تفسير القرطبي
القرطبي ج 10
[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء العاشر أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الحجر قوله تعالى: الر تلك ءايت الكتب وقرءان مبين (1) تقدم (1) معناه. و " الكتاب " قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والانجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين. وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين. قوله تعالى: ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2) " رب " لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها " ما " هيأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد. ويجوز أن تكون " ما " نكرة بمعنى شئ، و " يود " صفة له، أي رب شئ يود الكافر. وقرأ نافع وعاصم " ربما " مخفف الباء. الباقون مشددة، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما، قال الشاعر: ربما ضربة بسيف صقيل * بين بصرى وطعنة نجلاء (2) وتميم وقيس وربيعة يثقلونها. وحكى فيها: ربما وربما، وربتما وربتما، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا (3). وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير، أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين، قاله الكوفيون. ومنه قول الشاعر: (1) راجع ج 8 ص 304 (2) لبيت لعدى بن الرعلاء الغساني. وبصرى: بلدة قرب الشام، هي كرسى حوران، كان يقوم فيها سوق للجاهلية. قال صاحب خزانة الادب: "... وإنما صح إضافة بين إلى بصرى لاشتمالها على متعدد من الامكنة، أي بين أماكن بصرى ونواحيها. ورواى الشريف الحسينى في حماسته: " دون بصرى " ودون هنا بمعنى قبل أو بمعنى خلف. وقال العينى: بمعنى عند ". راجع الخزانة في الشاهد التاسع والتسعين بعد السبعمائة. (3) قال ابن هشام في المغنى: " وفى رب ست عشرة لغة: ضم الراء وفتحها، وكلاهما مع التشديد والتخفيف. والاوجه الاربعة مع تاء التأنيث، ساكنة أو محركة، مع التجريد منها، فهذه اثنتا عشرة. والضم والفتح مع إسكان الياء وضم الحرفين مع التشديد ومع التخفيف ". (*)
[ 2 ]
ألا ربما أهدت لك العين نظرة * قصاراك منها أنها عنك لا تجدى (1) وقال بعضهم: هي للتقليل فهذا الموضع، لانهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها، لشغلهم بالعذاب، والله أعلم. قال: " ربما يود " وهى إنما تكون لما وقع، لانه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان. وخرج الطبراني أبو القاسم من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ناسا من أمتى يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم تخالفونا فيه من تصديقكم وإيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ". قال الحسن: إذا رأى المشركون المسلمين وقد دخلوا الجنة وما رأوهم في النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين. وقال الضحاك: هذا التمنى إنما هو عند المعاينة في الدنيا حين تبين لهم الهدى من الضلالة. وقيل: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين. قوله تعالى: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون (3) فيه مسألتان: الاولى: قوله تعالى: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) تهديد لهم. (ويلههم الامل) أي يشغلهم عن الطاعة. يقال: ألهاه عن كذا أي شغله. ولهى هو عن الشئ يلهى. (فسوف يعلمون) إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا. وهذه الآية منسوخة بالسيف. الثانيه - في مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربعة من الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الامل والحرص على الدنيا ". وطول الامل داء (1) أي لا تغنى، يقال: ما يجدى عنك هذا، أي ما يغنى. وفى بعض نسخ الاصل: لا تجزى، بالزاى، وهى بمعنى لا تغنى. (*)
[ 3 ]
عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الاطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء. وحقيقة الامل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والاعراض عن الآخرة. وروى (1) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نجا أول هذه الامة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والامل ". ويروى عن أبى الدرداء رضى الله أنه قام على درج مسجد دمشق فقال: يأهل دمشق، ألا تسمعون من أخ لكم ناصح ؟ إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا، فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا. هذه عاد قد ملات البلاد أهلا ومالا وخيلا ورجالا، فمن يشترى منى اليوم تركتهم بدرهمين ! وأنشد: يا ذا المؤمل آمالا وإن بعدت * منه ويزعم أن يحظى بأقصاها أنى تفوز بما ترجوه ويك وما * أصبحت في ثقة من نيل أدناها وقال الحسن: ما أطال عبد الامل إلا أساء العمل. وصدق رضى الله عنه ! فالامل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتوانى، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الارض ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان، كما أن قصر الامل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة. قوله تعالى: وما أهلكنا من قريه إلا ولها كتاب معلوم (4) أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: ما تسبق من أمة أجلها وما يستئخرون (5) " من " صلة، كقولك: ما جاءني من أحد. أي لا تتجاوز أجلها فتزيد عليه، ولا تتقدم قبله. ونظيره قوله تعالى: " فإذ جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (2) ". (1) في ى: يروى. (2) راجع ج 7 ص 201. (*)
[ 4 ]
قوله تعالى: وقالوا يأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7 قاله كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على وجهة الاستهزاء، ثم طلبوا منه إتيان الملائكة دلالة على صدقه. و (لوما) تحضيض على الفعل كلولا وهلا. وقال الفراء: الميم في " لوما " بدل من اللام في لولا. ومثله استولى على الشئ واستومى عليه، ومثله خالمته وخاللته، فهو خلمى وخلى، أي صديقى. وعلى هذا يجوز " لوما " بمعنى الخبر، تقول: لوما زيد لضرب عمرو. قال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام. قال ابن مقبل: لوما الحياء ولوما الدين عبتكما * ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري يريد لولا الحياء. وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد. وأنشد أهل اللغة على ذلك: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بنى ضوطرى لولا الكمى المقنعا (1) أي هلا تعدون الكمى المقنعا. قوله تعالى: ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8) قرأ حفص وحمزة والكسائي (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو بكر والمفضل " ما تنزل الملائكة ". الباقون " ما تنزل الملائكة " وتقديره: ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، وقد شدد التاء البز ي، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: " تنزل الملائكة والروح (2) ". ومعنى " إلا بالحق " إلا بالقرآن. وقيل: بالرسالة، عن مجاهد. وقال الحسن: إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا. (وما كانوا إذا منظرين) أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة. وقيل: المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا (1) البيت لجرير يهجو الفرزدق. والعقر: ضرب قوائم الناقة بالسيف. والنيب (بكسر النون): جمع ناب، وهى الناقة المسنة. وضوطرى: هو الرجل الضخم اللئيم الذى لا غناه عنده، وهى كلمة ذم وسب. والكمى: الشجاع المتكمى في سلاحه، لانه كمى نفسه أي شدها بالدرع والبيضة. والمقنع: الذى على رأسه البيضة والمغفر. (2) راجع ج 20 ص 133. (*)
[ 5 ]
بعد ذلك لم ينظروا. وأصل " إذا " إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها. قوله تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافضون (9) قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر) يعنى القرآن. (وإنا له لحافضون) من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البنانى: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا، فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره: " بما استحفظوا (1) "، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا. أنبأنا الشيخ الفقيه الامام أبو القاسم عبد الله عن أبيه الشيخ الفقيه الامام المحدث أبى الحسن على بن خلف بن معزوز الكومى التلمسانى قال: قرئ على الشيخة العالمة (2) فخر النساء شهدة بنت أبى نصر (3) أحمد بن الفرج الدينورى وذلك بمنزلها بدار السلام في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وستين وخمسمائة، قيل لها: أخبركم الشيخ الاجل العامل نقيب النقباء أبو الفوارس طراد بن محمد الزينى قراءة عليه وأنت تسمعين سنة تسعين وأربعمائة، أخبرنا على بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا أبو على عيسى بن محمد بن أحمد ابن عمر بن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المعروف بالطومارى حدثنا الحسين بن فهم قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودى حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما أن تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلى ؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: دينى ودين آبائى ! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالامس ؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك ؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الاديان، وأنت (مع ما (4)) تراني حسن (1) راجع ج 6 ص 188 (2) في ى: الصالحة. (3) في و: أبى بكر. (4) من ى. (*)
[ 6 ]
الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت منى، وعمدت إلى الانجيل فكتب ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت منى، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامى. قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لى: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال قلت: في أي موضع ؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والانجيل: " بما استحفظوا من كتاب الله "، فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. وقيل: " وإنا له لحافظون " أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو " وإنا له لحافظون " من أن يكاد أو يقتل. نظيره " والله يعصمك من الناس (1) ". و " نحن " يجوز أن يكون موضعه رفعا بالابتداء و " نزلنا " الخبر. والجملة خبر " إن ". ويجوز أن يكون " نحن " تأكيدا لاسم " إن " في موضع نصب، ولا تكون فاصلة لان الذى بعدها ليس بمعرفة وإنما هو جملة، والجمل تكون نعوتا للنكرات فحكمها حكم النكرات. قوله تعالى: ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الاولين (10) المعنى: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا، فحذف. والشيع جمع شيعة وهى الامة، أي في أممهم، قاله ابن عباس وقتاده. الحسن: في فرقهم. والشيعة: الفرقة والطائفة من الناس المتآلفة المتفقة الكلمة. فكأن الشيع الفرق، ومنه قوله تعالى: " أو يلبسكم شيعا (2) ". وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار - كما تقدم في " الانعام ". - وقال الكلبى: إن الشيع هنا القرى. (1) راجع ج 6 ص 242. (2) راجع ج 7 ص 9. (*)
[ 7 ]
قوله تعالى: وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون (11) تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، أي كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فعل بمن قبلك من الرسل. قوله تعالى: كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الاولين (13) قوله تعالى: " كذلك نسلكه " أي الضلال والكفر والاستهزاء والشرك. (في قلوب المجرمين " من قومك، عن الحسن وقتادة وغيرهما. أي كما سلكناه في قلوب من تقدم من شيع الاولين كذلك نسلكه في قلوب مشركي قومك حتى لا يؤمنوا بك، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم. وروى ابن جريج عن مجاهد قال: نسلك التكذيب. والسلك: إدخال الشئ في الشئ كإدخال الخيط في المخيط. يقال: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، أسلكه إسلاكا. وسلك الطريق سلوكا وسلكا وأسلكه دخله، والشئ في غيره مثله، والشئ كذلك والرمح، والخيط في الجوهر، كله فعل وأفعل. وقال عدى بن زيد: * وقد سلكوك في يوم عصيب (1) * والسلك (بالكسر) الخيط. وفى الآية رد على القدرية والمعتزلة. وقيل: المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به. وقال الحسن ومجاهد وقتادة القول الذى عليه أكثر أهل التفسير، وهو ألزم حجة على المعتزلة. وعن الحسن أيضا: نسلك الذكر إلزاما للحجة، ذكره الغزنوى. (وقد خلت سنة الاولين) أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك. وقيل: " خلت سنة الاولين " بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك. (1) هذا عجز البيت، كما في السان وشعراء النصرانية: * وكنت خصمك لم أعرد * (2) في الاصول: " وقرأ ". (*)
[ 8 ]
قوله تعالى: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15) يقال: ظل يفعل كذا، أي يفعله بالنهار. والمصدر الظلول. أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لاصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات، كما قالوا للقرآن المعجز: إنه سحر. " يعرجون " من عرج يعرج أي صعد. والمعارج المصاعد. أي لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لاصروا على الكفر، عن الحسن وغيره. وقيل: الضمير في " عليهم " للمشركين. وفى " فظلوا " للملائكة، تذهب وتجئ أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابا في السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له، عن ابن عباس وقتادة. ومعنى (سكرت) سدت بالسحر، قاله ابن عباس والضحاك. وقال الحسن: سحرت. الكلبى: أغشيت أبصارنا، وعنه أيضا عميت. قتادة: أخذت. وقال المؤرج: دير بنا، من الدوران، أي صارت أبصارنا سكرى. جويبر: خدعت. وقال أبو عمرو بن العلاء: " سكرت " غشيت وغطيت. ومنه قول الشاعر: وطلعت شمس عليها مغفر * وجعلت عين الحرور تسكر وقال مجاهد: " سكرت " حبست. ومنه قول أوس بن حجر: فصرت على ليلة ساهره * فليست بطلق ولا ساكره قلت: وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: منعت. قال ابن عزيز: " سكرت أبصارنا " سدت أبصارنا، هو من قولك، سكرت النهر إذا سددته. ويقال: هو من سكر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر. وقرأ ابن كثير " سكرت " بالتخفيف. والباقون بالتشديد. قال ابن الاعرابي: سكرت ملئت (2). قال المهدوى: والتخفيف والتشديد (1) في اللسان مادة سكر: " جذلت " بالجيم والذال المفتوحتين، ومعنى " جذل " انتصب وثبت لا يبرح. وليلة طلق: مشرق لا برد فيها ولا حر، ولا مطر ولا قر. (2) عبارة أبن الاعرابي كما في نسخ الاصل: (سكرت مئلت، وسكرت ملكت) ولم نر ما يؤيد هذا، ولعله تكرير من النساخ مع تحريف. (*)
[ 9 ]
في " سكرت " ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه. والمعروف أن " سكر " لا يتعدى. قال أبو على: يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر. ومن قرأ " سكرت " فإنه شبه ما عرض لابصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله. وقد قيل: إنه بالتخفيف [ من ] سكر الشراب، وبالتشديد أخذت، ذكرهما الماوردى. وقال النحاس: والمعروف من قراءة مجاهد والحسن " سكرت " بالتخفيف. قال الحسن: أي سحرت. وحكى أبو عبيد عن أبى عبيدة أنه يقال: سكرت أبصارهم إذا غشيها سمادير (1) حتى لا يبصروا. وقال الفراء: من قرأ " سكرت " أخذه من سكور الريح (2). قال النحاس: وهذه الاقوال متقاربة. والاصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، قال: هو من السكر في الشراب. وهذا قول حسن، أ ي غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشى السكران ما غطى عقله. وسكور الريح سكونها وفتورها، فهو يرجع إلى معنى التحيير. قوله تعالى: ولقد جعلنا في السماء بروجا وزينها للناظرين (16) لما ذكر كفر الكافرين وعجز أصنامهم ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته. والبروج: القصور والمنازل. قال ابن عباس: أي جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر، أي منازلهما. وأسماء هذه البروج: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والاسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت. والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والاوقات والخصب والجدب. وقالوا: الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان ونصف. وأصل البروج الظهور، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها. وقد تقدم هذا المعنى في النساء (3). وقال الحسن وقتادة: البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها وارتفاعها. وقيل: الكواكب العظام، قال أبو صالح، (1) السمادير: ضعف البصر. وقيل: هو الذى يتراءى للانسان من ضعف بصره عند السكر من الشراب. (2) سكونها بعد الهبوب. (3) راجع ج 5 ص 284. (*)
[ 10 ]
يعنى السبعة السيارة (1). وقال قوم: " بروجا "، أي قصورا وبيوتا فيها الحرس، خلقها الله في السماء. فالله أعلم. (وزيناها) يعنى السماء، كما قال في سورة الملك: " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح (2) ". " للناظرين " للمعتبرين والمتفكرين. قوله تعالى: وحفظنها من كل شيطان رجيم (17) أي مرجوم. والرجم الرمى بالحجارة. وقيل: الرجم اللعن والطرد. وقد تقدم. وقال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم. وزعم الكلبى أن السموات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى، فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سموات إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظ جميعها بعد بعثه وحرست منهم بالشهب. وقاله ابن عباس رضى الله عنه. قال ابن عباس: (وقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء، فكانوا يدخلونها ويلقون أخبارها على الكهنة، فيزيدون عليها تسعا فيحدثون بها أهل الارض، الكلمة حق والتسع باطل، فإذا رأوا شيئا مما قالوه صدقوهم فيما جاءوا به، فلما ولد عيسى بن مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب، على ما يأتي (4). قوله تعالى: إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18) أي لكن من استرق السمع، أي الخطفة اليسيرة، فهو استثناء منقطع. وقيل، هو متصل، أي إلا ممن استرق السمع. أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحى، وغيره، إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحى، فأما الوحى فلا تسمع منه شيئا، لقوله: " إنهم عن السمع لمعزولون ". وإذا استمع الشياطين (1) وهى - حسب ترتيبها التصاعدى -: القمر، عطارد: الزهرة، الشمس، المريخ، المشترى، زحل. (2) راجع ج 18 ص 210. (3) راجع ج 9 ص 91. (4) راجع ج 15 ص 64، ج 19 ص 10 (5) راجع ج 13 ص (*)
[ 11 ]
إلى شئ ليس بوحى فإنهم يقذفونه إلى الكهنة في أسرع من طرفة عين، ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تخبلهم (1)، ذكره الحسن وابن عباس. قوله تعالى: (فأتبعه شهاب مبين) أتبعه: أدركه ولحقه. وشهاب: كوكب مضئ. وكذلك شهاب ثاقب. وقوله: " بشهاب قبس (2) " بشعلة نار في رأس عود، قاله ابن عزيز. وقال ذو الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية (3) * مسوم في سواد الليل منقضب وسمى الكوكب شهابا لبريقه، بشبه النار. وقيل: شهاب لشعلة من نار، قبس لاهل الارض، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقت كما إذا أحرقت النار لم تعد، بخلاف الكوكب فإنه إذا أحرق عاد إلى مكانه. قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو أنفه أو ما شاء الله فيلتهب، فيأتى أصحابه وهو يلتهب فيقول: إنه كان من الام كذا وكذا، فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليها تسعا، فيحدثون بها أهل الارض، الكلمة حق والتسع باطل. فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان، صدقوهم بكل ما جاءوا به من كذبهم. وسيأتى هذا المعنى مرفوعا في سورة " سبأ (4) " إن شاء الله تعالى. واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا. فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة: يقتل، فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما - أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم، فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الانبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثانى: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الاحراق، ذكره الماوردى (1) الخيل (بسكون الياء): فساد الاعظاء. (2) راجع ج 13 ص 156. (3) أي إثر الشيطان، ومسوم: معلم. ومنقضب: منقض من مكانه. (4) راجع ج 14 ص 295. (*)
[ 12 ]
قلت والقول الاول أصح على ما يأتي بيانه في " الصافات ". واختلف هل كان رمى بالشهب قبل المبعث ؟ فقال الاكثرون نعم. وقيل: لا، وإنما ذلك بعد المبعث. وسيأتى بيان هذه المسألة في سورة " الجن (1) " إن شاء الله تعالى. وفى " الصافات " أيضا. قال الزجاج: والرمى بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده، لان الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، ولم يشبهوا الشئ السريع به كما شبهوا بالبرق وبالسيل. ولا يبعد أن يقال: انقضاض الكواكب كان في قديم الزمان ولكنه لم يكن رجوما للشياطين، ثم صار رجوما حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال العلماء: نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان. ويجوز أن يقال: يرمون بشعلة من نار من الهوى فيخيل إلينا أنه نجم سرى. والشهاب في اللغة النار الساطعة. وذكر أبو داود عن عامر الشعبى قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفى فقالوا: إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم. فقال لهم - وكان رجلا أعمى -: لا تعجلوا، وانظروا فإن كانت النجوم التى تعرف فهى عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهى من حدث. فنظروا فإذا هي نجوم لا تعرف، فقالوا: هذا من حدث. فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: والارض مددنها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (20) قوله تعالى: (والارض مددناها) هذا من نعمه أيضا، ومما يدل على كمال قدرته. قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء، كما قال " والارض بعد ذلك دحاها (1) " أي (1) راجع ج 19 ص 10، وص 201. (*)
[ 13 ]
بسطها. وقال: " والارض فرشناها فنعم الماهدون (1) ". وهو يرد على من زعم أنها كالكرة. وقد تقدم (2). (وألقينا فيها رواسي) جبالا ثابتة لئلا تتحرك بأهلها. (وأنبتنا فيها من كل شى موزون) أي مقدر معلوم، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وإنما قال " موزون " لان الوزن يعرف به مقدار الشئ. قال الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا مرة * عندي لكل مخاصم ميزانه وقال قتادة: موزون يعنى مقسوم. وقال مجاهد: موزون معدود. ويقال: هذا كلام موزون، أي منظوم غير منتثر. فعلى هذا أي أنبتنا في الارض ما يوزن من الجواهر والحيوانات والمعادن. وقد قال الله عز وجل في الحيوان: " وأنبتها نباتا حسنا (3) ". والمقصود من الانبات الانشاء والايجاد. وقيل: " أنبتنا فيها " أي في الجبال " من كل شئ موزون " من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقزدير، حتى الزرنيخ والكحل، كل ذلك يوزن وزنا. روى معناه عن الحسن وابن زيد. وقيل: أنبتنا في الارض الثمار مما يكال ويوزن. وقيل: ما يوزن فيه الاثمان لانه أجل قدرا وأعم نفعا مما لا ثمن له. (وجعلنا لكم فيها معايش) يعنى المطاعم والمشارب التى يعيشون بها، واحدها معيشة (بسكون الياء). ومنه قول جرير: تكلفني معيشة آل زيد * ومن لى بالمرقق والصناب (4) والاصل معيشة على مفعلة (بتحريك الياء). وقد تقدم في الاعراف (5). وقيل: إنها الملابس، قاله الحسن. وقيل: إنها التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة. قال الماوردى: وهو الظاهر. (ومن لستم له برازقين) يريد الدواب والانعام، قاله مجاهد. وعنده أيضا هم العبيد والاولاد الذين قال الله فيهم: " نحن نرزقهم وإياكم (6) " ولفظ " من " يجوز أن يتناول العبيد والدواب إذا اجتمعوا، لانه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل، غلب من يعقل. أي (1) راجع ج 71 ص 52. (2) راجع ج 9 ص 280. (3) راجع ج 4 ص 69. (4) الرقاق الارغفة الرقيقة الواسعة والخردل المضروب بالزبيب يؤتدم به. (5) راجع ج 7 ص 167. (6) راجع ج 01 ص، 252. (*)
[ 14 ]
جعلنا لكم فيها معايش وعبيدا وإماء ودواب وأولادا نرزقهم ولا ترزقونهم. ف " من " على هذا التأويل في موضع نصب، قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: أراد به الوحش. قال سعيد: قرأ علينا منصور " ومن لستم له برازقين " قال: الوحش. ف " من " على هذا تكون لما لا يعقل، مثل " فمنهم من يمشى على بطنه " الآية. وهى في محل خفض عطفا على الكاف والميم في قوله: " لكم ". وفيه قبح عند البصريين، فإنه لا يجوز عندهم عطف الظاهر على المضمر إلا بإعادة حرف الجر، مثل مررت به وبزيد. ولا يجوز مررت به وزيد إلا في الشعر. كما قال: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا * فاذهب فما بك والايام من عجب وقد مضى هذا المعنى في " البقرة (1) " وسورة " النساء (2) ". قوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21) قوله تعالى: (وإن من شى إلا عندنا خزائنه) أي وإن من شئ من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه، يعنى المطر المنزل من السماء، لان به نبات كل شئ. قال الحسن: المطر خزائن كل شئ. وقيل: الخزائن المفاتيح، أي في السماء مفاتيح الارزاق، قاله الكلبى. والمعنى واحد. (وما ننزله إلا بقدر معلوم) أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه، كما قال: " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء (4) ". وروى عن ابن مسعود والحكم بن عتيبة وغيرهما إنه ليس عام أكثر مطرا من عام، ولكن الله يقسمه كيف شاء، فيمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان المطر. في البحار والقفار. والخزائن جمع الخزانة، وهو الموضع الذى يستر فيه الانسان ماله والخزانة أيضا مصدر خزن يخزن. وما كان في خزانة الانسان كان معدا له. فكذلك ما يقدر عليه الرب (1) راجع ج 12 ص 291. (2) راجع ج 1 ص 300 (3) راجع ج 5 ص 3 فما بعد. (4) راجع ج 16 ص 27. (*)
[ 15 ]
فكأنه معد عنده، قاله القشيرى. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: في العرش مثال كل شئ خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه ". والانزال بمعنى الانشاء والايجاد، كقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج (1) " وقوله: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد (2) ". وقيل: الانزال بمعنى الاعطاء، وسماه إنزالا لان أحكام الله إنما تنزل من السماء. قوله تعالى: وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقينكموه وما له برازقين (22) فيه خمس مسائل: الاولى: قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح) قراءة العامة " الرياح " بالجمع. وقرأ حمزة بالتوحيد، لان معنى الريح الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد. كما يقال: جاءت الريح من كل جانب. كما يقال: أرض سباسب (3) وثوب أخلاق. وكذلك تفعل العرب في كل شئ اتسع. وأما وجه قراءة العامة فلان الله تعالى نعتها ب (لواقح) وهى جمع. ومعنى " لواقح " حوامل، لانها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع. قال الازهرى: وجعل الريح لاقحا لانها تحمل السحاب، أي تقله وتصرفه ثم تمريه (4) فتستدره، أي تنزله، قال الله تعالى: " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا (5) " أي حملت. وناقة لاقح ونوق لواقح إذا حملت الاجنة في بطونها. وقيل: لوافح بمعنى ملقحة وهو الاصل، ولكنها لا تلقح إلا وهى في نفسها لاقح، كأن الرياح لقحت بخير. قيل: ذوات لقح، وكل ذلك صحيح، أي منها ما يلقح الشجر، كقولهم: عيشة راضية، أي فيها رضا، وليل نائم، أي فيه نوم. ومنها ما تأتى بالسحاب. يقال: لقحت الناقة (بالكسر) لقحا ولقاحا (بالفتح) فهى لاقح. وألقحها الفحل أي ألقى إليها (1) راجع ج 15 ص 234. (2) راجع ج 17 ص 260. (3) السبب: الارض المستوية البعيده. (4) مرت الريح السحاب: إذ أنزلت منه. (5) راجع ج 7 ص 228. (*)
[ 16 ]
الماء فحملته، فالرياح كالفحل للسحاب. قال الجوهرى: ورياح لواقح ولا يقال ملاقح، وهو من النوادر. وحكى المهدوى عن أبى عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح، ذهب إلى أنه جمع ملقحة وملقح، ثم حذفت زوائده. وقيل: هو جمع لاقحة ولاقح، على معنى ذات اللقاح على النسب. ويجوز أن يكون معنى لاقح حاملا. والعرب تقول للجنوب: لاقح وحامل، وللشمال حامل وعقيم. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله المبشرة فتقم (1) الارض قما، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب، ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر. وقيل: الريح الملاقح التى تحمل الندى فتمجه في السحاب، فإذا اجتمع فيه صار مطرا. عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الريح الجنوب من الجنة وهى الريح اللواقح التى ذكرها الله في كتابه وفيها منافع ". للناس). وروى عنه عليه السلام أنه قال: (ما هبت جنوب إلا أنبع الله بها عينا غدقة ". وقال أبو بكر بن عياش: لا تقطر قطرة من السحاب إلا بعد أن تعمل الرياح الاربع فيها، فالصبا تهيجه، والدبور تلقحه، والجنوب تدره، والشمال تفرقه. الثانية - روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك - واللفظ لاشهب - قال مالك: قال الله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح " فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولا أدرى ما ييبس في أكمامه، ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه. ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت، وليس ذلك بأن تورد. قال ابن العربي: إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله، لانه سمى باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح، وعليه جاء الحديث (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد ". قال ابن عبد البر: الابار عند أهل العلم في النخل التلقيح، وهو أن يؤخذ شئ من طلع [ ذكور ] النخل فيدخل بين ظهرانى طلع الاناث. (1) قم البيت: كنسه. (*)
[ 17 ]
ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمرة من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط. وحد ذلك في الزرع ظهوره من الارض، قاله مالك. وقد روى عنه أن إباره أن يحبب. ولم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره ممن حال مثل حاله، أن حكمه حكم ما أبر، لانه قد جاء عليه وقت الابار وثمرته ظاهرة بعد تغيبها في الحب. فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له. كما أن الحائط إذا بدا صلاحه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه. الثالثة: روى الائمة كلهم عن أبن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذى باعها إلا أن يشترط المبتاع. ومن ابتاع عبدا فماله للذى باعه إلا أن يشترطه المبتاع ". قال علماؤنا: إنما لم يدخل الثمر المؤبر مع الاصول في البيع إلا بالشرط، لانه عين موجودة يحاط بها أمن سقوطها غالبا. بخلاف التى لم تؤبر، إذ ليس سقوطها مأمونا فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها، لانها كالجنين. وهذا هو المشهور من مذهب مالك. وقيل: يجوز استثناؤها، هو قول الشافعي. الرابعة: لو اشترى النخل وبقى الثمر للبائع جاز لمشترى الاصل شراء الثمرة قبل طيبها على مشهور قول مالك، ويرى لها حكم التبعية وإن أفردت بالعقد. وعنه في رواية: لا يجوز. وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث. وهو الاظهر من أحاديث النهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. الخامسة - ومما يتعلق بهذا الباب النهى عن بيع الملاقح، والملاقح الفحول من الابل، الواحد ملقح. والملاقح أيضا الاناث التى في بطونها أولادها، الواحدة ملقحة (بفتح القاف) والملاقيح ما في بطون النوق من الاجنة، الواحدة ملقوحة، من قولهم: لقحت، كالمحموم من حم، والمجنون من جن، وفى هذا جاء النهى. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (*)
[ 18 ]
أنه نهى عن المجر وهو بيع ما في بطون الاناث. ونهى عن المضامين والملاقيح). قال أبو عبيد: المضامين ما في البطون، وهى الاجنة. والملاقيح ما في أصلاب الفحول. وهو قول سعيد بن المسيب وغيره. وقيل بالعكس: إن المضامين ما في ظهور الجمال، والملاقيح ما في بطون الاناث. وهو قول ابن حبيب وغيره. وأى الامرين كان، فعلماء المسلمين مجمعون على أن ذلك لا يجوز. وذكر المزني عن ابن هشام شاهدا بأن الملاقيح ما في البطون لبعض الاعراب: منيتى ملاقحا في الا بطن * تنتج ما تلقح بعد أزمن (1) وذكر الجوهرى على ذلك شاهدا قول الراجز: إنا وجدنا طرد الهوامل * خيرا من التنان والمسائل (2) وعدة العام وعام قابل * ملقوحة في بطن ناب حامل قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء) أي من السحاب. وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء. (ماء) أي قطرا. (فأسقيناكموه) أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. وقيل: سقى وأسقى بمعنى. وقيل بالفرق، وقد تقدم (3). (وما أنتم له بخازنين) أي ليست خزائنه عندكم، أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا. ومثله " وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (4) "، " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون " (5). وقال سفيان: لستم بمانعين المطر. قوله تعالى: وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون (23) أي الارض ومن عليها، ولا يبقى شئ سوانا. نظيره " إنا نحن نرث الارض ومن عليها وإلينا يرجعون ". فملك كل شئ لله تعالى. ولكن ملك عباده أملاكا فإذا ماتوا انقطعت (1) كذا في الاصول والسان. وفى ى: منيتى. (2) الهوامل: الابل الهملة. والتإنان: الانين. والناب: الناقة المسنة. والحائل: التى لم تحبل. (3) راجع ج 1 ص 417. (4) راجع ج 13 ص 39 فما بعده. (5) راجع ج 11 ص 109. (*)
[ 19 ]
الدعاوى، فكان الله وارثا من هذا الوجه. وقيل: الاحياء في هذه الآية إحياء النطفة في الارحام. فأما البعث فقد ذكره بعد هذا في قوله: " إن ربك هو يحشرهم ". قوله تعالى: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستخرين (24) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستاخرين فيه ثمان تأويلات: الاول - " المستقدمين " في الخلق إلى اليوم، و " المستأخرين " الذين لم يخلقوا بعد، قاله قتادة وعكرمة وغيرهما. الثاني - " المستقدمين " الاموات، و " المستأخرين " الاحياء، قاله ابن عباس والضحاك. الثالث - " المستقدمين " من تقدم أمة محمد، و " المستأخرين " أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد. الرابع - " المستقدمين " في الطاعة والخير، و " المستأخرين " في المعصية والشر، قاله الحسن وقتادة أيضا. الخامس - " المستقدمين " في صفوف الحرب، و " المستأخرين " فيها، قاله سعيد بن المسيب. السادس - " المستقدمين " من قتل في الجهاد، و " المستأخرين " من لم يقتل، قاله القرظى. السابع: - " المستقدمين " أول الخلق، و " المستأخرين " آخر الخلق، قاله الشعبى. الثامن - " المستقدمين " في صفوف الصلاة، و " المستأخرين " فيها بسبب النساء. وكل هذا معلوم لله تعالى، فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وعالم بمن خلق وما هو خالقه إلى يوم القيامة. إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية، لما رواه النسائي والترمذي عن أبى الجوزاء عن ابن عباس قال: " كانت امرأة تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الاول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطه، فأنزل الله عز وجل " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ". وروى عن أبى الجوزاء ولم يذكر ابن عباس. وهو أصح (1). (1) في ى: الصحيح. (*)
[ 20 ]
الثانية - هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة وعلى فضل الصف الاول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول ثم لم يجدوا إلا أن يستهمو (1) عليه لاستهموا ". فإذا جاء الرجل عند الزوال فنزل في الصف الاول مجاور الامام، حاز ثلاث مراتب في الفضل: أول الوقت، والصف الاول، ومجاورة الامام. فإن جاء عند الزوال فنزل في الصف الآخر أو فيما نزل عن الصف الاول، فقد حاز فضل أول الوقت وفاته فضل الصف الاول والمجاورة. فإن جاء وقت الزوال ونزل في الصف الاول دون ما يلى الامام فقد حاز فضل أول الوقت وفضل الصف الاول، وفاته مجاورة الامام. فإن جاء بعد الزوال ونزل في الصف الاول فقد فاته فضيلة أول الوقت، وحاز فضيلة الصف الاول ومجاورة الامام. وهكذا. ومجاورة الامام لا تكون لكل أحد، وإنما هي كما قال صلى الله عليه: وسلم: " ليلنى منكم أولو الاحلام والنهى " الحديث. فيما يلى الامام ينبغى أن يكون لمن كانت هذه صفته، فإن نزلها غيره أخر وتقدم وهو إلى الموضع، لانه حقه بأمر صاحب الشرع، كالمحراب هو موضع الامام تقدم أو تأخر. قاله ابن العربي. قلت: وعليه يحمل قول عمر رضى الله عنه: تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر. وقد روى عن كعب أن الرجل من هذه الامة ليخر ساجدا فيغفر لمن خلفه. وكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة. ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الاصول. وسيأتى في سورة " الصافات (3) " زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى. الثالثة - وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الاول في الصلاة، فكذلك تدل على فضل الصف الاول في القتال، فإن القيام في نحر العدو، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عمل، فالتقدم إليه أفضل، ولا خلاف فيه ولا خفاء به. ولم يكن أحد يتقدم الحرب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه كان أشجع الناس. قال البراء:: كنا والله إذا احمر البأس نتقى به، وإن الشجاع منا للذى يحاذي به، يعنى النبي صلى الله عليه وسلم). (1) أي إلا أن يقترعوا. (2) راجع ج 15 ص 137 فما بعد. (*)
[ 21 ]
قوله تعالى: وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25) قوله تعالى: (وإن ربك هو يحشرهم) أي للحساب والجزاء. (إنه حكيم عليم) تقدم (1). قوله تعالى: ولقد خلقنا الانسان من صلصل من حمإ مسنون (26) قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان) يعنى آدم عليه السلام (من صلصال). أي من طين يابس، عن ابن عباس وغيره. والصلصال: الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار، عن أبى عبيدة. وهو قول أكثر المفسرين. وأنشد أهل اللغة: * كعدو المصلصل الجوال (2) * وقال مجاهد: هو الطين المنتن، واختاره الكسائي. قال: وهو من قول العرب: صل اللحم وأصل إذا أنتن - مطبوخا كان أو نيئا - يصل صلولا. قال الحطيئة: ذاك فتى يبذل ذا قدره * لا يفسد اللحم لديه الصلول وطين صلال ومصلال، أي يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد. فكان أول ترابا، أي متفرق الاجزاء ثم بل فصار طينا، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا، أي متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا، على قول الجمهور. وقد مضى في " البقرة " بيان (1) هذا. والحمأ: الطين الاسود، وكذلك الحمأة بالتسكين، تقول منه: حمئت البئر حمأ (بالتسكين) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ (بالتحريك) كثرت حمأتها. وأحماتها إحماء ألقيت الحمأة، عن ابن السكيت. وقال أبو عبيدة: الحمأة (بسكون الميم) مثل الكمأة. والجمع حم ء، مثل تمرة وتمر. والحمأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سمى به. والمسنون المتغير. قال ابن عباس: (هو التراب المبتل المنتن، (1) راجع ج 1 ص 287، وص 279. (2) هذا عجز البيت. وتمامه كما في اللسان: عنتريس تعدو إذا مسها الصو * ت كعدو المسلسل الجوال (*)
[ 22 ]
فجعل صلصالا كالفخار. ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا: المنتن المتغير، من قولهم: قد أسن الماء إذا تغير، ومنه " يتسنه (1) " و " ماء غير آسن (2) ". ومنه قول أبى قيس بن الاسلت: سقت صداى رضابا غير ذى أسن * كالمسك فت على ماء العناقيد وقال الفراء: هو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له: السنانة والسنين، ومنه المسن. قال الشاعر: ثم خاصرتها إلى القبة الحم * راء (3) تمشى تمشى في مرمر مسنون أي محكول مملس. حكى أن يزيد بن معاوية قال لابيه: ألا ترى عبد الرحمن بن حسان يشبب بابنتك. فقال معاوية: وما قال ؟ فقال قال: هي زهراء مثل لؤلوة الغو * اص ميزت من جوهر مكنون * فقال معاوية: صدق ! فقال يزيد [ إنه يقول (4) ]: وإذا ما نسبتها لم تجدها * في سناء من المكارم دون فقال: صدق ! فقال: أين قوله: ثم خاصرتها... البيت. فقال معاوية: كذب. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسن الصب. وروى على بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: المسنون الرطب، وهذا بمعنى المصبوب، لانه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب. النحاس: وهذا قول حسن، لانه يقال: سننت الشئ أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء: ومنه الاثر المروى عن عمر (5) أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والشن (بالشين) تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق. وقال سيبويه: المسنون المصور. أخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال ذو الرمة: تريك سنة وجه مفرقة * ملساء ليس بها خال ولا ندب (6) (1) راجع ج 3 ص 288 (2) راجع ج 16 ص 236 (3) في السان: الخضراء. (4) الزيادة عن السان. (5) في نهاية ابن الاثير: " ابن عمر ". (6) السنة: الصورة. والمقرفة: التى دنت من الهجينة. والندب: الاثر من الجراح والقراخ. وقوله: غير مقرنة، أي غير هجينة، عفيفة كريمة. خال: شامة، وندب: أثر الجرح. (*)
[ 23 ]
وقال الاخفش: المسنون. المنصوب القائم، من قولهم: وجه مسنون إذا كان فيه طول. وقد قيل: إن الصلصال للتراب المدقق، حكاه المهدوى. ومن قال: إن الصلصال هو المنتن فأصله صلال، فأبدل من إحدى اللامين الصاد. و " من حمأ " مفسر لجنس الصلصال، كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب. قوله تعالى: والجآن خلقنه من قبل من نار السموم (27) قوله تعالى: (والجآن خلقناه من قبل) أي من قبل آدم. وقال الحسن: يعنى إبليس، خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام. وسمى جانا لتواريه عن الاعين. وفى صحيح مسلم من حديث ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما صور الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به وينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك (1) ". (من النار السموم) قال ابن مسعود: (نار السموم التى خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من نار جهنم. وقال ابن عباس: السموم الريح الحارة التى تقتل. وعنه: أنها نار لا دخان لها، الصواعق تكون منها، وهى نار تكون بين السماء والحجاب. فإذا أحدث الله أمرا اخترقت الحجاب فهوت الصاعقة إلى ما أمرت. فالهدة (2) التى تسمعون خرق ذلك الحجاب. وقال الحسن: نار السموم نار دونها حجاب، والذى تسمعون من انغطاط السحاب صوتها. وعن ابن عباس أيضا قال: كان إبليس من حى من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة - قال - وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار. قلت: هذا فيه نظر، فإنه يحتاج إلى سند يقطع العذر، إذ مثله لا يقال من جهة الرأى. وقد خرج مسلم من حديث عروة عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ". فقوله: (1) أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات. وقيل: لا يملك دفع الوسواس عنه. (2) الهدة: صوت وقع الحائط ونحوه، والهدة: صوت ما يقع من السحاب. (*)
[ 24 ]
فقوله: " خلقت الملائكة من نور " يقتضى العموم. والله أعلم. وقال الجوهرى: مارج من نار نار لا دخان لها خلق منها الجان، والسموم الريح الحارة تؤنث، يقال منه: سم يومنا فهو يوم مسموم، والجمع سمائم. قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار. القشيرى: وسميت الريح الحارة سموما لدخولها (بلطفها (1)) في مسام البدن. قوله تعالى: وإذ قال ربك لملائكة إنى خلق بشرا من صلصل من حما مسنون (28) فإذا سويته ونفحت فيه من روحي فقعوا له سجدين (29) قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة) تقدم في " البقرة (2) ". (إنى خالق بشرا من صلصال) من طين (فإذا سويته) أي سويت خلقه وصورته. (ونفخت فيه من روحي) النفخ إجراء الريح في الشئ. والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق، فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما، كقوله: " أرضى وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله ". ومثله " وروح منه " وقد تقدم في " النساء (3) " مبينا. وذكرنا في كتاب (التذكرة) الاحاديث الواردة التى تدل على أن الروح جسم لطيف، وأن النفس والروح إسمان لمسمى واحد. وسيأتى ذلك إن شاء الله. ومن قال إن الروح هو الحياة قال أراد: فإذا ركبت فيه الحياة. (فقعواله ساجدين) أي خروا له ساجدين. وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة. ولله أن يفضل من يريد، ففضل الانبياء على الملائكة. وقد تقدم في " البقرة (2) " هذا المعنى. وقال القفال: كانوا أفضل من آدم، وامتحنهم (الله (1) بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل. وهو مذهب المعتزلة. وقيل: أمروا بالسجود لله عند آدم، وكان آدم قبلة لهم. (1) من ى (2) راجع ج 1 ص 261، وص 291 قما بعد. (3) راجع ج 6 ص 22 (*)
[ 25 ]
قوله تعالى: فسجد الملكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (31) قوله تعالى (فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس) فيه مسألتان: الاولى - لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود، لقول: " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك (1) " وإنما منعه من ذلك الاستكبار والاستعظام، كما تقدم في " البقرة (2) " بيانه. ثم قيل: كان من الملائكة، فهو استثناء من الجنس. وقال قوم: لم يكن من الملائكة، فهو استثناء منقطع. وقد مضى في " البقرة (2) " هذا كله مستوفى. وقال ابن عباس: الجان أبو الجن وليسوا شياطين. والشياطين ولد إبليس، لا يموتون إلا مع إبليس. والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. فآدم أبو الانس. والجان أبو الجن. وإبليس أبو الشياطين، ذكره الماوردى. والذى تقدم في " البقرة " خلاف هذا، فتأمله هناك. الثانية - الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي، حتى لو قال: لفلان على دينار إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة، وما جانس ذلك كان مقبولا، ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة. ويستوى في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات. وقال مالك وأبو حنيفة رضى الله عنهما: استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز، حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل. فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات، والمكيلات من المقومات، مثل أن يقول: على عشرة دنانير إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء، ويلزم المقر جميع المبلغ. وقال محمد بن الحسن: الاستثناء من غير الجنس لا يصح، ويلزم المقر جملة (3) ما أقر به. والدليل (1) راجع ج 7 ص 169. (2) راجع ج 1 ص 294. (3) في ى: جميع. (*)
[ 26 ]
لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس، قال الله تعالى: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما (1) سلاما " فاستثنى السلام من جملة اللغو. ومثله " فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس " وإبليس من جملة الملائكة، قال الله تعالى: " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر (2) ربه ". وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى اليعافير وهى ذكور الظباء، والعيس وهى الجمال البيض من الانيس، ومثله قول النابغة (3): حلفت يمينا غير ذى مثنوية * ولا علم إلا حسن ظن بصاحب قوله تعالى: قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين (32) قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصل من حما مسنون (33) قال فاخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين (35) قوله تعالى: (قال يا إبليس مالك) أي ما المانع لك. (ألا تكون مع الساجدين) أي في ألا تكون. (قال لم أكن لاسجد لبسر خلقته من صلصال من حما مسموم) بين تكبره وحسده، وأنه خير منه، إذ هو من نار والنار تأكل الطين، كما تقدم في " الاعراف (4) " بيانه. (قال بأخرج منها) أي من السموات، أو من جنة عدن، أو من جملة الملائكة. (فإنك رجيم) أي مرجوم بالشهب. وقيل: ملعون مشئوم. وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والاعراف. (وإن عليك اللعنة) أي لعنتي، كما في سورة " ص (5) ". (1) راجع ج 17 ص 206. (2) راجع ص 419 من هذا الجزء. (3) لم يذكر المؤلف رحمة الله عليه قول النابغة، أو لعله سقط من الناسخ. وكأنه يشير إلى قوله: حلقت يمينا غير ذى مثنوية * ولا علم إلا حسن ظن بصاحب وهذا البيت أورده سيبويه في كتابه شاهدا على نصب ما بعد إلا على الاستثناء المنقطع، لان حسن الظن ليس من العلم. والمثنوية: الاستثناء في اليمين. والمعنى: حلفت غير مستثن في يمينى حسن ظن منى بثا حبى قام عندي مقام العلم الذى بوجب اليمين. (راجع كتاب سيبويه). (4) راجع ج 7 ص 170 (5) راجع ج 15 ص 228 (*)
[ 27 ]
قوله تعالى: * (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38)) * قوله تعالى: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء، ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه، كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الانظار إلى يوم يبعثون: أجلا يموت، لان يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. يعنى من المؤجلين. قال ابن عباس: (أراد به النفخة الاولى)، أي حين تموت الخلائق. وقيل: الوقت المعلوم الذى استأثر الله بعلمه، ويجهله إبليس. فيموت إبليس ثم يبعث، قال الله تعالى: " كل من عليها فان (1) ". وفى كلام الله تعالى له قولان: أحدهما - كلمه على لسان رسوله. الثاني - كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب. قوله تعالى: قال رب بما أغويتني لازينن لهم الارض ولاغوينهم أجمعين (39) قوله تعالى: (قال رب بما أغويتهم لازينن لهم في الارض) تقدم معنى الاغواء والزينة في الاعراف (3). وتزيينه هنا يكون بوجهين: إما بفعل المعاصي، وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة. ومعنى: (لاغوينهم أجمعين) أي لاضلنهم عن طريق الهدى. وروى ابن لهيعة عبد الله عن دراج أبى السمح عن أبى الهيثم عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إبليس قال يا رب وعزتك وجلالك لا أزال أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم فقال الرب وعزتي وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ". (1) راجع ج 17 ص 164. (2) راجع ج 7 ص 174 و 195. (*)
[ 28 ]
قوله تعالى: إلا عبادك منهم المخلصين (40) قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام، أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم. وقرأ الباقون بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء. حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال: " الذى يعمل ولا يحب أن يحمده الناس ". قوله تعالى: قال هذا صراط مستقيم (41) قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. الحسن: " على " بمعنى إلى. مجاهد والكسائي: هذا على الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده: طريقك على ومصيرك إلى. وكقوله: " إن ربك لبالمرصاد (1) ". فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلى فأجازي كلا بعمله، يعنى طريق العبودية. وقيل: المعنى على أن أدل على الصراط المستقيم بالبيان والبرهان. وقيل: بالتوفيق والهداية. وقرأ ابن سيربن وقتادة والحسن وقيس بن عباد وأبو رجاء وحميد ويعقوب " هذا صراط على مستقيم " برفع " على " وتنوينه، ومعناه رفيع مستقيم، أي رفيع في الدين والحق. وقيل: رفيع أن ينال، مستقيم أن يمال. قوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42) الاولى - قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) قال العلماء: يعنى على قلوبهم. وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوى ويضيقه عليهم. وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم. (1) راجع ج 20 ص 50. (*)
[ 29 ]
قلت: لعل قائلا يقول: قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله: " فأزلهما الشيطان (1) "، وعن جملة من أصحاب نبيه بقوله: " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا (2) " فالجواب ما ذكر، وهو أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم القبول (3)، بل تزيله التوبة وتمحوه الاوبة. ولم يكن خروج آدم عقوبة لما تناول، على ما تقدم في " البقرة (1) " بيانه. وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى القول عنهم في آل عمران (2). ثم إن قوله سبحانه: " ليس لك عليهم سلطان " يحتمل أن يكون خاصا فيمن حفظه الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الاوقات والاحوال، وقد يكون في تسلطه تفريج كربة وإزالة غمة، كما فعل ببلال، إذ أتاه يهديه كما يهدى الصبى حتى نام، ونام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا وقالوا: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا ؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس في النوم تفريط " ففرج عنهم. (إلا من أتبعك من الغاوين) أي الضالين المشركين. أي سلطانه على هؤلاء، دليله " إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (4) ". الثانية - وهذه الآية والتى قبلها دليل على جواز أستثناء القليل من الكثير والكثير من القليل، مثل أن يقول: عشرة إلا درهما. أو يقول: عشرة إلا تسعة. وقال أحمد ابن حنبل: لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه. وأما استثناء الاكثر من الجملة فلا يصح. ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استئتاء " الغاوين " من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الاقل من الجملة واستثناء الاكثر من الجملة جائز. قوله تعالى: وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوك (44) (1) راجع ج 1 ص 11 وص 321 وج 4 ص 24. (2) راجع ج 4 ص 243. (3) في ى: العفو (4) راجع ص 175 من هذا الجزء. (*)
[ 30 ]
قوله تعالى: (وإن جهنم لموعدهم أجمعين) يعنى إبليس ومن اتبعه. (لها سبعة أبواب) أي أطباق، طبق فوق طبق (لكل باب) أي لكل طبقة (منهم جزء مقسوم) أي حظ معلوم. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوى قال: سمعت حطان بن عبد الله الرقاشى يقول سمعت عليا رضى الله عنه يقول: هل تدرون كيف أبواب جهنم ؟ قلنا: هي مثل أبوابنا. قال لا، هي هكذا بعضها فوق بعض - زاد الثعلبي: ووضع إحدى يديه على الاخرى - وأن الله وضع الجنان على الارض، والنيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها لظى، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية، وكل باب أشد حرا من الذى يليه سبعين مرة. قلت: كذا وقع هذا التفسير. والذى عليه الاكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات، وهى مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهى التى تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها. ثم لظى، ثم الحطمة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال الضحاك: في الدرك الاعلى المحمديون، وفى الثاني النصارى، وفى الثالث اليهود، وفى الرابع الصابئون، وفى الخامس المجوس، وفى السادس مشركو العرب، وفى السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة. قال الله تعالى: " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار " - وقد تقدم في النساء (1) -، وقال: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (2) "، وقال: " فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (3) ". وقسم معاذ بن جبل رضى الله عنه العلماء السوء من هذه الامة تقسيما على تلك الابواب، ذكرناه في كتاب (التذكرة). وروى الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل سيفه على أمتى " قال: حديث غريب. وقال أبى بن كعب:: لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية (4). وقال وهب بن منبه: بين كل بابين مسيرة سبعين (1) راجع ج 4 ص 424. (2) راجع ج 15 ص 318. (3) راجع ج 6 ص 368. (4) في كتاب الدر المنقور للسيوطي: " قال كعب رضى الله عنه: للشهيد نور، ولمن قاتل الحرورية عشرة أنوار. وكان يقول: لجهنم سبعة أبواب: باب منها للحرورية. قال: " ولقد خرجوا في زمان داود عليه السلام ". (*)
[ 31 ]
سنة، كل باب أشد حرا من الذى فوقه بسبعين ضعفا، وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة. وروى سلام الطويل عن أبى سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " " جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله، وجزء آثروا شهواتهم على الله، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله، وجزء عتوا على الله ". ذكره الحليمى أبو عبد الله الحسين بن الحسن في كتاب (منهاج الدين) له، وقال: فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية (1). والشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم، ويشكون في شريعته أنها من عنده أم لا. والغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه، وهم الدهرية. والمؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي، لتكذيبهم رسل الله وأمره ونهيه. والشافون غيظهم بغضب الله هم القاتلون أنبياء الله وسائر الداعين إليه، المعذبون من ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم، والمصيرون رغبتهم بحظهم من الله هم المنكرون بالبعث والحساب، فهم يعبدون ما يرغبون فيه، لهم جميع حظهم من الله تعالى، والعاتون على الله الذين لا يبالون، بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا، فلا يتفكرون ولا يعتبرون ولا يستدلون. والله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت الحديث. ويروى أن سلمان الفارسى رضى الله عنه لما سمع هذه الآية " وإن جهنم لموعدهم أجمعين " فر ثلاثة أيام من الخوف لا يعقل، فجئ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله، أنزلت هذه الآية " وإن جهنم لموعدهم أجمعين " ؟ فو الذى بعثك بالحق لقد قطعت قلبى، فأنزل الله تعالى " إن المتقين في جنات وعيون ". وقال بلال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في مسجد المدينة وحده، فمرت به امرأة أعرابية فصلت خلفه ولم يعلم بها، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " فخرت الاعرابية مغشيا عليها، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم وجبتها (2) فانصرف ودعا بماء فصب على وجهها (1) في ى: الوثينة. (2) الوجبة: صوت الشى يسقط فيسمع له كالهدة. (*)
[ 32 ]
حتى أفاقت وجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا هذه مالك " ؟ فقالت: أهذا شئ من كتاب الله المنزل، أو تقوله من تلقاء نفسك ؟ فقال: " يا أعرابيه، بل هو من كتاب الله تعالى المنزل " فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على كل باب منها ؟ قال: " يا أعرابية، بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل منها على قدر أعمالهم " فقالت: والله إنى امرأة مسكينة، ما لى مال، وما لى إلا سبعة أعبد، أشهدك يا رسول الله، أن كل عبد منهم عن كل باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى. فأتاه جبريل فقال. " يا رسول الله، بشر الاعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها وفتح لها أبواب الجنة كلها ". قوله تعالى: إن المتقين في جنات وعيون (45) ادخلوها بسلام أمنين (46) قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون) أي الذين اتقوا الفواحش والشرك. أي بساتين. " وعيون " هي الانهار الاربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. وأما العيون المذكورة في سورة " الانسان (1) ": الكافور والزنجبيل والسلسبيل، وفى " المطففين (1) ": التسنيم، فيأتى ذكرها وأهلها إن شاء الله. وضم العين من " عيون " على الاصل، والكسر مراعاة للياء، وقرئ بهما.. قرى بهما. (ادخلوها بسلام آمنين) قراءة العامة " ادخلوها " بوصل الالف وضم الخاء، من دخل يدخل، على الامر. تقديره: قيل ادخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب " ادخلوها " بضم التنوين ووصل الالف وكسر الخاء على الفعل المجهول، من أدخل. أي أدخلهم الله إياها. ومذهبهم كسر التنوين في مثل " برحمة ادخلوا (2) الجنة " وشبهه، إلا أنهم ها هنا ألقوا حركة الهمزة على التنوين، إذ هي ألف قطع، ولكن فيه انتقال من كسر إلى ضم ثم من ضم إلى كسر فيثقل على اللسان. " بسلام " أي بسلامة من كل داء وآفة. وقيل: بتحية من الله لهم. (آمنين) أي من الموت والعذاب والعزل والزوال. (1) راجع ج 19 ص 123، 139 - 140 - 262. (2) راجع ج 7 ص 274. (*)
[ 33 ]
قوله تعالى: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين (47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48) قال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ثم يدخلون العين الاخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم، وتجرى عليهم نضرة النعيم، ونحوه عن على رضى الله عنه. وقال على بن الحسين: نزلت في أبى بكر وعمر وعلى والصحابة، يعنى ما كان بينهم في الجاهلية من الغل. والقول الاول أظهر، يدل عليه سياق الآية. وقال على رضى الله عنه: أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء. والغل: الحقد والعداوة، يقال منه: غل يغل. ويقال: من الغلول وهو السرقة من المغنم: غل يغل. ويقال من الخيانة: أغل يغل. كما قال (1): جزى الله عنا حمزة ابنة نوفل * جزاء مغل بالامانة كاذب وقد مضى هذا في آل عمران (2). (إخوانا على سرر متقابلين) أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا، عن مجاهد وغيره. وقيل: الاسرة تدور كيفما شاءوا، فلا يرى أحد قفا أحد. وقيل: " متقابلين " قد أقبلت عليهم الازواج وأقبلوا عليهن بالود. وسرر جمع سرير، مثل جديد وجدد. وقيل: هو من السرور، فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور. والاول أظهر. قال ابن عباس: على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر، السرير ما بين صنعاء (3) إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة. " وإخوانا " نصب على الحال من " المتقين " (1) البيت للنمر بن أبيات في أم أولاده. وكان من حديثها أن أخاه الحارث بن تولب سيد قومه أغار غلى بنى أسد فسبى منهم يقال لها: " حمزة بنت نوفل " فوهبها لاخيه النمر ففركته فحبستها حتى استقرت وولدت له أولادا، ثم قالت له في بعض أيامها: إنى قد اشتقد إلى أهلى، فقال لها: إنى أخاف أن صرت إلى أهلك أن تغلبيني على نفسك فواثقته لترجعن إليه، ثم خانت عهده. (راجع الاغانى ج 19 ص 158 طبع بولاق). وفى التاج: جمرة. بجيم. فركته: أبغضته. (2) راجع ج 4 ص 255 (3) صنعاء: موضعان، أحدهما باليمين وهى العظمى، وأخرى قرية بالغوطة. والجابية: قرية من أعمال دمشق. وعدن: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. وأيلة: مدينة على ساحل البحر الاحمر. (عن معجم البلدان). (*)
[ 34 ]
أو من المضمر في " ادخلوها "، أو من المضمر في " آمنين "، أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في " صدورهم ". (لا يمسهم فيها نصب) أي إعياء وتعب. (وما هم عنها بمخرجين) دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول، وأن أهلها فيها باقون. " أكلها (1) دائم ". " إن هذا لرزقنا ماله (2) من نفاد ". قوله تعالى: نبى عبادي أنى أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الاليم (50) هذه الآية وزان قوله عليه السلام: " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد " أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة. وقد تقدم في الفاتحة (3). وهكذا ينبغى للانسان أن يذكر نفسه وغيره فيخوف ويرجى، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض. وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: " أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار " فشق ذلك عليهم فنزلت الآية. ذكره الماوردى والمهدوى. ولفظ الثعلبي عن ابن عمر قال: اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم من الباب الذى يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال: " ما لكم تضحكون لا أراكم تضحكون " ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقرى فقال لنا: " إنى لما خرجت جاءني جبريل فقال يا محمد لم تقنط عبادي من رحمتى " نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الاليم ". فالقنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الامور أوساطها. قوله تعالى: ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم (53) قال أبشرتموني على أن مسنى الكبر فبم تبشرون (54) (1) راجع ج 9 ص 324. (2) راجع ج 15 ص 218. (3) راجع ج 1 ص 139. (*)
[ 35 ]
قوله تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) ضيف إبراهيم: الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط. وقد تقدم ذكرهم (1). وكان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد. وسمى الضيف ضيفا لاضافته إليك ونزوله عليك. وقد مضى من حكم الضيف في " هود (1) " ما يكفى والحمد لله. (إذ دخلوا عليه) جمع الخبر لان الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر. ضافه وأضافه أماله، ومنه الحديث " حين تضيف الشمس للغروب "، وضيفوفة (2) السهم، والاضافة والنحوية. (فقالوا سلاما) أي سلموا سلاما. (قال إنا منكم وجلون) أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرب العجل ورآهم لا يأكلون، على ما تقدم في هود (1). وقيل: أنكر السلام ولم يكن في بلادهم رسم السلام. (قالوا لا توجل) أي قالت الملائكة لا تخف. (إنا نبشرك بغلام عليم) أي حليم (3)، قاله مقاتل. وقال الجمهور: عالم. وهو إسحاق. (قال أبشرتموني على أن مسنى الكبر) " أن " مصدرية، أي على مس الكبر إياى وزوجتي، وقد تقدم في هود وإبراهيم (1)، حيث يقول: (فبم تبشرون) استفهام تعجب. وقيل: استفهام حقيقي. وقرأ الحسن " توجل " بضم التاء. والاعمش " بشرتموني " بغير ألف، ونافع وشيبة " تبشرون " بكسر النون والتخفيف، مثل، " أتحاجوني " وقد تقدم تعليله (4). وقرأ ابن كثير وابن محيصن " تبشرون " بكسر النون مشددة، تقديره تبشرونني، فأدغم النون في النون. الباقون " تبشرون " بنصب النون بغير إضافة. قوله تعالى: قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين (55) قوله تعالى: (قالوا بشرناك بالحق) أي بما لا خلف فيه، وأن الولد لا بد منه. (فلا تكن من القانطين) أي من الآيسين من الولد، وكان قد أيس من الولد لفرط (1) راحع ج 9 ص 62، ص 64 فما بعد، ص 3 75. (2) ضاف السهم: عدل عن الهدف أو الرمية. (3) في ى: حكيم. (4) راجع ج 7 ص 28. (*)
[ 36 ]
الكبر. وقراءة العامة " من القانطين " بالالف. وقرأ الاعمش ويحيى بن وثاب " من القنطين " بلا ألف. وروى عن أبى عمرو. وهو مقصور من " القانطين ". ويجوز أن يكون من لغة من قال: قنط يقنط، مثل حذر يحذر. وفتح النون وكسرها من " يقنط " لغتان قرئ بهما. وحكى فيه " يقنط " بالضم. ولم يأت فيه " قنط يقنط " [ و ] من فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين، فأخذ في الماضي بلغة من قال: قنط يقنط، وفى المستقبل بلغة من قال: فنظ يقنط، ذكره المهدوى. قوله تعالى: قال ومن يقنط من رحمة الله ربه إلا الضالمون (56) أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. يعنى أنه استبعد الولد لكبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله تعالى. قوله تعالى: قال فما خطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إاى قوم مجرمين (58) إلآ ال لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59) إلا امرأته قدرناها لمن الغابرين (60) فيه مسئلتان: الاولى - لما علم أنهم ملائكة - إذ أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد - قال: فما خطبكم ؟ والخطب الامر الخطير. أي فما أمركم وشأنكم وما الذى جئتم به. (قالوا إنا أرسلنا الى قوم مجرمين) أي مشركين ضالين. وفى الكلام إضمار، أي أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم. (إلا آل لوط) أتباعه وأهل دينه. (إنا لمنجوهم) وقرأ حمزة والكسائي " لمنجوهم " بالتخفيف من أنجى. الباقون: بالتشديد من نجى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. والتنجية والانجاء التخليص. (إلا امرأته) استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك. وقد تقدمت قصة قوم لوط (*)
[ 37 ]
في " الاعراف (1) " وسورة " هود (2) " بما فيه كفاية. (قدرنا إنها لمن الغابرين) أي قضينا وكتبنا إنها لمن الباقين في العذاب. والغابر: الباقي. قال (3): لا تكسع الشول بأغبارها * إنك لا تدرى من الناتج الاغبار بقايا اللبن. وقرأ أبو بكر والمفضل " قدرنا " بالتخفيف هنا وفى النمل (4)، وشدد الباقون. الهروي: يقال قدر وقدر، بمعنى. الثانية - لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الاستثناء من النفى إثبات ومن الاثبات نفى، فإذا قال رجل: له على عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما، ثبت الاقرار بسبعة، لان الدرهم مستثنى من الاربعة، وهو مثبت لانه مستثنى من منفى، وكانت الاربعة منفية لانها مستثناة من موجب وهو العشرة، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة. وكذلك لو قال: على خمسة دراهم إلا درهما إلا ثلثيه، كان عليه أربعة دراهم وثلث. وكذلك إذا قال: لفلان على عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة، كان الاستثناء الثاني راجعا إلى ما قبله، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان، لان العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر. والتسعة نفى والسبعة نفى فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان، وهو القدر الواجب بالاقرار لا غير. فقوله سبحانه: " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين. إلا امرأته " فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم قال: " إلا امرأته " فاستثناها من آل لوط، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا. وهكذا الحكم في الطلاق، لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين، لان الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهى الثلاث. وكذا كل ما جاء من هذا فتفهمه. (1) راجع ج 7 ص 243. (2) راجع ج 9 ص 62. (3) القائل هو الحارث بن حلزة. والمسع: ضرب ضرع النلقة بالماء البارد ليجف لبنها ويتراد في ظهرها فيكون أقوى لها على الجدب في العام القابل. والشول: جمع شائله وهى من الابل التى أتى هليها من حملها أو وضغها شبعة أشهر فخف لبنها. والاغبار: جمع الغبر، وهى بقية اللبن فيالضرع. (4) راجع ج 13 ص 219. (*)
[ 38 ]
قوله تعالى: فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون (62) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون (63) وأتيناك بالحق وإنا لصدقون (64) فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حين تؤمرون (65) قوله تعالى: (فلما جاء آل لوط المرسلون. قال إنكم قوم منكرون) أي لا أعرفكم. وقيل: كانوا شبابا ورأى جمالا فخاف عليهم من فتنة قومه، فهذا هو الانكار. (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) أي يشكون أنه نازل بهم، وهو العذاب. (وأتيناك بالحق) أي بالصدق. وقيل: بالعذاب. (وإنا لصادقون) أي في هلاكهم. (فأسر بأهلك بقطع من الليل) " تقدم في هود (1). (وأتبع أدبارهم) أي كن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب. (ولا يلتفت منكم أحد) نهوا عن الالتفات ليجدوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح. وقيل: المعنى لا يتخلف. (وامضوا حيث توئمرون) قال ابن عباس: يعنى الشام. مقاتل: يعنى صفد، قرية من قرى لوط. وقد تقدم. وقيل: إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين، وإنما سمى اليقين لان إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم، فقال لجبريل: من أين يخسف بهم ؟ قال: " من هاهنا " وحد له حدا، وذهب جبريل، فلما جاء لوط. جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب، فلما اهتزت الارض قال إبراهيم: " أيقنت بالله " فسمى اليقين. قوله تعالى: وقضينا إليه ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66) وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (68) واتقا الله ولا تخزون (69) قالوآ أو لم ننهك عن العلمين (70) قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين (71) (1) راجع ج 9 ص 79. (*)
[ 39 ]
قوله تعالى: (وقظينا إليه) أي أوحينا إلى لوط. (ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) نظيره " فقطع دابر القوم الذين ظلموا (1) ". " مصبحين " أي عند طلوع الصبح. وقد تقدم (2). (وجاء أهل المدينة) أي أهل مدينة لوط (يستبشرون) مستبشرين بالاضياف طمعا منهم في ركوب الفاحشة. (إن هؤلاء ضيفي) أي أضيافي. (فلا تفضحون) أي تخجلون. (واتقوا الله ولا تخزون) يجوز أن يكون من الخزى وهو الذل والهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية وهو الحياء والخجل. وقد تقدم في هود (2). (قالوا أو لم ننهك عن العالمين) أي عن أن تضيف أحدا لانا نريد منهم الفاحشة. وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء، عن الحسن. وقد تقدم في الاعراف (3). وقيل: أو لم ننهك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة. (قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين) أي فتزوجوهن ولا تركنوا إلى الحرام. وقد تقدم بيان هذا في هود (2). قوله تعالى: لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون (72) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قال القاضى أبو بكر بن العربي: قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفى حيرتهم يترددون. قلت: وهكذا قال القاضى عياض: أجمع أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم. وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال. ومعناه وبقائك يا محمد. وقيل: وحياتك. وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم، لانه أكرم البرية عنده. قال ابن العربي: " ما الذى يمنع أن يقسم الله سبحانه وتعالى بحياة لوط ويبلغ به من التشريف (1) راجع ج 6 ص 427 (2) راجع ج 9 ص 41 وص 77 فما بعد. (3) راجع ج 7 ص 245 (*)
[ 40 ]
ما شاء، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتى ضعفيه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم، لانه أكرم على الله منه، أو لا ترى أنه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد أرفع. ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة ". قلت: ما قاله حسن، فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاما معترضا في قصة لوط. قال القشيرى أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره: ويحتمل أن يقال: يرجع ذلك إلى قوم لوط، أي كانوا في سكرتهم يعمهون. وقيل: لما وعظ لوط قومه وقال هؤلاء بناتى قالت الملائكة: يا لوط، " لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون " ولا يدرون ما يحل بهم صباحا. فإن قيل: فقد أقسم تعالى بالتين والزيتون وطور سينين، فما في هذا ؟ قيل له: ما من شئ أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده، فكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده. والعمر والعمر (بضم العين وفتحها) لغتان ومعناهما واحد، إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال. وتقول: عمرك الله، أي أسأل الله تعميرك. و " لعمرك " رفع بالابتداء وخبره محذوف. المعنى لعمرك مما أقسم به. الثانية - كره كثير من العلماء أن يقول الانسان لعمري، لان معناه وحياتي. قال إبراهيم النخعي: يكره للرجل أن يقول لعمري، لانه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال. ونحو هذا قال مالك: إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك، وليس من كلام أهل الذكران، وإن كان الله سبحانه أقسم به في هذه القصة، فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه، فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره. وقال ابن حبيب: ينبغى أن يصرف " لعمرك " في الكلام لهذه الآية. وقال قتادة: هو من كلام العرب. قال ابن العربي: وبه أقول، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه. قلت. القسم ب " لعمرك ولعمري " ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها كثير.
