم جمعت منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، ووضعت في كفة ميزان، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تبارك وتعالى: " ولم نجد له عزما " قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى (116) فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117) إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى (119) قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) تقدم في (البقرة) (2) مستوفى. (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما) نهي، ومجازه (1) راجع ج 16 ص 220. (2) راجع ج 1 ص 291 فما بعد. (*)
[ 253 ]
لا تقبلا منه فيكون ذلك سببا لخروجكما " من الجنة " " فتشقى " يعني أنت وزوجك لانهما في استواء العلة واحد، ولم يقل: فتشقيا لان المعنى معروف، وآدم عليه السلام هو المخاطب، وهو المقصود. وأيضا لما كان الكاد عليها والكاسب لها كان بالشقاء أخص. وقيل: الا خرج واقع عليهما والشقاوة على آدم وحده، وهو شقاوة البدن، ألا ترى أنه عقبه بقوله: " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعري " أي في الجنة " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن، وأنك إن ضيعت الوصية، وأطعت العدو أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا، أي جعت وعريت وظمئت وأصابتك الشمس، لانك ترد إلى الارض إذا أخرجت من الجنة. وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيان: يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الازواج، فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية. وأعلمنا في هذه الآية أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الاربعة: الطعام والشراب والكسوة والمسكن، فإذا أعطاها هذه الاربعة فقد خرج إليها من نفقتها، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور، فأما هذه الاربعة فلا بد لها منها، لان بها إقامة المهجة. قال الحسن المراد بقوله: " فتشقى " شقاء الدنيا، لا يرى ابن آدم إلا ناصبا. وقال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه. وقال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه الذي قال الله تبارك وتعالى. وقيل: لما أهبط من الجنة كان من أول شقائه أن جبريل أنزل عليه حبأت من الجنة، فقال: يا آدم ازرع هذا، فحرث وزرع، ثم حصد ثم درس ثم نقى ثم طحن ثم عجن ثم خبز، ثم جلس ليأكل بعد التعب، فتدحرج رغيفه من يده حتى صار أسفل الجبل، وجرى وراءه آدم حتى تعب وقد عرق جبينه، قال: يا آدم فكذلك رزقك بالتعب والشقاء، ورزق ولدك من بعدك ما كنت في الدنيا. قوله تعالى: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فيه مسئلتان:
[ 254 ]
الاولى - قوله تعالى: (إن لك ألا تجوع فيه) أي في الجنة (ولا تعرى). " وأنك لا تظمأ فيها " أي لا تعطش. والظمأ العطش. " ولا تضحى " أي تبرز للشمس فتجد حرها. إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال أبو العالية: نهار الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. قال أبو زيد: ضحا الطريق يضحو ضحوا إذا بدا لك وظهر. وضحيت وضحيت " بالكسر " ضحا عرقت. وضحيت أيضا للشمس ضحاء ممدود برزت وضحيت " بالفتح " مثله، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعا، قال عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت * فيضحى وأما بالعشي فيخصر وفي الحديث أن ابن عمر رأى رجلا محرما قد استظل، فقال: أضح لمن أحرمت له. هكذا يرويه المحدثون بفتح الالف وكسر الحاء من أضحيت. وقال الاصمعي: إنما هو اضح لمن أحرمت له، بكسر الالف وفتح الحاء من ضحيت أضحى، لانه أمره بالبروز للشمس، ومنه قوله تعالى: " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " وأنشد: ضحيت له كي أستظل بظله * إذا الظل أضحى في القيامة قالصا وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبو بكر عنه " وأنك " بفتح الهمزة عطفا على " ألا تجوع ". ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع، والمعنى: ولك أنك لا تظمأ فيها. الباقون بالكسر على الاستئناف، أو على العطف على " إن لك " (1). قوله تعالى: فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120) فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى (121) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) (1) في الاصول في هذه الآية مسألتان ولكن المثبت مسألة واحدة. ولعل الثانية هي القراءة. (*)
[ 255 ]
قوله تعالى: (فوسوس إليه الشيطان) تقدم في (الاعراف) (1). (قال) يعني الشيطان: (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) وهذا يدل على المشافهة، وأنه دخل الجنة في جوف الحية على ما تقدم في (البقرة) (2) بيانه، وتقدم هناك تعيين الشجرة، وما للعلماء فيها فلا معنى للاعادة. (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) تقدم في (الاعراف) (1) مستوفى. وقال الفراء: " وطفقا " في العربية أقبلا، قال وقيل: جعل يلصقان عليهما ورق التين. قوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وعصى) تقدم في (البقرة) (2) القول في ذنوب الانبياء. وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الامور التي وقعت منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفى حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالامن والامان والسلامة. قال: وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الابرار سيئات المقربين، فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم (3)، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليه وسلامه. الثانية - قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لاحد منا اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيه، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل (1) راجع ج 7 ص 177 وص 180. (2) راجع ج 1 ص 308 فما بعد وص 305. (3) في ب وج وز وط: رتبهم. (*)
[ 256 ]
نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الادنين إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الاقدم الاعظم الاكرم النبي المقدم، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له. قلت: وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز، فالاخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والاصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع، وأنه لا يجوز الابتداء بشئ من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله، ولهذا قال الامام مالك بن أنس رضي الله عنه: من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة " (1) [ المائدة 64 ] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه، لانه شبه الله تعالى بنفسه. الثالثة - روى الائمة واللفظ [ المسلم ] (2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال [ له ] (3) آدم يا موسى أصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا " (4) قال المهلب قوله: " فحج آدم موسى " أي غلبه بالحجة. قال الليث بن سعد: إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له، ولذلك قال آدم: أنت موسى الذي آتاك الله التوراة، وفيها علم كل شئ، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر على التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن عثمان فر يوم أحد، فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب لان الله تعالى قد عفا عنه بقوله: " ولقد عفا الله عنهم " (5) [ آل عمران: 155 ]. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره، فإن الله تبارك وتعالى يقول في الابوين الكافرين: " وصاحبهما في الدنيا معروفا " (6) [ لقمان: 15 ] ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال له أبوه وهو كافر: " لئن لم تنته لارجمنك وأهجرني مليا. قال سلام عليك " (7) [ مريم: 46 ] فكيف بأب هو نبي قد أجتباه ربه وتاب عليه وهدى. (1) راجع ج 6 ص 238. (2) في الاصول: اللفظ للبخاري. والتصويب عن صحيح مسلم. (3) من ب وج وك. (4) ثلاثا: أي قال النبي صلى الله عليه وسلم (فحج آدم موسى) ثلاث مرات. (5) راجع ج 4 ص 243. (6) راجع ج 14 ص 63. (7) راجع ص 111 من هذا الجزء. (*)
[ 257 ]
الرابعة - وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله على ذلك، والامة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسئ على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه. الخامسة - قوله تعالى: " فغوى " أي ففسد عليه عيشه، حكاه النقاش وأختاره القشيري. وسمعت شيخنا الاستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقول: " فغوى " ففسد عيشه بنزوله إلى الدنيا، والغي الفساد، وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول: " فغوى " معناه ضل، من الغي الذي هو ضد الرشد. وقيل: معناه جهل موضع رشده، أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهى عنها، والغي الجهل. وعن بعضهم " فغوى " فبشم من كثرة الاكل، الزمخشري: وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا، فيقول في فنى وبقى: فنى وبقى وهم بنو طي - تفسير خبيث. السادسة - قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال: عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو كما أن من خاط مرة يقال له: خاط ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة. وقيل: يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه، وهذا تكلف، وما أضيف من هذا إلى الانبياء فإما أن تكون صغائر، أو ترك الاولى، أو قبل النبوة. قلت: هذا حسن. قال الامام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى: كان هذا من آدم قبل النبوة، ودليل ذلك قوله تعالى: " ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا، لان قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الاداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب. وهذا نفيس والله أعلم. قوله تعالى: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)
[ 258 ]
قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أئتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (127) قوله تعالى: (قال أهبطا منها جميعا) خطاب آدم وإبليس. " منها " أي من الجنة. وقد قال لابليس: " أخرج منها مذءوما مدحورا " [ الاعراف 18 ] فلعله أخرج من الجنة إلى موضع من السماء، ثم أهبط إلى الارض. (بعضكم لبعض عدو) تقدم في (البقرة) (1) أي أنت عدو للحية ولابليس وهما عدوان لك. وهذا يدل على أن قوله: " اهبطا " ليس خطابا لآدم وحواء، لانهما ما كانا متعاديين، وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. (فأما يأتينكم منى هدى) أي رشدا وقولا حقا. وقد تقدم في (البقرة) (1). (فمن تبع هداى) يعني الرسل والكتب. (فلا يضل ولا يشقى) قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية. وعنه: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية. (ومن أعرض عن ذكرى) أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه. وقيل: عما أنزلت من الدلائل. ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول، لانه كان منه الذكر. (فإن له معيشة ضنكا) أي عيشا ضيقا، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث والجمع، قال عنترة: إن يلحقوا أكرر وإن يستحلموا * أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل وقال أيضا: إن المنية لو تمثل مثلت * مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل وقرئ: " ضنكى " على وزن فعلى: ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته، فصاحبه ينفق مما رزقه الله - عز وجل - بسماح وسهولة () راجع ج 1 ص 319 وص 328 فما بعد. (*)
[ 259 ]
ويعيش عيشا رافغا (1)، كما قال الله تعالى: " فلنحيينه حياة طيبة " (2) [ النحل 97 ]. والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح، الذي يقبض يده عن الانفاق، فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه، وكان في عيشة ضنك. وقال عكرمة: " ضنكا " كسبا حراما. الحسن: طعام الضريع والزقوم. وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر، قاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود، ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة "، قال أبو هريرة: يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، وهو المعيشة الضنك. (ونحشره يوم القيامة أعمى) قيل: أعمى في حال وبصيرا في حال، وقد تقدم في آخر " سبحان " (2) [ الاسراء 1 ] وقيل: أعمى عن الحجة، قاله مجاهد. وقيل: أعمى عن جهات الخير، لا يهتدي لشئ منها. وقيل: عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه، كالاعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. (قال رب لم حشرتني أعمى) أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. (وقد كنت بصيرا) أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له. وقال ابن عباس ومجاهد: أي " لم حشرتني أعمى " عن حجتي " وقد كنت بصيرا " أي عالما بحجتي، القشيري: وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا. (قال كذلك أتتك آياتنا) أي قال الله تعالى له " كذلك أتتك آياتنا " أي دلالاتنا (3) على وحدانيتنا وقدرتنا. (فنسيتها) أي تركتها ولم تنظر فيها، وأعرضت عنها. (وكذلك اليوم تنسى) أي تترك في العذاب، يريد جهنم. (وكذلك نجزى من أسرف) أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن، وعن النظر في المصنوعات، والتفكير فيها، وجاوز الحد في المعصية. (ولم يؤمن بآيات ربه) أي لم يصدق بها. (ولعذاب الآخرة أشد) أي أفظع من المعيشة الضنك، وعذاب القبر. (وأبقى) أي أدوم وأثبت، لانه لا ينقطع ولا ينقضى. (1) عيش أرفغ ورافغ ورفيغ. (2) راجع ج 10 ص 174 وص 333. (3) في ك: دلائلنا. (*)
[ 260 ]
قوله تعالى: أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لاولى النهى (128) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آنائ الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130) قوله تعالى: (أفلم يهد لهم) يريد أهل مكة، أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة، فيرون بلاد الامم الماضية، والقرون الخالية خاوية، أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلمي وغيرهما: " نهد لهم " بالنون وهي أبين. و " يهد " بالياء مشكل لاجل الفاعل، فقال الكوفيون: " كم " الفاعل، النحاس: وهذا خطأ لان " كم " استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها وقال الزجاج: المعنى أو لم يهد لهم الامر بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة " يهد " على الهدى، فالفاعل هو الهدى تقديره: أفلم يهد الهدى لهم. قال الزجاج: " كم " في موضع نصب ب‍ " - أهلكنا ". قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما) فيه تقديم وتأخير، أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما، قاله قتادة. واللزام الملازمة، أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. قال الزجاج: (وأجل مسمى) عطف على " كلمة ". قتادة: والمراد القيامة، وقاله القتبي وقيل: تأخيرهم إلى يوم بدر. قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون) أمره تعالى بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كذاب، إلى غير ذلك. والمعنى: لا تحفل بهم، فإن لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس منسوخا، إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقى المعظم منهم.