[ 41 ]
قال النابغة: لعمري وما عمرى على بهين * لقد نطقت بطلا على الاقارع (1) آخر: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى * لكالطول المرخى وثنياه باليد (2) آخر: أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان آخر: إذا رضيت على بنو قشير * لعمر الله أعجبني رضاها وقال بعض أهل المعاني: لا يجوز هذا، لانه لا يقال لله عمر، وإنما هو تعالى أزلى. ذكره الزهراوي. الثالثة - قد مضى الكلام فيما يحلف به وما لا يجوز الحلف به في " المائدة (3) "، وذكرنا هناك قول أحمد بن حنبل فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لزمته الكفارة. قال ابن خويز منداد: من جوز الحلف بغير الله تعالى مما يجوز تعظيمه بحق من الحقوق فليس يقول إنها يمين تتعلق بها كفارة، إلا أنه من قصد الكذب كان ملوما، لانه في الباطن مستخف بما وجب عليه تعظيمه. قالوا: وقوله تعالى " لعمرك " أي وحياتك. وإذا أقسم الله تعالى بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته. وعلى مذهب مالك معنى قوله: " لعمرك " و " التين والزيتون (4) " " والطور. وكتاب مسطور (5) " " والنجم إذا هوى " " والشمس وضحاها (4) " " لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد. ووالد وما ولد " (4). كل هذا معناه: وخالق التين والزيتون، وبرب الكتاب المسطور، وبرب البلد الذى حللت به، وخالق عيشك وحياتك، وحق محمد، فاليمين والقسم حاصل به سبحانه لا بالمخلوق. قال ابن خويز منداد: ومن جوز اليمين بغير الله تعالى تأول قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحلفوا (1) أراد بالاقارع بنى عوف، وكانوا قد وشوا به إلى النعمان. (2) البيت لطرفه بن العبد. والطول: الحبل. وثنياه: ما ثنى منه. (3) راجع ج 7 ص 269 وما بعدها. (4) راجع ج 20 ص 110 وص 72 وص 59. (5) راجع ج 17 ص 58 وص 81. (*)
[ 42 ]
بآبائكم " وقال: إنما نهى عن الحلف بالآباء الكفار، ألا ترى أنه قال لما حلفوا بآبائهم:: " للجبل عند الله أكرم من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ". ومالك حمل الحديث على ظاهره. قال ابن خويز منداد: واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال: احلف لى بحق ما حواه هذا القبر، وبحق ساكن هذا القبر، يعنى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالحرم والمشاعر العظام، والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه (1). قوله تعالى: فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74) قوله تعالى: (فأخذتهم الصيحة مشرقين) نصب على الحال، أي وقت شروق الشمس. يقال: أشرقت الشمس أي أضاءت، وشرقت إذا طلعت. وقيل: هما لغتان بمعنى. وأشرق القوم أي دخلوا في وقت شروق الشمس. مثل أصبحوا وأمسوا، وهو المراد في الآية. وقيل: أراد شروق الفجر. وقيل: أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس، فكان تمام الهلاك عند ذلك. والله أعلم. و " الصيحة " العذاب. وتقدم ذكر " سجيل (2) " قوله تعالى: إن في ذلك لايت للمتوسمين (75) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (للمتوسمين) روى الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول) من حديث أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " للمتفرسين " وهو قول مجاهد. وروى أبو عيسى الترمذي عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله (1) تأمل هذا مع قوله عليه الصلاة والسلام " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ". (2) راجع ج 9 ص 81. (*)
[ 43 ]
عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله - ثم قرأ - " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " ". قال: هذا حديث غريب. وقال مقاتل وابن زيد: للمتوسمين للمتفكرين. الضحاك: للنظارين. قال الشاعر (1): أو كلما وردت عكاظ قبيلة * بعثوا إلى عريفهم يتوسموا وقال قتادة: للمعتبرين، قال زهير: وفيهن ملهى للصديق ومنظر * أنيق لعين الناظر المتوسم وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، والمعنى متقارب. وروى الترمذي الحكيم من حديث ثابت عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله عز وجل عبادا يعرفون الناس بالتوسم ". قال العلماء: التوسم تفعل من الوسم، وهى العلامة التى يستدل بها على مطلوب غيرها. يقال: توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسم ذلك فيه، ومنه قول عبد الله بن رواحة للنبى صلى الله عليه وسلم: إنى توسمت فيك الخير أعرفه * والله يعلم أنى ثابت البصر آخر: توسمته لما رأيت مهابة * عليه وقلت المرء من آل هاشم * واتسم الرجل إذا جعل لنفسة علامة يعرف بها. وتوسم الرجل طلب كلا الوسمى. وأنشد: وأصبحن كالدوم النواعم غدوة * على وجهة من ظاعن متوسم وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر. زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الاخلاق وفضول الدنيا. روى نهشل عن ابن عباس " للمتوسمين " قال: لاهل الصلاح والخير. وزعمت الصوفية أنها كرامة. وقيل: بل هي استدلال بالعلامات، (1) هو طريف بن تمم العنبري (عن شواهد سيبويه) (*)
[ 44 ]
ومن العلامات ما يبدو ظاهرا لكل أحد وبأول نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادئ النظر. قال الحسن: المتوسمون هم الذين يتوسمون الامور فيعلمون أن الذى أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار، فهذا من الدلائل الظاهرة. ومثله قول ابن عباس: ما سألني أحد عن شئ إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه. وروى عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجارا (1)، وقال الآخر: بل حدادا، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجارا (1) وأنا اليوم حداد. وروى عن جندب بن عبد الله البجلى أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال: من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. فقلنا له: كأنك عرضت بهذا الرجل، فقال: إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا، فكان رأس الحرورية، واسمه مرداس. وروى عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال: هذا سيد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتى هجره عامة إخوانه. وقال لايوب: هذا سيد فتيان أهل البصرة، ولم يستثن. وروى عن الشعبى أنه قال لداود الازدي وهو يماريه: إنك لا تموت حتى تكوى في رأسك، وكان كذلك. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الاشتر، فصعد فيه النظر وصوبه وقال: أيهم هذا ؟ قالوا: مالك بن الحارث. فقال: ما له قاتله الله ! إنى لارى للمسلمين منه. يوما عصيبا، فكان منه في الفتنة ما كان. وروى عن عثمان بن عفان رضى الله عنه: أن أنس بن مالك دخل عليه، وكان قد مر بالسوق فنظر إلى امرأة، فلما نظر إليه قال عثمان: يدخل أحدكم على وفى عينيه أثر الزنى فقال له أنس: أوحيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال لا ولكن برهان وفراسة وصدق). ومثله كثير عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أجمعين. الثانية - قال (القاضى (2) أبو بكر بن العربي: " إذا ثبت أن التوسم والتفرس من مدارك المعاني فإن ذلك لا يترتب عليه حكم ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس. وقد كان قاضى القضاة الشامي المالكى ببغداد أيام كونى بالشام يحكم بالفراسة في الاحكام، جريا على طريق إياس (1) في ى: تاجرا. (2) من ى. (*)
[ 45 ]
ابن معاوية أيام كان قاضيا، وكان شيخنا فخر الاسلام أبو بكر الشاشى صنف جزءا في الرد عليه، كتبه لى بخطه وأعطانيه، وذلك صحيح، فإن مدارك الاحكام معلومة شرعا مدركة قطعا وليست الفراسة منها قوله تعالى: وإنها لبسبيل مقيم (76) إن ذلك لاية للمؤمنين (77) وإن كان أصحاب الايك لظلمين (78) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79) قوله تعالى: (وإنها) يعنى قرى قوم لوط. (لبسبيل مقيم) أي على طريق قومك يا محمد إلى الشام. (إن في ذلك لاية للمؤمنين) أي لعبرة للمصدقين. (وإن كان أصحاب الايكة لظللمين) يريد قوم شعيب، كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر مثمر. والايكة: الغيضة، وهى جماعة الشجر، والجمع الايك. ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل. قال النابغة: تجلو بقادمتى حمامة أيكة * بردا أسف لثاته بالاثمد وقيل: الايكة اسم القرية. وقيل اسم البلدة. وقال أبو عبيدة: الايكة وليكة مدينتهم، بمنزلة بكة من مكة. وتقدم خبر شعيب وقومه (1). (وإنهما لبإمام مبين) أي بطريق واضح في نفسه، يعنى مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الايكة يعتبر بهما من يمر عليهما. قوله تعالى: ولقد كذب أصحب الحجر المرسلين (80) الحجر ينطلق على معان: منها حجر الكعبة. ومنها الحرام، قال الله تعالى: " وحجرا محجورا " أي حراما محرما. والحجر العقل، قال الله تعالى: " لذى حجر (3) " والحجر حجر القميص، والفتح أفصح. والحجر الفرس الانثى. والحجر ديار ثمود، وهو المراد هنا، (1) راجع ج 7 ص 247. (2) راجع ج 13 ص 58. (3) راجع ج 20 ص 42. (*)
[ 46 ]
أي المدينة، قال الازهرى. قتادة: وهى ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذى فيه ثمود. الطبري: هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح. وقال: " المرسلين " وهو صالح وحده، ولكن من كذب نبيا فقد كذب الانبياء كلهم، لانهم على دين واحد في الاصول فلا يجوز التفريق بينهم. وقيل: كذبوا صالحا ومن تبعه ومن تقدمه من النبيين أيضا. والله أعلم روى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا: قد عجنا واستقينا. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين. وفى الصحيح عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الابل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التى تردها الناقة. وروى أيضا عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم) ثم زجر (1) فأسرع. قلت: ففى هذه الآية التى بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء، فأولها - كراهة دخول تلك المواضع، وعليها حمل بعض العلماء دخول مقابر الكفار، فإن دخل الانسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التى أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتبار والخوف والاسراع. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدخلوا أرض بابل فإنها ملعونة ". مسألة: أمر النبي بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لاجل أنه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله. وقال " اعلفوه الابل ". (1) أس زجر صلى الله عليه وسلم ناقته. (*)
[ 47 ]
قلت: وهكذا حكم الماء النجس وما يعجن به. وثانيها: قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أتعلفه الابل والبهائم، إذ لا تكليف عليها، وكذلك قال، في العسل النجس: إنه يعلفه النحل. وثالثها - أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلف ما عجن بهذا الماء الابل، ولم يأمر بطرحه كما أمر لحوم الحمر الانسية يوم خيبر، فدل على أن لحم الحمر أشد. في التحريم وأغلظ في التنجيس. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسب الحجام أن يعلف الناضح والرقيق، ولم يكن ذلك لتحريم ولا تنجيس. قال الشافعي: ولو كان حراما لم يأمره أن يطعمه رقيقه، لانه متعبد فيه كما تعبد في نفسه. ورابعها - في أمره صلى الله عليه وسلم بعلف الابل العجين دليل على جواز حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها، خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا وقال: تطلق الكلاب عليها ولا يحملها إليهم. وخامسها - أمره صلى الله عليه وسلم أن يستقوا من بئر الناقة دليل على التبرك بآثار الانبياء والصالحين، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم، كما أن في الاول دليلا على بعض أهل الفساد وذم ديارهم وآثارهم. هذا، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات، لكن المقرون بالمحبوب محبوب، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض، كما كثير: أحب لحبها السودان حتى * أحب لحبها سود الكلاب وكما قال آخر: أمر على الديار ديار ليلى * أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الديار شغفن قلبى * ولكن حب من سكن الديارا وسادسها - منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال: لا تجوز الصلاة فيها لانها دار سخط وبقعة غضب. قال ابن العربي: فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم: " جعلت لى الارض مسجدا وطهورا " فلا يجوز التيمم بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة (1) الناضج: البعير يستقى عليه. (2) الرواية المشهورة: " وما حب الديار ". والبيتان لمجنون ليلى. (راجع خزانة الادب في الشاهد التسعين بعد المأتين). (*)
[ 48 ]
فيها. وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبع مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفى الحمام وفى معاطن الابل وفوق ببت الله. وفى الباب عن أبى مرثد وجابر وأنس: حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوى، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه. وقد زاد علماؤنا: الدار المغصوبة والكنيسة والبيعة والبيت الذى فيه تماثيل، والارض المغصوبة أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه رجل أو جدارا عليه نجاسة. قال ابن العربي: ومن هذه المواضع ما منع لحق الغير، ومنه ما منع لحق الله تعالى، ومنه ما منع لاجل النجاسة المحققة أو لغلبتها، فما منع لاجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالحمام والمقبرة فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة. وذكر أبو مصعب عنه الكراهة. وفرق علماؤنا بين المقبرة القديمة والجديدة لاجل النجاسة، وبين مقبرة المسلمين والمشركين، لانها دار عذاب وبقعة سخط كالحجر. وقال مالك في المجموعة: لا يصلى في أعطان الابل وإن فرش ثوبا، كأنه رأى لها علتين: الاستتار (1) بها ونفارها فتفسد على المصلى صلاته، فإن كانت واحدة (2) فلا بأس، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، في الحديث الصحيح. وقال مالك: لا يصلى على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة. وكره ابن الصلاة إلى القبلة فيها تماثيل، وفى الدار المغصوبة، فإن فعل أجزأه وذكر بعضهم عن مالك أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تجزئ. قال ابن العربي: وذلك عندي بخلاف الارض. فإن الدار لا تدخل إلا بإذن، والارض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك. قلت: الصحيح - إن شاء الله - الذى يدل عليه النظر والخبر أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة. وما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا واد به شيطان " وقد رواه معمر عن الزهري فقال: واخرجوا عن الموضع الذى أصابتكم فيه الغفلة. وقول على: نهانى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلى بأرض بابل فإنها ملعونة. وقوله عليه (1) في الموطأ: " لانها يستتر بها للبول والغائط، فلا تكاد تسلم مباركهامن النجاسة ". (2) أي ناقة واحدة. (*)
[ 49 ]
السلام حين مر بالحجر من ثمود: " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين " ونهيه عن الصلاة في معاطن الابل إلى ذلك مما في هذا الباب، فإنه مردود إلى الاصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها. قال الامام الحافظ أبو عمر: المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الارض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة، وكل ما روى في هذا الباب من النهى عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الابل وغير ذلك مما في هذا المعنى، كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: جعلت لى الارض كلها مسجدا وطهور "، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا: إن ذلك من فضائله ومما خصى به، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص. قال صلى الله عليه وسلم: " أوتيت خمسا - وقد روى ستا، وقد روى ثلاثا وأربعا، وهى تنتهى إلى أزيد من تسع، قال فيهن - " لم يؤتهن أحد قبلى بعثت إلى الاحمر والاسود ونصرت بالرعب وجعلت أمتى خير الامم وأحلت لى الغنائم وجعلت لى الارض مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح الارض فوضعت في يدى وأعطيت الكوثر. وختم بى النبيون " رواه جماعة من الصحابة. وبعضهم يذكر بعضها، ويذكر بعضهم ما لم يذكر غيره، وهى صحاح كلها. وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان، ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا، وكذلك روى عنه. وقال: " ما أدرى ما يفعل بى ولا بكم " ثم نزلت " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (2) ". وسمع رجلا يقوله: يا خير البرية، فقال: " ذاك إبراهيم " وقال: " لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى " وقال: " السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام " ثم قال بعد ذلك إكله: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ". ففضائله صلى الله عليه وسلم لم تزل (1) في ووى. (2) راجع ج 16 ص 261. (*)
[ 50 ]
تزداد إلى أن قبضه الله، فمن هاهنا قلنا: إنه لا يجوز عليها النسخ ولا الاستثناء ولا النقصان وجائز فيها الزيادة. وبقوله صلى الله عليه وسلم: " جعلت لى الارض مسجدا وطهورا " أجزنا الصلاة في المقبرة والحمام وفى كل موضع من الارض إذا كان طاهرا من الانجاس. وقال صلى الله عليه وسلم لابي ذر: " حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الارض كلها مسجد " ذكره البخاري ولم يخص موضعا من موضع. وأما من احتج بحديث ابن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر حديث الترمذي الذى ذكرناه فهو حديث انفرد به زيد بن جبيرة وأنكروه عليه، ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا برواية يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة. وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث، وكتب إليه عبد الله بن نافع لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل. ذكره الحلواني عن سعيد بن أبى مريم عن الليث، وليس فيه تخصيص مقبرة المشركين من غيرها. وقد روى عن على بن أبى طالب قال: نهانى حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلى في المقبرة، ونهاني أن أصلى في أرض بابل فإنها ملعونة. وإسناده ضعيف مجتمع على ضعفه، وأبو صالح الذى رواه عن على هو سعيد بن عبد الرحمن الغفاري، بصرى ليس بمشهور ولا يصح له سماع عن على، ومن دونه مجهولون لا يعرفون. قال أبو عمر: وفى الباب عن على من قوله غير مرفوع حديث حسن الاسناد، رواه الفضل بن دكين قال: حدثنا المغيرة بن أبى الحر الكندى قال حدثنى أبو العنبس حجر بن عنبس قال: خرجنا مع على إلى الحرورية، فلما جاوزنا سوريا وقع بأرض بابل، قلنا: يا أمير المؤمنين أمسيت، الصلاة الصلاة، فأبى أن يكلم أحدا. قالوا: يا أمير المؤمنين، قد أمسيت. قال بلى، ولكن لا أصلى في أرض خسف الله بها. والمغيرة بن أبى الحر كوفى ثقة، قاله يحيى بن معين وغيره. وحجر بن عنبس من كبار أصحاب على. وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الارض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ". قال الترمذي: رواه سفيان الثوري عن عمرو بن
[ 51 ]
يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وكأنه أثبت وأصح. قال أبو عمر: فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة، ولو ثبت كان الوجه ما ذكرنا. ولسنا نقول كما قال بعض المنتحلين لمذهب المدنين: إن المقبرة في هذا الحديث وغيره أريد بها مقبرة المشركين خاصة، فإنه قال: المقبرة والحمام بالالف واللام، فغير جائز أن يرد ذلك إلى مقبرة دون مقبرة أو حمام دون حمام بغير توقيف عليه، فهو قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا خبر صحيح، ولا مدخل له في القياس ولا في المعقول، ولا دل عليه فحوى الخطاب ولا خرج عليه الخبر. ولا يخلو تخصيص من خص مقبرة المشركين من أحد وجهين: إما أن يكون من أجل اختلاف الكفار إليها بأقدامهم فلا معنى لخصوص المقبرة بالذكر، لان كل موضع هم فيه بأجسامهم وأقدامهم فهو كذلك، وقد جل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بما لا معنى له. أو يكون من أجل أنها بقعة سخط، فلو كان كذلك ماكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبنى مسجده في مقبرة المشركين وينبشها ويسويها ويبنى عليها، ولو جاز لقائل أن يخص من المقام مقبرة للصلاة فيها لكانت مقبرة المشركين أولى بالخصوص والاستثناء من أجل هذا الحديث. وكل من كره الصلاة في المقبرة لم يخص مقبرة من مقبرة، لان الالف واللام إشارة إلى الجنس لا إلى معهود، ولو كان بين مقبرة المسلمين والمشركين فرق لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يهمله، لانه بعث مبينا. ولو ساغ لجاهل أن يقول: مقبرة كذا لجاز لآخر أن يقول: حمام كذا، لان في الحديث المقبرة والحمام. وكذلك قوله: المزبلة والمجزرة، غير جائز أن يقال: مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا طريق كذا، لان التحكم في دين الله غير جائز. وأجمع العلماء على أن التيمم على مقبرة المشركين إذا كان الموضع طيبا طاهرا نظيفا جائز. وكذلك أجمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر، أن صلاته ماضية جائزة. وقد تقدم هذا في سورة " براءة ". ومعلوم أن الكنيسة أقرب إلى أن تكون بقعة سخط من المقبرة، (1) راجع ج 8 ص 255. (*)
[ 52 ]
لانها بقعة يعصى الله ويكفر به فيها، وليس كذلك المقبرة. وقد وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد. روى النسائي عن طلق بن على قال: خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، وذكر الحديث. وفيه: " فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدا). وذكر أبو داود عن عثمان بن أبى العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم. وقد تقدم في " براءة ". وحسبك بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذى أسس على التقوى مبنيا في مقبرة المشركين، وهو حجة على كل من كره الصلاة فيها. وممن كره الصلاة في المقبرة سواء كانت لمسلمين أو مشركين الثوري أجزأه إذا صلى في المقبرة في موضع ليس فيه نجاسة، للاحاديث المعلومة في ذلك، ولحديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا "، ولحديث أبى مرثد الغنوى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ". وهذان حديثان ثابتان من جهة الاسناد، ولا حجة فيهما، لانهما محتملان للتأويل، ولا يجب أن يمتنع من الصلاة في كل موضع طاهر إلا بدليل لا يحتمل تأويلا. ولم يفرق أحد من فقهاء المسلمين بين مقبرة المسلمين والمشركين إلا ما حكيناه من خطل القول الذى لا يشتغل بمثله، ولا وجه له في نظر ولا في صحيح أثر. وثامنها (2) - الحائط يلقى فيه النتن والعذرة ليكرم فلا يصلى فيه حتى يسقى ثلاث مرات، لما رواه الدارقطني عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن قال: " إذا سقى ثلاث مرات فصل فيه ". وخرجه أيضا من حديث نافع عن ابن عمر أنه سئل عن هذه الحيطان التى تلقى فيها العذرات وهذا الزبل، أيصلى فيها ؟ فقال: إذا سقيت ثلاث مرات فصل فيها. رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. اختلفا في الاسناد، والله أعلم. (1) راجع ج 8 ص 254 فأبعد. (2) أراد ثامن المسائل التى أستنبطها الفقهاء. والحائط الحديقة. (*)
[ 53 ]
قوله تعالى: وءاتيناهم ءايتنا فكانوا عنها معرضين (81) قوله تعالى: (وآتيناهم ءاياتنا) أي بآياتنا كقوله: " آتنا غذاءنا (1) " أي بغذائنا. والمراد الناقة، وكان فيها آيات جمة: خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى تكفيهم جميعا. ويحتمل أنه كان لصالح آيات أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره. (فكانوا عنها معرضين) أي لم يعتبروا. قوله تعالى: وكانوا ينحتون من اجبال بيوتا ءامنين (82) فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (84) النحت في كلام العرب: البرى والنجر. نحته ينحته (بالكسر (2) نحتا أي براه. والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفى التنزيل " أتعبدون ما تنحتون (3) " أي تنجرون وتصنعون. فكانوا يتخذون من الجبال بيوتا لانفسهم بشدة قوتهم. (آمنين) أي من أن تسقط عليهم أو تخرب. وقيل: آمنين من الموت. وقيل: من العذاب. (فأخذتهم الصيحة مصبحين) أي في وقت الصبح، وهو نصب على الحال. وقد تقدم ذكر الصيحة في هود والاعراف (4). (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) من الاموال والحصون في الجبال، ولا ما أعطوه من القوة. قوله تعالى: وما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لاتية فاصفح الصفح الجميل (85) إن ربك هو الخلق العليم (86) (1) راجع ج 11 ص 12. (2) وبالفتح وبه قرأ الحسن وذكر في المثلثات أن المتواتر هو الصحيح. (3) راجع ج 15 ص 96. (4 راجع ج 9 ص 61 وج 7 ص 242. (*)
[ 54 ]
(وما خلقنا السموات ولارض وما بينهما إلا بالحق) أي للزوال والفناء. وقيل: أي لاجازي المحسن والمسئ، كما قال: " ولله ما في السموات وما في الارض ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا (1) بالحسنى ". (وإن الساعة لاتية) أي لكائنة فيجزى كل بعمله. (فاصفح الصفح الجميل) مثل " واهجرهم هجرا جميلا (2) " أي تجاوز عنهم يا محمد، واعفو عفوا حسنا، ثم نسخ بالسيف. قال قتادة: نسخه قوله: " فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم (3) ". وأن النبي صلى الله عليه وسلم فال لهم: " لقد جئتكم بالذبح وبعثت بالحصاد (4) ولم أبعث بالزراعة "، قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: ليس بمنسوخ، وأنه أمر بالصفح في نفسه فيما بينه وبينهم. والصفح: الاعراض، عن الحسن وغيره. (إن ربك هو الخلاق) أي المقدر للخلق والاخلاق (5). (العليم) بأهل الوفاق والنفاق. قوله تعالى: ولقد أتيناك سبعا من المثانى والقرآن الظيم (87) اختلف العلماء في السبع المثانى، فقيل: الفاتحة، قاله على بن أبى طالب وأبو هريرة والربيع بن أنس وأبو العالية والحسن وغيرهم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة، من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى. وقد تقدم في تفسير الفاتحة (6). وخرج الترمذي من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى ". قال: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نص، وقد تقدم في الفاتحة. وقال الشاعر: نشدتكم بمنزل القرآن * أم الكتاب السبع من مثانى وقال ابن عباس: هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والانعام، والاعراف، والانفال والتوبة معا، إذ ليس بينهما التسمية. روى النسائي (1) راجع ج 17 ص 105. (2) راجع ج 19 ص 44. (3) راجع ج 5 ص 310. (4) كذا في الاصول وتفسير الطبري. وفى الكتاب الجامع الصغير: " بالجهاد ". (5) كذا في الاصول. (6) راجع ج 1 ص 108. (*)
[ 55 ]
حدثنا على بن حجر أخبرنا شريك عن أبى إسحاق عن سعيد بن جبير. عن ابن عباس في قوله عز وجل: (سبعا من المثانى) قال: السبع الطول: وسميت مثانى لان العبر والاحكام والحدود ثنيت فيها. وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من الطول شئ إذ ذاك. وأجيب بأن الله تعالى أنزل القرآن إلى السماء الدنيا ثم أنزله منها نجوما: فما أنزله إلى السماء الدنيا فكأنما أتاه محمدا صلى الله عليه وسلم وإن لم ينزل عليه بعد. وممن قال إنها السبع الطول: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد. وقال جرير: جزى الله الفرزدق حين يمسى * مضيعا للمفصل والمثاني وقيل: المثانى القرآن كله، قال الله تعالى: " كتابا متشابها (1) مثانى ". هذا قول الضحاك وطاوس وأبو مالك، وقاله ابن عباس. وقيل له: مثانى، لان الانباء والقصص ثنيت فيه. وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد كان نورا ساطعا يهتدى به * يخص بتنزيل القران المعظم أي القرآن. وقيل: المراد بالسبع المثانى أقسام القرآن من الامر والنهى والتبشير والانذار وضرب الامثال وتعديد نعم وأنباء قرون، قال زياد بن أبى مريم. والصحيح الاول لانه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، إلا أنه إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص في شئ لا يحتمل التأويل كان الوقوف عنده. قوله تعالس: (والقرآن العظيم) فيه إضمار تقديره: وهو أن الفاتحة القرآن العظيم لاشتمالها على ما يتعلق بأصول الاسلام. وقد تقدم (2) في الفاتحة. وقيل: الواو مقحمة، التقدير: ولقد آتيناك سبعا من المثانى القرآن العظيم. ومنه قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم وقد تقدم عند قوله: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى (3) ". (1) راجع ج 15 ص 248. (2) راجع ج 1 ص 112. (3) راجع ج 3 ص 213. (*)
[ 56 ]
قوله تعالى: لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أرواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (88) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (لا تمدن عينيك المعنى: قد أغنيتك بالقرآن عما في أيدى الناس، فإنه ليس منا من لم يتغن بالقرآن، أي ليس منا من رأى أنه ليس يغنى بما عنده من القرآن حتى يطمح بصره إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى. يقال: إنه وافى سبع قوافل من البصرة وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البر والطيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الاموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثانى " أي فهى خير لكم من القوافل السبع، فلا تمدن أعينكم إليها. وإلى هذا صار ابن عيينة، وأورد قوله عليه السلام: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي من لم يستغن به. وقد تقدم هذا المعنى في أول (1) الكتاب. ومعنى (أزواجا منهم) أي أمثالا في النعم، أي الاغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى، فهم أزواج. الثانية - هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوف إلى متاع الدنيا على الدوام، وإقبال العبد على عبادة مولاه. ومثله " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم (2) فيه " الآية. وليس كذلك، فإنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حبب إلى من دنياكم (3) النساء والطيب وجعلت قرة عينى في الصلاة ". وكان عليه الصلاة والسلام يتشاغل بالنساء، جبلة الآدمية وتشوف الخلقة الانسانية، ويحافظ على الطيب، ولا تقر له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى، ويرى أن مناجاته أحرى من ذلك وأولى. ولم يكن في دين محمد الرهبانية والاقبال على الاعمال الصالحة بالكلية (4) كما كان في دين عيسى، (1) راجع ج 1 ص 12. (2) راجع ج 11 ص 261. (3) كذا في سنن النسائي ومسند الامام أحمد. والذى في الاصول: " حبب إلى من دنياكم ثلاث... الخ " وبكلمة " ثلاث " لا يستقيم الكلام. راجع كشف الخفا ج 1 ص 338 ففيه بحث شيق واف. (4) أي الانقطاع الكلى عن الدنيا فإنه من معاني الرهبانية. (*)
[ 57 ]
وإنما شرع الله سبحانه حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة على الآدمى، يأخذ من الآدمية بشهواتها ويرجع إلى الله بقلب سليم. ورأى الفراء والمخلصون من الفضلاء الانكفاف عن اللذات والخلوص لرب الارض والسموات اليوم أولى، لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل، والفرار عن الدنيا أصوب للعبد وأعدل، قال صلى الله عليه وسلم: (" أتى على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف (1) الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ". قوله تعالى: (ولا تحزن عليهم) أي ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا. وقيل: المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه. وقيل: لا تحزن عليهم إن صاروا إلى العذاب فهم أهل العذاب. (واخفض جناحك للمؤمنين) أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم. وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتقريب الانسان أتباعه. ويقال: فلان خافض الجناح، أي وقور ساكن. والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه " واضمم يدك إلى جناحك (2) " وجناح الطائر يده. وقال الشاعر: وحسبك فتية لزعيم قوم * يمد على أخى سقم جناحا أي تواضعا ولينا. قوله تعالى: وقل إنى أنا النذير المبين (89) كما أنزلنا على المقتسمين (90) في الكلام حذف، أي إنى أنا النذير المبين عذابا، فحذف المفعول، إذ كان الانذار يدل عليه، كما قال في موضع آخر: " أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد (3) وثمود ". قيل: الكاف زائدة، أي أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين، كقوله: " ليس كمثله شئ (4) " أنذرتكم (1) أي رؤوسها. (2) راجع ج 11 ص 190. (3) راجع ج 15 ص 346. (4) راجع ج 16 ص 7. (*)
[ 58 ]
مثل ما أنزلنا بالمقتسمين. وقيل: المعنى كما أنزلنا على المقتسمين، أي من العذاب وكفيناك المستهزئين، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن وقيل المشركين الذين بغوا، فإنا كفيناك أولئك الرؤساء الذين كنت تلقى منهم ما تلقى. واختلف في " المقتسمين " على أقوال سبعة: الاول - قال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب (1) مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعى النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن. وسموا المقتسمين لانهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم الله شر ميتة، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدق أولئك. الثاني - قال قتادة: هم قوم من كفار قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الاولين. الثالث - قال ابن عباس: هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وكذلك قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لانهم كانوا مستهزئين، فيقول بعضهم: هذه السورة لى وهذه السورة لك. وهو القول الرابع. الخامس - قال قتادة: قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه وحرفوه. السادس - قال زيد بن أسلم: المراد قوم صالح، تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين، كما قال تعالى: " تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله (2) ". السابع - قال الاخفش: هم قوم اقتسموا أيمانا تحالفوا عليها. وقيل: إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البخترى بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج، ذكره الماوردى. قوله تعالس: الذين جعلوا القرءان عضين (91) هذه صفة المقتسمين. وقيل: هو مبتدأ وخبره " لنسألنهم ". وواحد العضين عضة، من عضيت الشئ تعضية أي فرقته، وكل فرقة عضة. وقال بعضهم: كانت في الاصل (1) الاعقاب ما بعد مكة من الطرق يفد منها الناس، والانقاب: منافذ الجبال، والفجاج: الطرق الواسعة. (2) راجع ج 13 ص 216. (*)
[ 59 ]
عضوة فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين، كما قالوا: عزين في جمع عزة، والاصل عزوة. وكذلك ثبة وثبين. ويرجع المعنى إلى ما ذكرناه في المقتسمين. قال ابن عباس: آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقيل: فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا. عضوته أي فرقته. قال الشاعر - هو رؤبة -: * وليس دين الله بالمعضى * أي بالمفرق. ويقال: نقصانه الهاء وأصله عضهة، لان العضه والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة. قال الشاعر: أعوذ بربي من النافثا * ت في عقد العاضه المعضه وفى الحديث: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة، وفسر: الساحرة والمستسحرة. والمعنى: أكثروا البهت على القرآن ونوعوا الكذب فيه، فقالوا: سحر وأساطير الاولين، وأنه مفترى، إلى غير ذلك. ونظير عضة في النقصان شفة، والاصل شفهة. كما قالوا: سنة، والاصل سنهة، فنقصوا الهاء الاصلية وأثبتت هاء العلامة وهى للتأنيث. وقيل: هو من العضه وهى النميمة. والعضيهة البهتان، وهو أن يعضه الانسان ويقول فيه ما ليس فيه. يقال عضهه عضها رماه بالبهتان. وقد أعضهت أي جئت بالبهتان. قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون، مثل عزة وعزون، قال تعالى: " الذين جعلوا القرآن عضين ". ويقال: عضوه أي آمنوا بما أحبوا منه وكفروا بالباقي، فأحب كفرهم إيمانهم. وكان الفراء يذهب إلى أنه مأخوذ من العضاة، وهى شجر الوادي ويخرج كالشوك. قوله تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93) قوله تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين) أي لنسألن هؤلاء الذين جرى ذكرهم عما عملوا في الدنيا. وفى البخاري: وقال عدة من أهل العلم في قوله: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " عن لا إله إلا الله. (*)
[ 60 ]
قلت: وهذا قد روى مرفوعا، روى الترمذي الحكيم قال: حدثنا الجارود بن معاذ قال حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن ليث عن بشير بن نهيك عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون " قال: " عن قول لا إله إلا الله " قال أبو عبد الله: معناه عندنا عن صدق لا إله إلا الله ووفائها، وذلك أن الله تعالى ذكر في تنزيله العمل فقال: " عما كانوا يعملون " ولم يقل عما كانوا يقولون، وإن كان قد يجوز أن يكون القول أيضا عمل اللسان، فإنما المعنى به ما يعرفه أهل اللغة أن القول قول والعمل عمل. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عن لا إله إلا الله " أي عن الوفاء بها والصدق لمقالها. كما قال الحسن البصري: ليس الايمان بالتحلى ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الاعمال. ولهذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة " قيل: يا رسول الله، وما إخلاصها ؟ قال: " أن تحجزه عن محارم الله ". رواه زيد بن أرقم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عهد إلى ألا يأتيني أحد من أمتى بلا إله إلا الله لا يخلط بها شيئا إلا وجبت له الجنة " قالوا: يا رسول الله وما الذى يخلط بلا إله إلا الله ؟ قال: " حرصا على الدنيا وجمعا لها ومنعا لها، يقولون قول الانبياء ويعملون أعمال الجبابرة ". وروى أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ثم قالوا لا إله إلا الله ردت عليهم وقال الله كذبتم ". أسانيدها في نوادر الاصول. قلت: والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع ومحاسبتهم كافرهم ومؤمنهم، إلا من دخل الجنة بغير حساب على ما بيناه في كتاب (التذكرة). فإن قيل: وهل يسأل الكافر ويحاسب ؟ قلنا: فيه خلاف وذكرناه في التذكرة. والذى يظهر سؤال، للآية وقوله: " وقفوهم إنهم مسئولون (1) " وقوله: " إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم (2) ". فإن قيل: فقد قال تعالى: (1) راجع ج 15 ص 72. (2) راجع ج 20 ص 38. (*)
[ 61 ]
" ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (1) " وقال: " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان (2) "، وقال: " ولا يكلمهم (3) الله "، وقال: " إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (4) ". قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، موطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا، لان الله عالم بكل شئ، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه ؟ واعتمد قطرب هذا القول. وقيل: " لنسألنهم أجمعين " يعنى المؤمنين المكلفين، بيانه قوله تعالى: " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم (5) ". والقول بالعموم أولى كما ذكر. والله أعلم. قوله تعالى، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزئين (95) قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) أي بالذى تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا، ومنه " يومئذ يصدعون (6) " أي يتفرقون. وصدعته فانصدع أي انشق. أصل الصدع الفرق والشق. قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه: وكأنهن ربابة وكأنه * يسر يفيض على القداح ويصدع (7) أي يفرق ويشق. فقوله: " اصدع بما تؤمر " قال الفراء: أراد فاصدع بالامر، أي أظهر دينك، ف " ما " مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الاعرابي: معنى اصدع بما تؤمر، أي اقصد. وقيل: " فاصدع بما تؤمر " أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض، فيرجع الصدع على هذا إلى صدع جماعة الكفار. (1) راجع ج 13 ص 315. (2) راجع ج 17 ص 173. (3) راجع ج 2 ص 234. (4) راجع ج 19 ص 257. (5) راجع ج 20 ص 174. (6) راجع ج 14 ص 21. (7) الربابة: الجلدة التى تجمع فيها السهام. واليسر: صاسب الميسر الذى يضرب بالقداح. (*)
[ 62 ]
قوله تعالى: (وأعرض عن المشركين) أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. وقال ابن عباس: هو منسوخ بقوله " فاقتلوا المشركين (1) ". وقال عبد الله بن عبيد: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزل قوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر " فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. " وأعرض عن المشركين " لا تبال بهم. وقال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون). والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله، فإن الله كافيك من أذاك كما كفاك المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة، وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاص بن وائل، والاسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة. والاسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعا، قيل يوم بدر في يوم واحد، لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم فيما ذكر ابن إسحاق: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر به الاسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمى ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار. ومر به الاسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا. (يقال: حبن (بالكسر) حبنا وحبن للمفعول عظم بطنه بالماء الاصفر، فهو أحبن، والمرأة حبناء، قاله في الصحاح). ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجرسبله (2)، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش في رجله ذلك الخدش وليس بشئ، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبرمة (3) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه (1) راجع ج 8 ص 72. (2) السبل (بالتحريك): الثياب المسبلة، يفعل ذلك كبرا واختيالا. (3) السبرق: نبى حجازى يؤكل، وله شوك. (*)
[ 63 ]
فامتخط (1) قيحا فقتله. وقد ذكر في سبب موتهم اختلاف قريب من هذا. وقيل: إنهم المراد بقوله تعالى: " فخر عليهم السقف من فوقهم (2) " شبه ما أصابهم في موتهم بالسقف الواقع عليهم، على ما يأتي. قوله تعالى: الذين يجعلون مع الله إلها ءاخر فسوف يعلمون (96) هذه صفة المستهزئين. وقيل: هو ابتداء وخبره " فسوف يعلمون ". قوله تعالى: ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) قوله تعالى: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك) أي قلبك، لان الصدر محل القلب. (بما يقولون) أي بما تسمعه من تكذيبك ورد قولك، وتناله. ويناله أصحابك من أعدائك. قوله: فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (فسبح) أي فافزع إلى الصلاة، فهى غاية التسبيح ونهاية التقديس. وذلك تفسير لقوله: (وكن من الساجدين) لا خفاء أن غاية القرب في الصلاة حال السجود، كما قال عليه السلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء). ولذلك خص السجود بالذكر الثانية: قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالامر هنا السجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الامام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله، يسجد في هذا الموضع وسجدت معه فيها، ولم يره جماهير العلماء. قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن هاهنا سجدة عند أبى حذيفة ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة (1) المخط: السيلان والخروج. (2) راجع ص 97 من هذا الجزء (3) الرواية " فأكثروا " كما في الجامع الصغير. (*)
[ 64 ]
قوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99) فيه مسألة واحدة: وهو أن اليقين الموت. أمره بعبادته (1) إذ قصر عباده في خدمته، وأن ذلك يجب عليه. فإن قيل: فما فائدة قول: " حتى يأتيك اليقين " وكان قوله: " واعبد ربك " كافيا في الامر بالعبادة. قيل له: الفائدة في هذا أنه لو قال: " واعبد ربك " مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، وإذا قال " حتى يأتيك اليقين " كان معناه لا تفارق هذا حتى تموت. فإن قيل: كيف قال سبحانه: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ولم يقل أبدا، فالجواب أن اليقين أبلغ من قوله: أبدا، لاحتمال لفظ الابد للحظة الواحدة ولجميع الابد. وقد تقدم هذا المعنى. والمراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ". ويتركب على هذا أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أبدا، وقال: نويت يوما أو شهرا كانت عليه الرجعة. ولو قال: طلقتها حياتها لم يراجعها. والدليل على أن اليقين الموت حديث أم العلاء الانصارية، وكانت من المبايعات، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما عثمان - أعنى عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين وإنى لارجو له الخير والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل به " وذكر الحديث (3). انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله ! وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له، يعنى كأنهم فيه شاكون. وقد قيل: إن اليقن هنا الحق الذى لا ريب فيه من نصرك على أعدائك، قال ابن شجرة، والاول أصح، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن. والله اعلم. وقد روى جبير بن نفير عن أبى مسلم الخولانى أنه سمعه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أوحى إلى أن أجمع المال وأكون من التاجرين لكن أوحى إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ". (1) في ى: وقد. (2) راجع ج 2 ص 33. (3) راجع صحيح البخاري ج 3 ص 151 طبعة بولاق. (*)
[ 65 ]
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة النحل وهى مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده. وقيل: هي مكية غير قوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم (1) به " الآية، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد. وغير قوله تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله (1) ". وغير قوله: " ثم إن ربك للذين هاجروا (1) " الآية. وأما قوله: " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا (1) " فمكي، في شأن هجرة الحبشة. وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل حمزة، وهى قوله: " ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا - إلى قوله - بأحسن ما كانوا يعملون (1) " قوله تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحنه وتعلى عما يشركون (1) قوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) قيل: " أتى " بمعنى يأتي، فهو كقولك: إن أكرمتني أكرمتك. وقد تقدم أن أخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء، لانه آت لا محالة، كقوله: " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار (2) ". و " أمر الله " عقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله. قال الحسن وابن جريج والضحاك: إنه ما جاء به القرآن من فرائضه وأحكامه. وفيه بعد، لانه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض الله من قبل أن تفرض عليهم، وأما مستعجلو العذاب والعقاب فذلك منقول عن كثير من كفار قريش (1) راجع ج 200 من هذا الجزء، وص 202، وص 192، وص 106، وص 173. (2) راجع ج 7 ص 209. (*)
[ 66 ]
وغيرهم، حتى قال النضر بن الحارث: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية، فاستعجل العذاب. قلت قد يستدل الضحاك بقول عمر رضى الله عنه: وافقت ربى في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفى الحجاب، وفى أسارى بدر، خرجه مسلم والبخاري. وقد تقدم في سورة البقرة (1). وقال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وهو كقوله: " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور (2) ". وقيل: هو يوم القيامة أو ما يدل على قربها من أشراطها. قال ابن عباس: لما نزلت " اقتربت الساعة وانشق القمر (3) " قال الكفار: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا وانتظروا فلم يروا شيئا، فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت " اقترب للناس حسابهم (4) " الآية. فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فامتدت الايام فقالوا: ما نرى شيئا فنزلت " أتى أمر الله " فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا، فنزلت: " فلا تستعجلوه " فاطمأنوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بأصبعيه: السبابة والتى تليها. يقول: إن كادت لتسبقني فسبقتها. وقال ابن عباس: كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأن جبريل لما مر بأهل السموات مبعوثا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: الله أكبر، قد قامت الساعة. قوله تعالب: (سبحانه وتعالى عما يشركون) أي تنزيها له عما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، وذلك أنهم يقولون: لا يقدر أحد على بعث الاموات، فوصفوه بالعجز الذى لا يوصف به إلا المخلوق، وذلك شرك. وقيل: " عما يشركون " أي عن إشراكهم. وقيل: " ما " بمعنى الذى أي ارتفع عن الذين أشركوا به. * (هامش *) (1) راجع ج 2 ص 112. (2) راجع ج 9 ص 30. (3) راجع ج 17 ص 125. (4) راجع ج 11 ص 266. (*)
[ 67 ]
قوله تعالى: ينزل الملكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لآ إله إلآ أنا فاتقون (2) قرأ المفضل عن عاصم " تنزل الملائكة " والاصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الكسائي عن أبى بكر عن عاصم باختلاف عنه، والاعمش " تنزل الملائكة " غير مسمى الفاعل. وقرأ الجعفي عن أبى بكر عن عاصم " تنزل الملائكة " بالنون مسمى الفاعل، الباقون " ينزل " بالياى مسمى الفاعل، والضمير فيه لاسم الله عز وجل. وروى عن قتادة " تنزل الملائكة " بالنون والتخفيف. وقرأ الاعمش " تنزل " بفتح التاء وكسر الزاى، من النزول. " الملائكة " رفعا مثل " تنزل الملائكة (1) ". (بالروح) أي بالوحى وهو النبوة، قاله ابن عباس. نظيره " يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده (2) ". الربيع بن أنس: بكلام الله وهو القرآن. وقيل: هو بيان الحق الذى يجب اتباعه. وقيل: أرواح الخلق، قاله مجاهد، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وكذا روى عن ابن عباس أن الروح خلق من خلق الله عز وجل كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقيل بالرحمة، قاله الحسن وقتادة. وقيل: بالهداية، لانها تحيا بها القلوب كما تحيا بالارواح الابدان، وهو معنى قول الزجاج. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة بالارشاد إلى أمره. وقال أبو عبيدة: الروح هنا جبريل. والباء في قوله: " بالروح " بمعنى مع، كقولك: خرج بثيابه، أي مع ثيابه. (من أمره) أي بأمره. (على من يشاء من عباده) أي على الذين اختارهم الله للنبوة. وهذا رد لقولهم: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (3) ". (أن أنذروا أنه لاإله إلا أنا فاتقون) تحذير من عبادة الاوثان، ولذلك جاء الانذار، لان أصله التحذير مما يخاف منه. ودل على ذلك قوله: " فاتقون ". و " أن " في موضع نصب بنزع الخافض، أي بأن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا الله، ف " أن " في محل نصب بسقوط الخافض أو بوقوع الانذار عليه. (1) راجع ج 20 ص 133. (2) راجع ج 15 ص 299. (3) راجع ج 16 ص 82. (*)
[ 68 ]
قوله تعالى: خلق السموات والارض بالحق تعلى عما يشركون (3) قوله تعالى: (خلق الله السموات والارض بالحق) أي للزوال والفناء. وقيل: " بالحق " أي للدلالة على قدرته، وأن له أن يتعبد العباد بالطاعة وأن يحيى الخلق بعد الموت. (تعالى عما يشركون) أي من هذه الاصنام التى لا تقدر على خلق شئ. قوله تعالى: خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4) قوله تعالى: (خلق الانسان من نطفة) لما ذكر الدليل على توحيده ذكر بعده الانسان ومناكدته وتعدى طوره. " والانسان " اسم للجنس. وروى أن المراد به أبى بن خلف الجمحى، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: أترى يحيى الله هذا بعد ما قد رم. وفى هذا أيضا نزل: " أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين " أي خلق الانسان من ماء يخرج من بين الصلب والترائب، فنقله أطوارا إلى أن ولد ونشأ بحيث يخاصم في الامور. فمعنى الكلام التعجب من الانسان " وضرب لنا مثلا ونسى خلقه (1) " وقوله: (فإذا هو خصيم) أي مخاصم، كالنسيب بمعنى المناسب. أي يخاصم الله عز وجل في قدرته. و (مبين) أي ظاهر الخصومة. وقيل: يبين عن نفسه الخصومة بالباطل. والمبين: هو المفصح عما في ضميره بمنطقه. قوله تعالى: والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنفع ومنها تأكلون (5) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (والانعام خلقها لكم) لما ذكر الانسان ذكر ما من به عليه. والانعام: الابل والبقر والغنم. وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للابل، ويقال للمجموع ولا يقال للغنم مفردة. قال حسان: (1) راجع ج 15 ص 57، 58. (*)
[ 69 ]
عفت ذات الاصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء (1) ديار من بنى الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء (2) وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء فالنعم هنا الابل خاصة. وقال الجوهرى: والنعم واحد الانعام وهى المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الابل. قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان. والانعام تذكر وتؤنث، قال الله تعالى: " مما في بطونه (3) ". وفى موضع " مما في بطونها (4) ". وانتصب الانعام عطفا على الانسان، أو بفعل مقتدر، وهو أوجه. الثانية - قوله تعالى: (دف ء) الدف ء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، ملابس ولحف وقطف (5). وروى عن ابن عباس: دفؤها نسلها، والله أعلم. قال الجوهرى في الصحاح: الدف ء نتاج الابل وألبانها وما ينتفع به منها، قال الله تعالى: " لكم فيها دف ء ". وفى الحديث " لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق ". والدف ء أيضا: السخونة، تقول منه: دفئ الرجل دفاءة مثل كره كراهة. وكذلك دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ. والاسم الدف ء (بالكسر) وهو الشئ الذى يدفئك، والجمع الادفاء. تقول: ما عليه دف ء، لانه اسم. ولا تقول: ما عليك دفاءة، لانه مصدر. وتقول: اقعد في دف ء هذا الحائط أي كنه. ورجل دفئ على فعل إذا لبس ما يدفئه. وكذلك رجل دفآن وامرأة دفأى. وقد أدفأه الثوب وتدفأ هو بالثوب واستدفأ به، وأدفأ به وهو افتعل، أي ما لبس ما يدفئه. ودفؤت ليلتنا، ويوم دفئ على فعيل وليلة دفيئة، وكذلك الثوب والبيت. والمدفئة الابل الكثيرة، لان بعضها يدفئ بعضا بأنفاسها، وقد يشدد. والمدفأة الابل الكثيرة الاوبار والشحوم، عن الاصمعي. وأنشد الشماخ: وكيف يضيع صاحب مدفآت * على أثباجهن من الصقيع (6) (1) ذات الاصابع والجوزاء: موضعان بالشام. وعذراء: قرية بغوطة دمشق. (2) الحساس: اسم رجل. والروامس: الرياح التى تثير التراب وتدفن الآثار. (3) راجع ص 122 من هذا الجزء. (4) راجع ج 12 ص 117. (5) القطف (جمع قطيفة) كساء له خمل، أي وبر. (6) أثباج: جمع ثبج، وهو أوسطها. وقيل: ما بين كلها وظهرها. (*)
[ 70 ]
قوله تعالى: (ومنافع) قال ابن عباس: المنافع نسل كل دابة. مجاهد: الركوب والحمل والالبان واللحوم والسمن. (ومنها تأكلون) أفرد منفعة الاكل بالذكر لانها معظم المنافع. وقيل: المعنى ومن لحومها تأكلون عند الذبح. الثانية: دلت هذه الآية على لباس الصوف، وقد لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم والانبياء قبله كموسى وغيره. وفى حديث المغيرة: فغسل وجهه وعليه جبة من صوف شامية ضيقة الكمين... الحديث، خرجه مسلم وغيره. قال ابن العربي: وهو شعار المتقين ولباس الصالحين وشارة الصحابة والتابعين، واختيار الزهاد والعارفين، وهو يلبس لينا وخشنا وجيدا ومقاربا (1) ورديئا، وإليه نسب جماعة من الناس الصوفية، لانه لباسهم في الغالب، فالياء للنسب والهاء للتأنيث. وقد انشدني بعض أشياخهم بالبيت المقدس طهره الله: تشاجر الناس في الصوفى واختلفوا * فيه وظنوه مشتقا من الصوف ولست أنحل هذ الاسم غير فتى * صافى فصوفي حتى سمى الصوفى قوله تعالى: ولكم فيها جمال حين تريحون وحبن تسرحون (6) الجمال ما يتجمل به ويتزين. والجمال: الحسن. وقد جمل الرجل (بالضم) جمالا فهو جميل، والمرأة جميلة، وجملاء أيضا، عن الكسائي. وأنشد: فهى جملاء كبدر طالع * بذت الخلق جميعا بالجمال وقول أبى ذؤيب: * جمالك أيها القلب القريح (2) * يريد: الزم تجملك وحياءك ولا تجزع جزع ا قبيحا. قال علماؤنا: فالجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الاخلاق الباطنة، ويكون في الافعال. فأما جمال الخلقة فهو (1) شئ مقارب (بكسر الراء): وسط بين الجيد والردى. (2) هذا صدر البيت، وعجزه كما في اللسان: * سنلقي من تحب قتستريح * (*)
[ 71 ]
أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائما، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك ولا نسبته لاحد من البشر. وأما جمال الاخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد. وأما جمال الافعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم. وجمال الانعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئى بالابصار موافق للبصائر. ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نعم فلان، قاله السدى. ولانها إذا راحت توفر حسنها وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها، لانها إذ ذاك أعظم ما تكون أسمنة وضروعا، قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها إذ ذاك. والله أعلم. وروى أشهب عن مالك قال: يقول الله عز وجل " ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " وذلك في المواشى حين تروح إلى المرعى وتسرح عليه. والرواح رجوعها بالعشى من المرعى، والسراح بالغداة، تقول: سرحت الابل أسرحها سرحا وسروحا إذا غدوت بها إلى المرعى فخليتها، وسرحت هي. المتعدى واللازم واحد. قوله تعالى: وتحمل أثقالكم إلى البلد لم تكونوا بلغيه إلا بشق الانفس إن ربكم لرءوف رحيم (7) فيه ثاث مسائل: قوله تعالى: (وتحمل أثقالكم) الاثقال أثقال الناس من متاع وطعام وغيره، وهو ما يثقل الانسان حمله. وقيل: المراد أبدانهم، يدل على ذلك قوله تعالى: " وأخرجت الارض أثقالها (1) " والبلد مكة، في قول عكرمة. وقيل: هو محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر. وشق الانفس: مشقتها وغاية جهدها. وقراءة العامة بكسر الشين. قال الجوهرى: والشق المشقة، ومنه قوله تعالى: " لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس " (1) راجع ج 20 ص 147، ولعل الاثقال في الزلزلة: الكنوز. (*)
[ 72 ]
وهذا قد يفتح، حكاه أبو عبيدة. قال المهدوى: وكسر الشين وفتحها في " شق " متقاربان، وهما بمعنى المشقة، وهو من الشق في العصا ونحوها، لانه ينال منها كالمشقة من الانسان. وقال الثعلبي: وقرأ أبو جعفر " إلا بشق الانفس " وهما لغتان، مثل رق ورق وجص وجص ورطل ورطل. وينشد قول الشاعر بكسر الشين وفتحها: وذى إبل يسعى (1) ويحسبها له * أخى نصب من شقه ودءوب ويجوز أن يكون بمعمى المصدر، من شققت عليه شقا. والشق أيضا بالكسر النصف، يقال: أخذت شق الشاة وشقة الشاة. وقد يكون المراد من الآية هذا المعنى، أي لم تكونوا بالغيه إلا بنقص من القوة وذهاب شق منها، أي لم تكونوا تبلغوه إلا بنصف قوى أنفسكم وذهاب النصف الآخر. والشق أيضا الناحية من الجبل. وفى حديث أم زرع: وجدني في أهل غنيمة بشق. قال أبو عبيد: هو اسم موضع. والشق أيضا: الشقيق، يقال: هو أخى وشق نفسي. وشق اسم كاهن من كهان العرب. والشق أيضا: الجانب، ومنه قول امرئ القيس: إذا ما بكى من خلفها انصرفت له * بشق وتحتي شقها لم يحول فهو مشترك. الثانية - من الله سبحانه بالانعام عموما، وخص الابل هنا بالذكر في حمل الاثقال على سائر الانعام، فإن الغنم للسرح والذبح، والبقر للحرث، والابل للحمل. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت إنى لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تتكلم " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإنى أو من به وأبو بكر وعمرو ". فدل هذا الحديث على أن البقر لا يحمل عليها ولا تركب، وإنما هي للحرث وللاكل والنسل (2) والرسل. (1) هو النمر بن تولب، كما في السان مادة شقيق: وفى جوى: يقنى. (2) الرسل بالسر): اللبن. (*
[ 73 ]
في الثالثة - في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الاثقال عليها. ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بها والاراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها. وروى مسلم من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الابل حظها من الارض وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها (1) " رواه مالك في الموطأ عن أبى عبيد عن خالد بن معدان. وروى معاوية بن قرة قال كان لابي الدرداء جمل يقال له دمون، فكان يقول: يا دمون، لا تخاصمني عند ربك. فالدواب عجم لا تقدر أن تحتال لنفسها ما تحتاج إليه، ولا تقدر أن تفصح بحوائجها، فمن ارتفق بمرافقها ثم ضيعها من حوائجها فقد ضيع الشكر وتعرض للخصومة بين يدى الله تعالى. وروى مطر بن محمد قال: حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن خالد قال حدثنا المسيب بن آدم قال. رأيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب جمالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق ؟. قوله تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها ورزينة ويخلق ما لا تعلمون (8) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " والخيل " بالنصب معطوف، أي وخلق الخيل. وقرأ ابن أبى عبلة " والخيل والبغال والحمير " بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية. وواحد الخيل خائل، كضائن واحد ضين. وقيل لا واحد له. وقد تقدم هذا في آل عمران (2)، وذكرنا الاحاديث هناك. ولما أفرد سبحانه الخيل والبغال والحمير بالذكر * (هامش) (1) قوله " في السنة " أي في القحط وأنعباد نبات الارض في يبسها. والنقى) بكسر النون وسكون القاف) هو المخ. ومعناه: أسرعوا في السير بالابل لتسلوا إلى المقصد وفيها بقية من قوتها، إذ ليس في الارض ما يقويها على السير. (2) راجع ج 4 ص 32. (*)
[ 74 ]
دل على أنها لم تدخل تحت لفظ الانعام. وقيل: دخلت ولكن أردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب، فإنه يكثر في الخيل والبغال والحمير. الثانية - قال العلماء: ملكنا الله تعالى الانعام والدواب وذللها لنا، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها رحمة منه تعالى لنا، وما ملكه الانسان وجاز له تسخيره من الحيوان فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم، لا اختلاف بينهم في ذلك. وحكم كراء الرواحل والدواب مذكور في كتب الفقه. الثالثة - لا خلاف بين العلماء في اكتراء الدواب والرواحل عليها والسفر بها، لقوله تعالى: " وتحمل أثقالكم " الآية. وأجازوا أن يكرى الرجل الدابة والراحلة إلى مدينة بعينها وإن لم يسم أين ينزل منها، وكم من منهل (1) ينزل فيه، وكيف صفة سيره، وكم ينزل في طريقة، واجتزوا بالمتعارف بين الناس في ذلك. قال علماؤنا: والكراء يجرى مجرى البيوع فيما يحل منه ويحرم. قال ابن القاسم فيمن اكترى دابة إلى موضع كذا بثوب مروى ولم يصف رقعته وذرعه: لم يجز، لان مالكا لم يجيز هذا في البيع، ولا يجيز في ثمن الكراء إلا ما يجوز في ثمن البيع. قلت: ولا يختلف في هذا إن شاء الله، لان ذلك إجارة. قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن من اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة قمح فحمل عليها ما اشترط فتلفت أن لا شئ عليه. وهكذا إن حمل عليها عشرة أقفزة شعير. واختلفوا فيمن اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة فحمل عليها أحد عشر قفيزا، فكان الشافعي وأبو ثور يقولان: هو ضامن لقيمة الدابة وعليه الكراء. وقال ابن أبى ليلى: عليه قيمتها ولا أجر عليه. وفيه قول ثالث - وهو أن عليه الكراء وعليه جزء من أجر وجزء من قيمة الدابة بقدر ما زاد من الحمل، وهذا قول النعمان ويعقوب ومحمد. وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا ضمان عليه في قول مالك إذا كان القفيز الزائد لا يفدح الدابة، ويعلم أن مثله (1) المنهل: المشرب، ثم كثر ذلك حتى سميت منازل السفارة على المياه مناهل. (*)
[ 75 ]
لا تعطب فيه الدابة، ولرب الدابة أجر القفيز الزائد مع الكراء الاول، لان عطبها ليس من أجل الزيادة. وذلك بخلاف مجاوزة المسافة، لان مجاوزة المسافة تعد كله فيضمن إذا هلكت في قليله وكثيره. والزيادة على الحمل المشترط اجتمع فيه إذنذ وتعد، فإذا كانت الزيادة لا تعطب في مثلها علم أن هلاكها مما أذن له فيه. الرابعة - واختلف أهل العلم في الرجل يكترى الدابة بأجر معلوم إلى موضع مسمى، فيتعدى فيجتاز ذلك المكان ثم يرجع إلى المكان المأذون له في المصير إليه. فقالت طائفة: إذا جاوز ذلك المكان ضمن وليس عليه في التعدي كراء، هكذا قال الثوري. وقال أبو حنيفة: الاجر له فيما سمى، ولا أجر له فيما لم يسم، لانه خالف فهو ضامن، وبه قال يعقوب. وقال الشافعي: عليه الكراء الذى سمى، وكراء المثل فيما جاوز ذلك، ولو عطبت لزمه قيمتها. ونحوه قال الفقهاء السبعة، مشيخة أهل المدينة قالوا: إذا بلغ المسافة ثم زاد فعليه كراء الزيادة إن سلمت وإن هلكت ضمن. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: عليه الكراء والضمان. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن القاسم: إذا بلغ المكترى الغاية التى اكترى إليها ثم زاد ميلا ونحوه أو أميالا أو زيادة كثيرة فعطبت الدابة، فلربها كراؤه الاول والخيار في أخذه كراء الزائد بالغا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي. ابن المواز: وقد روى أنه ضامن ولو زاد خطوة. وقال ابن القاسم عن مالك في زيادة الميل ونحوه: وأما ما يعدل الناس إليه في المرحلة فلا يضمن. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون وأصبغ: إذا كانت الزيادة يسيرة أو جاوز الامد الذى تكاراها إليه بيسير، ثم رجع بها سالمة إلى موضع تكاراها إليه فماتت، أو ماتت في الطريق إلى الموضع الذى تكاراها إليه، فليس له إلا كراء الزيادة، كرده لما تسلف من الوديعة. ولو زاد كثيرا مما فيه مقام الايام الكثيرة التى يتغير في مثلها سوقها فهو ضامن، كما لو ماتت في مجاوزة الامد أو المسافة، لانه إذا كانت زيادة يسيرة مما يعلم أن ذلك مما لم يعن على قتلها فهلاكها بعد ردها إلى الموضع المأذون له فيه كهلاك ما تسلف من الوديعة بعد رده لا محالة. وإن كانت الزيادة كثيرة فتلك الزيادة قد أعانت على قتلها.
[ 76 ]
الخامسة - قال ابن القاسم وابن وهب قال مالك قال الله تعالى: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للاكل، ونحوه عن أشهب. ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، لان الله تعالى لما نص على الركوب والزينة دل على ما عداه بخلافه. وقال في الانعام: " ومنها تأكلون " مع ما امتن الله منها من الدف ء والمنافع، فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها. وبهذه الآية احتج ابن عباس والحكم بن عيينة، قال الحكم: لحوم الخيل حرام في كتاب الله، وقرأ هذه الآية والتى قبلها وقال: هذه للاكل وهذه للركوب. وسئل ابن عباس عن لحوم الخيل فكرهها، وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب، وقرأ الآية التى قبلها " والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع " ثم قال: هذه للاكل. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والاوزاعي ومجاهد وأبو عبيد وغيرهم، واحتجوا بما أخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكل ذى ناب من السباع أو مخلب من الطير. لفظ الدارقطني. وعند النسائي أيضا عن خالد بن الوليد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ". وقال الجمهور من الفقهاء والمحدثين: هي مباحة. وروى عن أبى حنيفة. وشذت طائفة فقالت بالتحريم، منهم الحكم كما ذكرنا، وروى عن أبى حنيفة. حكى الثلاث روايات عنه الرويانى في بحر المذهب على مذهب الشافعي. قلت: الصحيح الذى يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة. أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل. إذ لو دلت عليه لدلت على تحريم لحوم الحمر، والسورة مكية، وأى حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام يبر وقد ثبت في الاخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الانعام ذكر الاغلب من منافعها وأهم ما فيها، وهو حمل الاثقال والاكل، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرحا به، وقد تركب ويحرث بها، قال الله تعالى: " الذى جعل لكم الانعام لتركبوا
[ 77 ]
منها ومنها تأكلون (1) ". وقال في الخيل: " لتركبوها وزينة " فذكر أيضا أغلب منافعها والمقصود منها، ولم يذكر حمل الاثقال عليها، وقد تحمل كما هو مشاهد فلذلك لم يذكر الاكل. وقد بينه عليه السلام الذى جعل إليه بيان ما أنزل عليه ما يأتي، ولا يلزم من كونها خلقت للركوب والزينة ألا تؤكل، فهذه البقرة قد أنطقها خالقها الذى أنطق كل شئ فقالت: إنما خلقت للحرث. فيلزم من علل أن الخيل لا تؤكل لانها خلقت للركوب وألا تؤكل البقر لانها خلقت للحرث. وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها، فكذلك الخيل بالسنة الثابتة فيها. روى مسلم من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النسائي عن جابر: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وفى رواية عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: الرواية عن جابر بأنهم أكلوها في خيبر حكاية حال وقضية في عين، فيحتمل أن يكونوا ذبحوا لضرورة، ولا يحتج بقضايا الاحوال. قلنا: الرواية عن جابر وإخباره بأنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيل ذلك الاحتمال، ولئن سلمناه فمعنا حديث أسماء قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فأكلناه، رواه مسلم. وكل تأويل من غير ترجيح في مقابلة النص فإنما هو دعوى، لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه. وقد روى الدارقطني زيادة حسنة ترفع كل تأويل في حديث أسماء، قالت أسماء: كان لنا فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادت أن تموت فذبحناها فأكلناها. فذبحها إنما كان لخوف الموت عليها لا لغير ذلك من الاحوال. وبالله التوفيق. فإن قيل: حيوان من ذوات الحوافر فلا يؤكل كالحمار ؟ قلنا: هذا قياس الشبه وقد اختلف أرباب الاصول في القول به، ولئن سلمناه فهو منتقض بالخنزير، فإنه ذو ظلف وقد باين ذوات الاظلاف، وعلى أن القياس إذا كان في مقابلة النص فهو فاسد الوضع لا التفات إليه. قال الطبري: وفى إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للاكل دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب. (1) راجع ج 15 ص 334. (*)
[ 78 ]
السادسة - وأما البغال فإنها تلحق بالحمير، إن قلنا إن الخيل لا تؤكل، فإنها تكون متولدة من عينين لا يؤكلان. وإن قلنا إن الخيل تؤكل، فإنها عين متولدة من مأكول وغير مأكول فغلب التحريم على ما يلزم في الاصول. وكذلك ذبح المولود بين كافرين أحدهما من أهل الذكاة والآخر ليس من أهلها، لا تكون ذكاة ولا تحل به الذبيحة. وقد مضى في " الانعام (1) " الكلام في تحريم الخمر فلا معنى للاعادة. وقد علل تحريم أكل الحمار بأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط، فسمى رجسا. السابعة - في الآية دليل على أن الخيل لا زكاة فيها، لان الله سبحانه من علينا بما أباحنا منها وكرمنا به من منافعها، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل. وقد روى مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عراك بن مالك عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ". وروى أبو داود عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق ". وبه قال مالك والشافعي والاوزاعي والليث وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن كانت إناثا كلها أو ذكورا وإناثا، ففى كل فرس دينار إذا كانت سائمة، وإن شاء قومها فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. واحتج بأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في الخيل السائمة في كل فرس دينار " وبقوله صلى الله عليه وسلم: " الخيل ثلاثة... " الحديث. وفيه: " ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ". والجواب عن الاول أنه حديث لم يروه إلا غورك (2) السعدى عن جعفر عن محمد عن أبيه عن جابر. قال الدارقطني، تفرد به غورك عن جعفر وهو ضعيف جدا، ومن دونه ضعفاء. وأما الحديث فالحق المذكور فيه هو الخروج عليها إذا وقع النفير وتعين بها لقتال العدو إذا تعين " ذلك عليه، ويحمل المنقطعين عليها إذا احتاجوا لذلك، وهذا واجب عليه إذا تعين ذلك، كما يتعين عليه أن يطعمهم عند الضرورة، فهذه حقوق الله في رقابها. فإن قيل، هذا هو (1) راجع ج 7 ص 115 فما بعد. (2) هو غورك بن الحضرى أبو عبد الله. (عن الدار قطني) (*).
[ 79 ]
الحق الذى في ظهورها وبقى الحق الذى في رقابها، قيل: قد روى " لا ينسى حق الله فيها " ولا فرق بين قوله: " حق الله فيها " أو " في رقابها وظهورها " فإن المعنى يرجع إلى شئ واحد، لان الحق يتعلق بجملتها. وقد قال جماعة من العلماء: إن الحق هنا حسن ملكها وتعهد شبعها والاحسان إليها وركوبها غير مشقوق عليها، كما جاء في الحديث " لا تتخذوا ظهورها كراسي ". وإنما خص رقابها بالذكر لان الرقاب والاعناق تستعار كثيرا في مواضع الحقوق اللازمة والفروض الواجبة، ومنه قوله تعالى: " فتحرير رقبة مؤمنة (1) " وكثر عندهم استعمال ذلك واستعارته حتى جعلوه في الرباع والاموال، ألا ترى قول كثير: غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا * غلقت لضحكته رقاب المال وأيضا فإن الحيوان الذى تجب فيه الزكاة له نصاب من جنسه، ولما خرجت الخيل عن ذلك علمنا سقوط الزكاة فيها. وأيضا فإيجابه الزكاة في إناثها منفردة دون الذكور تناقض منه. وليس في الحديث فصل بينهما. ونقيس الاناث على الذكور في نفى الصدقة بأنه حيوان مقتنى لنسله لا لدره، ولا تجب الزكاة في ذكوره فلم تجب في إناثه كالبغال والحمير. وقد روى عنه أنه لا زكاة في إناثها وإن انفردت كذكورها منفردة: وهذا الذى عليه الجمهور. قال ابن عبد البر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر صحيح من حديث الزهري وغيره. وقد روى من حديث مالك، ورواه عنه جويرية عن الزهري أن السائب بن يزيد قال: لقد رأيت أبى يقوم الخيل ثم يدفع صدقتها إلى عمر. وهذا حجة لابي حنيفة وشيخه حماد بن أبى سليمان، لا أعلم أحدا من فقهاء الامصار أوجب الزكاة في الخيل غيرهما. تفرد به جويرية عن مالك وهو ثقة. الثامنة - قوله تعالى: " وزينة " منصوب بإضمار فعل، المعنى: وجعلها زينة. وقيل: هو مفعول من أجله. والزينة: ما يتزين به، وهذا الجمال والتزيين وإن كان من متاع الدنيا فقد أذن الله سبحانه لعباده فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الابل عز (1) راجع ج 5 ص (2) الغمر: الماء الكثير. ورجل الغمر الرداء، وغمر الخلق، أي واسع الخلق. كثير المعروف سخى. (*)
[ 80 ]
لاهلها والغنم بركة والخيل في نواصيها الخير ". خرجه البرقانى وابن ماجة في السنن. وقد تقدم في الانعام. وإنما جمع النبي صلى الله عليه وسلم العز في الابل، لان فيها اللباس والاكل واللبن والحمل والغزو وإن نقصها الكر والفر. وجعل البركة في الغنم لما فيها من اللباس والطعام والشراب وكثرة الاولاد، فإنها تلد في العام ثلاث مرات إلى ما يتبعها من السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح ولين الجانب، بخلاف الفدادين (1) أهل الوبر. وقرن النبي صلى الله عليه وسلم الخير بنواصي الخيل بقية الدهر لما فيها من الغنيمة المستفادة للكسب والمعائش، وما يوصل إليه من قهر الاعداء وغلب الكفار وإعلاء كلمة الله تعالى. قوله تعالى: (ويخلق ما لا تعلمون) قال الجمهور، من الخلق. وقيل، من أنواع الحشرات والهوام في أسافل الارض والبر والبحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل: " ويخلق ما لا تعلمون " مما أعد الله في الجنة لاهلها وفى النار لاهلها، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر. وقال قتادة والسدى: هو خلق السوس في الثياب والدود في الفواكه. ابن عباس: عين تحت العرش، حكاه الماوردى. الثعلبي: وقال ابن عباس عن يمين العرش نهر من النور مثل السموات السبع والارضين السبع والبحار السبع سبعين مرة، يدخله جبريل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله من كل ريشة سبعين ألف قطرة، ويخرج من كل قطرة سبعة آلاف ملك، يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك إلى البيت المعمور، وفى الكعبة سبعون ألفا لا يعدون إليه إلى يوم القيامة. وقول خامس (2) - وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها " أرض بيضاء، مسيرة الشمس ثلاثين يوما مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى يعصى في الارض " قالوا: يا رسول الله، من ولد آدم ؟ قال: " لا يعلمون أن الله خلق آدم ". قالوا: يا رسول الله، فأين إبليس منهم ؟ قال: " لا يعلمون أن الله خلق إبليس " - ثم تلا " ويخلق ما لا تعلمون " ذكره الماوردى. (1) الفدادون: أصحاب الابل الكثيرة الذين يملك أحدهن المأتين من الابل إلى الالف، في ى: أهل الابل. (2) كذا في الاصول. والمتبادر سادس. (*)
[ 81 ]
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكر البيهقى عن الشعبى قال: إن لله عبادا من وراء الاندلس كما بينا وبين الاندلس، ما يرون أن الله عصاه مخلوق، رضراضهم (1) الدر والياقوت وجبالهم الذهب والفضة، لا يحرثون (2) ولا يزرعون ولا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها ثمر هي طعامهم وشجر لها أوراق عراض هي لباسهم، ذكره في بدء الخلق من (كتاب الاسماء والصفات). وخرج من حديث موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله الانصاري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أذن لى أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ". قوله تعالى: وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شآء لهدكم أجمعين (9) قوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل) أي على الله بيان قصد السبيل، فحذف المضاف وهو البيان. والسبيل: السلام، أي على الله بيانه بالرسل والحجج والبراهين. وقصد السبيل: استعانة الطريق، يقال: طريق قاصد أي يؤدى إلى المطلوب. (ومنها جائز) أي ومن السبيل جائر، أي عادل عن الحق فلا يهتدى به، ومنه قول امرئ القيس: ومن الطريقة جائر وهدى * قصد السبيل ومنه ذو دخل وقال طرفة: عدولية أو من سفين ابن يا من * يجور بها الملاح طورا ويهتدى العدولية سفينة منسوبة إلى عد ولى قرية بالبحرين. والعدولى: الملاح، قاله في الصحاح. وفى التنزيل " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ". وقد تقدم (3). وقيل: المعنى ومنهم جائر عن سبيل الحق، أي عادل عنه فلا يهتدى إليه. وفيهم قولان، أحدهما - أنهم أهل الاهواء المختلفة، قاله ابن عباس. الثاني - ملل الكفر من اليهودية والمجوسية (1) الرضاض: الحصى. (2) في ى: يحترثون. (3) راجع ج 7 ص 137 (*)
[ 82 ]
والنصرانية. وفى مصحف عبد الله " ومنكم جائر " وكذا قرأ على " ومنكم " بالكاف. وقيل المعنى وعنها جائر، أي عن السبيل. ف " - من " بمعنى عن. وقال ابن عباس: أي من أراد الله أن يهديه سهل له طريق الايمان، ومن أراد أن يضله ثقل عليه الايمان وفروعه. وقيل: معنى " قصد السبيل " مسيركم ورجوعكم. والسبيل واحدة بمعنى الجمع، ولذلك أنث الكناية فقال: " ومنها " والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز. قوله تعالى: (ولو شاء لهداكم أجمعين) بين أن المشيئة لله تعالى، وهو يصحح ما ذهب إليه ابن عباس في تأويل الآية، ويرد على القدرية ومن وافقها كما تقدم. قوله تعالى: هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) الشراب ما يشرب، والشجر معروف. أي ينبت من الامطار أشجارا وعروشا ونباتا. و (تسيمون) ترعون إبلكم، يقال: سامت السائمة تسوم سوما أي رعت، فهى سائمة. والسوام والسائم بمعنى، وهو المال الراعى. وجمع السائم والسائمة سوائم. وأسمتها أنا أي أخرجتها إلى الرعى، فأنا مسيم وهى مسامة وسائمة. قال: أولى لك ابن مسيمة الاجمال (1) * وأصل السوم الابعاد في المرعى. وقال الزجاج: أخذ من السومة وهى العلامة، أي أنها تؤثر في الارض علامات برعيها، أو لانها تعلم للارسال في المرعى. قلت: والخيل المسومة تكون المرعية. وتكون المعلمة. وقوله: " مسومين " قال الاخفش تكون معلمين وتكون مرسلين، من قولك: سوم فيها الخيل أي أرسلها، ومنه السائمة، وإنما جاء بالياء والنون لان الخيل سومت وعليها ركبانها. (1) هذا عجر بيت، وصدره كما في تفسير الطبري: * مثل ابن بزعة أو كآخر مثله * (*)
[ 83 ]
قوله تعالى: ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخل والاعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11) قوله تعالى: (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات) قرأ أبو بكر عن عاصم " ننبت " بالنون على التعظيم. العامة بالياء على معنى ينبت الله لكم، يقال: ينبت الارض وأنبتت بمعنى، ونبت البقل وأنبت بمعنى. وأنشد الفراء: رأيت ذوى الحاجات حول بيوتهم * قطينا بها حتى إذا أنبت البقل أي نبت. وأنبته الله فهو منبوت، على غير قياس. وأنبت الغلام نبتت عانته. ونبت الشجر غرسه (1)، يقال: نبت أجلك بين عينيك. ونبت الصبى تنبيتا ربيته. والمنبت موضع النبات، يقال: ما أحسن نابتة بنى فلان، أي ما ينت عليه أموالهم وأولادهم. ونبتت لهم نابتة إذا نشأ لهم نش ء صغار. وإن بنى فلان لنابتة شر. والنوابت من الاحادث الاغمار. والنبيت حى (2) من اليمن. والينبوت (3) شجر، كله عن الجوهرى. (والزيتون) جمع زيتونة. ويقال للشجرة نفسها: زيتونة، وللثمرة زيتونة. وقد مضى في سورة " الانعام " حكم زكاة هذه الثمار فلا معنى للاعادة. (إن في ذلك) الانزال والانبات. (لآية) أي دلالة (لقوم يتفكرون). قوله تعالى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لايت لقوم يعقلون (12) قوله تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار) أي للسكون والاعمال، كما قال: " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله (5) ". (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) أي مذللات لمعرفة الاوقات ونضج الثمار والزرع والاهتداء بالنجوم في الظلمات. وقرأ (ابن عباس (6) و) ابن عامر وأهل الشام " والشمس والقمر والنجوم مسخرات " (1) في ج: بنبت الشجر غرسته. (2) أبو حى من اليمن واسمه عمرو بن مالك. (3) الذى في القاموس: الينبوت شجر الخشخاش أو شجر آخر الخروب. (4) راجع ج 7 ص 99 فما بعدها. (5) راجع ج 13 ص 308 (6) في ج. (*)
[ 84 ]
بالرفع على الابتداء والخبر. الباقون بالنصب عطفا على ما قبله. وقرأ حفص عن عاصم برفع " والنجوم "، " مسخرات " خبره. وقرئ " والشمس والقمر والنجوم " بالنصب. (عطفا على الليل والنهار، ورفع والنجوم على الابتداء (1). " مسخرات " بالرفع، وهو خبر ابتداء محذوف) أي في مسخرات، وهى في قراءة من نصبها حال مؤكدة، كقوله: " وهو الحق مصدقا (2) ". (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) أي عن الله ما نبههم عليه ووفقهم له. قوله تعالى: وما ذرألكم في الارض مختلفا ألوانه إن في ذلك لاية لقوم يذكرون (13) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما ذرأ) أي وسخر ما ذرأ في الارض لكم. " ذرأ " أي خلق، ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، فهو ذارئ، ومنه الذرية وهى نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذرارى. يقال: أنمى الله ذرأك وذروك، أي ذريتك. وأصل الذرو والذرء التفريق عن جمع. وفى الحديث (3) " ذرء النار " أي أنهم خلقوا لها. الثانية - ما ذرأه الله سبحانه منه مسخر مذلل كالدواب والانعام والاشجار وغيرها، ومنه غير ذلك. والدليل عليه ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الاحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا. فقيل له: وما هن ؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذى ليس شئ أعظم منه، وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وبرأ وذرأ. وفيه عن يحيى بن سعيد أنه قال: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار، الحديث. وفيه: وشر ما ذرأ في الارض. وقد ذكرناه وما في معناه في غير هذا الموضع. (1) من ج. (2) راجع ج 2 ص 29. (3) أي في حديث عمر رضى الله وقد كتب إلى خالد:. إنل اأظنكم آل المغيرة ذرء النار. (*)
[ 85 ]
الثالثة - قوله تعالى: (مختلفا ألوانه) " مختلفا " نصب على الحال. و " ألوانه " هيئاته ومناظره، يعنى الدواب والشجر وغيرها. (إن في ذلك) أي في اختلاف ألوانها. (لآية) أي لعبرة. (لقوم يذكرون) أي يتعظون ويعلمون أن في تسخير هذه المكونات لعلامات على وحدانية الله تعالى، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره. قوله تعالى: وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخرفيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14) فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وهو الذى سخر البحر) تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والارفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلشاء سلطه علينا وأغرقنا وقد مضى الكلام في البحر (1) وفى صيده. سماه هنا لحما واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس: فلحم ذوات الاربع جنس، ولحم ذوات الريش جنس، ولحم ذوات الماء جنس. فلا يجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلا، ويجوز بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلا، وكذلك لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلا. وقال أبو حنيفة: اللحم كلها أصناف مختلفة كأصولها، فلحم البقر صنف، ولحم الغنم صنف، ولحم الابل صنف، وكذلك الوحش مختلف، كذلك الطير، وكذلك السمك، وهو جحد قولى الشافعي. والقول الآخر أن الكل من النعم والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه. والقول الاول هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. ودليلنا هو أن الله تعالى فرق بين أسماء الانعام في حياتها فقال: " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين (2) " * (هامش) (1) راجع ج 1 ص 288. (2) راجع ج 7 ص 113.