[ 261 ]
قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس) قال أكثر المتأولين: هذا إشارة إلى الصلوات الخمس " قبل طلوع الشمس " صلاة الصبح (وقبل غروبها) صلاة العصر (ومن آناء الليل) العتمة (وأطراف النهار) المغرب والظهر، لان الظهر في آخر طرف النهار الاول، وأول طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل: النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال، ولكل قسم طرفان، فعند الزوال طرفان، الآخر من القسم الاول والاول من القسم الآخر، فقال عن الطرفين أطرافا على نحو " فقد صغت قلوبكما " (1) [ التحريم: 4 ] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل. وقيل: النهار للجنس فلكل يوم طرف، وهو إلى جمع لانه يعود في كل نهار. و " آناء الليل " ساعاته وواحد الآناء إني وإنى وأنى. وقالت فرقة: المراد بالآية صلاة التطوع، قاله الحسن. قوله تعالى: (لعلك ترضى) بفتح التاء، أي لعلك تثاب على هذه الاعمال بما ترضى به. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم " ترضى " بضم التاء، أي لعلك تعطى ما يرضيك. قوله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (131) وأمر أهلك بالصلوة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (132) قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به) وقد تقدم معناه في (الحجر) (3). " أزواجا " مفعول ب‍ " - متعنا ". و " زهرة " نصب على الحال. وقال الزجاج: " زهرة " منصوبة بمعنى " متعنا " لان معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة، أو بفعل مضمر وهو " جعلنا " أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا، عن الزجاج أيضا. وقيل: هي بدل من الهاء في " به " على الموضع كما تقول: مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال، والعامل فيه " متعنا " قال: كما تقول مررت به المسكين، وقدره: متعناهم به زهرة في الحياة الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن ينتصب على المصدر مثل " صنع الله " و " وعد الله " وفيه (1) راجع ج 18 ص 188. (2) راجع ج 10 ص 56 فما بعد. (*)
[ 262 ]
نظر. والاحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة، كما قرئ: " ولا الليل سابق النهار " (1) بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وتكون " الحياة " مخفوضة على البدل من " ما " في قوله: " إلى ما متعنا به " فيكون التقدير: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون " زهرة " بدلا من " ما " على الموضع في قوله: " إلى ما متعنا " لان " لنفتنهم " متعلق ب‍ " - متعنا " و " زهرة الحياة الدنيا " يعني زينتها بالنبات. والزهرة، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء، قاله ابن عزيز. وقرأ عيسى بن عمر " زهرة " بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال: سراج زاهر أي له بريق. وزهر الاشجار ما يروق من ألوانها. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون أي نير اللون، يقال لكل شئ مستنير: زاهر، وهو أحسن الالوان. (لنفتنهم فيه) أي لنبتليهم. وقيل: لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا، ومعنى الآية: لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا، فإنه لا بقاء لها. " ولا تمدن " أبلغ من لا تنظرن، لان الذي يمد بصره، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه: مسألة: قال بعض الناس سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود، وقال قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلف عندنا بعض الذي يصلحه، فبعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال: لا، إلا برهن: قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: " والله إني لامين في السماء أمين في الارض ولو أسلفني أو باعني لاديت إليه اذهب بدرعي إليه " ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية: وهذا معترض أن يكون سببا، لان السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، لانه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت، وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى (1) راجع ج 15 ص 32 فما بعد. (*)
[ 263 ]
وبخهم على ترك الاعتبار بالامم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم، والصبر على أقوالهم، والاعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا، إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي. قلت: وكذلك ما روى عنه عليه السلام أنه مر بإبل بني المصطلق وقد عبست (1) في أبوالها [ وأبعارها ] (2) من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى، لقوله عز وجل: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " الآية. ثم سلاه فقال: " ورزق ربك خير وأبقى " أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى، لانه يبقى والدنيا تفنى. وقيل: يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم. قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة) أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها: وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عمومه جميع أمته، وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلى رضوان الله عليهما فيقول " الصلاة ". ويروى أن عروة بن الزبير رضى الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ " ولا تمدن عينيك " الآية إلى قوله: " وأبقى " ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله، ويصلي: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية. قوله تعالى: (لا نسئلك رزقا) أي لا نسئلك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق " (3) [ الذاريات 56 ]. قوله تعالى: (والعاقبة للتقوى) أي الجنة لاهل التقوى، يعني العاقبة المحمودة وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة، (1) عبست في أبوالها: هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها وذلك إنما يكون من الشحم. (2) الزيادة من (النهاية) لابن الاثير. (3) راجع ج 17 ص 55. (*)
[ 264 ]
قوله تعالى: وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الاولى (133) ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى (135) قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) يريد كفار مكة، أي لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري. أو بآية ظاهرة كالناقة والعصا. أو هلا يأتينا بالآيات التي نقترحها نحن كما أتى الانبياء من قبله: قال الله تعالى: (أو لم تأتيهم ما في الصحف الاولى) يريد التوراة والانجيل والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقرئ " الصحف " بالتخفيف. وقيل: أو لم تأتيهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة. وقيل: أو لم يأتهم إهلاكنا الامم الذين كفروا واقترحوا الآيات، فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم حال أولئك. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو ويعقوب وابن أبي إسحق وحفص: " أو لم تأتيهم " بالتاء لتأنيث البينة. الباقون بالياء لتقدم الفعل ولان البينة هي البيان والبرهان فردوه إلى المعنى، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الكسائي " أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الاولى " قال: ويجوز على هذا " بينة ما في الصحف الاولى ". قال النحاس إذا نونت " بينة " ورفعت جعلت " ما " بدلا منها وإذا نصبتها فعلى الحال، والمعنى: أو لم يأتهم ما في الصحف الاولى مبينا. قوله تعالى: (ولولا أهلكناهم بعذاب من قبله) أي من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن (لقالوا) أي يوم القيامة (ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) أي هلا أرسلت إلينا رسولا. (فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) وقرئ: " نذل ونخزى " على
[ 265 ]
ما لم يسم فاعله. وروى أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: (يقول الهالك في الفترة لم يأتنى كتاب ولا رسول - ثم تلا - " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا " - الآية - ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العمل فترفع لهم نار فيقول لهم ردوها وادخلوها - قال - فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل [ قال ] (1) فيقول الله تبارك وتعالى إياك عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم). ويروى موقوفا عن أبي سعيد قوله وفيه نظر وقد بيناه في كتاب " التذكرة " وبه احتج من قال: إن الاطفال وغيرهم يمتحنون في الآخرة. " فنتبع " نصب بجواب التخصيص. " آياتك " يريد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. " من قبل أن نذل " أي في العذاب " ونخزي " في جهنم، قاله ابن عباس. وقيل: " من قبل أن نذل " في الدنيا بالعذاب " ونخزى " في الآخرة بعذابها. (قل كل متربص) أي قل لهم يا محمد كل متربص، أي كل المؤمنين والكافرين منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر. (فتربصوا فستعلمون الصراط السوى ومن اهتدى) يريد الدين المستقيم والهدى والمعنى: فستعلمون بالنصر من اهتدى إلى دين الحق. وقيل: فستعلمون يوم القيامة من اهتدى إلى طريق الجنة. وفي هذا ضرب من الوعيد والتخويف والتهديد ختم به السورة. وقرئ " فسوف تعلمون ". قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره الزمخشري. و " من " في موضع رفع عند الزجاج. وقال الفراء: يجوز أن يكون في موضع نصب مثل. " والله يعلم المفسد من المصلح " (2). قال أبو إسحق: هذا خطأ، لان الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، و " من " ها هنا استفهام في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: فستعلمون أصحاب الصراط السوي نحن أم أنتم ؟. قال النحاس: والفراء يذهب إلى أن معنى. " من أصحاب الصراط السوي " من لم يضل وإلى أن معنى. " ومن اهتدى " من ضل ثم اهتدى. وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري " فسيعلمون من أصحاب (1) من ب وج وز وط وك وى. (2) راجع ج 3 ص 66. (*)
[ 266 ]
الصراط السوا " بتشديد الواو بعدها ألف التأنيث على فعلى بغير همزة، وتأنيث الصراط شاذ قليل، قال الله وتعالى: " اهدنا الصراط المستقيم " (1) [ الفاتحة: 6 ] فجاء مذكرا في هذا وفي غيره، وقد رد هذا أبو حاتم قال: إن كان من السوء وجب أن يقال السوءى وإن كان من السواء وجب أن يقال: السيا بكسر السين والاصل السويا. قال الزمخشري: وقرئ " السواء " بمعنى الوسط والعدل، أو المستوى. النحاس وجواز قراءة يحيى بن يعمر والجحدري أن يكون الاصل " السوءى " والساكن ليس بحاجز حصين، فكأنه قلب الهمزة ضمة فأبدل منها واوا كما يبدل منها ألف إذا انفتح ما قبلها. تمت والحمد لله وحده. سورة الانبياء مكية في قول الجميع وهي مائة واثنتا عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهو يلعبون (2) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3) قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم) قال عبد الله بن مسعود: الكهف ومريم وطه والانبياء من العتاق الاول، وهن من تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن ؟ فقال الآخر: نزل " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. " اقترب " أي قرب الوقت (1) راجع ج 1 ص 146 فما بعد. (*)
[ 267 ]
الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. " للناس " قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى: " إلا استمعوه وهم يلعبون " إلى قوله: " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ". وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، يدل على ذلك ما بعد من الآيات، ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضا قريبة بالاضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى. وقال الضحاك: معنى " اقترب للناس حسابهم " أي عذابهم يعني أهل مكة، لانهم استبطئوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس، لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوى به التأخير. (وهم في غفلة معرضون) ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما: " وهم غفلة معرضون " يعني بالدنيا عن الآخرة. الثاني - عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الواو عند سيبويه بمعنى " إذ " وهي التي يسميها النحويون واو الحال، كما قال الله تبارك وتعالى: " يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " (1) [ آل عمران: 154 ]. قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) " محدث " نعت ل‍ " - ذكر ". وأجاز الكسائي والفراء " محدثا " بمعنى ما يأتيهم محدثا، نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع محدث " على النعت للذكر، لانك لو حذفت " من " رفعت ذكرا، أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث، يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزله الله تعالى عليه في وقت بعد وقت، لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم به. وقال: " من ربهم " لان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره ذكر، وهو محدث، قال الله تعالى: " فذكر إنما أنت مذكر " (2) [ الغاشية: 21 ]. ويقال: فلان في مجلس (1) راجع ج 4 ص 242. (2) راجع ج 20 ص 37. (*)
[ 268 ]
الذكر. وقيل: الذكر الرسول نفسه، قاله الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية " هل هذا إلا بشر مثلكم " [ الانبياء: 3 ] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الاولين، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: " ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين " (1) [ القلم: 51 - 52 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال: " قد أنزل الله إليكم ذكرا (1). رسولا " [ الطلاق: 10 - 11 ]. " إلا استمعوه " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أو القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمته. " وهم يلعبون " الواو واو الحال يدل عليه " لاهية قلوبهم " ومعنى. " يلعبون " أي يلهون. وقيل: يشتغلون، فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم. الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله على الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما - بالدنيا لانها لعب، كما قال الله تعالى: " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " (2) [ محمد: 36 ]. الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل وقيل. يستمعون القرآن مستهزئين. قوله تعالى: (لاهية قلوبهم) أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم، من قول العرب: لهيت عن ذكر الشئ إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و " لاهية " نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الاعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله: " خاشعة أبصارهم " (1) [ القلم: 43 ] و " ودانية عليهم ظلالها " (3) [ الانسان: 14 ] و " لاهية قلوبهم " قال الشاعر: لعزة موحشا طلل * يلوح (4) كأنه خلل أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء " لاهية قلوبهم " بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما: الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى، إلا استمعوه لاهية قلوبهم. (وأسروا النجوى الذين ظلموا) أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال: " الذين ظلموا " أي الذين أشركوا، ف‍ " - الذين ظلموا " بدل من الواو في " أسروا " وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم، ولا يوقف على هذا (1) راجع ج 18 ص 255 فما بعد وص 297 (2) راجع ج 16 ص 257 (3) راجع ج 19 ص 136 (4) هو كثير عزة أي تلوح آثاره وتتبين تبين الوشى في خلل السيوف، وهي أغشية الاغماد واحدتها خلة. (*)
[ 269 ]
القول على " النجوى ". قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله فبنو بدل من الواو في انطلقوا. وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا: وقيل: على حذف القول، التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول، مثل " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " [ الرعد: 23 - 24 ]. واختار هذا القول النحاس، قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده " هل هذا إلا بشر مثلكم " [ الانبياء: 3 ]. وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا: وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم، ولا يوقف على هذا الوجه على " النجوى " ويوقف على الوجوه الثلاثة المتقدمة قبله، فهذه خمسة أقوال: وأجاز الاخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهو حسن، قال الله تعالى: " ثم عموا وصموا كثير منهم " (1) [ المائدة: 71 ]: وقال الشاعر: بك نال النضال دون المساعي * فاهتدين النبال للاغراض وقال آخر: (2) ولكن ديافي أبوه وأمه * بحوران يعصرن السليط أقاربه وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى. أبو عبيدة: " أسروا " هنا من الاضداد، فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه: قوله تعالى: (هل هذا إلا بشر مثلكم) أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشئ، يأكل الطعام، ويمشي في الاسواق كما تفعلون: وما علموا أن الله عز وجل بين أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم: (أفتأتون السحر) أي إن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر، فكيف تجيئون إليه وتتبعونه ؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما تناجوا به: و " السحر " في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة. (وأنتم تبصرون). [ قيل معناه (3) " وأنتم تبصرون " ] أنه إنسان مثلكم مثل: " وأنتم تعقلون " لان العقل البصر بالاشياء. وقيل: المعنى، أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر: وقيل: المعنى، أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق، ومعنى الكلام التوبيخ. (1) راجع ج 6 ص 247. (2) هو الفرزدق يهجو عمرو بن عفراء. ودياف: موضع بالجزيرة، وهم نبط الشام. والسليط، الزيت. (3) من ب وج وز وط وك وى. (*)
[ 270 ]
قوله تعالى: قال ربي يعلم القول في السماء والارض وهو السميع العليم (4) بل قالوا أضغاث أحلام بل أفتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الاولون (5) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون (6) قوله تعالى: (قل (1) ربي يعلم القول في السماء والارض) أي لا يخفي عليه شئ مما يقال في السماء والارض. وفي مصاحف أهل الكوفة " قال ربي " أي قال محمد ربي يعلم القول، أي هو عالم بما تناجيتم به. وقيل: إن القراءة الاولى أولي لانهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم هذا، قال النحاس: والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأنه قال كما أمر. قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام) قال الزجاج: أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام. وقال غيره: أي قالوا هو أخلاط كالاحلام المختلطة، أي أهاويل رآها في المنام، قال معناه مجاهد وقتادة، ومنه قول الشاعر: * كضغث حلم غر منه حالمه * وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة، وفيه قول الشاعر: أحاديث طسم أو سراب بفدفد * ترقرق للساري وأضغاث حالم وقال اليزيدي: الاضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في " يوسف " (2). فلما رأوا أن الامر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: (بل قالوا) ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: " بل هو شاعر " أي هم متحيرون لا يستقرون على شي: قالوا مرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر. وقيل: أي قال فريق إنه ساحر: وفريق إنه أضغاث أحلام، وفريق إنه أفتراه، وفريق إنه شاعر. والافتراء الاختلاق، وقد تقدم. (1) (قل) على الامر قراءة (نافع). (2) راجع ج 9 ص 200 فما بعد. (*)
[ 271 ]
(فليأتنا بآية كما أرسل الاولون) أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن يأتي بآية نقترحها، ولم يكن لهم الاقتراح بعدما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها، ولو أبرأ الاكمه والابرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لاعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل: " ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " (1) [ الانفال: 23 ]. قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية) قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. (أهلكناها) يريد كان في علمنا هلاكها: (أفهم يؤمنون) يريد يصدقون، أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا، لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا، وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن: و " من " زائدة في قوله: " من قرية " كقوله: " فما منكم من أحد عنه حاجزين " (2) [ الحاقة: 47 ]: قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن تشاء وأهلكنا المسرفين (9) لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (10) قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى (3) إليهم) هذا رد عليهم في قولهم: " هل هذا إلا بشر مثلكم " [ الانبياء: 3 ] وتأنيس لنبيه صلى الله عليه وسلم، أي لم يرسل قبلك إلا رجالا. (1) راجع ج 7 ص 388. (2) راجع ج 18 ص 276. (3) (يوحى) بالياء قراءة نافع. (*)
[ 272 ]
(فأسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) يريد أهل التوراة والانجيل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قاله سفيان: وسماهم أهل الذكر، لانهم كانوا يذكرون خبر الانبياء مما لم تعرفه العرب: وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في آمر محمد صلى الله عليه وسلم: وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن، أي فاسئلوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر: وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر، فالمعنى لا تبدءوا بالانكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة، بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر: والملك لا يسمى رجلا، لان الرجل يقع على ماله ضد من لفظه تقول: رجل وامرأة، ورجل وصبي فقوله: " إلا رجالا " من بني آدم: وقرأ حفص وحمزة والكسائي: " نوحي إليهم ". مسألة - لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله عز وجل: " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وأجمعوا على أن الاعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا، لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم. قوله تعالى: (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) الضمير في " جعلناهم " للانبياء، أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب. - وما كانوا خالدين) يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم: " ما هذا إلا بشر مثلكم " [ المؤمنون: 33 ] وقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام " (1) [ الفرقان: 7 ]. و " جسدا " اسم جنس، ولهذا لم يقل أجسادا، وقيل: لم يقل أجسادا، لانه أراد وما جعلنا كل واحد منهم جسدا. والجسد البدن، تقول منه: تجسد كما تقول من الجسم تجسم. والجسد أيضا الزعفران أو نحوه من الصبغ، وهو الدم أيضا، قال النابغة: * وما أهريق على الانصاب من جسد (2) * (1) راجع ج 13 ص 4. (2) صدر البيت: * فلا لعمر الذي مسحت كعبته * أقسم بالله أولا ثم بالدماء التي كانت تصب في الجاهلية على الانصاب. (*)
[ 273 ]
وقال الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. قوله تعالى: (ثم صدقناهم الوعد) يعني الانبياء، أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. (ومن تشاء) أي الذين صدقوا الانبياء. (وأهلكنا المسرفين) أي المشركين. قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتابا) يعني القرآن. (فيه ذكركم) رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لانها نعت لكتاب، والمراد بالذكر هنا الشرف، أي فيه شرفكم، مثل " وإنه لذكر لك ولقومك " (1) [ الزخرف: 44 ]. ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل: (أفلا تعقلون). وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الاشياء التي ذكرناها ؟ ! وقال مجاهد: " فيه ذكركم " أي حديثكم. وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم. وقال سهل بن عبد الله: العمل بما فيه حياتكم. قلت: وهذه الاقوال بمعنى والاول يعمها، إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا صلى الله عليه وسلم، لانه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قوله عليه السلام: (القرآن حجة لك أو عليك). قوله تعالى: وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين (11) فلما أحسوا بأسنا أذا هم منها يركضون (12) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون (13) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين (14) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين (15) (1) راجع ج 16 ص 93 فما بعد. (*)
[ 274 ]
قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) يريد مدائن كانت باليمن. وقال أهل التفسير والاخبار: إنه أراد أهل حضور (1) وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن (2) كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين، لان قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرس في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن أيت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن أحمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق، كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معد وهو ابن اثنتى عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة، ثم إن بختنصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان - وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم انصرف راجعا إلى السواد. و " كم " في موضع نصب ب‍ " - قصمنا ". والقصم الكسر، يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعنى به هاهنا الاهلاك. وأما الفصم (بالفاء) فهو الصدع في الشئ من غير بينونة، قال الشاعر: (3) كأنه دملج من فضة نبه * في ملعب من عذاري الحي مفصوم ومنه الحديث (فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا). وقوله: " كان ظالمة " أي كافرة، يعني أهلها. والظلم وضع الشئ في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الايمان. (وأنشأنا) أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم (قوما آخرين). (فلما أحسوا) أي رأوا عذابنا، يقال: أحسست منه ضعفا. وقال الاخفش: " أحسوا " خافوا وتوقعوا. (إذا هم منها يركضون) أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطئ. والركض (1) وتروى حضوراء (بالالف الممدودة) وفي ح الجمل بوزن شكور. (2) كذا في الاصول: الاب ففيه ضئن كثير الملح صححه في الهامش. (3) هو ذو الرمة يذكر غزالا شبهه وهو نائم بدملج فضة قد طرح ونسى. ونبه: أي منسى نسيته العذارى في الملعب. (*)
[ 275 ]
تحريك الرجل، ومنه قوله تعالى: " اركض برجلك " (1) [ ص: 42 ] وركضت الفرس برجلي استحثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالاصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهو مركوض. (لا تركضوا) أي لا تفروا. وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: " لا تركضوا ". (وارجعوا إلى ما أترفتم فيه) أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم، يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: " وأترفناهم في الحياة الدنيا " (2) [ المؤمنون: 33 ]. (لعلكم تسألون) أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، استهزاء بهم، قاله قتادة. وقيل: المعنى " لعلكم تسئلون " عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل: المعنى " لعلكم تسئلون " أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم، قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. (قالوا يا ويلنا) لما قالت لهم الملائكة: " لا تركضوا " ونادت يا لثارات الانبياء ! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا " يا ويلنا إن كنا ظالمين " فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. (فما زالت تلك دعواهم) أي لم يزالوا يقولون: " يا ويلنا إنا كنا ظالمين ". (حتى جعلناهم حصيدا) أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، قاله مجاهد. وقال الحسن: أي بالعذاب. (خامدين) أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار. قوله تعالى: وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين (16) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (17) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (18) (1) راجع ج 15 ص 211. (2) راجع ج 12 ص 121 فما بعد. (*)
[ 276 ]
قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين) أي عبثا وباطلا، بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسئ والمحسن أي ما خلقنا السماء والارض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفى عن الحكيم ضده الحكمة. قوله تعالى: (لو أردنا أن نتخذ لهوا) لما أعتقد قوم أن له ولدا قال: " لو أردنا أن نتخذ لهوا " واللهو المرأة بلغة اليمن، قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جسرة - وجاء طاوس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: " لو أردنا أن نتخذ لهوا " - فقال: اللهو الزوجة، وقاله الحسن. وقال ابن عباس: اللهو الولد، وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع. قلت: ومنه قول امرئ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي وإنما سمي الجماع لهوا لانه ملهى للقلب، كما قال: (1) * وفيهن ملهى للصديق ومنظر * الجوهري - وقوله تعالى: " لو أردنا أن نتخذ لهوا " قالوا امرأة ويقال: ولدا. (لاتخذناه من لدنا) أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الارض. قيل: أراد الرد على من قال إن الاصنام بنات الله، أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصاري. (إن كنا فاعلين) قال قتادة ومقاتل وابن. جريج والحسن: المعنى ما كنا فاعلين، مثل " إن أنت إلا نذير " (2) [ فاطر: 23 ] أي ما أنت إلا نذير. و " إن " بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: " لاتخذناه من لدنا ". وقيل: إنه على معنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد، إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة (1) هو زهير بن أبي سلمى والبيت من معلقته وتمامه: * أنيق لعين الناظر المتوسم * (2) راجع ج 14 ص... (*)
[ 277 ]
ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم، لان الارادة قد تتعلق بالتبني فأما أتخاذ الولد فهو محال، والارادة لا تتعلق بالمستحيل، ذكره القشيري. قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل) القذف الرمي، أي نرمي بالحق على الباطل. (فيدمغه) أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة (1). والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد، قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي، والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. (فإذا هو زاهق) أي هالك وتالف، قاله قتادة. (ولكم الويل) أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الرب بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم، وقد تقدم (1). " مما تصفون " أي مما تكذبون، عن قتادة ومجاهد، نظيره: " سيجزيهم وصفهم " (2) [ الانعام: 139 ] أي بكذبهم. وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد. قوله تعالى: وله من في السموات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20) أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون (21) قوله تعالى: (وله من في السموات والارض) أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. (ومن عنده) يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. (لا يستكبرون) أي لا يأنفون (عن عبادته) والتذلل له. (ولا يستحسرون) أي يعيون، قاله قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالاعياء والتعب، [ يقال ]: حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، (1) راجع ج 2 ص 7 فما بعد. (2) راجع ج 7 ص 95 فما بعد. (*)
[ 278 ]
وأحسرته أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون. وقال أبو زيد: لا يكلون. وقيل: لا يفشلون، ذكره ابن الاعرابي، والمعنى واحد. (يسبحون الليل والنهار) أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. (لا يفترون) أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبد الله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح ؟ أما يشغلهم عنه شئ ؟ فقال: من هذا ؟ فقلت: من بني عبد المطلب، فضمني إليه وقال: يابن أخي هل يشغلك شئ عن النفس ؟ ! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم (1) والحمد لله. قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون) قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الاحياء. وقيل: " أم " بمعنى " هل " أي هل أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الارض يحيون الموتى. ولا تكون " أم " هنا بمعنى بل، لان ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر " أم " مع الاستفهام فتكون " أم " المنقطعة فيصح المعنى، قاله المبرد. وقيل: " أم " عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والارض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة ؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الارض يحيى الموتى فيكون موضع شبهة ؟. وقيل: " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " [ الانبياء: 10 ] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون " أم " متصلة. وقرأ الجمهور: " ينشرون " بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن: بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون. قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22) لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون (23) أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلى بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون (24) (1) راجع ج 1 ص 289 فما بعد. (*)
[ 279 ]
قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) أي لو كان في السموات والارضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه: " إلا " بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير، كما قال: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء: " إلا " هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير، لان أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا: وقيل: معنى " لفسدتا " أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. (فسبحان الله رب العرش عما يصفون) نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد. قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج المعنى. لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم، لانهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للالهية. وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى ؟ قال: أفيعصي ربنا قهرا ؟ قال: أرأيت إن منعني. الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء ؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ". وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لاطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه آلهة) أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الانشاء والاحياء، فتكون " أم " بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل: الاول احتجاج من حيث المعقول، لانه قال: " هم ينشرون " ويحيون الموتى، هيهات ! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من
[ 280 ]
هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا ؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الانبياء ؟ (هذا ذكر من معي) بإخلاص التوحيد في القرآن (وذكر من قبلي) في التوراة والانجيل، وما أنزل الله من الكتب، فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه ؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الاوامر والنواهي. وقال قتادة: الاشارة إلى القرآن، المعنى: " هذا ذكر من معي " بما يلزمهم من الحلال والحرام " وذكر من قبلي " من الامم ممن نجا بالايمان وهلك بالشرك. وقيل: " ذكر من معي " بما لهم من الثواب على الايمان والعقاب على الكفر. " وذكر من قبلي " من الامم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي أفعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة ابن مصرف قرأ " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي " بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحق الزجاج في هذه القراءة: المعنى، هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الانبياء من قبلي. (بل أكثرهم لا يعلمون الحق) وقرأ ابن محيص والحسن: " الحق " بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق وعلى هذا يوقف على " لا يعلمون " ولا يوقف عليه على قراءة النصب. (فهم معرضون) أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد. قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25) قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه) (1) وقرأ حفص وحمزة والكسائي: " نوحي إليه " بالنون، لقوله: " أرسلنا ". (أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) أي قلنا للجميع لا إله إلا الله، فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الانبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والانجيل والقرآن، وكل ذلك على الاخلاص والتوحيد. (1) (يوحى) بالياء قراءة (نافع). (*)
[ 281 ]
قوله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزى الظالمين (29) قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه) نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود - قال معمر في روايته - أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل: " سبحانه " تنزيها له. (بل عباد) أي بل هم عباد (مكرمون) أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان مال. (لا يسبقونه بالقول) أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. (وهم بأمره يعملون) أي بطاعته وأوامره. " يعلم ما بين أيديهم " أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، قال ابن عباس. وعنه أيضا: " ما بين أيديهم " الآخرة " وما خلفهم " الدنيا، ذكر الاول الثعلبي، والثاني القشيري. (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضا، فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الارض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. (وهم) يعني الملائكة (من خشيته) يعني من خوفه (مشفقون) أي خائفون لا يأمنون مكره.
[ 282 ]
قوله تعالى: (ومن يقل منهم إنى إله من دونه) قال قتادة والضحاك وغيرهما: عنى بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره. وقيل: الاشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل (نجزيه جهنم). وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء. وقد تقدم في " البقرة " (1). (كذلك نجزى الظالمين) أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الالوهية والعبادة في غير موضعهما. قوله تعالى: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون (30) وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون (31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32) هو الذى خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33) قوله تعالى: (أو لم ير الذين كفروا) قراءة العامة " أو لم " بالواو. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد " ألم تر " بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة. " أو لم ير " بمعنى يعلم. " الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا " قال الاخفش: " كانتا " لانهما صنفان، كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل: " إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا " (2) [ فاطر: 41 ] قال أبو إسحق: " كانتا " لانه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء، ولان السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الارضون. وقال: " رتقا " (1) راجع ج 3 ص 261 فما بعد. (2) راجع ج 14 ص 356. (*)
[ 283 ]
ولم يقل رتقين، لانه مصدر، والمعنى: كانتا ذواتي رتق. وقرأ الحسن: " رتقا " بفتح التاء. قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والارض بعضها على بعض ثم خلق ريحا بوسطها (1) ففتحها بها، وجعل السموات سبعا والارضين سبعا. وقول ثان قاله مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الارضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الاخبار له، عن إسمعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل: " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقاهما " قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والارض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن هذه سبع أرضين، خلق الارض العليا فجعل سكانها الجن والانس، وشق فيها الانهار وأنبت فيها الاثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، عرضها مسيرة خمسمائة عام، ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس، وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الارض إلى يأجوج ومأجوج، واسم تلك الارض الدكماء، ثم خلق الارض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الارض. الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لاهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة [ مثلها ] (2) في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لاهل النار. ثم خلق الله الارض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة سود بهم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم، فذلك قوله عز وجل: " وقودها الناس والحجارة " (3) [ البقرة: 24 ] ثم خلق الله الارض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم، فيها بابان اسم (1) في ب وج وك: توسطتها. (2) زيادة يقتضيها السياق. (3) راجع ج 18 ص 194. (*)
[ 284 ]
الواحد سجين و [ اسم ] (1) الآخر الفلق (1)، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار، وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الفلق (1) فهو مغلق لا يفتح إلى يوم القيامة. وقد مضى في " البقرة " (2) أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر " الطلاق " (3) زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وقول ثالث قاله عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقا لا تمطر، والارض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والارض بالنبات، نظيره قوله عز وجل: " والسماء ذات الرجع. والارض ذات الصدع " (4) [ الطارق: 11 - 12 ]. واختار هذا القول الطبري، لان بعده: " وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون ". قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة، ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية، ليدل على كمال قدرته، وعلى البعث والجزاء. وقيل: يهون عليهم إذا يغضبو * ن سخط العداة وإرغامها ورتق الفتوق وفتق الرتو * ق ونقض الامور وإبرامها وفي قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شئ حي) ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شئ من الماء، قاله قتادة. الثاني - حفظ حياة كل شئ بالماء. الثالث - وجعلنا من ماء الصلب كل شئ حي، قاله قطرب. " وجعلنا " بمعنى خلقنا. وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له من حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله ! إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شئ، قال: (كل شئ خلق من الماء) الحديث، قال أبو حاتم قول أبي هريرة: " أنبئني عن كل شئ " أراد به عن كل شئ خلق من الماء " والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال: (كل شئ خلق من الماء) وإن لم يكن مخلوقا. وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون السموات والارض رتقا. وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقوله: " وأوتيت من كل شئ " (5) [ النمل: 23 ] (1) من ب وج وز وك. (2) راجع ج 1 ص 258 فما بعد. (3) راجع ج 18 ص 174. (4) راجع ج 20 ص 10. (5) راجع ج 13 ص 184. (*)
[ 285 ]
وقوله: " تدمر كل شئ " (1) [ الاحقاف: 25 ] والصحيح العموم، لقوله عليه السلام: (كل شئ خلق من الماء) والله أعلم. (أفلا يؤمنون) أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكون كونه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا. قوله تعالى: (وجعلنا في الارض رواسي) أي جبالا ثوابت. (أن تميد بهم) أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها، قاله الكوفيون. وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد. والميد التحرك والدوران. يقال: ماد رأسه، أي دار. ومضى في " النحل " (2) مستوفي. (وجعلنا فيها فجاجا) يعني في الرواسي، عن ابن عباس. والفجاج المسالك. والفج الطريق الواسع بين الجبلين. وقيل: وجعلنا في الارض فجاجا أي مسالك، وهو اختيار الطبري، لقوله: (لعلهم يهتدون) أي يهتدون إلى السير في الارض. (سبلا) تفسير الفجاج، لان الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون. وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم. قوله تعالى: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الارض، دليله قوله تعالى: " ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه " (3) [ الحج: 65 ]. وقيل: محفوظا بالنجوم من الشياطين، قاله الفراء. دليله قوله تعالى: " وحفظناها من كل شيطان رجيم " (2) [ الحجر: 17 ]. وقيل: محفوظا من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة. وقيل: محفوظا فلا يحتاج إلى عماد. وقال مجاهد: مرفوعا. وقيل: محفوظا من الشرك والمعاصي. (وهم) يعني الكفار (عن آياتها معرضون) قال مجاهد: يعني الشمس والقمر. وأضاف الآيات إلى السماء لانها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى نفسه في مواضع، لانه الفاعل لها. بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى، إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا واحدا فيستحيل أن يكون له شريك. (1) راجع ج 16 ص 205 فما بعد. (2) راجع ج 10 ص 90 وص 10. (3) راجع ج 12 ص 92 فما بعد. (*)
[ 286 ]
قوله تعالى: (وهو الذى خلق الليل والنهار) ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم. (الشمس والقمر) أي وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، لتعلم الشهور والسنون والحساب، كما تقدم في " سبحان " (1) بيانه. (كل) يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار (في فلك يسبحون) أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: " والسابحات (2) سبحا " ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح. وفيه من النحو أنه لم يقل: يسبحن ولا تسبح، فمذهب سيبويه: أنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بالواو والنون ونحوه قال الفراء. وقد تقدم هذا المعنى في " يوسف " (3). وقال الكسائي: إنما قال: " يسبحون " لانه رأس آية، كما قال الله تعالى: " نحن جميع منتصر " (4) [ القمر: 44 ] ولم يقل منتصرون. وقيل: الجري للفلك فنسب إليها. والاصح أن السيارة تجري في الفلك، وهي سبعة أفلاك دون السموات المطبقة، التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت، فالقمر في الفلك الادنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري ثم زحل، والثامن فلك البروج، والتاسع الفلك الاعظم. والفلك واحد أفلاك النجوم. قال أبو عمرو: ويجوز أن يجمع على فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل، لاستدارتها. ومنه قيل: فلك ثدي المرأة تفليكا، وتفلك استدار. وفي حديث ابن مسعود: تركت فرسي كأنه يدور في فلك. كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الافلاك مجاري النجوم والشمس والقمر. قال: وهي بين السماء والارض. وقال قتادة: الفلك آستدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقال مجاهد: الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها. وقال الضحاك: فلكها مجراها وسرعة مسيرها. وقيل: الفلك موج مكفوف ومجرى الشمس والقمر فيه، والله أعلم. (1) راجع ج 10 ص 227 فما بعد. (2) راجع ج 19 ص 188. (3) راجع ج 9 ص 122. (4) راجع ج 17 ص 145. (*)