[ 86 ]
ثم قال: " ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين " فلما أن أم بالجميع (1) إلى اللحم قال: " أحلت لكم بهيمة الانعام " فجمعها بلحم واحد لتقارب منافعها كتقارب لحم الضأن والمعز. وقال في موضع آخر: " ولحم طير مما يشتهون (2) " وهذا جمع طائر الذى هو الواحد، لقوله تعالى: " ولا طائر يطير بجناحيه (3) " فجمع لحم الطير كله باسم واحد. وقال هنا: " لحما طريا " فجمع أصناف السمك بذكر واحد، فكان صغاره ككباره في الجمع بينهما. وقد روى عن ابن عمر أنه سئل عن لحم المعز بلحم الكباش أشئ واحد ؟ فقال لا، ولا مخالف له فصار كالاجماع، والله أعلم. ولا حجة للمخالف في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل، فإن الطعام في الاطلاق يتناول الحنطة وغيرها من المأكولات ولا يتناول اللحم، ألا ترى أن القائل إذا قال: أكلت اليوم طعاما لم يسبق الفهم منه إلى أكل اللحم، وأيضا فإنه معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " وهذان جنسان، وأيضا فقد اتفقنا على جواز بيع اللحم بلحم (4) الطير متفاضلا لا لعلة أنه بيع طعام لا زكاة له بيع بلحم ليس فيه الزكاة، وكذلك بيع السمك بلحم الطير متفاضلا. الثانية - وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلا. وذكر عن سحنون أنه يمنع من ذلك، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدخر. الثالثة - لاختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحما، فقال ابن القاسم: يحنث بكل نوع من هذه الانواع الاربعة. وقال أشهب في المجموعة. يحنث إلا بكل لحوم الانعام دون الوحش وغيره، مراعاة للعرف والعادة، وتقديما لها على إطلاق اللفظ اللغوى، وهو (5) أحسن. الرابعة - قوله تعالى: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) يعنى به اللؤلؤ والمرجان، لقوله تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (2) ". وإخراج الحلية إنما هي فيما عرف من الملح فقط. وقال: إن في الزمرد بحريا. وقد خطئ الهذلى في قوله في وصف الدرة: (1) في الاسول: " فلما أن أم الجميع ". يريد: فلما أن قصد بالجميع إلى اللحم. (2) راجع ج 17 ص 202 فما بعد وص 161 فما بعد. (3) راجع ج 6 ص 419 فما بعد. (4) في ج وى: اللبن. (5) في ى: وهذا حسن. (*)
[ 87 ]
فجاء بها من در ة لطمية * على وجهها ماء الفرات يدوم (1) فجعلها من الماء الحلو. فالحلية حق وهى نحلة الله تعالى لآدم وولده. خلق آدم وتوج وكلل بإكليل الجنة، وختم بالخاتم الذى ورثه عنه سليمان بن داود صلوات الله عليهم، وكان يقال له خاتم العز فيما روى. الخامسة - لامتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شئ منه، وإنما حرم الله تعالى على الرجال الذهب والحرير: روى الصحيح عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ". وسيأتى في سورة " الحج " الكلام فيه إن شاء الله (2). وروى البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب، وجعل فصه مما يلى باطن كفه، ونقش فيه محمد رسول الله، فاتخذ الناس مثله، فلما رآهم قد اتخذوها رمى به وقال: " لا ألبسه أبدا " ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى وقع من عثمان في بئر أريس (3). قال أبو داود: لم يختلف الناس على عثمان حتى سقط الخاتم من يده. وأجمع العلماء على جواز التختم بالورق على الجملة للرجال. قال الخطابى. وكره للنساء التختم بالفضة، لانه من زى الرجال، فإن لم يجدن ذهبا فليصفرنه بزعفران أو بشبهه. وجمهور العلماء من السلف والخلف على تحريم اتخاذ الرجال خاتم الذهب، إلا ما روى عن أبى بكر بن عبد الرحمن وخباب، وهو خلاف شاذ، وكل منهما لم يبلغهما النهى والنسخ. والله أعلم. وأما ما رواه أنس بن مالك أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتم، من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم - أخرجه الصحيحان واللفظ للبخاري - فهو عند العلماء (1) اللزيمة: الجمال التى تحمل العطر. وقيل: اللطيمة العنبرة التى لطمت بالمسك فتفتقت به حتى نشبت رائحتها، وهى اللطيمة. (2) راجع ج 12 ص 28. (3) حديقة بالقرب من مسجد قباء. (*)
[ 88 ]
وهم من ابن شهاب، لان الذى نبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو خاتم الذهب. رواه عبد العزيز بن صهيب وقتادة عن أنس، وهو خلاف ما روى ابن شهاب عن أنس فوجب القضاء بالجملة على الواحد إذا خالفها، مع ما يشهد للجماعة من حديث ابن عمر. السادسة - إذا ثبت جواز التختم للرجال بخاتم الفضة والتحلى به، فقد كره ابن سيرين وغيره من العلماء نقشه وأن يكون فيه ذكر الله. وأجاز نقشه جماعة من العلماء. ثم إذا نقش عليه اسم الله أو كلمة حكمة أو كلمات من القرآن وجعله في شماله، فهل يدخل به الخلاء ويستنجى بشماله ؟ خففه سعيد بن المسيب ومالك. قيل لمالك: إن كان في الخاتم ذكر الله ويلبسه في الشمال أيستنجى به ؟ قال: أرجو أن يكون خفيفا. وروى عنه الكراهة وهو الاولى. وعلى المنع من ذلك أكثر أصحابه. وقد روى همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد ابن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه. قال أبو داود: لم يحدث بهذا إلا همام. السابعة - روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه " محمد رسول الله " وقال: " إنى اتخذت خاتما من ورق ونقشت فيه محمد رسول الله فلا ينقشن أحد على نقشه ". قال علماؤنا: فهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه. قال مالك: ومن شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم على خواتيمهم، ونهيه عليه السلام: لا ينقشن أحد على نقش خاتمه، من أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه. وروى أهل الشام أنه لا يجوز الخاتم لغير ذى سلطان. ورووا في ذلك حديثا. عن أبى ريحانة، وهو حديث لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام: " لا ينقشن أحد على نقشه " يرده ويدل على جواز اتخاذ الخاتم لجميع الناس، إذا لم ينقش على نقش خاتمه. وكان نقش خاتم الزهري " محمد يسأل الله العافية ". وكان نقش خاتم مالك " حسبى الله ونعم الوكيل ". وذكر الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول) أن نقش خاتم موسى عليه السلام (*)
[ 89 ]
" لكل أجل كتاب ". وقد مضى في الرعد (1). وبلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنه اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه: إنه بلغني أنك اشتريت خاتما بألف درهم، فبعه وأطعم منه ألف جائع، واشتر خاتما من حديد بدرهم، واكتب عليه " رحم الله امرأ عرف قدر نفسه ". الثامنة - من حلف ألا يلبس حليا فلبس لؤلؤا لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة. قال ابن خويز منداد: لان هذا وإن كان الاسم اللغوى يتناوله فلم يقصده باليمين، والايمان تخص بالعرف، ألا ترى أنه لو حلف ألا ينام على فراش فنام على الارض لم يحنث، وكذلك لا يستضئ بسراج فجلس في الشمس لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سمى الارض فراشا والشمس سراجا. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: من حلف ألا يلبس حليا ولبس اللؤلؤ فإنه يحنث، لقوله تعالى: " وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " والذى يخرج منه: اللؤلؤ والمرجان. التاسعة - قوله تعالى: (وترى الفلك مواخر فيه) قد تقدم ذكر الفلك وركوب البحر في " البقرة (2) " وغيرها. وقوله: " مواخر " قال ابن عباس: جواري، من جرت تجرى. سعيد بن جبير: معترضة. الحسن: مواقر. قتادة والضحاك: أي تذهب وتجئ، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. وقيل: " مواخر " ملججة في داخل البحر، وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال. مخرت السفينة تمخر وتمخر مخرا ومخورا إذا جرت تشق الماء مع صوت، ومنه قوله تعالى: " وترى الفلك مواخر فيه " يعنى جواري. وقال الجوهرى: ومخر السابح إذا شق الماء بصدره، ومخر الارض شقها للزراعة، ومخرها بالماء إذا حبس الماء فيها حتى تصير أريضة، أي خليقة بجودة نبات الزرع. وقال الطبري: المخر في اللغة صوت هبوب الريح، ولم يقيد كونه في ماء، وقال: إن من ذلك قول واصل مولى أبى عيينة: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، أي لينظر في صوتها في الاجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله. (ولتبتغوا من فظله) أي ولتركبوه للتجارة وطلب الربح. (ولعلكم تشكرون) تقدم جميع هذا في " البقرة " والحمد لله. (1) راجع ج 9 ص 329. (2) راجع ج 1 ص 388 وج 2 ص 194. (*)
[ 90 ]
قوله تعالى: وألقى في الارض روسى أن تميد بكم وأنهرا وسبلا لعلكم تهتدون (15) قوله تعالى: (وألقى في الارض رواسي) أي جبالا ثابتة. رسا يرسو إذا ثبت وأقام. قال: فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع (1) (أن تميد بكم) أي لئلا تميد، عند الكوفيين. وكراهية أن تميد، على قول البصريين. والميد: الاضطراب يمينا وشمالا، ماد الشئ يميد ميدا إذا تحرك، ومادت الاغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر. قال وهب بن منبه: خلق الله الارض فجعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، ولم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: لما خلق الله الارض قمصت ومالت وقالت: أي رب ! أتجعل على من يعمل بالمعاصى والخطايا، ويلقى على الجيف والنتن ! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون. وروى الترمذي في آخر (كتاب التفسير): حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبى سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله الارض جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت فعجب الملائكة من شدة الجبال فقالوا يا رب هل من خلقك شئ أشد من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد قال نعم النار فقالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الريح قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله ". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه. (1) البيت لعنترة العبسى. يقول: حبست نفسا عارفة، أي صابرة. وقبله: وعلمت أن منيتى إن تأتني * لا ينجنى منها الفرار الاسرع (*)
[ 91 ]
قلت: وفى هذه الآية أدل دليل على استعمال الاسباب، وقد كان قادرا على سكونها دون الجبال. وقد تقدم هذا المعنى. (وأنهارا) أي وجعل فيها أنهارا، أو ألقى فيها أنهارا. (وسبلا) أي طرقا ومسالك. (لهلكم تهتدون) أي إلى حيث تقصدون من البلاد فلا تضلون ولا تتحيرون. قوله تعالى: وعلمت وبالنجم هم يهتدون (16) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وعلامات) قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار، أي جعل للطريق علامات يقع الاهتداء بها. (وبالنجم هم يهتدون) يعنى بالليل، والنجم يراد به النجوم. وقرأ ابن وثاب " وبالنجم ". الحسن: بضم النون والجيم جميعا ومراده النجوم، فقصره، كما قال الشاعر: إن الفقير بيننا قاض حكم * أن ترد الماء إذا غاب النجم وكذلك القول لمن قرأ " النجم " إلا أنه سكن استخفافا. ويجوز أن يكون النجم جمع نجم كسقف وسقف. واختلف في النجوم، فقال الفراء: الجدى والفرقدان. وقيل: الثريا. قال الشاعر: حتى إذا ما استقل النجم في غلس * وغودر البقل ملوى ومحصود (1) أي منه ملوى ومنه محصود، وذلك عند طلوع الثريا يكون. وقال الكلبى: العلامات الجبال. وقال مجاهد: هي النجوم، لان من النجوم ما يهتدى بها، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها، وقاله قتادة والنخعي. وقيل: تم الكلام عند قوله: " وعلامات " ثم ابتدأ وقال: " وبالنجم هم يهتدون ". وعلى الاول: أي وجعل لكم علامات ونجو ما تهتدون بها. ومن العلامات الرياح يهتدى بها. وفى المراد بالاهتداء قولان: أحدهما - في الاسفار، (1) البيت لذى الرمة. ومعنى " استقل " طلع في آخر الليل. وفى ديوانه: " أحصد " بدل " غودر ". وأحصد: حان حصاده. (*)
[ 92 ]
وهذا قول الجمهور. الثاني - في القبلة. وقال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: " وبالنجم هم يهتدون " قال: " هو الجدى يا بن عباس، عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم " ذكره الماوردى. الثانية - قال ابن العربي: أما جميع النجوم فلا يهتدى بها إلا العارف بمطالعها ومغاربها، والفرق بين الجنوبى والشمالى منها، وذلك قليل في الآخرين. وأما الثريا فلا يهتدى بها إلا من يهتدى بجميع النجوم. وإنما الهدى لكل أحد بالجدى والفرقدين، لانها من النجوم المنحصرة المطالع الظاهرة السمت الثابتة في المكان، فإنها تدور على القطب الثابت دورانا محصلا، فهى أبدا هدى الخلق في البر إذا عميت الطرق، وفى البحر عند مجرى السفن، وفى القبلة إذا جهل السمت، وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الايسر فما استقبلت فهو سمت الجهة. قلت: وسأل ابن عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجم فقال: " هو الجدى عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم ". وذلك أن آخر الجدى بنات نعش الصغرى والقطب الذى تستوى عليه القبلة بينها. الثالثة - قال علماؤنا: وحكم استقبال القبلة على وجهين: أحدهما - أن يراها ويعاينها فيلزمه استقبالها وإصابتها وقصد جهتها بجميع بدنه. والآخر - أن تكون الكعبة بحيث لا يراها فيلزمه التوجه نحوها وتلقاءها بالدلائل، وهى الشمس والقمر والنجوم والرياح وكل ما يمكن به معرفة جهتها، ومن غابت عنه وصلى مجتهدا إلى غير ناحيتها وهو ممن يمكنه الاجتهاد فلا صلاة له، فإذا صلى مجتهدا مستدلا ثم انكشف له بعد الفراغ من صلاته أنه صلى إلى غير القبلة أعاد إن كان في وقتها، وليس ذلك بواجب عليه، لانه قد أدى فرضه على ما أمر به. على ما أمر به. وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " مستوفى والحمد لله: (1) راجع ج 2 ص 160 (*)
[ 93 ]
قوله تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) قوله تعالى: " أفمن يخلق " هو الله تعالى. (كمن لا يخلق) يريد الاصنام. (أفلا تذكرون) أخبر عن الاوثان التى لا تخلق ولا تضر ولا تنفع، كما يخبر عمن يعمل على ما تستعمله العرب في ذلك، فإنهم كانوا يعبدونها فذكرت بلفظ " من " كقوله: " ألهم أرجل (1) ". وقيل: لاقتران الضمير في الذكر بالخالق. قال الفراء: هو كقول العرب: اشتبه على الراكب وجمله فلا أدرى من ذا ومن ذا، وإن كان أحدهما غير إنسان. قال المهدوى: ويسأل ب " من " عن البارئ تعالى ولا يسأل عنه ب " ما "، لان " ما " إنما يسأل بها عن الاجناس، والله تعالى ليس بذى جنس، ولذلك أجاب موسى عليه السلام حين قال له: " فمن ربكما يا موسى (2) " ولم يجب حين قال له: " وما رب العالمين (3) " إلا بجواب " من " وأضرب عن جواب " ما " حين كان السؤال فاسدا. ومعنى الآية: من كان قادرا على خلق الاشياء المتقدمة الذكر كان بالعبادة أحق ممن هو مخلوق لا يضر ولا ينفع، " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه (4) " " أرونى ماذا خلقوا من الارض (5) ". قوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19) قوله تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) تقدم في إبراهيم (6). (إن الله لغفور رحيم. والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) أي ما تبطنونه وما تظهرونه. وقد تقدم جميع هذا مستوفى. قوله تعالى: والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيا وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21) (1) راجع ج 7 ص 342. (2) راجع ج 11 ص 203. (3) راجع ج 13 ص 98. (4) راجع ج 14 ص 58 وص 355. (5) راجع ج 16 ص 179. (6) راجع ج 9 ص 367. (*)
[ 94 ]
قوله تعالى: (" والذين يدعون من دون الله) قراءة العامة " تدعون " بالتاء لان ما قبله خطاب. روى أبو بكر عن عاصم وهبيرة عن حفص " يدعون " بالياء، وهى قراءة يعقوب. فأما قوله: " ما تسرون وما تعلنون " فكلهم بالتاء على الخطاب، إلا ما روى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه قرأ بالياء. (لا يخلقون شيئا) أي لا يقدرون على خلق شئ (وهم يخلقون). (أموات غير أحياء) أي هم أموات، يعنى الاصنام، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة. (وما يشعرون) يعنى الاصنام. (أيان يبعثون) وقرأ السلمى، " إيان " بكسر الهمزة، وهما لغتان، موضعه نصب ب " يبعثون " وهى في معنى الاستفهام. والمعنى: لا يدرون متى يبعثون. وعبر عنها كما عبر عن الآدميين، لانهم زعموا أنها تعقل عنهم وتعلم وتشفع لهم عند الله تعالى، فجرى خطابهم على ذلك. وقد قيل: إن الله يبعث الاصنام يوم القيامة ولها أرواح فتتبرأ من عبادتهم، وهى في الدنيا جماد لا تعلم متى تبعث. قال ابن عباس، تبعث الاصنام وتركب فيها الارواح ومعها شياطينها فيتبرءون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار. وقيل: إن الاصنام تطرح في النار مع عبدتها يوم القيامة، دليله " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم (1) ". وقيل: تم الكلام عند قوله: " لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات، وهذا الموت موت كفر. " وما يشعرون أيان يبعثون " أي وما يدرى الكفار متى يبعثون، أي وقت البعث، لانهم لا يؤمنون بالبعث حثى يستعدوا للقاء الله. وقيل: أي وما يدريهم متى الساعة، ولعلها تكون قريبا. قوله تعالى: إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22) لاجرم أن الله يعلم ما تسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين (23) (1) راجع ج 11 ص 343. (*)
[ 95 ]
قوله تعالى: (إلهكم إله واحد) لما بين استحالة الاشراك بالله تعالى بين أن المعبود واحد لا رب غيره ولا معبود سواه. (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة) أي لا تقبل الوعظ ولا ينجع فيها الذكر، وهذا رد على القدرية. (وهم مستكبرون) أي متكبرون متعظمون عن قبول الحق. وقد تقدم في " البقرة (1) " معنى الاستكبار. (لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) أي من القول والعمل فيجازيهم. قال الخليل: " لا جرم " كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا، يقال: فعلوا ذلك، فيقال: لا جرم سيندمون. أي حقا أن لهم النار وقد مضى القول في هذا في هود " (2) " مستوفى. (إنه لا يحب المستكبرين) أي لا يثيبهم ولا يثنى عليهم. وعن الحسين بن على أنه مر بمساكين قد قدموا كسرا بينهم (3) وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبد الله، فنزل وجلس معهم وقال: (إنه لا يحب المستكبرين) فلما فرغ قال: قد أجبتكم فأجيبوني، فقاموا معه إلى منزله فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم وانصرفوا. قال العلماء: وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر، فإنه فسق يلزمه الاعلان، وهو أصل العصيان كله. وفى الحديث الصحيح " إن المتكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم: " تصغر لهم أجسامهم في المحشر حتى يضرهم صغرها وتعظم لهم في النار حتى يضرهم عظمها ". قوله تعالى: وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوآ أسطير الاولين (24) قوله تعالى: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم) يعنى وإذا قيل لمن تقدم ذكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث " ماذا أنزل ربكم ". قيل: القائل النضر بن الحارث، وأن الآية نزلت فيه، وكان خرج إلى الحيرة فاشترى أحاديث (كليلة ودمنة) فكان يقرأ على قريش ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الاولين، أي ليس هو من تنزيل (1) راجع ج 1 ص 296. (2) راجع ج 9 ص 20. (3) في ج وى: لهم. (*)
[ 96 ]
ربنا. وقيل: إن المؤمنين هم القائلون لهم اختبارا فأجابوا بقولهم: " أساطير الاولين " فأقروا بإنكار (1) شئ هو أساطير الاولين. والاساطير: الاباطيل والترهات. وقد تقدم في الانعام (2) والقول في " ماذا أنزل ربكم " كالقول في " ماذا ينفقون (3) " وقوله: (أساطير الاولين). خبر ابتداء محذوف، التقدير: الذى أنزله أساطير الاولين. قوله تعالى: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (25) قوله تعالى: (ليحملوا أوزارهم) قيل: هي لام كى، وهى متعلقة بما قبلها. وقيل: لام العاقبة، كقوله: " ليكون لهم عدوا وحزنا (4) ". أي قولهم في القرآن والنبى أداهم إلى أن حملوا أوزارهم، أي ذنوبهم. (كاملة) لم يتركوا منها شى لنكبة أصابتهم في الدنيا بكفرهم. وقيل: هي لام الامر، والمعنى التهدد. بكفرهم. (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) قال مجاهد: يحملون وزر من أضلوه ولا ينقص من إثم المضل شئ. وفى الخبر " أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شئ وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شئ " خرجه مسلم بمعناه. و " من " للجنس لا للتبعيض، فدعاة الضلالة عليهم مثل أوزار من اتبعهم. وقوله: (بغير علم) أي يضلون الخلق جهلا منهم بما يلزمهم من الآثام، إذ لو علموا لما أضلوا. (ألا ساء ما يزرون) أي بئس الوزر الذى يحملونه. ونظير هذه الآية " وليحملن أثقالهم (4) وأثقالا مع أثقالهم " وقد تقدم في آخر " الانعام (5) " بيان قوله: " ولا بزر وازرة وزر أخرى ". (1) في ج وى: إنزال. (2) راجع ج 6 ص 405. (3) راجع ج 3 ص 36. (4) راجع ج 13 ص 25، ص 330. (5) راجع ج 7 ص 157. (*)
[ 97 ]
قوله تعالى: قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنينهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتهم العذاب من جيث لا يشعرون (26) قوله تعالى: (قد مكر الذين من قبلهم) أي سبقهم بالكفر أقوام مع الرسل المتقدمين فكانت العاقبة الجميلة للرسل. (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم) قال ابن عباس وزيد بن أسلم وغيرهما: إنه النمروذ بن كنعان وقومه، أرادوا صعود السماء وقتال أهله، فبنوا الصرح ليصعدوا منه بعد أن صنع بالنسور ما صنع، فخر. كما تقدم بيانه في آخر سورة " إبراهيم (1) ". ومعنى " فأتى الله بنيانهم " أي أتى أمره البنيان، إما زلزلة أو ريحا فخربته. قال ابن عباس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف. وقال كعب ومقاتل: كان طول فرسخين، فهبت ريح فألقت رأسه في البحر وخر عليهم الباقي. ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سمى بابل، وما كان لسان قبل ذلك إلا السريانية. وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة (2) " وقرأ ابن هرمز وابن محيصن " السقف " بضم السين والقاف جميعا. وضم مجاهد السين وأسكن القاف تخفيفا، كما تقدم في " وبالنجم " في الوجهين. والاشبه أن يكون جمع سقف. والقواعد: أصول البناء، وإذا اختلت القواعد سقط البناء. وقوله: (من فوقهم) قال ابن الاعرابي: وكد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته. والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه. فجاء بقوله: " من فوقهم " ليخرج هذا الشك الذى في كلام العرب فقال: " من فوقهم " أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا. وقيل: إن المراد بالسقف السماء، أي إن العذاب أتاهم من السماء التى هي فوقهم، قال ابن عباس. وقيل: إن قوله: " فأتى الله بنيانهم من (1) راجع ج 9 ص 381. (2) راجع ج 1 ص 283. (*)
[ 98 ]
القواعد " تمثيل، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. وقيل: المعنى أبطل مكرهم وتدبيرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه. وعلى هذا اختلف في الذين خر عليهم السقف، فقال ابن عباس وابن زيد ما تقدم. وقيل: إنه بختنصر وأصحابه، قال بعض المفسرين. وقيل: المراد المقتسمون الذين ذكرهم الله في سورة الحجر (1)، قال الكلبى. وعلى هذا التأويل يخرج وجه التمثيل، والله أعلم. (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) أي من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقال ابن عباس: يعنى البعوضة التى أهلك الله بها نمرودا (2). قوله تعالى: ثم يوم القيمة يخزيهم ويقول أين شركاءى الذين كنتم تشقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الحزى اليوم والسوء على الكافرين (27) قوله تعالى: (ثم يوم القيامة يخزيهم) أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم. (ويقول أين شركائي) أي بزعمكم وفى دعواكم، أي الآلهة التى عبدتم دوني، وهو سؤال توبيخ. (الذين كنتم تشاقون) أي تعادون أنبيائي بسببهم، فليدفعوا عنكم هذا العذاب. وقرأ ابن كثير " شركاى " بياء مفتوحة من غير همز، والباقون بالهمز. نافع " تساقون " بكسر النون على الاضافة، أي تعادوننى فيهم. وفتحها الباقون. (قال الذين أوتوا العلم) قال ابن عباس: أي الملائكة. وقيل المؤمنون. (إن خزى اليوم) أي الهوان والذل يوم القيامة. (والسوء) أي العذاب. " على الكافرين ". قوله تعالى: الذين تتوفهم الملكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بنا كنتم تعملون (28) (1) راجع ص ج 57 من هذا الجزء. (2) رجح بعض اللغويين بالذال المعجمة وجوز بعضهم الوجهين. (*)
[ 99 ]
قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملكة ظالمي أنفسهم) هذا من صفة الكافرين. و " ظالمي أنفسهم " نصب على الحال، أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. (فألقوا السلم) أي الاستسلام. أي أقروا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا: (ما كنا نعمل من سوء) أي من شرك. فقالت لهم الملائكة: (بلى) قد كنتم تعملون الاسواء. (إن الله عليم بما كنتم تعملون) وقال عكرمة: نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا بها، فقال: (الذين تتوفاهم الملائكة) بقبض أرواحهم. (ظالمي أنفسهم) في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. (فألقوا السلم) يعنى في خروجهم معهم. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه الصلح، قال الاخفش. الثاني - الاستسلام، قال قطرب. الثالث - الخضوع، قاله مقاتل. (ما كنا نعمل من سوء) يعنى من كفر. (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون) يعنى أن أعمالهم (1) أعمال الكفار. وقيل: إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين، فنزلت فيهم. وعلى القول الاول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلم، ويخضع ويذل، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان، كما قال: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (2) " وقد تقدم هذا المعنى. وتقدم في " الانفال (3) " إن الكفار يتوفون بالضرب والهوان، وكذلك في الانعام (4). " وقد ذكرنا في كتاب التذكرة. قوله تعالى: فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين (29) قوله تعالى: (فأدخلوا أبواب جهنم) أي يقال لهم ذلك عند الموت. وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر، إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين. وقيل: لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلا إلا بدخول الدركة الاولى ثم الثانية ثم الثالثة هكذا. وقيل: لكل دركة (1) كذا في ج وى. وفى أوو: أعمالهم. (2) راجع ج 15 ص 335. (3) راجع ج 8 ص 28. (4) راجع ج 7 ص 144 وما بعدها. (*)
[ 100 ]
باب مفرد، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر. فالله أعلم. (خالدين فيها) أي ماكثين فيها. (فلبئس مثوى) أي مقام (المتكبرين) الذين تكبروا عن الايمان وعن عبادة الله تعالى، وقد بينهم بقوله الحق: " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون (1) ". قوله تعالى: وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين (30) جنت عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزى أالله المتقين (31) الذين تتوفهم الملكة طيبين يقولون سلم عليكم ادخلوا بما كنتم تعلمون (32) قوله تعالى: (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) أي قالوا: أنزل خيرا، وتم الكلام. و " ماذا " على هذا اسم واحد. وكان يرد الرجل من العرب مكة في أيام الموسم فيسأل المشركين عن محمد عليه السلام فيقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. ويسأل المؤمنين فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى، والمراد القرآن. وقيل: إن هذا يقال لاهل الايمان يوم القيامة. قال الثعلبي: فإن قيل: لم ارتفع الجواب في قوله: " أساطير الاولين " وانتصب في قوله: " خيرا " ؟ فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل، فكأنهم قالوا: الذى يقوله محمد هو أساطير الاولين. والمؤمنين آمنوا بالنزول فقالوا: أنزل خيرا. وهذا مفهوم معناه من الاعراب، والحمد لله. قوله تعالى: (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة قيل: هو من كلام الله عز وجل. وقيل: هو من جملة كلام الذين اتقوا. والحسنة هنا: الجنة، أي من أطاع الله فله الجنة غدا. وقيل: " للذين أحسنوا " اليوم حسنة في الدنيا من النصر والفتح والغنيمة: (ولدار (1) راجع ج 15 ص 75. (*)
[ 101 ]
الآخرة خير) أي ما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا، لفنائها وبقاء الآخرة. (ولنعم دار المتقين) فيه وجهان - قال الحسن: المعنى ولنعم دار المتقين الدنيا، لانهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. وقيل: المعنى ولنعم دار المتقين الآخرة، وهذا قول الجمهور. وعلى هذا تكون (جنات عدن) بدلا من الدار فلذلك ارتفع. وقيل: ارتفع على تقدير هي جنات، فهى مبينة لقوله: " دار المتقين ". أو تكون مرفوعة بالابتداء، التقدير: جنات عدن نعم دار المتقين. (يدخلونها) في موضع الصفة، أي مدخولة. وقيل: " جنات " رفع بالابتداء، وخبره " يدخلونها " وعليه يخرج قول الحسن. والله أعلم. (تجرى من تحتها الانهار) تقدم معناه في البقرة (1). (لهم فيها ما يشاءون) أي مما تمنوه وأرادوه. (كذلك يجزى الله المتقين) أي مثل هذا الجزاء يجزى الله المتقين. (الذين تتوفاهم الملاكة طيبين) قرأ الاعمش وحمزة " يتوفاهم الملائكة " في الموضعين بالياء، واختاره أبو عبيد، لما روى عن ابن مسعود أنه قال: إن قريشا زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم. الباقون بالتاء، لان المراد به الجماعة من الملائكة. و " طيبين " طاهرين من الشرك. الثاني - صالحين. الثالث - زاكية أفعالهم وأقوالهم. الرابع - طيبين الانفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. الخامس - طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله. السادس - " طيبين " أن تكون وفاتهم طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم، بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمخلط. والله أعلم. (يقولون سلام عليكم) يحتمل وجهين: أحدهما - أن يكون السلام إنذارا لهم بالوفاة. الثاني - أن يكون تبشيرا لهم بالجنة، لان السلام أمان. وذكر ابن المبارك قال: حدثنى حيوة قال أخبرني أبو صخر (2) عن محمد بن كعب القرظى قال: إذا استنقعت (3) نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك ولى الله الله يقرأ عليك السلام. ثم نزع بهذه الآية " الذين (1) راجع ج 1 ص 239. (2) في الطبري: أبو صخر أنه سمع. (3) استنقع الماء: اجتمع وثبت. أي إذا أجتمعت نفس المؤمن في فيه تريد الخروج، نما يستقع الماء في قراره، وأراد بالنفس الروح. (*)
[ 102 ]
تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ". وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام. وقال مجاهد: إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده لتقر عينه. وقد أتينا على هذا في (كتاب التذكرة) وذكرنا هناك الاخبار الواردة في هذا المعنى، والحمد لله. وقوله: (ادخلوا الجنة) يحتمل وجهين: أحدهما - أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني - أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة. (بما كنتم تعملون) يعنى في الدنيا من الصالحات. قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (33) قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) هذا راجع إلى الكفار، أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لانفسهم. وقرأ الاعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف " يأتيهم الملائكة " بالياء. والباقون بالتاء على ما تقدم. (أو يأتي أمر ربك) أي بالعذاب من القتل كيوم بدر، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل: المراد يوم القيامة. والقوم لم ينتظروا هذه الاشياء لانهم ما آمنوا بها، ولكن امتناعهم عن الايمان أوجب عليهم العذاب، فأضيف ذلك إليهم، أي عاقبتهم العذاب. (كذلك فعل الذين من قبلهم) أي أصروا على الكفر فأتاهم أمر الله فهلكوا. (وما ظلمهم الله) أي بتعذيبهم وإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك. قوله تعالى: (فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (34) (*)
[ 103 ]
قوله تعالى: (فأصابهم سيئات ما عملوا) قيل: فيه تقديم وتأخير، التقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فأصابهم عقوبات كفرهم جزاء الخبيث من أعمالهم. (وحاق بهم) أي أحاط بهم ودار. قوله تعالى: وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شى كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلغ المبين (35) قوله تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شى) أي شيئا، و " من " صلة. قال الزجاج: قالوه استهزاء، ولو قالوه عن اعتاد لكانوا مؤمنين وقد مضى ه ا في سورة (الانعام) مبينا وإعرابا فلا معنى للاعادة (1). (كذلك فعل الذين من قبلهم) أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من كان قبلهم بالرسل فأهلكوا. (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) أي ليس عليهم إلا التبليغ، وأما الهداية فهى إلى الله تعالى. قوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضللة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عقبة المكذبين (36) قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله) أي بأن اعبدوا الله ووحدوه. (واجتنبوا الطاغوت) أي اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال. فمنهم من هدى الله) أي أرشده إلى دينه وعبادته. (1) راجع ج 7 ص 128. (*)
[ 104 ]
(ومنهم من حقت عليه الضلالة) أي بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره، وهذا يرد على القدرية، لانهم زعموا أن الله هدى الناس كلهم ووفقهم للهدى، والله تعالى يقول: " فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " وقد تقدم هذا في غير موضع. (فسيروا في الارض) أي فسيروا معتبرين في الارض. (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) أي كيف صار آخر أمرهم إلى الخراب والعذاب والهلاك. قوله تعالى: إن تحرص على هدهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من نصرين (37) قوله تعالى: (إن تحرص على هداهم) أي إن تطلب يا محمد بجهدك هداهم. (فإن الله لا هدى من يضل) أي لا يرشد من أضله، أي من سبق له من الله الضلالة لم يهده. وهذه قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة. ف " يهدى " فعل مستقبل وماضيه هدى. و " من " في موضع نصب ب " يهدى " ويجوز أن يكون هدى يهدى بمعنى اهتدى يهتدى، رواه أبو عبيد عن الفراء قال: كما قرئ " أمن لا يهدى إلا أن يهدى (1) " بمعنى يهتدى. قال أبو عبيد. ولا نعلم أحدا روى هذا غير الفراء، وليس بمتهم فيما يحكيه. النحاس. حكى لى عن محمد ابن يزيد كأن معنى " لا يهدى من يضل " من علم ذلك منه وسبق ذلك له عنده، قال: ولا يكون يهدى بمعنى يهتدى إلا أن يكون يهدى أو يهدى. وعلى قول الفراء " يهدى " بمعنى يهتدى، فيكون " من " في موضع رفع، والعائد إلى " من " الهاء المحذوفة من الصلة، والعائد إلى اسم " إن " الضمير المستكن في " يضل ". وقرأ الباقون " لا يهدى " بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، على معنى من أضله الله لم يهده هاد، دليله قوله: " من يضلل الله فلا هادى له " و " من " في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسم فاعله، وهى بمعنى الذى، والعائد عليها من صلتها محذوف، والعائد على اسم إن من " فإن الله " الضمير المستكن في " يضل ". (وما لهم من ناصرين) تقدم معناه. (1) راجع ج ص 342. (*)
[ 105 ]
قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38) قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) هذا تعجيب من صنعهم، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. ووجه التعجيب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الاموات. وقال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، وكان في بعض كلامه: والذى أرجوه بعد الموت إنه لكذا، فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس قال له رجل: يا بن عباس، إن ناسا يزعمون أن عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة، ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عباس: كذب أولئك ! إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان على مبعوثا قبل القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه. (بلى) هذا رد عليهم، أي بلى ليبعثنهم. (وعدا غليه حقا) مصدر مؤكد، لان قوله " يبعثهم (1) " يدل على الوعد، أي وعد البعث وعدا حقا. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أنهم مبعوثون. وفى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياى فقوله لن يعيدني كما بدأنى وأما شتمه إياى فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الاحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ". وقد تقدم (2)، ويأتى. قوله تعالى: ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين (39) قوله تعالى: (ليبين لهم) أي ليظهر لهم. (الذى يختلفون فيه) أي من أمر البعث. (وليعلم الذين كفروا) بالبعث وأقسموا عليه (أنهم كانوا كاذبين) وقيل: المعنى (1) أي يبعثهم المقدر. (2) راجع ج 2 ص 58 (*)
[ 106 ]
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليبين لهم الذى يختلفون فيه، والذى اختلف فيه المشركون والمسلمون أمور: منها البعث، ومنها عبادة الاصنام، ومنها إقرار قوم بأن محمدا حق ولكن منعهم من اتباعه التقليد، كأبى طالب. قوله تعالى: إنما قولنا اشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40) أعلمهم سهولة الخلق عليه، أي إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم، ولا في غير ذلك مما نحدثه، لانا إنما نقول له كن فيكون. قراءة ابن عامر والكسائي " فيكون " نصبا عطفا على أن نقول. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نصبا على جواب " كن ". الباقون بالرفع على معنى فهو يكون. وقد كضل القول فيه في " البقرة " مستوفى (1). وقال ابن الانباري: أوقع لفظ الشئ على المعلوم عند الله قبل الخلق لانه بمنزلة ما وجد وشوهد. وفى الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق، لانه لو كان قوله: " كن " مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان، والثانى إلى ثالث وتسلسل وكان محالا. وفيها دليل على أن الله سبحانه مريد لجميع الحوادث كلها خيرها وشرها نفعها وضرها، والدليل على ذلك أن من يرى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلاحد شيئين: إما لكونه جاهلا لا يدرى، وإما لكونه مغلوبا لا يطيق، ولا يجوز ذلك في وصفه سبحانه، وقد قام الدليل على أنه خالق لاكتساب العباد، ويستحيل أن يكون فاعلا لشئ وهو غير مريد له، لان أكثر أفعالنا يحصل على خلاف مقصودنا وإرادتنا، فلو لم يكن الحق سبحانه مريدا لها لكانت تلك الافعال تحصل من غير قصد، وهذا قول الطبيعيين، وقد أجمع الموحدون على خلافه وفساده. قوله تعالى: والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون (41) (1) راجع ج 2 ص 90. (*)
[ 107 ]
قوله تعالى: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) قد تقدم في " النساء " معنى الهجرة (1)، هي ترك الاوطان والاهل والقرابة في الله أو في دين الله، وترك السيئات. وقيل: " في " بمعنى اللام، أي لله. " من بعد ما ظلموا) أي عذبوا في الله. نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار، عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة، قاله الكلبى. وقيل: نزلت في أبى جندل بن سهيل. وقال قتادة: المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. والآية تعم الجميع. (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) في الحسنة ستة أقوال: الاول - نزول المدينة، قاله ابن عباس والحسن والشعبى وقتادة. الثاني - الرزق الحسن، قاله مجاهد. الثالث - النصر على عدوهم، قاله الضحاك. الرابع - إنه لسان صدق، حكاه ابن جريج. الخامس - ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. السادس: ما بقى لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لاولادهم من الشرف. وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله. (ولاجر الآخرة أكبر) أي ولاجر دار الآخرة أكبر، أي أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده، " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا (2) ". (لو كانوا يعلمون) أي لو كان هؤلاء الظالمون يعلمون ذلك. قيل: هو راجع إلى المؤمنين. أي لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. وروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما أدخر لكم في الآخرة أكثر، ثم تلا عليهم هذه الآية. قوله تعالى: الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون (42) قيل: (الذين) بدل من (الذين) الاول. وقيل: من الضمير في " لنبوئنهم " وقيل: هم الذين صبروا على دينهم. (وعلى ربهم يتوكلون) في كل أمورهم. وقال بعض أهل التحقيق: خيار الخلق من إذا نابه أمر صبر، وإذا عجز عن أمر توكل، قال الله تعالى: " الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ". (1) راجع ج 5 ص 347 وما بعدها. (2) راجع ج 19 ص 142. (*)
[ 108 ]
قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر وأنزانا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44) قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) قراءة العامة " يوحى " بالياء وفتح الحاء. وقرأ حفص عن عاصم " نوحي إليهم بنون العظمة وكسر الحاء نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: " وما أرسلنا من قبلك " إلى الامم الماضية يا محمد " إلا رجالا " آدميين. (فاسألوا أهل الذكر) قال سفيان: يعنى مؤمنى أهل الكتاب. (إن كنتم لا تعلمون) يخبرونكم أن جميع الانبياء كانوا بشرا. وقيل: المعنى فاسألوا أهل الكتاب فإن لم يؤمنوا فهم معترفون بأن الرسل كانوا من البشر روى معناه عن ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عباس: أهل الذكر أهل القرآن وقيل: أهل العلم، والمعنى متقارب. (بالبينات والزبر) قيل: " بالبينات " متعلق ب " أرسلنا ". وفى الكلام تقديم وتأخير، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال، ف " إلا " بمعنى غير، كقوله: لا إله إلا الله، وهذا قول الكلبى - نوحي إليهم. وقيل: في الكلام حذف دل عليه " أرسلنا " أي أرسلناهم بالبينات والزبر. ولا يتعلق " بالبينات " ب " أرسلنا " الاول على هذا القول، لان ما قبل " إلا " لا يعمل فيما بعدها، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة، أي أرسلناهم بالبينات. وقيل: مفعول ب " تعلمون " والباء زائدة، أو نصب بإضمار أعنى، كما قال الاعشى: وليس مجيرا إن أتى الحى خائف * ولا قائلا إلا هو المتعيبا (*)
[ 109 ]
أي أعنى المتعيب. والبينات: الحجج والبراهين. والزبر: الكتب. وقد تقدم في آل عمران (1). (وأنزلنا إليك الذكر) يعنى القرآن. (لتبين للناس ما نزل إليهم) في هذا الكتاب من الاحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى في مقدمة الكتاب، والحمد لله. (ولعلهم يتفكرون) فيتعظون. قوله تعالى: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (45) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين (46) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم (47) قوله تعالى: (أفأمن الذين مكروا السيأت) أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الاسلام. (أن يخسف الله بهم الارض) قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الارض، وخسف الله به الارض خسوفا أي غاب به فيها، ومنه قوله: " فخسفنا به وبداره الارض (2) ". وخسف هو في الارض وخسف به. والاستفهام بمعنى الانكار، أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. (أو يأتيهم العذاب كم حيث لا يشعرون) كما فعل بقوم لوط وغيرهم. وقيل: يريد يوم بدر، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شئ منه في حسابهم. (أو يأخذهم في تقلبهم) أي في أسفارهم وتصرفهم، قاله قتادة. (فما هم بمعجزين) أي سابقين لله ولا فائتيه. وقيل: " في تقلبهم " على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. (أو يأخذهم على تخوف) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أي على تنقص من أموالهم (1) راجع ج 4 ص 296. (2) راجع ج 13 ص 317. (*)
[ 110 ]
ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الاعرابي: أي على تنقص من الاموال والانفس والثمرات حتى أهلكهم كلهم. وقال الضحاك: هو من الخوف، المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن: " على تخوف " أن يأخذ القرية فتخافه القرية الاخرى، وهذا هو معنى القول الذى قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الاول، وأن التخوف التنقص، تخوفه تنقصه، وتخوفه الدهر وتخونه - (بالفاء والنون) بمعنى، يقال: تخوننى فلان حقى إذا تنقصك. قال ذو الرمة: لا، بل هو الشوق من دار تخونها * مرا سحاب ومرا بارح ترب (1) وقال لبيد: * تخونها نزولي وارتحالي * أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهيثم بن عدى: التخوف (بالفاء) التنقص، لغة لازد شنوءة. وأنشد: تخوف غدرهم مالى وأهدى * سلاسل في الحلوق لها صليل وقال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب رضى الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل: " أو يأخذهم على تخوف " فسكت الناس، فقال شيخ من بنى هذيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دينك ؟ قال: تخوفته، أي تنقصته، فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم ؟ قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير (3) الهذلى يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه: تخوف الرحل منها تامكا قردا * كما تخوف عود النبعة السفن (4) (1) البارح: الريح الحارة في الصيف التى فيها تراب كثير. (2) هذا عجز لببيت، وصدره كما في اللسان: * عذافرة تقمص بالردا في * (3) كذا في الاصول، والذى في اللسان أنه لابن مقبل وقيل: لذى الرمة. (4) القرد: معناه هنا: المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة: شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسى. (*)
[ 111 ]
فقال عمر: يا أيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعانى كلامكم. تمك السنام يتمك تمكا، أي طال وارتفع، فهو تامك. والسفن والمسفن ما ينجر به الخشب. وقال الليث بن سعد: " على تخوف " على عجل. وقال: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم، وهذا مروى عن ابن عباس أيضا. وقال قتادة: " على تخوف " أن يعاقب أو يتجاوز. (فأن ربكم لرءوف رحيم) أي لا يعاجل بل يمهل. قوله تعالى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظللبه عن اليمين والشمائل سجدا لله. هم دخرون (48) قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والاعمش " تروا " بالتاء، على أن الخطاب لجميع الناس. الباقون بالياء خبرا عن الذين يمكرون السيئات، وهو الاختيار. (من شئ) يعنى من جسم قائم له ظل من شجرة أو جبل، قاله ابن عباس. وإن كانت الاشياء كلها سميعة مطيعة لله تعالى. (يتفيأ ظلاله) قرأ أبو عمرو ويعقوب وغيرهما بالتاء لتأنيث الظلال. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد. أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أول النهار على حال ويتقلص ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى، فدورانها وميلانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشى: فئ، لانه فاء من المغرب إلى المشرق، أي رجع. والفئ الرجوع، ومنه " حتى تفئ إلى أمر الله (1) ". روى معنى هذا القول عن الضحاك وقتادة وغيرهما، وقد مضى هذا المعنى في سورة " الرعد " (2). وقال الزجاج: يعنى سجود الجسم، وسجوده انقياده وما يرى فيه من أثر الصنعة، وهذا عام في كل جسم. ومعنى (وهم داخرون) أي خاضعون صاغرون. والدخور: الصغار والذل. يقال: دحر الرجل (بالفتح) فهو داخر، وأدخره الله. وقال ذو الرمة: فلم يبق إلا داخر في مخيس * ومنحخر (3) في غير أرضك في حجر (1) راجع ج 16 ص 315. (2) راجع ج 9 ص 302. (3) كذا في كتب اللغة. يقال: انجحر الضب إذا دخل الحجر. والذى في الاصول وديوان ذى والبرمة: " متحجر في غير أرضك في حجر " بتقديم الحاء على لبجيم في الكلمتين، وكذا في ج. (*)
[ 112 ]
كذا نسبه الماوردى لذى الرمة، ونسبه الجوهرى للفرزدق وقال: المخيس اسم سجن كان بالعراق، أي موضع التذلل، وقال (1). أما تراني كيسا مكيسا * بنيت بعد نافع مخيسا ووحد اليمين في قوله: " عن اليمين " وجمع الشمال، لان معنى اليمين وإن كان واحدا الجمع. ولو قال (2): عن الايمان والشمائل، واليمين والشمال، أو اليمين والشمال لجاز، لان المعنى للكثرة. وأيضا فمن شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شى واحد أن تجمع إحداهما وتفرد الاخرى، كقوله تعالى: " ختم الله على قلوبهمك وعلى سمعهم (3) وكقوله تعالى: " ويخرجهم من الظلمات إلى النور (4) ولو قال على أسماعهم وإلى الانوار لجاز. ويجوز أن يكون رد اليمين على لفظ " ما " والشمال على معناه. ومثل هذا في الكلام كثير. قال الشاعر: الواردون وتيم في ذرأ سبإ * قد عض أعناقهم جلد الجواميس (5) ولم يقل جلود. وقيل: وحد اليمين لام الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين ثم في حال يميل إلى جهة الشمال ثم حالات (6)، فسماها شمائل. قوله تعالى: ولله يسجد ما في السموت وما في الارض من دابة والملكة وهو لا يستكبرون (49) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50) قوله تعالى: " ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من دابة) أي من كل ما يدب على الارض. (والملائكة) يعنى الملائكة الذين في الارض، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم (1) القائل هو سيدنا على رضى الله عنه. ونافع: سجن بالكوفة كان غير مستوثق البناء وكان من قصب، وكان المحبوسون يهربون منه. وقيل: إنه نقب وأفلت منه المحبوسون، فهدمه على رضى الله عنه وبنى المخيس لهم من مدر. (2) أي قائل في غير القرآن. (3) راجع ج 1 ص 189. (4) راجع ج 6 ص 117. (5) البيت لجرير. ورواية ديوانه: تدعوك تيم وتيم في قرئ سبأ *... الخ (6) هكذا وردت هذه الجملة في الاصول. ولعل صوابها: لان الشمس إذا طلعت وأنت متوجه إلى القبلة انبسط الظل عن اليمين في حال، ثم يميل إلى جهة الشمال في حالات، فسماها شمائل. والذى في البحر لابي حيان: " وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل لان الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئا فشيئا حالا بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال فتعدد تعدد الحالات ". (*)
[ 113 ]
بشرف المنزلة، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها، كقوله: " فيهما فاكهة ونخل ورمان (1) ". وقيل: لخروجهم من جملة ما يدب لما جعل الله لهم من الاجنحة، فلم يدخلوا في الجملة فلذلك ذكروا. وقيل: أراد " ولله يسجد من في السموات " من الملائكة والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب، " وما في الارض من دابة " وتسجد ملائكة الارض. (وهم لا يستكبرون) عن عبادة ربهم. وهذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله. ومعنى (يخافون ربهم من فوقهم) أي عقاب ربهم وعذابه، لان العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وقيل: المعنى يخافون قدرة ربهم التى هي فوق قدرتهم، ففى الكلام حذف. وقيل: معنى " يخافون ربهم من فوقهم " يعنى الملائكة، يخافون ربهم وهى من فوق ما في الارض من دابة ومع ذلك يخافون، فلان يخاف من دونهم أولى، دليل هذا القول قوله تعالى: (ويفعلون ما يؤمرون) يعنى الملائكة. قوله تعالى: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله وحد فإيى فارهبون (51) قوله تعالى: وله ما في السموت والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون (52) (1) راجع ج 17 ص 185. (2) راجع ج 2 ص 190 وما بعدها. (3) راجع ج 1 ص 332. (*)
[ 114 ]
قوله تعالى: (وله ما في السموت والارض وله الدين واصبا) الدين: الطاعة والاخلاص. و " واصبا " معناه دائما، قال الفراء، حكاه الجوهرى. وصب الشئ يصب وصوبا، أي دام. ووصب الرجل على الامر إذا واظب عليه. والمعنى: طاعة الله واجبة أبدا. وممن قال واصبا دائما: الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. ومنه قوله تعالى: " ولهم عذاب واصب (1) " أي دائم. وقال الدولي: لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه * بدم يكون الدهر أجمع واصبا أنشد الغزنوى والثعلبي وغيرهما: ما أبتغى الحمد القليل بقاؤه * يوما بذم الدهر أجمع واصبا وقيل: الوصب التعب والاعياء، أي تجب طاعة الله وإن تعب العبد فيها. ومنه قول الشاعر: لا يمسك الساق من أين ولا وصب * ولا يعض على شرسوفه الصفر (2) وقال ابن عباس: " واصبا " واجبا. الفراء والكلبي: خالصا. (أفغير الله تتقون) أي لا ينبغى أن تتقوا غير الله. " فغير " نصب ب " تتقون ". قوله تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجرون (53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بمآ ءاتينهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55) قوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) قال الفراء. " ما " بمعنى الجزاء. والباء في " بكم " متعلقة بفعل مضمر، تقديره: وما يكن بكم. " من نعمة " أي صحة جسم وسعة رزق وولد فمن الله. وقيل: المعنى وما بكم من نعمة فمن الله هي. (ثم إذا مسكم الضر) (1) راجع ج 15 ص 64. (2) الشعر لاعشى باهله. والشطر الاول من بيت، والثانى من بيت آخر. والبيتان: لا يتأرى لما في القير يرقبه * ولا يعض على شرسرفه الصفر لا يفمز الساق من أين ولا نصب * ولا يزال أمام القوم يقتفر تأرى بالمكان: أمام به. والشر سوف: غضروف - كل عضم رخص يؤكل - معلق بكل ضلع مثل غضروف الكتف. والشقر (بالتحريك): داء في البطن يصفر منه الوجه. وقيل: الصفر هنا الجوع. وافتقر الاثر: تتبعه. (*)
[ 115 ]
أي السقم والبلاء والقحط. (فإليه تجأرون) أي تضجون بالدعاء. يقال: جأر يجار جؤارا. والجؤار مثل الخوار، يقال: جأر الثور يجأر، أي صاح. وقرأ بعضهم " عجلا جسدا له جؤار (1) "، حكاه الاخفش. وجأر الرجل إلى الله، أي تضرع بالدعاء. وقال الاعشى (2) يصف بقرة: فطافت ثلاثا بين يوم وليلة * وكان النكير أن تضيف (3) وتجأرا (ثم إذا كشف الضر عنكم) أي البلاء والسقم. (إذا فريق منكم بربهم يشركون) بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار. فمعنى الكلام التعجيب من الاشراك بعد النجاة من الهلاك، وهذا المعنى مكرر في القرآن، وقد تقدم في " الانعام (1) ويونس (2) "، ويأتى في " سبحان " وغيرها. وقال الزجاج: هذا خاص بمن كفر. (ليكفروا بما آتيناهم) أي ليجحدوا نعمة الله التى أنعم بها عليهم من كشف الضر والبلاء. أي أشركوا ليجحدوا، فاللام لام كى. وقيل لام العاقبة. وقيل: " ليكفروا بما آتيناهم " أي ليجعلوا النعمة سببا للكفر، وكل هذا فعل خبيث، كما قال: * والكفر مخبثة لنفس المنعم (5) * (فتمتعوا) أمر تهديد. وقرأ عبد الله " قل تمتعوا ". (فسوف تعلمون) أي عاقبة أمركم. قوله تعالى: ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقنهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون (56) قوله تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) ذكر نوعا آخر من جهالتهم، وأنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضر وينفع - وهى الاصنام - شيئا من أموالهم يتقربون به إليه، قال مجاهد وقتادة وغيرهما. ف " يعلمون " على هذا للمشركين. وقيل هي (1) راجع ج 7 ص 284 وص 8 و 235 ج 11. (2) كذا في الاصول. والذى في اللسان مادة " ضيف " وكتاب سيبويه ج 2 ص 174 أنه للنابغة الجعدى. (3) في الاصول: " تطيف " بالطاء. والتصويب عن اللسان وكتاب سيبويه. وتضيف: تشفق ومحذر والنكير: الانكار. والجؤار: الصياح. والمعنى: أن هذه البقرة فقدت ولدها فطافت تطلبه ثلاث ليال وأيامها، ولا إنكار عندها ولا انمصار مما عدا على ولدها إلا أن تشفق وتحذرز وتصيح. (4) راجع ج 8 ص 317. (5) هذا عجز بيت من معلقة عنترة، وصدره: * نبئت عمرا غير شاكر نعمتي * (*)
[ 116 ]
للاوثان، وجرى بالواو والنون مجرى من يعقل، فهو رد على " ما " ومفعول يعلم محذوف والتقدير: ويجعل هؤلاء الكفار للاصنام التى تعلم شيئا نصيبا. وقد مضى في " الانعام " تفسير هذا المعنى في قوله: " فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا (1) ثم رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: (تا لله لتسئلن) وهذا سؤال توبيخ. (عما كنتم تفترون) أي تختلقونه من الكذب على الله أنه أمركم بهذا. قوله تعالى: ويجعلون لله البنت سبحنه ولهم ما يشتهون (57) قوله تعالى: (ويجعلون لله البنات) نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون الحقوا البنات بالبنات. (سبحانه) نزه نفسه وعظمها عما نسبوه إليه من اتخاذ الاولاد. (ولهم ما يشتهون) أي يجعلون لانفسهم البنين ويأنفون من البنات. وموضع " ما " رفع بالابتداء، والخبر " لهم " وتم الكلام عند قوله: " سبحانه ". وأجاز الفراء كونها نصبا، على تقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. وأنكره الزجاج وقال: العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لانفسهم. قوله تعالى: وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58) قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالانثى) أي أخبر أحدهم بولادة بنت. (ظل وجهه مسودا) أي متغيرا، وليس يريد السواد الذى هو ضد البياض، وإنما هو كناية عن غمه بالبنت. والعرب تقول لكل من لقى مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا قال الزجاج. وحكى الماوردى أن المراد سواد اللون قال: وهو قول الجمهور. (وهو كظيم) أي ممتلئ من الغم. وقال ابن عباس: حزين. وقال الاخفش: هو الذى يكظم غيظه فلا يظهره. وقيل: إنه المغموم الذى يطبق فاه فلا يتكلم من الغم، مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة، قال على بن عيسى. وقد تقدم هذا المعنى في سورة " يوسف (2) ". (1) راجع ج 7 ص 89. (2) راجع ج 9 ص 249. (*)
[ 117 ]
قوله تعالى: يتورى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59) قوله تعالى: (يتوارى من القوم) أي يختفى ويتغيب. (من سوء ما بشر به) أي من سوء الحزن والعار والحياء الذى يلحقه بسبب البنت. (أيمسكه) ذكر الكناية لانه مردود على " ما ". (على هون) أي هوان. وكذا قرأ عيسى الثقفى " على هوان " والهون الهوان بلغة قريش، قاله اليزيدى وحكاه أبو عبيد عن الكسائي. وقال الفراء: هو القليل بلغة تميم. وقال الكسائي: هو البلاء والمشقة. وقالت الخنساء: نهين النفوس وهون النفوس * يوم الكريهة أبقى لها وقرأ الاعمش " أيمسكه على سوء " ذكره النحاس، قال: وقرأ الجحدرى " أم يدسها في التراب " يرده على قوله: " بالانثى " ويلزمه أن يقرأ " أيمسكها (1) ". وقيل: يرجع الهوان إلى البنت، أي أيمسكها وهى مهانة عنده. وقيل: يرجع إلى المولود له، أيمسكه على رغم أنفه أم يدسه في التراب، وهو ما كانوا يفعلونه من دفن البنت حية. قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم وطمع غير الاكفاء فيهن. وكان صعصعة ابن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشئ من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك. فقال الفرزدق يفتخر: وعمى (2) الذى منع الوائدات * وأحيا الوئيد فلم يوأد وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف، كالمدسوس في التراب لاخفائه عن الابصار، وهذا محتمل. مسألة - ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها شيئا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته (3) (1) قال محققة: في الشواذ أن الجحدرى يقرأ كذلك. كأن المصنف لم يقف عليها. (2) الرواية: وجدى، وأن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق كما في الاستيعاب. (3) في ج: فخبرته. (*)
[ 118 ]
حديثها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من ابتلى من البنات بشئ فأحسن إليهن كن له سترا من النار ". ففى هذا الحديث ما يدل على أن البنات بلية، ثم أخبر أن في الصبر عليهن والاحسان إليهن ما يقى من النار. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التى كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذى صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار ". وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو " وضم أصابعه، خرجهما أيضا مسلم رحمه الله ! وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث الاعمش عن أبى وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له بنت فأدبها فأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأسبغ عليها من نعم الله التى أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار ". وخطب إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء فقال: إنى وإن سيق إلى المهر * ألف وعبدان وخور (1) عشر * أحب أصهاري إلى القبر * وقال عبد الله بن طاهر: لكل أبى بنت يراعى شئونها * ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر فبعل يراعيها وخدر يكنها * وقبر يواريها وخيرهم القبر (ألا ساء ما يحكمون) أي في إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم. نظيره " ألكم الذكر وله الانثى. تلك إذا قسمة ضيزى " أي جائرة، وسيأتى (2). (1) الخور: جمع خوارة على غير قياس،. هي الناقة الغزيرة اللبن. (2) راجع ج 17 ص 102. (*)
[ 119 ]
قوله تعالى: للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم (60) قوله تعالى: (للذين لا يؤمنون بالآخرة) أي لهؤلاء الواصفين (1) لله البنات (مثل السوء) أي صفة السوء من الجهل والكفر. وقيل: هو وصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد. وقيل: أي العذاب والنار. (ولله المثل الاعلى) أي الوصف الاعلى من الاخلاص والتوحيد، قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس: " مثل السوء " النار، و " المثل الاعلى " شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: " ليس كمثله شئ (2) ". وقيل: " ولله المثل الاعلى " كقوله: " الله نور السموات والارض مثل نوره (3) ". فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال: " فلا تضربوا لله الامثال (4) " فالجواب أن قوله: " فلا تضربوا لله الامثال " أي الامثال التى توجب الاشباه والنقائص، أي لا تضربوا لله مثلا يقتضى نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الاعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. (وهو العزيز الحكيم) تقدم معناه (5). قوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخركم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون (61) قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) أي بكفرهم وافترائهم، وعاجلهم. (ما ترك عليها) أي على الارض، فهو كناية عن غير مذكور، لكن دل عليه قوله: " من دابة " فإن الدابة لا تدب إلا على الارض. والمعنى المراد من دابة كافرة فهو خاص. وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الابناء. وقيل: المراد بالآية العموم، أي لو أخذ الله الخلق بما كسبوا ما ترك على (1) في ج وو: الواضعين. (2) راجع ج 16 ص 7. (3) راجع ج 12 ص و 22. (4) راجع ص 146 من هذا الجزء. (5) راجع ج 1 ص 287 وج 2 ص 131. (*)
[ 120 ]
ظهر هذه الارض من دابة من نبى ولا غيره، وهذا قول الحسن. وقال ابن مسعود وقرأ هذه الآية: لو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لاصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان (1) في حجرها، ولامسك الامطار من السماء والنبات من الارض فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل، كما قال: " ويعفو عن كثير (2) " (فإذا جاء أجلهم) أي أجل موتهم ومنتهى أعمارهم. (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وقد تقدم (3) فإن قيل: فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم ؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم (4) ". وعن أم سلمة وسئلت عن الجيش الذي يخسف به وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يعوذ بالبيت عائذ فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الارض خسف بهم " فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها ؟ قال: " يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ". وقد أتينا على هذا المعنى مجودا في " كتاب التذكرة " وتقدم في المائدة وآخر الانعام ما فيه كفاية، والحمد لله. وقيل: (فإذا جاء أجلهم) أي فإذا جاء يوم القيامة. والله أعلم. قوله تعالى: ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون (26) قوله تعالى: (ويجعلون لله ما يكرهون) أي من البنات. (وتصف ألسنتهم الكذب. (أن لهم الحسنى) قال مجاهدك هو قولهم أن لهم البنين ولله البنات. " الكذب " مفعول " تصف " و " أن " في محل نصب بدل من الكذب، لانه
[ 121 ]
بيان له. وقيل: " الحسنى " الجزاء الحسن، قال الزجاج. وقرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وابن محيصن " الكذب " برفع الكاف والذال والباء نعتا للالسنة، وكذا " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب (1) ". والكذب جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. (لا) رد لقولهم، وتم الكلام، أي ليس كما تزعمون. (جرم أن لهم النار) أي حقا أن لهم النار. وقد تقدم مستوفى (2). (وأنهم مفرطون) متركون منسيون في النار، قاله ابن الاعرابي وأبو عبيدة والكسائي والفراء، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير أيضا: مبعدون. قتادة والحسن: معجلون إلى النار مقدمون إليها. والفارط: الذى يتقدم إلى الماء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. وقال القطامى: فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا * كما تعجل فراط لوراد والفراط: المتقدمون في طلب الماء. والوراد: المتأخرون. وقرأ نافع في رواية ورش " مفرطون " بكسر الراء وتخفيفها، وهى قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس، ومعناه مسرفون في الذنوب والمعصية، أي أفرطوا فيها. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشر. وقرأ أبو جعفر القارئ " مفرطون " بكسر الراء وتشديدها، أي مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب. قوله تعالى: تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين بهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (36) قوله تعالى: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم قبلك فزين بهم الشيطان أعمالهم) أي أعمالهم الخبيثة. هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم بأن من تقدمه من الانبياء قد كفربهم قومهم. (فهو وليهم اليوم) أي ناصر هم في الدنيا على زعمهم. (ولهم عذاب أليم)
[ 122 ]
في الآخر وقيل: " فهو وليهم " أي قرينهم في النار. " اليوم " يعنى يوم القيامة، وأطلق عليه اسم اليوم لشهرته. وقيل: يقال لهم يوم القيامة: هذا وليكلم فاستنصروا به لينجيكم من العذاب، على جهة التوبيخ لهم. قوله تعالى: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (46) قوله تعالى: (وما أنزلنا الكتاب) أي القرآن (إلا لتبين لهم الذى الذى اختلفوا فيه) من الدين والاحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك. وعطفك " هدى ورحمة " على موضع قوله: " لتبين " لان محله نصب. ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانا للناس. (وهدى) أي رشدا (ورحمة) للمؤمنين. قوله تعالى: والله أنزل من السماء ماء فأحيا بها الارض بعد موتها إن في ذلك لاية لقوم يسمعون (65) قوله تعالى: (واللة أنزل من السماء) أي السحاب. (ماء فأحيا به الارض بعد موتها) عاد الكلام إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة. (إن في ذلك لآية) أي دلالة على البعث وعلى وحدانيته، إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا، فتكون هذه الدلالة (لقوم يسمعون) عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان، (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور (1)). قوله تعالى: وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآءغا للشاربين (66)
[ 123 ]
فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإن لكم في الانعام لعبرة) قد تقدم القول في الانعام (1)، وهى هنا الاصناف الاربعة: الابل والبقر والضأن والمعز. " لعبرة " أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشئ بالشئ لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه " فاعتبروا (2) ". وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الانعام تسخيرها لاربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شئ. ومن أعظم العبر برئ يحمل مذنبا. الثانية - قوله تعالى: (نسقيكم) قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر (بفتح النون) من سقى يسقى. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم (بضم النون) من أسقى يسقى، وهى قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد: سقى قومي بنى مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لان يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته، قال ابن عزيز، وقد تقدم (3). وقرأت فرقة " تسقيكم " بالتاء، وهى ضعيفة، يعنى الانعام. وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين، ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير. الثالثة - قوله تعالى: (مما في بطونها) اختلف الناس في الضمير من قوله: " مما في بطونه " على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الانعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الانعام وهى الانعام، جاز عود الضمير بالتذكير، (1) راجع ج 7 ص، 111. (2) راجع ج 18 ص 5. (3) راجع ج 1 ص، 418
[ 124 ]
وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور، وقد قال الله تعالى: " إنها تذكرة. فمن شاء ذكره (1) " وقال الشاعر: * مثل الفراخ نتفت حواصله * ومثله كثير. وقال الكسائي: " مما في بطونه " أي مما في بطون بعضه، إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذى عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الانعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذى هو بمعنى الانعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال: " نسقيكم مما في بطونها (2) " وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما. حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين. الرابعة - لاستنبط بعض العلماء الجلة وهو القاضى إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جئ به مذكرا لانه راجع إلى ذكر النعم، لان اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرم حين أنكرته عائشة [ رضى اللة عنها (4) ] في حديث أفلح أخى أبى القعيس " فللمرأة السقى وللرجل اللقاح " فجرى الاشتراك فيه بينهما. وقد مضى قول في تحريم لبن الفحل في " النساء (5) " والحمد لله. الخامسة - قوله تعالى: (من بين فرث ودم لبنا خالصا) نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذى ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم، فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف (1) راجع ج 91 ص 213. (2) راجع ج 12 ص، 118 (3) رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من الححر اليمامة. (ياقوت). (4) من ج. (5) راجع ج 5 ص 111. (*)
[ 125 ]
فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الاصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجرى اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش، " حكمة بالغة فما تغن (1) النذر ". (خالصا) يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة: * بخالصة الاردان (9) خضر المناكب * أي بيض الاكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شئ بالمصلحة. السادسة - قال النقاش: في هذا دليل على أن المنى ليس بنجس. وقاله أيضا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا كذلك يجوز أن يخرج المنى على مخرج البول طاهرا. قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع، اللبن جاء الخبر عنه مجئ النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المنى من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به أو مقيسا عليه. قلت: قد يعارض هذا بأن يقال: وأى منة أعظم وأرفع من خروج المنى الذى يكون عنه الانسان المكرم، وقد قال تعالى: " يخرج من بين الصلب والترائب (3) "، وقال: " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة (4) " وهذا غاية في الامتنان. فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنجاسة عارضة وأصله طاهر، وقد قيل: إن مخرجه غير مخرج البول وخاصة المرأة، فإن مدخل الذكر منها ومخرج الولد غير مخرج البول على ما قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر. وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، لحديث عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفرى. قال الشافعي: فإن لم يفرك فلا بأس به. وكان سعد (1) راجع ج 71 ص 128. (2) الاردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الحكم. راجع ج 20 ص 4. (4) راجع ص 142 من هذا الجزء. (*)
[ 126 ]
ابن أبى وقاص يفرك المنى من ثوبه. وقال ابن عباس: هو كالنخامة أمطه عنك بإذخرة وامسحه بخرقة. فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المنى من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه. قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارا كالاشياء التى تزال من الثوب لا لنجاسة، ويكون هذا جمعا بين الاحاديث. والله أعلم. وقال مالك وأصحابه والاوزاعي: هو نجس. قال مالك: غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا، وهو قول الكوفيين. ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم. واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة. وعلى هذين القولين في نجاسة المنى وطهارته التابعون. السابعة - في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالالبان من الشرب وغيره، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به، لانه مائع طاهر حصل في وعاء نجس، وذلك أن ضرع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه، فمن قال: إن الانسان (1) طاهر حيا وميتا فهو طاهر. ومن قال: ينجس بالموت فهو نجس. وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة، لان الصبى قد يغتذى به كما يغتذى من الحية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ". ولم يخص، وقد مضى في: " النساء (1) ". الثامنة - قوله تعالى: (سائغا للشاربين) أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والاجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لى غصتي أي أمهلنى ولا تعجلنى، وقال تعالى: " يتجرعه ولا يكاد يسيغه (3) ". والسواغ (بكسر السين) ما أسغت به غصتك. يقال: الماء سواغ الغصص، ومنه قول الكميت: * فكانت سواغا أن جئزت بغصة * وروى: أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1) أي المسلم. (2) راجع ج 5 ص 111. (3) راجع ج 9 ص 349. (*)
[ 127 ]
التاسعة - في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والاطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وقد تقدم هذا المعنى في " المائدة (1) " وغيرها. وفى الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحى هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره بعض القراء أكل الفالوذج (2) واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروى عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل ! فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا. العاشرة - روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقى لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شئ يجزى عن الطعام والشراب إلا اللبن ". قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذى به الانسان وتنمى به الجثث والابدان، فهو قوت خلى عن المفاسد به قوام الاجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الامة التى هي خير الامم أمة، فقال في الصحيح: " فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لى جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك). ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات [ وكثرة (4) ] والبركات، فهو مبارك كله. قوله تعالى: ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لاية لقوم يعقلون (67) الاولى - قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل " قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والاعناب ما تتخذون، فحذف " ما " ودل على حذفه قوله: " منه ". وقيل: (1) راجع ج 6 ص 260 وما بعدها، وج 7 ص 191. (2) الفالوقج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الالفاظ الفارسية المعربة). (3) غوت: ضلت وفسدت. (4) من ج. (*)
[ 128 ]
المحذوف شئ، والامر قريب. وقيل: معنى " منه " أي من المذكور، فلا يكون في الكلام حذف وهو أولى. ويجوز أن يكون قوله: " ومن ثمرات " عطفا على " الانعام "، أي ولكم من ثمرات النخيل والاعناب عبرة. ويجوز أن يكون معطوفا على " مما " أي ونسقيكم أيضا مشروبات من ثمرات. الثانية - قولة تعالى: (سكرا) السكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر. وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يؤكل ويشرب حلالا من هاتين الشجرتين. وقال بهذا القول ابن جبير والنخعي والشعبى وأبو ثور. وقد قيل: إن السكر الخل بلغة الحبشة، والرزق الحسن الطعام. وقيل: السكر العصير الحلو الحلال، وسمى سكرا لانه قد يصير مسكرا إذا بقى، فإذا بلغ الاسكار حرم. قال ابن العربي: أسد، هذه الاقوال قول ابن عباس، ويخرج ذلك على أحد معنيين، إما أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر، وإما أن يكون المعنى: أنعم الله عليكم بثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه ما حرم الله عليكم اعتداء منكم، وما أحل لكم اتفاقا أو قصدا إلى منفعة أنفسكم. والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر فتكون منسوخة، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدنى. قلت: فعلى أن السكر الخمر أو العصير الحلو لا نسخ، وتكون الآية محكمة وهو حسن. قال ابن عباس: الحبشة يسمون الخل السكر، إلا أن الجمهور على أن السكر الخمر، منهم ابن مسعود وابن عمر وأبو رزين والحسن ومجاهد وابن أبى ليلى والكلبي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم، كلهم قالوا: السكر ما حرمه الله من ثمرتيهما. وكذا قال أهل اللغة: السكر اسم للخمر وما يسكر، وأنشدوا: بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم * إذا جرى فيهم المزاء والسكر والرزق الحسن: ما أحله الله من مرتيهما. وقيل: إن قوله " تتخذون منه سكرا " خبر معناه الاستفهام بمعنى الانكار، أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا الخل والزبيب
[ 129 ]
والتمر، كقوله: " فهم الخالدون (1) " أي أفهم الخالدون. والله أعلم. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم، يقال: هذا سكر لك أي طعم. وأنشد: * جعلت عيب الاكرمين سكرا * أي جعلت ذمهم طعما. وهذا اختيار الطبري أن السكر ما يطعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والاعناب، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد، مثل " إنما أشكو بثى وحزني (2) إلى الله " وهذا حسن ولا نسخ، إلا أن الزجاج قال: قول أبى عبيدة هذا لا يعرف، وأهل التفسير على خلافه، ولا حجة له في البيت الذى أنشده، لان معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس. وقال الحنفيون: المراد بقوله: " سكرا " ما لا يسكر من الانبذة، والدليل عليه أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا انتهى إلى السكر لم يجز، وعضدوا هذا من السنة بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " حرم الله الخمر بعينها والسكر من غيرها ". وبما رواه عبد الملك بن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الركن، ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده إلى صاحبه، فقال له حينئذ رجل من القوم: يا رسول الله، أحرام هو ؟ فقال: " على بالرجل " فأتى به فأخذ منه القدح، ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب، ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال: " إذا اغتلمت (3) عليكم هذه الاوعية فاكسروا متونها بالماء ". وروى أنه عليه السلام كان ينبذ له فيشربه ذلك اليوم، فإذا كان من اليوم الثاني أو الثالث سقاه الخادم إذا تغير، ولو كان حراما ما سقاه إياه. قال الطحاوي: وقد روى أبو عون الثقفى عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال: حرمت الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر من كل شراب، خرجه الدارقطني أيضا. (1) راجع ج 11 ص 287. (2) راجع ج 9 ص 251. (3) الاغتلام مجاوزة الحد، أي إذا جاوزت حدها الذى لا يسكر إلى حدها الذى يسكر. (*)
[ 130 ]
ففى هذا الحديث وما كان مثله، أن غير الخمر لم تحرم عينه كما حرمت الخمر بعينها. قالوا: والخمر شراب العنب خلاف فيها، ومن حجتهم أيضا ما رواه شريك بن عبد الله، حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون قال قال عمر بن الخطاب: إنا نأكل لحوم هذه الابل وليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ. قال شريك: ورأيت الثوري يشرب النبيذ في بيت حبر أهل زمانه مالك بن مغول. والجواب أن قولهم: إن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده ولا يكون امتنانه إلا بما أحل فصحيح، بيد أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر كما بيناه فيكون منسوخا كما قدمناه. قال ابن العربي: إن قيل كيف ينسخ هذا وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ، قلنا: هذا كلام من لم يتحقق الشريعة، وقد بينا أن الخبر إذا كان عن الوجود الحقيقي أو عن إعطاء ثواب فضلا من الله فهو الذى لا يدخله النسخ، فأما إذا تضمن الخبر حكما شرعيا فالاحكام تتبدل وتنسخ، جاءت بخبر أو أمر، ولا يرجع النسخ إلى نفس اللفظ وإنما يرجع إلى ما تضمنه، فإذا فهمتم هذا خرجتم عن الصنف الغبى الذى أخبر الله عن الكفار فيه بقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (1) ". المعنى أنهم جهلوا أن الرب يأمر بما يشاء ويكلف ما يشاء، ويرفع من ذلك بعدل ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب. قلت: هذا تشنيع شنيع حتى يلحق فيه العلماء الاخيار في قصور الفهم بالكفار، والمسألة أصولية، وهى أن الاخبار عن الاحكام الشرعية هل يجوز نسخها أم لا ؟ اختلف في ذلك، والصحيح جوازه لهذه الآية وما كان مثلها، ولان الخبر عن مشروعية حكم ما يتضمن طلب ذلك المشروع، وذلك الطلب هو الحكم الشرعي الذى يستدل على نسخه. والله أعلم. وأما ما ذكروا من الاحاديث فالاول والثانى ضعيفان، لانه عليه السلام قد روى عنه بالنقل الثابت أنه قال: " كل شراب أسكر فهو حرام " وقال: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " وقال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ". قال النسائي: وهؤلاء أهل الثبت والعدالة مشهورون (1) راجع ص 176 من هذا الجزء (*)
[ 131 ]
بصحة النقل، وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة، وبالله التوفيق. وأما الثالث وإن كان صحيحا فإنه ما كان يسقيه للخادم على أنه مسكر، وإنما كان يسقيه لانه متغير الرائحة. وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه الرائحة، فلذلك لم يشربه، ولذلك تحيل عليه أزواجه في عسل زبيب بأن قيل له: إنا نجد منك ريح مغافير، يعنى ريحا منكرة، فلم يشربه بعد. وسيأتى في التحريم (1). وأما حديث ابن عباس فقد روى عنه خلاف ذلك من رواية عطاء وطاوس ومجاهد أنه قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام "، ورواه عنه قيس بن دينار. وكذلك فتياه في المسكر، قاله الدارقطني. والحديث الاول رواه عنه عبد الله ابن شداد وقد خالفه الجماعة، فسقط القول به مع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ما روى عن عمر من قوله: ليس يقطعه في بطوننا إلا النبيذ، فإنه يريد غير المسكر بدليل ما ذكرنا. وقد روى النسائي عن عتبة بن فرقد قال: كان النبيذ الذى شربه عمر بن الخطاب قد خلل. قال النسائي: ومما يدل على صحة هذا حديث السائب، قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم: حدثنى مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إنى وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب رضى الله عنه الحد تاما. وقد قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، أيها الناس فإنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير. والخمر ما خامر العقل. وقد تقدم في " المائدة (2) ". فإن قيل: فقد أحل شربه إبراهيم النخعي وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه. قلنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الانبذة إبراهيم النخعي، وهذه زلة من عالم وقد حذرنا من زلة العالم، ولا حجة في قول أحد مع السنة (3). وذكر النسائي أيضا عن ابن المبارك قال: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيحا إلا عن إبراهيم. قال أبو أسامة: ما رأيت (1) راجع ج 18 ص 177. (2) راجع ج 285. (3) لعل ما يشربه النخعي وهو إمام - ليس من النبيذ المسكر فإن منه ما لم يبلغ حد الاسكار. (*)
[ 132 ]
رجلا أطلب للعلم من عبد الله بن المبارك الشامات (1) ومصر واليمن والحجاز. وأما الطحاوي وسفيان لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما على من خالفهما من الائمة في تحريم المسكر مع ما ثبت من السنة، على أن الطحاوي قد ذكر في كتابه الكبير في الاختلاف خلاف ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد له: قال أبو جعفر الطحاوي اتفقت الامة على أن عصير العنب إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر ومستحله كافر. واختلفوا في نقيع التمر إذا غلى وأسكر. قال: فهذا يدلك على أن حديث يحيى بن أبى كثير عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب " غير معمول به عندهم، لانهم لو قبلوا الحديث لاكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل في الخمر المحرمة غير عصير العنب الذى قد اشتد وبلغ أن يسكر. قال: ثم لا يخلو من أن يكون التحريم معلقا بها فقط غير مقيس عليها غيرها أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعا قد قاسوا عليها نقيع التمر إذا غلى وأسكر كثيره وكذلك نقيع الزبيب. قال: فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الاشربة. قال: وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل مسكر حرام " واستغنى عن سنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم في تأويله، فقال بعضهم: أراد به جنس ما يسكر. وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده كما لا يسمى قاتلا إلا مع وجود القتل. قلت: فهذا يدل على أنه محرم عند الطحاوي لقوله، فوجب قياسا على ذلك أن يحرم كل ما أسكر من الاشربة. وقد روى الدارقطني في سننه عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر فهو حرام كتحريم الخمر. قال ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف الناس في الشئ وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وما روى عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذى يسكر كثيره فللقوم ذنوب يستغفرون (1) في حاشية السندي على سنن النسائي: " قوله الشامات، كأنه جمع على إرادة البلاد الشاميه ": (*)
[ 133 ]
الله منها، وليس يخلو ذلك من أحد معنيين: إما مخطئ أخطأ في التأويل على حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر من الاستغفار لله تعالى، والنبى صلى الله عليه وسلم حجة الله على الاولين والآخرين من هذه الامة. وقد قيل في تأويل الآية: إنها إنما ذكرت للاعتبار، أي من قدر على خلق هذه الاشياء قادر على البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدل على التحريم، وهو كما قال تعالى: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس (1) " والله أعلم. قوله تعالى: وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل) قد مضى القول في الوحى وأنه قد يكون بمعنى (2) الالهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى: " ونفس وما سواها. فألهمها فجورها (3) وتقواها ". ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموات فقال: " تحدث أخبارها. بأن ربك أوحى لها (3) ". قال إبراهيم الحربى. لله عز وجل في الموات قدرة لم يدر ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرفها ذلك، أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحى هنا بمعنى الالهام. وقرأ يحيى بن وثاب " إلى النحل " بفتح الحاء. وسمى نحلا لان الله عز وجل نحله العسل الذى يخرج منه، قاله الزجاج. الجوهرى: والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والانثى، حتى يقال: يعسوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وروى من حديث (1) راجع ج 3 ص 51. (2) راجع ج 4 ص 85. (3) راجع ج 20 ص 75. وص 145. (*)
[ 134 ]
أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الذبان كلها في النار يجعلها عذابا لاهل النار إلا النحل " ذكره الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول). وروى عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد (1)، خرجه أبو داود أيضا، وسيأتى في " النمل (2) " إن شاء الله تعالى. الثانية - قوله تعالى: (أن أتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر) هذا إذا لم يكن لها مليك (3). (ومما يعرشون) جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الانواع، إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الاشجار وإم فيما يعرش ابن آدم من الاجباح (4) والخلايا والحيطان وغيرها. وعرش معناه هنا هيأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الاغصان والخشب وترتيب ظلالها، ومنه العريش الذى صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يعرش ويعرش (بكسر الراء وضمها)، وقرئ بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم. الثالثة - قال ابن العربي: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الاشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة. قوله تعالى: ثم كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانة فيه شفاء للناس إن في ذلك لاية لقوم يتفكرون (69) (1) الصرد: طائر ضخم الرأس والمنقارله ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود يصيد صغار الطير. (2) راجع ج 13 ص 169 فما بعد. (3) كذا في ى. وفى أ: مالك. (4) الاجباح: خلايا النحل في لبجبل وفيها تعسل. (*)
[ 135 ]
قوله تعالى: (ثم كلى من كل الثمرات) وذلك أنها إنما تأكل النوار من الاشجار. (فاسلكي سبل ربك) أي طرق ربك. والسبل: الطرق، وأضافها إليه لانه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. (ذللا) جمع ذلول وهو المنقاد، أي مطيعة مسخرة. ف " ذللا " حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها، لانها تتبع أصحابها حيث ذهبوا، قاله ابن زيد. وقيل: المراد بقوله " ذللا " السبل. واليعسوب سيد (1) النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت. قوله تعالى: (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يخرج من بطونها) رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال: " يخرج من بطونها شراب " يعنى العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وورد عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحمى أنفاسها. وقد صنع أرسطا طاليس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين، ذكره الغزنوى. وقال: " من بطونها " لان استحالة الاطعمة لا تكون إلا في البطن. الثانية - قوله تعالى: (مختلف ألوانه) يريد أنواعه من الاحمر والابيض والاصفر والجامد والسائل، والام واحدة والاولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعى، ومن هذا المعنى قول زينب للنبى صلى الله عليه وسلم: " جرست نحله العرفط (2) " حين شبهت رائحته برائحة المغافير. (1) اليعسوب: هو الملكة وليس للنحل غيرها رئيسا وذكر النخل هو الذى يلقح الملكة ثم يموت، هذا الذى يقرره العلماء بهذا الجنس. (2) الجرس: الاكل. والعرفط (بالضم): شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. أي شربت عسلا أكلت نحلة من شجر الطلح. (*)
[ 136 ]
الثالثة - قوله تعالى: (فيه شفاء للناس) الضمير للعسل، قال الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كيسان: الضمير للقرآن، أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن، أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بين أيضا، لان أكثر الاشربة والمعجونات التى يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضى أبو بكر ابن العربي: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلا لم يصح عقلا، فإن مساق الكلام كله للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبى جعفر العباسي، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بنى هاشم، فأضحك الحاضرين وبهت الآخر وظهرت سخافة قوله. الرابعة - اختلف العلماء في قوله تعالى: (فيه شفاء للناس) هل هو على عمومه أم لا، فقالت طائفة: هو على العموم في كل حال ولكل أحد، فروى عن ابن عمر أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا. وحكى النقاش عن أبى وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويستمشى بالعسل ويتداوى بالعسل. وروى أن عوف بن مالك الاشجعى مرض فقيل له: ألا نعالجك ؟ فقال: ائتونى بالماء، فإن الله تعالى يقول: " ونزلنا من السماء ماء (1) مباركا " ثم قال: ائتونى بعسل، فإن الله تعالى يقول: " فيه شفاء للناس " وائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول: " من شجرة مباركة (2) " فجاءوه بذلك كله فخلطه جميعا ثم شربه فبرئ. ومنهم من قال: إنه على العموم إذا خلط بالخل ويطبخ فيأتى شرابا ينتفع به في كل حالة من كل داء. وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضى العموم في كل علة وفى كل إنسان، بل إنه خبر عن أنه يشفى كما يشفى غيره من (1) راجع ج 17 ص 6. والظاهر أن المراد بالمبارك ماء المطر فإنه في غاية النقاء فهو شفاء من الامراض مطهر من الجراثيم. محققة. (2) راجع ج 12 ص 262. (*)
[ 137 ]
الادوية في بعض وعلى حال دون حال، ففائدة الآية إخبار منه في أنه دواء لما كثر الشفاء به وصار خليطا ومعينا للادوية في الاشربة والمعاجين، وليس هذا بأول لفظ خصص فالقرآن مملوء منه ولغة العرب يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص والخاص بمعنى العام. ومما يدل على أنه ليس على العموم أن " شفاء " نكرة في سياق الاثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل العلم ومختلقى أهل الاصول. لكن قد حملته طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم. فكانوا يستشفون بالعسل من كل الاوجاع والامراض، وكانوا يشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والايقان. ابن العربي: ومن ضعفت نيته وغلبته على الدين عادته أخذه مفهوما على قول الاطباء، والكل من حكم الفعال لما يشاء. الخامسة - إن قال قائل: قد رأينا من ينفعه العسل ومن يضره، فكيف يكون شفاء للناس ؟ قيل له: الماء حياة كل شئ وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاده من علة في البدن، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الاشربة، قال معناه الزجاج. وقد اتفق الاطباء عن بكرة أبيهم على مدح عموم منفعة السكنجبين (1) في كل مرض، وأصله العسل وكذلك سائر المعجونات، على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم داء الاشكال وأزاح وجه الاحتمال حين أمر الذى يشتكى بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره بعود الشراب له فبرئ، وقال: " صدق الله وكذب بطن أخيك ". السادسة - اعترض بعض زنادقة الاطباء على هذا الحديث فقال: قد أجمعت الاطباء على أن العسل يسهل فكيف يوصف لمن به الاسهال، فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام، فيستعمله على الوجه الذى عينه وفى المحل الذى أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكى من الاجماع فدليل على جهله بالنقل حيث لم يقيد وأطلق. قال الامام أبو عبد الله المازرى: ينبغى أن يعلم أن الاسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الاسهال (1) السكنجبين: شراب معرب، أي خل وعسل (عن الألفاظ الفارسية المعربة) (*)
[ 138 ]
الحادث عن التخم والهيضات (1)، والاطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الاسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الاسهال عن امتلاء وهيضة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الاسهال فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الاطباء بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه صلى الله عليه وسلم، فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخريجه على ما يصح إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب. السابعة - في قوله تعالى: (فيه شفاء للناس) دليل على جواز التعالج بشرب الدواء وغير ذلك خلافا لمن كره ذلك من جلة العلماء، وهو يرد على الصوفية الذين يزعمون أن الولاية لا تتم إلا إذا رضى بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يجوز له مداواة. ولا معنى لمن أنكر ذلك، روى الصحيح عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله ". وروى أبو داود والترمذ ي عن أسامة بن شريك قال قالت الاعراب: ألا نتداوى يا رسول الله ؟ قال: " نعم. يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد " قالوا: يا رسول الله وما هو ؟ قال: " الهرم " لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ورو ي عن أبى خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا ؟ قال: " هي من قدر الله " قال: حديث حسن، ولا يعرف لابي خزامة غير هذا الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن كان في شئ من أدويتكم خير ففى شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن أكتوى " أخرجه الصحيح. والاحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وعلى إباحة التداوى والاسترقاء (1) الهيضات: جمع هيضة، وهى إنطلاق البطن. (*)
[ 139 ]
جمهور العلماء. روى أن ابن عمر اكتوى من اللقوة (1) ورقى من العقرب. وعن ابن سيرين أن ابن عمر كان يسقى ولده الترياق (2). وقال مالك: لا بأس بذلك. وقد احتج من كره ذلك بما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دخلت أمة بقضها (3) وقضيضها الجنة كانوا لا يسرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ". قالوا: فالواجب على المؤمن أن يترك ذلك اعتصاما بالله وتوكلا عليه وثقة به وانقطاعا إليه، فإن الله تعالى قد علم أيام المرض وأيام الصحة فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: " ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (4) ". وممن ذهب إلى هذا جماعة من أهل الفضل والاثر، وهو قول ابن مسعود وأبى الدرداء رضوان الله عليهم. دخل عثمان بن عفان على ابن مسعود في مرضه الذى قبض فيه فقال له عثمان: ما تشتكى ؟ قال ذنوبي. قال: فما تشتهى ؟ قال رحمة ربى. قال: ألا أدعو لك طبيبا ؟ قال: الطبيب أمرضني... وذكر الحديث. وسيأتى بكماله في فضل الواقعة إن شاء الله تعالى. وذكر وكيع قال: حدثنا أبو هلال عن معاوية بن قرة قال: مرض أبو الدرداء فعادوه وقالوا: ألا ندعو لك طبيبا ؟ قال: الطبيب أضجعني. وإلى هذا ذهب الربيع بن خيثم. وكره سعيد بن جبير الرقى. وكان الحسن يكره شرب الادوية كلها إلا اللبن والعسل. وأجاب الاولون عن الحديث بأنه لا حجة فيه، لانه يحتمل أن يكون قصد إلى نوع من الكى مكروه بدليل كى النبي صلى الله عليه وسلم أبيا يوم الاحزاب على أكحله (5) لما رمى. وقال: " الشفاء في ثلاثة " كما تقدم. ويحتمل أن يكون قصد إلى الرقى بما ليس في كتاب الله، وقد قال سبحانه وتعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء (6) " على ما يأتي بيانه. ورقى أصحابه وأمرهم بالرقية، على ما يأتي بيانه. (1) اللقوة (بالفتح): مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه. (2) الترياق: ما يستعمل لدفع السم من الادوية والماجين، وهو معرب. (3) أي دخلوا مجتمعين، ينقض أخرهم على أولهم. وقال ابن الاعرابي: إن القض الحصى الصغار، أي دخلوا بالكبير والصغير. (4) راجع ج 17 ص 194. (5) الاكحل: عرق في وسط الذراع. (6) راجع ص 315 من هذا الجزء. (*)
[ 140 ]
الثامنة - ذهب مالك وجماعة أصحابه إلى أن لا زكاة في العسل وإن كان مطعوما مقتاتا. واختلف فيه قول الشافعي، والذى قطع به في قوله الجديد: أنه لا زكاة فيه. وقال أبو حنيفة بوجوب زكاة العسل في قليله وكثيره، لان النصاب عنده فيه ليس بشرط. وقال محمد بن الحسن: لا شئ فيه حتى يبلغ ثمانية أفراق (1)، والفرق ستة وثلاثون رطلا من أرطال العراق. وقال أبو يوسف: في كل عشرة أزقاق زق، متمسكا بما رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في العسل في كل عشرة أزقاق زق " قال أبو عيسى: في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شئ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق، وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شئ. التاسعة - قوله تعالى: (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) أي يعتبرون، ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وإلطاف الفكر في عجيب أمرها. فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة مع البنية الضعيفة، وحذقها باحتيالها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى، كما قال: " وأوحى ربك إلى النحل " الآية. ثم أنها تأكل الحامض والمر والحلو والمالح والحشائش الضارة (2)، فيجعله الله تعالى عسلا حلوا وشفاء، وفى هذا دليل على قدرته. قوله تعالى: والله خلقكم ثم يتوفكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير (70) قوله تعاله: (والله خلقكم ثم يتوفاكم) بين معناه. (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) يعنى أردأه وأوضعه. وقيل: الذى ينقص قوته وعقله ويصيره إلى الخرف ونحوه. وقال ابن عباس: يعنى إلى أسفل العمر، يصير كالصبى الذى لا عقل له، والمعنى متقارب. وفى صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: (1) في ج وى: " خمسة أفراق ". (2) لم يصح هذا عند النحالين. محققة. (*)
[ 141 ]
اللهم إنى أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل ". وفى حديث سعد بن أبى وقاص " وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر " الحديث. خرجه البخار ي. (لكيلا يعلم بعد علم شيئا) أي يرجع إلى حالة الطفولية فلا يعلم ما كان يعلم قبل من الامور لفرط الكبر. وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن، لان المؤمن لا ينزع عنه علمه. وقيل: المعنى لكيلا يعمل بعد علم شيئا، فعبر عن العمل بالعلم لافتقاره إليه، لان تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه. والمعنى المقصود الاحتجاج على منكري البعث، أي الذى رده إلى هذه الحال قادر على أن يميته ثم يحييه. قوله تعالى: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت أيمنهم فهم فيه سوآء أفنعمة الله يجحدون (71) قوله تعالى: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) أي جعل منكم غنيا وفقيرا وحرا وعبدا. (فما الذين فضلوا) أي في الرزق. (برادى رزقهم على ما ملكت أيمانهم) أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق شيئا حتى يستوى المملوك والمالك في المال. وهذا مثل ضربه الله لعبدة الاصنام، أي إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء فكيف تجعلون عبيدى معى سواء، فلما لم يكن يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الاوثان والانصاب وغيرهما مما عبد، كالملائكة والانبياء وهم عبيده وخلقه. حكى معناه الطبري، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا أنها نزلت في نصارى نجران حين قالوا عيسى ابن الله فقال الله لهم: " فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت أيمانهم " أي لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتى يكون المولى والعبد في المال شرعا سواء، فكيف ترضون لى ما لا ترضون لانفسكم فتجعلون لى ولدا (*)
[ 142 ]
من عبيدى. ونظيرها " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء (1) " على ما يأتي. ودل هذا على أن العبد لا يملك، على ما يأتي أنفا (2). قوله تعالى: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أرواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله يكفرون (72) قوله تعالى: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) جعل بمعنى خلق وقد تقدم. " من أنفسكم أزواجا " يعنى آدم خلق منه حواء. وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم، كما قال: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم (3) " أي من الآدميين. وفى هذا رد على العرب التى كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها، حتى روى أن عمرو بن هند تزوج منهم غولا وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالى لمع البرق وعاينته السعلاة (5) فقالت: عمرو ! ونفرت، فلم يرها أبدا. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزا في حكم الله وحكمته فهو رد على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجان ويحيلون طعامهم. (أزواجا) زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الاضافة إليه دونها لانه أصلها في الوجود كما تقدم. (1) راجع ج 14 ص 22. (2) يريد بعد قليل. " آنفا " إنما تستعمل في الماضي القريب لا في المستقبل القريب. (3) راجع ج 8 ص 301. (4) كذا في نسخ الاصول وأحكام القرآن لابن العربي، والصواب أنه عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن مناة، قال علياء بن أرقم: يا قبحا لله بنى السعلاة * عمرو بن يربوع شرار النات راجع شرح التنوير على سقط الزند في شرح بيت أبى العلاء المعرى: إذا لاح إيماض شرت وجوهها * كأنى عمرو والمطى سعالى (5) السغلاة: أخبت الغيلان. (*)
[ 143 ]
قوله تعالى: (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وجعل لكم من أزواجكم بنين) ظاهر في تعديد النعمة في الابناء، ووجود الابناء يكون منهما معا، ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربي: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء على بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الام في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية، لانه انفصل عن الاب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلاجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمر في أرض رجل وسقطت منه نواة في الارض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الارض دون الآكل بإجماع من الامة لانها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها. الثانية - قوله تعالى: " وحفدة " روى ابن القاسم عن مالك قال: وسألته عن قوله تعالى: " بنين وحفدة " قال: الحفدة الخدم والاعوان في رأيى. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: " وحفدة " قال هم الاعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم وتقول ! أو ما سمعت قول الشاعر: حفد الولائد حولهن وأسلمت * بأكفهن أزمة الاجمال أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة، قال الاعشى: كلفت مجهولها نوقا يمانية * إذا الحداة على أكسائها حفدوا (1) أي أسرعوا. وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الاعوان، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم " إليك نسعى ونحفد "، والحفدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد. وقال الازهرى: قيل الحفدة أولاد الاولاد. وروى عن ابن عباس. وقيل الاختان، قاله ابن مسعود وعلقمة وأبو الضحا وسعيد بن جبير وإبراهيم، (1) الاكساء: جمع كسى (بالضم) وهو مؤخر العجز. (*)
[ 144 ]
ومنه قول الشاعر (1): فلو أن نفسي طاوعتني لاصبحت * لها حفد ما يعد كثير ولكنها نفس على أبية * عيوف لاصهار اللئام قذور وروى زر عن عبد الله قال: الحفدة الاصهار، وقاله إبراهيم، والمعنى متقارب. قال الاصمعي: الختن من كان من قبل المرأة، مثل أبيها وأخيها وما أشبههما، والاصهار منها جميعا. يقال: أصهر فلان إلى بنى فلان وصاهر. وقول عبد الله هم الاختان، يحتمل المعنيين جميعا. يحتمل أن يكون أراد أبا المرأة وما أشبهه من أقربائها، ويحتمل أن يكون أراد وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهن، فيكون لكم بسببهن أختان. وقال عكرمة: الحفدة من نفع الرجال من ولده، وأصله من حفد يحفد (بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل) إذا أسرع في سيره، كما قال كثير (3): * حفد الولائد بينهن... * البيت. ويقال: حفدت وأحفدت، لغتان إذا خدمت. ويقال: حافد وحفد، مثل خادم وخدم، وحافد وحفدة مثل كافر وكفرة. قال المهدوى: ومن جعل الحفدة الخدم جعله منقطعا مما قبله ينوى به التقديم، كأنه قال: جعل لكم حفدة وجعل لكم من أزواجكم بنين. قلت: ما قال الازهرى من أن الحفدة أولاد الاولاد هو ظاهر القرآن بل نصه، ألا ترى أنه قال: " وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " فجعل الحفدة والبنين منهن. وقال ابن العربي: الاظهر عندي في قوله " بنين وحفدة " أن البنين أولاد الرجل لصلبه والحفدة أولاد ولده، وليس في قوة اللفظ أكثر من هذا، ويكون تقدير الآية على هذا: وجعل لكم من أزواجكم بنين ومن البنين حفدة. وقال معناه الحسن. الثالثة - إذا فرعنا على قول مجاهد وابن عباس ومالك وعلماء اللغة في قولهم إن الحفدة الخدم والاعوان، فقد خرجت خدمة الولد والزوجة من القرآن بأبدع بيان، قاله ابن العربي (1) هو جميل. (2) في البحر: لاصاب. (3) تقدم استشهاد ابن عباس به فلا يصح أن يكون لكثير عزة.