[ 287 ]
قوله تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35) قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) أي دوام البقاء في الدنيا نزلت حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان، فقال الله تعالى: قد مات الانبياء من قبلك، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك. (أفإن مت فهم الخالدون) أي أفهم، مثل قول الشاعر: (1) رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع * فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أي أهم ! فهو استفهام إنكار. وقال الفراء: جاء بالفاء ليدل على الشرط، لانه جواب قولهم سيموت. ويجوز أن يكون جئ بها، لان التقدير فيها: أفهم الخالدون إن مت ! قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، لان " هم " لا يتبين فيها الاعراب. أي إن مت فهم يموتون أيضا، فلا شماتة في الاماتة. وقرئ " مت " و " مت " بكسر الميم وضمها لغتان. قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) تقدم في (آل عمران) (2) (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) " فتنة " مصدر على غير اللفظ. أي نختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام، فننظر كيف شكركم وصبركم. (وإلينا ترجعون) أي للجزاء بالاعمال. قوله تعالى: وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذى يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36) (1) هو أبو خراش الهذلي ورفاه سكته من الرعب يقول: سكنوني. اعتبر بمشاهدة الوجوه وجعلها دليلا على ما في النفوس. (2) راجع ج 4 ص 297 فما بعدها. (*)
[ 288 ]
قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا) أي ما يتخذونك. والهزء السخرية، وقد تقدم. وهم المستهزئون المتقدمو الذكر في آخر سورة " الحجر " (1) في قوله: " إنا كفيناك المستهزئين " [ الحجر: 95 ]. كانوا يعيبون من جحد إلهية أصنامهم وهم جاحدون لالهية الرحمن، وهذا غاية الجهل (أهذا الذى) أي يقولون: أهذا الذي ؟ فأضمر القول وهو جواب " إذا " وقوله: " إن يتخذونك إلا هزوا " كلام معترض بين " إذا " وجوابه. (يذكركم آلهتكم) أي بالسوء والعيب. ومنه قول عنترة. لا تذكري مهري وما أطعمته * فيكون جلدك مثل جلد الاجرب (2) أي لا تعيبي مهري. (وهم بذكر الرحمن) أي بالقرآن. (هم كافرون) " هم " الثانية توكيد كفرهم، أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم بالكفر. قوله تعالى: خلق الانسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون (37) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40) قوله تعالى: (خلق الانسان من عجل) أي ركب على العجلة فخلق عجولا، كما قال الله تعالى: " الله الذي خلقكم من ضعف " (3) [ الروم: 54 ] أي خلق الانسان ضعيفا. ويقال: خلق الانسان من الشر أي شريرا إذا بالغت في وصفه به. ويقال: إنما أنت ذهاب ومجئ. أي ذاهب جائى. أي طبع الانسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الاشياء وإن كانت مضرة. ثم قيل: المراد بالانسان آدم عليه السلام. قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني (1) راجع ج 10 ص 62. (2) قاله لامرأة له من بجيلة كانت تلومه في فرس كان يؤثره على خيله ويطعمه ألبان إبله. (3) راجع ج 14 ص 46. (*)
[ 289 ]
آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله: " خلق الانسان من عجل ". وقيل: خلق آدم يوم الجمعة في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل، وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس، قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما. وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير. وأنشدوا: * والنخل ينبت بين الماء والعجل (1) * وقيل: المراد بالانسان الناس كلهم. وقيل المراد: النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار في تفسير ابن عباس، أي لا ينبغي لمن خلق من الطين الحقير أن يستهزئ بآيات الله ورسله. وقيل: إنه من المقلوب، أي خلق العجل من الانسان. وهو مذهب أبي عبيدة. النحاس: وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله، لان القلب إنما يقع في الشعر أضطرارا كما (2) قال: * كان الزناء فريضة الرجم * ونظيره (3) هذه الآية: " وكان الانسان عجولا " [ الاسراء: 11 ] وقد مضى في " سبحان " (3) [ الاسراء: 1 ]. (سأوريكم آياتى فلا تستعجلون) هذا يقوي القول الاول، وأن طبع الانسان العجلة، وأنه خلق خلقا لا يتمالك، كما قال عليه السلام حسب ما تقدم في " سبحان ". والمراد بالآيات ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات، وما جعله له من العاقبة المحمودة. وقيل: ما طلبوه من العذاب، فأرادوا الاستعجال وقالوا: " متى هذا الوعد " [ يونس: 48 ] ؟ وما علموا أن لكل شئ أجلا مضروبا. نزلت في النضر بن الحرث. وقوله: " إن كان هذا (4) هو الحق " [ الانفال: 32 ]. وقال الاخفش سعيد: معنى " خلق الانسان من عجل " أي قيل له كن فكان، فمعنى " فلا تستعجلون " على هذا القول أنه من يقول للشئ كن فيكون، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. (ويقولون متى هذا الوعد) أي الموعود، كما يقال: الله رجاؤنا أي مرجونا. وقيل: معنى " الوعد " هنا الوعيد، أي الذي يعدنا من العذاب. وقيل: القيامة. (إن كنتم صادقين) يا معشر المؤمنين. (1) صدر البيت: * والنبع في الصخرة الصماء منبته * (2) البيت: للجعدي وصدره: * كانت فريضة ما تقول كما * (3) في ب وج وط وك وى: نظير هذه الآية. راجع ج 10 ص 226. (4) راجع ج 7 ص 398. (*)
[ 290 ]
قوله تعالى: (لو يعلم الذين كفروا) العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا مثل " لا تعلمونهم (1) الله يعلمهم " [ الانفال: 60 ]. وجواب " لو " محذوف، أي لو علموا الوقت الذي (لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون) وعرفوه لما استعجلوا الوعيد. وقال الزجاج: أي لعلموا صدق الوعد. وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية. ودل عليه (بل تأتيهم بغتة) أي فجأة يعني القيامة. وقيل العقوبة. وقيل: النار فلا يتمكنون حيلة (فتبهتهم). قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله تعالى: " بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ". وقال الفراء: " فتبهتهم " أي تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشئ يحيره. وقيل: فتفجأهم. (فلا يستطيعون ردها) أي صرفها عن ظهورهم. (ولا هم ينظرون) أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار. قوله تعالى: ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (41) قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد استهزئ برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا. ثم وعده النصر فقال: (فحاق) أي أحاط ودار (بالذين) كفروا و (سخروا منهم) وهزءوا بهم (ما كانوا به يستهزئون) أي جزاء استهزائهم. قوله تعالى: قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (43) بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون (440)
[ 291 ]
قوله تعالى: (قل من يكلؤكم) يحرسكم ويحفظكم. والكلاءة الحراسة والحفظ، كلاه الله كلاء (بالكسر) أي حفظه وحرسه. يقال: آذهب في كلاءة الله، واكتلات منهم أي احترست، قال الشاعر هو ابن هرمة: إن سليمى والله يكلؤها * ضنت بشئ ما كان يرزؤها وقال آخر: (1) * أنخت بعيري واكتلات بعينه * وحكى الكسائي والفراء " قل من يكلوكم " بفتح اللام وإسكان الواو. وحكيا " من يكلاكم " على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة. فأما " يكلاكم " فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس: أحدهما: أن بدل الهمزة إنما يكون في الشعر. والثاني: أنهما يقولان في الماضي كليته. ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي. وتقديره: قل لا حافظ لكم (بالليل) إذا نمتم (و) ب‍ (بالنهار) إذا قمتم وتصرفتم في أموركم. (من الرحمن) أي من عذابه وبأسه، كقوله تعالى: " فمن ينصرني من الله " (2) [ هود: 63 ] أي من عذاب الله. والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع، أي إذا أقررتم بأنه الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه. (بل هم عن ذكر ربهم) أي عن القرآن. وقيل: عن مواعظ ربهم وقيل: عن معرفته. (معرضون) لا هون غافلون. قوله تعالى: (أم لهم آلهة) المعنى: ألهم والميم صلة. (تمنعهم من دوننا) أي من عذابنا. (لا يستطيعون) يعنى الذين زعم هؤلاء الكفار أنهم ينصرونهم لا يستطيعون (نصر أنفسهم) فكيف ينصرون عابديهم. (ولا هم منا يصحبون) قال ابن عباس: يمنعون. وعنه: يجارون، وهو اختيار الطبري. تقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه، قال الشاعر: ينادي بأعلى صوته متعوذا * ليصحب منها والرماح دواني (1) هو كعب بن زهير وعجزه. * وآمرت نفسي أي أمري أفعل * (2) راجع ج 9 ص 58 فما بعد. (*)
[ 292 ]
وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: " ينصرون " أي يحفظون. قتادة: أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبا لهم. قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم) قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها و (طال عليهم العمر) في النعمة فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبير حجج الله عز وجل. (أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها) أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا بعد أرض، وفتحها بلدا بعد بلد مما حول مكة، قال معناه الحسن وغيره. وقيل: بالقتل والسبي، حكاه (1) الكلبي. والمعنى واحد. وقد مضى في " الرعد " (2) الكلام في هذا مستوفى. (أفهم الغالبون) يعني كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم. قوله تعالى: قل إنما أنذركم بالوحى ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45) ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46) قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي) أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن. (ولا يسمع الصم الدعاء) أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميقع " ولا يسمع " بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله " الصم " رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمي أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحرث " ولا تسمع " بتاء مضمومة وكسر الميم " الصم " نصبا، أي إنك يا محمد " لا تسمع الصم الدعاء "، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال: وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز، لانه قد عرف المعنى. (1) في ج: (حكاه الثعلبي). (2) راجع ج 9 ص 333. (*)
[ 293 ]
قوله تعالى: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك) قال ابن عباس: طرف. قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شئ، مأخوذة من نفح المسك. قال: (1) وعمرة من سروات النساء * تنفح بالمسك أردانها ابن جريج: نصيب، كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال. قال الشاعر: (2) لما أتيتك أرجو فضل نائلكم * نفحتني نفحة طابت لها العرب أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة، فالمعنى ولئن مسهم أقل شئ من العذاب. (ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين) أي متعدين. فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف. قوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47) قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا) الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، كما قال: ملك تقوم الحادثات لعدله * فلكل حادثة لها ميزان ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكاني الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه: (إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف نادي الملك شقى فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا). وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال: (صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام) وقيل: للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين، فالجمع يرجع إليها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل وليس ثم (1) هو قيس بن الخطيم الانصاري. (2) هو للرماح بن ميادة مدح به الوليد بن يزيد بن عبد الملك. (*)
[ 294 ]
ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الاخبار وعليه السواد الاعظم القول الاول. وقد مضى في " الاعراف " (1) بيان هذا، وفي " الكهف " (2) أيضا. وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة " مستوفى والحمد لله. و " القسط " العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و " القسط " صفة الموازين ووحد لانه مصدر، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة " القصط " بالصاد. " ليوم القيامة " أي لاهل يوم القيامة. وقيل: المعنى في يوم القيامة. " فلا تظلم نفس شيئا " أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسئ. (وإن كان مثقال حبة من خردل) قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر " مثقال حبة " بالرفع هنا، وفي " لقمان " (3) على معنى إن وقع أو حضر، فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون " مثقال " بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشئ مثقال. ومثقال الشئ ميزانه من مثله. (أتينا بها) مقصورة الالف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحبة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال: " أتينا بها ". وقرأ مجاهد وعكرمة: " آتينا " بالمد على معنى جازينا بها. يقال: آتى يؤاتي مؤاتاة. (وكفى بنا حاسبين) أي مجازين (4) على ما قدموه من خير وشر. وقيل: " حاسبين " أي (5) لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم ؟ قال: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك [ إياهم ] (6) فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل) قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما تقرأ كتاب الله تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ") فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب. (1) راجع ج 7 ص 165. (2) راجع ج 10 ص 418. (3) راجع ج 14 ص 66 فما بعد. (4) كذا في الاصول. (5) كذا في ك. وفي غيرها من الاصول: إذ. (6) من ب وج وز وط وك. (*)
[ 295 ]
قوله تعالى: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون (50) قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء) وحكى عن ابن عباس وعكرمة " الفرقان ضياء " بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجئ بها واحد، كما قال الله عز وجل: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (1). وحفظا " [ الصافات: 6 - 7 ] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لان الواو تجئ لمعنى فلا تزاد. قال: وتفسير " الفرقان " التوراة، لان فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال: " وضياء " مثل " فيه هدى ونور " (2) وقال ابن زيد: " الفرقان " هنا هو النصر على الاعداء، دليله قوله تعالى: " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان " (3) [ الانفال: 41 ] يعني يوم بدر. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية، لدخول الواو في الضياء، فيكون معنى الآية: ولقد آتينا موسى وهرون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. (للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب) أي غائبين، لانهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الاعمال فهم يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس. (وهم من الساعة) أي من قيامها قبل التوبة. (مشفقون) أي خائفون وجلون. (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) يعني القرآن (أفأنتم له) يا معشر العرب (منكرون) وهو معجز لا تقدرون على الاتيان بمثله. وأجاز الفراء " وهذا ذكر مباركا أنزلناه " بمعنى أنزلناه مباركا قوله تعالى: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم (1) راجع ج 15 ص 64. (2) راجع ج 6 ص 208. (3) راجع ج ؟ ص 20. (*)
[ 296 ]
وآبائكم في ضلال مبين (54) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السموات والارض الذى فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (56) قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده) قال الفراء: أي أعطيناه هداه. (من قبل) أي من قبل النبوة، أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل: " من قبل " أي من قبل موسى وهرون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الاول أكثر أهل التفسير، كما قال ليحيى: " وآتيناه الحكم صبيا " (1) [ مريم: 12 ]. وقال القرظي: رشده صلاحه. (وكنا به عالمين) أي إنه أهل لايتاء الرشد وصالح للنبوة. قوله تعالى: (إذ قال لابيه) قيل: المعنى أي اذكر حين قال لابيه، فيكون الكلام قد تم عند قوله: " وكنا به عالمين ". وقيل: المعنى، " وكنا به عالمين إذ قال " فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله: " عالمين ". " لابيه " وهو آزر " وقومه " نمرود ومن اتبعه. (ما هذه التماثيل) أي الاصنام. والتمثال اسم موضوع للشئ المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى. يقال: مثلت الشئ بالشئ أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. (التي أنتم لها عاكفون) أي مقيمون على عبادتها. (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) أي نعبدها تقليدا لاسلافنا. (قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) أي في خسران بعبادتها، إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. (قالوا أجئتنا بالحق) أي أجاء أنت بحق فيما تقول ؟ (أم أنت من اللاعبين) أي لاعب مازح. (قال بل ربكم رب السموات والارض) أي لست بلاعب، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والارض. (الذى فطرهن) أي خلقهن وأبدعهن. (وأنا على ذلكم من الشاهدين) أي على أنه رب السموات والارض. والشاهد يبين الحكم، ومنه " شهد الله " (2) [ آل عمران: 18 ] بين الله، فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول. قوله تعالى: وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) فجعلهم جذذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58) (1) راجع ص 74 من هذا الجزء فما بعد. (2) راجع ج 4 ص 40 فما بعد. (*)
[ 297 ]
قوله تعالى: (وتالله لاكيدن اصنامكم) أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في " تالله " تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر: (1) تالله يبقى على الايام ذو حيد * بمشمخر به الظيان والآس وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لاكيدن أصنامكم، أي لامكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة، وربما سمى الحرب كيدا، يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شي تعالجه فأنت تكيده. (بعد أن تولوا مدبرين) أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لابراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روى ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في " والصافات " (2) - فقال إبراهيم في نفسه: " وتالله لاكيدن أصنامكم ". قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل واحد وهو الذي أفشاه عليه. والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره. ومثله " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل " (2) [ المنافقون: 8 ]. وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الذين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله: " إني سقيم " (2) [ الصافات: 89 ] أي ضعيف عن الحركة. قوله تعالى: (فجعلهم جذاذا) أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع، جذذت الشئ كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ، لانها تكسر. وقرأ الكسائي والاعمش وابن محيصن: " جذاذا " بكسر الجيم، أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر: جذذ الاصنام في محرابها * ذاك في الله العلي المقتدر (1) هو مالك بن خالد الخناعي الهذلي. وحيد هنا (كعنب): كل نتوء في الجبل. والمشمخر: الجبل العالي. والظبان: ياسمين البر. والمعنى: لا يبقى. (2) راجع ج 15 ص 94. (3) راجع ج 18 ص 129. (*)
[ 298 ]
الباقون بالضم، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [ مثل ] (1) الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال: " فجعلهم "، لان القوم اعتقدوا في أصنامهم الالهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال: " جذاذا " بفتح الجيم، والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى، حكاه قطرب. (إلا كبير لهم) أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الاكبر وعلق الفأس الذي كسر به الاصنام في عنقه، ليحتج به عليهم. (لعلهم إليه) أي إلى إبراهيم دينه " يرجعون " إذا قامت الحجة عليهم. وقيل: " لعلهم إليه " أي إلى الصنم الاكبر " يرجعون " في تكسيرها. قوله تعالى: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (61) قوله تعالى: (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث والانكار: " من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ". وقيل: " من " ليس استفهاما، بل هو ابتداء وخبره " لمن الظالمين " أي فاعل هذا ظالم. والاول أصح لقوله: (سمعنا فتى يذكرهم) وهذا هو جواب " من فعل هذا ". والضمير في " قالوا " للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى " يذكرهم " يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم، فقال الزجاج: يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم، فيكون [ خبر مبتدإ ] (2) محذوف، والجملة محكية. قال: ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمه بناء، وقام له مقام ما لم يسم فاعله. وقيل: رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ، [ وهذا ] (3) كما تقول (1) في الاصول: (أي) وهو تحريف. (2) في الاصول: (فيكون مبتدأ وخبره محذوف وهو تحريف. (3) من ب وج وز وط وك. (*)
[ 299 ]
زيد وزن فعل، أو زيد ثلاثة أحرف، فلم تدل بوجه الشخص، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة وعلى هذه الطريقة تقول: قلت إبراهيم، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام، فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال الاستاذ أبو الحجاج الاشبيلي الاعلم: هو رفع على الاهمال. قال ابن عطية: لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه، ذهب إلى رفعه بغير شئ، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس: ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ: " سمعنا فتى يذكرهم ". قوله تعالى: (قالوا فأتوا به على أعين الناس) فيه مسألة واحدة، وهي: أنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا: ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه (لعلهم يشهدون) عليه بما قال، ليكون ذلك حجة عليه. وقيل: " لعلهم يشهدون " عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما " يشهدون " بأنهم رأوه يكسر الاصنام، أو " لعلهم يشهدون " طعنه على آلهتهم ليعلموا أنه يستحق العقاب. قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم، لقوله تعالى: " فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " وهكذا الامر في شرعنا ولا خلاف فيه. قوله تعالى: قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (62) قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون (63) قوله تعالى (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) فيه أربع مسائل: الاولى - لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا ؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا: أأنت فعلت هذا بالآلهة ؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: " بل فعله كبيرهم هذا " أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو
[ 300 ]
ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين، تنبيها لهم على فساد آعتقادهم. كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله: " فاسألوهم إن كانوا ينطقون ". وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لانه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال إبراهيم لابيه: " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر " (1) [ مريم: 42 ] - الآية - فقال إبراهيم: " بل فعله كبيرهم هذا " ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم فلم تعبدونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الامة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه، فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه: " هذا ربي " (2) وهذه أختي و " إني سقيم " (3) و " بل فعله كبيرهم هذا " وقرأ ابن السميقع " بل فعله " بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي: الوقف عند قوله: " بل فعله " أي فعله من فعله، ثم يبتدئ " كبيرهم هذا ". وقيل: أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم ؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا، والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم. الثانية - روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي في شئ قط إلا في ثلاث: " إني سقيم " [ الصافات: 89 ] وقوله: لسارة أختي وقوله: " بل فعله كبيرهم ") لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ووقع في الاسراء في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب " هذا ربي ". فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول عليه السلام قد نفى تلك بقوله: (لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله: (1) راجع ص 110 من هذا الجزء. (2) راجع ج 7 ص 25. (3) راجع ج 15 ص 19 فما بعد. (*)
[ 301 ]
" إني سقيم " [ الصافات: 89 ] وقوله: " بل فعله كبيرهم " وواحدة في شأن سارة) الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب: " هذا ربي " [ الانعام: 78 ] كذبة وهي داخلة في الكذب، لانه - والله أعلم - كان حين قال ذلك في حال الطفولية، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الانكار، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيها على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في " الانعام " (1) مبينة والحمد لله. الثالثة - قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة عظمي تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: (لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قوله " إني سقيم " [ الصافات: 89 ] وقوله " بل فعله كبيرهم " ولم يعد [ قوله ] (2) هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لابراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله، وذلك لانه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال: " ألا لله الدين الخالص " [ الزمر: 3 ] (3). وهذا لو صدر منا لكان لله، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم. الرابعة - قال علماؤنا: الكذب هو الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه. والاظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات، لكنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة، فإن الانبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله، فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لامر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة، والقصة ولهذا جاء في حديث الشفاعة (إنما أتخذت خليلا من وراء وراء) بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا (1) راجع ج 7 ص 25 فما بعد. (2) الزيادة من (أحكام القرآن) لابن العربي. (3) راجع ج 15 ص 232 فما بعد. (*)
[ 302 ]
جاري بيت بيت. ووقع في بعض نسخ مسلم (من وراء من وراء) بإعادة من، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم، لانه قطع عن الاضافة ونوى المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف، لان ألفه للتأنيث، لانهم قالوا في تصغيرها وريية، قال الجوهري: وهي شاذة. فعلى هذا يصح الفتح فيهما مع وجود " من " فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (67) قوله تعالى: (فرجعوا إلى أنفسهم) أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه. (فقالوا إنكم أنتم الظالمون) أي بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس. قوله تعالى: (ثم نكسوا على رؤوسهم) أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم (1) فقالوا: " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " ف‍ " - قال " قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما يتقولون " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم " أي النتن لكم " ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ". وقيل، (نكسوا على رؤوسهم) أي طأطؤا رؤسهم خجلا من إبراهيم وفيه نظر لانه لم يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف بل قال " نكسوا على رؤوسهم " أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الامر وكذا قال ابن عباس قال: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم. (1) كذا في ب وج وز وى. وفي ا وط: عبادتهم. (*)
[ 303 ]
قوله تعالى: قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) قوله تعالى: (قالوا احرقوه) لما أنقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روى أن قائل هذه المقالة هو رجل من الاكراد من أعراب فارس، أي من باديتها، قاله ابن عمر ومجاهد وابن جريج. ويقال: اسمه هيزر (1) فخسف الله به الارض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: بل قاله ملكهم نمرود. (وانصروا آلهتكم) بتحريق إبراهيم لانه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر: أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحق: وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال: إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والارض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا ! إبراهيم ليس في الارض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى: " إن استغاث بشئ منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه " فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: " اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الارض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل ". وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك) قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال: " أما إليك فلا ". فقال جبريل: فاسأل ربك. فقال: " حسبي من سؤالي علمه بحالي ". فقال (1) وقيل: اسمه (هيزن) كما في تاريخ الطبري وتفسيره. وقيل: (هيون). (*)
[ 304 ]
الله تعالى وهو أصدق القائلين: (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل " بردا وسلاما " لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل " على إبراهيم " لكان بردها باقيا على الابد. وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية (1) من الجنة فبسطها في الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلامة. وقال على وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته. وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار، ثم جاءوا فإذا هو قائم يصلي. وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم: " ما كنت أياما قط أنعم مني في الايام التي كنت فيها في النار ". وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحماني: ألقى إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الاول الثعلبي، والثاني الماوردي، فالله أعلم. وقال الكلبي: بردت نيران الارض جميعا فما أنضجت كراعا، فرآه نمروذ من الصرح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال: نعم الرب ربك ! لاقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه. قوله تعالى: وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين (70) ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين (71) ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين (73) (1) الزربية: الطنفسة وقيل: البساط ذو الخمل وزايها مثلثة. (*)
[ 305 ]
قوله تعالى: (وأرادوا به كيدا) أي أراد نمروذ وأصحابه أن يمكروا به (فجعلناهم الاخسرين) [ أي ] (1) في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليطنا أضعف خلقنا. قال (2) ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمروذ حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوا من أربعمائة سنة. قوله تعالى: (ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين) يريد نجينا إبراهيم ولوطا إلى [ الارض ] (1) أرض الشام وكانا بالعراق. وكان [ إبراهيم ] (3) عليه السلام [ عمه لوط ] (4)، قاله ابن عباس. وقيل: لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها، ولانها معادن الانبياء. والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن عباس: الارض المباركة مكة. وقيل: بيت المقدس، لان منها بعث الله أكثر الانبياء، وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، ومنها يتفرق في الارض. قال أبو العالية: ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرق في الارض. ونحوه عن كعب الاحبار. وقيل: الارض المباركة مصر. قوله تعالى: (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة) أي زيادة، لانه دعا في إسحق وزيد يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة، أي زيادة على ما سأل، إذ قال: " رب هب لي من الصالحين " (5) [ الصافات: 100 ]. ويقال لولد الولد نافلة، لانه زيادة على الولد. (وكلا جعلنا صالحين) أي وكلا من إبراهيم وإسحق ويعقوب جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى. قوله تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات. ومعنى " بأمرنا " أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والامر والنهي، فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل: المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق، ودعائهم إلى التوحيد. (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) أي أن يفعلوا الطاعات. (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) أي مطيعين. (1) من ب وج وز وط وك وى. (2) سبق أن نبهنا على أن ابن عباس يكذب عليه بعض الرواة. (3) من ك. (4) كذا في ك. وفي غيرها من النسخ: لوط. وهو خطأ. (5) راجع ج 15 ص 97 فما بعد. (*)
[ 306 ]
قوله تعالى: ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75) قوله تعالى: (ولوطا آتيناه حكما وعلما) " لوطا " منصوب بفعل مضمر دل عليه الثاني، أي وآتينا لوط آتيناه. وقيل: أي واذكر لوطا. والحكم النبوة، والعلم المعرفة بأمر الدين وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل: " علما " فهما، والمعنى واحد. (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث) يريد سدوم. ابن عباس: كانت سبع قرى، قلب جبريل عليه السلام ستة وأبقي واحدة للوط وعياله، وهي زغر التي فيها الثمر من كورة فلسطين إلى حد الشراة (1)، ولها قرى كثيرة إلى حد بحر الحجاز (2). وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان: أحدهما: اللواط على ما تقدم. والثاني: الضراط، أي كانوا يتضارطون في ناديهم ومجالسهم. وقيل: الضراط وخذف (2) الحصي وسيأتي. (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله، والفسوق الخروج وقد تقدم. (وأدخلناه في رحمتنا) أي في النبوة. وقيل: في الاسلام. وقيل: الجنة. وقيل: عنى بالرحمة إنجاءه من قومه (إنه من الصالحين). قوله تعالى: ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77) قوله تعالى: (ونوحا إذ نادى من قبل) أي واذكر نوحا إذ نادى، أي دعا. " من قبل " أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه، وهو قوله: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " (4) [ نوح: 26 ] وقال لما كذبوه: " أني مغلوب فانتصر " (5) [ القمر: 10 ]. (فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) أي من الغرق. والكرب الغم الشديد " وأهله " أي المؤمنين منهم. (ونصرناه من (1) كذا في ب وز وك. وهو الاشبه. والشراة جبل بنجد لطيئ. وفي ا وج وط: السراة بالمهملة: جبل من عرفات إلى حد نجران. (2) في ك: نجد بالحجاز. (3) كذا في ك: وفي ب وج وز وط: حذف. بالمهملة. (4) راجع ج 18 ص 312. (5) راجع ج 17 ص 131. (*)
[ 307 ]
القوم الذين كذبوا بآياتنا) قال أبو عبيدة: " من " بمعنى على. وقيل: المعنى فانتقمنا له " من القوم الذين كذبوا بآياتنا ". " فأغرقناهم أجمعين " أي الصغير منهم والكبير. قوله تعالى: وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) فيه ست وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وداوود وسليمان إذ يحكمان) أي واذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله " إذ يحكمان " الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول، فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما حكم كل واحد منهما على انفراده، وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه: " في الحرث " اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعا، قاله قتادة. وقيل: كرما نبتت عناقيده، قال ابن مسعود وشريح (1). و " الحرث " يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة. الثانية - قوله تعالى: (إذ نفشت فيه غنم القوم) أي رعت فيه ليلا، والنفش الرعي بالليل. يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وإبل نفاش. وفي حديث عبد الله بن عمرو: الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشا، أي راعيا، حكاه الهروي. وقال ابن سيده: لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الابل: الثالثة - قوله تعالى: (وكنا لحكمهم شاهدين) دليل على أن أقل الجمع اثنان وقيل: المراد الحاكمان والمحكوم عليه، فلذلك قال " لحكمهم ". الرابعة - قوله تعالى: (ففهمناها سليمان) أي فهمناه القضية والحكومة، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها. وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أحرز أن يبقي [ ملك ] (2) كل واحد منهما على متاعه وتبقى نفسه طيبة بذلك، وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث. وقالت فرقة: بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم. (1) في ك: سعيد. (2) من ب وج وز وط وى. (*)
[ 308 ]
قال ابن عطية: فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة، فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود ؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث: فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي: فأتى أباه فقال: يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو ؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم [ فيه ] (1) في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه. فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان، قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. قال الكلبي: قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وهكذا قال النحاس، قال: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث، لان ثمنها كان قريبا منه. وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا. الخامسة - (وكلا آتينا حكما وعلما) تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في هذه النازلة، بل فيها أوتي الحكم والعلم. وحملوا قوله: " ففهمناها سليمان " على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسره زيادة ولده عليه. وقالت فرقة: بل لانه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة. وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام، ولا يمتنع وجود الغلط والخطإ من الانبياء كوجوده من غيرهم، لكن لا يقرون عليه، وإن أقر عليه غيرهم. ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت، فأجابه الوليد " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ". وقال قوم كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، (1) كذا في ك. وفي ب وج وز وط وى: عليه. (*)
[ 309 ]
وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا " ففهمناها سليمان " أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود، ولهذا قال: " وكلا آتينا حكما وعلما ". هذا قول جماعة من العلماء ومنهما ابن فورك. وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وهي: السادسة - واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الانبياء فمنعه قوم، وجوزه المحققون، لانه ليس فيه استحالة عقلية، لانه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الانبياء، كما لو قال له الرب سبحانه وتعالى: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الامة، فهذا غير مستحيل في العقل. فإن قيل: إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه. قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ، وعن الغلط، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك. كما ذهب الجمهور في أن جميع الانبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبو علي ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الانبياء أنه لم يكن بعده من يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بعث بعد غيره من الانبياء من يستدرك غلطه. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الانبياء، وأن نبينا وغيره من الانبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطإ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الانبياء. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها: (اعتدي حيث شئت) ثم قال لها: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله). وقال له رجل: أرأيت لو قتلت صبرا محتسبا أيحجزني عن الجنة شئ ؟ فقال: (لا) ثم دعاه فقال: (إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام). السابعة - قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده. وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذا
[ 310 ]
اختلفوا، فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، وقد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على البحث عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الاطلاق، وله أجران أجر في الاجتهاد وأجر في الاصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. وهذا سليمان قد صادف العين المطلوبة، وهي التي فهم. ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور. وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل (1) [ بل ] (1) وكل الامر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور ولم يتعبد بإصابة العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط. وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، المطلوب إنما هو الافضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الافضل في ظنه، والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه. ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس على " الموطأ "، فإذا قال عالم في أمر حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس. قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالاولى ليست بخطإ، وعلى هذا يحملون قوله عليه السلام: (إذا اجتهد العالم فأخطأ) أي فأخطأ الافضل. الثامنة - روى مسلم وغيره عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم (إذا حكم فاجتهد) فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والامر بالعكس، فإن الاجتهاد مقدم على الحكم، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالاجماع. وإنما معنى هذا الحديث: إذا أراد أن يحكم، كما قال: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ " (2) [ النحل: 98 ] فعند (1) في ج وز: دليلا بل. (2) راجع ج 10 ص 174. (*)
[ 311 ]
ذلك أراد أن يجتهد في النازلة. ويفيد هذا صحة ما قاله الاصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لامكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا، اللهم إلا أن يكون ذاكرا لاركان اجتهاده، مائلا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى. التاسعة - إنما يكون يكون الاجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضي لان اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الاثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر. يدل على ذلك حديثه الآخر، رواه أبو داود: (القضاة ثلاثة) الحديث. قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: " ففهمناها سليمان " الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود. العاشرة - ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين وليس ذلك في أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب، وليس الحق في جميع أقاويلهم. وهذا القول قيل: هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين. واحتج من قال هذا بحديث عبد الله بن عمرو، قالوا: وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا، قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشئ حلالا حراما، وواجبا ندبا. واحتج أهل المقالة الاولى بحديث ابن عمر. قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الاحزاب (ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال الآخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدا من الفريقين، قالوا: فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لانه غير آثم بل مأجور،
[ 312 ]
فاستغنى عن تعيينه. والله أعلم. ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة، وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية، والله الموفق للهداية. الحادية عشرة - ويتعلق بالآية فصل آخر: وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الاول، فإن داود عليه السلام فعل ذلك. وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى، فقال عبد الملك ومطرف في " الواضحة ": ذلك له ما دام في ولايته، فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك، وهو بمنزلة غيره من القضاة. وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في " المدونة ". وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك، وقاله ابن عبد الحكم. قالا: ويستأنف الحكم بما قوي عنده. قال سحنون: إلا أن يكون نسي الاقوى عنده في ذلك الوقت، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه، وأما وإن حكم بحكم هو الاقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الاول، قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال أشهب في كتاب ابن المواز إن كان رجوعه إلى الاصوب في مال فله نقض الاول، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه. قلت: رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا تبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى. وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما، رواها الدار قطني، وقد ذكرناها في " الاعراف " ولم يفصل، وهي الحجة لظاهر قول مالك. ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهو مردود، إن كان على وجه الاجتهاد، فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لان فيه مضرة عظمي من جهة نقض الاحكام، وتبديل الحلال بالحرام، وعدم ضبط قوانين الاسلام، ولم يتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر، وإنما كان يحكم بما ظهر له. الثانية عشرة - قال بعض الناس: إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غيره. وقال آخرون: لم يكن حكما وإنما كانت فتيا.