[ 145 ]
روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه فكانت امرأته خادمهم... الحديث، وقد تقدم في سورة " هود (1) ". وفى الصحيح عن عائشة قالت: أنا فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدى. الحديث. ولهذا قال علماؤنا: عليها أن تفرش الفراش وتطبخ القدر وتقم الدار، بحسب حالها وعادة مثلها، قال الله تعالى: " وجعل منها زوجها ليسكن إليها (2) " فكأنه جمع لنا فيها السكن والاستمتاع وضربا من الخدمة بحسب جرى العادة. الرابعة - ويخدم الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها، لما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الاذان خرج. وهذا قول مالك: ويعينها. وفى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الصوب. وقالت عائشة وقد قيل لها: ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ؟ قالت: كان بشرا من البشر يفلى (3) ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه. الخامسة - وينفق على خادمة واحدة، وقيل: على أكثر، على قدر الثروة والمزلة. وهذا أمر دائر على العرف الذى هو أصل من أصول الشريعة، فإن نساء الاعراب وسكان البوادى يخدمن أزواجهن (حتى (4) في استعذاب الماء وسياسة الدواب، ونساء الحواضر يخدم المقل منهم زوجته فيما خف ويعينها، وأما أها الثروة فيخدمون (5) أزواجهم ويترفهن معهم إذا كان لهم منصب ذلك، فإن كان أمرا مشكلا شرطت عليه الزوجة ذلك، فتشهد أنه قد عرف أنها ممن لا تخدم نفسها فالتزم أحد امها، فينفذ ذلك وتنقطع الدعوى فيه. قوله تعالى: (ورزقكم من الطيبات) أي من الثمار والحبوب والحيوان. (أفبالباطل) يعنى الاصنام، قاله ابن عباس. (يؤمنون) قراءة الجمهور بالياء. وقرأ أبو عبد الرحمن بالتاء (وبنعمة الله) أي بالاسلام. (وهم يكفرون). (1) راجع ج 9 ص 68. (2) راجع ج 7 ص 337. (3) يفلى ثوبه مما يناله من بعض الجلساء أن عنصره صلوات الله عليه في غاية الصفا والنقا الخالص. (4) من ابن العربي. (5) كذا في ابن العربي والعبارة له. (*)
[ 146 ]
قوله تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموت والارض شيئا ولا يستطيعون (73) فلا تضربوا لله الامثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74) قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات) يعنى المطر. (والارض) يعنى النبات. (شيئا) قال الاخفش: هو بدل من الرزق. وقال الفراء: هو منصوب بإيقاع الرزق عليه، أي يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا. (ولا يستطيعون) أي لا يقدرون على شئ، يعنى الاصنام. (فلا تضربوا لله الامثال) أي لا تشبهوا به هذه الجمادات، لانه واحد قادر لا مثل له. وقد تقدم. قوله تعالى: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقنه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ضرب الله مثلا) نبه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم. " ضرب الله مثلا " أي بين شبها، ثم ذكر ذلك فقال: (عبدا مملوكا) أي كما لا يستوى عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شئ ورجل حر قد رزق رزقا حسنا فكذلك أنا وهذه الاصنام. فالذي هو مثال في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شئ من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة، فإن النكرة في الاثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحدا، فإذا كانت بعد أمر أو نهى أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي، كقوله: أعتق رجلا ولا تهن (*)
[ 147 ]
رجلا، والمصدر كإعتاق رقبة، فأى رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر، فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك هو الكافر، لانه لا ينتفع في الآخرة بشئ من عبادته، وإلى أن معنى " ومن رزقناه منا رزقا حسنا " المؤمن. والاول عليه الجمهور من أهل (العلم (1) والتأويل. قال الاصم: المراد بالعبد المملوك الذى ربما يكون أشد من مولاه أسرا (2) وأنضر وجها، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه، فقال الله تعالى ضربا للمثال. أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جعلتم أحجارا مواتا شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهى لا تعقل ولا تسمع. الثانية - فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئا وإن ملك. قال أهل العراق: الرق ينافى الملك، فلا يملك شيئا ألبتة بحال، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال الحسن وابن سيرين. ومنهم من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك، لان لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعي في القديم. وهو قول أهل الظاهر، ولهذا قال أصحابنا: لا تجب عليه عبادة الاموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الابدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة أن سيده لو ملكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لانها ملك غيره، ولا على العبد لان ملكه غير مستقر. والعراقي يقول: لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت. ودلائل هذه المسألة للفريقين في كتب الخلاف. وأدل دليل لنا قوله تعالى: " الله الذى خلقكم ثم رزقكم (3) فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق. وقال عليه السلام: " من أعتق عبدا وله مال... " فأضاف المال إليه. وكان ابن عمر يرى عبده يتسرى في ماله فلا يعيب عليه ذلك. وروى عن ابن عباس أن عبدا له طلق امرأته طلقتين فأمره أن يرتجعها بملك اليمين، فهذا دليل على أنه يملك ما بيده ويفعل فيه ما يفعل المالك في ملكه ما لم ينتزعه سيده. والله أعلم. (1) من ى. (2) الاسر: الخلق. (3) راجع ج 14 ص 40. (*)
[ 148 ]
الثالثة - وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن طلاق العبد بيد سيده، وعلى أن بيع الامة طلاقها، معولا على قوله تعالى: " لا يقدر علشئ ". قال: فظاهره يفيد أنه لا يقدر على شئ أصلا، لا على الملك ولا على غيره فهو على عمومه، إلا أن يدل دليل على خلافه. وفيما ذكرناه عن ابن عمر وابن عباس ما يدل على التخصيص. والله تعالى أعلم. والرابعة - قال أبو منصور في عقيدته (1): الرزق ما وقع الاغتذاء به. وهذه الآية ترد هذا التخصيص، وكذلك قوله تعالى: " ومما رزقناهم ينفقون (2) ". و " أنفقوا (3) مما رزقناكم " وغير ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " جعل رزقي تحت ظل رمحي " وقوله: " أرزاق أمتى في سنابك خيلها وأسنة رماحها ". فالغنيمة كلها رزق، وكل ما صح به الانتفاع فهو رزق، وهو مراتب: أعلاها ما يغذى. وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه الانتفاع في قوله: " يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ". وفى معنى اللباس يدخل الركوب وغير ذلك. وفى ألسنة المحدثين: السماع رزق، يعنون سماع الحديث، وهو صحيح. الخامسة - قوله تعالى: (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) هو المؤمن، يطيع الله في نفسه وماله. والكافر ما لم ينفق في الطاعة صار كالعبد الذى لا يملك شيئا. " هل يستوون " أي لا يستوون، ولم يقل يستويان لمكان " من " لانه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل: " إن عبدا مملوكا "، " ومن رزقناه " أريد بهما الشيوع في الجنس. (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) أي هو مستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه، إذ لا نعمة للاصنام عليهم من يد ولا معروف فتحمد عليه، إنما الحمد الكامل لله، لانه المنعم الخالق. " بل أكثرهم " أي أكثر المشركين. " لا يعلمون " أن الحمد لى، وجميع النعمة منى. وذكر الاكثر وهو يريد الجميع، فهو خاص أريد به التعميم. وقيل: أي بل أكثر الخلق لا يعلمون، وذلك أن أكثرهم المشركون. (1) العقيدة: اسم كتاب لابي منصور الماتريدى، وهو محمد بن محمد بن محمود مات بسمرقند سنة 333 ه. راجع كشف الظنون وتاج التراجم في زبقات الحنيفة. (2) راجع ج 1 ص 177. (*)
[ 149 ]
قوله تعالى: وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على موله أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم (76) قوله تعالى: (وضرب الله مثلا رجاين أحدهما أبكم) هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن، فالابكم الذى لا يقدر على شئ هو الوثن، والذى يأمر بالعدل هو الله تعالى، قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: الابكم عبد كان لعثمان رضى الله عنه، وكان يعرض عليه الاسلام فيأبى، ويأمر بالعدل عثمان. وعنه أيضا أنه مثل لابي بكر الصديق ومولى له كافر. وقيل: الابكم أبو جهل، والذى يأمر بالعدل عمار بن ياسر العنسى، وعنس (بالنون) حى من مذحج، وكان حليفا لبنى مخزوم رهط أبى جهل، وكان أبو جهل يعذبه على الاسلام ويعذب أمه سمية، وكانت مولاة لابي جهل، وقال لها ذات يوم: إنما آمنت بمحمد لانك تحبينه لجماله، ثم طعنها بالرمح في قبلها فماتت، فهى أول شهيد مات في الاسلام، رحمها الله. من كتاب النقاش وغيره. وسيأتى هذا في آية الاكراه مبينا (1) إن شاء الله تعالى. وقال عطاء: الابكم أبى بن خلف، كان لا ينطق بخير. (وهو كل على مولاه) أي قومه لانه كان يؤذيهم ويؤذى عثمان بن مظعون. وقال مقاتل: نزلت في هشام بن عمرو بن الحارث، كان كافرا قليل الخير يعادى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الابكم الكافر، والذى يأمر بالعدل المؤمن جملة بجملة، روى عن ابن عباس وهو حسن لانه يعم. والابكم الذى لا نطق له. وقيل الذى لا يعقل. وقيل الذى لا يسمع ولا يبصر. وفى التفسير إن الابكم ها هنا الوثن. بين أنه لا قدرة له ولا أمر، وأن غيره ينقله وينحته فهو كل عليه. والله الآمر بالعدل، الغالب على كل شئ. وقيل: " وهو كل على مولاه " أي ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه. وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر: أكول لمال الكل قبل شبابه * إذا كان عظم الكل غير شديد (1) راجع ص 180 وما بعدها من هذ الجزء. (*)
[ 150 ]
والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد. والكل العيال، والجمع الكلول، يقال منه: كل السكين كلا أي غلظت شفرته فلم يقطع. (أينما يوجهه لا يأت بخير) قرأ الجمهور " يوجهه " وهو خط المصحف، أي أينما يرسله صاحبه لا يأت بخير، لانه لا يعرف ولا يفهم ما يقال له ولا يفهم عنه. وقرأ يحيى بن وثاب " أينما يوجه " على الفعل المجهول. (وروى (1) عن ابن مسعود) أيضا " توجه " على الخطاب. (هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل. ه. على صراط مستقيم) أي هل يستوى هذا الابكم ومن يأمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم. قوله تعالى: ولله غيب السموت والارض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير (77) قوله تعالى: (ولله غيب السموات والارض) تقدم معناه (2) وهذا متصل بقوله: " إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون " أي شرع التحليل والتحريم إنما يحسن ممن يحيط بالعواقب والمصالح وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بها فلم تتحكمون. (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر) وتجازون فيها بأعمالكم. والساعة هي الوقت الذى تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لانها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة. واللمح النظر بسرعة، يقال لمحه لمحا ولمحانا. ووجه التأويل أن الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتى في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الاتيان بها، أي يقول للشئ كن فيكون. وقيل: إنما مثل بلمح البصر لانه يلمح السماء مع ما هي عليه من البعد من الارض. وقيل: هو تمثيل للقرب، كما يقول القائل: ما السنة إلا لحظة، وشبهه. وقيل: المعنى هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين، دليله قوله: " إنهم يرونه بعيدا. ونراه قريبا (3) ". (أو هو أقرب) ليس " أو " للشك بل للتمثيل بأيهما أراد الممثل. وقيل: دخلت لشك المخاطب. وقيل: " أو " بمنزلة بل. (إن الله على كل شئ قدير) تقدم (4). (1) من ى. (2) راجع ج 9 ص 177. (3) راجع ج 18 ص 283. (4) راجع ج 1 ص 224. (*)
[ 151 ]
قوله تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع. الابصر والافئدة لعلكم تشكرون (78) قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) ذكر أن من نعمه أن أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا لا علم لكم بشئ. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها - لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم. الثاني - لا تعلمون شيئا مما قضى عليكم من السعادة والشقاء. الثالث - لا تعلمون شيئا من منافعكم، وتم الكلام، ثم أبتدأ فقال: (وجعل لكم السمغ والابصار والافئدة) أي التى تعلمون بها وتدركون، لان الله جعل ذلك لعباده قبل أخراجهم من البطون وإنما أعطاهم ذلك بعد ما أخرجهم، أي وجعل لكم السمع لتسمعوا به الامر والنهى، والابصار لتبصروا بها آثار صنعه، والافئدة لتصلوابها إلى معرفته. " والافئدة " جمع الفؤاد نحو غراب وأغربه. وقد قيل في ضمن قوله: " وجعل لكم السمع " إثبات النطق لان من لم يسمع لم يتكلم، وإذا وجدت حاسة السمع وجد النطق. وقرأ الاعمش وابن وثاب وحمزة " إمهاتكم " هنا وفى النور (1) والزمر (2) والنجم (3)، بكسر الهمزة والميم. وأما الكسائي فكسر الهمزة وفتح الميم، وإنما كان هذا للاتباع. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم على الاصل. وأصل الامهات: أمات، فزيدت الهاء تأكيدا كما زادوا هاء في أهرقت الماء وأصله أرقت. وقد تقدم هذا المعنى في " الفاتحة (4) ". (لعلكم تشكرون) فيه تأويلان: أحدهما: تشكرون نعمه. الثاني - يعنى تبصرون آثار صنعته، لان إبصارها يؤدى إلى الشكر. قوله تعالى: ألم يروا الى الطير مسخرات في الجو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لايت لقوم يؤمنون (79) (1) راجع ج 12 ص 311. (2) راجع ج 15 ص 234. (3) راجع ج 17 ص 105. (4) راجع ج 1 ص 148. (*)
[ 152 ]
قوله تعالى: (ألم يروا الى الطير مسخرات في الجو السماء ما يمسكهن إلا الله) قرأ يحيى بن وثاب والاعمش وابن عامر وحمزة ويعقوب " تروا " بالتاء على الخطاب، واختاره أبو عبيد. الباقون بالياء على الخبر. (مسخرات) مذللات لامر الله تعالى، قاله الكلبى. وقيل: " مسخرات " مذللات لمنافعكم. (في جو السماء) الجو ما بين السماء والارض، وأضاف الجو الى السماء لارتفاعه عن الارض. وفى قوله " مسخرات " دليل على مسخر سخرها ومدبر مكنها من التصرف. (ما يمسكهن إلا الله) في حال القبض والبسط والاصطفاف. بين لهم كيف يعتبرون بها على وحدانيته. (إن في ذلك لآيات) أي علامات وعبرا ودلالات. (لقوم يؤمنون) بالله وبما جاءت به رسلهم (1). قوله تعالى: والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم أقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثثا إلى حين (80) فيه عشر (2) مسائل: الاولى - قوله تعالى: (جعل لكم) معناه صير. وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الاربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهى التى للاقامة الطويلة. وقوله: (سكنا) أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره، إلا أن القول خرج على الغالب. وعد هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطربا أبدا كالافلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، لو خلقه ساكنا كالارض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقا يتصرف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردده كيف وأين. والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع. ثم ذكر تعالى بيوت القلة والرحلة وهى: (1) في ج وو: رسلهم. (2) اضطربت الاصول في عد هذه المسائل. (*)
[ 153 ]
الثانية - فقال (وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها) أي من الانطاع والادم. " بيوتا " يعنى الخيام والقباب يخف عليكم حملها في الاسفار. (يوم ظعنكم) الظعن: سير البادية في الانتجاع (1) والتحول من موضع إلى موضع، ومنه قول عنتره: ظعن الذين فراقهم أتوقع * وجرى ببينهم الغراب الابقع والظعن الهودج أيضا، قال: ألا هل هاجك الاظعان إذ بانوا * وإذ جادت بوشك البين غربان وقرئ بإسكان العين وفتحها كالشعر والشعر. وقيل: يحتمل أن يعم (به (2) بيوت الادم وبيوت الشعر وبيوت الصوف، لان هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها، نحا إلى ذلك ابن سلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله " ومن أصوافها " ابتداء كلام، كأنه قال جعل أثاثا، يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك، قال الشاعر: أهاجتك الظعائن يوم بانوا * بذى الزى الجميل من الاثاث ويحتمل أن يريد بقوله " من جلود الانعام " بيوت الادم فقط كما قدمناه أولا. ويكون قوله " ومن أصوافها " عطفا على قوله " من جلود الانعام " أي جعل بيوتا أيضا. قال ابن العربي: " وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعزبت عنه بلادنا، فلا تضرب الاخبية عندنا إلا من الكتان والصوف، وقد كان للنبى صلى الله عليه وسلم قبة من أدم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا رآه سرفا، لانه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذى لا يقدر على الخروج عنه جنس الانسان. ومن غريب ما جرى أنى زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كتان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحر والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك، فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان (1) النجعة والانتجاع: طلب الكلا ومساقط الغيث. (2) من ج وى. (*)
[ 154 ]
في صنعنا من الحقير، فقلت: ليس كما زعمت فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ويستظل بها، فبهت، ورأيته على منزلة من العى فتركته مع صاحبي وخرجت عنه. الثالثة -: (. من أصوافها وأوبارها وأشعارها) أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الابل وشعر المعز، كما أذن في الاعظم، وهو ذبحها وأكل لحومها، ولم يذكر القطن والكتان لانه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به، وإنما عدد عليهم ما أنعم به عليهم، وخوطبوا فيما عرفوا بما فهموا. وما قام مقام هذه وناب منابها فيدخل في الاستعمال والنعمة مدخلها، وهذا كقوله تعالى: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد (1) " فخاطبهم بالبرد لانهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم، وسكت عن ذكر الثلج، لانه لم يكن في بلادهم، وهو مثله في الصفة والمنفعة، وقد ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم معا في التطهير فقال: " اللهم اغسلني بماء وثلج وبرد ". قال ابن عباس: الثلج شئ أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط. وقيل: إن ترك ذكر القطن والكتان إنما كان إعراضا عن الترف، إذ ملبس عباد الله الصالحين إنما هو الصوف " وهذا فيه نظر، فإنه سبحانه يقول: " يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم " حسبما تقدم بيانه في " الاعراف (2) " وقال هنا: " وجعل لكم سرابيل " فأشار إلى القطن والكتان في لفظة " سرابيل " والله أعلم. و " أثاثا " قال الخليل: متاعا منضما بعضه إلى بعض، من أث إذا كثر. قال: وفرع يزين المتن أسود فاحم * أثيث كقنو النخلة المتعثكل ابن عباس: " أثاثا " ثيابا. وتضمنت هذه الآية جواز الانتفاع بالاصواف والاوبار والاشعار على كل حال، ولذلك قال أصحابنا: صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز (1) راجع ج 12 ص 289. (2) راجع ج 7 ص 182. (3) البيت من معلقة امرئ القيس. والفرع: الشعر التام و. والمتن والمتنة: ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم. والفاحم: الشديد السواد. والقنو (بالكسر والضم): العذق وهو شمراخ. والمتعثكل: الذى قد دخل بعضه في بعض لكثرته. (*)
[ 155 ]
الانتفاع به على كل حال، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ، وكذلك روت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل (1) " لانه مما لا يحله الموت، سواء كان شعر ما يؤكل لحمه أو لا، كشعر ابن آدم والخنزير، فإنه طاهر كله، وبه قال أبو حنيفة، ولكنه زاد علينا فقال: القرن والسن والعظم مثل الشعر، قال: لان هذه الاشياء كلها لا روح فيها لا تنجس بموت الحيوان. وقال الحسن البصري والليث بن سعد والاوزاعي: إن الشعور كلها نجسة ولكنها تطهر بالغسل. وعن الشافعي ثلاث روايات: الاولى - طاهرة لا تنجس بالموت. الثانية - تنجس. الثالثة - الفرق بين شعر ابن آدم وغيره، فشعر ابن آدم طاهر وما عداه نجس. ودليلنا عموم قوله تعالى: " ومن أصوافها " الآية. فمن علينا بأن جعل لنا الانتفاع بها، ولم يخصى شعر الميتة من المذكاة، فهو عموم إلا أن 0 يمنع منه دليل. وأيضا فإن الاصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع، فمن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه الدليل. فإن قيل قوله: " حرمت عليكم الميتة (2) " وذلك عبارة عن الجملة. قلنا: نخصه بما ذكرنا، فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكره صريحا، فكان دليلنا أولى. والله أعلم. وقد عول الشيخ الامام أبو إسحاق إمام الشافعية ببغداد على أن الشعر جزء متصل بالحيوان خلقة، فهو ينمى بنمائه ويتنجس بموته كسائر الاجزاء. وأجيب بأن الماء ليس بدليل على الحياة، لان النبات ينمى وليس بحى. وإذا عولوا على النماء المتصل لما على الحيوان عولنا نحن على الابانة التى تدل على عدم الاحساس الذى يدل على عدم الحياة. وأما ما ذكره الحنفيون في العظم والسن والقرن أنه مثل الشعر، فالمشهور عندنا أن ذلك نجس كاللحم. وقال ابن وهب مثل قول أبى حنيفة. ولنا قول ثالث - هل تلحق أطراف القرون والاظلاف بأصولها أو بالشعر، قولان. وكذلك الشعرى من الريش حكمه حكم الشعر، والعظمى منه حكمه حكمه. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنتفعوا من الميتة بشئ " وهذا عام فيها وفى كل جزء منها، إلا ما قام دليله، ومن الدليل القاطع على ذلك قوله تعالى: " قال من يحيى العظام وهى رميم (3) "، (1) والحديث المشهور " أيها أهاب دبغ قد طهر " رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. (2) راجع ج 6 ص 47. (3) راجع ج 15 ص 58. (*)
[ 156 ]
وقال تعالى: " وانظر إلى العظام كيف ننشزها (1) "، وقال: " فكسونا العظام لحما (2) "، وقال: " أئذا كنا عظاما نخرة (3) " فالاصل هي العظام، والروح والحياة فيها كما في اللحم والجلد. وفى حديث عبد الله بن عكيم: " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ". فإن قيل: قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى اله عليه وسلم قال في شاة ميمونة: " ألا انتفعتم بجلدها " ؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال: " إنما حرم أكلها " والعظم لا يؤكل. قلنا: العظم يؤكل، وخاصة عظم الحمل (4) الرضيع والجدى والطير، وعظم الكبير يشوى ويؤكل. وما ذكرناه قبل يدل على وجود الحياة فيه، وما كان طاهرا بالحياة ويستباح بالذكاة ينجس بالموت. والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى - (من جلود الانعام) عام في جلد الحى والميت، فيجوز الانتفاع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، وبه قال ابن شهاب الزهري والليث بن سعد. قال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال أبو عمر: يعنى من الفقهاء أئمة الفتوى بالامصار بعد التابعين، وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح، وهو قول أباه جمهور أهل العلم. وقد روى عنهما خلاف هذا القول، والاول أشهر. قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث يحيى بن أيوب عن يونس وعقيل عن الزهري، وحديث بقية عن الزبيدى، وحديث محمد بن كثير العبدى وأبى سلمة المنقرى عن سليمان بن كثير عن الزهري، وقال في آخرها: هذه أسانيد صحاح. السادسة (6) - اختلف العلماء في جلد الميتة إذا دبغ هل يطهر أم لا، فذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك. وذكره ابن خويز منداد في كتابه عن ابن عبد الحكم أيضا. قال ابن خويز منداد: وهو قول الزهري والليث. قال: والظاهر من مذهب مالك ما ذكره ابن عبد الحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة، ولكن يبيح الانتفاع به في الاشياء اليابسة، ولا يصلى عليه ولا يؤكل فيه. وفى المدونة لابن القاسم: (1) راجع ج 3 ص 288. (2) راجع ج 12 ص 108. (3) راجع ج 91 ص 188. (4) في أ، ج، ح، و: الجمل. (5) اضطربت الاصول في عد هذه المسائل. (*)
[ 157 ]
من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وحكى أذلك قول مالك. وذكر أبو الفرج أن مالكا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شئ عليه. قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي. وروى ابن وهب، وابن عبد الحكم عن مالك جواز بيعه، وهذا في جلد كل ميتة إلا الخنزير وحده، لان الزكاة لا تعمل فيه، فالدباغ أولى. قال أبو عمر: وكل جلد ذكى فجائز استعماله للوضوء وغيره. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ على اختلاف من قوله، ومرة قال: إنه لم يكرهه إلا في خاصة نفسه، وتكره الصلاة عليه وبيعه، وتابعه على ذلك جماعة من أصحابه. وأما أكثر المدنيين فعلى إباحة ذلك وإجازته، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما إهاب دبغ فقد طهر ". وعلى هذا أكثر أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث،. وهو اختيار ابن وهب. السابعة - ذهب الامام أحمد بن حنبل رضى الله عنه إلى أنه لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة في شئ وإن دبغت، لانها كلحم الميتة. والاخبار بالانتفاع بعد الدباغ ترد قوله. واحتج بحديث عبد الله بن عكيم - رواه أبو داود - قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة وأنا غلام شاب: " ألا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ". وفى رواية: " قبل موته بشهر (1) ". رواه القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم، قال: حدثنا مشيخة لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم.. قال داود بن على: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فضعفه وقال: ليس بشئ، إنما يقول حدثنى الاشياخ، قال أبو عمر: ولو كان ثابتا لاحتمل أن يكون مخالفا للاحاديث المروية عن ابن عباس وعائشة وسلمة بن المحبق وغيرهم، لانه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم " ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب " قبل الدباغ، وإذا احتمل ألا يكون مخالف افليس لنا أن نجعله مخالفا، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن، وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر فيمكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه " أيما إهاب دبغ فقد طهر " قبل موته بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم. (1) لفظة " بشهر " ساقطة من سنن أبى داود. (*)
[ 158 ]
الثامنة - المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم، وكذلك الكلب عند الشافعي. وعند الاوزاعي وأبى ثور: لا يطهر بالدباغ إلا جلد ما يؤكل لحمه. وروى معن بن عيسى عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ فكرهه. قال ابن وضاح: وسمعت سحنونا يقول لا بأس به، وكذلك قال محمد بن عبد الحكم وداود بن على وأصحابه، لقوله عليه السلام: " أيما مسك (1) دبغ فقد طهر ". قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها، فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لانه غير معهود الانتفاع بجلده، إذ لا تعمل فيه الذكاة. ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الاهاب جلد البقر والغنم والابل، وما عداه فإنما يقال له: جلد لا إهاب. قلت: وجلد الكلب وما لا يؤكل لحمه أيضا غير معهود الانتفاع به فلا يطهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أكل كل ذى ناب من السباع حرام " فليست الذكاة فيها ذكاة، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة. وروى النسائي عن المقدام بن معد يكرب قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور (2). التاسعة - اختلف الفقهاء في الدباغ التى تطهر به جلود الميتة ما هو ؟ فقال أصحاب مالك وهو المشهور من مذهبه: كل شئ دبغ الجلد من ملح أو قرظ أو شب أو غير ذلك فقد جاز الانتفاع به. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول داود. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما - هذا، والآخر أنه لا يطهر إلا الشب والقرظ، لانه الدباغ المعهود على عهد النبي صلى اله عليه وسلم، وعليه خرج الخطابى - والله أعلم - ما رواه النسائي عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحصان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أخذتم إهابها " قالوا. إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطهرها الماء والقرظ ". (1) المسك (بالفتح وسكون السين): الجلد. وخص بعضهم به جلد السخلة، ثم كثر صار كل جلد مسكا، والجمع مسك ومسوك. (2) أي عن أن تقرش جلودها على السرج والرحال للجلوس عليها لما فيه من التكبر أو لانه زى العجم، أو لان الشعر نجس لا يقبل الدباغ. (عن شرح سنن النسائي). المياثر: جلود محشوة تجعل على الرحل. (*)
[ 159 ]
العاشرة - قوله تعالى: (أثاثا) الاثاث متاع البيت، واحدها أثاثة، هذا قول أبى زيد الانصاري. وقال الاموى: الاثاث متاع البيت، وجمعه آثة وأثث. وقال غيرهما: الاثاث جميع أنواع المال ولا واحد له من لفظه. وقال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر، ومنه شعر أثيث أي كثير. وأث شعر فلان يأث أثا إذا كثر والتف، قال امرؤ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم * أثيث كقنو النخلة المتعثكل وقيل: الاثاث ما يلبس ويفترش. وقد تأثثت إذا اتخذت أثاثا. وعن ابن عباس رضى الله عنه " أثاثا " مالا. وقد تقدم القول في الحين (1)، وهو هنا وقت غير معين بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الاشياء التى هي أثاث. ومن هذه اللفظة قول الشاعر: أهاجتك الظعائن يوم بانوا * بذى الزى الجميل من الاثاث قوله تعالى: والله جعل لكم مما خلق ظللا وجعل لكم من الجبال أمننا وجعل لكم سربيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (81) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ظلالا) الظلال: كل ما يستظل به من البيوت والشجر. وقوله " مما خلق " يعم جميع الاشخاص المظلة. الثانية - قوله تعالى: (أكنانا) الاكنان: جمح كن، وهو الحافظ من المطر والريح وغير ذلك، وهى هنا الغيران في الجبال، جعلها الله عدة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها. وفى الصحيح أنه عليه السلام كان في أول أمره يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالى.. الحديث، وفى صحيح البخاى قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) راجع ج 1 ص 321 وج 9 ص 360 فما بعد. (*)
[ 160 ]
من مكة مهاجرا هاربا من قومه فارا بدينه مع صاحبه أبى بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور، فمكنا (1) فيه ثلاث ليال يبيت عندهما فيه عبد الله بن أبى بكر وهو غلام شاب ثقف (2) لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيسمع أمرا يكادان (3) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر منحة (4) من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما (5) حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث... وذكر الحديث. انفراد بإخراجه البخاري. الثالثة - قوله تعالى: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) يعنى القمص، واحدها سربال. (وسرابيل تقيكم بأسكم) يعنى الدروع التى تقى الناس في الحرب، ومنه قول كعب بن زهير: شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في الهيجا سرابيل الرابعة - إن قال قائل: كيف قال " وجعل لكم من الجبال أكنانا " ولم يذكر السهل، وقال: " تقيكم الحر " ولم يذكر البرد ؟ فالجواب أنهم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل، وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد، فذكر لهم نعمه التى تختص بهم كما خصهم بذكر الصوف وغيره، ولم يذكر القطن والكتان ولا الثلج - كما تقدم - فإنه لم يكن ببلادهم (6)، قال معناه عطاء الخراساني وغيره. وأيضا: فذكر أحدهما يدال على الآخر، ومنه قول الشاعر: وما أدرى إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يلينى * الخير الذى أنا أبتغيه * أم الشر الذى هو يبتغينى الخامسة - قال العلماء: في قوله تعالى: (وسرابيل تقيكم بأسكم) دليل على اتخاذ العباد عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الاعداء، وقد لبسها النبي صلى الله عليه وسلم تقاة (1) في ج وو: مكثأ. (2) أي حاذق سريع الفهم، لقن حسن التلقن لما يسمعه. (3) من الكيد، أي يطلب بهما ما فيه المكروه. (4) أي شاة تحلب أناء بالغداة وإثناء بالعشى. (5) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذى طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وخمه. وينعق: يصيح. (6) يقول محققة: ذكر الله لهم تلك النعم وهى دالة على ما يقابلها على سبيل الاكتفاء. والقطنم مشهور باليمن ومنه الثياب السحولية وكذا صحار ومنه كفن عبيه السلام فيثوبين صحاريين. وكذا الثلج في جبيال ببلاد العرب. (*)
[ 161 ]
الجراحة وإن كان يطلب الشهادة، وليس للعبد (1) أن يطلبها بأن يستسلم للحتوف وللطعن بالسنان وللضرب بالسيوف، ولكنه يلبس لامة (2) حرب لتكون له قوة على قتال عدوه، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويفعل الله بعد ما يشاء. السادسة - قوله تعالى: (كذلك يتم نعمته عليكم املكم تسلمون) قرأ ابن محيصن وحميد " تتم " بتاءين، " نعمته " رفعا على أنها الفاعل. الباقون " يتم " بضم الياء على أن الله هو يتمها. و " تسلمون " قراءة ابن عباس وعكرمة " تسلمون " بفتح التاء واللام، أي تسلمون من الجراح، وإسناده ضعيف، رواه عباد بن العوام عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس. الباقون بضم التاء، ومعناه تستسلمون وتنقادون إلى معرفة الله وطاعته شكرا على نعمه. قال أبو عبيد: والاختيار قراءة العامة، لان ما أنعم الله به علينا من الاسلام أفضل مما أنعم به من السلامة من الجراح. قوله تعالى: فإن تولوا فإنما عليك البلغ المبين (82) قوله تعالى: (فإن تولوا) أي أعرضوا عن النظر والاستدلال والايمان. (فإنما عليك البلاغ) أي ليس عليك إلا التبليغ، وأما الهداية فإلينا. قوله تعالى: يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكفرون (83) قوله تعالى: (يعرفون نعمت الله) قال السدى: يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم، أي يعرفون بوته " ثم ينكرونها " ويكذبونه. وقال مجاهد: يريد ما عدد الله عليهم في هذه السورة من النعم، أي يعرفون أنها من عند الله وينكرونها بقولهم إنهم ورثوا ذلك عن آبائهم. وبمثله قال قتادة. وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل لو لا فلان لكان كذا، ولو لا فلان ما أصبت كذا، وهم يعرفون النفع والضر من عند الله. وقال الكلبى: هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرفهم بهذه النعم كلها عرفوها وقالوا: نعم، هي كلها نعم من الله، ولكنها (1) في ى: على العبد. (2) لامة الحرب: أداته، وقد تترك الهمزة تخفيفا. في ى: حربه. (*)
[ 162 ]
بشفاعة آلهتنا. وقيل: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها، وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادسا - يعرفونها في الشدة وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعا - يعرفونها بأقوالهم وينكرونها بأفعالهم. ويحتمل ثامنا - يعرفونها بقلوبهم ويجحدونها بألسنتهم، نظيرها " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (1) ". (وأكثرهم الكافرون) يعنى جميعهم. حسب ما تقدم. قوله تعالى: ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون (84) قوله تعالى: (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) نظيره: " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " وقد تقدم (2). (ثم لا يؤذن للذين كفروا) وذلك حين تطبق عليهم جهنم، كما تقدم في أول " الحجر (4) " ويأتى. (ولا هم يستعتبون) يعنى يسترضون، أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم، لان الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. وأصل الكلمة من العتب وهى الموجدة، يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، قال الهروي. وقال النابغة: فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته * وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب قوله تعالى: وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يحفف عنهم ولا هم ينظرون (85) قوله تعالى: (وإذا رأى الذين ظلموا) أي أشركوا. (العذاب) أي عذاب جهنم بالدخول فيها. (فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون) أي لا يمهلون، إذ لا توبة لهم ثم. (1) راجع ج 13 ص 156. (2) راجع ج 5 ص 197. (3) راجع ج 19 ص 164. (4) راجع ج 30 ص فما بعد من هذا الجزء. (*)
[ 163 ]
قوله تعالى: وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكذبون (86). ألقوا إلى الله يومذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون (87) قوله تعالى: (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم) أي أصنامهم وأوثانهم التى عبدوها، وذلك أن الله يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار. وفى صحيح مسلم: " من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت " الحديث، خرجه من حديث أنس (1)، والترمذي من حديث أبى هريرة، وفيه: " فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون " وذكر الحديث (2). (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك) أي الذين جعلناهم لك شركاء. (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) أي ألقت إليهم الآلهة القول، أي نطقت بتكذيب من عبدها بأنها لم تكن آلهة، ولا أمرتهم بعبادتها، في، نطق الله الاصنام حتى تظهر عند ذلك فضيحة الكفار. وقيل: المراد بذلك الملائكة الذين عبدوهم. (وألقوا الى الله يومئذ السلم) يعنى المشركين، أي استسلموا لعذابه وخضعوا لعزه. وقيل: استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم. (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي زال عنهم ما زين لهم الشيطان وما كانوا يؤملون من شفاعة آلهتهم. قوله تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل زدنهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفدون (88) (1) ورد هذا الحديث في صحيح مسلم عن أبى هريرة. راجع كتاب الايمان باب معرفة طريق الرؤية. (2) راجع الحديث في سنن الترمذي في باب صفة الجنة. (*)
[ 164 ]
قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب) قال ابن مسعود: عقارب أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الابل، وأفاعي كأنها البخاتى (1) تضربهم، فتلك الزيادة. وقيل: المعنى يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار. وقيل: المعنى زدنا القادة عذابا فوق السفلة، فأحد العذابين على كفرهم والعذاب الآخر على صدهم. (بما كانوا يفسدون) في الدنيا من الكفر والمعصية. قوله تعالى: ويوم نبعث من كل أمة شهيدا عليكم من أنفسكم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتب تبينا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89) قوله تعالى: (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليكم من أنفسكم) وهم الانبياء شهداء على أممهم يوم القيامة بأنهم قد بلغوا الرسالة ودعوهم إلى الايمان، في كل زمان شهيد وإن لم يكن نبيا، وفيهم قولان: أحدهما - أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الانبياء. الثاني - أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه. قلت: فعلى هذا لم تكن فترة إلا وفيها من يوحد الله، كقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابن نفيل الذى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " يبعث أمة وحده "، وسطيح (2)، وورقة ابن نوفل الذى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيته ينغمس في أنهار الجنة ". فهؤلاء ومن كان مثلهم حجة على أهل زمانهم وشهيد عليهم. والله أعلم. وقوله: " وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " تقدم في البقرة والنساء (3). قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) نظيره: " ما فرطنا في الكتاب من شئ (4) " وقد تقدم، فلينظر هناك. وقال مجاهد: تبيانا للحلال والحرام. (1) البخاتى: جمال طوال الاعناق. (2) هو كاهن بنى ذئب، كان يتكهن في الجاهلية، واسمه: ربيع بن ربيعة. (راجع سيرة ابن هشام ص 9 طبع أوربا). (3) راجع ج 3 ص 154 وج 5 ص 197. (4) راجع ج 6 ص 419. (*)
[ 165 ]
قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والاحسن وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعكم تذكرون (90) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) روى عن عثمان بن مظعون أنه قال: لما نزلت هذه الآية قرأتها على علي بن أبى طالب رضى الله عنه فتعجب فقال: يا آل غالب، اتبعوه تفلحوا، فو الله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الاخلاق. وفى حديث - إن أبا طالب لما قيل له: إن ابن أخيك زعم أن الله أنزل عليه " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " الآية، قال: اتبعوا ابن أخى، فو الله إنه لا يأمر إلا بمحاسن الاخلاق. وقال عكرمة: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " إلى آخرها، فقال: يا بن أخى أعد ! فأعاد عليه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لمورق، وأعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر !. وذكر الغزنوى أن عثمان بن مظعون هو القارئ. قال عثمان: ما أسلمت ابتداء إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الايمان في قلبى، فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخى أعد ! فأعدت فقال: والله إن له لحلاوة،... وذكر تمام الخبر. وقال ابن مسعود: هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب. وحكى النقاش قال: يقال زكاة العدل الاحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه. الثانية - اختلف العلماء في تأويل العدل والاحسان، فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والاحسان أداء الفرائض. وقيل: العدل الفرض، والاحسان النافلة. وقال سفيان بن عيينة: العدل ها هنا استواء السريرة، والاحسان أن تكون السريرة أفضل من العلانية. على بن أبى طالب: العدل الانصاف، والاحسان التفضل. قال ابن عطية: (*)
[ 166 ]
العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الامانات، وترك الظلم والانصاف، وإعطاء الحق. والاحسان هو فعل كل مندوب إليه، فمن الاشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الاجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الاجزاء داخل في الاحسان. وأما قول ابن عباس ففيه نظر، لان أداء الفرائض هي الاسلام حسبما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل، وذلك هو العدل، وإنما الاحسان التكميلات والمندوب إليه حسبما يقتضيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". فإن صح هذا عن ابن عباس فإنما أراد الفرائض مكملة. وقال ابن العربي: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للاوامر. وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها مما فيه هلاكها، قال الله تعالى: " ونهى النفس عن الهوى (1) " وعزوب (2) الاطماع عن الاتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى. وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والانصاف من نفسك لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل لا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الانصاف وترك الاذى. قلت: هذا التفصيل في العدل حسن وعدل، وأما الاحسان فقد قال علماؤنا: الاحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا. ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي حسنته وكلمته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشئ. وثانيهما متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به. قلت: وهو في هذه الآية مراد بالمعنيين معا، فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغى أن تقصر تعهده بإحسانك، وهو تعالى غنى عن إحسانهم، ومنه الاحسان والنعم والفضل والمنن. وهو في حديث جبريل (1) راجع ج 19 ص 205. (2) في ى: عزوف. (*)
[ 167 ]
بالمعنى الاول لا بالثاني، فإن المعنى الاول راجع إلى إتقان العبادة ومراعاتها بأدائها المصححة والمكملة، ومراقبة الحق فيها واستحضار عظمته وجلاله حالة الشروع وحالة الاستمرار. وهو المراد بقوله " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وأرباب القلوب في هذه المراقبة على حالين: أحدهما غالب عليه مشاهدة الحق فكأنه يراه. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحالة بقوله: " وجعلت قرة عينى في الصلاة ". وثانيهما - لا تنتهى إلى هذا، لكن يغلب عليه أن الحق سبحانه مطلع عليه ومشاهد له، وإليه الاشارة بقوله تعالى: " الذى يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين (1) " وقوله: " إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه (2) " الثالثة - قوله تعالى: (وإيتاء ذا القربى) أي القرابة، يقول: يعطيهم المال كما قال: " وآت ذا القربى حقه (3) " يعنى صلته. وهذا من باب عطف المندوب على الواجب، وبه استدل الشافعي في إيجاب إيتاء المكاتب، على ما يأتي بيانه. وإنما خص ذا القربى لان حقوقهم أوكد وصلتهم أوجب، لتأكيد حق الرحم التى اشتق الله اسمها من اسمه، وجعل صلتها من صلته، فقال في الصحيح: " أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك (4) ". ولا سيما إذا كانوا فقراء. الرابعة - قوله تعالى: (وينهى عن الفحشاء والبغى) الفحشاء: الفحش، وهو كل قبيح من قول أو فعل. ابن عباس: هو الزنى. والمنكر: ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها. وقيل هو الشرك. والبغى: هو الكبر والظلم والحقد والتعدى، وحقيقته تجاوز الحد، وهو داخل تحت المنكر، لكنه تعالى خصه بالذكر اهتماما به لشدة ضرره. وفى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ذنب أسرع عقوبة من بغير ". وقال عليه السلام: " الباغى مصروع ". وقد وعد الله من بغى عليه بالنصر. وفى بعض الكتب المنزلة: لو بغى جبل على جبل لجعل الباغى منهما دكا. (1) راجع ج 13 ص... (2) راجع ج 8 ص 355. (3) راجع ص 247 من هذا الجزء (4) راجع صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة محمد وكتاب الادب والتوحيد. وصحيح مسلم في كتاب الادب. (*)
[ 168 ]
الخامسة - ترجم الامام أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري في صحيحه فقال: (باب قوله الله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون "، وقوله: " إنما بغيكم على أنفسكم (1) "، " ثم بغى عليه لينصرنه الله (2) "، وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر) ثم ذكر حديث عائشة في سحر لبيد ابن الاعصم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن بطال: فتأول رضى الله عنه من هذه الآيات ترك إثارة الشر على مسلم أو كافر، كما دل عليه حديث عائشة حيث قال عليه السلام: " أما الله فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرا ". ووجه ذلك - والله أعلم - أنه تأول في قول الله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " الندب بالاحسان إلى المسئ وترك معاقبته على إساءته. فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل في آيات البغى. قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أنه لما أعلم الله عباده بأن ضرر البغى ينصرف على الباغى بقوله: " إنما بغيكم على أنفسكم " وضمن تعالى نصرة من بغى عليه، كان الاولى بمن بغى عليه شكر الله على ما ضمن من نصره ومقابلة ذلك بالعفو عمن بغى عليه، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم باليهودى الذى سحره، وقد كان له الانتقام منه بقوله: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (3) ". ولكن آثر الصفح أخذا بقوله: " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور (4) ". السادسة - تضمنت هذه الآية الامر بالمعروف والنهى عن المنكر. وقد تقدم القول فيهما (5). روى أن جماعة رفعت عاملها إلى أبى جعفر المنصور العباسي، فحاجها العامل وغلبها، بأنهم لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جوره في شئ، فقام فتى من القوم فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يأمر بالعدل والاحسان، وإنه عدل ولم يحسن. قال: فعجب أبو جعفر من إصابته وعزل العامل. (1) راجع ج 8 ص 324. (2) راجع ج 12 ص 89. (3) راجع ص 200 من هذا الجزء. (4) راجع ج 16 ص 38. (5) راجه ج 4 ص 37. (*)
[ 169 ]
قوله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عهدتم ولا تنقضوا الايمن بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون (91) فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله) لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الانسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. وهذه الاية مضمن قوله: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " لان المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل: إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الاسلام. وقيل: نزلت في التزام الحلف الذى كان في الجاهلية وجاء الاسلام بالوفاء، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حلف في الاسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة " يعنى في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حلف الفضول الذى ذكره ابن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه (1)، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم لو أدعى به في الاسلام لا جبت ". وقال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن على في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميرا على المدينة، فقال له حسين بن على: احلف بالله لتنصفني من حقى أو لآخذن سيفى ثم لاقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لادعون بحلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف والله لئن دعانا (2) لآخذن سيفى ثم لاقومن معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك. وبلغت (1) في سيرة ابن هشام: " لشرفه وسنه ". (2) في سيرة ابن هشام: " لئن دعا به ". (*)
[ 170 ]
عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمى فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. قال العلماء: فهذا الحلف الذى كان في الجاهلية هو الذى شده الاسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: " لا حلف في الاسلام ". والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على من قدر من المكلفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى: " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم (1) ". وفى الصحيح (من قوله (2): " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال: " تأخذ على يديه - في رواية: تمنعه من الظلم - فإن ذلك نصره ". وقد تقدم قوله عليه السلام: " إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ". الثانية - قوله تعالى: (ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها) يقول بعد تشديدها وتغليظها، يقال: توكيد وتأكيد، ووكد وأكد، وهما لغتان. الثالثة - قوله تعالى: (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) يعنى شهيدا. ويقال: حافظا، ويقال: ضامنا. وإنما قال " بعد توكيدها " فرقا بين اليمين المؤكدة بالعزم وبين لغو اليمين. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك التوكيد هو حلف الانسان في الشئ الواحد مرارا، يردد فيه الايمان ثلاثا أو أكثر من ذلك، كقوله: والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا، والله لا أنقصه من كذا. قال: فكفارة ذلك واحدة مثل كفارة اليمين. وقال يحيى بن سعيد: هي العهود، والعهد يمين، ولكن الفرق بينهما أن العهد لا يكفر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان ". وأما اليمين بالله فقد شرع الله سبحانه فيها الكفارة بخصلة واحدة، وحل ما انعقدت عليه اليمين. وقال ابن عمر: التوكيد هو أن يحلف مرتين، فإن حلف واحدة فلا كفارة فيه. وقد تقدم في المائدة (3). (1) راجع ج 16 ص 44. (2) من و. (3) راجع ج 6 ص 364. (*)
[ 171 ]
قوله تعالى: ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكثا تتخذون أيمنكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيمة ما كنتم فيه تختلفون (92) قوله تعالى: (ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) النقض والنكث واحد، والاسم النكث والنقض، والجمع الانكاث فشبهت هذه الآية الذى يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكما ثم تحله. ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك، فبها وقع التشبيه، قال الفراء، وحكاه عبد الله بن كثير والسدى ولم يسميا المرأة، وقال مجاهد وقتادة: وذلك ضرب مثل، لا على امرأة معينة. و " أنكاثا " نصب على الحال. والدخل: الدغل والخديعة والغش. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل. (أن تكون أمة هي أربى من أمة) قال المفسرون: نزلت هذه الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم إذ حالفت أخرى، ثم جاءت إحداهما قبيلة كثيرة (1) قوية فداخلتها غدرت الاولى ونقضت عهدها ورجعت إلى هذه الكبرى - قاله مجاهد - فقال الله تعالى: لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى أو أكثر أموالا فتنقضون أيمانكم إذا رأيتم الكثرة والسعة في الدنيا لاعدائكم المشركين. والمقصود النهى عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم. وقال الفراء: المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم أو لقلتكم وكثرتهم، وقد عززتموهم بالايمان. (أربى) أي أكثر، من ربى الشئ يربو إذا كثر. والضمير في " به " يحتمل أن يعود على الوفاء الذى أمر الله به. ويحتمل أن يعود على الرباء، أي أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد وطلب بعضهم الظهور على بعض، واختبرهم بذلك من يجاهد نفسه فيخالفها ممن يتبعها ويعمل بمقتضى هواها، وهو معنى قوله: (إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) من البعث وغيره. (1) في ى: كبيرة. (*)
[ 172 ]
قوله تعالى: ولو شآء الله لجعلكم أمة وحدة ولكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسئلن عما كنتم تعملون (93) قوله تعالى: (ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة) أي على ملة واحدة. (ولكن يضل من يشآء) بخذلانه إياهم، عدلا منه فيهم. (ويهدى من يشآء) بتوفيقه إياهم، فضلا منه عليهم، ولا يسأل عما يفعل بل تسألون أنتم. والآية ترد على أهل القدر كما تقدم. واللام في " وليبينن ولتسئلن " مع النون المشددة يدلان على قسم مضمر، أي والله ليبينن لكم ولتسئلن. قوله تعالى: ولا تتخذوا أيمنكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولهم عذاب عظيم (94) قوله تعالى: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم) كرر ذلك تأكيدا. (فتزل قدم بعد ثبوتها) مبالغة في النهى عنه لعظم موقعه في الدين وتردده في معاشرات الناس، أي لا تعقدوا الايمان بالانطواء على الخديعة والفساد فتزل قدم بعد ثبوتها، أي عن الايمان بعد المعرفة بالله. وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه، لان القدم إذا زلت نقلت الانسان من حال خير إلى حال شر، ومن هذا المعنى قول كثير: * فلما توافينا ثبت وزلت * والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة: زلت قدمه، كقول الشاعر: سيمنع منك السبق إن كنت سابقا * وتقتل إن زلت بك القدمان ويقال لمن أخطأ في شئ: زل فيه ثم توعد تعالى بعد، بعذاب في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد إنما هو فيمن نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من عاهده ثم نقض عهده خرج من الايمان، ولهذا قال: (وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله) أي بصدكم. وذوق السوء في الدنيا هو ما يحل بهم من المكروه.
[ 173 ]
قوله تعالى: ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله. خير لكم إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96) قوله تعالى: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) نهى عن الرشا وأخذ الاموال على نقض العهد، أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. وإنما كان قليلا وإن كثر لانه مما يزول، فهو على التحقيق قليل، وهو المراد بقوله: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفى بالعهد وثبت على العقد. ولقد أحسن من قال: المال ينفد حله وحرامه * يوما وتبقى في غد آثامه ليس التقي بمتق لالهه * حتى يطيب شرابه وطعامه آخر: هب الدنيا تساق إليك عفوا * أليس مصير ذاك إلى انتقال وما دنياك إلا مثل فئ * أظلك ثم آذن بالزوال قوله تعالى: (ولنجزين الذين صبروا) أي على الاسلام والطاعات وعن المعاصي. أي من الطاعات، وجعلها أحسن لان ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله. وقرأ عاصم وابن كثير " ولنجزين " بالنون على التعظيم. الباقون بالياء. وقيل: إن هذه الآية " ولا تشتروا " أي هنا نزلت في امرئ القيس بم عابس الكندى وخصمه ابن أسوع (2)، اختصما في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلما سمع هذه الآية نكل وأقر له بحقه، والله أعلم. (1) في نسخ الاصل: * ليس التقى بمن يمير بأهله * وفى ى: يميز، والتثويب عن أدب الدنيا والدين ص 212 طبع بولاق. (2) الذى في كتب الصحابة في ترجمة امرى القيس بن عابس أنه ربيعة بن عيدان. وقال صاحب كتاب الاصابة في ترجمة عيدان بن أسوغ: " ذكر مقاتل في تفسيره أنه الذى حاصر امرأ القيس بن عابس الكندى في أرضه، وفيه نزلت " إن الذين يشترون بعهد الله... " الآية. (*)
[ 174 ]
قوله تعالى: من عمل صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97) قوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) شرط وجوابه. وفي الحياة الطيبة خمسة أقوال: الاول - أنه الرزق الحلال، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك. الثاني - القناعة، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه، ورواه الحكم عن عكرمة عن ابن عباس، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث - توفيقه إلى الطاعات فإنها تؤديه إلى رضوان الله، قال معناه الضحاك. وقال أيضا: من عمل صالحا وهو مؤمن في فاقة وميسرة فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله ولم يؤمن بربه ولا عمل صالحا فمعيشته ضنك لا خير فيها. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، وقاله الحسن، وقال: لا تطيب الحياة لاحد إلا في الجنة. وقيل: هي السعادة، روى عن ابن عباس أيضا. وقال أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبد الله التسترى: هي أن ينزع عن العبد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق. وقال جعفر الصادق: هي المعرفة بالله، وصدق المقام بين يدى الله. وقيل: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق. وقيل: الرضا بالقضاء. (ولنجزينهم أجرهم) أي في الآخرة. (بأحسن ما كانوا يعملون). وقال: " فلنحيينه " ثم قال: " ولنجزينهم " لان " من " يصلح للواحد والجمع، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى. وقد تقدم. وقال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وناس من أهل الانجيل وناس من أهل الاوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فنزلت. قوله تعالى: فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطن الرجيم (98) فيه مسألة واحدة - وهى أن هذه الآية متصلة بقوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " فإذا أخذت في قراءته فاستعذ بالله من أن يعرض لك الشيطان فيصدك عن (*)
[ 175 ]
تدبره والعمل بما فيه، وليس يريد استعذ بعد القراءة، بل هو كقولك إذا أكلت فقل بسم الله، أي إذا أردت أن تأكل. وقد روى جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه (1) ". وروى أبو سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة. قال الكيا الطبري: ونقل عن بعض السلف التعوذ بعد القراءة مطلقا، احتجاجا بقوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " ولا شك أن ظاهر ذلك يقتضي أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، كقوله تعالى: " فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا (2) ". إلا أن غيره محتمل، مثل قوله تعالى: " وإذا قلتم فاعدلوا (3) " " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب (4) " وليس المراد به أن يسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم. ومثله قول القائل: إذا قلت فاصدق، وإذا أحرمت فاغتسل، يعني قبل الاحرام. والمعنى في جميع ذلك: إذا أردت ذلك، فكذلك الاستعاذة. وقد تقدم هذا المعنى (5)، وتقدم القول في الاستعاذة مستوفى (6). قوله تعالى: إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطنه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100) قوله تعالى: (أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا) أي بالاغواء والكفر، أي ليس لك قدرة على أن تحملهم على ذنب لا يغفر، قاله سفيان. وقال مجاهد: لا حجة له على ما يدعوهم إليه من المعاصي. وقيل: إنه ليس عليهم سلطان بحال، لان الله تعالى صرف (1) الهمزة: النخس والغمز، وكل شئ دفعته فقد همزتة. والنفخ: الكبر، لان المتكبر يتعاظم ويجمع نفسه ونفسه فيحتاج أن ينفخ. والنفث: قال ابن الاثير: جاء تفسيره في الحديث أنه الشعر، لانه ينفث من الفم. (2) راجع ج 5 ص 373. (3) راجع ج 7 ص 137. (4) راجع ج 14 ص 227. (5) راجع ج 6 ص 80. (6) راجع ج 1 ص 86. (*)
[ 176 ]
سلطانه عليهم حين قال عدو الله إبليس لعنه الله: " ولاغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين (1) " قال الله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ". قلت: قد بينا أن هذا عام يدخله التخصيص، وقد أغوى آدم وحواء عليهما السلام بسلطانه، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله: من خلق ربك ؟ حسبما تقدم في آخر الاعراف (2) بيانه. (إنما سلطانه على الذين يتولونه) أي يطيعونه. يقال: توليته أي أطعته، وتوليت عنه، أي أعرضت عنه. (والذين هم به مشركون) أي بالله، قاله مجاهد والضحاك. وقيل: يرجع " به " إلى الشيطان، قاله الربيع بن أنس والقتبي. والمعنى: والذين هم من أجله مشركون. يقال: كفرت بهذه الكلمة، أي من أجلها. وصار فلان بك عالما، أي من أجلك. أي والذى تولى الشيطان مشركون بالله. قوله تعالى: وإذا بدلنا ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102) قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل) قيل: المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة، قاله ابن بحر. مجاهد: أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها. وقال الجمهور: نسخنا آية بآية أشد منها عليهم. والنسخ والتبديل رفع الشئ مع وضع غير مكانه. وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة مستوفى (3). (قالوا) يريد كفار قريش. (إنما أنت مفتر) أي كاذب مختلق، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم. فقال الله: (بل أكثرهم لا يعلمون) أن الله شرع الاحكام وتبديل البعض بالبعض. وقوله: (قل نزله روح (1) راجع ج 27 من هذا الجزء فما بعد. (2) راجع ج 7 ص 348. (3) راجع ج 2 ص 61 وما بعدها. (*)
[ 177 ]
القدس) يعني جبريل، نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه. وروى بإسناد صحيح عن عامر الشعبي قال: وكل إسرافيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة، ثم نزل عليه جبريل بالقرآن. وفي صحيح مسلم أيضا أنه نزل عليه بسورة " الحمد " ملك لم ينزل إلى الارض قط. كما تقدم في الفاتحة بيانه (1). (من ربك بالحق) أي من كلام ربك. (ليثبت الذين آمنوا) أي بما فيه من الحجج والآيات. (وهدى) أي وهو هدى. (وبشرى للمسلمين). قوله تعالى: ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربي مبين (103) قوله تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) اختلف في اسم هذا الذي قالوا إنما يعلمه، فقيل: هو غلام الفاكه بن المغيرة واسمه جبر، كان نصرانيا فأسلم، وكانوا إذا سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما مضى وما هو آت مع أنه أمي لم يقرأ قالوا: إنما يعلمه جبر وهو أعجمي، فقال الله تعالى: (لسان الذى يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) أي كيف يعلمه جبر وهو أعجمي هذا الكلام الذى لا يستطيع الانس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها. وذكر النقاش أن مولى جبر كان يضربه ويقول له: أنت تعلم محمدا، فيقول: لا والله، بل هو يعلمني ويهديني. وقال ابن إسحاق: كان النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد بني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، فقال المشركون: والله ما يعلم محمدا ما يأتي به إلا جبر النصراني. وقال عكرمة: اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنه القرآن، ذكره المارودى. وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادة أنه غلام لبني المغيرة اسمه يعيش، وكان يقرأ الكتب الاعجمية، فقالت قريش: إنما يعلمه بشر، فنزلت. المهدوى عن عكرمة: (1) راجع ج 1 ص 116. (*)
[ 178 ]
هو غلام لبني عامر بن لؤى، واسمه يعيش. وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، اسم أحدهما يسار واسم الآخر جبر. كذا ذكر الماوردى والقشيري والثعلبي، إلا أن الثعلبي قال: يقال لاحدهما نبت ويكنى أبا فكيهة، والآخر جبر، وكانا صيقلين (1) يعملان السيوف، وكانا يقرأن كتابا لهم. الثعلبي: يقرأن التوراة والانجيل. الماوردى والمهدوى: التوراة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهما ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلم منهما، فأنزل الله هذه الآية وأكذبهم. وقيل: عنوا سلمان الفارسي رضي الله عنه، قاله الضحاك. وقيل: نصرانيا بمكة اسمه بلعام، وكان غلاما يقرأ التوراة، قاله ابن عباس. وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام. وقال القتبي: كان بمكة رجل نصراني يقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية، فربما قعد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الكفار: انما يتعلم محمد منه، فنزلت. وفي رواية أنه عداس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل: عابس غلام حويطب بن عبد العزى ويسار أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما. والله أعلم. قلت: والكل محتمل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله، وكان ذلك بمكة. وقال النحاس: وهذه الاقوال ليست بمتناقضة، لانه يجوز أن يكونوا أومئوا إلى هؤلاء جميعا، وزعموا أنهم يعلمونه. قلت: وأما ما ذكره الضحاك من أنه سلمان ففيه بعد، لان سلمان إنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهذه الآية مكية. (لسان الذى يلحدون إليه أعجمى) الالحاد: الميل، يقال: لحد وألحد، أي مال عن القصد. وقرأ حمزة " يلحدون " بفتح الياء والحاء، أي لسان الذى يميلون إليه ويشيرون أعجمي. والعجمة: الاخفاء وضد البيان. ورجل أعجم وامرأة عجم، أي لا يفصح، ومنه عجم الذنب لاستتاره. والعجماء: (1) الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها (2) راجع ج 7 ص 328. (*)
[ 179 ]
البهيمة، لانها لا توضح عن نفسها. وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. والعرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بكلامهم أعجميا. وقال الفراء: الاعجم الذى في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والاعجمي أو العجمي الذى أصله من العجم. وقال أبو علي: الاعجمي الذى لا يفصح، سواء كان من العرب أو من العجم، وكذلك الاعجم والاعجمي المنسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. وأراد باللسان القرآن، لان العرب تقول للقصيدة والبيت لسانا، قال الشاعر: لسان الشر تهديها إلينا * وخنت وما حسبتك أن تخونا يعني باللسان القصيدة. (وهذا لسان عربي مبين) أي أفصح ما يكون من العربية. قوله تعالى: إن الذين لا يؤمنون بئايت الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم (104) قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله) أي هؤلاء المشركون الذين لا يؤمنون بالقرآن (لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم.) قوله تعالى: إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بئايت الله وأولئك هم الكذبون (105) قوله تعالى: (إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بئايت الله وأولك هم الكذبون (105) قوله تعالى: (إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) هذا جواب وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء. (وأولئك هم الكاذبون) هذا مبالغة في وصفهم بالكذب، أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم. ويقال: كذب فلان ولا يقال إنه كاذب، لان الفعل قد يكون لازما وقد لا يكون لازما. فأما النعت فيكون لازم ولهذا يقال: عصى آدم ربه فغوى، ولا يقال: إنه عاص غاو. فإذا قيل: كذب فلان فهو كاذب، كان مبالغة في الوصف بالكذب، قاله القشيرى. (*)
[ 180 ]
قوله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمنه إلا من أكره وقلبه مطمن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (106) لا لاولى - قوله تعالى: (من كفر باله) هذا متصل بقوله تعالى: " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " فكان مبالغة في الوصف بالكذب، لان معناه لا ترتدوا عن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم. أي من كفر من بعد إيمانه وارتد فعليه غضب الله. قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن ضبابة وعبد الله بن خطل (1)، وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم. ثم قال: (إلا من أكره). وقال الزجاج: " من كفر بالله من بعد إيمانه " بدل ممن يفترى الكذب، أي إنما يفترى الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، ' لانه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله. وقال الاخفش: " من " ابتداء وخبره محذوف، اكتفي منه بخبر " من " الثانية، كقولك: من يأتنا من يحسن نكرمه. الثانية - قوله تعالى: (إلا من أكره) هذه الاية نزلت في عمار بن ياسر، في قول أهل التفسير، لانه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الاسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف تجد قلبك " ؟ قال: مطمئن بالايمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإن عادوا فعد ". وروى منصور بن المعتمر عن مجاهد قال: أول شهيدة في الاسلام أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول (1) في الاصول: " عبد الله بن أمس بن خطل " وهو تحريف. (*)
[ 181 ]
شهيد من الرجال مهجع مولى عمر. وروى منصور أيضا عن مجاهد قال: أول من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدرع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، وأتى سمية فجعل يسبها ويرفث (1)، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها، رضي الله عنها. قال: وقال الآخرون ما سئلوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له: ارجع عن دينك، وهو يقول أحد أحد، حتى ملوه، ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلا من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي (2) مكة حتى ملوه وتركوه، قال فقال عمار: كلنا تكلم بالذى قالوا - لولا أن الله تداركنا - غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه. والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالا فأعتقه. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناسا من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة: أن هاجروا إلينا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن إسحاق. وروى الترمذي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما " هذا حديث حسن غريب. وروى عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة ". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح. الثانية - لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الاكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب (1) الرفث: الفحش من القول. (2) الاخشبان: الجبلان المطيفان بمكة،. هما أبو قبيس والاحمر. (*)
[ 182 ]
عليه حكم، وبه جاء الاثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " الحديث. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معنا صحيح باتفاق من العلماء، قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وذكر أبو محمد عبد الحق أن إسناده صحيح، قال: وقد ذكره أبو بكر الاصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الاقناع. الرابعة - أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي، غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الاسلام، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: " إلا من أكره " الآية. وقال: " إلا أن تتقوا منهم تقاة (1) " وقال: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض (2) " الآية. وقال: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان (2) " الآية. فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، قاله البخاري. الخامسة - ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله أو الصلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا، يروى هذا عن الحسن البصري، رضي الله عنه. وهو قول الاوزاعي وسحنون من علمائنا. وقال محمد بن الحسن: إذا قيل للاسير: اسجد لهذا الصنم وإلا قتلتك. فقال: إن كان الصنم مقابل القبلة فليسجد ويكون نيته لله تعالى، وإن كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه. والصحيح أنه يسجد وإن كان لغير القبلة، وما أحراه بالسجود حينئذ، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان (1) راجع ج 4 ص 57. (2) راجع ج 5 ص 345. (*)
[ 183 ]
وجهه، قال: وفيه نزلت " فأينما تولوا فثم وجه الله (1) " في رواية: ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. فإذا كان هذا مباحا في السفر في حالة الامن لتعب النزول عن الدابة للتنفل فكيف بهذا. واحتج من قصر الرخصة على القول بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذى سلطان إلا كنت متكلما به. فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل، وهذا لا حجة فيه، لانه يحتمل أن يجعل الكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه. وقالت طائفة: الاكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الايمان. روى ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم عن مالك أن من أكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الافطار في رمضان، أن الاثم عنه مرفوع. السادسة - أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الاقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذى نزل به، ولا يحل له أن يفدى نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. واختلف في الزنى، فقال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم وابن الماجشون: لا يفعل أحد ذلك، وإن قتل لم يفعله، فإن فعله فهو آثم ويلزمه الحد، وبه قال أبو ثور والحسن. قال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الاقدام على الزنى ولا حد عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك، لانه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الاكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الالجاء إلى ذلك، وهو الذى أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري، فقاس الشئ على ضده، فلم يحل بصواب من عنده. وقال ابن خويز منداد في أحكامه: اختلف أصحابنا متى أكره الرجل على الزنى، فقال بعضهم: عليه الحد، لانه إنما يفعل ذلك باختياره. وقال بعضهم: لا حد عليه. قال ابن خويز منداد: وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: إن أكرهه غير السلطان حد، وإن أكرهه السلطان فالقياس أن يحد، ولكن استحسن ألا يحد. وخالفه صاحباه فقالا: لا حد عليه في الوجهين، ولم يراعوا الانتشار، (1) راجع ج 2 ص 79. (*)
[ 184 ]
وقالوا: متى علم أنه يتخلص من القتل بفعل الزنى جاز أن ينتشر. قال ابن المنذر لا حد عليه، ولا فرق بين السلطان في ذلك وغير السلطان. السابعة - اختلف العلماء في طلاق المكره وعتاقه، فقال الشافعي وأصحابه: لا يلزمه شئ. وذكر ابن وهب عن عمر وعلي وابن عباس أنهم كانوا لا يرون طلاقه شيئا. وذكره ابن المنذر عن ابن الزبير وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن وشريح والقاسم وسالم ومالك والاوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وأجازت طائفة طلاقه، روى ذلك عن الشعبي والنخعي وأبي قلابة والزهرى وقتادة، وهو قول الكوفيين. قال أبو حنيفة: طلاق المكره يلزم، لانه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل، فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راض به، والمكره غير راض ولا نية له في الطلاق، وقد قال عليه السلام: " إنما الاعمال بالنيات ". وفي البخاري: وقال ابن عباس فيمن يكرهه اللصوص فيطلق: ليس بشئ، وبه قال ابن عمر وابن الزبير والشعبي والحسن. وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص فليس بطلاق، وإن أكرهه السلطان فهو طلاق. وفسره ابن عيينة فقال: إن اللص يقدم على قتله والسلطان لا يقتله. الثامنة - وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان. الاولى - أن يبيع ماله في حق وجب عليه، فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه عند الفقهاء، لانه يلزمه أداء الحق إلى ربه من غير المبيع، فلما لم يفعل ذلك كان بيعه اختيارا منه فلزمه. وأما بيع المكره ظلما أو قهرا فذلك بيع لا يجوز عليه. وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشترى بالثمن ذلك الظالم، فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالاكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشترى غير عالم بظلمه. قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وكلما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه. قال سحنون: أجمع أصحابنا وأهل العراق على أن بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز. وقال الابهري: إنه إجماع.