[ 313 ]
قلت: وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: " بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الاخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا - يرحمك الله - هو ابنها، فقضى به للصغرى، قال أبو هريرة: إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية، أخرجه مسلم. فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف، لانه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه حكم. وأما القول الآخر فيبعد، لانه تعالى قال: " إذ يحكمان في الحرث " فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم. وكذا قوله في الحديث: فقضى به للكبرى، يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه. ولقد أبعد من قال: إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى، لان الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لاجل ذلك. وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع. والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها. ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه، فيمكن أن الولد كان بيدها، وعلم عجز الاخرى عن إقامة البينة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث. وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد أختلاف الشرائع فيها. لا يقال: فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه، فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى، وهي أنه لما قال: هات السكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا، فظهر له من قرينه الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها. ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث " حكم الحاكم بعلمه ". وترجم له أيضا " السعة للحاكم أن يقول
[ 314 ]
للشئ الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق ". وترجم له أيضا " نقض الحاكم لا يحكم به غيره ممن هو مثله أو أجل منه ". ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك، فقضى بالولد للصغرى، ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه يحكم عليه بذلك الاقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الاول، لكن من باب تبدل الاحكام بحسب تبدل الاسباب. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه أن الانبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد، وقد ذكرناه. وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق، وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وفيه الحجة لمن يقول: إن الام تستلحق، وليس مشهور مذهب مالك، وليس هذا موضع ذكره. وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة (1) تضمنها مدحه تعالى له بقوله: " ففهمناها سليمان ". الثالثة عشرة - قد تقدم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا: أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار، ثم الضمان في المثل بالمثليات، وبالقيمة في ذوات القيم. والاصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به [ محمد ] (2) نبينا صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب. رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصه: أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن (3) على أهلها. هكذا رواه جميع الرواة مرسلا. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة، فذكر مثله بمعناه. ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم، مثل حديث مالك سواء، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره. قال أبو عمر: لم يصنع ابن أبي ذئب (1) في ك: القضية. (2) من ب وج وز وط وى. (3) ضامن بمعنى مضمون. (*)
[ 315 ]
شيئا، إلا أنه أفسد إسناده. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع (1) عبد الرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه. ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت، فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء. وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن محيصة، وعن سعيد ابن المسيب، وعن أبي أمامة - والله أعلم - فحدث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات. قال أبو عمر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الائمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث. الرابعة عشرة - ذهب مالك وجمهور الائمة إلى القول بحديث البراء، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شئ وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (جرح العجماء جبار) فقاس جميع أعمالها على جرحها. ويقال: أنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء، وكونه ناسخا لحديث البراء ومعارضا له، فإن النسخ شروطه معدومة، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث (العجماء جرحها جبار) عموم متفق عليه، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء، لان النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد: العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط والحرث، لم يكن هذا مستحيلا من القول، فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض ؟ ! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الاصول. الخامشة عشرة - إن قيل: ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار، وقد قال الليث بن سعد: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية ؟ قلنا: الفرق بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال (1) في ز: لم ينازع. (*)
[ 316 ]
مواشيهم ترعي بالنهار، والاغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع، لانه وقت التصرف في المعاش، كما قال الله سبحانه وتعالى: " وجعلنا النهار معاشا " (1) [ النبأ: 1 1 ] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شئ إلى موضعه وسكنه، كما قال الله تعالى: " من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه " (2) [ القصص: 72 ] وقال: " وجعل الليل سكنا " (3) [ الانعام: 96 ] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها، فإذا فرط صاحب الماشية في ردها إلى منزله، أو فرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئا فعليه ضمان ذلك، فجرى الحكم على الاوفق الاسمح، وكان ذلك أرفق بالفريقين وأسهل على الطائفتين، وأحفظ للمالين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ولكن لسليم الحاستين، وأما قول الليث: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية، فقد قال أبو عمر: لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته، وهذا ضعيف الوجه، كذا قال في " التمهيد " وقال في " الاستذكار ": فخالف الحديث في (العجماء جرحها جبار) وخالف ناقة البراء، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء. قال ابن جريج قلت لعطاء: الحرث الماشية ليلا أو نهارا ؟ قال: يضمن صاحبها ويغرم. قلت: كان عليه حظرا أو لم يكن ؟ قال نعم ! يغرم. قلت: ما يغرم ؟ قال: قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته. وقال معمر عن ابن شبرمة: يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما: يضمن رب الماشية ليلا أو نهارا، من طرق لا تصح. السادسة عشرة - قال مالك: ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف. قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس، والمحظر عليها وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ، وإن كان أكثر من قيمتها. قال: وإذا آنفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث، ذكره عنه ابن عبد الحكم. وقال ابن القاسم: ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها، (1) راجع ج 19 ص 170. (2) راجع ج 14 ص 308. (3) راجع ج 7 ص 44. (*)
[ 317 ]
وإن كان أضعاف ثمنها، لان الجناية من قبله إذ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد، حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم. السابعة عشرة - ولا يستأني بالزرع أن ينبت أو لا ينبت كما يفعل في سن الصغير. وقال عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه. وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه: وإن لم يبد صلاحه. ابن العربي: والاول أقوى لانها صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته. الثامنة عشرة - لو لم يقض للمفسد له بشئ حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعى أوشى ضمن تلك المنفعة، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان. وقال أصبغ: يضمن، لان التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به. التاسعة عشرة - وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار، كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعد، لانها ولا بد تفسد. وهذا جنوح إلى قول الليث. الموفية عشرين - قال أصبغ في المدينة: ليس لاهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد، فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع، أو بقعة سرح، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تحتاج، وعلى أربابها حفظها، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا، وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حرثه فيها حفظه، ولا شئ على أرباب المواشي. الحادية والعشرون - المواشي على قسمين: ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك. فالضواري هي المعتادة للزرع (1) والثمار، فقال مالك: تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه، رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن حبيب: وإن كره ذلك ربها، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع: تغرب وتباع. وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه. (1) في ك: الزروع. (*)
[ 318 ]
الثانية والعشرون - قال أصبغ: النحل والحمام والاوز والدجاج كالماشية، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن [ ضريت ] (1)، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم. قال ابن العربي: وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها. من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه. قال عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم. ابن العربي: وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري. الثالثة والعشرون - ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شريح، فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا، ففعل. ثم قال: إن كان بالليل ضمن وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح " إذ نفشت فيه غنم القوم " قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار. قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) الحديث. وقال ابن شهاب: والجبار الهدر، والعجماء البهيمة، قال علماؤنا: ظاهر قوله: (العجماء جرحها جبار) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شئ، وهذا مجمع عليه. فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شئ فأتلفته لزمه حكم المتلف، فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه، لان الدابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الاموال الغرامة في مال الجاني. الرابعة والعشرون - واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمن مالك والليث والاوزاعي صاحبها، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه. الخامسة والعشرون - روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجل جبار) قال الدار قطني: لم يروه (1) في ا وب وج وح وز وط وك: (أضرت) والتصويب من (الموطأ). (*)
[ 319 ]
غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا: (العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار) ولم يذكروا الرجل وهو الصواب. وكذلك رواه أبو صالح السمان، وعبد الرحمن الاعرج، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة، ولم يذكروا فيه (والرجل جبار) وهو المحفوظ عن أبي هريرة. السادسة والعشرون - قوله: (والبئر جبار) قد روى موضعه (والنار جبار) قال الدار قطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحق قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبد الرزاق: حديث أبي هريرة (والنار جبار) ليس بشئ لم يكن في الكتاب باطل ليس هو بصحيح. حدثنا محمد بن مخلد حدثنا أبو إسحق (1) إبراهيم بن هانئ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير، يعني مثل ذلك. وإنما لقن عبد الرزاق (النار جبار). وقال الرمادي: قال عبد الرزاق قال معمر لا أراه إلا وهما. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النار جبار) وقال يحيي بن معين: أصله البئر ولكن معمرا صحفه قال أبو عمر: لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبد العزيز بن حصين عن يحيى بن يحيى الغساني قال: أحرق رجل سافي قراح (2) له فخرجت شرارة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره. قال: فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار) وأرى أن النار جبار. وقد روي (والسائمة جبار) بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه. قوله تعالى: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن) قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. وقيل: كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت (1) كذا في ب وج وز وط وك. وكذا في التهذيب. (2) قراح: مزرعة. (*)
[ 320 ]
حتى يشتاق، ولهذا قال: " وسخرنا " أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة، دليله قوله تعالى: " يا جبال أوبى معه " (1) [ سبأ: 10 ]. وقال قتادة: " يسبحن " يصلين معه إذا صلى، والتسبيح الصلاة. وكل محتمل. وذلك فعل الله تعالى بها، ذلك لان الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين. قوله تعالى: وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم) يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. قال الهذلي (2) يصف رمحا: ومعي لبوس للبئيس كأنه * روق بجبهة ذي نعاج مجفل واللبوس كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت: (3) ألبس لكل حالة لبوسها * إما نعيمها وإما بوسها وأراد الله تعالى هنا الدرع، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب. قال قتادة: أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها. الثانية - قوله تعالى: (ليحصنكم) (4) ليحرزكم. (من بأسكم) أي من حربكم. وقيل: من السيف والسهم والرمح، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس: " من بأسكم " من سلاحكم. الضحاك: من حرب أعدائكم. والمعنى واحد. وقرأ الحسن (1) راجع ج 14 ص 264 فما بعد. (2) هو أبو كبير الهذلي واسمه عامر بن الحليم ؟ ؟ من قصيدة أولها: أزهير هل عن شيبة من معدل * أم لا سبيل إلى الشباب الاول والبئيس: الشجاع. والروق: القرن. وذو نعاج: يعني ثورا والنعاج: البقر من الوحش. (3) البيت لبيهس الفزاري. (4) (ليحصنكم) بالياء قراءة نافع. (*)
[ 321 ]
وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح " لتحصنكم " بالتاء ردا على الصنعة (1). وقيل: على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحق: " لنحصنكم " بالنون لقوله: " وعلمناه " وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس، أو يكون المعنى ليحصنكم الله. (فهل أنتم شاكرون) أي على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل: " هل أنتم شاكرون " بأن تطيعوا رسولي. الثالثة - هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والاسباب، وهو قول أهل العقول والالباب، لا قول الجهلة الاغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا ولقمان خياطا، وطالوت دباغا. وقيل: سقاء، فالصنعة يكف بها الانسان نفسه عن الناس، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس. وفي الحديث: " إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف ". وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الفرقان " (2). وقد تقدم في غير ما آية، وفيه كفاية والحمد لله. قوله تعالى: ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين (81) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82) قوله تعالى: (ولسيلمان الريح عاصفة) أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، أي شديدة الهبوب. يقال منه: عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني أسد: أعصفت الريح فهي معصف ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح، (1) كذا في ب وج وز وط وك وى، وهو الصواب. (2) راجع ج 13 ص 12 فما بعد وص 72. (*)
[ 322 ]
لانها تعصفه بشدة تطيرها. وقرأ عبد الرحمن الاعرج والسلمي وأبو بكر " ولسليمان الريح " برفع الحاء على القطع مما قبله، والمعنى ولسليمان تسخير الريح، ابتداء وخبر. (تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها) يعني الشام. يروي أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم ترده إلى الشام. وقال وهب: كان سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والانس حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء لا يقعد عن الغزو، فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب فمدت ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب، ثم أمر العاصف فأقلت ذلك، ثم أمر الرخاء فمرت (1) به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه، وهو معنى قوله تعالى: " تجري بأمره رخاء حيث أصاب " (2) [ ص: 36 ]. والرخاء اللينة. (وكنا بكل شئ عالمين) أي بكل شئ عملنا عالمين بتدبيره. قوله تعالى: (ومن الشياطين من يغوصون له) أي وسخرنا له من يغوصون، يريد تحت الماء. أي يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء، وقد غاص في الماء، والهاجم على الشئ غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ، وفعله الغياصة. (ويعملون عملا دون ذلك) أي سوى ذلك من الغوص، قاله الفراء. وقيل: يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك مما يسخرهم فيه. (وكنا لهم حافظين) أي لاعمالهم. وقال الفراء: حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم، أو يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل: " حافظين " من أن يهربوا أو يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل: إن الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون من استخراج الشياطين. قوله تعالى: وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84) (1) في ك: فمدت. (2) راجع ج 15 ص 198 فما بعد. (*)
[ 323 ]
قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه) أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. (أني مسنى الضر) أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لانه آب إلى الله تعالى في كل حال. وروى أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يكفل الايتام والارامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرا لانعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب ماله وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له: " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " [ ص: 42 ] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في " ص " (1) ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب: " مسنى الضر " على خمسة عشر قولا: الاول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال: " مسني الضر " إخبارا عن حاله، لا شكوى لبلائه، رواه أنس مرفوعا. الثاني - أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر. الثالث - أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لاهل البلاء بعده في الافصاح بما ينزل بهم. الرابع - أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس - أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال: " مسني الضر ". وهذا قول جعفر بن محمد. السادس - أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حاله إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر، فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم، قاله ابن العربي. السابع - أن دودة سقطت (2) من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح " مسني الضر " فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدا (1) راجع ج 15 ص 207. (2) في ك: سقطت من جلده فطلبها ليردها فلم يجدها. فسيأتي. (*)
[ 324 ]
مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن - أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: " مسني الضر " لاشتغاله عن ذكر الله. قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة. التاسع - أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال: " مسني الضر " أي ضر الاشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي: وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر - أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال: " مسني الضر ". قال ابن العربي: وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر - أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الايمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل. الثاني عشر - لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضربنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد، فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه، فقال: " مسنى الضر ". الثالث عشر: قال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لايوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا البلاء، فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة، فعند ذلك قال: " مسني الضر " ثم قال: " اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني " فنادى مناد من السماء " أن صدق عبدي " وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر - أن معنى: " مسني الضر " من شماتة الاعداء، ولهذا قيل له: ما كان أشد عليك في بلائك ؟ قال شماتة الاعداء. قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال: " إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الاعداء " (1) [ الاعراف: 150 ]. الخامس عشر - أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لاحد بسببه (1) راجع ج 7 ص 286 فما بعد. (*)
[ 325 ]
ما تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن يصلها قوتا وجاءت به إليه، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال: " مسنى الضر ". وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس (1) [ لعنه الله ] (2) في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها، فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب. قلت: وقول سادس عشر - ذكره ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما أيوب النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء، الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الاهل والمال وفي جسدك منذ ثمانية عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه ! فقال أيوب عليه السلام: " ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق " فنادى ربه " أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث. وقول سابع عشر - سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال: " مسني الضر " لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقى له الاجر موفرا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء: ولم يكن قوله " مسني الضر " جزعا، لان الله تعالى قال: " إنا وجدناه صابرا " (3) [ ص: 44 ] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم ابن حبيب يقول حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والادباء في دار السلطان، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى: " إنا وجدناه صابرا " [ ص: 44 ] (1) في ج: الشيطان. (2) من ك. (3) راجع ج 15 ص 212 فما بعد. (*)