[ 185 ]
التاسعة - وأما نكاح المكره، فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، وقالوا: لا يجوز المقام عليه، لانه لم ينعقد. قال محمد بن سحنون: وأجاز أهل العراق نكاح المكره، وقالوا: لو أكره على أن ينكح امرأة بعشرة آلاف درهم، وصداق مثلها ألف درهم، أن النكاح جائز وتلزمه الالف ويبطل الفضل. قال محمد: فكما أبطلوا الزائد على الالف فكذلك يلزمهم إبطال النكاح بالاكراه. وقولهم خلاف السنة الثابتة في حديث خنساء بنت خذام الانصارية، ولامره صلى الله عليه وسلم بالاستئمار في أبضاعهن، وقد تقدم، فلا معنى لقولهم. العاشرة - فان وطئها المكره على النكاح غير مكره على الوطئ والرضا بالنكاح لزمه النكاح عندنا على المسمى من الصداق ودرئ عنه الحد. وإن قال: وطئتها على غير رضا مني بالنكاح فعليه الحد والصداق المسمى، لانه مدع لابطال الصداق المسمى، وتحد المرأة إن أقدمت وهي عالمة أنه مكره على النكاح. وأما المكرهة على النكاح وعلى الوطئ فلا حد عليها ولها الصداق، ويحد الواطئ، فأعلمه. قاله سحنون. الحادية عشرة - إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حد عليها، لقوله " إلا من أكره " وقوله عليه السلام: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "، ولقول الله تعالى: " فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (1) " يريد الفتيات. وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدها. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة. وقال مالك: إذا وجدت المرأة حاملا وليس لها زوج فقالت استكرهت فلا يقبل ذلك منها وعليها الحد، إلا أن تكون لها بينة أو جاءت تدمي على أنها أوتيت (2)، أو ما أشبه ذلك. واحتج بحديث عمر بن الخطاب أنه قال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف. قال ابن المنذر: وبالقول الاول أقول. (1) راجع ج 12 ص 255. (2) عبارة الموطأ: " أو جاءت تدمى إن كانت بكرا أو استغاثت حتى أوتيت وعلى ذلك... " الخ. (*)
[ 186 ]
الثانية عشرة - واختلفوا في وجوب الصداق للمستكرهة، فقال عطاء والزهرى: لها صداق مثلها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال الثوري: إذا أقيم الحد على الذى زنى بها بطل الصداق. وروى ذلك عن الشعبي، وبه قال أصحاب مالك وأصحاب الرأى. قال ابن المنذر: القول الاول صحيح. الثالثة عشرة - إذا أكره الانسان على إسلام أهله لما لم يحل أسلمها، ولم يقتل (1) نفسه دونها ولا أحتمل أذية في تخليصها. والاصل في ذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ودخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فأرسل إليه أن أرسل بها إلي فأرسل بها فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي فقالت اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي هذا الكافر فغط حتى ركض برجله (2) ". ودل هذا الحديث أيضا على أن سارة لما لم يكن عليها ملامة، فكذلك لا يكون على المستكرهة ملامة، ولا حد فيما هو أكبر من الخلوة. والله أعلم. الرابعة عشرة - وأما يمين المكره فغير لازمة. عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء. قال ابن الماجشون: وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذ أكره على اليمين، وقاله أصبغ. وقال مطرف: إن أكره على اليمين فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وإن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالى رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب خمرا، أو لا يفسق ولا يغش في عمله، أو الولد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم، وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك. وقال به ابن حبيب. وقال أبو حنيفة ومن اتبعه من الكوفيين: إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث، قالوا: لان المكره له أن يورى في يمينه كلها، فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين. احتج الاولون بأن قالوا: إذا أكره عليها فنيته مخالفة لقوله، لانه كاره لما حلف عليه. (1) ينظر هذا على ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه وفيه " من قتل دون أهله شهيد ". كشف الخفاج ص 269. (2) ذكر المؤلف هذا الحديث مختصرا، في شرح القسطلانى، كتاب اليبوع ج 4 ص 122 طبعة بولاق. الغط هنا هو العصر الشديد والكبس، والركض الضرب بالرجل. (*)
[ 187 ]
الخامسة عشرة - قال ابن العربي: ومن غريب الامر أن علماءنا اختلفوا في الاكراه على الحنث هل يقع به أم لا، وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا ! وأى فرق يا معشر أصحابنا بين الاكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع ! فاتقوا الله وراجعوا بصائركم، ولا تغتروا بهذه الروية فإنها وصمة في الدراية. السادسة عشرة - إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال كأصحاب المكس وظلمة السعاة وأهل الاعتداء، فقال مالك: لا تقية له في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا ماله. وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه. وقال ابن القاسم بقول مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. قلت: قول ابن الماجشون صحيح، لان المدافعة عن المال كالمدافعة عن النفس، وهو قول الحسن وقتادة وسيأتى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " وقال: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ". وروى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلا يريد أخذ مالى ؟ قال: " فلا تعطه مالك ". قال: أرأيت إن قاتلني ؟ قال: " قاتله " قال: أرأيت إن قتلني ؟ قال: " فأنت شهيد " قال: أرأيت إن قتلته ؟ قال: " هو في النار " خرجه مسلم (1). وقد مضى الكلام فيه. وقال مطرف وابن الماجشون: وإن بدر الحالف بيمينه للوالى الظالم قبل أن يسألها ليذب بها عما خاف عليه من ماله وبدنه فحلف له فإنها تلزمه. وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ. وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق ألبتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله وأخذ ماله: فإن كان إنما تبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الاكراه ولا شئ عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث. السابعة عشرة - قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض (3) لمندوحة عن الكذب. ومتى لم يكن (1) وئؤيد هذا كادواه أحمد والترمذي عن ابن عمر " من قتل دون كاله فهو شهيد " كشفا الخفا ج 2 ص 296. (2) المعاريض: التورية بالشئ عن الشئ. وأعرض الكلام ومعارضة ومعاريضه: كلام يشبه بعضه بعضا في المعاني. (*)
[ 188 ]
كذلك كان كافرا، لان المعاريض لا سلطان للاكراه عليها. مثاله - أن يقال له: اكفر بالله فيقول باللاهى، فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: أكفر بالنبي فيقول هو كافر بالنبي، مشددا وهو المكان المرتقع من الارض (1). ويطلق على ما يعمل من الخوص شبه المائدة، فيقصد أحدهما بقلبه ويبرأ من الكفر ويبرأ من إثمه. فإن قيل له: أكفر بالنبئ (مهموزا) فيقول هو كافر بالنبئ يريد بالمخبر، أي مخبر كان كطليحة (2) ومسلمة الكذاب. أو يريد به النبئ الذى قال فيه الشاعر: فأصبح رتما دقاق الحصى * مكان النبئ من الكاثب (3) الثامنة عشرة - أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة. واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له، فقال أصحاب مالك: الاخذ بالشدة في ذلك واختيار القتل والضرب أفضل عند الله من الاخذ بالرخصة، ذكره ابن حبيب وسحنون. وذكر ابن سحنون عن أهل العراق أنه إذا تهدد بقتل أو قطع أو ضرب يخاف منه التلف فله أن يفعل ما أكره عليه من شرب خمر أو أكل خنزير، فان لم يفعل حتى قتل خفنا أن يكون آثما لانه كالمضطر. وروى خباب بن الارت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الارض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الامر (4) حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ". فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الامم السالفة على جهة المدح لهم والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر وتبطنوا الايمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم. وهذه حجة من آثر الضرب (1) ومنه الحديث: " لا تصلوا على النبي " أي على الارض المرتفعة المحدودبة. (2) هو طليحة ابن خويلد بن نوفل الاسدي، ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وادعى النبوة ثم أسلم. (3) الرتم (بالتاء والثاء): الدق والكسر. ويريد بالنبئ المكان المرتفع. والكائب: الرمل المجتمع. (4) يريد الاسلام. (*)
[ 189 ]
والقتل والهوان على الرخصة والمقام بدار الجنان. وسيأتى لهذا مزيد بيان في سورة " الاخدود (1) " إن شاء الله تعالى. وذكر أبو بكر محمد بن محمد بن الفرج البغدادي قال: حدثنا شريح بن يونس عن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس بن عبيد عن الحسن أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذهبوا بهما إلى مسيلمة، فقال لاحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال نعم. قال.: أتشهد أنى رسول الله ؟ قال نعم. فخلى عنه. وقال الآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال نعم. قال: وتشهد أنى رسول الله ؟ قال: أنا أصم لا أسمع، فقدمه وضرب عنقه. فجاء هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت ! قال: " وما أهلكك " ؟ فذكر الحديث، قال: " أما صاحبك فأخذ بالثقة (2) وأما أنت فأخذت بالرخصة على ما أنت عليه الساعة " قال: أشهد أنك رسول الله. قال " أنت على ما أنت عليه ". الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل، فقال الحسن: إذا خاف عليه وعلى ماله فليحلف ولا يكفر يمينه، وهو قول قتادة إذا حلف على نفسه أو مال نفسه. وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وذكر موسى بن معاوية أن أبا سعيد بن أشرس صاحب مالك استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله أنه ما آواه، ولا يعلم له موضعا، قال: فحلف له ابن أشرس، وابن أشرس يومئذ قد علم موضعه وآواه، فحلفه بالطلاق ثلاثا، فحلف له ابن أشرس، ثم قال لامرأته: اعتزلي فاعتزلته، ثم ركب ابن أشرس حتى قدم على البهلول بن راشد القيروان، فأخبره بالخبر، فقال له البهلول: قال مالك إنك حانث. فقال ابن أشرس: وأنا سمعت مالكا يقول ذلك، وإنما أردت الرخصة أو كلام هذا معناه، فقال له البهلول ابن راشد: قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك. قال: فرجع ابن أشرس إلى زوجته وأخذ بقول الحسن. وذكر عبد الملك بن حبيب قال: حدثنى معبد عن المسيب بن شريك عن أبى شيبة قال: سألت أنس بن مالك عن الرجل يؤخذ بالرجل، هل ترى أن يحلف ليقيه بيمينه ؟ فقال نعم، ولان أحلف سبعين يمينا (1) راجع ج 19 ص 284. (2) عبارة الدر المنثور: (" أما صاحبك فمضى على إيمانه ". (*)
[ 190 ]
وأحنث أحب إلى أن أدل على مسلم. وقال إدريس بن يحيى كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق يأتونه بالاخبار، قال: فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه فقال: يا رجاء ! اذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير ؟ فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين، فقال له الوليد: قل آلله الذى لا إله إلا هو، قال: آلله الذى لا إله إلا هو، فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء، بك يستقى (1) المطر، وسبعون سوطا في ظهرى ! فيقول رجاء: سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم. التاسعة عشرة - واختلف العلماء في حد الاكراه، فروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: ليس الرجل آمن على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود ما كلام يدرأ عنى سوطين إلا كنت متكلما به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، إلا أن الله تبارك وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المعتدى وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن توقيت، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه. وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر وأكل الميتة، لانه لا يخاف منهما التلف. وجعلوها إكراها في إقراره لفلان عندي ألف درهم. قال ابن سحنون: وفى إجماعهم على أن الالم والوجع الشديد إكراه ما يدل على أن الاكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف، ولا حنث عليه، وهو قول الشافعي وأحمد وأبى ثور وأكثر العلماء. الموفية عشرين - ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب. وروى الاعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجل عنك شئ أن تقول: (1) في ج وى: يستسقى. (*)
[ 191 ]
والله، إن الله يعلم ما قلت فيك من ذلك من شئ. قال عبد الملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذى قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث على من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه. وقال النخعي: كان لهم كلام من ألغاز الايمان يدرءون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث. قال عبد الملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق. وقال الاعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته: قولى له هو والله في المسجد. وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البعث (2) إذا عرضوا على أميرهم أن يقول: والله ما أهتدى إلا ما سدد لى غيرى، ولا أركب إلا ما حملني غيرى، ونحو هذا من الكلام. قال عبد الملك: يعنى بقوله: " غيرى " الله تعالى، هو مسدده وهو يحمله، فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذبا في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجحدان (3) حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه. الحادية والعشرون - قوله تعالى: (ولكن من شرح بالكفر) أي وسعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله، فهو يرد على القدرية. و " صدرا " نصب على المفعول. (فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) وهو عذاب جهنم. قوله تعالى: ذلك بأنهم استحبوا الدنيا على الاخرة وأن الله لا يهدى القوم الكفرين (107) أولئك الذين ظبع الله على قلوبهم وسمعهم. وأبصرهم وأولئك هم الغفلون (108) لا جرم أنهم في الاخرة هم الخسرون (109) (1) وذلك كما في كتاب الملاحن لابن دريد. (2) البعث: الجيش. (3) هذا المصدر لم تورده كتب اللغة في هذه المادة. (*)
[ 192 ]
قوله تعالى: (ذلك) أي ذلك الغضب. (بأنهم استحبوا الحياة الدنيا) أي اختاروها على الآخرة. (وأن الله) " أن " في موضع خفض عطفا على " بأنهم ". (لا يهدى القوم الكافرين) ثم وصفهم فقال: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) أي عن فهم المواعظ. (وسمعهم) عن كلام الله تعالى. (وأبصارهم) عن النظر في الآيات. (وأولئك هما الغافلون) عما يراد بهم. (لاجرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) تقدم (1). قوله تعالى: ثم إن ربك للذين هاحروا من بعد ما فتنوا صم جهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110) قوله تعالى: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جهدوا وصبروا) هذا كله في عمار. على الجهاد، ذكره النحاس. وقال قتادة: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم، وقد تقدم ذكرهم في هذه السورة (2). وقيل: نزلت في ابن أبى سرح، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل. " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره - إلى قوله - ولهم عذاب عظيم " فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " وهو عبد الله بن سعد بن أبى سرح الذى كان على مصر،. كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: يوم تأتى كا نفس تجدل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهو لا يظلمون (111) (1) راجع ج 9 ص 20. (2) راجع ص 180 من هذا الجزء. (*)
[ 193 ]
قوله تعالى: (يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها) " أي إن الله غفور رحيم في ذلك. " أو ذكرهم. " يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها " أي تخاصم وتحاج عن نفسها، جاء في الخبر أن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي ! من شدة هول يوم القيمة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته. وفى حديث عمر أنه قال لكعب الاحبار: يا كعب، خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا. فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، والذى نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لاتت عليك تارات لا يهمك إلا نفسك، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبى منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلي بالخلة فيقول: يا رب، أنا خليلك إبراهيم، لا أسألك اليوم إلا نفسي ! قال: يا كعب، أين تجد ذلك في كتاب الله ؟ قال: قوله تعالى: " يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ". وقال ابن عباس في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: رب، الروح منك أنت خلقته، لم تكن لى يد أبطش بها، ولا رجل أمشى بها، ولا عين أبصر بها، ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد، فضعف عليه أنواع العذاب ونجنى، فيقول الجسد: رب، أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة، ليس لى يد أبطش بها، ولا قدم أسعى به، ولا بصر أبصر به، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع النور، فبه نطق لساني، وبه أبصرت عينى، وبه مشت رجلى، وبه سمعت أذنى، فضعف عليه أنواع العذاب ونجنى منه. قال: فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالاعمى لا يبصر الثمرة والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد الاعمى ايتنى فاحملني آكل وأطعمك، فدنا منه فحمله، فأصابوا من الثمرة، فعلى من يكون العذاب ؟ (قالا (1): عليهما) قال: عليكما جميعا العذاب، ذكره الثعلبي. قوله تعالى: وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112) (1) من ج وى، وفى و: قال. (*)
[ 194 ]
قوله تعالى: (وضرب الله مثلا قرية) هذا متصل بذكر المشركين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على مشركي قريش وقال: " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف ". فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام، ووجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما ففرق فيهم. (كانت أمنة) لا يهاج أهلها. (يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) من البر والبحر، نظيره " تجبى إليه ثمرات كل شئ (1) " الآية. (فكفرت بأنعم الله) الانعم: جمع النعمة، كالاشد جمع الشدة. وقيل: جمع نعمى، مثل بؤسى وأبؤس. وهذا الكفران تكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم. (فأذاقها الله) أي أذاق أهلها. (لباس الجوع والخوف) سماه لباسا لانه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس. (بما كانوا يصنعون) أي من الكفر والمعاصي. وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبى إسحاق والحسن وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث وعبيد وعباس " والخوف " نصبا بإيقاع أذاقها عليه، عطفا على. " لباس الجوع " [ أي أ ذاقها الله لباس الجوع (2) " وأذاقها الخوف. وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم سراياه التى كانت تطيف بهم. وأصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء. وضرب مكة مثلا لغيرها من البلاد، أي إنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده لما كفر أهلها أصابهم القحط فكيف بغيرها من القرى. وقد قيل: إنها المدينة، آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفرت بأنعم الله لقتل عثمان ابن عفان، وما حدث بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن. وهذا قول عائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم. قيل: إنه مثل مضروب بأى قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى. قوله تعالى: ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظلمون (113) (1) راجع ج 13 ص 299. (2) من ج وى. (*)
[ 195 ]
قوله تعالى: (ولقد جاهم رسول منهم فكذبوه) هذا بدل على أنها مكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. (فأخذهم العذاب) وهو الجوع الذى وقع بمكة. وقيل: الشدائد والجوع منها. قوله تعالى: فكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واسمروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون (114) قوله تعالى: (فكلوا مما رزقكم الله) أي كلوا يا معشر المسلمين من الغنائم. وقيل: الخطاب للمشركين، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بطعام رقة عليهم، وذلك أنهم لما ابتلوا بالجوع سبع سنين، وقطع العرب عنهم الميرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أكلوا العظام المحرقة والجيفة والكلاب الميتة والجلود والعلهز، وهو الوبر يعالج بالدم. ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان. وقال له أبو سفيان: يا محمد، إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون. قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115) تقدم في " البقرة " القول فيها مستوفى (3). قوله تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116) متع قليل ولهم عذاب أليم (117) (1) في ج: كاتبوا. (2) في ى: أمر الناس. (3) راجع ج 2 ص 216 وما بعدها. (*)
[ 196 ]
فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (لما تصف) ما هاهنا مصدرية، أي لوصف. وقيل: اللام لام سبب وأجل، أي لا تقولوا لاجل وصفكم " الكذب " بنزع الحافض، أي لما تصف ألسنتكم من الكذب. وقرئ. " الكذب " بضم الكاف والذال والياء، نعتا " لما "، التقدير: ولا تقولوا للكذب الذى تصفه ألسنتكم، (هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب). الآية خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب وأحلوا ما في بطون الانعام وإن كان ميتة. فقوله: " هذا حلال " اشارة إلى ميتة بطون الانعام، وكل ما أحلوه. وقوله: " وهذا حرام " إشارة إلى البحائر والسوائب وكل ما حرموه. (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع قليل) أي ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عن قريب. وقال الزجاج: أي متاعهم متاع قليل. وقيل: لهم متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم. الثانية - اسند الدرامى أبو محمد في مسنده: أخبارنا هارون عن حفص عن الاعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول حلال ولا حرام، ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون. قال ابن وهب قال مالك: لم يكن من فتيا الناس ان يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولون اياكم كذا وكذا، ولم اكن لاصنع هذا. ومعنى هذا: ان التحليل وتحريم انما هو لله عزوجل، وليس لاحد ان يقول أو يصرح بهذا في عين من الاعيان، الا ان يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه. وما يؤدى إليه الاجتهاد في انه حرام يقول: انى اكره [ كذا ]. وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من اهل التقوى. فان قيل: فقد قال فيمن قال لزوجته انت على حرام انها حرام ويكون ثلاثا. فالجواب أن مالكا لما سمع على بن ابى طالب يقول انها اقتدى به. وقد يقوى الدليل على التحريم (1) راجع ص 120 من هذا الجزء. (*)
[ 197 ]
عن المجتهد فلا بأس عنه ذلك ان يقول ذلك، كما يقول ان الربا حرام في غير الاعيان السته (1)، وكثيرا ما يطلق مالك رحمه الله، فذلك حرام لا يصلح في الاموال الربويه وفيما خالف المصالح وخرج عن طريق المقاصد لقوة الادلة في ذلك. قوله تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمنهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118) قوله تعالى: " وعلى الذين هادوا " بين ان الانعام والحرث حلال لهذه الامة، فأما اليهود فحرمت عليهم منها اشياء. (حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " أي في سورة الانعام (2). (وما ظلمناهم) أي بتحريم ما حرمنا عليهم، ولكن ظلموا انفسهم فحرمنا عليهم تلك الاشياء عقوبة لهم، كما تقدم في النساء (3). قوله تعالى: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهلة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (119) قوله تعالى: (ثم ان ربك للذين عملوا السوء) أي الشرك، قاله ابن عباس. وقد تقدم في النساء (4). قوله تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين (120) قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) دعا عليه السلام مشركي العرب إلى ملة إبراهيم، إذ كان أباهم وباني البيت الذى به عزهم، والامة: الرجل الجامع للخير، وقد تقدم محامله (5). وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: بلغني أن عبد الله بن مسعود (1) هي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. (2) راجع ج 7 ص 124. (3) راجع ج 6 ص 12. (4) راجع ج 5 ص 92. (5) راجع ج 2 ص 127. (*)
[ 198 ]
قال: يرحم الله معاذا ! كان أمة قانتا. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله عز وجل بهذا إبراهيم عليه السلام. فقال ابن مسعود: إن الامة الذى يعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع. وقد تقدم القنوت في البقرة (1) و " حنيفا " في الانعام (2). قوله تعالى: (شاكرا لانعمه اجتبه وهده إلى صراط مستقيم (121) وءاتينه في الدنيا حسنة. إنه في الاخرة لمن الصلحين (122) قوله تعالى: (شاكرا) أي كان شاكرا. (لانعمه) الانعم جمع نعمة. وقد تقدم. (وأجتباه) أي اختاره. (وهداه إلى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة) قيل: الولد الطيب. وقيل الثناء الحسن. وقيل: النبوة. وقيل: الصلاة مقرونة بالصلاة على محمد عليه السلام في التشهد. وقيل: إنه ليس أهل دين إلا وهم يتولونه. وقيل: بقاء ضيافته وزيارة قبره. وكل ذلك أعطاه الله وزاده صلى الله عليه وسلم. (وإنه في الآخرة لمن الصالحين). " من " بمعنى مع، أي مع الصالحين، لانه كان في الدنيا أيضا مع الصالحين. وقد تقدم هذا في البقرة (3) قوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123) قال ابن عمر: أمر باتباعه في مناسك الحج كما علم إبراهيم جبريل عليهما السلام. وقال الطبري: أمر باتباعه في التبرؤ من الاوثان والتزين بالاسلام. وقيل: أمر باتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه، قاله بعض أصحاب الشافعي على ما حكاه الماوردى. والصحيح الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع، لقوله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (4) ". (1) ج 2 ص 86 وج 3 ص 213. (2) ذكر في الانعام في موضعين، (ج 7 ص 28، 152) ولم يذكر المؤلف اشتقاقه فيهما، وإنما تكلم عليه في سورة البقرة ج 2 ص 139 فراجعه. (3) راجع ج 2 ص 133. (4) راجع ج 6 ص 211. (*)
[ 199 ]
مسألة - في هذه الآية دليل على جواز اتباع الافضل للمفضول - لما تقدم (1) [ إلى الصواب (1) ] - والعمل به، ولا درك (2) على الفاضل في ذلك، لان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الانبياء عليهم السلام، وقد أمر بالاقتداء بهم فقال: " فبهداهم اقتده (3) ". وقال هنا: " ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم ". قوله تعالى: (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون (124) قوله تعالى: (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) أي لم يكن في شرع إبراهيم ولا في دينه، بل كان سمحا لا تغليظ فيه، وكان السبت تغليظا على اليهود في رفض الاعمال وترك التبسيط في المعاش بسبب اختلافهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقال: تفرغوا للعبادة في كل سبعة أيام يوما واحدا. فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فاختاروا الاحد. وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لهم من الاختلاف، فقالت طائفة: إن موسى عليه السلام أمرهم بيوم الجمعة وعينه لهم، وأخبرهم بفضيلته على غيره، فناظروه أن السبت أفضل، فقال الله له: " دعهم وما اختاروا لانفسهم ". وقيل: إن الله تعالى لم يعينه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم في الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت، لان الله تعالى فرغ فيه من الخلق. وعينت النصارى يوم الاحد، لان الله تعالى بدأ فيه بالخلق. فألزم كل منهم ما أداه إليه اجتهاده. وعين الله لهذه الامة يوم الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فكانت خير الامم أمة. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخرون الاولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذى (1) كذا في ى. وفى أ وج وو: في الاصول. (2) الدرك: التبعة. (3) راجع ج 7 ص 35. (*)
[ 200 ]
اختلفوا فيه فهدانا الله له - قال يوم الجمعة - فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى " فقوله: " فهذا يومهم الذى اختلفوا فيه " يقوى قول من قال: إنه لم يعين لهم، فإنه لو عين لهم وعاندوا لما قيل " اختلفوا ". وإنما كان ينبغى أن يقال فخالفوا فيه وعاندوا. ومما يقويه أيضا قوله عليه السلام: " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ". وهذا نص في المعنى. وقد جاء في بعض طرقه " فهذا يومهم الذى فرض الله عليهم اختلفوا فيه ". وهو حجة للقول الاول. وقد روى: " إن الله كتب الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع ". قوله تعالى: (على الذين اختلفوا فيه) يريد في يوم الجمعة كما بيناه، اختلفوا على نبيهم موسى وعيسى. ووجه الاتصال بما قبله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الحق، وحذر الله الامة من الاختلاف عليه فيشدد عليهم كما شدد على اليهود. قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموضعة الحسنة وجد لهم بالتى هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125) فيه مسألة واحدة - هذه الآية نزلت بمكة في وقت الامر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغى أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. فهى محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الاحوال من الكفار ورجى إيمانه بها دون قتال فهى فيه محكمة. والله أعلم. قوله تعالى: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصبرين (126)
[ 201 ]
فيه أربع مسائل: الاولى - أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم احد، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفى كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها من المكى اتصالا حسنا، لانها تتدرج الرتب من الذى يدعى ويوعظ، إلى الذى يجادل، إلى الذى يجازى على فعله. ولكن ما روى الجمهور أثبت، روى الدارقطني عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا ساءه، رأى حمزة قد شق بطنه، واصطلم أنفه، وجدعت أذناه، فقال: " لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدى لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لامثلن مكانه بسبعين رجلا " ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الاذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة - إلى قوله - وأصبر وما صبرك إلا بالله " فصبر. رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبى هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردى عن ابن سيرين ومجاهد. الثانية - واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذى ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك، منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد، واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ". رواه الدارقطني. وقد تقدم هذا في " البقرة " مستوفى (1) (1) راجع ج 2 ص 355. (*)
[ 202 ]
ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأتركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الامر فقال له: " أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ". وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال، لان الخيانة لاحقة في ذلك، وهى رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه، فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له، كما لو تمكن الاخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها " واصبر وما صبرك إلا بالله ". الثالثة - في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " مستوفى (1)، والحمد لله. الرابعة - سمى الله تعالى الاذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب دباجة القول، وهذا بعكس قوله: " ومكروا ومكر الله (2) " وقوله: " الله يستهزئ بهم (3) " فإن الثاني هنا هو المجاز والاول هو الحقيقة، قاله ابن عطية. قوله تعالى: واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128) فيه مسألة واحدة - قال ابن زيد: هي منسوخة بالقتال. وجمهور الناس على أنها محكمة. أي اصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا في المثلة. (ولا تحزن عليهم) أي على قتلى أحد فإنهم صاروا إلى رحمة الله. (ولا تك في ضيق) ضيق جمع ضيقة، قال الشاعر: * كشف الضيقة عنا وفسح (4) * (1) راجع ج 3 ص 355. (2) راجع ج 4 ص 98. (3) راجع ج 1 ص 207 (4) هذا عجز بيت للاعشى. وصدره في اللسان وديوانه: * قلئن ربك من رحمته * (*)
[ 203 ]
وقراءة الجمهور بفتح الضاد. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد، ورويت عن نافع، وهو غلط ممن رواه. قال بعض اللغويين: الكسر والفتح في الضاد لغتان في المصدر. قال الاخفش: الضيق والضيق مصدر ضاق يضيق. والمعنى: لا يضيق صدرك من كفرهم. وقال الفراء: الضيق ما ضاف عنه صدرك، والضيق ما يكون في الذى يتسع ويضيق، مثل الدار والثوب. وقال ابن السكيت: هما سواء، يقال: في صدره ضيق وضيق. القتبى: ضيق مخفف ضيق، أي لا تكن في أمر ضيق فخفف، مثل هين وهين. وقال ابن عرفة: يقال ضاق الرجل إذا بخل، وأضاق إذا افتقر. وقوله: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) أي اتقوا الفواحش والكبائر بالنصر والمعونة والفضل والبر والتأييد. وتقدم معنى الاحسان. وقيل لهزرم بن حبان عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة " ادع إلى سبيل ربك " إلى آخرها. تمت سورة النحل، والحمد لله رب العالمين تفسير سورة الاسراء هذه السورة مكية، إلا ثلاث آيات: قوله عز وجل " وإن كادوا ليستفزونك (2) نزلت حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الانبياء. وقوله عز وجل: " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق ". وقوله تعالى " إن ربك أحاط بالناس " الآية. وقال مقاتل: وقوله عز وجل " إن الذين أوتوا العلم من قبله " الآية. وقال ابن مسعود رضى الله عنه في بنى إسرائيل والكهف [ ومريم ]: إنهن من العتاق الاول، وهن من تلادى، يريد من قديم كسبه. (1) في أسد الغابة: حيان. بالياء. وكذا في ج. وفى التاج وى: حبان. بالموحدة. (2) راجع ص 301، وص 321، وص 281 فما بعد، وص 340 من هذا الجزء. (*)
[ 204 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: سبحن الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد تالحرام إلى المسجد الاقصا الذى باركنا حوله لنريه من ءايتنآ إنه هو السميع البصير (1) فيه ثمان (1) مسائل: الاولى - قوله تعالى: (سبحان) " سبحان " اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن، لانه لا يجرى بوجوه الاعراب، ولا تدخل عليه الالف واللام، ولم يجر منه فعل، ولم ينصرف لان في آخره زائدتين، تقول: سبحت تسبيحا وسبحانا، مثل كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا. ومعناه التنزيه والبراءة لله عز وجل من كل نقص. فهو ذكر عظيم لله تعالى لا يصلح لغيره، فأما قول الشاعر: أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (2) فإنما ذكره على طريق النادر. وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما معنى سبحان الله ؟ فقال: " تنزيه الله من كل سوء ". والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذى من معناه لا من لفظه، إذ لم يجر من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء، واشتمل الصماء (3)، فالتقدير عنده: أنزه الله تنزيها، فوقع " سبحان الله " مكان قولك تنزيها. (1) كذا في جميع الاصول، ويلاحظ أن المسائل ست. (2) البيت للاعشى. يقول هذا لعلمة بن علاثة الجعفري في منافرته لعامر بن الطفيل، وكان الاعمشى قد فضل عامرا وتبرأ من علقمة وفخره على عامر (هن الشنتمرى). (3) القرفصاء: جلسة المحتبى بيديه. والصماء، ضرب من الاشتمال الصماء: أن تجلل جشدك بثوبك نحو شملة الاعراب بأكسيتهم، وهو أن يرد من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الايسر ثم يرده ثانية من خلقه على يده اليمنى وعاتقه الايمن فيغطيهما جميعا. (*)
[ 205 ]
الثانية - قوله تعالى: (أسرى بعبده) " أسرى " فيه لغتان: سرى وأسرى، كسقي وأسقى، كما تقدم (1). قال: أسرت عليه من الجوزاء سارية * تزجى الشمال عليه جامد البرد (2) وقال آخر: حى النضيرة ربة الخدر * أسرت إلى ولم تكن تسرى (3) فجمع بين اللغتين في البيتين. والاسراء: سير الليل، يقال: سريت مسرى وسرى، وأسريت إسراء، قال الشاعر: وليلة ذات ندى سريت * ولم يلتنى من سراها ليت وقيل: أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره، والاول أعرف. الثالثة - قوله تعالى: (بعبده) قال العلماء: لو كان للنبى صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية. وفى معناه أنشدوا: يا قوم قلبى عند زهراء * يعرفه السامع والرائى لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي وقد تقدم (4). قال القشيرى: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية (5)، ألزمه اسم العبودية تواضعا للامة. الرابعة - ثبت الاسراء في جميع مصنفات الحديث، ورى عن الصحابة في كل أقطار الاسلام فهو من المتواتر بهذا الوجه. وذكر النقاش: ممن رواه عشرين صحابيا. روى الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتيت بالبراق وهو دابة أبيض [ طويل ] فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه - قال - فركبته حتى أتيت بيت المقدس - قال - فربطته بالحلقة التى تربط بها الانبياء - قال - ثم دخلت المسجد (1) راجع ج 1 ص 417. (2) البيت للنابغة الذبيانى، من قصيدته التى مطلعها: يا دارمية بالعلياء. (3) البيت لحسان بن ثابت. (4) راجع ج 1 ص 232. (5) في و: اسمه عبد الله (*)
[ 206 ]
فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة - قال - ثم عرج بنا إلى السماء... " وذكر الحديث. ومما ليس في الصحيحين ما خرجه الآجرى والسمرقندي، قال الآجرى عن أبى سعيد الخدرى في قوله تعالى " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله " قال أبو سعيد: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسرى به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل له أذنان يضطربان (1) وهو البراق الذى كانت الانبياء تركبه قبل فركبته فانطلق تقع يداه عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يمينى يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه ثم سمعت نداء عن يسارى يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج ثم أتيت بيت المقدس الاقصى فنزلت عن الدابة فأوثقته في الحلقة التى كانت الانبياء توثق بها ثم دخلت المسجد وصليت فيه فقال لى جبريل عليه السلام ما سمعت يا محمد فقلت نداء عن يمينى يا محمد على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج فقال ذلك داعى اليهود ولو وقفت لتهودت أمتك - قال - ثم سمعت نداء عن يسارى على رسلك حتى أسألك فمضيت ولم أعرج عليه فقال ذلك داعى النصارى أما إنك لو وقفت لتنصرت أمتك - قال - ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة الدنيا رافعة يديها تقول على رسلك فمضيت ولم أعرج عليها فقال تلك الدنيا لو وقفت لاخترت الدنيا على الآخرة - قال - ثم أتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقيل لى خذ فاشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال لى جبريل أصبت الفطرة ولو أنك أخذت الخمر غوت أمتك ثم جاء بالمعراج الذى تعرج فيه أرواح بنى آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أو لم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا حتى أتينا (2) باب السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من هذا ؟ قال: جبريل قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل إليه ؟ (1) في الاصول: " يخطر فان " والتصويب عن الدر المنثور. (2) في ج وووى: انتهينا. (*)
[ 207 ]
قال نعم ففتحوا لى وسلموا على وإذا ملك يحرس السماء يقال له إسماعيل معه سبعون ألف ملك مع كل ملك مائة ألف - قال وما يعلم جنود ربك إلا هو... " وذكر الحديث إلى أن قال: " ثم مضينا إلى السماء الخامسة وإذا أنا بهارون بن عمران المحب في قومه وحوله تبع كثير من أمته فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم وقال طويل اللحية تكاد لحيته تضرب في سرته ثم مضينا إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى فسلم على ورحب بى - فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال - رجل كثير الشعر ولو كان عليه قميصان خرج شعره منهما... " الحديث. وروى البزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بفرس فحمل عليه، كل خطوة منه أقصى بصره... وذكر الحديث. وقد جاء في صفة البراق من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينا أنا نائم في الحجر إذ أتانى آت فحركني برجله فاتبعت الشخص فإذا هو جبريل عليه السلام قائم على باب المسجد معه دابة دون البغل وفوق الحمار وجهها وجه إنسان وخفها خف حافر وذنبها ذنب ثور وعرفها عرف الفرس فلما أدناها منى جبريل عليه السلام نفرت ونفشت عرفها فمسحها جبريل عليه السلام وقال يا برقة لا تنفري من محمد فوالله ما ركبك ملك مقرب ولا نبى مرسل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ولا أكرم على الله منه قالت قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وإنى أحب أن أكون في شفاعته فقلت أنت في شفاعتي إن شاء الله تعالى... " الحديث. وذكر أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري عن أبى سعيد الخدرى قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح الذى وعدنا أن نراه فلم نره إلا الليلة قال فإذا فيها مريم بنت عمران لها سبعون قصرا من لؤلؤ ولام موسى بن عمران سبعون قصرا من مرجانة حمراء مكللة باللؤلؤ أبوابها وأسرتها من عرق واحد فلما عرج المعراج إلى السماء الخامسة وتسبيح أهلها سبحان من جمع بين الثلج والنار من قالها مرة واحدة كان له مثل ثوابهم استفتح الباب جبريل عليه السلام ففتح له فإذا هو بكهل لم ير قط كهل أجمل منه عظيم العينين تضرب لحيته
[ 208 ]
قريبا من سرته قد كان أن تكون شمطه (1) وحوله قوم جلوس يقص عليهم فقلت يا جبريل من هذا قال هارون المحب في قومه.. " وذكر الحديث. فهذه نبذة مختصرة من أحاديث الاسراء خارجة عن الصحيحين، ذكرها أبو الربيع سليمان ابن سبع بكمالها في كتاب (شفاء الصدور) له. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حين الاسراء حين عرج به إلى السماء. واختلفوا في تاريخ الاسراء وهيئة الصلاة، وهل كان إسراء بروحه أو جسده، فهذه ثلاث مسائل تتعلق بالآية، وهى مما ينبغى الوقوف عليها والبحث عنها، وهى أهم من سرد تلك الاحاديث، وأنا أذكر ما وقفت عليه فيها من أقاويل العلماء واختلاف الفقهاء بعون الله تعالى. فأما المسألة الاولى - وهى هل كان إسراء بروحه أو جسده، اختلف في ذلك السلف والخلف، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، ولم يفارق شخصه مضجعه، وأنها كانت رؤيا رأى فيها الحقائق، ورؤيا الانبياء حق. ذهب إلى هذا معاوية وعائشة، وحكى عن الحسن وابن إسحاق. وقالت طائفة: كان الاسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: " سبحا الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى " فجعل المسجد الاقصى غاية الاسراء. قالوا: ولو كان الاسراء بجسده إلى زائد على المسجد الاقصى لذكره، فإنه كان يكون أبلغ في المدح. وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه كان إسراء بالجسد وفى اليقظة، وأنه ركب البراق بمكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه ثم أسرى بجسده. وعلى هذا تدل الاخبار التى أشرنا إليها والآية. وليس في الاسراء بجسده وحال يقظته استحالة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، ولو كان مناما لقال بروح عبده ولم يقل بعبده. وقوله " ما زاغ البصر وما طغى (2) " يدل على ذلك. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس (1) الشمط في الشعر: اختلافه بلونين من سواد وبياض. (2) راجع ج 17 ص 92. (*)
[ 209 ]
فيكذبوك، والافضل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر، وقد قال له المشركون: إن كنت صادقا فخبرنا عن عيرنا ابن لقيتها ؟ قال: " بمكان كذا وكذا مررت عليها ففزع فلان " فقيل له: ما رأيت يا فلان، قال: ما رأيت شيئا ! غير أن الابل قد نفرت. قالوا: فأخبرنا متى تأتينا العير ؟ قال: " تأتيكم يوم كذا وكذا ". قالوا: أية ساعة ؟ قال: " ما أدرى، طلوع الشمس من ها هنا أسرع أم طلوع العير من ها هنا ". فقال رجل: ذلك اليوم ؟ هذه الشمس قد طلعت. وقال رجل: هذه عيركم قد طلعت، واستخبروا النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة بيت المقدس فوصفه لهم ولم يكن رآه قبل ذلك. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رأيتنى في الحجر وقريش تسألني عن مسراى فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها (1) فكربت كربا ما كربت مثله قط - قال - فرفعه الله لى أنظر إليه فما سألوني عن شئ إلا أنبأتهم به " الحديث. وقد اعترض قول عائشة ومعاوية " إنما أسرى بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم " بأنها كانت صغيرة لم تشاهد، ولا حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما معاوية فكان كافرا في ذلك الوقت غير مستشهد للحال، ولم يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا فليقف على " كتاب الشفاء " للقاضى عياض يجد من ذلك الشفاء. وقد احتج لعائشة بقوله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس (2) " فسماها رؤيا. وهذا يرده قوله تعالى: " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا " ولا يقال في النوم أسرى. وأيضا فقد يقال لرؤية العين: رؤيا، على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وفى نصوص الاخبار الثابتة دلالة واضحة على أن الاسراء كان بالبدن، وإذا ورد الخبر بشئ هو مجوز في العقل في قدرة الله تعالى فلا طريق إلى الانكار، لا سيما في زمن خرق العوائد، وقد كان للنبى صلى الله عليه وسلم معارج، فلا يبعد أن يكون البعض بالرؤيا، وعليه يحمل قوله عليه السلام في الصحيح: " بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان " الحديث. ويحتمل أن يرد من الاسراء إلى نوم. والله أعلم. (1) أي لم أعرفها حق، يقال: أثبت الشئ وثابته إذا عرفه حق المعرفة. (2) راجع ص 282 من هذا الجزء. (*)
[ 210 ]
المسألة الثانية (1) - في تاريخ الاسراء، وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، واختلف في ذلك على ابن شهاب، فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسرى به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام. وروى عن الوقاصى قال: أسرى به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الاسلام بمكة في القبائل. وروى عنه يونس بن بكير قال: صلت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتى. قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الاسراء كان قبل الهجرة بأعوام، لان خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بثلاث وقيل بأربع. وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربى: أسرى به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال أبو بكر محمد بن على ابن القاسم الذهبي في تاريخه: أسرى به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبي، ولم يسند قول إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم. المسألة الثالثة (1) - وأما فرض الصلاة وهيئتها حين فرضت، فلا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الاسراء حين عرج به إلى السماء، وذلك منصوص في الصحيح وغيره. وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروى عن عائشة رضى الله عنها أنها فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا، وأقرت صلاة السفر على ركعتين. وبذلك قال الشعبى وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق. قال الشعبى: إلا المغرب. قال يونس بن بكير: وقال ابن إسحاق ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعنى في الاسراء فهمز له بعقبه في ناحية (1) في ج: المسألة الخامسة، والمسألة السادسة بدل المسألة الثانية والثالثة. فيكون الترقيم على ما قال المصنف أولا: ثمان مسائل. (*)
[ 211 ]
الوادي فانفجرت عين ماء فتوضأ جبريل ومحمد ينظر عليهما السلام فوضأ وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلى ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء. وروى عن ابن عباس أنها فرضت في الحضر أربعا وفى السفر ركعتين. وكذلك قال نافع بن جبير والحسن بن أبى الحسن البصري، وهو قول ابن جريج، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك. ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الاسراء عند الزوال، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها. وروى يونس بن بكير عن سالم مولى أبى المهاجر قال سمعت ميمون بن مهران يقول: كان أول الصلاة مثنى، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا فصارت سنه، وأقرت الصلاة للمسافر وهى تمام. قال أبو عمر: وهذا إسناد لا يحتج بمثله، وقوله: " فصارت سنة " قول منكر، وكذلك استثناء الشعبى المغرب وحدها ولم يذكر الصبح قول لا معنى له. وقد أجمع المسلمون أن فرض الصلاة في الحضر أربع إلا المغرب والصبح ولا يعرفون غير ذلك عملا ونقلا مستفيضا، ولا يضرهم الاختلاف فيما كان أصل فرضها. الخامسة (1) - قد مضى الكلام في الاذان " آل عمران " (3) " أن أول مسجد وضع في الارض المسجد الحرام، ثم المسجد الاقصى. وأن بينهما أربعين عاما من حديث أبى ذر، وبناء سليمان عليه السلام المسجد الاقصى ودعاؤه له من حديث عبد الله بن عمرو ووجه الجمع في ذلك، فتأمله هناك فلا معنى للاعادة. ونذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس ". خرجه مالك من حديث أبى هريرة. وفيه ما يدل على فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد، لهذا قال العلماء: من نذر صلاة في مسجد (1) في ج هذه المسألة السابعة. (2) راجع ج 6 ص 224. (3) ج 4 ص 137. (*)
[ 212 ]
لا يصل إليه إلا برحلة وراحلة فلا يفعل، ويصلى في مسجده، إلا في الثلاثة المساجد المذكورة فإنه من نذر صلاة فيها خرج إليها. وقد قال مالك وجماعة من أهل العلم فيمن نذر رباطا في ثغر يسده: فإنه يلزمه الوفاء حيث كان الرباط لانه طاعة الله عز وجل. وقد زاد أبو البخترى في هذا الحديث مسجد الجند، ولا يصح وهو موضوع، وقد تقدم في مقدمة الكتاب. السادسة - (1) قوله تعالى: (إلى المسجد الاقصى) سمى الاقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الارض يعظم بالزيارة ثم قال: (الذى باركنا حوله) قيل: بالثمار وبمجاري الانهار. وقيل: بمن دفن حوله من الانبياء والصالحين، وبهذا جعله مقدسا. وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى يا شام أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي " (أصله سام (2) فعرب) (لنريه من آياتنا) هذا من باب تلوين الخطاب والآيات التى أراه الله من العجائب التى أخبر بها الناس، وإسراؤه من مكة إلى المسجد الاقصى في ليلة وهو مسيرة شهر، وعروجه إلى السماء ووصفه الانبياء واحدا واحدا، حسبما ثبت في صحيح مسلم وغيره. (إنه هو السميع البصير) تقدم (3). قوله تعالى: وءاتينا موسى الكتب وجعلنه هدى لبنى إسرءيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (2) أي كرمنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة. " وجعلناه " أي ذلك الكتاب. وقيل موسى. وقيل معنى الكلام: سبحان الذى أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب، فخرج من الغيبة إلى الاخبار عن نفسه عز وجل. وقيل: إن معنى سبحان الذى أسرى بعبده ليلا، معناه أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله: " لنريه من آياتنا " فحمل " وآتينا موسى الكتاب " على المعنى. (ألا تتخذوا) قرأ أبو عمرو " يتخذوا " (1) في ج: المسألة الثامنة. (2) من ى. (3) راجع ج 5 ص 258. (*)
[ 213 ]
بالياء. الباقون بالتاء. فيكون من باب تلوين الخطاب. " وكيلا " أي شريكا، عن مجاهد. وقيل: كفيلا بأمورهم، حكاه الفراء. وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم، قاله الكلبى. وقال الفراء: كافيا، والتقدير: عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا. وقيل: التقدير لئلا تتخذوا. والوكيل: من يوكل إليه الامر. قوله تعالى: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3) أي يا ذرية من حملنا، على النداء، قال مجاهد ورواه عنه ابن أبى نجيح. والمراد بالذرية كل من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الارض، ذكره المهدوى. وقال الماوردى: يعنى موسى وقومه من بنى إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا ليذكرهم نعمة الانجاء من الغرق على آبائهم. وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ " ذرية " بفتح الذال وتشديد الراء والياء. وروى هذه القراءة عامر بن الواجد (1) عن زيد ابن ثابت. وروى عن زيد بن ثابت أيضا " ذرية (1) " بكسر الذال وشد الراء. (والياء (2) ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد لله. كذا روى عنه معمر. وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ من الاكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسى: لانه كان يحمد الله على طعامه. وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لانه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذى أطعمني ولو شاء لاجاعنى، وإذا شرب قال: الحمد لله الذى سقاني ولو شاء لا ظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذى كسانى ولو شاء لاعرانى، و. إذا احتذى قال: الحمد لله الذى حذانى ولو شاء لاحفانى، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذى أخرج عنى الاذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال. وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح. وقيل: يجوز أن يكون (1) كذا في نسخ الاصل، ولم نعثر عليه في المظان. وفى الشواذ: ذرية بالكسر الاصل. (2) من ج. (*)
[ 214 ]
" ذرية " مفعولا ثانيا ل " تتخذوا "، ويكون قوله: " وكيلا " يراد به الجمع فيسوغ ذلك في القراءتين جميعا أعنى الياء والتاء في " تتخذوا ". ويجوز أيضا في القراءتين جميعا أن يكون " ذزية " بدلا من قوله " وكيلا " لانه بمعنى الجمع، فكأنه قال: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعنى وأمدح، والعرب قد تنصب على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في " تتخذوا " في قراءة من قرأ بالياء، ولا يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لان المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من بنى إسرائيل في الوجهين فأما " أن " من قوله: " ألا تتخذوا " فهى على قراءة من قرأ بالياء في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من الاعراب، وتكون " لا " للنهى فيكون خروجا من الخبر إلى النهى. قوله تعالى: وقضينا إلى بنى إسرءيل في الكتب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) قوله تعالى: (وقضينا إلى بنى إسرائيل في الكتاب) وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية " في الكتب " على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع، فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى " قضينا " أعلمنا وأخبرنا، قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا، وأصل القضاء الاحكام للشئ والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا، ولذلك قال: " إلى بنى إسرائيل ". وعلى قول قتادة يكون " إلى " بمعنى على، أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. (لتفسدن) وقرأ ابن عباس " لتفسدن ". عيسى الثقفى " لتفسدن ". والمعنى في القراءتين قريب، لانهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. (في الارض) يريد أرض الشام وبيت المقدس وما والاها. (مرتين ولتعلن) اللام في " لتفسدن ولتعلن " لام قسم مضمر كما تقدم. (علوا كبير) أراد التكبر والبغى والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.
[ 215 ]
قوله تعالى: فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولى بأس شديد فجاسوا خلل الديار وكان وعدا مفعولا (5) قوله تعالى: (فإذا جاء وعد أولاهما) أي أولى المرتين من فسادهم. (بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد) هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر في المرة الاولى حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه، قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الاولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل، ذكره القشيرى أبو نصر. وذكر المهدوى عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبى نجيح عن مجاهد، ذكره النحاس. وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بنى إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بختنصر، فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بختنصر وعظمت الاحداث في بنى إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا، فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم. وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا. وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الاولى قتل شعيانبى الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج (3) أمرهم (1) راجع كتاب قصص الانبياء، المسميب العرائش ص 259 طبع بولاق وتاريخ الطبري ج 2 قسم أول ص 638 وما بعدها طبع أوربا. (2) الجوامع: الاغلال، والواحد جامعة. (3) مرج الامر: فسد واختلط والتبس المخرج فيه. (*)
[ 216 ]
وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم، فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها. وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: " ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار " هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم. وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا، وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبى. وقرأ ابن عباس: " حاسوا " بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل. وقال الجوهرى: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الاخبار أي يطلبها، وكذلك الاجتياس. والجوسان (بالتحريك) الطوفان بالليل، وهو قول أبى عبيدة. وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين، فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن. وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، وأنشد لحسان: ومنا الذى لاقى بسيف محمد * فجاس به الاعداء عرض العساكر وقال قطرب: نزلوا، قال: فجسنا ديارهم عنوة * وأبنا بسادتهم موثقينا (وكان وعدا مفعولا) أي قضاء كائنا لا خلف فيه. قوله تعالى: ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددنكم بأمول وبنين وجعلنكم أكثر نفيرا (6)
[ 217 ]
قوله تعالى: (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) أي الدولة والرجعة، وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. (وأمددناكم بأموال وبنين) حتى عاد أمركم كما كان. (وجعلناكم أكثر نفيرا) أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته، يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد، قال الشاعر: فاكرم بقحطان من والد * وحمير أكرم بقوم نفيرا والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الاولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة. قوله تعالى: إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسئتم فلها فإذا جاء وعد الاخرة ليسئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مدة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) قوله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم) أي نفع إحسانكم عائد عليكم. (وإن أسئتم فلها) أي فعليها، نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال: * فخر صريعا لليدين وللفم (1) * أي على اليدين وعلى الفم. وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعنى وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الاساءة، كقوله تعالى: " بأن ربك أوحى لها (2) " أي إليها. وقيل: فلها الجزاء والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الاساءة. ثم يحتمل أن يكون هذا (1) هذا عجز بيت لربيعة بن مكدم. وصدره: * وهتمت بالرمح الطويل إهانة * وقب هذا البيت: فصرفت راحلة الظعينة نحوه * عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم وبعده: ومنحت آخر بعده جياشة * نجلاء فاغرة كشدق الاضجم وهذه الايات قبلت يوم الظعينة. راجع أمالى القالى ج 2 ص 270 طبع دار الكتب. (2) راجع ج 20 ص 149. (*)
[ 218 ]
خطابا لبنى إسرائيل في أول الامر، أي أسأتم فحل بكم القتل والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال. ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله. أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه. (فإذا جاء وعد الآخرة) من إفسادكم، وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله ملك من بنى إسرائيل يقال له لاخت، قاله القتبى. وقال الطبري: اسمه هردوس، ذكره في التاريخ، حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل. وقال السدى: كان ملك بنى إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الامر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت أمرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك، فحقدت أمها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله، فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب، ففعلت ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل لك، لا تحل لك، فلما أصبح إذا دمه يغلى، فألقى عليه التراب فغلى فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلى، ذكره الثعلبي وغيره. وذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن على قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الانبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بغى، فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا ! حتى بلغها أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى ابنتها وصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملا فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره، ويقول سلينى ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا أسأل إلا رأس يحيى. قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشئ على رءوس الملا ثم لم يمض له نزع من ملكه، ففعلت ذلك. قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى،
[ 219 ]
وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله. قال: فساخت بأمها الارض. قال ابن جدعان: فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا ؟ قلت لا، إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها. قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري (1) فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الاخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه... وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: بعث يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الاخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الاخت قالت لها: إذا دخلت على الملك وقال ألك حاجة فقولي: حاجتى أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلينى سوى هذا ! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على وجه الارض فلم تزل تغلى حتى بعث الله عليهم بختنصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبى. وعن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إنى قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإنى قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا. وعن سمير بن عطيه قال: قتل على الصخرة التى في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التى تلى المحراب (1) راجع ج 3 قسم أول ص 713 طبع أوربا. (*)
[ 220 ]
مما يلى الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن على، وحمرتها بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله، قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (1) ". كله من التاريخ المذكور. واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة، فقيل: بختنصر. وقاله القشيرى أبو نصر، لم يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح، لان قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الاسكندر، وبين الاسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الاخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بختنصر إذ ذاك حيا، فهو الذى قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها. وقال الثعلبي: ومن روى أن بختنصر هو الذى غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والاخبار، لانهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بنى إسرائيل عند قتلهم شعيا وفى عهد إرمياء. قالوا: ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الاسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الاسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين (3) سنة. قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى - وبعض (1) راچع ج 11 ص 88 فما بعد. (2) الذى في تاريخ الطبري: " كيرش " ولم نوفق لتصويبه. (3) في الطبري: " ثلثمائة وثلاث سنين ". راجع ص 718 من القسم الاول. (*)
[ 221 ]
الناس يقول: لما قتلوا زكريا - بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس (1)، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشأم، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهى لئن أظهرني الله على بيت المقدس لاقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلى، فسألهم فقالوا: دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين (2) سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا بنى إسرائيل، أصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته. فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبى منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق الابواب وقال: أخرجوا من كان ها هنا من جيش خردوس، وخلا في بنى إسرائيل وقال: يا نبى الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربى وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقى منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب إنى آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به، فأوحى الله تعالى إلى رأس من رءوس الانبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرنى أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإنى لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الابل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفنى بنى إسرائيل. (1) في ج: جردوش. ولعله تحريف من الناسخ. (2) في تاريخ الطبري ص 721: " منذ ثمنمائة سنة ". (3) زيادة عن تاريخ الطبري. (*)
[ 222 ]
قلت: قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة، وقد كتبناه في (كتاب التذكرة) مقطعا في أبواب في أخبار المهدى، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد ": وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الاصناف. قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الاشياء من بيت المقدس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بنى إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الانبياء سلط الله عليهم بختنصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله: " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا " فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والاطفال وأخذوا الاموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الاصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بنى إسرائيل ويستملكونهم بالخزى والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ من في أيديهم من بنى إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقى من بنى إسرائيل من أيدى المجوس واستنقذ ذلك الحلى الذى كان في بيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم: يا بنى إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله: " عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا " فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله: " فإذا جاء وعد الاخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبير " فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ حلى جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه
[ 223 ]
في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدى فيرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا (1) حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الاولين والآخرين... " وذكر الحديث. قوله تعالى: (فإذا جاء وعد الآخرة) أي من المرتين، وجواب " إذا " محذوف، تقديره بعثناهم، دل عليه " بعثنا " الاول. (ليسوءوا وجوهكم) أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم، ف " ليسوءوا " متعلق بمحذوف، أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة، أي ليذلوهم. وقرأ الكسائي " لنسوء " بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن نفسه معظم، اعتبارا بقوله: " وقضينا وبعثنا ورددنا ". ونحوه عن على. وتصديقها قراءة أبى " لنسوءن " بالنون وحرف التوكيد. وقرأ أبو بكر والاعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر " ليسوء " بالياء على التوحيد وفتح الهمزة، ولها وجهان: أحدهما - ليسوء الله وجوهكم. والثانى - ليسوء الوعد وجوهكم. وقرأ الباقون " ليسوءوا " بالياء وضم الهمزة على الجمع، أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا) أي ليدمروا ويهلكوا. وقال قطرب: يهدموا، قال الشاعر: فما الناس إلا عاملان فعامل * يتبر ما يبنى وآخر رافع (ما علوا) أي غلبوا عليه من بلادكم (تتبيرا). قوله تعالى: عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكفرين حصيرا (8) قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم) وهذا مما أخبروا به في كتابهم. و " عسى " وعد من الله أن يكشف عنهم. و " عسى " من الله واجبة. (أن يرحمكم) بعد انتقامه منكم، وكذلك كان، فكثر عددهم وجعل منهم الملوك. (وإن عدتم عدنا) قال قتادة: (1) كذا في الطبري والدر المنثور. وفى أو ج وووى: يا في. وهذا خصأ لنساخ. (*)
[ 224 ]
فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الجزية بالصغار، وروى عن ابن عباس. وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره. وقال القشيرى: وقد حل العقاب ببنى إسرائيل مرتين على أيدى الكفار، ومرة على أيدى المسلمين. وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم. وعلى هذا يصح قول قتادة. (وجعلنا جهنم للكفرين حصيرا) أي محبسا وسجنا، من الحصر وهو الحبس. قال الجوهرى: يقال حصره يحصره حصرا ضيق عليه وأحاط به. والحصير: الضيق البخيل. والحصير: البارية. والحصير: الجنب، قال الاصمعي: هو ما بين العرق الذى يظهر في جنب البعير والفرس معترضا فما فوقه إلى منقطع الجنب. والحصير: الملك، لانه محجوب. قال لبيد: وقما قم غلب الرقاب كأنهم * جن لدى باب الحصير قيام ويروى (1): * ومقامة غلب الرقاب... * على أن يكون " غلب " بدلا من " مقامة " كأنه قال: ورب غلب الرقاب. وروى عن أبى عبيدة: * لدى طرف الحصير قيام * أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر. والحصير: المحبس، قال الله تعالى: " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ". قال القشيرى: ويقال للذى يفرش حصير، لحصر بعضه على بعض بالنسج. وقال الحسن: أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذى يفرش، لان العرب تسمى البساط الصغير حصيرا. قال الثعلبي: وهو وجه حسن. قوله تعاله: إن هذا القرءان يهدى للتى هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصلحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين لا يؤمنون بالاخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (10) قوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم) لما ذكر المعراج ذكر ما قضى إلى بنى إسرائيل، وكان ذلك دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين أن الكتاب الذى (1) في هامش ج: قال الشيخ المصنف: ويروى: وعصابة. (*)
[ 225 ]
أنزله الله عليه سبب اهتداء. ومعنى (للتى هي أقوم) أي الطريقة التى هي أسد وأعدل وأصوب، ف " التى " نعت لموصوف محذوف، أي الطريقة إلى نص أقوم. وقال الزجاج: للحال التى هي أقوم الحالات، وهى توحيد الله والايمان برسله. وقاله الكلبى والفراء. قوله تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) تقدم (1). (أن لهم) أي بأن لهم. (أجرا كبيرا) أي الجنة. (وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي ويبشرهم بأن لاعدائهم العقاب. والقرآن معظمة وعد ووعيد. وقرأ حمزة والكسائي " ويبشر " مخففا بفتح الياء وضم الشين، وقد ذكر (2). قوله تعالى: ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا (11) قوله تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير) قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللهم أهلكه، ونحوه. (دعاءه بالخير) أي كدعائه ربه أن يهب له العافية، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك. نظيره: " ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير " وقد تقدم (3). وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يدعو ويقول: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (4) ". وقيل: هو أن يدعو في طلب المحظور كما يدعو في طلب المباح، قال الشاعر وهو ابن جامع: أطوف بالبيت فيمن يطوف * وارفع من مئزري المسبل وأسجد بالليل حتى الصباح * واتلو من المحكم المنزل عسى فارج الهم عن يوسف * يسخر لى ربة المحمل (1) راجع ج 1 ص 338. (2) راجع ج 4 ص 75. (3) راجع ج 8 ص 314. (4) راجع ج 7 ص 398 وج 8 ص 315. (*)
[ 226 ]
قال الجوهرى: يقال ما على فلان محمل مثال مجلس أي معتمد. والمحمل أيضا: واحد محامل الحاج. والمحمل مثال المرجل: علاقة السيف. وحذفت الواو من " ويدع الانسان " في اللفظ والحظ ولم تحذف في المعنى لان موضعها رفع فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة، كقوله تعالى: " سندع الزبانية (1) " " ويمح الله الباطل (2) " " وسوف يؤت الله المؤمنين (3) " " يناد المناد (4) " فما تغن النذر (5) ". (وكان الانسان عجولا) أي طبعه العجلة، فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير. وقيل: أشار به إلى آدم عليه السلام حين نهض قبل أن يركب فيه الروح على الكمال. قال سلمان: أول ما خلق الله تعالى من آدم رأسه فجعل ينظر وهو يخلق جسده، فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لم ينفخ فيهما الروح فقال: يا رب عجل قبل الليل، فذلك قوله: " وكان الانسان عجولا ". وقال ابن عباس: لما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فذلك قوله: " وكان الانسان عجولا ". وقال ابن مسعود: لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: " خلق الانسان من عجل (5) " ذكره البيهقى. وفى صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك " وقد تقدم (6). وقيل: سلم عليه السلام أسيرا إلى سودة فبات يئن فسألته فقال: أنيني لشدة القد والاسر، فأرخت من كتافه فلما نامت هرب، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " قطع الله يديك " فلما أصبحت كانت تتوقع الآفة، فقال عليه السلام: " إنى سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلى لانى بشر أغضب كما يغضب البشر " ونزلت الآية، ذكره القشيرى أبو نصر رحمه الله. وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " (1) راجع ج 20 ص 126 (2) راجع ج 16 ص 24. (3) راجع ج 5 ص 425. (4) راجع ج 17 ص 27 وص 128. (5) راجع ج 11 ص 288. (6) راجع ج 1 ص 281. (*)
[ 227 ]
" اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإنى قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفينه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة ". وفى الباب عن عائشة وجابر. وقيل: معنى " وكان الانسان عجولا " أي يؤثر العاجل وإن قل، على الآجل وإن جل. قوله تعالى: وجعلنا الليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية الليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلنه تفصيلا (12) قوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) أي علامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا. والآية فيهما: إقبال كل منهما من حيث لا يعلم، وإدباره إلى حيث لا يعلم. ونقصان أحدهما بزيادة الآخر وبالعكس آية أيضا. وكذلك ضوء النهار وظلمة الليل. وقد مضى هذا. (1). (فمحونا آية الليل) ولم يقل: فمحونا الليل، فلما أضاف الآية إلى الليل والنهار دل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما. و " محونا " معناه طمسنا. وفى الخبر أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وكان كالشمس في النور، والسواد الذى يرى في القمر من أثر المحو. قال ابن عباس: جعل الله الشمس سبعين جزءا والقمر سبعين جزءا، فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس، فالشمس على مائة (وتسع) وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد. وعنه أيضا: خلق الله شمسين من نور عرشه، وجعل ما سبق في علمه أن يكون شمسا مثل الدنيا على قدرها ما بين مشارقها إلى مغاربها، وجعل القمر دون الشمس، فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجهه ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس ضوءه وبقى نوره، فالسواد الذى ترونه في القمر أثر المحو، ولو تركه شمسا لم يعرف الليل من النهار ذكر (1) راجع ج 2 ص 192. (*)
[ 228 ]
عنه الاول الثعلبي، والثانى المهدوى، وسيأتى مرفوعا. وقال على رضى الله عنه وقتادة: يريد بالمحو اللطخة السوداء التى في القمر، ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيتميز به الليل من النهار. (وجعلنا آية النهار مبصرة) أي جعلنا شمسه مضيئة للابصار. قال أبو عمرو بن العلاء: أي يبصر بها. قال الكسائي: وهو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء، وصار بحالة يبصر بها. وقيل: هو كقولهم خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء. ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا، فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء. (لتبتغوا فضلا من ربكم) يريد التصرف في المعاش. ولم يذكر السكون في الليل اكتفاء بما ذكر في النهار. وقد قال في موضع آخر: " هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا (1) " (ولتعلموا عدد السنين والحساب) أي لو لم يفعل ذلك لما عرف الليل من النهار، ولا كان يعرف الحساب والعدد. (وكل شئ فصلناه تفصيلا) أي من أحكام التكليف، وهو كقوله: " تبيانا لكل شئ (2) " " ما فرطنا في الكتاب من شئ (3) ". وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما أبرم الله خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسين فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في علم الله أن يخلقها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الارض فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا كان الاجير يدرى إلى متى يعمل ولا الصائم إلى متى يصوم ولا المرأة كيف تعتد ولا تدرى أوقات الصلوات والحج ولا تحل (4) الديون ولا حين يبذرون ويزرعون ولا متى يسكنون للراحة لابدانهم وكأن الله نظر إلى عباده وهو أرحم بهم من أنفسهم فأرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقى فيه النور فذلك قوله: وجعلنا الليل والنهار آتين " الآية. (1) راجع ج 8 ص 360. (2) راجع ص 164 من هذا الجزء. (3) راجع ج 6 ص 420. (4) في ج وى: محل. (*)
[ 229 ]
قوله تعالى: وكل إنسن ألزمنه طره في عنقه ونخرج له يوم القيمة كتبا يلقه منشورا (13) اقرأ كتبك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (14) قوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق. وقال ابن عباس: " طائره " عمله وما قدر عليه من خير وشر، وهو ملازمه أينما كان. وقال مقاتل والكلبي: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقال مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلا وفى عنقه ورقة فيها مكتوب شقى أو سعيد. وقال الحسن: " ألزمناه طائره " أي شقاوته وسعادته وما كتب له من خير وشر وما طار له من التقدير، أي صار له عند القسمة في الازل. وقيل: أراد به التكليف، أي قدرناه إلتزام (1) الشرع، وهو بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به وينزجر عما زجر به أمكنه ذلك. (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) يعنى كتاب طائره الذى في عنقه. وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد: " طيره " بغير ألف، ومنه ما روى في الخبر اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا رب غيرك ". وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد وابن محيصن وأبو جعفر ويعقوب " ويخرج " بفتح الياء وضم الراء، على معنى ويخرج له الطائر كتابا، ف " كتابا " منصوب على الحال. ويحتمل أن يكون المعنى: ويخرج الطائر فيصير كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب " ويخرج " بضم الياء وكسر الراء، وروى عن مجاهد، أي يخرج الله. وقرأ شيبة ومحمد بن السميقع، وروى أيضا عن أبى جعفر: " ويخرج " بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول، ومعناه: ويخرج له الطائر كتابا. الباقون " ونخرج " بنون مضمومة وكسر الراء، أي ونحن نخرج. احتج أبو عمرو في هذه القراءة بقوله " ألزمناه ". وقرأ أبو جعفر والحسن وابن عامر " يلقاه " بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، بمعنى يؤتاه. الباقون بفتح الياء خفيفة، أي يراه منشورا. وقال " منشورا " تعجيلا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسيئة. قال (1) من ى، وفى أو ح: قدرناه إلزام، وفى ج: قلدناه إلزام. (*)
[ 230 ]
أبو السوار العدوى وقرأ هده الآية. " وكل إنسان ألزمناه زائره في عنقه " قال: هما نشرتان وزية، أما ماحييت يابن آدم فصحيتك المنشورة فأمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت. (اقرأ كتابك) قال الحسن: يقرأ الانسان كتابه أميا كان أو غير أمي. (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) أي محاسبا. وقال بعض الصلحاء: هذا كتاب، لسانك قلمه، وريقك مداده، وأعضاؤك قرطاسه.، أنت كنت المملى على حفظتك، ما زيد فيه ولا نقص منه، ومتى أنكرت منه شيئا يكون فيه الشاهد منك عليك. قوله تعالى: من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) قوله تعالى: (من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها) أي إنما كل أحد يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضل فعقاب كفره عليه. (ولا تزر وازرة وزر أخرى) تقدم في الانعام (1). وقا ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة، قال لاهل مكة: اتبعون واكفروا بمحمد وعلى أو زاركم، فنزلت هذه الآية، أي إن الوليد لا يحمل آثامكم وإنما إثم كل واحد عليه. يقال: وزر يزر وزرا، ووزرة، أي أثم. والوزر: الثقل المثقل والجمع أوزار، ومنه " يحملون أوزارهم على ظهورهم (2) " أي أثقال ذنوبهم. وقد وزر إذا حمل فهو وازر، ومنه وزير السلطان الذى يحمل ثقل دولته. والهاء في قوله (3) كناية عن النفس، أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، حتى أن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة فتقول: يا بنى ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديى لك سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء، ! فيقول: بلى يا ! أمه فتقول يا بنى ! فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عنى منها ذنبا واحدا ! فيقول: إليك عنى يا أمه ! فإنى بذنبى عنك اليوم مشغول. (1) راجع ج 7 ص 155. (2) راجع ج 6 ص 413. (3) يبدو هنا سقط لفظ وازرة بدليل ما بعدها. (*)
[ 231 ]
مسألة: نزعت عائشة رضى الله عنها بهذه الآية في الرد على ابن عمر حيث قال: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله ". قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لانكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث، فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة: إذا مت فانعينى بما أنا أهله * وشقي على الجيب يا بنت معبد وقال إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وإلى هذا نحا البخاري. وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم داود إلى اعتقاد ظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوحهم، لانه أهمل نهيهم عنه قبل موته وتأديبهم بذلك، فيعذب بتفريطه في ذلك، وبترك ما أمره الله به من قوله: " قوا أنفسكم وأهليكم نارا (1) " لا بذنب غيره، والله أعلم. قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) أي لم نترك الخلق سدى، بل أرسلنا الرسل. وفى هذا دليل على أن الاحكام لا تثبت إلا بالشرع، خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر. وقد تقدم في البقرة القول (2) فيه. والجمهور على أن هذا في حكم الدنيا، أي أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والانذار. وقالت فرقة: هذا عام في الدنيا والآخرة، لقوله تعالى: " كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد (1) جاءنا ". قال ابن عطية: والذى يعطيه النظر أن بعثه آدم عليه السلام بالتوحيد وبث المعتقدات في بنيه مع نصب الادلة الدالة على الصانع مع سلامة الفطر توجب على كل أحد من العالم الايمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك في زمن نوح عليه السلام بعد (1) راجع ج 18 ص 194 وص 212. (2) راجع ج 1 ص 251. (*)
[ 232 ]
غرق الكفار. وهذه الآية أيضا يعطى احتمال ألفاظها نحو هذا في الذين لم تصلهم رسالة، وهم أهل الفترات الذين قد قدر وجودهم بعض أهل العلم. وأما ما روى من أن الله تعالى يبعث إليهم يوم القيامة وإلى المجانين والاطفال فحديث لم يصح، ولا يقتضى ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف. قال المهدوى: وروى عن أبى هريرة أن الله عز وجل يبعث يوم القيامة رسولا إلى أهل الفطرة والابكم والاخرس والاصم، فيطيعه منهم من كان يريد أن يطيعه في الدنيا، وتلا الآية، رواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة، ذكره النحاس. قلت: هذا موقوف، وسيأتى مرفوعا في آخر سورة طه إن شاء الله تعالى، ولا يصح. وقد استدل قوم في أن أهل الجزائر إذا سمعوا بالاسلام وآمنوا فلا تكليف عليهم فيما مضى، وهذا صحيح، ومن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، والله أعلم. قوله تعالى: وإذآ أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنها تدميرا (16) فيه ثلاث مسائل: الاولى - أخبر الله تعالى في الآية التى قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل، لا لانه يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، وخلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى أمر مترفيها بالفسق (1) والظلم فيها فحق عليها القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك (فإنما) هلك بإرادته، فهو الذى يسبب الاسباب ويسوقها إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى. الثانية - قوله تعالى: (أمرنا) قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية، والربيع ومجاهد والحسن " أمرنا " بالتشديد، وهى قراءة على رضى الله عنه، أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم. وقال أبو عثمان النهدي " أمرنا " بتشديد الميم، جعلناهم (1) المحققون على ما قال ابن عباس كما في البحر: أمرناهم فعصوا وفسقوا وسيأتى. وهذا هو المطابق كقوله تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء. أما ما ذكره القرطبى كالزمخشري فيحتاج إلى تأويل. محققة. (2) من ج وى. (*)
[ 233 ]
أمراء مسلطين، وقاله ابن عزيز. وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلى وابن عباس باختلاف عنهما " آمرنا " بالمد والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها، قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وآمرته، لغتان بمعنى كثرته، ومنه الحديث " خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة (1) " أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز: آمرنا وأمرنا بمعنى واحد، أي أكثرنا. وعن الحسن أيضا ويحيى بن يعمر " أمرنا " بالقصر وكسر الميم على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد، وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، قال وأصلها " أأمرنا " فخفف، حكاه المهدوى. وفى الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله (بالكسر) أي أكثره وأمر القوم أي كثروا، قال الشاعر: أمرون لا يرثون سهم القعدد (2) * وآمر الله ماله: (بالمد): الثعلبي: ويقال للشئ الكثير أمر، والفعل منه: أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا. قال ابن مسعود: كنا نقول في الجاهلية للحى إذا كثروا: أمر أمر بنى فلان، قال لبيد: كل بنى حرة مصيرهم * قل وإن أكثرت من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما يصيروا للهلك والنكد (3) (1) السكة: الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة: الملقحة، يقال: أبرت النخلة وأبرتها، فهى مأبورة ومؤبرة. السكة سكة الحرث، والمأبورة المصلحة له. المراد: خير المال نتاج وزرع. (ابن الاثير). (2) هذا عجز بيت للاعشى وصدره: * طرفون ولا دون كل مبارك * الزرف والزريف: الكثير الاباء إلى الجد الاكبر. والقعدد: القليل الاباء إلى الجد الاكبر. (3) يقول: إن غبطوا يوما فأنهم يموتون. و " يهبزوا " ها هنا يموتوا. ويروى: " إن غبطوا يعبطوا " يموتوا عبطة، كأنهم يموتون من غير مرض. (راجع الديوان). في ج وى: والفند. (*)
[ 234 ]
قلت: وفى حديث هرقل الحديث الصحيح: " لقد أمر أمر، ابن أبى كبشة (1)، ليخافه ملك بنى الاصفر " أي كثر. وكله غير متعد ولذلك أنكره الكسائي، والله اعلم. قال المهدوى: ومن قرأ " أمر " فهى لغة، ووجه تعدية " أمر " أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شئ إلى العمارة، فعدى كما عدى عمر. (2) الباقون " أمرنا " من الامر، أي أمرناهم بالطاعة إعذارا وإنذارا وتخويفا ووعيدا. (ففسقوا) أي فأخرجوا عن الطاعة عاصين لنا. (فحق عليهم القول) فوجب عليها الوعيد، عن ابن عباس. وقيل: " أمرنا " جعلناهم أمراء، لان العرب تقول: أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل: معناه بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهى قراءة أ، بزى " بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا " ذكره الماوردى. وحكى النحاس: وقال هارون في قراءة أبى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول ". ويجوز أن يكون " أمرنا " بمعنى أكثرنا، ومنه " خير المال مهرة مأمورة " على ما تقدم. وقال قوم: مأمورة اتباع لمأبورة، كالغدايا والعشايا. وكقوله: " ارجعن مأزورات غير مأجورات ". وعلى هذا لا يقال: أمرهم الله، بمعنى كثرهم، بل يقال: آمره وأمره. واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة العامة. قال أبو عبيد: وإنما اخترنا " أمرنا " لان المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الامر والامارة والكثرة. والمترف: المنعم، وخصوا بالامر لان غيرهم تبع لهم. الثالثة - قوله تعالى: (فدمرناها) أي أستأصلناها بالهلاك. (تدميرا) ذكر المصدر للمبالغة في العذاب الواقع بهم. وفى الصحيح (3) من حديث بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول: " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " وحلق بإصبعه الابهام والتى تليها. قالت: فقلت يارسول الله، أنهلك وفينا * (هامش) (1) يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم " ابن أبى كبشة " شبوه بأبى كبشة، رجل من خزاعة خالف قريشا من عبادة الاوثان. أو هي كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله عليه وسلم منقبل أمه، لانه كان نزع إليه في الشبه. أو كنية زوج حليمة السعدية (2) عمر كفرح. (3) في هامش ج: الصحيحين. خ. (*)
[ 235 ]
الصالحون ؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث ". وقد تقدم الكلام في هذا الباب، وأن المعاصي إذا ظهرت ولم تغير كانت سببا لهلاك (1) الجميع، والله اعلم. قوله تعالى: وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17) أي كم من قوم كفروا حل بهم البوار. يخوف كفار مكة. وقد تقدم القول في القرن في أول سورة الانعام (2)، والحمد لله. (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) " خبيرا " عليما بهم. " بصيرا " يبصر أعمالهم، وقد تقدم (3). قوله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولك كان سعيهم مشكورا (19) قوله تعالى: (من كان يريد العلجلة) يعنى الدنيا، والمراد الدار العاجلة، فعبر بالنعت (4) عن المنعوت. (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) أي لم نعطه منها إلا ما نشاء ثم نؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار. (مذموما مدحورا) أي مطردا مبعدا من رحمة الله. وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الاسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم. وقد تقدم في " هود (5)) أن هذه الآية تقيد الآيات المطلقة، فتأمله. (ومن أراد الآخرة) أي الدار الآخرة. (وسعى لها سعيها) أي عمل لها عملها من الطاعات. (وهو مؤمن) لان الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن. (فأولئك كان سعيهم مشكورا) أي مقبولا غير (1) راجع ج 7 ص 791. (2) راجع ج 6 ص 391. (3) راجع ج 2 ص 35. (4) في ه ج: خ: عن المنعوت بالنعت. (5) راجع ج 9 ص 13. (*)
[ 236 ]
مردود. وقيل: مضاعفا، أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر، وإلى سبعين وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، كما روى عن أبى هريرة وقد قيل له: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله ليجزى على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة " ؟ فقال سمعته يقول: " إن الله ليجزى على الحسنة الواحدة ألفى ألف حسنة ". قوله تعالى: كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا (21) لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذوما مخذولا (22) قوله تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) اعلم أنه يرزق المؤمنين والكافرين. (وما كان عطاء ربك محظورا) أي محبوسا ممنوعا، من حظر يحظر حظرا وحظارا. (ثم قال تعالى: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) في الرزق والعمل، فمن مقل ومكثر. (وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) أي للمؤمنين، فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة، وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شئ منها لم يستدركه فيها. وقوله: (لا تجعل مع الله إلها أخر) الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وقيل: الخطاب للانسان. (فتقعد) أي تبقى. (مذموما مخذولا) لا ناصر لك ولا وليا. قوله تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسنا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربى ارحمهما كما ربياني صغيرا (24)
[ 237 ]
فيه ست عشرة مسألة: الاولى - (قضى) أي أمر وألزوم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: ليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر. وفى مصحف ابن مسعود " ووصى " وهى قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلى وغيرهما، وكذلك عند أبى بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو " ووصى ربك " فالتصقت إحدى الواوين فقرئت " وقضى ربك " إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم " وصى بقضى " حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا، قال الله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك (1) " ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك. وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الامر، كقوله تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " معناه أمر. والقضاء بمعنى الخلق، كقوله: " فقضاهن سبع سموات في يومين (2) " يعنى خلقهن. والقضاء بمعنى الحكم، كقوله تعالى: " فاقض ما أنت قاض (3) " يعنى احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ، كقوله: " قضى الامر الذى فيه تستفتيان (4) ". أي فرغ منه، ومنه قوله تعالى " فإذا قضيتم مناسككم (5) ". وقوله تعالى: " فإذا قضيت الصلاة (6) ". والقضاء بمعنى الارادة، كقوله تعالى: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (7) ". والقضاء بمعنى العهد، كقوله تعالى: " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر (8) ". فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله، لانه إن أريد به الامر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لان الله تعالى لم يأمر بها، (1) راجع ج 16 ص 9. (2) راجع ج 15 ص 342. (3) راجع ج 11 ص 225. (4) راجع ج 9 ص 193. (5) راجع ج 2 ص 431. (6) راجع ج 18 ص 108. (7) راجع ج 4 ص، 92 (8) راجع ج 13 ص 291. (*)
[ 238 ]
فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا. فقال: إنك قد عصيت ربك وبانت منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك على ! فقال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك أي ما أمر الله به، وقرأ هذه الآية: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ". الثانية - أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ". وقال: " أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير (1) ". وفى صحيح البخاري عن عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال: " الصلاة على وقتها " قال: ثم أي ؟ قال: " ثم بر الوالدين " قال ثم أي ؟ قال: " الجهاد في سبيل الله " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الاعمال بعد الصلاة التى هي أعظم دعائم الاسلام. ورتب ذلك " بثم " التى تعطى الترتيب والمهلة. الثالثة - من البر بهما والاحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما، فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة، ففى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من الكبائر شتم الرجل والديه " قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال " نعم. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه ". الرابعة - عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمرا أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه، إذا لم يكن ذلك الامر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته. (1) راجع ج 14 ص 65. (*)
[ 239 ]
الخامسة - روى الترمذي عن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبى يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: " يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك ". قال هذا حديث حسن صحيح. السادسة - روى الصحيح عن أبى هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: " أمك " قال: ثم من ؟ قال: " ثم أمك " قال: ثم من ؟ قال: " ثم أمك " قال: ثم من ؟ قال: " ثم أبوك ". فهذا الحديث يدل على أن محبة الام والشفقة عليها ينبغى أن تكون ثلاثة أمثال محبة الاب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الام ثلاث مرات وذكر الاب في الرابعة فقط. وإذا توصل (1) هذا المعنى شهد له العيان. وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الام دون الاب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الاب. وروى عن مالك أن رجلا قال له: إن أبى في بلد السودان، وقد كتب إلى أن أقدم عليه، وأمى تمنعني من ذلك، فقال: أطع أباك، ولا تعص أمك. فدل قول مالك هذا أن برهما متساو عنده. وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الام، وزعم أن لها ثلثى البر. وحديث أبى هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسبى في (كتاب الرعاية) له أنه لا خلاف بين العلماء أن للام ثلاثة أرباع البر وللاب الربع، على مقتضى حديث أبى هريرة رضى الله عنه. والله اعلم. السابعة - لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم (2) ". وفى صحيح البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمي وهى مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهى راغبة (3) أفأصلها ؟ قال: " نعم صلى أمك ". (1) كذا في الاصول. (2) راجع ج 18 ص 58 وج 14 ص 63. (3) قوله راغبة: أي راغبة في برى وصلتي، أو راغبة عن الاسلام كارهة له. (*)
[ 240 ]
وروى أيضا عن أسماء قالت: أتتنى أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أأصلها ؟ قال: " نعم ". قال ابن عينية: فأنزل الله عز وجل فيها: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " الاول معلق والثانى مسند. الثامنة - من الاحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما. روى الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: " أحى والداك " ؟ قال نعم. قال: " ففيهما فجاهد ". لفظ مسلم. في غير الصحيح قال: نعم، وتركتهما يبكيان. قال: " اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما ". وفى خبر آخر أنه قال: " نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معى ". ذكره ابن خويز منداد. ولفظ البخاري في كتاب بر الوالدين: أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان فقال: " ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ". قال ابن المنذر: في هذا الحديث النهى عن الخروج بغير إذن الابوين ما لم يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. وذلك بين في حديث أبى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيش الامراء...، فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وابن رواحة وأن منادى وسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بعد ذلك: أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس، اخرجوا فأمدوا (1) إخوانكم ولا يتخلفن أحد " فخرج الناس مشاة وركبانا في حر شديد. فدل قوله: " اخرجوا فأمدوا إخوانكم " أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هما لم يقع النفير، مع قوله عليه السلام: " فإذا استنفرتم فانفروا ". قلت: وفى هذه الاحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الاهم منها. وقد استوفى هذا المعنى المحاسبى في كتاب الرعاية. التاسعة - واختلفوا في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية، فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعي: له أن يغزو (1) في ج: فأيدرا. (*)
[ 241 ]
بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والاجداد آباء، والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم، ولا اعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الاخوة وسائر القرابات. وكان طاوس يرى السعي على الاخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل. العاشرة - من تمام برهما صلة أهل ودهما، ففى الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن من أبر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى ". وروى أبو أسيد وكان بدريا قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فجاءه رجل من الانصار فقال: يا رسول الله، هل بقى من بر والدى من بعد موتهما شئ أبرهما به ؟ قال: " نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التى لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذى بقى عليك ". وكان صلى الله عليه وسلم يهدى لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها وهى زوجته، فما ظنك بالوالدين. الحادية عشرة - قوله تعالى: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) خص حالة الكبر لانها الحالة التى يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لانهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه، فيحتاجان أن يلى منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، فلذلك خص هذه الحالة بالذكر. وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر. وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب فقال: " فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ". روى مسلم عن أبى هريره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه " قيل: من يا رسول الله ؟ قال: " من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة ". وقال البخاري في كتاب الوالدين: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
[ 242 ]
" رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل على. رغم أنف رجل أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ". حدثنا ابن أبى أويس حدثنا أخى عن سليمان بن بلال عن محمد بى هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة السالمى عن أبيه رضى الله عنه قال: إن كعب بن عجرة رضى الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أحضروا المنبر " فلما خرج رقى (إلى) المنبر، فرقى في أول درجة منه قال آمين ثم رقى في الثانية فقال آمين ثم لما رقى في الثالثة قال آمين، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه منك ؟ قال: " وسمعتموه " ؟ قلنا نعم. قال: " إن جبريل عليه السلام اعترض قال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رقيت في الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بعد من أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين ". حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنسا رضى الله عنه يقول: ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال آمين، ثم استوى وجلس فقال أصحابه: يا رسول الله، علام أمنت ؟ قال: " أتانى جبريل عليه السلام فقال رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين " الحديث. فالسعيد الذى يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك. والشقى من عقهما، لا سيما من بلغه الامر ببرهما. الثانية عشرة - قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم. وعن أبى رجاء العطاردي قال: الاف الكلام القذع الردئ الخفى. وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذى رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف. والآية أعم من هذا. والاف والتف وسخ الاظفار. ويقال لكل ما يضجر ويستثقل: أف له. قال الازهرى: والتف أيضا الشئ الحقير. وقرئ " أف " منؤنا
[ 243 ]
مخفوض، كما تخفض الاصوات وتنون، تقول: صه ومه. وفيه عشر لغات: أف، وإف، وأف، وأفا وأف، وأفه، وإف لك (بكسر الهمزة)، وأف (بضم الهمزة وتسكين الفاء)، وأفا (مخففة الفاء). وفى الحديث: " فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف أف ". قال أبو بكر: معناه استقذار لما شم. وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال، أخذ من الاف وهو القليل. وقال القتبى: أصله نفخك الشئ يسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة شئ لتقعد فيه، فقيلت هذه الكلمة لكل مستثقل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الاف وسخ بين الاظفار، والتف قلامتها. وقال الزجاج: معنى أف النتن. وقال الاصمعي: الاف وسخ الاذن، والتف وسخ الاظفار، فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يتأذى به. وروى من حديث على بن أبى طالب وضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو علم الله من العقوق شيئا أردا من " أف " لذكره فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة ". قال علماؤنا: وإنما صارت قولة " أف " للابوين أردأ شئ لانه رفضهما رفض كفر النعمة، وجحد التربية ورد الوصية التى أوصاه في التنزيل. و " أف " كلمة مقولة لكل شئ مرفوض، ولذلك قال إبراهيم لقومه: " أف لكم ولما تعبدون من دون الله (1) " أي رفض لكم ولهذه الاصنام معكم. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (ولا تنهرهما) النهر: الزجر والغلظة. (وقل لهما قولا كريما) أي لينا لطيفا، مثل: يا أبتاه ويا أماه، من غير أن يسميهما ويكنيهما، قال عطاء. وقال ابن البداح (3) التجيبى: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: " وقل لهما قولا كريما " ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب السيد الفظ الغليظ. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للامير والعبيد للسادة، كما أشار إليه سعيد بن (1) راجع ج 11 ص 302. (2) في ى: ينسبها. (3) كذا في الاصول. والذى في ابن جرير والدر المنثور " أبو الهداج ". (*)
[ 244 ]
المسيب. وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده. والذل: هو اللين. وقراءة الجمهور بضم الذال، من ذل يذل ذلا وذلة ومذلة فهو ذال وذليل. وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير " الذل " بكسر الذال، ورويت عن عاصم، من قولهم: دابة ذلول بينة الذل. والذل في الدواب المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الانسان نفسه مع أبويه في خير ذلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب. الخامسة عشرة - الخطاب في هذه الآية للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، إذ لم يكن له عليه السلام في ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذل في قوله تعالى: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (1) " وذكره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده. و " من " في قوله: " من الرحمة " لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس، لا بأن يكون ذلك استعمالا. ويصح أن يكون لانتهاء الغاية، ثم أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم والدعاء لهم، وأن ترحهما كما رحماك وترفق بهما كما رفقا بك، إذ ولياك صغيرا جاهلا محتاجا فأثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذى كنت فيه من الصغر، فتلى منهما ما وليا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم. قال صلى الله عليه وسلم: " لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ". وسيأتى في سورة " مريم (2) " الكلام على هذا الحديث. السادسة عشرة - قوله تعالى (كما ربياني) خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الابوين وتبعهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما، وهذا كله في الابوين المؤمنين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الاموات ولو كانوا أولى قربى، كما تقدم (3). وذكر عن ابن عباس وقتاده أن هذا كله منسوخ بقوله: " ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - إلى قوله - أصحاب الجحيم " فإذا كان والدا المسلم ذميين استعمل (1) راجع ج 13 ص 118 فما بعد. (2) راجع ج 11 ص 159. (3) ج 8 ص 272. (*)
[ 245 ]
معهما ما أمره الله به هاهنا، إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر، لان هذا وحده نسخ بالآية المذكورة. وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهدعاء بالرحمة الدنيوية للابوين المشركين ما داما حيين، كما تقدم. أو يكون عموم هذه الآية خص بتلك، لا رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله: " وقل رب أرحمهما " نزلت في سعد بن أبى وقاص، فإنه أسلم، فألقت أمه نفسها في الرمضاء متجردة، فذكر ذلك لسعد فعال: لتمت، فنزلت الآية. وقيل: الآية خاصة في الدعاء للابوين المسلمين. والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا، وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة وإن واحدا فواحدا. ومن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار وإن واحدا فواحدا " فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه ؟ قال: " وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه ". وقد روينا بالاسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبى أخذ مالى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: " فأتني بأبيك " فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شئ قاله في نفسه ما سمعته أذناه " فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله " ؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي ! فقال له وسول الله صلى الله عليه وسلم: " إيه (1)، دعنا من هذا أخبرني عن شئ قلته في نفسك ما سمعته أذناك " ؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقينا، لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناى. قال: " قل وأنا أسمع " قال قلت: (1) إيه (بكسر الهاء): كلمة استزادة واستنطاق. وإذا قلت " إيها " بالنصب والتنوين فإنما تأمره بالسكوت. وقال ابن سيده: " وإيه (بالكسر) كلمة زجر بمعنى حسبك، وتنؤن فيقال إيها ". وحكى عن الليث: " ايه وايه في الاستزادة والاستنطاق. وإيه وإيها في الزجر، كقولك: أيه حسبك، وإيها حسبك ". (*)
[ 246 ]
غذوتك مولودا ومنتك يافعا * تعل بما أجنى عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت * لسقمك إلا ساهرا أتململ كأنى أنا المطروق دونك بالذى * طرقت به دوني فعينى تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها * لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التى * إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة * كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتى * فعلت كما الجار المصاقب يفعل فأوليتني حق الجوار ولم تكن * على بمال دون مالك تبخل قال: فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: " أنت ومالك لابيك ". قال الطبراني: اللخمى لا يروى - يعنى هذا الحديث - عن ابن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الاسناد، وتفرد به عبيد الله بن خلصة. والله اعلم. قوله تعالى: ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للاوبين غفورا (25) قوله تعالى: (ربكم أعلم بما في نفوسكم) أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء. وقال ابن جبير: يريد البادرة التى تبدر، كالفلتة والزلة، تكون من الرجل إلى أبويه أو أحدهما، لا يريد بذلك بأسا، قال الله تعالى: (إن تكونوا صالحين) أي صادقين في نية البر بالوالدين فإن الله يغفر البادرة. وقوله: (فإنه كان للاوابين غفورا) وعد بالغفران مع شرط الصلاح والاوبة (1) نسبت هذه الابيات في أشعار الحماسة لامية بن أبى الصلت. قال التبريزي: " وتروى لابن الاعلى. وقيل: لابي العباس الاعمى " (2) وفى الاصول: " وصنتك ". وفى أشعار الحماسة: " وعلتك " أي قمت بمؤوتك. و " يافعا " شابا. و " تعل " منعلة يعله، سقاه ثانية. و " أجنى " أكسب. و. تنهل " من أنه له، سقاه أول سقية. (3) في العماسة: إذ اليلة نابتك بالشكو لم أبت * لشكواك......... الخ (*)
[ 247 ]
إلى طاعة الله سبحانه وتعالى. قال سعيد بن المسيب: هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب. وقال ابن عباس رضى الله عنه: الاواب: الحفيظ الذى إذا ذكر خطاياه استغفر منها. وقال عبيد بن عمير: هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء (1) ثم يستغفرون الله عز وجل. وهذه الاقوال متقاربة. وقال عون العقيلى: الاوابون هم الذين يصلون صلاة الضحا. وفى الصحيح: " صلاة الاوابين حين ترمض الفصال (2) ". وحقيقة اللفظ (أنه (3) من آب يؤوب إذا رجع. قوله تعالى: وءات ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشيطين وكان الشيطن لربه كفورا (27) فيه ثلاث مسائل الاولى - قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) أي كما راعيت حق الوالدين فصل الرحم، ثم تصدق على المسكين وابن السبيل. وقال عبن الحسين في قوله تعالى: " وآت ذا القربى حقه ": هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، أمر صلى الله عليه وسلم بإعطائهم حقوقهم من بيت المال، أي من سهم ذوى القربى من الغزو والغنيمة، ويكون خطابا للولاة أو من قام مقامهم. والحق في هذه الآية ما يتعين من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه. الثانية - قوله تعالى: (ولا تبذر) أي لا تسرف في الانفاق في غير حق. قال الشافعي رضى الله عنه: والتبذير إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الاسراف، وهو حرام لقوله تعالى: " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين " وقوله: (1) الخلاء: الخلوة. (2) هي أن تحمى الرمضاء، وهى الرمل، فتبرك الفصال من شدة حرها وإخراقها أخفافها. (3) من ج. (*)
[ 248 ]
" إخوان " يعنى أنهم في حكمهم، إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين، أو أنهم يفعلون ما تسول لهم أنفسهم، أو أنهم يقرنون بهم غدا في النار، ثلاثة أقوال. والاخوان هنا جمع أخ من غير النسب، ومنه قوله تعالى: " إنما المؤمنون (1) إخوة ". وقوله تعالى: (وكان الشيطان لربه كفورا) أي احذروا متابعة والتشبه به في الفساد. والشيطان اسم الجنس. وقرأ الضحاك " إخوان الشيطان " على الانفراد، وكذلك ثبت في مصحف أنس بن مالك رضى الله عنه. الثالثة - من أنفق ماله في الشهوات زائدة على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر. ومن أنفق ربح ماله في شهواته وحفظ الاصل أو الرقبه فليس بمبذر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه في نفقته الدرهم في الحرام، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد. قوله تعالى: وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمه من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28) فيه ثلاث مسائل: الاولى - وهو أنه سبحانه وتعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها). وهو تأديب عجيب وقول لطيف بديع، أي لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر الغنى والقدرة فتحرمهم (2). وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله سبحانه وتعالى فتح باب الخير لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال " فقل لهم قولا ميسورا ". الثانية - في سبب نزولها، قال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم، لانه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، (1) راجع ج 16 ص 322. (2) في ى: والفرار من فتنتهم. ولا يبدو له معنى. (*)
[ 249 ]
فكان يعرض عنهم رغبة في الاجر في منعهم لئلا يعينهم على فسادهم. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها " قال: ليس هذا في ذكر الوالدين، جاء ناس من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحملونه، فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه " فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، فأنزل الله تعالى: " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ". والرحمة الفئ (1). الثالثة - قوله تعالى: (فقل لهم قولا ميسورا) أمره بالدعاء لهم، أي يسر فقرهم عليهم بدعائك لهم. وقيل: ادع لهم دعاء يتضمن الفتح لهم والاصلاح. وقيل: المعنى " وإما تعرضن " أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد فقل لهم قولا ميسورا، أي أحسن القول وأبسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل إذا وجدت فعلت وأكرمت، فإن ذلك يعمل في مسرة نفسه عمل المواساة. وكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل وليس عنده ما يعطى سكت انتظارا لرزق يأتي من الله سبحانه وتعالى كراهة الرد، فنزلت هذه الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وليس عنده ما يعطى قال: " يرزقنا الله وإياكم من فضله ". فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر. وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة. و " قولا ميسورا " أي لينا لطيفا طيبا، مفعول بمعنى الفاعل، من لفظ اليسر كالميمون، أي وعدا جميلا، على ما بيناه. ولقد أحسن من قال: إلا تكن ورق يوما أجود بها * للسائلين فإنى لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي * إما نوالى وإما حسن مردودي تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29) (1) في ج في ه: الغنى. (*)
[ 250 ]
فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) هذا مجاز عبر به عن البخيل الذى لا يقدر من قلبه على إخراج شئ من ماله، فضرب له مثل الغل الذى يمنع من التصرف باليد. وفى صحيح البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت (1) عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره (2) وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت (3) وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة رضى الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) يقول بأصبعيه هكذا في جيبه فلو (5) رأيته يوسعها ولا تتوسع (6). الثانية - قوله تعالى: (ولا تبسط كل البسط) ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها. وهذا كله خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع. وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم. وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الافراط في الانفاق، وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم. وقيل: إن هذا الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الانفاق، وأمره بالاقتصاد. قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي (1) أي أنتشرت عنه الجبة. (2) أي أثر مشية لسبوغها. (3) أي انضمنت وارتفعت. (4) العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وكل ذيك على المجاز والاتساع. (5) في ج وه: وتقد رأيته. (6) جواب لو محذوف، أي لتعجبت. (*)
[ 251 ]
تسألك كذا وكذا. فقال: " ما عندنا اليوم شئ ". قال: فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا. وفى رواية جابر: فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار، فنزلت هذه الآية. وكل هذا في إنفاق الخير. وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم. الثالثة - نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد (1) فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين، لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شئ له، أو لئلا يضيع المنفق عياله. ونحوه من كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع. وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس. الرابعة - قوله تعالى: (فتقعد ملوما محسورا) قال ابن عرفة: يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف، كما يكون البعير الحسير، وهو الذى ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى: " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (2) " أي كليل منقطع. وقال قتادة: أي نادما على ما سلف منك، فجعله من الحسرة، وفيه بعد، لان الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور. والملوم: الذى يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه. قوله تعالى: إن (3) ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (30) (1) الوجد (مثلثة الواو): اليسار والسعة. (2) راجع ج 18 ص 209. (3) هذا الآية لم يتكلم عليها المؤلف ولم تذكر فيالنسخ التى بين أيدينا ولعله تكلم عليها وجصل سقط من النساخ. وعبارة ابن جرير الطبري في كلامه على الآية كما وردت في تفسيره: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن ربك يا محمد يبسط الرزقه لمن يشاء من عباده فيوسع عليه. ويقدر على من يشاء.، ويقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيق عليه: " إنه كان بعباده خبيرا " يقول: إن ربك ذو خبرة بعباده، ومن الذى تصلحه السعة في الرزق وتفسده، ومن الذى يصلحه الاقتار والضيق ويهلكه. " بصيرا " يقول هو ذو بصر بتدبيرهم وسياستهم. ويقول: فانه يا محمد إلى أمرنا فيما أمرناك ونهيناك من بسط يدك فيما تبسطها فيه وفيمن تبسطها له، ومن كفها عمن تكفها عنه وتكفيها فيه، فنحن أعلم بصالح العباد منك ومن جميع الخلق وأبصر بتدبيرهم ". (*)
[ 252 ]
قوله تعالى: ولا تقتلوا أولدكم خشية أملق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا (31) فيه مسألتان: الاولى - قد مضى الكلام في هذه الآية في الانعام، والحمد لله (1). والاملاق: الفقر وعدم الملك. أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات، وهى الحجارة العظام الملس. قال الهذلى يصف صائدا: أتيح لها أقيدر ذو حشيف * إذا سامت على الملقات ساما الواحدة ملقة. والاقيدر تصغير الاقدر، وهو الرجل القصير. والحشيف من الثياب: الخلق. وسامت مرت. وقال شمر: أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده. قال أوس: * وأملق ما عندي خطوب تنبل (2) * الثانية - قوله تعالى: (خطا) " خطئا " قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر. وقرأ ابن عامر " خطأ " بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهى قراءة أبى جعفر يزيد. وهاتان قراءتان مأخوذتان من " خطئ " إذا أتى الذنب على عمد. قال ابن عرفة: يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال: ويقال خطئ في معنى أخطأ. وقال الازهرى: يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ، مثل أثم يأثم إثما. وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ. قال الشاعر: دعينى إنما خطئي وصوبى * على وإن ما أهلكت مال (3) (1) راجع ج 7 ص 30. (2) صدر البيت: * لما رأيت العدم قيد نائلي * (3) في الاصول: " وإن ما أهلكت مالى ". والتصويب عن كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وطبقات الشعراء لابن سلام في ترجمة أوس بن غلفاء، ولسان العرب في مادة " صوب ". وقيل هذا البيت: ألا قالت أمامة يوم غول * تقطع يا بن غلفاء الحبال يقول: وإن الذى أهلكت إنما هو مال، والمال يستخف ولم أتلف عرضا. وغول، وكان كان فيه وقعة للعرب لضبة على بنى كلاب. (راجع معجم ياقوت). (*)
[ 253 ]
والخطأ الاسم يقوم مقام الاخطاء، وهو ضد الصواب. وفيه لغتان: القصر وهو الجيد، والمد وهو قليل، وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما " خطأ " بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو على: هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه، ومنه قول الشاعر: تخاطأت النبل أحشاءه * وأخر (1) يومى فلم أعجل وقول الآخر في وصف مهاة: تخاطأه القناص حتى وجدته * وخرطومه في منقع الماء راسب الجوهرى: تخاطأه أي أخطأه، وقال أوفى بن مطر المازنى: ألا أبلغا خلتى جابرا * وبأن خليلك لم يقتل تخاطأت النبل أحشاءه * وأخر (1) يومى فلم يعجل وقرأ الحسن " خطاء " بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة. قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة وهى غلط غير جائز. وقال أبو الفتح: الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا " خطى " بفتح الخاء والطاء منونة من غير همزة. قوله تعالى: ولا تقربوا الزنى إنه كان فحشة وساء سبيلا (32) فيه مسألة واحدة: قال العلماء: قوله تعالى (ولا تقربوا الزنى) أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى. والزنى يمد ويقصر، لغتان. قال الشاعر: كانت فريضة ما تقول كما * كان الزناء فريضة الرجم و (سبيلا) نصب على التمييز، التقدير: وساء سبيله سبيلا. أي لانه يؤدى إلى النار. والزنى من الكبائر، ولا خلاف فيه وفى قبحه لا سيما بحليلة الجار. وينشأ عنه استخدام ولد الغير (1) أخر: بعنى يتأخر، ويجوز " أخر " بضم الهمزة وشد الخاء مع الكسر. (*)
[ 254 ]
واتخاذه ابنا وغير ذلك من الميرا ث وفساد الانساب باختلاط المياه. وفى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بامرأة م، جح على باب فسطاط فقال: " لعله يريد أن يلم بها " فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمونه وهو لا يحل له ". قوله تعالى: ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطنا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33) قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق) قد مضى الكلام فيه في الانعام (2). قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا). فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما) أي بغير سبب يوجب القتل. (فقد جعلنا لوليه) أي لمستحق دمه.. قال خويز: الولى يجب أن يكون ذكرا، لانه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى: " فقد جعلنا لوليه " ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولى، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر (1) قوله: " اتى بأمرأة " أي مر عليها في بعض أسفاره. و " المحج " (بميم مضمومة وجيم مكسورة وحاء مهملة) صفة لامرأة، وهى الحامل التى قربت ولادتها. وقوله: وقال لعله... الخ فيه حذف تقديره: فسأل عنها فقالوا أمة فلان، أي مسبيته. ومعنى " يلم بها ": أي يطأوها، وكانت حاملا مسبية، لا يحل جماعها حتى تضع. وقوله " كيف يورثه... الخ " معناه.. أنه قد تتأخر ولادتها ستة أشهر، بحيث يحتمل كون الولد من هذا السابى، وحتمل أنه كان ممن قبله، فعلى تقدير كونه من السابى يكون ولدا له ويتوارثان. وعلى تقدير كونه من غير السابى لا يتوارثان هو ولا السابى لعدم القرابة، بل له أستخدامه لانه مملوكه. فتقدير الحديث.. أنه قد يستلحقه ويجعله أبنا له ويورثه معه أنه لا يحل له توريثه لكونه ليس منه، ولا يحل توريثه ومزاحمته لباقي الورثة. وقد يستخدمه أستخدام العبيد ويجعله عبدا يتملكه، ومع أنه لا يحل له ذلك لكونه منه إذا وضعته لمدة محتمله كونه مع كل واحد منهما، فيبجب عليه الامتناع منه وطئها خوفا من هذا المحضور. (راجع شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب النكاح باب تحريم وطأ الحامل المسبية). (2) راجع ج 7 ص 130. (*)
[ 255 ]
وليس لها الاستيفاء. وقال المخالف: إن المراد ها هنا بالولي الوارث، وقد قال تعالى: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (1) "، وقال: " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم (1) من شئ "، وقال: " وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة، وأما ما ذكروه من أن الولى في ظاهره على التذكير وهو واحد، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوى المذكر والمؤنث فيه، وتتمته في كتب الخلاف. (سلطانا) أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية، قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي. وقال ابن وهب قال مالك: السلطان أمر الله. ابن عباس: السلطان الحجة. وقيل: السلطان طلبه حتى يدفع إليه. قال ابن العربي: وهذه الاقوال متقاربة، وأوضحها (2) قول مالك: إنه أمر الله. ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه، فقال ابن القاسم عن مالك وأبى حنيفة: القتل خاصة. وقال أشهب: الخيرة، كما ذكرنا آنفا، وبه قال الشافعي. وقد مضى في سورة " البقرة (3) " هذا المعنى. الثانية - قوله تعالى: (فلا يسرف في القتل) فيه ثلاثة أقوال: لا يقتل غير قاتله، قاله الحسن والضحاك ومجاهد وصعيد بن جبير. الثاني: لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله. الثالث: لا يمثل بالقاتل، قاله طلق بن حبيب، وكله مراد لانه إسراف منهى عنه. وقد مضى في " البقرة (3) " القول في هذا مستوفى. وقرأ الجمهور " يسرف " بالياء، يريد الولى، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " تسرف " بالتاء من فوق، وهى قراءة حذيفة. وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال: هو للقاتل الاول، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل. وقال الطبري: هو على معنى الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والائمة من بعده. أي لا تقتلوا غير القاتل. وفى حرف أبى " فلا تسرفوا في القتل ". (1) راجع ج 8 ص 202 وص 55 وص 58. (2) في ج: أظهرها. (3) راجع ج 2 ص 244 فما بعد. (*)
[ 256 ]
الثالثة - قوله تعالى: (إنه كان منصورا) أي معانا، يعنى الولى. فإن قيل: وكم من ولى مخذول لا يصل إلى حقه. قلنا: المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعهما ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى. وروى ابن كثير عن مجاهد قال: إن المقتول كان منصورا. النحاس: ومعنى قوله إن الله نصره بوليه. وروى أنه في قراءة أبى " فلا تسرفوا في القتل إن ولى المقتول كان منصورا ". قال النحاس: الابين بالياء ويكون للولى، لانه إنما يقال: لا يسرف إن كان له أن يقتل، فهذا للولى. وقد يجوز بالتاء ويكون للولى أيضا، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة. قال الضحاك: هذا أول ما نرل من القرآن في شأن القتل. وهى مكية (1). قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (34) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده) قد مضى الكلام فيه في الانعام (2). الثانية - قوله تعالى: (وأوفوا بالعهد) قد مضى الكلام فيه في غير موضع (3). قال قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد. (إن العهد كان مسئولا) عنه، فحذف، كقوله: " ويفعلون ما يؤمرن (4) " به وقيل: إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه فيقال: لم نقضت ؟ كما تسأل الموءودة تبكيتا لوائدها (5). قوله تعالى: وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا (35) * (هامش) (1) المروى عن الحسن أنها مدينة كما في الالومى. وهو المتبادر لانها عن الاحكام. (2) راجع ج 7 ص 130. (3) راجع ج 1 ص 332. (4) راجع ج 18 ص 196. (5) راجع ج 19 ص 230 فما بعد. (*)
[ 257 ]
فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (وأوفوا الكيل إذا كلتم) تقدم الكلام فيه أيضا في الانعام (1). وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، وقد مضى في سورة " يوسف " فلا معنى للاعادة (2). والقسطاس (بضم القاف وكسرها): الميزان بلغة الروم، قاله ابن عزيز. وقال الزجاج: القسطاس: الميزان صغيرا كان أو كبيرا. وقال مجاهد: القسطاس العدل، وكان يقول: هي لغة رومية، وكأن الناس قيل لهم: زنوا بمعدلة في وزنكم (3). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبى بكر " القسطاس " بضم القاف. وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (القسطاس) (4) (بكسر القاف) وهما لغتان. الثانية - قوله تعالى: (ذلك خير وأحسن تأويلا) أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خير عند ربك (4) وأبرك. (وأحسن تأويلا) أي عاقبة. قال الحسن: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ". قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أو لك كان عنه مسئولا (36) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولا تقف) أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك. قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم، وقاله ابن عباس رضى الله عنهما. قال مجاهد: لا تذم أحدا بما ليس لك به علم، وقاله ابن عباس رضى الله عنهما أيضا. وقال محمد ابن الحنفية: هي شهادة الزور. وقال القتبى: المعنى لا تتبع الحدس (1) راجع ج 7 ص 130. (2) راجع ج 9 ص 254. (3) في أو خ وووى: بمعدلة وفى بمعدلة. (4) في ج: عند الله. (*)
[ 258 ]
والظنون، وكلها متقاربة. وأصل القفو البهت والقذف بالباطل، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفى من أبينا " أي لا نسب أمنا. وقال الكميت: - فلا أرمى البرئ بغير ذنب * ولا أقفو الحواصن إن قفينا يقال: قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفيته إذا اتبعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شئ آخره، ومنه قافية الشعر، لانها تقفو البيت. ومنه اسم النبي صلى الله عليه وسلم المقفى، لانه جاء آخر الانبياء. ومنه القائد، وهو الذى يتبع أثر الشبه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فقوت للاثر، بتقديم الفاء على القاف. ابن عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الالفاظ، كما قالوا: رعملى في لعمري. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الاقوال الكاذبة والرديئة. وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي " تقف " بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الجراح " والفاد (1) " بفتح الفاء، وهى لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره. الثانية - قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة، لانه لما قال: " ولا تقف ما ليس لك به علم " دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الانسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص، لانه ضرب من غلبة الظن، وقد يسمى علما اتساعا. فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالاصل من طريق الشبه. وفى الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: " ألم ترى أن مجززا نظر إلى زيد ابن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الاقدام لمن بعض ". وفى حديث يونس بن يزيد: " وكان مجززا قائفا ". * (هامش) (1) في الشواذ: الفواد بفتح الفاء والواو. والجراح قاضى البصرة. (*)
[ 259 ]
الثالثة - قال الامام أبو عبد الله المازرى: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح. قال القاضى عياض: وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون، وكان أسامة شديد الادمة، وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب، أصابه سباء، حسبما يأتي في سورة " الاحزاب (1) " إن شاء الله تعالى. الرابعة - استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد، بسرور النبي صلى الله عليه وسلم بقول هذا القائف، وما كان عليه السلام بالذى يسر بالباطل ولا يعجبه. ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي صلى الله عليه وسلم الشبه في حديث اللعان، على ما يأتي في سورة " النور (2) " إن شاء الله تعالى. الخامسة - واختلف الآخذون بأقوال القافة، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والاماء أو يختص بأولاد الاماء، على قولين، فالاول: قول الشافعي ومالك رضى الله عنهما في رواية ابن وهب عنه، ومشهور مذهبه قصره على ولد الامة. والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي رضى الله عنه، لان الحديث الذى هو الاصل في الباب إنما وقع في الحرائر، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذى خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه، هذا مما لا يجوز عند الاصوليين. وكذلك اختلف هؤلاء، هل يكتفى بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لانها شهادة، وبالاول قال ابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه. وبالثانى قال مالك والشافعي رضى الله عنهما. السادسة - قوله تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والسمع والبصر عما رأس من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الانسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " (1) راجع ج 14 ص 118. (2) راجع ج 12 ص 191. (*)
[ 260 ]
فالانسان راع على جوارحه، فكأنه قال كل هذه كان الانسان عنه مسئولا، فهو على حذف مضاف. والمعنى الاول أبلغ في الحجة، فإنه يقع تكذيبه من جوارحه، وتلك غاية الخزى، كما قال: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (1) "، وقوله " شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (1) ". وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لانها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسئولة، فهى حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها بأولئك. وقال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى: " رأيتهم لى ساجدين ": إنما قال: " رأيتهم " في نجوم، لانه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل، وقد تقدم (2). وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك، وأنشد هو والطبري: ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الايام وهذا أمر يوقف عنده. وأما البيت فالرواية فيه " الاقوام " والله اعلم. قوله تعالى: ولا تمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا (37) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (38) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولا تمش في الارض مرحا) هذا نهى عن الخيلاء وأمر بالتواضع. والمرح: شدة الفرح. وقيل: التكبر في المشى. وقيل: تجاوز الانسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشى. وقيل: هو البطر والاشر. وقيل: هو النشاط وهذه الاقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود، فالتكبر والبطر والخيلاء وتجاوز الانسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما، ففى الحديث الصحيح " لله أفرج بتوبة العبد من رجل... " الحديث. والكسل (1) راجع ج 15 ص 48، وص 349. (2) راجع ج 9 ص 122. (*)
[ 261 ]
مذموم شرعا والنشاط ضده. وقد يكون التكبر وما في معناه محمودا، وذلك على أعداء الله والظلمة. أسند أبو حاتم بن حبان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من الغيرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التى يحب الله الغيرة في الدين والغيرة التى يبغض الله الغيرة في غير دينه والخيلاء التى يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذى يبغض الله الخيلاء في الباطل " وأخرجه أبو داود في مصنفه وغيره. وأنشدوا: ولا تمش فوق الارض إلا تواضعا * فكم تحتها قوم هموا منك أرفع وإن كنت في عذ وحرز ومنعة * فكم مات من قوم هموا منك أمنع الثانية - إقبال الانسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر (1) والساعة من يومه، ويجم فيها نفسه في التطرح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية. قوله تعالى: " مرحا " قراءة الجمهور بفتح الراء. وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء اسم الفاعل. والاول أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركضا أبلغ من قولك: جاء زيد راكضا، فكذلك قولك مرحا. والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مرحا. الثالثة - قوله تعالى: (إنك لن تخرق الارض) يعنى لن تتولج باطنها فتعلم ما فيها (ولن تبلغ الجبال طولا) أي لن تساوى الجبال بطولك ولا تطاولك. ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الارض قطعها. والخرق: الواسع من الارض. أي لن تخرق الارض بكبرك ومشيك عليها. (ولن تبلغ الجبال طولا) بعظمتك، أي مقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محلط بك من تحتك ومن فوقك. والمحاط محصور ضعيف، لا يليق بك (1) في ح: " في اليوم البارد ". (*)
[ 262 ]
التكبر والمراد بخرق الارض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة، والله اعلم. وقال الازهرى: معناه لن تقطعها. النحاس: وهذا أبين، لانه مأخوذ من الخرق وهى الصحراء الواسعة. ويقال: فلان أخرق من فلان، أي أكثر سفرا وعزة ومنعة. ويروى أن سبأ دوخ الارض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى - وبه سمى سبأ - ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إنى لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس، فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح، نعوذ بالله من ذلك. الرابعة - قوله تعالى: (كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها) " ذلك " إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه. " ذلك " يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزه والكسائي ومسروق " سيئة " على إضافة سيئ إلى الضمير، ولذلك قال: " مكروها " نصب على خبر كان. والسئ: هو المكروه، وهو الذى لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآى من قوله: " وقضى ربك - إلى قوله - كان سيئة " مأمورات بها ومنهيات عنها، فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهى عنه. واختار هذه القراءة أبو عبيد. ولان في قراءة أبى. " كل ذلك كان سيئاته " فهذه لا تكون إلا للاضافة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " سيئة " بالتنوين، أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة. وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله: " وأحسن تأويلا " ثم قال: " ولا تقف ما ليس لك به علم "، " ولا تمش "، ثم قال: " كل ذلك كان سيئة " بالتنوين. وقيل: إن قوله: " ولا تقتلوا أولادكم " إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه، فجعلوا " كلا " محيطا بالمنهى عنه دون غيره. وقوله: " مكروها " ليس نعتا لسيئة، بل هو بدل منه، والتقدير: كان سيئة وكان مكروها. وقد قيل: إن " مكروها " خبر ثان لكان حمل على لفظه كل، و " سيئة " محمول على المعنى في جميع هذه الاشياء المذكورة قبل. وقال بعضهم: وهو نعت لسيئة، لانه لما كان (1) في ج وى: كأنه. (*)
[ 263 ]
تأنيثها غير حقيقي جاز أن توصف بمذكر. وضعف أبو على الفارسى هذا وقال: إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغى أن يكون مبعده مذكرا، وإنما التساهل أن يتقدم الفعل المسند إلى المؤنث وهو في صيغة ما يسند إلى المذكر، ألا ترى قول الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها مستقبح عندهم. ولو قال قائل: أبقل أرض لم يكن قبيحا. قال أبو على: ولكن يجوز في قوله " مكروها " أن يكون بدلا من " سيئة ". ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذى في " عند ربك " ويكون " عند ربك " في موضع الصفة لسيئة. الخامسة - استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه. قال الامام أبو الوفاء ابن عقيل: قد نص القرآن على النهى عن الرقص فقال: " ولا تمش في الارض مرحا " وذم المختال. والرقص أشد المرح والبطر. أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقها في الاطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعها. فما أقبح من ذى لحية، وكيف إذا كان شبيه، يرقص ويصفق على إيقاع الالحان والقضبان، وخصوصا إن كانت أصوات ينسوان ومردان، وهل يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط، صم هو إلى إحدى الدارين، يشمس (1) بالرقص شمس البهائم، ويصفق تصفيق النسوان، و (الله (2)) لقد رأيت مشايخ في عمرى ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخاطتي لهم. وقال أبو الفرج ابن الجوزى رحمه الله: ولقد حدثنى بعض المشايخ عن الامام الغزالي رضى الله عنه أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا بالعب. وسيأتى لهذا الباب مزيد بيان في " الكهف (3) " وغيرها (4) إن شاء الله تعالى. (1) شمست الدابة شردت وجمعت. (2) من ج وى. (3) راجع ص 365 من هذا الجزء. (4) راجع ج 14 ص 51 فما بعد. (*)
[ 264 ]
قوله تعالى: ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تعجل مع الله إلهاء اخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا (39) الاشارة " بذلك " إلى هذه الآداب والقصص والاحكام التى تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التى نزل بها جبريل عليه السلام. أي هذه من الافعال المحكمة التى تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الاخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والافعال الفاضلة. ثم عطف قوله " ولا تجعل " على ما تقدم من النواهي. والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم المراد كل من سمع الآية من البشر. والمدحور: المهان المبعد المقصى. وقد تقدم في هذه السورة (1). ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان، أي أبعده. قوله تعالى: أفأصفكم ربكم بالنبيين واتخذ من الملكة إنثا إنكم لتقولون قولا عظيما (40) هذا يرد على من قال من العرب: الملائكة بنات الله، وكان هم بنات أيضا مع النبيين، ولكنه أراد: أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه. (إنكم لتقولون قولا عظيما) أي في الاثم عند الله عز وجل. قوله تعالى: ولقد صرفنا في هذا القرءان ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا (41) قوله تعالى: (ولقد صرفنا) أي بينا. وقيل كررنا. (في هذا القرآن) قيل: " في " زائدة، والتقدير: ولقد صرفنا هذا القرآن، مثل: " وأصلح لى في ذريتي (2) " أي أصلح ذريتي. والتصريف: صرف الشئ من جهة إلى جهة. والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير. وقيل: المغايرة، أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا. وقراءة العامة " صرفنا " (1) راجع ص 235 من هذا الجزء. (2) راجع ج 16 ص 195. (*)
[ 265 ]
بالتشديد على التكثير حيث وقع. وقرأ الحسن بالتخفيف. وقوله: " في هذا القرآن " يعنى الامثال والعبر والحكم والمواعظ والاحكام والاعلام قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الامام الشيخ أبى الطيب: لقوله تعالى: " صرفنا " معنيان، أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الافعال من الماضي والمستقبل والامر والنهى والفعل والفاعل والمفعول ونحوها. والثانى أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما، نحو قوله " وقرآنا فرقناه (1) " ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك. (ليذكروا) قراءة يحيى والاعمش وحمزة والكسائي " ليذكروا " مخففا، وكذلك في الفرقان " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا (2) ". الباقون بالتشديد. واختاره أبو عبيد، لان معناه ليتذكروا وليتعظوا. قال المهدوى: من شدد " ليذكروا " أراد التدبر. وكذلك من قرأ " ليذكروا ". ونظير الاول " ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (2) " والثانى - " واذكروا ما فيه (3) " (وما يزيدهم) أي التصريف والتذكير. (إلا نفورا) أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار، وذلك لانهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر. قوله تعالى: قل لو كان معه ءالهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذى العرش سبيلا (2) سبحنه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (43) قوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة) هذا متصل بقوله تعالى: " ولا تجعل مع الله إلها آخر " وهو رد على عباد الاصنام. (كما يقولون) قرأ ابن كثير وحفص " يقولون " بالياء. الباقون " تقولون " بالتاء على الخطاب. (إذا لابتغوا) يعنى الآلهة. (إلى ذى العرش سبيلا) قال ابن العباس رضى الله تعالى عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقال سعيد بن جبير رضى الله تعالى عنه: المعنى إذا لطلبوا (1) راجع ص 139 من هذا الجزء. (2) راجع ج 13 ص 57 وص 294 فما بعد. (3) راجع ج 1 ص 436. (*)
[ 266 ]
طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لانهم شركاؤه. وقال قتادة: المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذى العرش سبيلا، والتمست الزلفة عنده لانهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الاصنام تقربهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الاصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة. (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا) نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به. والتسبيح: التنزيه. وقد تقدم (1). قوله تعالى: تسبح له السموت السبع والارض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44) قوله تعالى: (تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن) أعاد على السموات والارض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله: " ومن فيهن " يريد الملائكة والانس والجن، ثم عم بعد ذلك الاشياء كلها في قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ". واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا، فقالت فرقة: ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شئ على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الاولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله: " لا تفقون " الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الاشياء. وقالت فرقة: قوله " من شئ " عموم، ومعناه الخصوص في كل حى ونام، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والاسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشى للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال: قد كان يسبح مرة، يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا. (1) راجع ج 1 ص 276. (*)
[ 267 ]
قلت: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول " قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ". فقوله عليه الصلاة والسلام. " ما لم ييبسا " إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا. والله اعلم. وفى مسند أبى داود الطيالسي: فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال: " لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلوتهما شئ ". قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس، الاشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالاشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في (كتاب التذكرة) بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك، فإن كل شئ من الجماد وغيره يسبح. قلت: ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى: " واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق (1) "، وقوله: " وإن منها لما يهبط من خشية الله (2) " - على قول مجاهد -، وقوله: " وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا (3) ". وذكر ابن المبارك في (دقائقه) أخبرنا مسعر عن عبد الله بن واصل عن عوف بن عبد الله قال قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل ؟ فإن قال نعم سبه. ثم قرأ عبد الله " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (3) " الآية. قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير. وفيه عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادى بقاع الارض بعضها بعضا. يا جاراه، هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها. وقال رسول الله صلى (1) راجع ج 15 ص 158 فما بعد. (2) راجع ج 1 ص 462 فما بعد. (3) راجع ج 11 ص 155 فما بعد. (*)
[ 268 ]
الله عليه وسلم: " لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة ". رواه ابن ماجه في سننه، ومالك في موطئه من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه. وخرج البخاري عن عبد الله رضى الله عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه: كنا نأكل مع وسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيحه. وفى صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لاعرفه الآن ". قيل: إنه الحجر الاسود، والله اعلم. والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية في شرح العشرينيات النبوية للفادارى رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في مواضع من كتابه. وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شئ من ذلك، فكل شئ يسبح للعموم. وكذا قال النخعي وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب. واحتجوا بالاخبار التى ذكرنا. وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله ! لعدم الادراك منها. وقال الشاعر: تلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت * وتستقر حشا الرائى بترعاد أي يقول من رآها: سبحان خالقها. فالصحيح أن الكل يسبح للاخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأى تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والانطاق بالتسبيح كما ذكرنا. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شئ فالقول به أولى. والله اعلم. وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف " تفقهون " بالتاء لتأنيث الفاعل. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث. (إنه كان حليما) عن ذنوب عباده في الدنيا. (غفورا) للمؤمنين في الآخرة.
[ 269 ]
قوله تعالى: وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا (45) عن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة " تبت يدا أبى لهب (1) " أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفى يدها فهر (2) وهى تقول مذمما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قلينا (3) * والنبى صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضى الله عنه، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها لن تراني " وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال. وقرأ " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ". فوقفت على أبى بكر رضى الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك هجاني ! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهى تقول: قد علمت قريش أنى ابنة سيدها. وقال سعيد بن جبير رضى الله عنه: لما نزلت " تبت يدا أبى لهب وتب " جاءت امرأة أبى لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضى الله عنه، فقال أبو بكر: لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه سيحال بينى وبينها " فلم تره. فقالت لابي بكر: يا أبا بكر، هجانا صاحبك ! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه، فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك ؟ قال: " لا. ما زال ملك ببنى وبينها يسترنى حتى ذهبت ". وقال كعب رضى الله عنه في هذه الآية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التى في الكهف " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا (4) "، والآية في النحل (*) "
[ 270 ]
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم " (1)، والآية التى في الجاثية (2) " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة (3) " الآية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب رضى الله تعالى عنه: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي (4): وهذا الذى يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الرى فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه. قلت: ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله " فهم لا يبصرون (5) ". فإن في السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام على رضى الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس: " يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم. - إلى قوله - وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ". حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب. قلت: ولقد اتفق لى ببلادنا الاندلس بحصن منثور (6) من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أنى هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبى فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترنى عنهما شئ، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا على ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله (7)، يعنون شيطانا. وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يرونى، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك. وقيل: الحجاب (1) راجع ص 191 من هذا الجزء. (2) في أو ج وى: الشريعة. وهى من أسماء الجاثية. (3) راجع ج 16 ص 166 فما بعد. (4) في أوج وى: " الكلبى ". (5) راجع ج 15 ص 9. (6) كذا في الاصول. (7) لفظة فرانسيية، معناها: جنى. ولعله كذلك في لغة اللاتين. (*)
[ 271 ]
المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة، قاله قتادة. وقال الحسن: أي أنهم لاعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية. وقيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل أمرأة أبى لهب وحويطب، فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه، قاله الزجاج وغيره. وهو معنى القول الاول بعينه، وهو الاظهر في الآية، والله اعلم. وقوله: (مستورا) فيه قولان: أحدهما - أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. والثانى: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه، ويكون مستورا به بمعنى ساتر. قوله تعالى: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفئ اذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده ولوا على أدبرهم نفورا (46) قوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة) " أكنة " جمع كنان، وهى ما يستر الشئ. وقد تقدم في " الانعام (1) " (أن يفقهوه) أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الاوامر والنواهي والحكم والمعاني. وهذا رد (2) على القدرية. (وفى آذانهم وقرا) أي صمار وثقلا. وفى الكلام إضمار، أي أن يسمعوه. (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) أي قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن. وقال أبو الجوزاء أوس بن عبد الله: ليس شئ أطرد للشياطين من القلب من قول لا إله إلا الله، ثم تلا " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ". وقال على بن الحسين: هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم. وقد تقدم هذا في البسملة (3). (ولوا على أدبارهم نفورا) قيل: يعنى بذلك المشركين. وقيل: الشياطين. و " نفورا " جمع نافر، مثل شهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فهو منصوب على الحال. ويجوز أن يكون مصدوا على غير الصدر، إذ كان قوله " ولوا " بمعنى نقروا، (1) راجع ج 6 ص 404. (2) في ج: يرد. (3) راجع ج 1 ص 9 فما بعد. (*)
[ 272 ]
قوله تعالى: نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك. وإذ هم نجوى إذ يقول الظلمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (47) قوله تعالى: (نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك) قيل: الباء زائدة في قوله " به " أي يستمعونه. وكانوا يستمعون من النبي صلى عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون: هو ساحر ومسحور، كما أخبر الله تعالى به عنهم، قاله قتادة وغيره. (وإذ هم نجوى) أي متناجون في أمرك. قال قتادة: وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الاولين، وغير ذلك. وقيل: نزلت حين دعا عتبة أشراف قريش إلى طعام صنعه لهم، فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله، فتناجوا، يقولون ساحر ومجنون. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك على ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال: " قولوا لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم " فأبوا، وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور، فنزلت الآية. وقال الزجاج: النجوى اسم للمصدر، أي وإذ هم ذو نجوى، أي سرار. (إذ يقولون الظالمون) أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) أي مطبوبا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه الناس. وقال مجاهد: " مسحورا " أي مخدوعا، مثل قوله: " فأنى تسحرون (1) " أي من أين تخدعون. وقال أبو عبيدة: " مسحورا " معناه أن له سحرا، أي رئة، فهو لا يستغنى عن الطعام والشراب، فهو مثلكم وليس بملك. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره. ولكل من أكل من آدمى وغيره أو شرب مسحور ومسحر. قال لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا * عصافير من هذا الانام المسحر (1) راجع ج 12 ص 144. (*)
[ 273 ]
وقال امرؤ القيس: أرانا موضعين لامر غيب (1) * ونسحر بالطعام وبالشراب أي نغذى ونعلل. وفى الحديث عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: من هذه التى تسامينى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحرى (2). قوله تعالى: انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (48) قوله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الامثال) عجبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر. (فضلوا فلا يستطيعون سبيلا) أي حيلة في صد الناس عنك. وقيل: ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا، أي إلى الهدى. وقيل: مخرجا، لتناقض كلامهم في قولهم: مجنون، ساحر، شاعر. قوله تعالى: وقالوا أءذا كنا عظما ورفتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا (49) قوله تعالى: (أئذا كنا عظاما ورفاتا) أي قالوا وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث: لو لم يكن مسحورا لما قال هذا. قال ابن عباس: الرفات الغبار. مجاهد: التراب. والرفات ما تكسر وبلى من كل شئ، كالفتات والحطام والرضاض، عن أبى عبيدة والكسائي والفراء والاخفش. تقول منه: رفت الشئ رفتا، أي حطم، فهو مرفوت. (أئنا لمبعوثون خلقا جديدا) " أئنا " استفهام والمراد به الجحد والانكار. و " خلقا " نصب لانه مصدر، أي بعثا جديدا. وكان هذا غاية الانكار منهم. (1) أوضع الرجل في السير إذا أسرع. وقوله: " لامر غيب " يريد الموت وأنه قد غيب عناوقته و. نحن نلهى عنه. بالطعام والشراب. (2) تريد أنه مات صلى الله عليه وسلم وهو مسند إلى صدرها وما يحاذي سحرها وهو (الرئة). (*)
[ 274 ]
قوله تعالى: قل كونو حجارة أو حديدا (50) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة فسينقضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (51) قوله تعالى: (قل كونوا حجارة أو حديدا) أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديدا في الشدة والقوة. قال الطبري: أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم. وقال على بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم، إلا أنه خرج مخرج الامر، لانه أبلغ في الالزام. وقيل: معناه لو كنتم حجارة أو حديدا لاعادكم كما بدأكم، ولاماتكم ثم أحياكم. وقال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون. النحاس: وهذا قول حسن، لانهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقروا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديدا لبعثتم كما خلقتم أول مرة. (أو خلقنا مما يكبر في صدوركم) قال مجاهد: يعنى السموات والارض والجبال لعظمها في النفوس. وهو معنى قول قتادة. يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم. وقال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن جبير ومجاهد أيضا وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعنى الموت، لانه ليس شئ أكبر في نفس ابن آدم منه، قال أمية بن أبى الصلت: * وللموت خلق في النفوس فظيع * يقول: إنكم لو خلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لا ميتنكم ولا بعثنكم، لان القدرة التى بها أنشأتكم بها نعيدكم. وهو معنى قوله: (فسيقولون من يعيدنا قل الذى فطركم أول مرة). وفى الحديث أنه " يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ". وقيل: أراد به البعث، لانه كان أكبر في صدورهم، قاله الكلبى. " فطركم " خلقكم وأنشأكم. (فسينقضون إليك رؤوسهم) أي يحركون رؤوسهم استهزاء، يقال:
[ 275 ]
نغض رأسه ينغض وينغض نغضا ونغوضا، أي تحرك. وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشئ، ومنه قوله تعالى: (فسينغضون إليك رؤوسهم). قال الراجز: * أنغض نحوى رأسه وأقنعا * ويقال أيضا: نغض فلان رأسه أي حركه، يتعدى ولا يتعدى، حكاه الاخفش. ويقال: نغضت سنه، أي حركت وانقلعت. قال الراجز: * ونغضت من هرم أسنانها * وقال آخر: لما رأتنى انغضت لى الرأسا وقال آخر: لا ماء في المقراة إن لم تنهض * بمسد فوق المحال النغض المحال والمحالة: البكرة العظيمة التى يستقى بها الابل. (ويقولون متى هو) أي البعث والاعادة وهذا الوقت. (قل عسى أن يكون قريبا) أي هو قريب، لان عسى واحب، نظيره " وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (2) ". و " لعل الساعة قريب (3) ". وكل، ما هو آت فهو قريب. قوله تعالى: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا (52) قوله تعالى: (يوم يدعوكم قتستجيبون بحمده) الدعاء: النداء إلى المحشر بكلام تسمعه الخلائق، يدعوهم الله تعالى فيه بالخروج. وقيل: بالصيحة التى يسمعونها، فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ". (فتستجيبون بحمده) أي باستحقاقه الحمد على الاحياء. (1) أقنع فلان رأسه: وهو أن يرفع بصره ووجه إلى ما حيال رأسه من السماء. (2) راجع ج 14 ص 284. (3) راجع ج 16 ص 15. (*)
[ 276 ]
وقال أبو سهل: أي والحمد لله، كما قال: فإنى بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست، ولا من غدرة أتقنع وقيل: حامد تعالى بألسنتكم. قال سعيد بن جبير: تخرج الكفار من قبورهم وهم يقولوون سبحانك وبحمدك، ولكن لا ينفعهم اعتراف ذلك اليوم. وقال ابن عباس (1): " بحمده " بأمره، أي تقرون بأنه خالقكم. وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقيل: المعنى بقدرته. وقيل: بدعائه إياكم. قال علماؤنا: وهو الصحيح، فإن النفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور، بالحقيقة إنما هو خروج الخلق بدعوة الحق، قال الله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " فيقومون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. قال: فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد ويختم به، قال الله تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " وقال في آخر " وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (2) ". (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) يعنى بين النفختين، وذلك أن العذاب يكف عن المعذبين بين النفختين، وذلك أربعون عاما فينامون، فذلك قوله تعالى: " من بعثنا من مرقدنا (2) " فيكون خاصا للكفار. وقال مجاهد: للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين. وقال قتادة: المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلت حين رأوا يوم القيامة. الحسن: " وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة. قوله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التى هي أحسن أن الشيطن ينزع بينهم إن الشيطن كان للانسن عدوا مبينا (53) قوله تعالى: (وقل لعبادي يقولوا التى هي أحسن) تقدم إعرابه (3). والآية نزلت في عمر بن الخطاب. وذلك أن رجلا من العرب شتمه، وسبه عمر وهم بقتله، فكادت تثير فتنة فأنزل الله تعالى فيه: " وقل لعبادي يقولوا التى هي أحسن " ذكره الثعلبي والماوردي (1) في ج: وسفيان. (2) راجع ج 15 ص 284 وص 39. (3) راجع ج 9 ص 366. (*)
[ 277 ]
وابن عطية والواحدي. وقيل: نزلت لما قال المسلمون: ايذن لنا يا رسول الله في قتالهم فقد طال إيذاؤهم إيانا، فقال: " لم أومر بعد بالقتال " فأنزل الله تعالى: " وقل لعبادي يقولوا التى هي أحسن "، قاله الكلبى. وقيل: المعنى قل لعبادي الذين اعترفوا بأنى خالقهم وهم يعبدون الاصنام، يقولوا التى هي أحسن من كلمة التوحيد والاقرار بالنبوة. وقيل: المعنى وقل لعبادي المؤمنين إذا جادلوا الكفار في التوحيد، أن يقولوا الكلمة التى هي أحسن. كما قال: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (1) ". وقال الحسن: هو أن يقول للكافر إذا تشطط: هداك الله ! يرحمك الله ! وهذا قبل أن أمروا بالجهاد. وقيل: المعنى قل لهم يأمروا بما أمر الله به وينهوا عما نهى الله عنه، وعلى هذا تكون الآية عامة في المؤمن والكافر، أي قل للجميع. والله أعلم. وقالت طائفة: أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصة، بحسن الادب وإلانة القول، وخفض الجناح وإطراح نزغات الشيطان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " وكونوا عباد الله إخوانا ". وهذا أحسن، وتكون الآية محكمة. قوله تعالى: (إن الشيطان ينزغ بينهم) أي بالفساد وإلقاء العداوة والاغواء. وقد تقدم في آخر الاعراف (1) ويوسف (2). يقال: نزغ بيننا أي أفسد، قاله اليزيدى. وقال غيره النزغ الاغراء. (إن الشيطان كان للانسان عدوا مبينا) أي شديد العداوة. وقد تقدم في البقرة (3). وفى الخبر " أن قوما جلسوا يذكرون الله، عز وجل فجاء الشيطان ليقطع مجلسهم فمنعته الملائكة فجاء إلى قوم جلسوا قريبا منهم لا يذكرون الله فحرش بينهم فتخاصموا وتواثبوا فقال هؤلاء الذاكرون قوموا بنا نصلح بين إخواننا فقاموا وقطعوا مجلسهم وفرح بذلك الشيطان ". فهذا من بعض عداوته. (1) راجع ج 7 ص 60 و 347. (2) راجع ج 9 ص 267. (3) راجع ج 2 ص 209. (*)
[ 278 ]
قوله تعالى: ربكم أعلم بكم إن يشاء يرحمكم أو إن يشاء يعذبكم وما أرسلنك عليهم وكيلا (54) قوله تعالى: (ربكم أعلم بكم إن يشاء يرحمكم أو إن يشاء يعذبكم) هذا خطاب للمشركين، والمعنى: إن يشأ يوفقكم للاسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن جريج. و " اعلم " بمعنى عليم، نحو قولهم: الله أكبر، بمعنى كبير. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم، قاله الكلبى. (وما أرسلناك عليهم وكيلا) أي وما وكلناك في منعهم من الكفر ولا جعلنا إليك إيمانهم. وقيل: ما جعلناك كفيلا لهم تؤخذ بهم، قاله الكلبى. وقال الشاعر: ذكرت أبا أروى فبت كأننى * برد الامور الماضيات وكيل أي كفيل. قوله تعالى: وربكم أعلم بمن في السموت والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وءاتينا داود زبورا (55) قوله تعالى: وربك أعلم بمن في السموات والارض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) أعاد بعد أن قال: " ربكم اعلم بكم " ليبين أنه خالقهم وأنه جعلهم مختلفين في أخلاقهم وصورهم وأحوالهم ومالهم " ألا يعلم من خلق (1) ". وكذا النبيون فضل بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم. وقد مضى القول في هذا في " البقرة (2) ". (وآتينا داود زبورا) الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. أي كما آتينا داود الزبور فلا تنكروا أن يؤتى محمد القرآن. وهو في محاجة اليهود. قوله تعالى (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) (1) راجع ج 18 ص 213. (2) راجع ج 3 ص 261 فما بعد. (*)
[ 279 ]
قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية، أي ادعوا الذين تعبدون من دونه وزعمتم أنهم آلهة. وقال الحسن: يعنى الملائكة وعيسى وعزيرا. ابن مسعود: يعنى الجن (فلا يملكون كشف الضرعنكم) أي القحط سبع سنين، على قول مقاتل. (ولا تحويلا) من الفقر إلى الغنى ومن السقم إلى الصحة. قوله تعالى: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57) قوله تعالى: (أولئك الذين يدعون) " أولئك " مبتدأ " الذين " صفة " أولئك " وضمير الصلة محذوف، أي يدعونهم. يعنى أولئك المدعوون. و " يبتغون " خبر، أو يكون حالا، و " الذين يدعون " خبر، أي يدعون إليه عبادا إلى عبادته. وقرأ ابن مسعود " تدعون " بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. ولا خلاف في " يبتغون " أنه بالياء. وفى صحيح مسلم من كتاب التفسير عن عبد الله بن مسعود في قوله عز وجل: " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة " قال: نفر من الجن أسلموا وكانوا يعبدون، فبقى الذين كانوا يعبدون على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجن. في رواية قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون و (الانس (2) الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون، فنزلت " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ". وعنه أيضا أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب، ذكره الماوردى. وقال ابن عباس ومجاهد: عزير وعيسى. و " يبتغون " يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهى الوسيلة. أعلمهم الله تعالى أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم. والهاء والميم في " ربهم " تعود على العابدين أو على المعبودين أو عليهم جميعا. وأما " يدعون " فعلى العابدين. " ويبتغون " على المعبودين. (أيهم أقرب) ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون " أيهم أقرب " (1) من ج وو. (2) زيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 280 ]
بدلا من الضمير في " يبتغون "، والمعنى يبتغى أيهم أقرب الوسيلة إلى الله. (ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا) أي مخوفا لا أما لاحد منه، فينبغي أن يحذر منه ويخاف. وقال سهل بن عبد الله: الرجاء والخوف زمانان على الانسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر. قوله تعالى: وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتب مسطورا (58) قوله تعالى: (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها) أي مخربوها. (قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا) قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب. وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم. فقيل: المعنى وإن من قرية ظالمة، يقوى ذلك قوله: " وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (1) ". أي فليتق المشركون، فإنه ما من قرية كافرة إلا سيحل بها العذاب. (كان ذلك في الكتاب) أي في اللوح. (مسطورا) أي مكتوبا. والسطر: الخط والكتابة وهو في الاصل مصدر. والسطر بالتحريك، مثله. قال جرير: من شاء بايعته مالى وخلعته * ما تكمل التيم (2) في ديوانهم سطرا الخلعة " بضم الخاء ": خيار المال. والسطر جمع أسطار، مثل سبب وأسباب، ثم يجمع على أساطير. وجمع السطر أسطر وسطور، مثل أفلس وفلوس. والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ. قوله تعالى: وما منعنا أن نرسل بالايت إلآ أن كذب بها الاولون وءاتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالايت إلا تخويفا (59) (1) راجع ج 13 ص 301. (2) في ديوان جرير: " ما تكمل الخلج ". (*)
[ 281 ]
قوله تعالى: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون) في الكلام حذف، والتقدير: وما منعنا أن نرسل بالآيات التى اقترحوها إلا أن يكذبوا بها فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم. قال معناه قتادة وابن جريج وغيرهما. فأخر الله تعالى العذاب عن كفار قريش لعلمه أن فيهم من يؤمن وفيهم من يولد مؤمنا. وقد تقدم في " الانعام (1) " وغيرها أنهم طلبوا أن يحول الله لهم الصفا ذهبا وتتنحى الجبال عنهم، فنزل جبريل وقال: " إن شئت كان ما سأل قومك ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا وإن شئت أستأنيت بهم ". فقال: " لا بل استأن بهم ". و " أن " الاولى في محل نصب بوقوع المنع عليهم، و " أن " الثانية في محل رفع. والباء في " بالآيات " زائدة. ومجاز الكلام: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الاولين، والله تعالى لا يكون ممنوعا عن شئ، فالمعنى المبالغة في أنه لا يفعل، فكأنه قد منع عنه. ثم بين ما فعل بمن سأل الآيات فلم يؤمن بها فقال: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة) أي آية دالة مضيئة نيرة على صدق صالح، وعلى قدرة الله تعالى. وقد تقدم (2) ذلك. (فظلموا بها) أي ظلموا بتكذيبها. وقيل: جحدوا بها وكفروا أنها من عند الله فاستأصلهم الله بالعذاب. (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) فيه خمسة أقوال: الاول - العبر والمعجزات التى جعلها الله على أيدى الرسل من دلائل الانذار تخويفا للمكذبين. الثاني - أنها آيات الانتقام تخويفا من المعاصي. الثالث - أنها تقلب الاحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهل ثم إلى مشيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك، وهذا قول أحمد بن حنبل رضى الله عنه. الرابع - القرآن. الخامس - الموت الذريع (3)، قال الحسن. قوله تعالى: وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرء يا التى أرينك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرءان ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغينا كبيرا (60) (1) راجع ج 6 ص 387 وج 9 ص 60. (3) أي السريع الفاش لا يكاد الناس يتدافنون. (*)
[ 282 ]
قوله تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) قال ابن عباس: الناس هنا أهل مكة، وإحاطته بهم إهلاكه إياهم، أي أن الله سيهلكهم. وذكره بلفظ الماضي لتحقق كونه. وعنى بهذا الاهلاك الموعود ما جرى يوم بدر ويوم الفتح. وقيل: معنى " أحاط بالناس " أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، قاله مجاهد وابن أبى نجيح. وقال الكلبى: المعنى أحاط علمه بالناس. وقيل: المراد عصمته من الناس أن يقتلوه حتى يبلغ رسالة ربه، أي وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التبليغ، فبلغ بجدك فإنا نعصمك منهم ونحفظك، فلا تهبهم، وامض لما آمرك به من تبليغ الرسالة، فقدرتنا محيطة بالكل، قال معناه الحسن وعروة وقتادة وغيرهم. قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس) لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ضم إليه ذكر آية الاسراء، وهى المذكورة في صدر السورة. وفى البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس. قال: " والشجرة الملعونة في القرآن " هي شجرة الزقوم. قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح. وبقول ابن عباس قالت عائشة ومعاوية والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبى نجيح وابن زيد. وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسرى به. وقيل: كانت رؤيا نوم. وهذه الآية تقضى بفساده، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها، وما كان أحد لينكرها. وعن ابن عباس قال: الرؤيا التى في هذه الآية هي رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة في سنة الحديبية، فرد فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت الآية، فلما كان العام المقبل دخلها، وأنزل الله تعالى " لقد صدق الله رسوله الرويا بالحق (1) ". وفى هذا التأويل ضعف، لان السورة مكية وتلك الرؤيا كانت بالمدينة. وقال في رواية ثالثة: إنه عليه السلام رأى في المنام بنى مروان ينزون (1) راجع ج 16 ص 289. (*)
[ 283 ]
على منبره نزو القردة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا أعطوها، فسرى عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينة. وهذا التأويل الثالث قاله أيضا سهل بن سعد رضى الله عنه. قال سهل إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات صلى الله عليه وسلم. فنزلت الآية مخبرة أن ذلك من تملكهم وصعودهم يجعلها الله فتنة للناس وامتحانا. وقرأ الحسن بن على في خطبته في شأن بيعته لمعاوية: " وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (1) ". قال ابن عطية: وفى هذا التأويل نظر، ولا يدخل في هذه الرؤيا عثمان ولا عمر بن عبد العزيز ولا معاوية. قوله تعالى: (والشجرة الملعونة في القرآن) فيه تقديم وتأخير، أي ما جعلنا الرؤيا التى أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. وفتنتها أنهم لما خوفوا بها قال أبو جهل استهزاء: هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر، وما نعرف الزقوم إلا التمر والزبد، ثم أمر أبو جهل جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لاصحابه: تزقموا. وقد قيل: إن القائل ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد ابن الزبعرى حيث قال: كثر الله من الزقوم في داركم، فإنه التمر بالزبد بلغة اليمن. وجائز أن يقول كلاهما ذلك. فافتتن أيضا لهذه المقالة بعض الضعفاء، فأخبر الله تعالى نبيه عليه السلام أنه إنما جعل الاسراء وذكر شجرة الزقوم فتنة واختبارا ليكفر من سبق عليه الكفر ويصدق من سبق له الايمان. كما روى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قيل له صبيحة الاسراء: إن صاحبك يزعم أنه جاء البارحة من بيت المقدس فقال: إن كان قال ذلك فلقد صدق. فقيل له: أتصدقه قبل أن تسمع منه ؟ فقال: أبن عقولكم ؟ أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه بخبر بيت المقدس، والسماء أبعد منها بكثير. (1) راجع ج 11 ص 350.
[ 284 ]
قلت: ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، ونصه: قال كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود وأبى سعيد الخدرى وعائشة ومعاوية بن أبى سفيان والحسن بن أبى الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم وأم هانئ بنت أبى طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسرى به صلى الله عليه وسلم، وكان في مسراه وما ذكر عنه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله عز وجل في قدرته وسلطانه فيه عبرة لاولى الالباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله تعالى على يقين، فأسرى به صلى الله عليه وسلم كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التى يصنع بها ما يريد. وكان عبد الله بن مسعود فيما بلغني عنه يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق - وهى الدابة التى كانت تحمل عليها الانبياء قبله تضع حافرها في منتهى طرفها - فحمل عليها، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والارض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية: إناء فيه لبن وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فسمعت قائلا يقول حين عرضت على إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن فهدى وهديت أمته قال فأخذت إناء اللبن فشربت فقال لى جبريل هدديت وهديت أمتك يا محمد ". قال ابن إسحاق: وحدثت عن الحسن أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه السلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا ثم عدت لمضجعي فجاءني الثانية فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فأخذ بعضدي فقمت معه فخرج إلى باب المسجد فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار في فخديه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه فحملني عليه ثم خرج معى لا يفوتنى ولا أفوته ".