[ 326 ]
فقلت: ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء، بيانه (فاستجبنا له) والاجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال. (1) قوله تعالى: (فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قال مجاهد وعكرمة: قيل لايوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والاسناد عنهما بذلك صحيح. قلت: وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك: قال عبد الله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا: كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقاله قتادة وكعب الاحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الاناث فلما عوفي نشروا له، وولدت [ له ] (2) امرأته سبعة بنين وسبع بنات. [ قال ] (2) الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية. قلت: لانهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة " البقرة " (3) في قصة " الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " [ البقرة: 243 ]. وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا (4)، وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى: " وآتيناه أهله " في الآخرة " ومثلهم معهم " في الدنيا. وفي الخبر: إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الارض ركضة فظهرت عين ماء حار (5)، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل: أشبعت ؟ فقال: ومن (1) في ك: كريم النوال. (2) من ب وج وز وط وك. (3) راجع ج 3 ص 230. (4) راجع ج 1 ص 404 وج 7 ص 295. (5) في ج: جار. (*)
[ 327 ]
يشبع من فضل الله !. فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. (رحمة من عندنا) أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا. وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. (وذكرى للعابدين) أي وتذكيرا للعباد، لانهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء، فقال ابن عباس: كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب: ثلاثين سنة. الحسن: سبع سنين وستة أشهر. قلت: وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة، رواه ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن المبارك وقد تقدم. قوله تعالى: وإسمعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين (85) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86) قوله تعالى: (وإسمعيل وإدريس) وهو أخنوخ وقد تقدم (وذا الكفل) أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في " نوادر الاصول " وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع (1) من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا [ على أن يطأها ] (2) فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل) وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا. ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع مرات - [ لم أحدث به ] (3) ولكني سمعته أكثر من ذلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان (1) في ج وز وك وى. (2) من ب. (3) الزيادة من صحيح الترمذي. (*)
[ 328 ]
ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصى الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل) قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلا على الناس حتى أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وألا يغضب وهو يقضى ؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا، فرده ثم قال مثلها من الغد، فقال الرجل: أنا، فاستخلفه فوفى فأثنى الله عليه فسمى ذا الكفل، لانه تكفل بأمر، قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمر (1) بن عبد الرحمن بن الحرث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلى لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه. وقال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الاسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي ؟ قال: الجنة - ووصفها له - قال: من يتكفل لي بذلك ؟ قال: أنا، فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان، فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الايمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فآمنوا كلهم فسمى ذا الكفل. وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل: سمى ذا الكفل لان الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الانبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس. وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. (كل من الصابرين) أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. (وأدخلناهم في رحمتنا) أي في الجنة (إنهم من الصالحين). (1) في الاصول: عمرو بن عبد الله. والتصويب من التهذيب. (*)
[ 329 ]
قوله تعالى: وذا النون إن ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين (87) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88) قوله تعالى: (وذا النون) أي واذكر " ذا النون " وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الاعرابي: النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا. (إن ذهب مغاضبا) قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصى. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشه: (اشترطي لهم الولاء) من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع (1) تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضى الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه نزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم، فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن: أمره الله تعالى بالمسير إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الامر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول. وقول (1) الربع: ما ولد من الابل في الربيع. (*)
[ 330 ]
النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه. وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي معناه عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة، ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: " ولا تكن كصاحب الحوت " (1) [ القلم: 48 ]. وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه، لان قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الاخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذى كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الانبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والامر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك ؟ قال: لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي والملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان، فابتلى ببطن الحوت لتركه أمر شعيا، ولهذا قال الله تعالى: " فالتقمه الحوت وهو مليم " (2) [ الصافات: 142 ] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الاولى. وقيل: خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى، ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك، فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري: والاظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم، فإنه كره رفع العذاب عنهم. (1) راجع ج 18 ص 253. (2) راجع ج 15 ص 121. (*)
[ 331 ]
قلت: هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في " والصافات " (1) إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق ؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وأبتلى ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد: " حتى إذا فشلتم " [ آل عمران: 152 ] إلى قوله: " وليمحص الله الذين آمنوا " (2) [ آل عمران: 141 ] فمعاصي الانبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد، فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج آبقا. وينشد هذا البيت: * وأغضب أن تهجي تميم بدارم * أي آنف. وهذا فيه نظر، فإنه يقال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الانفة، فالانفة لابد أن يخالطها الغضب وذلك الغضب وإن دق على من كان ؟ ! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه ! قوله تعالى: (فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات) قيل: معناه استزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه، لانه كفر. روى عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن. وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. قال الحسن: هو من قوله تعالى: " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " (3) [ الرعد: 26 ] أي يضيق. وقوله " ومن قدر عليه رزقه " (4) [ الطلاق: 7 ]. قلت: وهذا الاشبه بقول سعيد والحسن. وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم، أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، قاله قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم (1) راجع ج 15 ص 121. (2) راجع ج 4 ص 233 فما بعد. (3) راجع ج 9 ص 313 فما بعد. (4) راجع ج 18 ص 170. (*)
[ 332 ]
دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل: " فظن أن لن نقدر عليه " هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب: فليست عشيات اللوى برواجع * لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى * تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر يعني ما تقدره وتقضى به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري: " فظن أن لن نقدر عليه " بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والاعرج: " أن لن يقدر عليه " بضم الياء مشددا على الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحق والحسن وابن عباس أيضا: " يقدر عليه " بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا: " فظن أن لن يقدر عليه ". الباقون " نقدر " بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير. قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لاهله إذا مات فحرقوه (فوالله لئن قدر الله على) الحديث فعلى التأويل الاول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزاني على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الائمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه (لم يعمل خيرا إلا التوحيد) وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا ؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " (1) [ فاطر: 28 ]. وقد قيل: إن معنى " فظن أن لن نقدر عليه " الاستفهام وتقديره: أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا، وهو قول سليمان (2) [ أبو ] المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ: " أفظن " بالالف. (1) راجع ج 14 ص (2) في الاصل (سليمان بن المعتمر) وهو تحريف والتصويب من (تهذيب التهذيب). (*)
[ 333 ]
قوله تعالى: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " فنادى في الظلمات " اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبد الله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الارض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر " أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " " فنبذناه بالعراء وهو سقيم " (1) [ الصافات: 145 ] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الاول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الاول فقط، كما قال: " في غيابات (2) الجب " [ يوسف: 10 ] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروى: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: " لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك " وروى: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحق (3) ابن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه: " واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد ". وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متى) المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى (1) راجع ج 15 ص 127. (2) راجع ج 9 ص 132. (3) كذا في الاصول، ولعله (عبد الله بن إدريس) فإن عبد الله المذكور حدث عنه العبدى كما في (تهذيب التهذيب). (*)
[ 334 ]
ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " (1) و " الاعراف " (2). " أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم. وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لان الانبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان، ذكره الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: " ربنا ظلمنا أنفسنا " (2) [ الاعراف: 23 ] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه. الثانية - روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاء ذي النون في بطن الحوت " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " لم يدع به رجل مسلم في شئ قط إلا استجيب له) وقد قيل: إنه اسم الله الاعظم. ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: " وكذلك ننجي المؤمنين " وليس هاهنا صريح دعاء وإنما هو مضمون قوله: " إني كنت من الظالمين " فاعترف بالظلم فكان تلويحا. قوله تعالى: (وكذلك ننجي المؤمنين) أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " (3) [ الصافات: 143 - 144 ] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ ذمام ما سلف له من الطاعة. وقال الاستاذ أبو إسحق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلى يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعبد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده ! لا يظن به ذلك. " من الغم " أي من بطن الحوت. قوله تعالى: " وكذلك ننجي المؤمنين " قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر " نجي " بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد: (1) راجع ج 2 ص 308 فما بعد. (2) راجع ج 7 ص 223 فما بعد وص 180. (3) راجع ج 15 ص 121. (*)
[ 335 ]
ولو ولدت قفيرة (1) جرو كلب * لسب بذلك الجرو الكلابا أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقى ورضى فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن " وذروا ما بقى من الربا " (2) [ البقرة: 278 ] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد: خمر الشيب لمتي تحميرا * وحدا بي إلى القبور البعيرا ليت شعري إذا القيامة قامت * ودعى بالحساب أين المصيرا سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب، أي وحدا المشيب البعير، ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن، لانه نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا، لانه لا فائدة [ فيه ] (3) إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولابي عبيد قول آخر - وقاله القتبى - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين، لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في " من جاء بالحسنة " (4) " مجاء بالحسنة " قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شئ سمعته من علي بن سليمان. قال: الاصل ننجي فحذف إحدى النونين، لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين، لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: " ولا تفرقوا " (5) [ آل عمران: 103 ] والاصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية: " وكذلك نجى المؤمنين " أي نجى الله المؤمنين، وهي حسنة. قوله تعالى: وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90) (1) قفيرة (كجهينة): أم الفرزدق. والبيت لجرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق. (2) راجع ج 3 ص 362. (3) الزيادة من (إعراب القرآن) للنحاس. (4) راجع ج 7 ص 150. (5) راجع ج 4 ص 158. (*)
[ 336 ]
قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه) أي واذكر زكريا. وقد تقدم في " آل عمران " (1) ذكره. (رب لا تذرني فردا) أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم. (وأنت خير الوارثين) أي خير من يبقى بعد كل من يموت، وإنما قال " وأنت خير الوارثين " لما تقدم من قوله: " يرثني " [ مريم: 6 ] أي أعلم أنك لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الدين عن عقبى. كما تقدم في " مريم " (2) بيانه. قوله تعالى: (فاستجبنا له) أي أجبنا دعاءه: (ووهبنا له يحيى). تقدم ذكره مستوفى: (وأصلحنا له زوجه) قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخلق. قلت: ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. " إنهم " يعني الانبياء المسمين في هذه السورة. (كانوا يسارعون في الخيرات). وقيل: الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى. قوله تعالى: (ويدعوننا رغبا ورهبا) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (ويدعوننا رغبا ورهبا) أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف، لان الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل: الرغب رفع بطون الاكف إلى السماء، والرهب رفع ظهورها، قاله خصيف، وقال ابن عطية: وتلخيص هذا أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع مضرة يحسن معه طرح ذلك، والاشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه. الثانية - روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في " الاعراف " (3) (1) راجع ج 4 ص 74 فما بعد. (2) راجع ص 81 من هذا الجزء. (3) راجع ج 7 ص 224 فما بعد. (*)
[ 337 ]
الاختلاف في رفع الايدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين ؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه، روى عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يدعو بباطن كفيه، وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم). وروى عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه. وقيل: حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الاخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو (1) الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري: وقد روى قتادة عن أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و " رغبا ورهبا " منصوبان على المصدر، أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله، أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف: " ويدعونا " بنون واحدة. وقرأ الاعمش: بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والاعمش أيضا " رغبا ورهبا " بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان مثل: نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. (وكانوا لنا خاشعين) أي متواضعين خاضعين. قوله تعالى: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين (91) (1) في ك: ألة الدعاء. لعله الاصل. (*)
[ 338 ]
قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها) أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها. وإنما ذكرها وليست من الانبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " ولم يقل آيتين لان معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما وقصتهما آية للعالمين. وقال الزجاج: إن الآية فيهما واحدة، لانها ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير: وجعلناها آيه للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف. وعلى مذهب الفراء: وجعلناها آية للعالمين وابنها، مثل قوله جل ثناؤه: " والله ورسوله أحق أن يرضوه " (1). وقيل: إن من آياتها أنها أول آمرأة قبلت في النذر في المتعبد. ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيده. وقيل: إنها لم تلقم ثديا قط. و " أحصنت " يعني عفت فامتنعت من الفاحشة. وقيل: إن المراد بالفرج فرج القميص، أي لم تعلق بثوبها ريبة، أي إنها طاهرة الاثواب. وفروج القميص أربعة: الكمان والاعلى والاسفل. قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا، فإنه من لطيف الكناية لان القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس. " فنفخنا فيها من روحنا " يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها. وقد مضى هذا في " النساء " (2) و " مريم " فلا معنى للاعادة. " آية " أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء. قوله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92) قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) لما ذكر الانبياء قال: هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد، فالامة هنا بمعنى الدين الذي هو الاسلام، قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. فأما المشركون فقد خالفوا الكل. (وأنا ربكم) أي إلهكم وحدي. (فاعبدوني) أي أفردوني بالعبادة. وقرأ عيسى بن عمر وأبن أبي إسحق: " إن هذه أمتكم أمة واحدة " ورواها (1) راجع ج 8 ص 193 فما بعد. (2) راجع ج 6 ص 22 فما بعد. (*)
[ 339 ]
حسين عن أبي عمرو. الباقون " أمة واحدة " بالنصب على القطع بمجئ النكرة بعد تمام الكلام، قاله الفراء. الزجاج: انتصب " أمة " على الحال، أي في حال اجتماعها على الحق، أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق، وهو كما تقول: فلان صديقي عفيفا أي ما دام عفيفا فإذا خالف العفة لم يكن صديقي. وأما الرفع فيجوز أن يكون على البدل من " أمتكم " أو على إضمار مبتدإ، أي إن هذه أمتكم، هذه أمة واحدة. أو يكون خبرا بعد خبر. ولو نصبت " أمتكم " على البدل من " هذه " لجاز ويكون " أمة واحدة " خبر " إن ". قوله تعالى: وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (93) فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94) قوله تعالى: (وتقطعوا أمرهم بينهم) أي تفرقوا في الدين، قال الكلبي. الاخفش: اختلفوا فيه. والمراد المشركون، ذمهم لمخالفتهم الحق، واتخاذهم آلهة من دون الله. قال الازهري: أي تفرقوا في أمرهم، فنصب " أمرهم " بحذف " في ". فالمتقطع على هذا لازم وعلى الاول متعد. والمراد جميع الخلق، أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم. (كل إلينا راجعون) أي إلى حكمنا فنجازيهم. قوله تعالى: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن) " من " للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات [ كلها ] (1) فرضها ونفلها، فالمعنى: من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم. وقال ابن عباس: مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم. (فلا كفران لسعيه) أي لا جحود لعمله، أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطي والكفر ضده الايمان. والكفر أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر. وقد كفره كفورا وكفرانا. وفي حرف ابن مسعود " فلا كفر لسعيه ". (وإنا له كاتبون) لعمله حافظون. نظيره " أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " (2) [ آل عمران: 195 ] أي كل ذلك محفوظ ليجازي به. (1) كذا في ب وج وط وى. (2) راجع ج 4 ص 318. (*)
[ 340 ]