[ 285 ]
قال ابن إسحاق: وحدثت عن قتادة أنه قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما دنوت منه لاركبه شمس (1) فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحى يا براق مما تصنع فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال فاستحيا حتى أرفض عرقا ثم قر حتى ركبته ". قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه (جبريل) حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم أتى بإناءين: في أحدهما خمر وفى الآخر لبن، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إناء اللبن فشرب منه وترك إناء الخمر. قال: فقال له جبريل: هديت الفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس: هذا والله الامر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام، مدبرة شهرا ومقبلة شهرا، فيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبى بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة. قال فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى، ها هو ذا في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرني إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الارض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة ؟ قال " نعم " قال: يا نبى الله، فصفه لى فإنى قد جئته ؟ فقال الحسن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رفع لى حتى نظرت إليه " فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لابي بكر ويقول أبو بكر رضى الله عنه: صدقت، أشهد أنك رسول الله. كلما (1) شمست الدابة والقرس تشمس: شردت وجمحت ومنعت ظهرها. (*)
[ 286 ]
وصف له منه شيئا قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. قال: حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي بكر رضى الله عنه: " وأنت يا أبا بكر الصديق " فيومئذ سماه الصديق. قال الحسن: وأنزل الله تعالى فيمن ارتد عن الاسلام لذلك: " وما جعلنا الرويا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة قى القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ". فهذا حديث الحسن عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دخل فيه من حديث قتادة. وذكر باقى الاسراء عمن تقدم في السيرة. وقال ابن عباس: هذه الشجرة بنو أمية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الحكم. وهذا قول ضعيف محدث والسورة مكية، فيبعد هذا التأويل، إلا أن تكون هذه الآية مدنية ولم يثبت ذلك. وقد قالت عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض (1) من لعنة الله. ثم قال: " والشجرة الملعونة في القرآن " ولم يجز في القرآن لعن هذه الشجرة، ولكن الله لعن الكفار وهم آكلوها. والمعنى: والشجرة الملعونة في القرآن آكلوها. ويمكن أن يكون هذا على قول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون. وقال ابن عباس: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التى تلتوى على الشجر فتقتله، يعنى الكشوث. (ونخوفهم) أي بالزقوم. (فما يزيدهم) التخويف إلا الكفر. قوله تعالى: وإذ قلنا للملكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال ءاسجد لمن خلقت طينا (61) قال أرءيتك هذا الذى كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيمة لاحتكن ذريته إلا قليلا (62) قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) تقدم ذكر كون الشيطان عدو الانسان، فانجر الكلام إلى ذكر آدم. والمعنى: اذكر بتمادى هؤلاء المشركين وعتوهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى: (1) هذه عبارة الفخر الرازي. والذى في الاصول: " فأنتقطط من لعنة الله ". والصواب ما في النهاية: فأنت فضض من لعنة. أي قطعة منها. (*)
[ 287 ]
(فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا) أي من طين. وهذا استفهام إنكار. وقد تقدم القول في خلق آدم في " البقرة، والانعام (1) " مستوفى. (قال أرأيتك) أي قال إبليس. والكاف توكيد للمخاطبة. (هذا الذى كرمت على) أي فضلته على. ورأى جوهر النار خيرا من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة. وقد تقدم هذا في الاعراف (1). و " هذا " نصب بأرأيت. " الذى " نعته. والاكرام: اسم جامع لكل ما يحمد. وفى الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذى فضلته على، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين ؟ فحذف لعلم السامع. وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف، أي أترى هذا الذى كرمته على لافعلن به كذا وكذا. ومعنى (لاحتنكن) في قول ابن عباس: لاستولين عليهم. وقاله الفراء. مجاهد: لاحتوينهم. ابن زيد: لاضلنهم. والمعنى متقارب، أي لاستأصلن ذريته بالاغواء والاضلال، ولاجتاحنهم. وروى عن العرب: إحتنك الجراد الزرع إذا ذهب به كله. وقيل: معناه لاسوقنهم حيث شئت وأقودنهم حيث أردت. ومن قولهم: حنكت الفرس أحنكه وأحنكه حنكا إذا جعلت في فيه الرسن. وكذلك إحتنكه. والقول الاول قريب من هذا، لانه إنما يأتي على الزرع بالحنك. وقال الشاعر: أشكو إليك سنة قد أجحفت * جهدا إلى جهد بنا وأضعفت * واحتنكت أموالنا واجتلفت (2) * (إلا قليلا) يعنى المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " وإنما قال إبليس ذلك ظنا، كما قال الله تعالى: " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه (3) " أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى على قول الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد (1) فيها ". وقال الحسن: ظن ذلك لانه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عزما. قوله تعالى: قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جرآؤكم جزاء موفورا (63) (1) راجع ج 1 ص 279. 161 وج 7 ص 168 و 171. (2) إى أذهبت. (3) راجع ج 14 ص 291. (*)
[ 288 ]
قوله تعالى: قال (اذهب) هذا أمر إهانة، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك أي أطاعك من ذرية آدم. (فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) أي وافرا، عن مجاهد وغيره. وهو نصب على المصدر، يقال: وفرته أفره وفرا، ووفر المال بنفسه يفر وفورا فهو وافر، فهو لازم ومتعد. قوله تعالى: واسمفزز من اسمطعت منهم بصوتك. أجلب عليهم بخيلك وشاركهم في الامول والاولد وعدهم وما يعدهم الشيطن إلا غرورا (64) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (واستفزز) أي استزل واستخف. وأصله القطع، ومنه تفزز الثوب إذا انقطع (1). والمعنى استزله بقطعك إياه عن الحق. واستفزه الخوف أي استخفه. وقعد مستفزا أي غير مطمئن. " واستفزز " أمر تعجيز، أي أنت لا تقدر على إضلال أحد، وليس لك على أحد سلطان فافعل ما شئت. الثانية - قوله تعالى: (بصوتك) وصوته كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى، عن ابن عباس. مجاهد: الغناء والمزامير واللهو. الضحاك: صوت المزمار. وكان آدم عليه السلام أسكن أولادها بيل أعلى الجبل، وولد قابيل أسفله، وفيهم بنات حسان، فزمر اللعين فلم يتمالكوا أن انحدروا فزنوا ذكره الغزنوى. وقيل: " بصوتك " بوسوستك. الثالثة - قوله تعالى: (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) أصل الاجلاب السوق بجلبة من السائق، يقال: أجلب إجلابا. والجلب والجلبة: الاصوات، تقول منه: جلبوا بالتشديد. وجلب الشئ يجلبه ويجلبه جلبا وجلبا. وجلبت الشئ إلى نفسي واجتلبته بمعنى. وأجلب على العدو إجلابا، أي جمع عليهم. فالمعنى أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك. * (هامش) (1) لم نجد في كتب الغة " تفزز الثوب " بزابين بهذا المعنى، وإنما هو " تفزز " بزاى ثم راء. فليلاحظ. (*)
[ 289 ]
وقال أكثر المفسرين: يريد كل راكب وماش في معصية الله تعالى. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والانس. فما كان من راكب وماش يقاتل في معصية الله فهو من خيل إبليس ورجالته. وروى سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال: كل خيل سارت في معصية الله، وكل رجل مشى في معصية الله، وكل مال أصيب من حرام، وكل ولد بغية فهو للشيطان. والرجل جمع راجل، مثل صحب وصاحب. وقرأ حفص " ورجلك " بكسر الجيم وهما لغتان، يقال: رجل ورجل بمعنى راجل. وقرأ عكرمة وقتادة " ورجالك " على الجمع. الرابعة - (وشاركهم في الاموال والاولاد) أي اجعل لنفسك شركة في ذلك. فشركته في الاموال إنفاقها في معصية الله، قاله الحسن. وقيل: هي التى أصابوها من غير حلها، قاله مجاهد. ابن عباس: ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقاله قتادة. الضحاك: ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. والاولاد قيل: هم أولاد الزنى، قاله مجاهد والضحاك وعبد الله بن عباس. وعنه أيضا: هو ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم من الجرائم. وعنه أيضا: هو تسميتهم عبد الحارث وعبد العزى وعبد اللات وعبد الشمس ونحوه. وقيل: هو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم، كصنع النصارى بأولادهم بالغمس في الماء الذى لهم، قال قتادة. وقول خامس - روى عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه، فذلك قوله تعالى: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (1) " وسيأتى. وروى من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فيكم مغربين " قلت: يا رسول الله، وما المغربون ؟ قال: " الذين يشترك فيهم الجن ". رواه الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول). قال الهروي: سموا مغربين لانه دخل فيهم عرق غريب. قال الترمذي الحكيم: فللجن مساماة (2) بابن آدم في الامور والاختلاط، فمنهم من يتزوج فيهم، وكانت بلقيس ملكة سبأ أحد أبويها من الجن. وسيأتى بيانه إن شاء الله تعالى. (1) راجع ج 17 ص 180 وص 188. (2) المساماة: المباراة والمفاخرة. مسألة التزاوج بين الانس والجن لا يقرها العلم. محققة. (*)
[ 290 ]
الخامسة - قوله تعالى: (وعدهم) أي منهم الامانى الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب، وأنه إن كان حساب وجنة ونار فأنتم أولى بالجنة من غيركم. يقويه قوله تعالى: " يعديهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (1) " أي باطلا. وقبل " وعدهم " أي عدهم النصر على من أرادهم بسوء. وهذا الامر للشيطان تهدد ووعيد له. وقيل: استخفاف به وبمن اتبعه. السادسة - في في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو، لقوله: " واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم " على قول مجاهد وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يتحسنه فواجب التنزه عنه. وروى نافع عن ابن عمر انه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحته عن الطريق وهو يقول: يا نافع ! اتسمع ؟ فاقول نعم، فمضى حتى قلت له لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع [ صوت ] زمارة راع فصنع مثل هذا. وقال علماؤنا: إذا كان هذا فلعهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم. وسيأتى لهذا مزيد بيان في سورة " لقمان (2) " أن شاء الله تعالى. قوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65) قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) قال ابن عباس: هم المؤمنون. وقد تقدم الكلام فيه (3). (وكفى بربك وكيلا) أي عاصما من القبول من إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره. قوله تعالى: ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66) (1) راجع ج 5 ص 120. (2) راجع ج 14 ص 51 فما بعد.) (3) راجع ص 28 من هذا الجزء. (*)
[ 291 ]
قوله تعالى: (ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر) الازجاء: السوق، ومنه قوله تعالى: " ألم تر أن الله يزجى سحابا (1) ". وقال الشاعر: (2) يأيها الراكب المزجى مطيته * وسائل بنى أسد ما هذه الصوت وإزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة. والفلك هنا جمع، وقد تقدم (3). والبحر الماء الكثير عذبا كان أو ملحا، وقد غلب هذا الاسم على المشهور (4) وهذه الآية توقيف على آلاء الله وفضله عند عباده، أي ربكم الذى أنعم عليكم بكذا وكذا فلا تشركوا به شيئا. (لتبتغوا من فضله) أي في التجارات. وقد تقدم (3). (إنه كان بكم رحيما). قوله تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلآ إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا (67) قوله تعالى: (وإذا مسكم الضرفى البحر) " الضر " لفظ يعم خوف الغرق والامساك عن الجرى. وأهوال حالاته اضطرابه وتموجه. (ضل من تدعون إلا إياه) " ضل " معناه تلف وفقد، وهى عبارة تحقير لمن يدعى إلها من دون الله. المعنى في هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلا. وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علما لا يقدر على مدافعته أن الاصنام لا فعل لها في الشدائد العظام، فوقفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل. (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم) أي عن الاخلاص. (وكان الانسان كفورا) الانسان هنا الكافر. وقيل: وطبع الانسان كفورا للنعم إلا من عصمه الله، فالانسان لفظ الجنس. قوله تعالى: أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68) (1) راجع ج 12 ص 287 فما بعد. (2) هو رويشد بن كثير الطائى، كما في اللسان. (3) راجع ج 2 ص 195، وص 413. (4) كذا في الاصول. أي البجحر الملح. (*)
[ 292 ]
قوله تعالى: (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) بين أنه قادر على هلاكهم في البر وإن سلموا من البحر. والخسف: أن تنهار الارض بالشئ، يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها. وعين خاسف أي غارت حدقتها في الرأس. وعين من الماء خاسفو أي غاز ماؤها. وخسفت الشمس أي غابت (1) عن الارض. وقال أبو عمرو: والخسيف البئر التى تحفر في الحجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة. والجمع خسف. وجانب البر: ناحية الارض، وسماه جانبا لانه يصير بعد الخسف جانبا. وأيضا فإن البحر جانب والبر جانب. وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البر، وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر، فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. (أو يرسل عليكم حاصبا) يعنى ريحا شديدة، وهى التى ترمى بالحصباء، وهى الحصى الصغار، قاله أبو عبيدة والقتبى. وقال قتادة: يعنى حجارة من السماء تحصبهم، كما فعل بقوم لوط. ويقال للسحابة التى ترمى بالبرد: صاحب، وللريح التى تحمل التراب والحصباء حاصب وحصبة أيضا. قال لبيد: جرت عليها أن خوت من أهلها * أذيالها كل عصوف حصبه وقال الفرزدق: مستقبلين شمال الشام يضربنا * بحاصب كنديف القطن منثور (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) أي حافظا ونصيرا يمنعكم من بأس الله. قوله تعالى: أم أمنتم إن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فغيركم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69) قوله تعالى: (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى) يعنى في البحر. (فيرسل عليكم قاصفا من الريح) القاصف: الريح الشديدة التى تكسر بشدة، من قصف الشى يقصفه، أي كسره بشدة. والقصف: الكسر، يقال: قصفت الريح السفينة. وريح قاصف: (1) أولى أن يقال: غاب نورها. (*)
[ 293 ]
شديدة. ورعد قاصف: شديد الصوت. يقال: قصف الرعد وغيره قصيفا. والقصيف: هشيم الشجر. والتقصف التكسر. والقصف أيضا: اللهو واللعب، يقال: إنها مولدة. (فيغرقكم بما كفرتم) أي بكفركم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " نخسف بكم " " أو نرسل عليكم " " أن نعيدكم " " فنرسل عليكم " " فنغرقكم " بالنون في الخمسة على التعظيم، لقوله: " علينا " الباقون بالياء، لقوله في الآية قبل: " إياه ". وقرأ أبو جعفر وشيبة ورويس ومجاهد " فتغرقكم " بالتاء نعتا للريح. وعن الحسن وقتادة " فيغرقكم " بالياء مع التشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر " الرياح " هنا وفى كل القرآن. وقيل: إن القاصف المهلكة في البر، والعاصف المغرقة في البحر، حكاه الماوردى. (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبليغا) قال مجاهد: ثائرا. النحاس: وهو من الثأر. وكذلك يقال لكل من طلب بثأر أو غيره: تبيع وتابع، ومنه " فاتباع بالمعروف (1) " أي مطالبة. قوله تعالى: ولقد كرمنا بنئ ادم وحملنهم في البر والبحر ورزقنهم من الطيبت وفضلنهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) فيه ثلاث مسائل (2): الاولى - قوله تعالى: (ولقد كرمنا بنى آدم) لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضا. " كرمنا " تضعيف كرم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفى النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بنى أدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بنى آدم، لانهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركبات من الاطعمة. وغاية كل حيوان يأكل لحما نيئا أو طعاما غير (1) راجع ج 2 ص 244. (2) يلاحظ أن المسائل أربع. (*)
[ 294 ]
مركب. وحكى الطبري عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم. وروى عن ابن عباس، ذكره المهدوى والنحاس، وهو قول الكلبى ومقاتل، ذكره الماوردى. وقال الضحاك: كرمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرمهم بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم. وقيل أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقال محمد بن جرير الطبري: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم. وقيل: بالكلام والخط. وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذى يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذى هو عمدة التكليف،. وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الاشياء. وما تقدم من الاقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالا يفضل بها ابن آدم أيضا، كجرى الفرس وسمعه وإبصاره، وقوة الفيل وشجاعة الاسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله اعلم. الثانية - قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الانس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى: " ولا الملائكة المقربون (1) ". وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الانس والجن، فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بنى آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوى، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهى في هذه المسألة إلى القطع. وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الانبياء على بعض، إذ في الخبر " لا تخايروا بين الانبياء ولا تفضلوني على يونس بن متى ". وهذا ليس بشئ، لوجود (1) راجع ج ص 26. (*)
[ 295 ]
النص في القرآن في التفضيل بين الانبياء. وقد بيناه في البقرة (1) ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن (2). الثالثة - قوله تعالى: (ورزقناهم من الطيبات) يعنى لذيذ المطاعم المشارب. قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها. (وفضلناهم على أكثر ممن خلقنا تفضيلا) أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفراسة. الرابعة - هذه الآية ترد ما روى عن عائشة رضى الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احرموا أنفسكم طيب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجرى في العروق منها ". وبه يستدل كثير من الصوفية في ترك أكل الطيبات، ولا أصل له، لان القرآن يرده، والسنة الثابتة بخلافه، على ما تقرر في غير موضع. وقد حكى أبو حامد الطوسى قال: كان سهل يقتات من ورق النبق مدة. وأكل دقاق ورق التين ثلاث سنين. وذكر إبراهيم ابن البنا قال: صحبت ذا النون من إخميم إلى الاسكندرية، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا وملحا كان معى، وقلت: هلم. فقال لى: ملحك مدقوق ؟ قلت نعم. قال: لست تفلح ! فنظرت إلى مزوده وإذا فيه قليل سويق شعير يسف منه. وقال أبو يزيد: ما أكلت شيئا مما يأكله بنو آدم أربعين سنة. قال علماؤنا: وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه، لان الله تعالى أكرم الآدمى بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن، وأما سويق الشعير فإنه يورث القولنج (3)، وإذا اقتصر الانسان على خبز الشعير والملح الجريش فإنه ينحرف مزاجه، لان خبز الشعير بارد مجفف، والملح يابس قابض يضر الدماغ والبصر. وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمنعت فقد قوومت حكمة البارئ سبحانه بردها، ثم يؤثر ذلك في البدن، فكان هذا الفعل مخالفا للشرع والعقل. ومعلوم أن البدن (1) راجع ج 3 ص 261. (2) راجع ج 1 ص 289. (3) القولنج: مرض معوى مؤلم يعسر معه خروجا لثفل والريح، معرب. (*)
[ 296 ]
مطية الآدمى، ومتى لم يرفق بالمطية لم تبلغ. وروى عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلا وخبز حوارى، فقيل له: هذا كله ؟ فقال: إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج (1) ثم يقوم إلى الصلاة. ومثل هذا عن السلف كثير. وقد تقدم منه ما يكفى في المائدة (2) والاعراف (3) وغيرهما. والاول غلو في الدين إن صح عنهم. " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم (4) ". قوله تعالى: يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتبه بيمينه فأولئك يقرءون كتبهم ولا يظلمون فتيلا (71) قوله تعالى: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " يوم ندعو كل أناس بإمامهم قال: " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه ستون ذراعا، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلالا فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل منكم مثل هذا - قال - وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذرعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا ! اللهم لا تأتنا بهذا. قال: فيأتيهم فيقولون اللهم أخره. فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. ونظير هذا قوله: " وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون (5) ". والكتاب يسمى إماما، لانه يرجع إليفى تعرف أعمالهم. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: " بإمامهم " أي بكتابهم، أي بكتاب كل إنسان منهم الذى فيه عمله، دليله " فمن أوتى كتابه بيمينه ". وقال ابن زيد: بالكتاب المنزل عليهم. أي يدعى كل إنسان (1) الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. وفيه لغات (عن الالفاظ الفارسية). (2) راجع ج 6 ص 260. (3) راجع ج 7 ص 195. (4) راجع ج 17 ص 262 فما بعد. (5) راجع ج 16 ص 174 (*)
[ 297 ]
بكتابه الذى كان يتلوه، فيدعى أهل التوراة بالتورة، وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يأهل القرآن، ماذا عملتم، هل امتثلتم أومراه هل اجتنبتم نواهيه ! وهكذا. وقال مجاهد: " بإمامهم " بنبيهم، والامام من يؤتم به. فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام، هاتوا متبعي موسى عليه السلام، هاتوا متبعي الشيطان، هاتوا متبعي الاصنام. فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم. وقاله قتادة. وقال على رضى الله عنه: بإمام عصرهم. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " فقال: " كل يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد - عليهم أفضل الصلوات والسلام - فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم، ويقول: هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمام هدى وإمام ضلالة ". وقال الحسن وأبو العالية: " بإمامهم " أي بأعمالهم. وقاله ابن عباس. فيقال: أين الراضون بالمقدور، أين الصابون عن المحذور. وقيل: بمذاهبهم، فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا: يا حنفى، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحوه، فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل، وهذا معنى قوله أبى عبيدة. وقد تقدم. وقال أبو هريرة: يدعى أهل الصداقة من باب الصداقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد...، الحديث بطوله. أبو سهل: يقال أين فلان المصلى والصوام، وعكسه الدفاف (1) والنمام. وقال محمد بن كعب: " بإمامهم " بأمهاتهم. وإمام جمع آم. قالت الحكماء: وفى ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة، أحدها - لاجل عيسى. والثانى - إظهار لشرف الحسن والحسين. والثالث - لئلا يفتضح أولاد الزنى. قلت: وفى هذا القول نظر، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الاولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان " خرجه مسلم والبخاري. فقوله: " هذه غدرة فلان ابن فلان " (1) الدفاف: الضارب بالدف. وفى الاصول: " الزفاف " بالزاى المعجمة. (*)
[ 298 ]
دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهذا يرد على من قال: إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لان في ذلك سترا على آبائهم. والله أعلم. قوله تعالى: (فمن أوتى كتابه بيمينه) هذا يقوى قول من قال: " بإمامهم " بكتابهم. ويقويه أيضا قوله: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين (1) ". (فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا) الفتيل الذى في شق النواة. وقد مضى في " النساء (2) ". قوله تعالى:. من كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا (72) قوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى) أي في الدنيا عن وإبصار الحق. (فهو في الآخرة) (أعمى). وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمين إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال: اقرءوا ما قبلها " ربكم الذى يزجى لكم الفلك في البحر (3) - إلى - تفضيلا ". قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التى رأى أعمى فهو عن الآخرة التى لم يعاين أعمى وأضل سبيلا. وقيل: المعنى من عمى عن النعم التى أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الاخرة أعمى. وقيل: المعنى من كان في الدنيا التى أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. وقيل: ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى، كما قال: " ونحشره يوم القيامة (4) أعمى " الآيات. وقال: " ونحشرهم يوالقيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم ". وقيل: المعنى في قوله " فهو في الآخرة أعمى " في جميع الاقوال: أشد عمى، لانه من عمى القلب، ولا يقال مثله في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لانه خلقة بمنزلة (1) راجع ج 15 ص 11 فما بعد. (2) راجع ج 5 ص 248. (3) راجع ص 290 فما بعد من هذا الجزء. (4) راجع ج 11 ص 257 فما بعد. (*)
[ 299 ]
اليد والرجل. فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. الاخفش: لم يقل فيه ذلك لانه على أكثر من ثلاثة أحرف، وأصله أعمى (1). وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه، لان فعله عمى وعشى. وقال الفراء: حدثنى بالشام شيخ بصرى أنه سمع العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر: ما في المعالى لكم ظل ولا ثمر * وفى المخازى لكم أشباح أشياخ أما الملوك فأنت اليوم الامهم * لؤما وأبيضهم سربال طباخ وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين " أعمى " و " أعمى " وفتح الباقون. وأمال أبو عمرو الاول وفتح الثاني. (وأضل سبيلا) يعنى أنه لا يجد طريقا إلى الهداية. قوله تعالى: وإن كادوا ليفتونك عن الذى أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) قال سعيد بن جبير: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الاسود في طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى ت، لم بآلهتنا. فحدث نفسه وقال: " ما على أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أنى لها كاره " فأبى الله تعالى ذلك وأنزل عليه هذه الآية، قال مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا وقالوا: متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: هو قول أكابر قريش للنبى صلى الله عليه وسلم: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك، فهم بذلك حتى نهى عنه. وقال قتادة ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه، ويسودونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتى بشئ لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، (1) كذا في الاصول: ولعل الحق: عمى، لان فعله عمى كما قال نفطويه: يقال عمى عن رشده. ومنه يصاغ أفعل التفضيل. (*)
[ 300 ]
ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعنى (ليفتنونك) أي يزيلونك. يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه، قاله الهروي. وقيل يصرفونك، والمعنى واحد. (عن الذى أوحينا إليك) أي حكم القرآن، لان في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن. (لتفتري علينا غيره) أي لتختلق علينا غير ما أوحينا إليك، وهو قول ثقيف: وحرم وادينا كما حرمت مكة، شجرها وطيرها ووحشها، فإسألتك العرب لم خصصتهم فقل الله أمرنى بذلك حتى يكون عذرا لك. (وإذا لاتخذوك خليلا) أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، أي والوك وصافوك، مأخوذ من النخلة (بالضم) وهى الصداقة لممايلته لهم. وقيل: " لاتخذوك خليلا " أي فقيرا. مأخوذ من الخلة (بفتح الخاء) وهى الفقر لحاجته إليهم. قوله تعالى: ولولا أن ثبتنك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لاذقنك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75) قوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك) أي على الحق وعصمناك من موافقتهم. (لقد كدت تركن إليهم) أي تميل. (شيئا قليلا) أي ركونا قليلا. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام: " اللهم لا تكلني نفسي طرفة عين ". وقيل: ظاهر الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم وباطنه إخبار عن ثقيف. والمعنى: وإن كادوا ليركنونك، أي كادوا يخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا، كما تقول لرجل: كدت تقتل نفسك، أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكره المهدوى. وقيل ما كان منه هم بالركون إليهم، بل المعنى: ولولا فضل الله عليك لكان منك ميل إلى موافقتهم، ولكن تم فضل الله عليك فلم تفعل، ذكره القشيرى. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكن هذا تعريف للامة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شئ من أحكام الله تعالى وشرائعه.
[ 301 ]
وقوله تعالى: إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي لو ركنت لاذقناك مثلى عذاب الحياة في الدنيا ومثلى عذاب الممات في الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وهذا غاية الوعيد. وكلما كانت الدرجة أعلى كان العذاب عند المخالقة أعظم. قال الله تعالى: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين (1) " وضعف الشئ مثله مرتين، وقد يكون الضعف النصيب، كقوله عز وجل: " لكل ضعف " أي نصيب. وقد تقدم في الاعراف. (2). قوله تعالى: وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا (76) هذه الآية قيل إنها مدنية، حسبما تقدم في أول السورة. قال ابن عباس: حسدت اليهود مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا: إن الانبياء إنما بعثوا بالشام، فإن كنت نبيا فالحق بها، فإنك إن خرجت إليها صدقناك وآمنا بك، فوقع ذلك في قلبه لما يحب من إسلامهم، فرحل من المدينة على مرحلة فأنزل الله هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن غنم: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما نزل تبوك نزل (وإن كانوا ليستفزونك من الارض) بعد ما ختمت السورة، وأمر بالرجوع. وقيل: إنها مكية. قال مجاهد وقتادة: نزلت في هم أهل مكة بإخراجه، ولو أخرجوه لما أمهلوا ولكن الله أمره بالهجرة فخرج، وهذا أصح، لان السورة مكية، ولان ما قبلها خبر عن أهل مكة، ولم يجر لليهود ذكر. وقول: " من الارض " يريد أرض مكة. كقوله: " فلن أبرح الارض (3) " أي أرض مصر، دليله " وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التى أخرجتك (4) " يعنى مكة. معناه: هم أهلها بإخراجه، فلهذا أضاف إليها (5) وقال " أخرجتك ". وقيل: هم الكفار كلهم أن يستخفوه من أرض العرب بتظاهرهم عليه فمنعه الله، ولو أخرجوه (1) راجع ج 14 ص 173. (2) راجع ج 7 ص 205. (3) راجع ج 9 ص 241 فما بعد. (4) راجع ج 16 ص 235. (5) في الاصول: " إليهم " وهو تحريف. (*)
[ 302 ]
من أرض العرب لم يمهلوا، وهو معنى قوله: (وإذا لا يلبثون خلاف إلا قليلا)، وقرأ عطاء ابن أبي رباح " لا يلبثون " الباء مشددة، " خلفك " نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو، ومعناه بعدك، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي " خلافك " واختاره أبو حاتم، اعتبارا بقوله: " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول (1) رسول الله " ومعناه أيضا بعدك، قال الشاعر: عفت الديار خلافهم فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا بسط البواسط، في الماوردى، يقال: شطبت المرأة الجريد إذا شفقه لتعمل منه الحصر - قال أبو عبيد: ثم تلقيه الشاطبة إلى المنقية. وقيل: " خلفك " بمعنى بعدك " وخلافك " بمعنى مخالفتك، ذكره ابن الانباري، إلا قليلا " فيه وجهان: أحدهما - أن المدة التى لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر، وهذا قول من ذكر أنهم قريش الثاني - ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بنى النضير، وهذا قول من ذكر أنهم اليهود قوله تعالى: سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77) قوله تعالى: (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) أي يعذبون كسنة من قد أرسلنا، فهو نصب بإظمار يعذبون، فلما سقط الخافض عمل الفعل، قاله الفراء، وقيل: آنتهصب على معنى سننا سنة من قد أرسلنا، وقيل: هو منصوب على تقدير حذف الكاف، التقدير لا يلبثون خلفك إلا قليلا كسنة من قد إرسلنا، فلا يوقف علبى هذا التقدير على قوله: " إلا قليلا " ويقف على الاول والثاني. " قبلك من رسلنا " وقف حسن، (ولا تجد لسنتنا تحويلا) أي لا خلف فى وعدها. قوله تعالى: أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى عسق اليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا (78) راجع ج 8 ص 216 (*)
[ 303 ]
فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه عليه السلام بالصبر والمحافظة على الصلاة، وفيها طلب النصر على الاعداء. ومثله " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (1) ". وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة البقرة (2). وهذا الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة. واختلف العلماء في الدلوك على قولين: أحدهما - أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم. الثاني - أن الدلوك هو المغرب، قاله على وابن مسعود وأبى بن كعب، وروى عن ابن عباس. قال الماوردى: من جعل الدلوك اسما لغروبها فلان الانسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب، ومن جعله اسما لزوالها فلانه يدلك عينيه لشدة شعاعها. وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها. ودلكت براح يعنى الشمس، أي غابت وأنشد قطرب: هذا مقام قدمى رباح * ذبب حتى دلكت براح براح (بفتح الباء) على وزن حزام وقطام ورقاس اسم من أسماء الشمس. ورواه الفراء (بكسر الباء (4)) وهو جمع راحة وهى الكف، أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه. ومنه قوله العجاج: والشمس قد كادت تكون دنفا * أدفعها بالراح كى تز حلفا قال ابن الاعرابي: الزحلوفة مكان منحدر أملس، لانهم يتزحلفون فيه. قال: والزحلفة كالدحرجة والدفع، يقال: زحلفته فتزحلف. ويقال: دلكت الشمس إذا غابت. قال ذو الرمة: مصابيح ليست باللواتى تقودها * نجوم ولا بالآفلات الدوالك (1) راجع ص 64 من هذا الجزء. (2) راجع ج 1 ص 164. (3) كذا في الاصول. والصواب عن أسماء النساء. (4) أي باء الجر. (*)
[ 304 ]
قال ابن عطية: الدلوك هو الميل - في اللغة - فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب. ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا، لانها في حالة ميل. فذكر الله تعالى الصلوات التى تكون في حالة الدلوك وعنده، فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب، ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل. وقد ذهب قوم إلى أن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب، لانه سبحانه علق وجوبها على الدلوك، وهذا دلوك كله، قاله الاوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل. وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة. الثانية - قوله تعالى: (إلى غسق الليل) روى مالك عن ابن عباس قال: دلوك الشمس ميلها، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته. وقال أبو عبيدة: الغسق سواد الليل. قال ابن قيس الرقيات: إن هذا الليل قد غسقا * واشتكيت الهم والارقا وقد قيل: غسق الليل مغيب الشفق. وقيل: إقبال ظلمته. قال زهير: ظلت تجود يدها وهى لاهية * حتى إذا جنح الاظلام والغسق يقال: غسق الليل غسوقا. والغسق اسم بفتح السين. وأصل الكلمة من السيلان، يقال: غسقت العين إذا سالت، تغسق. وغسق الجرح غسقانا، أي سال منه ماء أصفر. وأغسق المؤذن، أي أخر المغرب إلى غسق الليل. وحكى الفراء: غسق الليل وأغسق، وظلم أظلم، ودجا وأدجى، وغبس وأغبس، وغبش وأغبش. وكان الربيع بن خثيم (1) يقول لمؤذنه في يوم غيم: أغسق أغسق. يقول: أخر المغرب حتى يغسق الليل، وهو إظلامه. الثالثة - اختلف العلماء في آخر وقت المغرب، فقيل: وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس، وذلك بين في إمامة جبريل، فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس، وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه. وهو أحد قولى الشافعي في المشهور عنه أيضا وبه قال الثوري. وقال مالك في الموطأ: فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل وقت العشاء. وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن (1) هذا ضبط التقريب، والذى في الخلاصة: بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة وهذا هو المشهور. (*)
[ 305 ]
بن حى وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود، لان وقت الغروب إلى الشفق غسق كله. ولحديث أبى موسى، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان سقوط الشفق. خرجه مسلم. قالوا: وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل، لانه متأخر بالمدنية وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره، لانه ناسخ لما قبله. وزعم ابن العربي أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك، وقوله في موطئه الذى أقرأه طول عمره وأملاه في حياته. والنكتة في هذا أن الاحكام المتعلقة بالاسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها ؟ والاقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر. قلت: القول بالتوسعة أرجح. وقد خرج الامام الحافظ أبو محمد عبد الغنى بن سعيد من حديث الاجلح بن عبد الله الكندى عن أبى الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف، وذلك تسعة أميال. وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما، فإن الجمع ممكن. قال علماؤنا: تحمل أحاديث جبريل على الافضلية في وقت المغرب، ولذلك اتفقت الامة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس. قال ابن خويز منداد: ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس. وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز، فيرتفع التعارض ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق الاصوليين، لان فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما. والله اعلم. الرابعة - قوله تعالى: (وقرآن الفجر) انتصب " قرآن " من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة، المعنى: وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح، قاله الفراء. وقال أهل البصرة. انتصب على الاغراء، أي فعليك بقرآن الفجر، قال الزجاج. وعبر عنها بالقرآن
[ 306 ]
خاصة دون غيرها من الصلوات، لان القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور، عن الزجاج أيضا. قلت: وقد استقر عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه - يقرأ فيها بطوال المفصل، ويليها في ذلك الظهر والجمعة - وتخفيف القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء. وقد قيل في العصر: إنها تخفف كالمغرب. وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الاطالة فيما استقر فيه التقصير، أو من التقصير فيما استقرت فيه الاطالة، كقراءته في الفجر المعوذتين - كما رواه النسائي - وكقراءة الاعراف والمرسلات والطور في المغرب، فمتروك بالعمل. ولانكاره على معاذ التطويل، حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة. خرجه الصحيح. وبأمره الائمة بالتخفيف فقال: " أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة ". وقال: " فإذا صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء ". كله مسطور في صحيح الحديث. الخامسة - قوله تعالى: " وقرآن الفجر " دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة، لانه سمى الصلاة قرآنا. وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للامام والقذ في كل ركعة. وهو مشهور قول مالك. وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة. وهو قول إسحاق. وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة، قاله المغيرة وسحنون. وعنه أن القراءة لا تجب في شئ من الصلاة. وهو أشذ الروايات عنه. وحكى عن مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة، وإليه ذهب الاوزاعي. وعن الاوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الامام والفذ والمأموم على كل حال. وهو أحد قولى الشافعي. وقد مضى في (الفاتحة (1) مستوفى. السادسة - قوله تعالى: (كان مشهودا) روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا " قال: " تشهده (1) راجع ج 1 ص 117 فما بعد. (*)
[ 307 ]
ملائكة الليل وملائكة النهار " هذا حديث حسن صحيح. ورواه على بن مسهر عن الاعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة وأبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ". يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ". ولهذا المعنى أيضا قال مالك والشافعي: التغليس بالصبح أفضل. وقال أبو حنيفة: الافضل الجمع بين التغليس والاسقار، فإن فاته ذلك فالاسفار أولى من التغليس. وهذا مخالف لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس، وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل. والله اعلم. السابعة - استدل بعض العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار " على أن صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار. قلت: وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار، فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر " الحديث. ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك، وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والايمان، وهذا واضح. قوله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: (من الليل) " من " للتبعيض. والفاء في قوله " فتهجد " ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد. (به) أي بالقرآن. والتهجد من الهجود وهو من الاضداد. يقال: هجد نام، وهجد سهر، على الضد. قال الشاعر:
[ 308 ]
ألا زارت أهل منى هجود * وليت خيالها بمنى يعود آخر: ألا طرقتنا والرفاق هجود * فباتت بعلات (1) النوال تجود يعنى نياما. وهجد وتهجد بمعنى. وهجدته أي أنمته، وهجدته أي أيقظته. والتهجد التيقظ بعد رقدة، فصار اسما للصلاة، لانه ينتبه لها. فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم. قال معناه الاسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الاسود وغيرهم. وروى إسماعيل بن إسحاق القاضى من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد ! إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة. كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الهجود النوم. يقال: تهجد الرجل إذا سهر، وألقى الهجود وهو النوم. ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا، لان المتهجد هو الذى يلقى الهجود الذى هو النوم عن نفسه. وهذا الفعل جار مجرى تحوب وتحرج وتأثم وتحنث وتقذر وتنجس، إذا ألقى ذلك عن نفسه. ومثله قوله تعالى: " فظلتم تفكهون (2) " معناه تندمون، أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وهى انبساط النفوس وسرورها. يقال: رجل فكه إذا كان كثير السرور والضحك. والمعنى في الآية: ووقتا من الليل اسهر به في صلاة وقراءة. الثانية - قوله تعالى: (نافلة لك) أي كرامة لك، قاله مقاتل. واختلف العلماء في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر دون أمته، فقيل: كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله: " نافلة لك " أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الامة. قلت: وفى هذا التأويل بعد لوجهين: أحدهما - تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة. الثاني - قوله صلى الله عليه وسلم: " خمس صلوات فرضهن الله على العباد "، وقوله تعالى: " هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدى " وهذا نص، فكيف يقال: افترض عليه صلاة زائدة على خمس، هذا ما لا يصح، وإن كان قد روى عنه عليه السلام: " (1) العلة (هنا): ما يتعلل به، مثل التعلة. (2) راجع ج 17 ص 217. (*)
[ 309 ]
" ثلاث على فريضة ولامتى تطوع قيام الليل والوتر والسواك ". وقيل: كانت صلاة الليل تطوعا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة، كما قالت عائشة، على ما يأتي مبينا في سورة " المزمل (1) إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يكون الامر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، لانه مغفور له. فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات. وغيره من الامة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض، قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: عطية، لان العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة. الثالثة - قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال: الاول - وهو أصحها - الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان. وفى صحيح البخاري عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا (2) كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهى الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وفى صحيح مسلم عن أنس قال حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأوتى فأقول أنا لها " وذكر الحديث. وروى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه في قوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " سئل عنها قال: " هي الشفاعة " قال: هذا حديث حسن صحيح. (1) راجع ج 19 ص 32 فما بعد. (2) جثا (جمع جثوة كخطوة وخطا) أي جماعات. (*)
[ 310 ]
إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذى يتدافعه الانبياء عليهم السلام، حتى ينتهى الامر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع هذه الشفاعة لاهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم، وهو الخاصة به صلى الله عليه وسلم، ولاجل ذلك قال: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ". قال النقاش: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السب إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر. ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الانبياء بل يشفعون ويشفع العلماء. وقال القاضى أبو الفضل عياض: شفاعات نبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة خمس شفاعات: العامة. والثانية في إدخال قوم الجنة دون حساب. الثالثة في قوم من موحدى أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن شاء الله أن يشفع ويدخلون الجنة. وهذه الشفاعة هي التى أنكرتها المبتدعة: الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة، وهى الاستحقاق العقلي المبنى على التحسين والتقبيح. الرابعة فيمن دخل النار من المذنبين فيخرجون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الانبياء والملائكة وإخوانهم المؤمنين. الخامسة في زيادة الدرجات في الجنة لاهلها وترفيعها، وهذه لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الاول. قال القاضى عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، لانها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات. ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة، لانها لاصحاب الذنوب أيضا، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف. روى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا - صلى الله عليه وسلم - الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة ".
[ 311 ]
القول الثاني - أن المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قلت: وهذا القول لا تنافر بينه وبين الاول، فإنه يكون بيده لواء الحمد ويشفع. روى الترمذي عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبى آدم فمن سواه إلا تحت لوائى " الحديث. القول الثالث - ما حكاه الطبري عن فرقة، منها مجاهد، أنها قالت: المقام المحمود هو أن يجلس الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم معه على كرسيه، وروت في ذلك حديثا. وعضد الطبري جواز ذلك بشطط من القول، وهو لا يخرج إلا على تلطف في المعنى، وفيه بعد. ولا ينكر مع ذلك أن يروى، والعلم يتأوله. وذكر النقاش عن أبى داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، ما زال أهل العلم يتحدثون بهذا، من أنكر جوازه على تأويله. قال أبو عمر ومجاهد: وإن كان أحد الائمة يتأول القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا والثانى في تأويل قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة (1) " قال: تنتظر الثواب، ليس من النظر. قلت. ذكر هذا في باب ابن شهاب في حديث التنزيل. وروى عن مجاهد أيضا في هذه الآية قال: يجلسه على العرش. وهذا تأويل غير مستحيل، لان الله تعالى كان قبل خلقه الاشياء كلها والعرش قائما بذاته، ثم خلق الاشياء من غير حاجة إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته، وليعرف وجوده وتوحيده وكمال قدرته وعلمه بكل أفعاله المحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما شاء من غير أن صار له مماسا، أو كان العرش له مكانا. قيل: هو الآن على الصفة التى كان عليها من قبل أن يخلق المكان والزمان، فعلى هذا القول سواء في الجواز أقعد محمد على العرش أو على الارض، لان استواء الله تعالى على العرش ليس بمعنى الانتقال والزوال وتحويل الاحوال من القيام والقعود والحال التى تشغل العرش، بل هو مستو على عرشه (1) راجع ج 19 ص 105. (*)
[ 312 ]
كما أخبر عن نفسه بلا كيف. وليس إقعاده محمدا على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا له عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله وتشريف له على خلقه. وأما قوله في الاخبار: " معه " فهو بمنزلة قوله: " إن الذين عند ربك (1) "، و " رب ابن لى عندك بيتا في الجنة (2) ". " وإن الله لمع المحسنين (3) " ونحو ذلك. كل ذلك عائد إلى الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان. الرابع - إخراجه من النار بشفاعته من يخرج، قاله جابر بن عبد الله. ذكره مسلم. وقد ذكرناه في (كتاب التذكرة) والله الموفق. السادسة - اختلف العلماء في كون القيام بالليل سببا للمقام المحمود على قولين: أحدهما: أن البارئ تعالى يجعل ما شاء من فعله سببا لفضله من غير معرفه بوجه الحكمة فيه، أو بمعرفة وجه الحكمة. الثاني: أن قيام الليل فيه الخلوة مع البارئ والمناجاة دون الناس، فأعطى الخلوة به ومناجاته في قيامه وهو المقام المحمود. ويتفاضل فيه الخلق بحسب درجاتهم، فأجلهم فيه درجة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يعطى ما لا يعطى أحد ويشفع ما لا يشفع أحد. و " عسى " من الله عز وجل واجبة. و " مقاما " نصب على الظرف. أي في مقام أو إلى مقام. وذكر الطبري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المقام المحمود هو المقام الذى أشفع فيه لامتي ". فالمقام الموضع الذى يقوم فيه الانسان للامور الجليلة كالمقامات ببن يدى الملوك. قوله تعالى: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطنا نصيرا (80) قيل: المعنى أمتنى إماتة صدق، وابعثني يوم القيامة مبعث صدق، ليتصل بقوله: " عسى أن يبعثك ربك مقام محمودا ". كأنه لما وعده ذلك أمره أن يدعو لينجز له (1) راجع ج 7 ص 356. (2) راجع ج 8 ص 202. (3) راجع ج 13 ص (*)
[ 313 ]
الوعد. وقيل: أدخلني في المأمور وأخرجنى من المنهى. وقيل: علمه ما يدعو به في صلاته وغيرها من إخراجه من بين المشركين وإدخاله موضع الامن، فأخرجه من مكة وصيره إلى المدينة. وهذا المعنى رواه الترمذي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت " وقل رب ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا " قال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الضحاك: هو خروجه من مكة ودخوله مكة يوم الفتح آمنا. أبو سهل: حين رجع من تبوك وقد قال المنافقون: " ليخرجن الاعز منها الاذل (1) " يعنى إدخال عز وإخراج نصر إلى مكة. وقيل: المعنى أدخلني في الامر الذى أكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجنى منه مخرج صدق إذا أمتنى، قال معناه مجاهد. والمدخل والمخرج (بضم الميم) بمعنى الادخال والاخراج، كقوله: " أنزلنى منزلا مباركا (2) " أي إنزالا لا أرى فيه ما أكره. وهى قراءة العامة. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم " مدخل " و " مخرج ". بفتح الميمين بمعنى الدخول والخروج، فالاول رباعى وهذا ثلاثى. وقال ابن عباس: أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت واخرجني مخرج صدق عند البعث. وقيل: أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق واخرجني بالصدق، أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه، فإن ذا الوجهين لا يكون وجيها عندك. وقيل: الآية عامة في كل ما يتناول من الامور ويحاول من الاسفار والاعمال، وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة. فهى دعاء، ومعناه: رب اصلح لى وردى في كل الامور وقوله: (واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا) قال الشعبى وعكرمة: أي حجة ثابتة. وذهب الحسن إلى أنه العز والنصر وإظهار دينه على الدين كله. قال: فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرها فيجعله له. قوله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن البطل كان زهوقا (81) (1) راجع ج 18 ص 129. (2) راجع ج 12 ص 119. (*)
[ 314 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - روى البخاري والترمذي عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها بمخصرة (1) في يده - وربما قال بعود - ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (2) " لفظ الترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وكذا في حديث مسلم " نصبا ". وفى رواية صنما. قال علماؤنا: إنما كانت بهذا العدد لانهم كانوا يعظمون في يوم صنما ويخصون أعظمها بيومين. وقوله: " فجعل يطعنها بعود في يده " يقال إنها كانت مثبتة بالرصاص وأنه كلما طعن منها صنما في وجهه خر لقفاه، أو في قفاه خر لوجهه. وكان يقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " حكاه أبو عمر والقاضى عياض. وقال القشيرى: فما بقى منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أمر بها فكسرت. الثانية - في هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الاوثان إذا غلب عليهم، ويخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التى لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى. قال ابن المنذر: وفى معنى الاصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهى عنه. ولا يجوز بيع شئ منه إلا الاصنام التى تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا (3) أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها. قال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الامام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال. وقد تقدم حرق ابن عمر رضى الله عنه (4). وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة. وهذا أصل في العقوبة في المال مع قوله عليه السلام في الناقة التى لعنتها صاحبتها: (1) ما يختصره الانسان بيده فيمسكه من عصا أو عكاز أو مقرعة أو قصيب وقد يتكئ عليه. (2) راجع ج 14 ص 313 (3) النقرة: السبيكة. (4) الذى تقدم لابن عمر أنه أفسد على الاولاد أدوات اللعب. راجع ج 8 ص 340. (*)
[ 315 ]
" دعوها فإنها ملعونة " فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به. وقد أراق عمر بن الخطاب رضى الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه. الثالثة - ما ذكرنا من تفسير الآية ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص (1) فلا يسعى عليها " الحديث. خرجه الصحيحان. ومن هذا الباب هتك النبي صلى الله عليه وسلم الستر الذى فيه الصور، وذلك أيضا دليل على إفساد الصور وآلات الملاهي كما ذكرنا. وهذا كله يحظر المنع من اتخاذها ويوجب التغيير على صاحبها. إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وحسبك ! وسيأتى هذا المعنى في " النمل، (2) " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وقل جاء الحق) أي الاسلام. وقيل: القرآن، قال مجاهد. وقيل: الجهاد. (وزهق الباطل) قيل الشرك. وقيل الشيطان، قاله مجاهد. والصواب تعميم اللفظ بالغاية الممكنة، فيكون التفسير جاء الشرع بجميع ما انطوى فيه. " وزهق الباطل ": بطل الباطل. ومن هذا زهوق النفس وهو بطلانها. يقال زهقت نفسه تزهق زهوقا، وأزهقتها. (إن الباطل كان زهوقا) أي لا بقاء له والحق الذى يثبت. قوله تعالى: وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظلمين إلا خسارا (82) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وننزل) قرأ الجمهور بالنون. وقرأ مجاهد " وينزل " بالياء خفيفة، ورواها المروزى عن حفص. و " من " لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لبيان الجنس، كأنه قال: وننزل ما فيه شفاء من القرآن. وفى الخبر " من لم يستشف بالقرآن (1) القلاص (بكسر القاف وجمع القلوص بفتحها) وهى الناقة الشابة. (2) راجع ج 13 ص 221. (3) كذا في الاصول. ولعل: ونون خفيفة. (*)
[ 316 ]
فلا شفاه الله ". وأنكر بعض المتأولين أن تكون " من " للتبعيض، لانه يحفظ من أن يلزمه أن بعضه لا شفاء فيه. ابن عطية: وليس يلزمه هذا، بل يصح أن تكون للتبعيض بحسب أن إنزاله إنما هو مبعض، فكأنه قال: وننزل من القرآن شيئا شفاء، ما فيه كله شفاء. الثانية - اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والامور الدالة على الله تعالى. الثاني: شفاء من الامراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه. وقد روى الائمة - واللفظ للدارقطني - عن أبى سعيد الخدرى قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ثلاثين راكبا قال: فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا، قال: فلدغ سيد الحى، فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقى من العقرب ؟ في رواية ابن قتة: إن الملك يموت. قال: قلت أنا نعم، ولكن لا أفعل حتى تعطونا. فقالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه " الحمد لله رب العالمين " سبع مرات فبرأ. في رواية سليمان بن قتة عن أبى سعيد: فأفاق وبرأ. فبعث إلينا بالنزل وبعث إلينا بالشاء، فأكلنا الطعام أنا وأصحابي وأبوا أن يأكلوا من الغنم، حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال: " وما يدريك أنها رقية " قلت: يا رسول الله، شئ ألقى في روعى. قال: " كلوا وأطعمونا من الغنم " خرجه في كتاب السنن. وخرج في (كتاب المديح (1) من حديث السرى بن يحيى قال: حدثنى المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبى سليم عن الحسن عن أبى أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينفع بإذن الله تعالى من البرص والجنون والجذام والبطن والسل والحمى والنفس أن تكتب بزعفران أو بمشق - يعنى المغرة - أعوذ بكلمات الله التامة وأسمائه كلها عامة من شر السامة والعامة ومن شر العين اللامة ومن شر حاسد إذا حسد ومن أبى فروة وما ولد ". كذا قال، ولم يقل من شر أبى قترة. العين اللامة: التى تصيب بسوء. تقول: أعيذه من كل هامة لامة. وأما قوله: (1) في بعض الاصول: " المذبح " ولم نوقف لتصويبه. (2) أبو فترة (بكسر القاف وسكون التاء): كنية إبليس. (*)
[ 317 ]
أعيذه من حادثات اللمة فيقول: هو الدهر. ويقال الشدة. والسامة: الخاصة. يقال: كيف السامة والعامة. والسامة السم. ومن أبى فروة وما ولد. وقال: ثلاثة وثلاثون من الملائكة أتوا ربهم عز وجل فقالوا: وصب بأرضنا. فقال: خذوا تربة من أرضكم فامسحوا نواصيكم. أو قال: نواصيكم (1) رقية محمد صلى الله عليه وسلم لا أفلح من كتمها أبدا أو أخذ عليها صفدا (2). ثم تكتب فاتحة الكتاب وأربع أيات من أول البقرة، والآية التى فيها تصريف الرياح وآية الكرسي والآيتين اللتين بعدها، وخواتيم سورة البقرة من موضع " لله ما في السموات وما في الارض " إلى آخرها، وعشرا من أول " آل عمران " وعشرا من آخرها، وأول آية من النساء، وأول آية من المائدة، وأول آية من الانعام، وأول آية من الاعراف، والآية التى في الاعراف " إن ربكم الله الذى خلق السموات والارض (3) " حتى تختم الآية، والآية التى في يونس من موضع " قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (4) ". والآية التى في طه " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (5) "، وعشرا من أول الصافات، و " قل هو الله أحد "، والمعوذتين. تكتب في إناء نظيف ثم تغسل ثلاث مرات بماء نظيف ثم يحثو منه الوجع ثلاث حثوات ثم يتوضأ منه كوضوئه للصلاة ويتوضأ قبل وضوئه للصلاة حتى يكون على طهر قبل أن يتوضأ به ثم يصب على رأسه وصدره وظهره ولا يستنجى به ثم يصلى ركعتين ثم يستشفى الله عز وجل، يفعل ذلك ثلاثة أيام، قدر ما يكتب في كل يوم كتابا. في رواية: ومن شر أبى قترة وما ولد. وقال: " فامسحوا نواصيكم (6) " ولم يشك. وروى البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذى مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها. فسألت (7) الزهري كيف كان ينفث ؟ قال: كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وروى مالك عن ابن شهاب عن عروه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه (1) في ج: بوصبكم: أي بوجعكم. وتكون رقية منصوبة على الاغراء. (2) الصفد: العطاء. (3) راجع ج 7 ص 218. (4) راجع ج 8 ص 367. (5) راجع ج 11 ص 221 فما بعد. (6) في ج: بوصبكم. (7) السائل هو عروة بن الزبير راوي الحديث. (*)
[ 318 ]
المعوذتين وتفل أو نفث. قال أبو بكر بن الانباري: قال اللغويون تفسير " نفث " نفخ نفحا ليس معه ريق. ومعنى " تفل " نفخ نفخا معه ريق. قال الشاعر: فإن يبرأ فلم أنفث عليه * وإن يفقد فحق له الفقود وقال ذو الرمة: ومن جوف ماء عرمض الحول فوقه * متى يحس منه مائح القوم يتفل (1) أراد ينفخ بريق. وسيأتى ما للعلماء في النفث في سورة الفلق (2) إن شاء الله تعالى. الثالثة - روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الرقى إلا بالمعوذات. قال الطبري: وهذا حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله في الدين، إذ في نقلته من لا يعرف. ولو كان صحيحا لكان إما غلطا وإما منسوخا، لقوله عليه السلام في الفاتحة " ما أدراك أنها رقية ". وإذا جاز الرقى بالمعوذتين وهما سورتان من القرآن كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز إذ كله قرآن. وروى عنه عليه السلام أنه قال: " شفاء أمته في ثلاث آية (3)، من كتاب الله أو لعقة من عسل أو شرطة من محجم ". وقال رجاء الغنوى: ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاء له. الرابعة - واختلف العلماء في النشرة، وهى أن يكتب شيئا من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقيه، فأجازها سعيد بن المسيب. قيل له: الرجل يؤخذ عن امرأته أيحل عنه وينشر ؟ قال: لا بأس به، وما ينفع لم ينه عنه. ولم ير مجاهد أن تكتب آيات من القران ثم تغسل ثم يسقاه صاحب الفزع. وكانت عائشة تقرأ بالمعوذتين في إناء ثم تأمر أن يصب على المريض. وقال المازرى أبو عبد الله: النشرة أمر معروف عند أهل التعزيم، وسميت بذلك لانها تنشر عن صاحبها أي تحل. ومنعها الحسن وإبراهيم النخعي، قال النخعي: أخاف أن يصيبه بلاء، وكأنه ذهب إلى أنه ما محى (4) به القرآن فهو (1) العرمض: الخضرة التى تعلوا الماء وهى الرمض والعلق والطحلب. والمائح (بالهمز): الذى ينزل البئر فينلا الدلو. والمائح (بالتاء): الذى يجذب الدلوا. (2) راجع ج 20 ص 257 فما بعد. (3) لم نقف على هذه الرواية، والمشهورة كما في البخاري وعيره: " شفاء أمتى في ثلاث شرطة محجم أو شربة عسل أوكية نار.. "، (4) كذا في ج، وفى أو ح وووى: يجئ. (*)
[ 319 ]
إلى أن يعب بلاء أقرب منه إلى أن يفيد شفاء. وقال الحسن: سألت أنسا فقال: ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشيطان. وقد روى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة فقال: " من عمل الشيطان ". قال ابن عبد البر. وهذه آثار لينة ولها وجوه محتملة، وقد قيل: إن هذا محمول على ما إذا كانت خارجة عما في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، وعى المداواة المعروفة. والنشرة من جنس الطب فهى غسالة شئ له فضل، فهى كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ". قلت: قد ذكرنا النص في النشرة مرفوعا وأن ذلك لا يكون إلا من كتاب الله فليعتمد عليه. الخامسة - قال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التى فيها أسماء الله عز وجل على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بتعليقها مدافعة العين. وهذا معناه قبل أن ينزل به شئ من العين. وعلى هذا القول جماعة أهل العلم، لا يجوز عندهم أن يعلق على الصحيح من البهائم أو بنى آدم شئ من العلائق خوف نزول العين، وكل ما يعلق بعد نزول البلاء من أسماء الله عز وجل وكتابه رجاء الفرج والبرء من الله تعالى، فهو كالرقي المباح الذى وردت السنة بإباحته من العين وغيرها. وقد روى عبد الله بن عمرو قال قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فزع أحدكم في نومه فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وسوء عقابه ومن شر الشياطين وأن يحضرون). وكان عبد الله يعلمها ولده من أدرك منهم، ومن لم يدرك كتبها وعلقها عليه. فإن قيل: فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من علق شيئا وكل إليه ". ورأى ابن مسعود على أم ولده تميمة مربوطة فجبذها جبذا شديدا فقطعها وقال: إن آل ابن مسعود لاغنياء عن الشرك، ثم قال: إن التمائم والرقى والتولة من الشرك. قيل: ما التولة ؟ قال: ما تحببت به لزوجها. وروى عن عقبة بن عامر الجهنى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من علق تميمة فلا أتم الله له
[ 320 ]
ومن علق ودعة فلا ودع الله له قلبا ". قال الخليل بن أحمد: التميمة قلادة فيها عوذ، والودعة خرز. وقال أبو عمر: التميمة في كلام العرب القلادة، ومعناه عند أهل العلم ما علق في الاعناق من القلائد خشية العين أو غيرها { من أنواع البلاء وكأن المعنى في الحديث من يعلق خشية ما عسى (1) } من تنزل أو لا تنزل قبل أن تنزل. فلا أتم الله عليه صحته وعافيته، ومن تعلق ودعة - وهى مثلها في المعنى - فلا ودع الله له، أي فلا بارك الله له ما هو فيه من العاقية. والله اعلم. وهذا كله تحذير مما كان أهل الجاهلية يصنعونه من تعليق التمائم والقلائد، ويظنون أنها تقيهم وتصرف عنهم البلاء، وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل، وهو المعافى والمبتلى، لا شريك له. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم. وعن عائشة قالت: ما تعلق بعد نزول البلاء فليس من التمائم. وقد كره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال قبل نزول البلاء وبعده. والقول الاول أصح في الاثر والنظر إن شاء الله تعالى. وما روى عن ابن مسعود يجوز أن يريد بما كره تعليقه غير القرآن أشياء مأخوذة عن العراقيين والكهان، إذ الاستشفاء بالقرآن معلقا وغير معلق لا يكون شركا، وقوله عليه السلام: " من علق شيئا وكل إليه " فمن علق القرآن ينبغى أن يتولاه الله ولا يكله إلى غيره، لانه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن. وسئل ابن المسيب عن التعويذ أيعلق ؟ قال: إذا كان في قصبة أو رقعة يحرز فلا بأس به. وهذا على أن المكتوب قرآن. وعن الضحاك أنه لم يكن يرى بأسا أن يعلق الرجل الشئ من كتاب الله إذا وضعه عند الجماع وعند الغائط. ورخص أبو جعفر محمد بن على في التعويذ يعلق على الصبيان. وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشئ من القرآن يعلقه الانسان. السادسة - قوله تعالى: (ورحمة للمؤمنين) تفريج الكروب وتطهير العيوب وتكفير الذنوب مع ما تفضل به تعالى من الثواب في تلاوته، كما روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف ". قال هذا حديث حسن صحيح غريب. وقد تقدم. (ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) لتكذيبهم. قال (1) من ى. (*)
[ 321 ]
قتادة: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " الآية. ونظير هذه الآية قوله: " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليه عمى (1) ". وقيل: شفاء في الفرائض والاحكام لما فيه من البيان. قوله تعالى (وإذآ أنعمنا على الانسن أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا (83) قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه) أي هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الاعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. ومعنى " نأى بجانبه " أي تكبر وتباعد. وناء مقلوب منه، والمعنى: بعد عن القيام بحقوق الله عز وجل، يقال: نأى الشئ أي بعد. ونأيته ونأيت عنه بمعنى، أي بعدت. وأنأيته فانتأى، أي أبعدته فبعد. وتناءوا تباعدوا. والمنتأى: الموضع البعيد. قال النابغة: فإنك كالليل الذى هو مدركى * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان " ناء " مثل باع، الهمزة مؤخرة، وهو على طريقة القلب من نأى، كما يقال: راء ورأى. وقيل: هو من النوء وهو النهوض والقيام. وقد يقال أيضا للوقوع والجلوس نوء، وهو من الاضداد. وقرئ " ونئى " بفتح النون وكسر الهمزة. والعامة " نأى " في وزن رأى. (وإذا مسه الشر كان يؤسا) أي إذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط، لانه لا يثق بفضل الله تعالى. قوله تعالى: قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84) (1) راجع ج 15 ص 368. (*)
[ 322 ]
قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) قال ابن عباس: ناحيته. وقاله الضحاك. مجاهد: طبيعته. وعنه: حدته. ابن زيد: على دينه. الحسن وقتادة: نيته. مقاتل: جبلته. الفراء: على طريقته ومذهبه الذى جبل عليه. وقيل. قل كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب في اعتقاده. وقيل: هو مأخوذ من الشكل، يقال: لست على شكلي ولا شاكلتي. قال الشاعر: كل امرئ يشبهه فعله * ما يفعل المرء فهو أهله فالشكل هو المثل والنظير والضرب. كقوله تعالى: " وآخر من شكله أزواج (1) ". الشكل (بكسر الشين): الهيئة. يقال: جارية حسنة الشكل. وهذه الاقوال كلها متقاربة. والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التى ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن. والآية والتى قبلها نزلتا في الوليد بن المغيرة، ذكره المهدوى. (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) أي بالمؤمن والكافر وما سيحصل من كل واحد منهم. وقيل: " أهدى سبيلا " أي أسرع قبولا. وقيل: أحسن دينا. وحكى أن الصحابة رضوان الله عليهم تذاكروا القرآن فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر فيه آية أرجى وأحسن من قوله تبارك وتعالى: " قل كل يعمل على شاكلته " فإنه لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أرى فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول (1) " قدم غفران الذنوب على قبول التوبة، وفى هذا إشارة للمؤمنين. وقال عثمان بن عفان رضى الله عنه: قرأت جميع القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى: " نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم (2) ". وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: (1) راجع ج 15 ص 220 فما بعد وص 289. (2) راجع ص 34 من هذا الجزء (*)
[ 323 ]
قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (1) ". قلت: وقرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أر آية أحسن وأرجى من قوله تعالى: " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون (2) ". قوله تعالى: ويسئلونك عن الروح قل الوح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85) روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال: ما رابكم (3) إليه ؟ وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشئ تكرهونه. فقالوا: سلوه. فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحى قال: " ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " لفظ البخاري. وفى مسلم: فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: وما أوتوا. وقد اختلف الناس في الروح المسئول عنه، أي الروح هو ؟ فقيل: هو جبريل، قاله قتادة. قال: وكان ابن عباس يكتمه. وقيل هو عيسى. وقيل القرآن، على ما يأتي بيانه في آخر الشورى (4). وقال على بن أبى طالب: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بكل تلك اللغات، يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. ذكره الطبري. قال ابن عطية: وما أظن القول يصح عن على رضى الله عنه. قلت: أسند البيهقى أخبرنا أبو زكريا عن أبى إسحاق أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة عن ابن (1) راجع ج 15 ص 267. (2) راجع ج 7 ص 9 ص فما بعد. (3) أي ما دعاكم إلى سؤال تخشون عاقبته بأن يستقبلكم بشئ تركرهونه. (4) راجع ج 16 ص 54 فما بعد. (*)
[ 324 ]
عباس في قوله: " ويسألونك عن الروح " يقول: الروح ملك. وبإسناده عن معاوية بن صالح حدثنى أبو هران (بكسر الهاء) يزيد بن سمرة عمن حدثه عن على بن أبى طالب أنه قال في قوله تعالى: " ويسئلونك عن الروح " فال: هو ملك من الملائكله سبعون ألف وجه... الحديث بلفظه ومعناه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه، يسبح الله إلى يوم القيامة، ذكره النحاس. وعنه: جند من جنود الله لهم أيد وأرجل يأكلون الطعام، ذكره الغزنوى. وقال الخطابى: وقال بعضهم، هو ملك من الملائكة بصفة وضعوها من عظم الخلقة. وذهب أكثر أهل التأويل إلى أنهم سألوه عن الروج الذى يكون به حياة الجسد. وقال أهل النظر منهم: إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الانسان، وكيف امتزاجه بالجسم واتصال الحياة به، وهذا شئ لا يعلمه إلا الله عز وجل. وقال أبو صالح: الروح خلق كخلق بنى آدم وليسوا ببنى أدم، لهم أيد وأرجل. والصحيح الابهام لقوله: " قل الروح من أمر ربى " دليل على (1) خلق الروح أي هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، مبهما له وتاركا تفصيله، ليعرف الانسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها. وإذا كان الانسان في معرفة نفسه هكذا كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له، دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز. قوله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) اختلف فيمن خوطب بذلك، فقالت فرقة: السائلون فقط. وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم. وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود " وما أوتوا " ورواها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: المراد العالم كله. وهو الصحيح، وعليه قراءة الجمهور " وما أوتيتم ". وقد قالت اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم: كيف لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهى الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا ؟ فعارضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله فغلبوا. وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في بعض الاحاديث: " كلا " يعنى أن المراد ب " ما أوتيتم " جميع (1) أي هو المنفرد بخلق الروح والعالم بسرء لا يدركه أحد من الناس. (*)
[ 325 ]
العالم. وذلك أن يهود قالت له: نحن عنيت أم قومك ؟. فقال: " كلا ". وفى هذا المعنى نزلت " ولو أن ما في الارض من شجرة أقلام (1) " حكى ذلك الطبري رحمه الله وقد قيل: إن السائلين عن الروح هم قريش، قالت لهم اليهود: سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذى القرنين وعن الروح فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبى، فأخبرهم خبر أصحاب الكهف وخبر ذى القرنين على ما يأتي. وقال في الروح: " قل الروح من أمر ربى " أي من الامر الذى لا يعلمه إلا الله. ذكره المهدوى وغيره من المفسرين عن ابن عباس. قوله تعالى: ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا (86) إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا (87) قوله تعالى: (ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك) يعنى القرآن. أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق. ويتصل هذا بقوله: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " أي ولو شئت أن أذهب بذلك القليل لقدرت عليه. (ثم لا تجد لك به علينا وكيلا) أي ناصرا يرده عليك. (إلا رحمة من ربك) يعنى لكن لانشاء ذلك رحمة من ربك، فهو استثناء ليس من الاول. وقيل: إلا أن يرحمك ربك فلا يذهب به. (إن فضله كان عليك كبيرا) إذ جعلك سيد ولد آدم، وأعطاك المقام المحمود وهذا الكتاب العزيز. وقال عبد الله بن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الامانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نزع منكم، تصبحون يوما وما معكم منه شئ. فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن ! وقد ثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا، نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ! قال: يسرى به في ليلة فيذهب بما في المصاحف وما في القلوب، فتصبح الناس كالبهائم. ثم قرأ عبد الله " ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك " الآية. أخرجه أبو بكر بن أبى شيبة بمعناه قال: أخبرنا أبو الاحوص عن عبد العزيز ابن رفيع عن (1) راجع ج 14 ص 76. (*)
[ 326 ]
شداد بن معقل قال: قال عبد الله - يعنى ابن مسعود -: إن هذا القرآن الذى بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم. قال: قلت كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وثبتناه في مصاحفنا ! قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء. ثم قرأ " لئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك " وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عمر: لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل، له دوى كدوى النحل، فيقول الله ما بالك. فيقول: يا رب منك خرجت وإليك أعود، أتلى فلا يعمل بى، أتلى ولا يعمل بى. قلت: قد جاء معنى هذا مرفوعا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة. قال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدرس الاسلام كما يدرس وشى الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيسرى على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الارض آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله. وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ". قال له صلة (1): ما تغنى عنهم لا إله إلا الله ! وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة، فأعرض عنه حذيفة، ثم رددها ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة ! تنجيهم من النار، ثلاثا. خرجه ابن ماجة في السنن. وقال عبد الله بن عمر: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوب الرأس من وجع فضحك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس ما هذه الكتب التى تكتبون أكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا ولا قلبا إلا أخذ منه " قالوا: يا رسول الله، فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ ؟ قال: " من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله " ذكره الثعلبي والغزنوى وغيرهما في التفسير. قوله تعالى: قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88) (1) هو صلة بن زفر العبسى، أحد رجال سند الحديث. (*)
[ 327 ]
أي عوينا ونصيرا، مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. نزلت حين قال الكفار: لو نشاء لقلنا مثل هذا، فأكذبهم الله تعالى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أول الكتاب (1): والحمد لله. و (لا يأتون) جواب القسم في " لئن " وقد يجزم على إرادة الشرط. قال الشاعر: لئن كان ما حدثته اليوم صادقا * أقم (2) في نهار القيظ للشمس باديا قوله تعالى: ولقد صرفنا للناس في هذا القرءان من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89) قوله تعالى: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرءآن من كل مثل) أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار، من الآيات والعبر والترغيب والترهيب، والاوامر والنواهي وأقاصيص الاولين، والجنة والنار والقيامة. (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) يريد أهل مكة، بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت تبين الحق. قال المهدوى: ولا حجة للقدرى في قولهم: لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادر عليه، لان الكافر وإن كان غير قادر على الايمان بحكم الله عليه بالاعراض عنه وطبعه على قلبه، فقد كان قادرا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل. قوله تعالى: وقالوا لن نومن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهر خللها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتبا نقرؤه قل سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا (93) (1) راجع ج 1 ص 69. رواية خزانة الادب في الشاهد الرابع والثالثين بعد التسعمائة: أصم في نهار القيظ... " الخ. (*)
[ 328 ]
قوله تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا) الآية نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبى سفيان والنضر بن الحارث، وأبى جهل وعبد الله بن أبى أمية، وأمية بن خلف وأبى البخترى، والوليد بن المغيرة وغيرهم. وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة، اجتمعوا - فيما ذكر ابن إسحاق وغيره - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد ! إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الاحلام وفرقت الجماعة، فما بقى أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بى ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل على كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم " أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذى بعثك بما بعثك به، فليسير
[ 329 ]
عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا قصى بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه: " ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثنى به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم ". قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك ! سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وأسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمس، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله: " ما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم " قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل " قالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألنا عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك (1) ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به. إنه قد بلغنا إنما يعلمك هذا رجل من اليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتى بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته، هو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك (1) في ج: بما. (*)
[ 330 ]
قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لانفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتى معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أنى أصدقك ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، كله لفظ ابن إسحاق. وذكر الواحدى عن عكرمة عن ابن عباس: فأنزل الله تعالى: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنامن الارض ينبوعا) ". " ينبوعا " يعنى العيون، عن مجاهد. وهى يفعول، من نبع ينبع. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " تفجر لنا " مخففة، واختاره أبو حاتم لان الينبوع واحد. ولم يختلفوا في تفجر الانهار أنه مشدد. قال أبو عبيد: والاولى مثلها. قال أبو حاتم. ليست مثلها، لان الاولى بعدها ينبوع وهو واحد، والثانية بعدها الانهار وهى جمع، والتشديد يدل على التكثير. أجيب بأن " ينبوعا " وإن كان واحدا فالمراد به الجمع، كما قال مجاهد. الينبوع عين الماء، والجمع الينابيع. وقرأ قتادة " أو يكون لك جنة ". (خلالها) أي وسطها. (أو تسقط السماء) قراءة العامة. وقرأ مجاهد " أو يسقط السماء " على إسناد الفعل إلى السماء. (كسفا) قطعا، عن ابن عباس وغيره. والكسف (بفتح السين) جمع كسفة، وهى قراءة نافع وابن عامر وعاصم. الباقون " كسفا " بإسكان السين. قال الاخفش: من قرأ كسفا من السماء جعله واحدا، ومن قرأ كسفا جعله جمعا. قال المهدوى: ومن أسكن السين جاز أن يكون جمع كسفة وجاز أن يكون مصدرا، من كسفت الشئ إذا غطيته. فكأنهم قالوا: أسقطها طبقا علينا. وقال الجوهرى. الكسفة القطعة من الشئ، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف وكسف. ويقال: الكسفة واحد.