قوله تعالى: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96) واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97) قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة: " وحرام " وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وأهل الكوفة " وحرم " ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. وهما لغتان مثل حل وحلال. وقد روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير " وحرم " بفتح الحاء والميم وكسر الراء. وعن ابن عباس أيضا وعكرمة وأبي العالية: " وحرم " بضم الراء وفتح الحاء والميم. وعن ابن عباس أيضا " وحرم " وعنه أيضا " وحرم "، " وحرم ". وعن عكرمة أيضا " وحرم ". وعن قتادة ومطر الوراق " وحرم " تسع قراءات. وقرأ السلمي " على قرية أهلكتها ". واختلف في " لا " في قوله: " لا يرجعون " فقيل: هي صلة، روى ذلك عن ابن عباس، واختاره أبو عبيد، أي وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وقيل: ليست بصلة، وإنما هي ثابتة ويكون الحرام بمعنى الواجب، أي وجب على قرية، كما قالت الخنساء: وإن حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوه إلا بكيت على صخر تريد أخاها، ف‍ " - لا " ثابتة على هذا القول. قال النحاس: والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان (1) بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: " وحرام على قرية أهلكناها " قال: وجب انهم لا يرجعون، قال: لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بين في اللغة، وشرحه: أن معنى حرم الشئ حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه، فإذا كان " حرام " و " حرم " بمعنى واجب فمعناه أنه قد ضيق الخروج (1) في الاصول: سليم بن حيان وكذا في التهذيب بالفتح ولعل صوابه: سليمان كما في التهذيب أيضا إذ هو الراوي عن ابن أبي هند. والله أعلم. (*)
[ 341 ]
منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا، فأما قول أبي عبيدة: إن " لا " زائدة فقد رده عليه جماعة، لانها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا، لانه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرم. وقيل: في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم عمل لانهم لا يرجعون أي لا يتوبون، قاله الزجاج وأبو علي، و " لا " غير زائدة. وهذا هو معنى قول ابن عباس رضى الله عنه. قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج) تقدم القول فيهم. وفي الكلام حذف، أي حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج، مثل " واسأل القرية " (1) [ يوسف: 82 ]. (وهم من كل حدب ينسلون) قال ابن عباس: من كل شرف يقبلون، أي لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. والحدب ما ارتفع من الارض، والجمع الحداب مأخوذ من حدبة الظهر، قال عنترة: فما رعشت يداي ولا ازدهاني * تواترهم إلي من الحداب وقيل: " ينسلون " يخرجون، ومنه قول امرئ القيس: * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل (2) * وقيل: يسرعون، ومنه قول النابغة: (3) عسلان الذئب أمسى قاربا (4) * برد الليل عليه فنسل يقال: عسل الذئب يعسل عسلا وعسلانا إذا أعنق وأسرع. وفي الحديث: (كذب عليك العسل) أي عليك بسرعة المشي. وقال الزجاج: والنسلان مشية الذئب إذا أسرع، يقال: نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا، أي أسرع. ثم قيل في الذين ينسلون من كل حدب: إنهم يأجوج ومأجوج، وهو الاظهر، وهو قول ابن مسعود وابن عباس. وقيل: جميع الخلق، فإنهم يحشرون إلى أرض الموقف، وهم يسرعون من كل (1) راجع ج 9 ص 245 فما بعد. (2) البيت من معلقته وصدره: * وإن تك قد ساءتك منى خليقة * (3) وقيل: هو للبيد كما في (اللسان) مادة (عسل). (4) القارب: السائر ليلا. (*)
[ 342 ]
صوب. وقرئ في الشواذ " وهم من كل جدث ينسلون " أخذا من قوله: " فإذا هم من الاجداث إلى ربهم (1) ينسلون " [ يس: 51 ]. وحكى هذه القراءة المهدوي عن ابن مسعود والثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء. قوله تعالى: (واقترب الوعد الحق) يعني القيامة. وقال الفراء والكسائي وغيرهما: الواو زائدة مقحمة، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق " فاقترب " جواب " إذا ". وأنشد الفراء (2): * فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * أي انتحى، والواو زائدة، ومنه قوله تعالى: " وتله للجبين (1). وناديناه " [ الصافات: 103 - 104 ] أي للجبين ناديناه. وأجاز الكسائي أن يكون جواب " إذا " " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا " ويكون قوله: " واقترب الوعد الحق " معطوفا على الفعل الذي هو شرط. وقال البصريون: الجواب محذوف والتقدير: قالوا يا ويلنا، وهو قول الزجاج، وهو قول حسن. قال الله تعالى: " والذين أتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " (1) [ الزمر: 3 ] المعنى: قالوا ما نعبدهم، وحذف القول كثير. قوله تعالى " فإذا هي شاخصة " " هي " ضمير الابصار، والابصار المذكورة بعدها تفسير لها كأنه قال: فإذا أبصار الذين كفروا شخصت عند مجئ الوعد. وقال الشاعر: لعمر أبيها لا تقول ظعينتي * ألا فر عني مالك بن أبي كعب فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها. وقال الفراء: " هي " عماد، مثل. " فإنها لا تعمى الابصار " (3) [ الحج: 46 ]. وقيل: إن الكلام تم عند قوله: " هي " التقدير: فإذا هي، بمعنى القيامة بارزة واقعة، أي من قربها كأنها آتية حاضرة ثم ابتداء فقال: " شاخصة أبصار الذين كفروا " على تقديم الخبر على الابتداء، أي أبصار الذين كفروا شاخصة من هذا اليوم، أي من هوله لا تكاد تطرف، يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين بمعصيتنا، ووضعنا العبادة في غير موضعها. (1) راجع ج 15 ص 39 فما بعده وص 99 فما بعد وص 232 فما بعد. (2) البيت لامرئ القيس وهو من معلقته وتمامه: * بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل * (3) راجع ج 12 ص 76 فما بعد. (*)
[ 343 ]
قوله تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98) فيه أربع مسائل: الاولى: قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون " قال ابن عباس: آية لا يسألني الناس عنها ! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها (1) فلا يسألون عنها، فقيل: وما هي ؟ قال: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " لما أنزلت شق على كفار قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعري وأخبروه، فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده اليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم، فأنزل الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " [ الانبياء: 101 ] وفيه نزل " ولما ضرب ابن مريم مثلا " [ الزخرف: 57 ] يعني ابن (2) الزبعري " إذا قومك منه يصدون " [ الزخرف: 57 ] بكسر الصاد، أي يضجون، وسيأتي. (3) الثانية - هذه الآية أصل في القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة، خلافا لمن قال: ليست له صيغة موضوعة للدلالة عليه، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها، فهذا عبد الله بن الزبعرى قد فهم " ما " في جاهليته جميع من عبد، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء، واللسن البلغاء، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح. الثالثة: قراءة العامة بالصاد المهملة أي إنكم يا معشر الكفار والاوثان التي تعبدونها من دون الله وقود جهنم، قاله ابن عباس. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها. وقرأ علي ابن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما: " حطب جهنم " بالطاء. وقرأ ابن عباس " حضب " بالضاد المعجمة، قال الفراء: يريد الحصب. قال: وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل (1) كذا في ط وك: جهلوها. وفي غيرهما: جهلوا. (2) في ك: يابن الزبعري. (3) راجع ج 16 ص 102. (*)
[ 344 ]
اليمن الحطب، وكل ما هيجت به النار وأوقدتها به فهو حضب، ذكره الجوهري. والموقد محضب. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: " حصب جهنم " كل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به. ويظهر من هذه الآية أن الناس من الكفار وما يعبدون من الاصنام حطب لجهنم. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة " [ البقرة: 24 ]. وقيل: إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت، على ما تقدم في " البقرة " (1) وأن النار لا تكون على الاصنام عذابا ولا عقوبة، لانها لم تذنب، ولكن تكون عذابا على من عبدها: أول شئ بالحسرة، ثم تجمع على النار فتكون نارها أشد من كل نار، ثم يعذبون بها. وقيل: تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم. وقيل: إنما جعلت في النار تبكيتا لعبادتهم. الرابعة: قوله تعالى: " أنتم لها واردون " أي فيها داخلون. والخطاب للمشركين عبدة الاصنام، أي أنتم واردوها مع الاصنام. ويجوز أن يقال: الخطاب للاصنام وعبدتها، لان الاصنام وإن كانت جمادات فقد يخبر عنها بكنايات الآدميين. وقال العلماء: لا يدخل في هذا عيسى ولا عزير ولا الملائكة صلوات الله عليهم، لان " ما " لغير الآدميين. فلو أراد ذلك لقال: " ومن ". قال الزجاج: ولان المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم. قوله تعالى: لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون (99) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100) قوله تعالى: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) أي لو كانت الاصنام آلهة لما ورد عابدوها النار. وقيل: ما وردها العابدون والمعبودون، ولهذا قال: " وكل فيها خالدون ". قوله تعالى: (لهم فيها زفير) أي لهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين، فأما الاصنام فعلى الخلاف فيها، هل يحييها الله تعالى ويعذبها حتى يكون لها زفير أو لا ؟ قولان: والزفير صوت نفس المغموم يخرج من القلب. وقد تقدم في " هود " (2). (وهم فيها (1) راجع ج 1 ص 235 فما بعد. (2) راجع ج 9 ص 78 فما بعد. (*)
[ 345 ]
لا يسمعون) قيل: في الكلام حذف، والمعنى وهم فيها لا يسمعون شيئا، لانهم يحشرون صما، كما قال الله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما " (1) [ الاسراء: 97 ]. وفي سماع الاشياء روح وأنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار. وقيل: لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية. وقيل: إذا قيل لهم " اخسئوا فيها ولا تكلمون " (2) [ المؤمنون: 108 ] يصيرون حينئذ صما بكما، كما قال ابن مسعود: إذا بقى من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره. قوله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101) لا يسمعون حسيسها وهم في ما أشتهت أنفسهم خالدون (102) لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذى كنتم توعدون (103) قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) أي الجنة (أولئك عنها) أي عن النار (مبعدون) فمعنى الكلام الاستثناء، ولهذا قال بعض أهل العلم: " إن " هاهنا بمعنى " إلا " وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عثمان منهم). قوله تعالى: (لا يسمعون حسيسها) أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: " لا يسمعون حسيسها " فقال ابن عباس: أمجنون أنت ؟ فأين قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها " (3) وقوله تعالى: " فأوردهم النار " (4) [ هود: 98 ] وقوله: " إلى جهنم وردا " (3) [ مريم: 86 ]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: (1) راجع ج 10 ص 333. (2) راجع ج 12 ص 153. (3) راجع ص 135. وص 152 ص 149 من هذا الجزء. (4) راجع ج 9 ص 93 فما بعد. (*)
[ 346 ]
على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة [ الجنة ] (1) لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون، فالله أعلم (وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) أي دائمون وهم فيما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين. وقال " ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون " (2) [ فصلت: 31 ]. قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الاكبر) وقرأ أبو جعفر وابن محيصن " لا يحزنهم " بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الاكبر أهوال يوم القيامة والبعث، عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريج وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصرى: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الاذفر ولا يحزنهم الفزع الاكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه). وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إلى الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه، فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا بن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الاكبر. سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وتتلقاهم الملائكة) أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: (هذا يومكم الذى كنتم توعدون) وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس " هذا يومكم " أي ويقولون لهم، فحذف. " الذي كنتم توعدون " فيه الكرامة. قوله تعالى: (يوم نطوى السماء) قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والاعرج والزهري " تطوي " بتاء مضمومة " السماء " رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد " يطوي " (1) من ب وج وط وز وك. (2) راجع ج 15 ص 357. (*)
[ 347 ]
على معنى يطوى الله السماء. الباقون " نطوي " بنون العظمة. وانتصاب " يوم " على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة، التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا ب‍ " - نعيد " من قوله " كما بدأنا أول خلق نعيده ". أو بقوله: " لا يحزنهم " أي لا يحزنهم الفزع الاكبر في اليوم الذي نطوى فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس، دليله: " والسموات مطويات بيمينه " (1) [ الزمر: 67 ]. " كطي السجل للكتاب " (2) قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى " على ". وعن ابن عباس أيضا: اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي، لان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: " السجل " ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة، وأصلها من السجل وهو الدلو، تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب: من يساجلني يساجل ماجدا * يملا الدلو إلى عقد الكرب (3) ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير: " كطي السجل " بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الاعمش وطلحة: " كطي السجل " بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: " للكتاب ". والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: " والسموات مطويات بيمينه " [ الزمر: 67 ]. والثاني: الاخفاء والتعمية والمحو، لان الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. (1) راجع ج 15 ص 277 فما بعد. (2) (الكتاب) بالافراد قراءة نافع. (3) الكرب: حبل يشد على عراقي الدلو ثم يثنى ثم يثلث ليكون هو الذى يلى الماء فلا يعفن الحبل الكبير. (*)
[ 348 ]
قال الله تعالى: إذا الشمس كورت. وإذا النجوم أنكدرت " (1) [ التكوير: 1 - 2 ] " وإذا السماء كشطت " [ التكوير: 11 ]. " للكتاب " وتم الكلام. وقراءة الاعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف: " للكتب " جمعا ثم استأنف الكلام فقال: " كما بدأنا أول خلق نعيده " أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدئوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - " كما بدأنا أول خلق نعيده " أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (يأيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب " التذكرة " مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الارض بالثرى. وقرأ " كما بدأنا أول خلق نعيده ". وقال ابن عباس: المعنى نهلك كل شئ ونفنيه كما كان أول مرة (2)، وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: " يوم نطوي السماء " أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفنى السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها، كقوله: " يوم تبدل الارض غير الارض والسموات " (3) [ إبراهيم: 48 ] والقول الاول أصح وهو نظير قوله: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " (4) [ الانعام: 94 ] وقوله عز وجل: " وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " (5). " وعدا " نصب على المصدر، أي وعدنا وعدا " علينا " إنجازه والوفاء به أي من البعث والاعادة ففي الكلام حذف: ثم أكد ذلك بقوله جل ثناؤه: " إنا كنا فاعلين " قال الزجاج: معنى " إنا كنا فاعلين " إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل " إنا كنا فاعلين " أي ما وعدناكم وهو كما قال: " كان وعده مفعولا " (1) [ المزمل: 18 ]. وقيل: " كان " للاخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة. (1) راجع ج 19 ص 225. وص 47. (2) هذا القول يحتاج إلى تدبر كما قال الالوسى. (3) راجع ج 9 ص 383. (4) راجع ج 7 ص 42. (5) راجع ج 10 ص 417. (*)
[ 349 ]
قوله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون (105) إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106) قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور) الزبور والكتاب واحد، ولذلك جاز أن يقال للتوراة والانجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعه زبر. وقال سعيد بن جبير: " الزبور " التوراة والانجيل والقرآن. (من بعد الذكر) الذي في السماء (أن الارض) أرض الجنة (يرثها عبادي الصالحون) رواه سفيان عن الاعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: " الزبور " زبور داود، و " الذكر " توارة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد: " الزبور " كتب الانبياء عليهم السلام، و " الذكر " أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: " الزبور " الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و " الذكر " التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة " في الزبور " بضم الزاي جمع زبر " أن الارض يرثها عبادي الصالحون " أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير، لان الارض في الدنيا قال قد ورثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: " وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الارض " (1) [ الزمر: 74 ] وعن ابن عباس: أنها الارض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الامم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل، بدليل قوله تعالى: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها " (2) [ الاعراف: 137 ] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة " عبادي الصالحون " بتسكين الياء. (إن في هذا) أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن (لبلاغا لقوم عابدين) قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " عابدين " مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل، لانه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لاوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الاول بعينه. (1) راجع ج 15 ص 284 فما بعد. (2) راجع ج 7 ص 272. (*)
[ 350 ]
قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107) قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (108) فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون (109) قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الامم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة. قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) فلا يجوز الاشراك به. (فهل أنتم مسلمون) أي منقادون لتوحيد الله تعالى، أي فأسلموا، كقوله تعالى: " فهل أنتم منتهون " (1) [ المائدة: 91 ] أي انتهوا. قوله تعالى: (فإن تولوا) أي إن أعرضوا عن الاسلام (فقل آذنتكم على سواء) أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا، كقوله تعالى: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " (2) [ الانفال: 58 ] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي آستويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لاحد شيئا كتمته عن غيره. (وإن أدرى) " إن " نافية بمعنى " ما " أي وما أدرى. (أقريب أم بعيد ما توعدون) يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم. قوله تعالى: إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110) وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (111) قل رب أحكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112) قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) أي من الشرك وهو المجازي عليه. (وإن أدرى لعله) أي لعل الامهال (فتنة لكم) أي اختبار ليرى كيف صنيعكم (1) راجع ج 6 ص 285 فما بعد. (2) راجع ج 8 ص 31. (*)
[ 351 ]
وهو أعلم. (ومتاع إلى حين) قيل: إلى أنقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك، فقالوا له: ارجع فسله متى يكون ذلك. فأنزل الله تعالى " وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون " " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك. قوله تعالى: (قل رب أحكم بالحق) ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الامر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الانبياء تقول: " ربنا افتح بيننا. وبين قومنا بالحق " (2) [ الاعراف: 89 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: " رب أحكم بالحق " فكان إذا لقى العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل " رب أحكم بالحق " أي أقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة هاهنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب أحكم بحكمك الحق. و " رب " في موضع نصب، لانه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن: " قل رب أحكم بالحق " بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين، لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب: " قال ربي أحكم بالحق " بقطع الالف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري " قل ربي أحكم " على معنى أحكم الامور بالحق. (وربنا المستعان على ما تصفون) أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي " على ما يصفون " بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب. والله أعلم. (1) (قل) على صيغة الامر قراءة نافع. (2) راجع ج 7 ص 250 فما بعد. (*) تحقيق أبي إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء الحادي عشر من تفسير القرطبي
[ 351 ]
وهو أعلم. (ومتاع إلى حين) قيل: إلى أنقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك، فقالوا له: ارجع فسله متى يكون ذلك. فأنزل الله تعالى " وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون " " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك. قوله تعالى: (قل رب أحكم بالحق) ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الامر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الانبياء تقول: " ربنا افتح بيننا. وبين قومنا بالحق " (2) [ الاعراف: 89 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: " رب أحكم بالحق " فكان إذا لقى العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل " رب أحكم بالحق " أي أقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة هاهنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب أحكم بحكمك الحق. و " رب " في موضع نصب، لانه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن: " قل رب أحكم بالحق " بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين، لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب: " قال ربي أحكم بالحق " بقطع الالف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري " قل ربي أحكم " على معنى أحكم الامور بالحق. (وربنا المستعان على ما تصفون) أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي " على ما يصفون " بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب. والله أعلم. (1) (قل) على صيغة الامر قراءة نافع. (2) راجع ج 7 ص 250 فما بعد. (*) تحقيق أبي إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء الحادي عشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني عشر وأوله: (سورة الحج)