[ 331 ]
(أو تأتى بالله والملائكة قبيلا) أي معاينة، عن قتادة وابن جريج. وقال الضحاك وابن عباس: كفيلا. قال مقاتل: شهيدا. مجاهد: هو جمع القبيلة، أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة. وقيل: ضمناء يضمنون لنا إتيانك به. (أو يكون لك بيت من زخرف) أي من ذهب، عن ابن عباس وغيره. وأصله الزينة. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. وقال مجاهد: كنت لا أدرى ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود " بيت من ذهب " أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذى نرى. (أو ترقى في السماء) أي تصعد، يقال: رقيت في السلم أرقي رقيا ورقيا إذا صعدت. وارتقيت مثله. (ولن نؤمن لرقيك) أي من أجل رقيك، وهو مصدر، نحو مضى يمضى مضيا، وهوى يهوى هويا، كذلك رقى يرقى رقيا. (حتى تنزل علينا كتابا نقرءوه) أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا، كما قال تعالى: " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة (1) ". (قل سبحان ربى) وقرأ أهل مكة والشام " قال سبحان ربى " يعنى النبي صلى الله عليه وسلم، أي قال ذلك تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شئ وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم. الباقون " قل " على الامر، أي قل لهم يا محمد (هل كنت) أي ما أنا (إلا بشرا رسولا) اتبع ما يوحى إلى من ربى، ويفعل الله ما يشاء من هذه الاشياء التى ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين: ليس هذا جوابا مقنعا، وغلطوا، لانه أجابهم فقال: إنما أنا بشر لا أقدر على شئ مما سألتموني، وليس لى أن أتخير على ربى، ولم تكن الرسل قبلى يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من إياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أو من حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيرى. وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى. (1) راجع ج 19 ص 88. (*)
[ 332 ]
قوله تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلآ أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) يعنى الرسل والكتب من عند الله بالدعاء إليه. (إلا أن قالوا) جهلا منهم. (أبعث الله بشرا رسولا) أي الله أجل من أن يكون رسوله من البشر. فبين الله تعالى فرط عنادهم لانهم قالوا: أنت مثلنا فلا يلزمنا الانقياد، وغفلوا عن المعجزة. " فأن " الاولى في محل نصب بإسقاط حرف الخفض. و " أن " الثانية في محل رفع ب " منع " أي وما منع الناس من أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا قولهم أبعث الله بشر رسولا. قوله تعالى: قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95) أعلم أن الله تعالى أن الملك إنما يرسل إلى الملائكة، لانه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التى خلق عليها، وإنما أقدر الانبياء على ذلك وخلق فيهم ما يقدرون به، ليكون ذلك آية لهم ومعجزة. وقد تقدم في " الانعام " نظير هذه الآية، وهو قوله: " وقالوا لولا أنزل علبه ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا (1) " وقد تقدم الكلام فيه (1). قوله تعالى: قل كفى بالله بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96) يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله " هل كنت إلا بشرا رسولا ": فمن يشهد لك أنك رسول الله. فنزل " قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ". (1) راجع ج 6 ص 393. (*)
[ 333 ]
قوله تعالى: ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيمة على وجوههم عميا وبكما وصما مأوهم جهنم كلما خبت زدنهم سعيرا (97) قوله تعالى: (ومن يهد الله فهو المهتدى) أي لو هداهم الله لاهتدوا. (ومن يضلل قلن تجد لهم أولياء من دونه) أي لا يهديهم أحد. (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) فيه وجهان: أحدهما - أن ذلك عبارة عن الاسراع بهم إلى جهنم، من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني - أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. وهذا هو الصحيح، لحديث أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، الذين يحشرون على وجوههم، أيحشر الكافر على وجهه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أليس الذى أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ": قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري ومسلم. وحسبك. (عميا وبكما وصما) قال ابن عباس والحسن: أي عمى عما يسرهم، بكم عن التكلم بحجة، صم عما ينفعهم، وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التى وصفهم الله بها، ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا، لقوله تعالى: " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها (1) "، وتكلموا، لقوله تعالى: " دعوا هنالك ثبورا (2) "، وسمعوا، لقوله تعالى: " سمعوا لها تغيظا وزفيرا (2) ". وقال مقاتل بن سليمان: إذا قيل لهم " اخسئوا فيها ولا تكلمون (3) " صاروا عميا لا يبصرون صما لا يسمعون بكما لا يفقهون. وقيل: عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون. وذهب الزفير والشهيق بسمعهم فلم يسمعوا شيئا. (مأواهم جهنم) أي مستقرهم ومقامهم. (كلما خبت) أي سكنت، عن الضحاك (1) راجع ج 11 ص 3. (2) راجع ج 13 ص 7. (3) راجع ج 12 ص 153. (*)
[ 334 ]
وغيره. مجاهد طفئت. يقال: خبت النار تخبو خبوا أي طفئت، وأخبيتها أنا. (زدناهم سعيرا) أي نار تتلهب. وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم من عذابهم. وقيل: إذا أرادت أن تخبو. كقوله: " وإذا قرأت القرآن (1) ". قوله تعالى: ذلك جزاءهم بأنهم كفروا بئايتنا وقالوا أءذا كنا عظما ورفتا أءنا لمبعوثون جلقا جديدا (98) أو لم يروا أن الله الذى خلق السموت والارض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لاريب فيه فأبى الظلمون إلا كفورا (99) قوله تعالى: (ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا) أي ذلك العذاب جزاء كفرهم. (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا) أي ترابا. (أئنا لمبعوثون خلقا جديدا) فأنكروا البعث فأجابهم الله تعالى فقال: (أو لم يروا أن الذى خلق السموات والارض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه) قيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أو لم يروا أن الله الذى خلق السموات والارض، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم. والاجل: مدة قيامهم في الدنيا ثم موتهم، وذلك ما لا شك فيه إذ هو مشاهد. وقيل: هو جواب قولهم: " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ". وقيل: وهو يوم القيامة. (فأبى الظالمون إلا كفورا) أي المشركون إلا جحودا بذلك الاجل وبآيات الله. وقيل: ذلك الاجل هو وقت البعث، ولا ينبغى أن يشك فيه. قوله تعالى: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا (100) (1) راجع ص 269 من هذا الجزء. (*)
[ 335 ]
قوله تعالى: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربى) أي خزائن الارزاق. وقيل: خزائن النعم، وهذا أعم. (إذا لامسكتم خشية الانفاق) من البخل، وهو جواب قولهم: " لن نؤمن لك حتى تفجر لنامن الارض ينبوعا " حتى نتوسع في المعيشة. أي لو توسعتم لبخلتم أيضا. وقيل: المعنى لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله لما جاد بها كجود الله تعالى، لامرين: أحدهما - أنه لا بد أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني - أنه يخاف الفقر ويخشى العدم. والله تعالى يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. والانفاق في هذه الآية بمعنى الفقر، قاله ابن عباس وقتادة. وحكى أهل اللغة أنفق وأصرم وأعدم وأقتر إذا قل ماله. (وكان الانسان قتورا) أي بخيلا مضيقا. يقال: قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا إذا ضيق عليهم في النفقة، وكذلك التقتير والاقتار، ثلاث لغات. واختلف في هذه الآية على قولين: أحدهما - أنها نزلت في المشركين خاصة، قاله الحسن. والثانى - أنها عامة، وهو قول الجمهور، وذكره الماوردى. قوله تعالى: ولقد ءاتينا موسى تسع ءايت بينت فسئل بنى إسرءيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنى لاظنك يموسى مسحورا (101) قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) اختلف في هذه الآيات، فقيل: هي بمعنى آيات الكتاب، كما روى الترمذي والنسائي عن صفوان بن عسال المرادى أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، فقال: لا تقل له نبى فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى: " ولقد آتيتا موسى تسع آيات بينات " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببرئ إلى السلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف - شك شعبة - وعليكم [ يا معشر ] اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت " فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبى. قال:
[ 336 ]
" فما يمنعكما أن تسلما " قالا: إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبى وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى في البقرة (1). وقيل: الآيات بمعنى المعجزات والدلالات. قال ابن عباس والضحاك: الآيات التسع العصا واليد واللسان والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات. وقال الحسن والشعبى: الخمس المذكورة في " الاعراف (2) "، يعنيان الطوفان وما عطف عليه، واليد والعصا والسنين والنقص من الثمرات. وروى نحوه عن الحسن، إلا أنه يجعل السنين والنقص من الثمرات واحدة، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وعن مالك كذلك، إلا أنه جعل مكان السنين والنقص من الثمرات، البحر والجبل. وقال محمد بن كعب: هي الخمس التى في [ الاعراف ] والبحر والعصا والحجر والطمس على أموالهم. وقد تقدم شرح هذه الآيات مستوفى والحمد لله. (فاسأل بنى إسرائيل إذ جاءهم) أي سلهم يا محمد إذ جاءهم موسى بهذه الآيات، حسبما تقدم بيانه في يونس (3). وهذا سؤال استفهام ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم. (فقال له فرعون إنى لاظنك يا موسى مسحورا) أي ساحرا بغرائب أفعالك، قاله الفراء وأبو عبيدة. فوضع المفعول موضع الفاعل، كما تقول: هذا مشئوم وميمون، أي شائم ويامن. وقيل مخدوعا. وقيل مغلوبا، قاله مقاتل. وقيل غير هذا، وقد تقدم. وعن ابن عباس وأبى نهيك أنهما قرآ " فسأل بنى إسرائيل " على الخبر، أي سأل موسى فرعون أن يخلى بنى إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه. قوله تعالى: قال لقد علمت مآ أنزل هؤلاء إلا رب السموت والارض بصائر وإنى لاظنك يفرعون مثبورا (102) قوله تعالى: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء) يعنى الآيات التسع. و " أنزل " بمعنى أوجد. (إلا رب السموت والارض بصائر) أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته. (1) راجع ج 1 ص 439. (2) راجع ج 7 ص 267. (3) راجع ج 8 ص 373 فما بعد. (*)
[ 337 ]
وقراءة العامة " علمت " بفتح التاء خطابا لفرعون. وقرأ الكسائي بضم التاء، وهى قراءة على [ بن أبى طالب (1) ] رضى الله عنه، وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذى يعلم، فبلغت ابن عباس فقال: إنها " لقد علمت "، واحتج بقوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا (2) ". ونسب فرعون إلى العناد. وقال أبو عبيد: والمأخوذ به عندنا فتح التاء، وهو الاصح للمعنى الذى احتج به ابن عباس، ولان موسى لا يحتج بقوله: علمت أنا، وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كله تصح به القراءة عن على لكانت حجة، ولكن لا تثبت عنه، إنما هي عن كلثوم المرادى وهو مجهول لا يعرف، ولا نعلم أحدا قرأ بها غير الكسائي. وقيل: إنما أضاف موسى إلى فرعون العلم بهذه المعجزات، لان فرعون قد علم مقدار ما يتهيأ للسحرة فعله، وأن مثل ما فعل موسى لا يتهيأ لساحر، وأنه لا يقدر على فعله إلا من يفعل الاجسام ويملك السموات والارض. وقال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان، فرأى فرعون جانبى البيت بين فقميها، ففزع وأحدث في قطيفته. [ الفقم بالضم (3) اللحى، وفى الحديث " من حفظ ما بين فقميه " أي ما بين لحييه ]. (وأنى لاظنك يا فرعون مثبورا) الظن هنا بمعنى التحقيق. والثبور: الهلاك والخسران أيضا. قال الكميت: ورأت قضاعة في الايا * من رأى مثبور وثابر أي مخسور وخاسر، يعنى في انتسابها إلى اليمن. وقيل: ملعونا. رواه المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال أبان بن تغلب. وأنشد: يا قومنا لا تروموا حربنا سقها * إن السفاه وإن البغى مثبور أي ملعون. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: " مثبورا " ناقص العقل. ونظر المأمون رجلا فقال له: يا مثبور، فسأل عنه قال. قال الرشيد قال المنصور لرجل: مثبور، فسألته فقال: حدثنى ميمون بن مهران... فذكره. وقال قتادة هالكا. وعنه أيضا والحسن (1) من ج. (2) راجع ج 13 ص 156 فما بعد. (3) من ج وى. في النهاية: بالضم والفتح - اللحى. تمام الحديث " ورجليه دخل الجنة " يريد من حفظ لسانه وفرجه. (*)
[ 338 ]
ومجاهد. مهلكا. والثبور: الهلاك، يقال: ثبر الله العدو ثبورا أهلكه. وقيل: ممنوعا من الخير حكى أهل اللغة: ما ثبرك عن كذا أي ما منعك منه. وثبره الله يثبره [ ويثبره لغتان (1) ]. قال ابن الزبعرى: إذ أجارى الشيطان في سنن الغ * ى ومن مال ميله مثبور الضحاك: " مثبورا " مسحورا. رد عليه مثل ما قال له باختلاف اللفظ. وقال ابن زيد: " مثبورا " مخبولا لا عقل له. قوله تعالى: فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقنه ومن معه جميعا (103) وقلنا من بعده لبنى إسرءيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا (104) قوله تعالى: (فأراد أن يستفزهم من الارض) أي أراد فرعون أن يخرج موسى وبنى إسرائيل من أرض مصر [ إما (2) ] بالقتل أو الابعاد، فأهلكه الله عز وجل. (وقلنا من بعده) أي من بعد إغراقه. (لبنى إسراءيل اسكنوا الارض) أي أرض الشام ومصر. (فإذا جاء وعد الآخرة) أي القيامة. (جئنا بكم لفيفا) أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيه. وقال ابن عباس وقتادة: جئنا بكم جميعا من جهات شتى. والمعنى واحد. قال الجوهرى: واللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، أي وأخلاطهم. وقوله تعالى " جئنا بكم لفيقا " أي مجتمعين مختلطين. وطعام لفيف إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا. وفلان لفيف فلان أي صديقه. قال الاصمعي: اللفيف جمع وليس له واحد، وهو مثل الجميع. والمعنى: أنهم يخرجون وقت الحشر من القبور كالجراد المنتشر، مختلطين لا يتعارفون. وقال الكلبى: " فإذا جاء وعد الآخرة " يعنى مجئ عيسى عليه السلام من السماء. (1) من ج وى. (2) من ج. وفى ى: إما بالقتل وإما بالابعاد. (*)
[ 339 ]
قوله تعالى: وبالحق أنزله وبالحق نزل وما أرسلنك إلا مبشرا ونذيرا (105) قوله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن. والكناية ترجع إلى القرآن. ووجه التكرير في قوله " وبالحق نزل " يجوز أن يكون معنى الاول: أوجبنا إنزاله بالحق. ومعنى الثاني: ونزل وفيه الحق، كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه. وقيل الباء في " وبالحق " الاول بمعنى مع، أي مع الحق، كقولك ركب الامير بسيفه أي مع سيفه. " وبالحق نزل " أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي نزل عليه، كما تقول نزلت بزيد. وقيل: يجوز أن يكون المعنى وبالحق قدرنا أن ينزل، وكذلك نزل. قوله تعالى: وقرءانا فرقنه لتقرأه على الناس على مكث ونزلنه تنزيلا (106) قوله تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) مذهب سيبويه أن " قرآنا " منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرأ جمهور الناس " فرقناه " بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه، وفرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن. وقال ابن عباس: فصلناه. وقرأ ابن عباس وعلى وابن مسعود وأبى بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبى " فرقناه " بالتشديد، أي أنزلناه شيئا بعد شئ لا جملة واحدة، إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبى " فرقناه عليك ". واختلف في كم نزل القرآن من المدة، فقيل: في خمس وعشرين سنة. ابن عباس: في ثلاث وعشرين. أنس: في عشرين. وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة. وقد مضى هذا في " البقرة (1) ". (على مكث) أي تطاول في المدة شيئا بعد شئ. ويتناسق هذا القرآن على قراءة ابن مسعود، أي أنزلناه آية آية وسورة سورة. وأما على القول الاول فيكون " على مكث " أي على ترسل في التلاوة وترتيل، قاله مجاهد وابن عباس وابن جريج. فيعطى القارئ القراءة حقها (1) راجع ج 2 ص 297. (*)
[ 340 ]
ترتيلها وتحسينها وتطييبها بالصوت الحسن ما أمكن من غير تلحين ولا تطريب مؤد (1) إلى تغيير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان فإن ذلك حرام على ما تقدم أول (2) الكتاب. وأجمع القراء على ضم الميم من " مكث " إلا ابن محيصن فإنه قرأ " مكث " بفتح الميم. ويقال: مكث ومكت ومكث، ثلاث لغات. قال مالك: " على مكث " على تثبت وترسل (3). قوله تعالى: (ونزلناه تنريلا) مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم (4)، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا. قوله تعالى: قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا (107) قوله تعالى: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) يعنى القرآن. وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير. (إن الذين أوتوا العلم من قبله) أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، في قول ابن جريج وغيره. قال ابن جريج: معنى (إذا يتلى عليهم) كتابهم. وقيل القرآن. (يخرون للاذقان سجدا) قيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل. وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين. وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود، وهو أظهر لقوله " من قبله ". " إذا يتلى عليهم " يعنى القرآن في قول مجاهد. كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا: " سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ". وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الاسلام، فنزلت الآية فيهم. وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله (1) في الاصول: " المؤدى ". (2) راجع ج 1 ص 27. (3) في ج: ترتيل. (4) أي نزل آية وسورة سورة. (*)
[ 341 ]
محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في " قبله " عائد على القرآن حسب الضمير في قوله " قل آمنوا به ". وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: " إذا يتلى عليهم ". قوله تعالى: ويقولون سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) دليل على جواز التسبيح في السجود. وفى صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه " سبحانك اللهم [ ربنا (1) ] وبحمدك اللهم اغفر لى ". قوله تعالى: ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ويخرون للاذقان يبكون) هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجرى إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل. وفى مسند الدارمي أبى محمد عن التيمى قال: من أوتى من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتى علما، لان الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية. ذكره الطبري أيضا. والاذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين. وقال الحسن: الاذقان عبارة عن اللحى. أي يضعونها على الارض في حال السجود، وهو غاية التواضع. واللام بمعنى على، تقول: سقط لفيه أي على فيه. وقال ابن عباس: " يخرون للاذقان سجدا " أي للوجوه. وإنما خص الاذقان بالذكر لان الذقن أقرب شئ فمن وجه الانسان. قال ابن جويز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن. لان الذقن هاهنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشئ عما جاوره وببعضه عن جميعه. فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه. ألا ترى إلى قوله: خر صريعا على وجهه ويديه. (1) من ج وى. (*)
[ 342 ]
الثانية - قوله تعالى: (يبكون) دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها. ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البنانى عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفى كتاب أبى داود: وفى صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. الثالثة - واختلف الفقهاء في الانين، فقال مالك: الانين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح، وبه قال الثوري. وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والانين والنفخ لا يقطع الصلاة. وقال ابن القاسم: يقطع. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع. وروى عن أبى يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة، لانه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين. الرابعة - قوله تعالى: (ويزيدهم خشوعا) تقدم القول في الخشوع في " البقرة (1) ويأتى. قوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110) قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى) سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا " يا الله يا رحمن " فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين، قاله ابن عباس. وقال مكحول: تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في دعائه: " يا رحمن يا رحيم " فسمعه رجل (1) راجع ج 1 ص 374، وج 12 ص 103. (*)
[ 343 ]
من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة. فنزلت الآية مبينة أنهما اسمان لمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك. وقيل: كانوا يكتبون في صدر الكتب: باسمك اللهم، فنزلت " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (1) " فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال المشركون: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن، فنزلت الآية. وقيل: إن اليهود قالت: ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير، يعنون الرحمن، فنزلت الآية. وقرأ طلحة بن مصرف " أيا ما تدعو فله الاسماء الحسنى " أي التى تقتضي أفضل الاوصاف وأشرف المعاني. وحسن الاسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع، لاطلاقها والنص عليها. وإنضاف إلى ذلك أنها تقتضي معاني حسانا شريفة، وهى بتوقيف لا يصح وضع اسم لله ينظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث أو الاجماع. حسبما بيناه في (الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى). قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) فيه مسألتان: الاولى - اختلفوا في سبب نزولها على خمسة أقوال: الاول - ما روى ابن عباس في قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى " ولا تجهر بصلاتك " فيسمع المشركون قراءتك. " ولا تخافت بها " عن أصحابك. أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر. (وابتغ بين ذلك سبيلا) قال: يقول بين الجهر والمخافتة، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. واللفظ لمسلم. والمخافتة: خفض الصوت والسكون، يقال للميت إذا برد: خفت. قال الشاعر: لم يبق إلا نفس خافت * ومقلة إنسانها باهت رثى لها الشامت مما بها * يا ويح من يرثى له الشامت (1) راجع ج 13 ص 191 فما بعد. (*)
[ 344 ]
الثاني - ما رواه مسلم أيضا عن عائشة في قوله عز وجل: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قالت: أنزل هذا في الدعاء. الثالث - قال ابن سيرين: كان الاعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك. قلت: وعلى هذا فتكون الآية متضمنة لاخفاء التشهد، وقد قال ابن مسعود: من السنة أن تخفى التشهد، ذكره ابن المنذر. الرابع - ما روى عن ابن سيرين أيضا أن أبا بكر رضى الله عنه كان يسر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك، فقال أبو بكر: إنما أناجي ربى، وهو يعلم حاجتى إليه. وقال عمر: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قيل لابي بكر: ارفع قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا، ذكره الطبري وغيره. الخامس - ما روى عن ابن عباس أيضا أن معناها ولا تجهر بصلاة النهار، ولا تخافت بصلاة الليل، ذكره يحيى بن سلام والزهراوى. فتضمنت أحكام الجهر والاسرار بالقراءة في النوافل والفرائض، فأما النوافل فالمصلى مخير في الجهر والسر في الليل والنهار، وكذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل الامرين جميعا. وأما الفرائض فحكمها في القراءة معلوم ليلا ونهارا وقول سادس - قال الحسن: يقول الله لا ترائى بصلاتك تحسنها في العلانية ولا تسيئها في السر. وقال ابن عباس: لا تصل مرائيا للناس ولا تدعها مخافة الناس. الثانية - عبر تعالى بالصلاة هنا عن القراءة كما عبر بالقراءة عن الصلاة في قوله: " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا " لان كل واحد منهما مرتبط بالآخر، لان الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهى من جملة أجزائها، فعبر بالجزء عن الجملة وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز وهو كثير، ومنه الحديث الصحيح: " قسمت الصلاة بينى وبين عبدى " أي قراءة الفاتحة على ما تقدم. قوله تعالى: وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا (111)
[ 345 ]
قوله تعالى: (وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا) هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزيز وعيسى والملائكة ذرية (1) الله سبحانه، تعالى الله عن أقوالهم ! (ولم يكن له شريك في الملك) لانه واحد لا شريك له في ملكه ولا في عبادته. (ولم يكن له ولى من الذل) قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد، أي لم يكن له ناصر يجيره من الذل فيكون مدافعا. وقال الكلبى: لم يكن له ولى من اليهود والنصارى، لانهم أذل الناس، ردا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الحسن بن الفضل: " ولم يكن له ولى من الذل " يعنى لم يذل فيحتاج إلى ولى ولا ناصر لعزته وكبريائه. (وكبره تكبيرا) أي عظمه عظمة تامة. ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والاجلال: الله أكبر، أي صفة بأنه أكبر من كل شئ. قال الشاعر: رأيت الله أكبر كل شئ * محاولة وأكثرهم جنودا وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة قال: " الله أكبر " وقد تقدم أول (2) الكتاب. وقال عمر بن الخطاب. قول، العبد الله أكبر خير من الدنيا وما فيها. وهذا الآية هي خاتمة التوراة. روى مطرف عن عبد الله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الانعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وفى الخبر أنها آية العز، رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه " وقل الحمد لله الذى " الآية. وقال عبد الحميد. بن واصل: سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ وقل الحمد لله الآية كتب الله له من الاجر مثل الارض والجبل لان الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ". وجاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجل شكا إليه الدين بأن يقرأ " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " - إلى آخر السورة ثم يقول - توكلت على الحى الذى لا يموت، ثلاث مرات. تمت سورة الاسراء. والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده. (1) في ج: تنزيه الله. (2) راجع ج 1 ص 175. (*)
[ 346 ]
تفسير سورة الكهف وهى مكية في قول جميع المفسرين. روى عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: " جرزا "، والاول أصح. وروى في فضلها من حديث أنس أنه قال: من قرأ بها أعطى نورا بين السماء والارض ووقى بها فتنة القبر. وقال إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملا عظمها ما بين السماء والارض لتاليها مثل ذلك ". قالوا: بلى يا رسول الله ؟ قال: " سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الاخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطى نورا يبلغ السماء ووقى فتنة الدجال " ذكره الثعلبي، والمهدوى أيضا بمعناه. وفى مسند الدارمي عن أبى سعيد الخدرى قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق. وفى صحيح مسلم عن أبى الدرداء أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ". وفى رواية " من آخر الكهف ". وفى مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان " فمن أدركه - يعنى الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ". وذكره الثعلبي. قال: سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال ". ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة. قوله تعالى: الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتب ولم يجعل له عوجا (1) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصلحت أن لهم أجرا حسنا (2) مكثين فيه أبدا (3) قوله تعالى: (الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما:
[ 347 ]
سلاهم عن محمد وصفلهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الاول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجب. سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبى، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، ! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبى، وإن لم يفعل (1) فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الارض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخبركم بما سألتم عنه غدا " ولم يستثن (2). فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف (3) أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشئ مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: " لقد احتبست عنى (1) في ج: يخبركم. (2) أي لم يقل - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله. (3) أرجف القوم: خاضوا في الاخبار السيئة وذكر الفتن وفى ج: أوجف وهو الاضطراب، ولعله وهو من الناسخ. (*)
[ 348 ]
يا جبريل حتى سؤت ظنا " فقال له جبريل: " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (1) ". فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال: " الحمد الله الذى أنزل على عبده الكتاب " يعنى محمدا، إنك رسول منى، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك. " ولم يجعل له عوجا قيما " أي معتدلا لا اختلاف فيه. " لينذر بأسا شديدا من لدنه " أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذى بعثك رسولا. " ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا " أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الاعمال. " وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " يعنى قريشا في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهى بنات الله. " ما لهم به من علم ولا لآبائهم " الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. " كبرت كلمة تخرج من أفواههم " أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. " إن يقولون إلا كذبا. فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. فال ابن هشام: " باخع نفسك " مهلك نفسك، فيما حدثنى أبو عبيدة. قال ذو الرمة: ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه * بشئ نحته عن يديه المقادر وجمعها باخعون وبخعه. وهذا البيت في قصيدة (2) له. وقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له. " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " قال ابن إسحاق: أي أيهم اتبع لامرى وأعمل بطاعتي: " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " أي الارض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلى فأجزى كلا بعمله، فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصعيد وجه الارض، وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا: (1) راجع ج 11 ص 128. (2) مطلعها: لمبة أطلال بحزوى دوائر * عفتها السواقى بعدنا والمواطر (*)
[ 349 ]
كأنه بالضحى ترمى الصعيد به * دبابة في عظام الرأس خرطوم وهذا البيت في قصيدة له (2). والصعيد أيضا: الطريق، وقد جاء في الحديث: " إياكم والقعود على الصعدات " يريد الطرق. والجرز: الارض التى لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز. ويقال: سنة جرز وسنون أجراز، وهى التى لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا: طوى النحز والاجراز ما في بطونها * فما بقيت إلا الضلوع الجراشع (3) قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " أي قد كان من آياتى فيه وضعت على العباد من حجتى ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذى رقم بخبرهم، وجمعه رقم. قال العجاج: * ومستقر المصحف المرقم * وهذا البيت في أرجوزة له (4). قال ابن إسحاق: ثم قال " إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ". ثم قال: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " أي بصدق الخبر " إنهم فية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا " أي لم يشركوا بى كما أشركتم بى ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى [ بنى (5) ] قيس بن ثعلبة: أتنتهون ولا ينهى ذوى شطط * كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل (1) يعنى بالدبابة: الخمر. والخرطوم: الخمر وصفوتها. (2) مطلعها: أعن ترسمت من خرقاء منزله * ماء الصبابة عن عينيك مسجوم (3) المحز: الضرب والدفع. والجراشع: الغلاظ، الواحد شرجع. (4) مطلعها: يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي * بسمسم إو عن يمين سمسم (5) من ج. (*)
[ 350 ]
وهذا البيت في قصيدة له (1). قال ابن إسحاق: " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ". قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا. وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا. وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الحال وهم في فجوة منه ". قال ابن هشام: تزاور تميل، وهو من الزور. وقال أبو الزحف الكليبي (2) يصف بلدا: جدب المندى عن هوانا أزور * ينضى المطايا خمسه العشنزر وهذان (4) البيتان في أرجوزة له. و " تقرضهم ذات الشمال " تجاوزهم وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة: إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف * شمالا وعن أيمانهن الفوارس (5) وهذا البيت في قصيدة (6) له. والفجوة: السعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر: ألبست قومك مخزاة ومنقصة * حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار " ذلك من آيات الله " أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم. " من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات (1) مطلعها: ودع هريرة أن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل (2) في اللسان مادة " سمهدر " أنه أبو الزحف الكليني. واستدرك عليه مصحح اللسان بقوله: " قوله الكليني نسبه لكلين كأمير بلدة بالرى ". ومما يقوى أنه الكليبي (بالياء) ما ذكره ابن قتيبية في كتابه الشعر والشعراء أنه أبو الزحف بن عطاء بن الخطفى بن عم جرير من بنى كليب. (3) قبله: * ودون ليلى بلد سمهدر * وبلد سمهدر: بعيد مضلة واسع. والمندى: حيث يرتع ساعة من النهار. والازور: الطريق المعوج. وأنضى البعير: هزله بكثر السير. والخمس (بكسر السين) من أظماء الابل، أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع. والعشنزر: الشديد. (4) يعنى بالبيتين هنا شطرى الرجز. (5) القوز (بالفتح): العالي من الرمل كأنهجبل. والفوارس: رمال بالدهناء. (6) مطلعها: ألم تسأل اليوم الرسوم الدوارس * بحزوى وهل تدرى القفار البسابس (*)
[ 351 ]
الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسى واسمه عبد بن وهب (1): بأرض فلاة لا يسد وصيلاها * على ومعروفي بها غير منكر وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد وصدان. " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا - إلى قوله - الذين غلبوا على أمرهم " أهل السلطان والملك منهم. " لنتخذن عليهم مسجدا. سيقولون " يعنى أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. " ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم " أي لا تكابرهم. " إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا " فإنهم لا علم لهم بهم. " ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدينى ربى لاقرب من هذا رشدا " أي لا تقولن لشئ سألوك عنه كما قلت في هذا إنى مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدينى ربى لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدرى ما أنا صانع في ذلك. " ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا " أي سيقولون ذلك. " قل الله اعلم بما لبثوا له غيب السموات والارض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك في حكمه أحدا " أي لم يخف عليه شئ ما سألوك عنه. قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه (2). ويأتى خبر ذى القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول: قد تقدم معنى الحمد لله. وزعم الاخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى: الحمد لله الزى أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا. و " قيما " نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما. وقول الضحاك فيه حسن، وأن (1) في سيرة ابن هشام: " عبيد بن وهب ". (2) راجع سيرة ابن هشام ص 192 طبع أوروبا وج 1 ص 321 طبع مطبعة الحلى. (*)
[ 352 ]
المعنى: مستقيم (1)، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل: " قيما " على الكتب السابقة يصدقها. وقيل: " قيما " بالحجج أبدا. " عوجا " مفعول به، والعوج (بكسر العين) في الدين والرأى والامر والطريق. وبفتحها في الاجسام كالخشب والجدار، وقد تقدم (2). وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلفا، كما قال تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (3) " وقيل: أي لم يجعله مخلوقا، كما روى عن ابن عباس في قوله تعالى " قرآنا عربيا غير ذى عوج (4) قال: غير مخلوق. وقال مقاتل: " عوجا " اختلافا و. قال الشاعر: أدوم بودى للصيدق تكرما * ولاخير فيمن كان في الود أعوجا (لينذر بأسا شديدا) أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. (من لدنه) أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم " من لدنه " بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. والباقون " لدنه " بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهرى: وفى " لدن " ثلاث لغات: لدن، ولدى، ولد. وقال: * من لد لحييه إلى منحوره * المنحور لغة المنحر. قوله تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم) أي بأن لهم. (أجرا حسنا) وهى الجنة. (ماكثين) دائمين. (فيه أبدا) لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في " بأن ". والاجر الحسن: الثواب العظيم الذى يؤدى إلى الجنة. (1) أي معنى قوله " قيما ". (2) راجع ج 4 ص 154. (3) راجع ج 5 ص 288. (4) راجع ج 15 ص 252 (5) هذا عجز بيت لغيلان بن حريث. وصيره كما فيا للسان: * يستوعب البوعين من جريرة * والمنحور (بالحاء المهملة وضم الميم) لغة في النحر، وهو الصدر. وقد وردت هذه الكلمة في الاصول وصحاح الجوهرى واللسان مادة " نخر "، ولدن " بالخاء المعجمة، وهو الانف. وقد استدرك عليه ابن برى فقال: وصواب إنشاده كما أنشده سيبوه " إلى منحوره " بالحاء. وصف الشاعر بعيرا أو فرسا بطول العنق، فجعله يستوعب من حبله الذى يوثق به مقدار باعين فيما بين لحييه ونحره: الباع. والجرير: الحبل. (*)
[ 353 ]
قوله تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (4) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبر تكلمة تخرج من أفوههم إن يقولون إلا كذبا (5) قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) هم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالانذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. (ما لهم به من علم) " من " صلة، أي ما لهم بذلك القول علم، لانهم مقلدة قالوه بغير دليل. (ولا لآباههم) أي أسلافهم. (كبرت كلمة) " كلمة " نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبى إسحاق " كلمة " بالرفع، أي عظمت كلمة، يعنى قولهم اتخذ الله ولدا. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشئ إذا عظم. وكبر الرجل إذا أسن. (تخرج من أفواههم) في موضع الصفة. (إن يقولون إلا كذبا) أي ما يقولون إلا كذبا. قوله تعالى: فلعك بخع نفسك علئ اثرهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6) قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) " باخع " أي مهلك وقاتل، وقد تقدم. " آثارهم " جمع أثر، ويقال إثر. والمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك. (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) أي القرآن. (أسفا) أي حزنا وغضبا على كفرهم، وانتصب على التفسير. قوله تعالى: إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7) قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها) فيه مسئلتان:
[ 354 ]
الاولى - قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها) " ما " و " زينة " مفعولان. والزينة كل ما على وجه الارض، فهو عموم لانه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال، قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والامراء. وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قول تعالى: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها " قال: العلماء زينة الارض. وقالت فرقة: أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة، ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الارض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية، أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لاهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم. الثانية - معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر (1) كيف تعملون ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا " قال: وما زهرة الدنيا ؟ قال: " بركات الارض " خرجهما مسلم وغير من حديث أبى سعيد الخدرى. والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا. أي من أزهد فيها وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغضة ما زينة الله إلا [ أن ] يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إنى أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام: " فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذى يأكل ولا يشبع ". وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها، وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله، فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وأقنعه (1) الحديث كما في كشف الخفا: " الدنيا خضرة... فناظر كيف... " رواه مسلم. (2) أي يتطلع إليه وطمع فيه. (*)
[ 355 ]
الله بما آتاه. وقال ابن عطية: كان أبى رضى الله عنه يقول في قوله " أحسن عملا ": أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الايمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والاكثار من المندوب إليه. قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثقفى لما قال: يا رسول الله، قل لى في الاسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية: غيرك. قال: " قل آمنت بالله ثم استقم " خرجه مسلم. وقال سفيان الثوري: " أحسن عملا " أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني: " أحسن عملا " أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد، فقال قوم: قصر الامل وليس بأكل الخشن ولبس العباء، قاله سفيان الثوري. قال علماؤنا: وصدق رضى الله عنه لان من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلغ. وقال قوم: بغض المحمدة وحب الثناء. وهو قول الاوزاعي ومن ذهب إليه. وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد، أحب تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضا: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها، قال إبراهيم بن أدهم. وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك، قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حب الموت. والقول الاول يعم هذه الاقوال بالمعنى فهو أولى. قوله تعالى: وإنا لجعلون ما عليها صعيدا جرزا (8) تقدم (1) بيانه. وقال أبو سهل: ترابا لا نبات به، كأنه قطع نباته. والجرز: القطع، ومنه سنة جرز (2). قال الراجز: * قد جرفتهن السنون الاجراز * (1) ص 348 من هذا الجزء. (2) في ج: وسيف جراز. وفى اللسان: سيف جراز بالضم قاطع. (*)
[ 356 ]
والارض الجرز التى لا نبات فيها ولا شئ من عمارة وغيرها، كأنه قطع وأزيل. يعنى يوم القيامة، فإن الارض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس والجرز في اللغة الارض التى لا نبات بها. قال الكسائي: يقال جرزت الارض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيا من النبات والزرع فهى مجروزة وجرز (1). قوله تعالى: أم حسبتم أن أصحب الكهف والرقيم كانوا من ءايتنا عجبا (9) مذهب سيبويه أن " أم " إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهى المنقطعة. وقيل: " أم " عطف على معنى الاستفهام في " لعلك "، أو بمعنى ألف الاستفهام على الانكار. قال الطبري: وهو تقرير للنبى صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا، بمعنى إنكار ذلك عليه، أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا، وعن ذى القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحى على ما تقدم. فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، أي ليسوا بعجب من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبى: خلق السموات والارض أعجب من خبرهم. الضحاك: ما أطلعتك عله من الغيب أعجب. الجنيد: شأنك في الاسراء أعجب. الماوردى: معنى الكلام النفى، أي ما حسبت لولا إخبارنا. أبو سهل: استفهام تقرير، أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف: النقب المتسع في الجبل، وما لم يتسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال: الكهف الجبل، وهذا غير شهير في اللغة. واختلف الناس في الرقيم، فقال ابن عباس: كل شئ في القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين وحنان والاواه والرقيم. وسئل مرة عن الرقيم فقال: زعم كعب أنها قرية خرجوا (1) في الكلمة أربع لغات: جرز، جرز، جرز، جرز. (*)
[ 357 ]
منها. وقال مجاهد: الرقيم واد. وقال السدى: الرقيم الصخرة التى كانت على الكهف. وقال ابن زيد: الرقيم كتاب غم الله علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة: الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذى فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين (1) من كانوا. وكذا قال القراء، قال: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. فال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة، وهو أمر مفيد. وهذه الاقوال مأخوذة من الرقم، ومنه " كتاب مرقوم (2) ". ومنه الارقم لتخطيطه. ومنه رقمة الوادي، أي مكان جرى الماء وانعطافه. وما روى عن ابن عباس ليس بمتناقض، لان القول الاول إنما سمعه من كعب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده. وروى عنه سعيد بن جبير قال: ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال: إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال: ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته، فذلك اللوح هو الرقيم. وقيل: إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان، فالله اعلم. وعن ابن عباس أيضا: الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذى تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة: الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبى: الرقيم كلبهم. وقال عكرمة: الرقيم الدواة. وقيل: الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذى أقامه الخضر. وقيل: الرقيم أصحاب الغار الذى انطبق عليهم، فذكر كل واحد منهم أصلح عمله. قلت: وفى هذا خير معروف أخرجه الصحيحان، (3) وإليه نحا البخاري. وقال قوم: أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشئ. وفال الضحاك: الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم (1) في ج: وبنى من كانوا. (2) راجع ج 19 ص 254. (3) راجع صحيح مسلم ج 8 ص 89 طبع الاستانة. وشرح القسطلانى على صحيح البخاري ج 4 ص 217، ج 5 ص 509 وج 9 ص 5 طبع بولاق. (*)
[ 358 ]
فتية آخرون جرى لهم ما جرى لاصحاب الكهف. والله اعلم. وقيل: الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف، مأخوذ من رقمة الوادي وهى موضع الماء، يقال: عليك بالرقمة ودع الصفة، ذكره الغزنوى،. قال ابن عطية: وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير [ كهف ] فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة. وبالاندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة (1). ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومى يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقى بعض جدرانه، وهو في فلاة من الارض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلى القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها. قلت: ما ذكر من رؤيته لهم بالاندلس فإنما هم غيرهم، لان الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ". وقد قال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك، وسيأتى في آخر القصة. وقال مجاهد في قول " كانوا من آياتنا عجبا " قال: هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه، يذهب إلى أنه بإنكار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عجب. وروى ابن نجيح عنه قال: يقول ليس بأعجب آياتنا. قوله تعالى: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا ءاتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا (10) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف) روى أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، [ يقال فيه: دقلوس (2) ]. ويقال فيه: دقنيوس: وروى أنهم كانوا (1) الاثارة: البقية. (2) من ج. (*)
[ 359 ]
مطوقين مسورين بالذهب ذوى (1) ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل: كانوا قبل عيسى، والله اعلم. وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الاصنام فدعا أهلها إلى عبادة الاصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا، فقال الملك: سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الاصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمنى الامم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله، فرفع أمرهم إلى الملك وقيل لى: إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى (2) مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل، فقالوا له فيما روى: " ربنا رب السموات والارض - إلى قوله - وإذا اعتزلتموهم ". وروى أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل استأنى فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمرى، وضرب لهم في ذلك أجلا، ثم إنه خلال الاجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إنى أعرف كهفا في جبل كذا، وكان أبى يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا، فخرجوا فيما روى يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروى أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حوارى لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة. عظيمة، (1) في ج هامش: حتى رؤسهم. (2) في ج: في مجلسه. (*)
[ 360 ]
فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من [ أهل ] (1) المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه. واشتهرت خلطتهم به، فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة (2) بها، فنهاه ذلك الحوارى فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغى، فدخل فماتا فيه جميعا، فاتهم ذلك الحوارى وأصحابه بقتلهما، ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف. وقيل في خروجهم غير هذا. وأما الكلب فروى أنه كان كلب صيد لهم، وروى أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعى على رأيهم وذهب الكلب معهم، قال ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير. وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه. والذى ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذى مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنهم وصاحب غنم. الثانية - هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الاهل والبنين والقرابات والاصدقاء والاوطان والاموال خوف الفتنة وما يلقاه الانسان من المحنة. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فارا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم (3) في سورة " النحل ". وقد نص الله تعالى على ذلك في " براءة " وقد تقدم (4). وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الانبياء صلوات الله عليهم والاولياء. وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال: " فأووا إلى الكهف ". (1) من ج: (2) في ج: الدخول بها. (3) في ج: ما قدمناه. راجع ص 159 من هذا الجزء. (4) راجع ج 8 ص 143 وما بعدها. (*)
[ 361 ]
وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت، وقد جاء في الخبر: " إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك ". ولم يخص موضعا من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبار ك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضو في غير ذلك فاسكت. وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المؤمن الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المومن الذى لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعم صوامع المؤمنين بيوتهم " من مراسل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال: " يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وآبك على خطيئتك ". وقال صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ". خرجه البخاري. وذكر على بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لامتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال ". وذكر أيضا على بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذى دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر (1) إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة ". قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال: " إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدى أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدى زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدى ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدى القرابات والجيران ". قالوا: وكيف ذلك يارسول الله ؟ قال: " يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التى يهلك فيها ". (1) الحجر: الموضع. وكل ما حجرته من حائط فهو جحر. (*)
[ 362 ]
قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهى أرفع الاحوال لانها الحالة التى اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية، فقال: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف (1) ". ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل، وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذا هم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا. وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب، مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس. وإنما جاءت الاحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله اعلم - لان ذلك هو الاغلب في المواضع التى يعتزل فيها، فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة. وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يعجب (2) ربك من راعى غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلى فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدى يؤذن ويقيم الصلاة يخاف منى قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة ". خرجه النسائي. الثالثة - قوله تعالى: (وهئ لنا من أمرنا رشدا) لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله تعالى فقالوا: " ربنا آتنا من لدنك رحمة " أي مغفر ورزقا. (وهئ لنا من أمرنا رشدا) توفيقا للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجا من الغار في سلامة. وقيل صوابا. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه (4) أمر فزع إلى الصلاة. (1) راجع ص 367 من هذا الجزء. (2) يعجب: كيسمع، أي يرضى منه ويثيبه. (3) الشظية (بفتح الشين وكسر الظاء): قطعة مرتفعة في رأس الجبل (4) أي إذا نزل به مهم أو أصابة غم. وفى الاصول: " إذا أحزنه " والتصويب عن كتب الحديث. (*)
[ 363 ]
قوله تعالى: فضربنا علئ اذانهم في الكهف سنين عددا (11) عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم. وهذه من فصيحات القرآن التى أقرت العرب بالقصور عن الاتيان بمثله. قال الزجاج: أي منعناهم عن أن يسمعوا، لان النائم إذا سمع انتبه. وقال ابن عباس: ضربنا على آذانهم بالنوم، أي سددنا آذانهم عن نفوذ الاصوات إليها. وقيل: المعنى " فضربنا على آذانهم " أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم. والمعنى كله متقارب. وقال قطرب: هذا كقول العرب ضرب الامير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف. قال الاسود بن يعفر وكان ضريرا: ومن الحوادث لا أبالك أننى * ضربت على الارض بالاسداد (1) وأما تخصيص الاذان بالذكر فلانها الجارحة التى منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع. ومن ذكر الاذن في النوم قوله صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) خرجه الصحيح. أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم، لا يقوم الليل. و " عددا " نعت للسنين، أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير، لان القليل لا يحتاج إلى عدد لانه قد عرف. والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط. وقال أبو عبيدة: " عددا " نصب على المصدر. ثم قال قوم: بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال: " ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ". قوله تعالى: ثم بعثنهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12) قوله تعالى: (ثم بعثناهم) أي من بعد نومهم. ويقال لمن أحيى أو أقيم من نومه: مبعوث، لانه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف. (1) واحد الاسداد: سد، وهو ذهاب البصر، يقول: سدت على الطريق، أي عميت على مذاهبي. (*)
[ 364 ]
قوله تعالى: (لنعلم أي الحزبين أحصى) " لنعلم " عبارة عن خروج ذلك الشئ إلى الوجود ومشاهدته، وهذا على نحو كلام العرب، أي نعلم ذلك موجودا، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الامد. وقرأ الزهري " ليعلم " بالياء. والحزبان الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لامر الفتية. وهذا قول الجمهور من المفسرين. وقالت فرقة: هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف. وقيل: هما حزبان من المؤمنين. وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية. و " أحصى " فعل ماض. و " أمدا " نصب على المفعول به، قاله أبو على. وقال الفراء: نصب على التمييز. وقال الزجاج: نصب على الظرف، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الامد، والامد الغاية. وقال مجاهد: " أمدا " نصب معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب. وقال الطبري: " أمدا " منصوب ب " لبثوا ". ابن عطية: وهذا غير متجه، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعى إلا في الشاذ، و " أحصى " فعل رباعى. وقد يحتج له بأن يقال: إن أفعل في الرباعي قد كثر، كقولك: ما أعطاه للمال وآتاه للخير. وقال في صفة حوضه صلى الله عليه وسلم: " ماؤه أبيض من اللبن ". وقال عمر بن الخطاب: فهو لما سواها أضيع. قوله تعالى: نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية ءامنوا بربهم وزدنهم هدى (13) قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) لما اقتضى قوله تعالى " لنعلم أي الحزبين أحصى " اختلافا وقع في أمد الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذى وقع. وقوله تعالى: (إنهم فتية) أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة، كذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الايمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى وكف الاذى وترك الشكوى. وقيل: الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم. وقيل غير هذا. وهذا القول حسن جدا، لانه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة.
[ 365 ]
قوله تعالى: (وزدناهم هدى) أي يسرناهم للعمل الصالح، من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا. وهذه زيادة على الايمان. وقال السدى: زادهم هدى بكلب الراعى حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم، فرفع الكلب بديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله، فقال: يا قوم ! لم تطردوننى، لم ترجمونني ! لم تضربونني ! فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة، فزادهم الله بذلك هدى. قوله تعالى: وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموت والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14) قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم) عبارة عن شدة عزم وقوة صبر، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدى الكفار: " ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ". ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط، ومنه يقال: فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها. ومنه الربط على قلب أم موسى. وقوله تعالى: " وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام " وقد تقدم (1). قوله تعالى: (إذ قاموا فقالوا) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (إذ قاموا فقالوا) يحتمل ثلاثة معان: أحدها - أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدى الملك الكافر - كما تقدم، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذات الله هيبته. والمعنى الثاني فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد، فقال أسنهم: إنى أجد في نفسي أن ربى رب السموات والارض، فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا. فقاموا جميعا فقالوا: " ربنا رب السموات والارض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ". (1) راجع ج 7 ص 371. (*)
[ 366 ]
أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا. والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد. الثانية - قال ابن عطية: تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول " إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض ". قلت: وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم، وهذه سنة الله في الرسل والانبياء والفضلاء الاولياء. أين هذا من ضرب الارض بالاقدام والرقص بالاكمام وخاصة في هذه الازمان عند سماع الاصوات الحسان من المرد والنسوان، هيهات بينهما والله ما بين الارض والسماء. ثم هذا حرام عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى (1). وقد تقدم في " سبحان " عند قوله: " ولا تمش في الارض مرحا (2) " ما فيه كفاية. وقال الامام أبو بكر الطرسوسى وسئل عن مذهب الصوفية فقال: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي. قوله تعالى: هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطن بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا (15) قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الاصنام تقليدا من غير حجة. (لولا) أي هلا. (يأتون عليهم بسلطان بين) أي بحجة على عبادتهم الصنم. وقيل: " عليهم " راجع إلى الآلهة، أي هلا أقاموا بينة على الاصنام في كونها آلهة، فقولهم " لولا " تحضيض بمعنى التعجيز، وإذا لم يمكنهم ذلك لع يجب أن يلتفت إلى دعواهم. (1) راجع ج 14 ص 69 فما بعد. (2) راجع ص 260 من هذا الجزء. (*)
[ 367 ]
قوله تعالى: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأوا إلى الكهف ينشر لكم ربكمك كم رحمته ويهى لكم من أمركم مرفقا (16) قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم) قيل: هو من قول الله لهم. أي وإذ اعتزلتموهم فاءوا إلى الكهف. وقيل: هو من قول رئيسهم يمليخا، فيما ذكر ابن عطية. وقال الغزنوى: رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك، أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون. ثم استثنى وقال (إلا الله) أي إنكم لم تتركوا عبادته، فهو استثناء منقطع. قال ابن عطية: وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله، ولا علم لهم به، وإنما يعتقدون الاصنام في ألوهيتهم فقط. وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل، لان الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله. وفى مصحف عبد الله بن مسعود " وما يعبدون من دون الله ". قال قتادة هذا تفسيرها. قلت: ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله " قال: كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله. ابن عطية: فعلى ما قال قتادة تكون " إلا " بمنزلة غير، و " ما " من قوله " وما يعبدون إلا الله " قى موضع نصب، عطفا على الضمير في قول " اعتزلتموهم ". ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض: إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله، فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا. وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم. وقال أبو جعفر محمد بن على بن الحسين رضى الله عنه: كان أصحاب الكهف صياقلة (1)، واسم الكهف حيوم. (مرفقا) قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الانسان ومرفقه، ومنهم من يجعل " المرفق " بفتح الميم [ وكسر الفاء من الامر، والورفق من الانسان، وقد قيل: المرفق بفتح الميم (2) ] الموضع كالمسجد وهما لغتان. (1) صياقلة: شحاذو السيوف. (2) من ج... (*)
[ 368 ]
قوله تعالى: وترى الشمس إذا طلعت تزور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من ءايت الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18) قوله تعالى: (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين) أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى: إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا، لا أن المخاطب رآهم على التحقيق. " تزاور " تتنحى وتميل، من الازورار. والزور الميل. والازور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين، كما قال ابن أبى ربيعة: * وجنبي خيفة القوم أزور * ومن اللفظة قول عنترة: * ازور من وقع القنا بلبانه (2) * وفى حديث غزوة موتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو " تزاور " بإدغام التاء في الزاى، والاصل " تتزاور ". وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " تزاور " مخففة الزاى. (1) والبيت بتمامة كما في ديوانه: وخفض عنى الصوت أقبلت مشية ال * حباب وشخصي خشية الحى أزور والحباب (بالضم): الحية. وقيل هذا بيت: فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت * مصابيح شبت بالعشاء وأنؤر وغاب قمير كنت أهوى غيوبه *. روح رعيان ونوم سمر (2) وتماته: * وشكا إلى بعبرة وتحمم * واللبان (بالفتح): الصدر. والتحمحم: صوت مقطع ليس بالصبيلب. (*)
[ 369 ]
وقرأ ابن عامر " تزور " مثل تحمر. وحكى الفراء " تزوار " مثل تحمار، كلها بمعنى واحد. (وإذا غربت تقرضهم) قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم، قاله مجاهد. وقال قتادة: تدعهم. النحاس: وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال: قرضه يقرضه إذا تركه، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس ألبتة كرامة لهم، وهو قول ابن عباس. يعنى أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم وتبلى ثيابهم. وقد قيل: إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة " بقرضهم " بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس. وقيل: " وإذا غربت تقرضهم " أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا: كان في مسها لهم بالعشى إصلاح لاجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الابدان والالوان إليهم، والتأذى بحر أو برد. (وهم في فجوة منه) أي من الكهف والفجوة المتسع، وجمعها فجوات وفجاء، مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر: ونحن ملانا كل واد وفجوة * رجالا وخيلا غير ميل (1) ولا عزل أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء. (ذلك من آيات الله) لطف بهم. وهذا يقوى قول الزجاج. وقال أهل التفسير: كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون، فكذلك كان الرائى يحسبهم أيقاظا. وقيل: تحسبهم أيقاظا وقيل: (تحسبهم أيقاظا) لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه. و (أيقاظا) (1) ميل: جمع أميل وهو والجبان. وله معالن. (*)
[ 370 ]
جمع يقظ ويقظان، وهو المنتبه. (وهم رقود) كقولهم: وهم قوم ركوع وسجود وقعود، فوصف الجمع بالمصدر. (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) قال ابن عباس: لئلا تأكل الارض لحومهم. قال أبو هريرة: كان لهم في كل عام تقليبتان. وقيل: في كل سنة مرة. وقال مجاهد: في كل سبع سنين مرة. وقالت فرقة: إنما قلبوا في التسع الاواخر، وأما في الثلاثمائة فلا. وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فيضاف إلى الله تعالى. قوله تعالى: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) فيه أربع مسائل الاولى - قوله تعالى: " وكلبهم " قال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب ألا تضر (1) أحدا [ قال (2) ] في ليله أو في نهاره: صلى (3) الله على نوح. وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [ إذا قال (2) ]: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد. " أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه، على ما قال مقاتل. واختلف في لونه اختلافا كثيرا، ذكره الثعلبي. تحصيله: أي لون ذكرت أصبت، حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء. واختلف أيضا في اسمه، فعن على: ريان. ابن عباس: قطمير. الاوزاعي: مشير (4). عبد الله بن سلام: بسيط. كعب: صهيا. وهب: نقيا. وقيل قطفير (5)، ذكره الثعلبي. وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا. وقال ابن عباس: هربوا ليلا، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم. وقال كعب: مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي، فنطق فقال: لا تخافوا منى أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم. الثانية - ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ". وروى الصحيح أيضا عن (1) في ج: إلا تضرب. (2) زيادة من كتاب حياة الحيوان. (3) في حياة الحيوان: " سلام على نوح ". (4) في ج: تبر. (5) من ج. (*)
[ 371 ]
أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط ". قال الزهري: وذكر لابن عمر قول أبى هريرة فقال: يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع. فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية. وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة، إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه، أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته، على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهى عن اتخاذ ما لا منفعة فيه، والله اعلم. وقال في إحدى الروايتين " قيراطان " وفى الاخرى " قيراط ". وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، كالاسود الذى أمر عليه السلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر، أخرجه الصحيح. وقال: " عليكم بالاسود البهيم ذى النقطتين فإنه شيطان ". ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط. وأما المباح اتخاذه فلا ينقص، كالفرس والهرة. والله اعلم. الثالثة - وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذى يسرح معها، لا الذى يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذى يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع. وقد تقدم في " المائدة (1) " من أحكام الكلاب ما فيه كفاية، والحمد لله. الرابعة - قال ابن عطية: وحدثني أبى رضى الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهرى في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله. قلت: إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والاولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين (1) راجع ج 6 ص، 65 (*)
[ 372 ]
المحبين للاولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم وآله خير آل. روى الصحيح عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أعددت لها " قال فكأن الرجل استكان، ثم قال: ويا رسول الله، ما أعددت يها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: " فأنت مع من أحببت ". في رواية قال أنس بن مالك: فما فرحنا بعد الاسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فأنت مع من أحببت ". قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم. قلت: وهذا الذى تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذى نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين، كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الايمان وكلمة الاسلام، وحب النبي صلى الله عليه وسلم، " ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (1) ". وقالت فرقة: لم يكن كلبا حقيقة، و. إنما كان أحدهم، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم،... (2) كما سمى النجم التابع للجوزاء كلبا، لانه منها كالكلب من الانسان، ويقال له: كلب الجبار (3) قال ابن عطية: فسمى باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ". وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت (1) راجع ص 293 من هذا الجزء. (2) في بعض نسخ الاصل بعد قوله " طليعة لهم ": " قال ابن عطية: فسمى بأسم الحيوان الملازم لذلك الموضوع " ونراها غير لازمة. والذى في حياة الحيوان للدميري في اسم الكلب: " وقالت فرقة: كأن أحدهم وكان قد فعد عند باب الغار طليعة يهم، فسمى باسم الجيوان الملازم لذلك الموضع من الناس كمما سمى النجم التابع للجوزاء كلبا لانه منها كالكلب من الانسان، وهذا القول يضعفه... " الخ. (3) الجبار: اسم الجوزاء. (*)
[ 373 ]
أنه قرئ " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد ". فيحتمل أن يريد بالكالب هذا لرجل على ما روى، إذ بسط الذراعين واللصوق بالارض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفى بنفسه. ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب. وقرأ جعفر بن محمد الصادق " كالبهم " يعنى صاحب الكلب. قوله تعالى: (باسط ذراعيه) أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضى، لانها حكاية حال ولم يفصد الاخبار عن فعل الكلب. والذرع من طرف المرفق إلطرف الاصبع الوسطى. ثم قيل: بسط ذراعيه لطول المدة. وقيل: نام الكلب، وكان ذلك من الآيات. وقيل: نام مفتوح العين. الوصيد: القناء، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير، أي فناء الكهف، والجمع وصائد ووصد. وقيل الباب. وقال ابن عباس أيضا. وأنشد: بأرض فضاء لا يسد وصيدها * على ومعروفي بها غير منكر وقد تقدم. وقال عطاء: عتبة الباب، والباب الموصد هو المغلق. وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته. والوصيد: النبات المتقارب الاصول، فهو مشترك، والله اعلم. قوله تعالى: (لو اطلعت عليهم) قرأ الجمهور بكسر الواو. والاعمش ويحيى بن وثاب بضمها. (لو ليت منهم فرارا) أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم. (ولملئت منهم رعبا) أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة. وقيل: لوحشة مكانهم، وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش (1) في الظاهر لينقر الناس عنهم. وقيل: كان الناس محجوبين عنهم بالرعب، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم. وقيل: الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم، وذكر المهدوى والنحاس والزجاج والقشيري. وهذا بعيد، لانهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض: لبثنا يوما أو بعض يوم. ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها، إلا أن يقال: إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم. قال (2) ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التى ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم (1) مكان وحش: خال. (2) في ج: قاله ابن عطية. (*)
[ 374 ]
آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الارض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم. وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة " لملئت منهم " بتشديد اللام على تضعيف المبالغة، أي ملئت ثم ملئت. وقرأ الباقون " لملئت " بالتخفيف، والتخفيف أشهر في اللغة. وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدى: وإذ فتك النعمان بالناس محرما * فملئ من كعب بن عوف سلاسله وقرأ الجمهور " رعبا " بإسكان العين. وقرأ بضمها أبو جعفر. قال أبو حاتم: هما لغتان. و " فراوا " نصب على الحال و " رعبا " مفعول ثان أو تمييز. قوله تعالى: وكذك بعثناهم ليتسائلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19) إنه خم إن يضهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20) قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتسائلوا بينهم) البعث: التحريك عن سكون. والمعنى: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا، أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر: وفتيان صدق قد بعثت بسحرة * فقاموا جميعا بين عاث ونشوان (1) أي أيقظت واللام في قوله " ليتساءلوا " لام الصيرورة وهى لام العاقبة، كقوله " ليكون لهم عدوا وحزنا " فبعثهم لم سكن لاجل تساؤلهم. (1) البيت لامرى القيس. والسحرة (بالضم): السحرة وقيل: أعلى السحر. وقيل: هو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر. (*)
[ 375 ]
قوله تعالى: (قالوا لبئنا يوما أو بعض يوم) وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار، فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا: الله اعلم بالمدة. قوله تعالى: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذا إلى المدينة) فيه سبع مسائل: الاولى - قال ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الربع (1)، ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم " بورقكم " بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم " بورقكم " بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان. وقرأ الزجاج " بورقكم " بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعا، وأن المبعوث هو يمليخا، كان أصغرهم، فيما ذكر الغزنوى. والمدينة: أفسوس ويقال هي طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس، فلما جاء الاسلام سموها طرسوس. وقال ابن عباس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذى كان في زمانهم. الثانية - قوله تعالى: (فلينظر أيها أزكى طعاما) قال ابن عباس: أحل ذبيحة، لان أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم: وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس: كان عامتهم مجوسا. وقيل: " أزكى طعاما " أي أكثر بركة. قيل: إنهم أمروه أن يشترى ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة، ولهذا قيل: ذلك الطعام الارز. وقيل: " كان زبيبا. وقيل: تمرا، فالله أعلم. وقيل: " أزكى " أطيب. وقيل: أرخص. (فليأتكم برزق منه) أي بقوت. (وليتلطف) أي في دخول المدينة وشراء الطعام. (ولا يشعرن بكم أحدا) أي لا يخبرن. وقيل: إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه. (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم) قال الزجاج: معناه بالحجارة، وهو أخبت القتل. وقيل: يرموكم بالسب والشتم، والاول أصح، لانه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم. والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله [ عقوبة (2) ] مخالفة دين الناس، إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها. (1) الربع (كمضر): الفصيل ينتج في الربيع. (2) زيادة يقتضيها السياق. (*)
[ 376 ]
الثالثة - في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكل على بن أبى طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضى الله عنه، ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفه في الجاهلية والاسلام، ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة، أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لامية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه. روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتى بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن، قال: لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذى كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو... وذكر الحديث. قال الاصمعي: صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه، وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال، وكل مائل إلى الشئ أو معه فقد صغا إليه وأصغى، من كتاب الافعال. الرابعة - الوكالة عقد نيابة، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه. وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب، منها هذه الآية، وقوله تعالى: " والعاملين عليها (1) " وقوله " اذهبوا بقميصي هذا (2) ". وأما من السنة فأحاديث كثيرة، منها حديث عروة البارقى، وقد تقدم في آخر الانعام (3). روى جبر بن عبد الله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنى أردت الخروج إلى خيبر، فقال: (إذا أتيت وكيلى فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته (4) " خرجه أبو داود. والاحاديث كثيرة في هذه المعنى، وفى إجماع الامة على جوازها كفاية. الخامسة - الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصب لم يجز، وكان هو الوكيل، لان كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه. السادسة - في هذه الآية نكتة بديعة، وهى أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم. وجواز توكيل ذوى العذر متفق (1) راجع ج 8 ص 177. (2) راجع ج 9 ص 258. (3) راجع ج 7 ص 156. (4) الترقوة: العظم الذى بين ثغره النحر والعاتق. (*)
[ 377 ]
عليه، فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها. وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز. قال ابن العربي: وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت، إنصافا منهم وإذلالا لهم، وهو الحق، فإن الوكالة معونة ولا تكون لاهل الباطل. قلت: هذا حسن، فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء. والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبى هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الابل فجاء يتقاضاه فقال: " أعطوه " فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: " أعطوه " فقال: أوفيتني أوفى الله لك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن خيركم أحسنكم قضاء ". لفظ البخاري. فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التى كانت عليه، وذلك توكيد منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا. وهذا يرد قول أبى حنيفة وسحنون في قولهما: أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه، وهذا الحديث خلاف قولهما. السابعة - قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية جواز الشركة لان الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لانهم بعثوا من وكلوه بالشراء. وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " حسبما تقدم بيانه في " البقرة (1) ". ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغنى ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه: إن ذلك جائز. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اشترى له أضحية. قال ابن العربي: ليس في الاية دليل على ذلك، لانه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك. ولا معول في هذه المسألة (1) راجع ج 3 ص 62. (*)
[ 378 ]
إلا على حديثين: أحدهما: أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه. الثاني - حديث أبى عبيدة في جيش الخبط (1). وهذا دون الاول في الظهور، لانه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه. قلت: ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " وقوله: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا (2) " على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لاريب فيها إذ يتنرعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنينا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا (21) قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم) أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم. و " أعثر " تعدية عثر بالهمزة، وأصل العثار في القدم. (ليعلموا أن وعد الله حق) يعنى الامة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم. وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الاجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الارواح والجسد تأكله الارض. وقال بعضهم: تبعث الروح والجسد جميعا، فكبر ذلك على الملك وبقى حيران لا يدرى كيف يتبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف، فيقال: إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه (3) لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه، فلما (1) شموا جيش الخبط لانهم خرجوا فيسرية إلى أرض جهينة فأصابهم جوع فأكلوا الخبط، فسموا به وهو خبط ورق العضاة من الطلح ونحوه وهو إسقاط ورقه بالخيط. (2) راجع ج 12 ص 317. (3) في ج: ورقة. (*)
[ 379 ]
نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره، فسر الملك بذلك وقال: لعل الله قد بعث لكم آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الامر وأن الامة أمة إسلام، فروى أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم. وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي. ورجع من كان شك في بعث الاجساد إلى اليقين. فهذا معنى " اعثرنا عليهم ". " ليعلموا أن وعد الله حق " أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق " إذ يتنازعون بينهم أمرهم ". وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم. فقال الملك: ابنوا عليهم بنيانا، فقال الذين. هم على دين الفتية: اتخذوا عليهم مسجدا. وروى أن طائفة كافرة قالت: نبنى بيعة أو مضيفا (1)، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا. وروى أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين. وروى عن عبد الله (2) بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم، فذلك دعا [ الملك ] (3) إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم. وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل، فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا. وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة، فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهى عنه ممنوع لا يجوز، لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. قال الترمذي: وفى الباب عن أبى هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن. وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أولئك ذا كان فيهم (1) في ج ووحاشية الجمل عن القرطبى: مصنعا. (2) في ج: " عن عبيد بن عمير ". (3) من الجمل عن المصنف. (*)
[ 380 ]
الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ". لفظ مسلم. قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الانبياء والعلماء مساجد. وروى الائمة عن أبى مرثد الغنوى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدى إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الاصنام. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ". وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم (1) بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك (2): " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا (3). وروى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى الصحيح عن أبى الهياج الاسدي قال قال لى على بن أبى طالب: ألا أبعثك (4) على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته - في رواية - ولا صورة إلا طمستها. وأخرجه أبو داود والترمذي. قال علماؤنا: ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة (5). وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضى الله عنهما - على ما ذكر مالك في الموطأ - وقبر أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، على ما رواه الدارقطني (1) قوله: " إذا أغتم " أي تسخن بالخميصة وأخذ بنفسه من شدة الحر. (2) أي في حالة الطرح والكشف. (3) أي يحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل صنيع اليهود بقبور أنبيائهم. (4) قوله " ألا " بتشديد اللام التحضيض. وقيل: بفتحها للتنبيه. (5) لاطئة: لاصقة بالارض. (*)
[ 381 ]
من حديث ابن عباس. وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها. وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهى أن ينبغى أن يقال: هو حرام. والتسنيم في القبر: ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير. ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح. وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر. وقال أبو حنيفة: لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط. ولا بأس بوضع الاحجار لتكون علامة، لما رواه أبو بكر الاثرم قال: حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة، ذكره أبو عمر. وأما الجائزة - فالدفن في التابوت، وهو جائز لا سيما في الارض الرخوة. روى أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية (1) مخافة أن يعبد، وبقى كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين، فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام. وفى الصحيح عن سعد ابن أبى وقاص أنه قال في مرضه الذى هلك فيه: اتخذوا لى لحدا وانصبوا على اللبن نصبا، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. اللحد: هو أن يشق في الارض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الارض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن. وهو أفضل عندنا من الشق، لانه الذى اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم. وبه قال أبو حنيقة قال: السنة اللحد. وقال الشافعي: الشق. ويكره الآجر في اللحد. وقال الشافعي: لا بأس به لانه نوع من الحجر. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه، لان الآجر لاحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الاحكام. وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر. وقيل: إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا، فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر. قالوا: ويستحب اللبن والقصب لما روى أنه وضع على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حزمة من قصب. وحكى عن الشيخ الامام (1) الركية البئر. (*)
[ 382 ]
أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الارض. وقال: لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغى أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلى الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد. قلت: ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المدينة سبخة (1)، قال شقران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر. قال أبو عيسى الترمذي: حديث شقران حديث حسن [ صحيح (2) ] غريب. قوله تعالى: سيقولون ثلثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22) قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) الضمير في " سيقولون " يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك أنهم اختلفوا عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص. وقيل: المراد به النصارى، فإن قوما منهم حضروا النبي صلى الله عليه وسلم من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: كانوا سبعة ثامنهم كلبهم. وقيل: هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف. والواو في قول " وثامنهم كلبهم " طريق النحو بين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم، لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا غاية (3) ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام. وقالت فرقة منها ابن خالويه: هي واو الثمانية. وحكى الثعلبي عن أبى بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية، فتدخل الواو في الثمانية. وحكى نحوه القفال، فقال: (1) أرض سبخة: ذات ملح ونز. (2) من ج. (3) في ج: نهاية. (*)
[ 383 ]
إن قوما قالوا العدد ينتهى عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله " التائبون العابدون - ثم قال - والناهون عن المنكر والحافظون (1) ". يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم " حتى إذا جاءوه فتحت أبوابها (2) " بلا واو، ولما ذكر الجنة قال: وفتحت أبوابها " بالواو. وقال " خيرا منكن مسلمات (3) " ثم قال: " وأبكارا " فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا. قال القشيرى أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله تعالى: " هو الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر (4) " ولم يذكر الاسم الثامن بالواو. وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة: إنما ذكر الواو في قوله " سبعة وثامنهم " لينبه على أن هذا العدد هو الحق، وأنه مباين للاعداد الاخر التى قال فيها أهل الكتاب، ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين " رجما بالغيب " ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشئ، فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم. والرجم: القول بالظن، يقال لكل ما يخرص: رجم فيه ومرجوم ومرجم، كما قال: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم * وما هو عنها بالحديث المرجم (5) قلت: قد ذكر الماوردى والغزنوى: وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى " وثامنهم كلبهم " أي صاحب كلبهم. وهذا مما يقوى طريق النحويين في الواو، وأنها كما قالوا. وقال القشرى: لم يذكر الواو في قوله: رابعهم سادسهم، ولو كان بالعكس لكان جائزا، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد، وهو كقوله في موضع آخر " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (6) ". وفى موضع آخر: " إلا لها منذرون. ذكرى (7) ". قوله تعالى: (قل ربى أعلم بعدتهم) أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل. ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل. والمراد به قوم من (1) راجع ج 8 ص 269. (2) راجع ج 5 ص 284. (3) راجع ج 18 ص 193. (4) راجع ج 18 ص 45. (5) البين من معلقة زهير. (6) راجع ص 3 من هذا الجزء. (7) راجع ج 13 ص... (*)
[ 384 ]
أهل الكتاب، في قول عطاء. وكان ابن عباس يقول: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ثم ذكر السبعة بأسمائهم، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القلطى (1) ودون الكردى. وقال محمد بن سعيد بن المسيب: هو كلب صينى. والصحيح أنه زبيري. وقال: ما بقى بنيسابور محدث إلا كتب عنى هذا الحديث إلا من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو الحيرى عنى. قوله تعالى: (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى. وقيل: معنى المراء الظاهر أن تقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك. وفى هذا دليل على أن الله تعالى لم يبين لاحد عددهم فلهذا قال " إلا مراء ظاهرا " أي ذاهبا، كما قال: * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (2) * ولم يبح له في هذه الآية أن يمارى، ولكن قوله " إلا مراء " استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب. سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر، ففارق المراء الحقيقي المذموم. والضمير في قوله " فيهم " عائد على أهل الكهف. وفى قوله: " منهم " عائد على أهل الكتاب المعارضين. وقوله: " فلا تمار فيهم " يعنى في عدتهم، وجذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها. قوله تعالى: (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) روى أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهى عن السؤال. وفى هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شئ من العلم. قوله تعالى: ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا (23) إلآ أن يشآء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هذا رشدا (24) (1) القلطى (كعربي): القصير من الناس والسنانير والكلاب. قال الدميري: " والقلطى: كلب صينى ". (2) هذا عجر بيت لابي ذؤيب. وصدره. * وعيرها الواشون أنى أحبها (*)
[ 385 ]
قوله تعالى: (ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا. إلا أن يشاء الله) فيه مسئلتان: الاولى - قال العلماء: عاتب الله تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذى القرنين: غدا أخبركم بجواب أسئلتكم، ولم يستثن في ذلك. فاحتبس الوحى عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الامور إنى أفعل غدا كذا وكذا، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لا يكون محققا لحكم الخبر، فإنه إذا قال: لافعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا، وإذا قال لافعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن بكون محققا للمخبر عنه. واللام في قوله " لشئ " بمنزلة في، أو كأنه قال لاجل شئ. الثانية - قال ابن عطية: وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الايمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين. وقوله: " إلا أن يشاء الله " في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الايجاز، تقديره: إلا أن تقول إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول إن شاء الله. فالمعنى: إلا أن يذكر مشيئة الله، فليس " إلا أن يشاء الله " من القول الذى نهى عنه. قلت: ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والاخفش. قال البصريون: المعنى إلا بمشيئة الله. فإذا قال الانسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله. قال ابن عطية: وقالت فرقة " إلا أن يشاء الله " استثناء من قوله " ولا تقولن ". قال: وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى. وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في " المائدة (1) ". قوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيت) فيه مسألة واحدة، وهو الامر بالذكر بعد النسيان واختلف في الذكر المأمور به، فقيل: هو قوله (وقل عسى أن يهدينى ربى لاقرب من هذا رشدا) قال محمد الكوفى المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل (1) راجع ج 6 ص 264. (*)
[ 386 ]
من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء. وقال الجمهور: هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص. وقيل: هو قوله " إن شاء الله " [ الصافات: 102 ] الذى كان نسيه عند يمينه. حكى عن ابن عباس أنه إن نسى الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا. وهو قول مجاهد. وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبى العالية في قوله تعالى: " واذكر ربك إذا نسيت " قال: يستثنى إذا ذكره. الحسن: ما دام في مجلس الذكر. ابن عباس: سنتين، ذكره الغزنوى قال: فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الاثم. فأما الاستثناء المفيد (1) حكما فلا يصح إلا متصلا. السدى: أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها (2). وقيل: استثن باسمه لئلا تنسى. وقيل: اذكره متى ما نسيته. وقيل: إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه. وقيل: اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك، فذلك حقيقة الذكر. وهذه الآية مخاطبة للنبى صلى الله عليه وسلم، وهى استفتاح كلام على الاصح، ولست من الاستثناء في المين بشئ، وهى بعد تعم جميع امته، لانه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه. والله الموفق. قوله تعالى: ولبثوا في كهفهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا (25) هذا خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم. وفى قراءة ابن مسعود " وقالوا لبثوا ". قال الطبري: إن بنى إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الاعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله تعالى نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر. فأمر الله تعالى أن يرد علم ذلك إليه. قال ابن عطية: فقوله على هذا " لبثوا " الاول يريد في نوم الكهف، و " لبثوا " الثاني يريد بعد الاعثار (3) إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى وقت عدمهم بالبلاء. مجاهد: إلى وقت نزول القرآن. الضحاك: إلى أن ماتوا. وقال بعضهم: إنه لما قال " وازدادوا تسعا " لم يدر الناس أهى ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام. واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله تعالى برد العلم إليه في التسع، فهى على هذا مبهمة. وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى (1) في ى وه ج: المغير. (2) في ى: أي صل صلاة نسيتها إذا ذكرتها. (3) في ج: بعد الانتشار. (*)
[ 387 ]
بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية. وقيل غير هذا على ما يأتي. قال القشيرى: لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين، كما تقول: عندي مائة درهم وخمسة، والمفهوم منه خمسة دراهم. وقال أبو على " وازدادوا تسعا " أي ازدادوا لبث تسع، فحذف. وقال الضحاك: لما نزلت " ولبثوا في كهفهم ثلثمائة " قالوا سنين أم شهور أم جمع أم أيام، فأنزل الله عز وجل " سنين ". وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الايام، فلما كان الاخبار هنا للنبى العربي ذكرت التسع، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين. ونحوه ذكر الغزنوى. أي باختلاف سنى الشمس والقمر، لانه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين. وقرأ الجمهور " ثلثمائة سنين " بتنوين مائة ونصب سنين، على التقديم والتأخير، أي سنين ثلاثمائة فقدم الصفة على الموصوف، فتكون " سنين " على هذا بدلا أو عطف بيان. وقيل: على التفسير والتمييز. و " سنين " في موضع سنة. وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وترك التنوين، كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذ المعنى بهما واحد. قال أبو على: هذه الاعداد التى تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع. وفى مصحف عبد الله " ثلثمائة سنة ". وفرأ الضحاك " ثلثمائة سنون " بالواو. وقرأ أبو عمرو بخلاف " تسعا " بفتح التاء وقرأ الجمهور بكسرها. وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة: التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلثمائة. قوله تعالى: قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموت والارض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك في حكمه أحدا (26) قوله تعالى: (قل الله أعلى بما لبثوا) قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم، على قول مجاهد. أو إلى أن ماتوا، على قول الضحاك. أو إلى وقت تغيرهم بالبلى، على ما تقدم. وقيل: بما لبثوا في الكهف، وهى المدة التى ذكرها الله تعالى عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصانا. أي لا يعلم علم ذلك إلا الله أو من علمه ذلك (له غيب السموات والارض). (1) في ج وى: لنسق. (2) في ج وى: الامم. ولعل هذا أوجه لان الامم لا تستعمل إلا الشمسية. (*)
[ 388 ]
قوله تعالى: (أبصر به وأسمع) أي ما أبصره وأسمعه. قال قتادة: لا أحد أبصر من الله ولا اسمع. وهذه عبارات عن الادراك. ويحتمل أن يكون المعنى " أبصر به " أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الامور، واسمع به العالم، فيكونان أمرين لا على وجه التعجب. وقيل. المعنى أبصرهم وأسمعهم ما قال الله فيهم. (ما لهم من دونه من ولى) أي لم يكن لاصحاب الكهف ولى يتولى حفظهم دون الله. ويحتمل أن يعود الضمير في " لهم " على معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار. والمعنى: ما لهؤلاء المختلفين في مدة لبثهم ولى دون الله يتولى تدبير أمرهم، فكيف يكونون اعلم منه، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم. قوله تعالى: (ولا يشرك في حكمه أحدا) قرئ بالياء ورفع الكاف، على معنى الخبر عن الله تعالى. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري " ولا تشرك " بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله " ولا يشرك " عطفا على قوله: " أبصر به واسمع ". وقرأ مجاهد " يشرك " بالياء من تحت والجزم. قال يعقوب: لا أعرف وجهه. مسألة: اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة، فروى عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاما فقالوا: هذه عظام أهل الكهف. فقال لهم ابن عباس: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة، فسمعه راهب فقال: ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا، فقيل له: هذا ابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم. وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليحجن عيسى بن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بع ". ذكره ابن عطية. قلت: ومكتوب في التوراة والانجيل أن عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وأنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا. وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب " التذكرة ". فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة، بل يموتون قبيل الساعة.
[ 389 ]
قوله تعالى: (واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلمته ولن تجد من دونه ملتحدا (27) قوله تعالى: (واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماتة) قيل: هو من تمام قصة أصحاب الكهف، أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات الله ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف. وقال الطبري: لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه. (ولن تجد) أنت (من دونه) إن لم تتبع القرآن وخالفته. (ملتحدا) أي ملجأ. وقيل موئلا وأصله الميل ومن لجأت إليه فقد ملت إليه. قال القشيرى أبو نصر عبد الرحيم: وهذا آخر قصة أصحاب الكهف. ولما غزا معاوية غزوة المضيق نحو الروم وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذى فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم، فقال ابن عباس: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك، فقال: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " فقال: لا انتهى حتى اعلم علمهم، وبعث قوما لذلك، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم، ذكره الثعلبي أيضا. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن أبعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الايمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: كيف أبعثهم ؟ فقال: ابسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلى الرابع على بن أبى طالب، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان فإن الله تعالى يأمرها أن تطيعك، ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف، فقلعوا منه حجرا، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد الله على الفتية أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقالوا لهم: معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام، فقالوا: وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السموات والارض، وعليكم بما أبلغتم، وقبلوا
[ 390 ]
دينه وأسلموا، ثم قالوا: أقرئوا محمدا رسول الله منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدى. فيقال: إن المهدى يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهم، ثم ردتهم الريح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف وجدتموهم " ؟ فأخبروه الخبر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تفرق بينى وبين أصحابي وأصهاري واغفر لمن أجنبي وأحب أهل بيتى وخاصتي وأصحابي ". وقيل: إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح، فأخبر الله تعالى المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانوا قبل موسى عليه السلام وأن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: دخلوا الكهف بعد المسيح، فالله اعلم أي ذلك كان. قوله تعالى: هذا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28) قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) هذا مثل قوله: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " " الانعام: (1) " وقد مضى الكلام فيه. وقال سلمان الفارسى رضى الله عنه: جاءت المؤلف قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن والافرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى " واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا. واصبر (1) راجع ج 6 ص 432. (*)
[ 391 ]
نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه - حتى بلغ - إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ". يتهددهم بالنار. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال: " الحمد لله الذى لم يمتنى حتى أمرنى أن أصبر نفسي مع رجال من أمتى، معكم المحيا ومعكم الممات. " (يريدون وجهه) أي طاعته. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة (1) والعشي " وحجتهم أنها في السواد بالواو. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لانها معروفة. روى عن الحسن " ولا تعد (2) عينيك عنهم " أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها، حكاه اليزيدى. وقيل: لا تحتقرهم عيناك، كما يقال فلان تنبوعنه العين، أي مستحقرا. (تريد زينة الحياة الدنيا) أي تزيين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله: " لئن أشكرت ليحبطن عملك (3) ". وإن كان الله أعاذه من الشرك. و " تريد " فعل مضارع في موضع الحال، أي لا تعد عينا مريدا، كقول امرئ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما * نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وزعم بعضهم أن حق الكلام: لا تعد عينيك عنهم، لان " تعد " متعد بنفسه. قيل له: والذى وردت به التلاوة من رفع العينين يئول إلى معنى النصب فيها، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم، فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: (1) كذا في الاصول أراد: قرأ هؤلاء هنا وفى الانعام " الغدوة ". (2) في كتاب روح المعاني: " وقرأ الحسن (ولا تعد عينيك) بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة، من أعداء، ونصب العينيين. وعنه وعن عيسى والاعمش أنهم قرءوا (ولا تعد عينيك) بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة، من عداه يعديه " ونصب العينين أيضا. (3) راجع ج 15 ص 276. (*)
[ 392 ]
فلا تعجبك أموالهم (1) " فأسند الاعجاب إلى الاموال، والمعنى: لا تعجبك يا محمد أموالهم. ويزيدك وضوحا قول الزجاج: إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوى الهيئات والزينة. قوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحى، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة، فأنزل الله تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " يعنى من ختمنا على قلبه عن التوحيد. (واتبع هواه) يعنى الشرك. (وكان أمره فرطا) قيل: هو من التفريط الذى هو التقصير وتقديم العجز بترك الايمان. وقيل: من الافراط ومجاوزة الحد، وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس، وكان هذا من التكبر والافراط في القول. وقيل: " فرطا " أي قدما في الشر، من قولهم: فرط منه أمر أي سبق. وقيل: معنى " أغفلنا قلبه " وجدناه غافلا، كما تقول: لقيت فلانا فأحمدته، أي وجدته محمودا. وقال عمرو بن معد يكرب لبنى الحارث بن كعب: والله لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين. وقيل: نزلت، " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " في عيينة بن حصن الفزارى، ذكره عبد الرزاق، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري. والله أعلم. قوله تعالى: وقل الحق من ربك فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظلمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29) قوله تعالى: (وقل الحق من ريكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) " الحق " رفع على خبر الابتداء المضمر، أي قل هو الحق. وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله: (1) راجع ج 8 ص 164. (*)
[ 393 ]
" من ربكم ". ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس ! من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدى من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر، ليس إلى من ذلك شئ، فالله يؤتى الحق من يشاء وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الايمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة. قوله تعالى: (إنا أعتدنا) أي أعددنا. (للظالمين) أي للكافرين الجاحدين. (نارا أحاط بهم سرادقها) قال الجوهرى: السرادق واحد السرادقات التى تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف (1) فهو سرادق. قال رؤبة (2): يا حكم بن المنذر بن الجارود * سرادق المجد عليك ممدود يقال: بيت مسردق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز (3) وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة: هو المدخل النعمان بيتا سماؤه * صدور الفيول بعد بيت مسردق وقال ابن الاعرابي: " سرادقها " سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبى: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبى: السرادق الحجزة التى تكون حول الفسطاط. وقال ابن عزيز. وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذى ذكره الله تعالى في سورة " والمرسلات ". حيث يقول: " انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب (4) " وقوله: " وظل من يحموم (5) " قاله قتادة. وقيل: إنه البحر المحيط بالدنيا. وروى يعلى بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البحر هو جهنم - ثم تلا - نارا أحاط بهم سرادقها " - (1) الكرفس: القطن. (2) كذا في الاصل واللسان، واستدرك عليه صاحب اللسان بأنه الكذب الحرمازى، وتابعه على هذا سيبويه والاعلم الشنتمرى. مدح الراجز أحد بنى المنذر بن الجارود العبدى، وحكم هذا أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك. وسمى جده الجارود لانه أعار على قوم فاكتسح أموالهم: فشبه بالسيل الذى يجرد ما مر به. (3) بفتح الواو وكسرها، ملك من ملوك الفرس. (4) راجع ج 19 ص 160. (5) راجع ج 17 ص 212. (*)
[ 394 ]
ثم قال - والله لا أدخلها أبدا دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة " ذكره الماوردى. وخرج ابن المبارك من حديث أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة ". وخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب. قلت: وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجدره ما وصف. قوله تعالى: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه) قال ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دردى الزيت. مجاهد: القيح والدم. الضحاك: ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: هو كل ما أذيب من جواهر الارض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل. ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير: هو الذى قد انتهى حره. وقال: المهل ضرب من القطران، يقال: مهلت البعير فهو ممهول. وفيل: هو السم. والمعنى في هذه الاقوال متقارب. وفى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " كالمهل " قال: " كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه " قال أبو عيسى: هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه. وخرج عن أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقى من ماء صديد يتجرعه (3) " قال: " يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره. يقول الله تعالى " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (4) " يقول " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا " قال: حديث غريب. قلت: وهذا يدل على صحة تلك الاقوال، وأنها مرادة، والله اعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح " المهل " النحاس المذاب. ابن الاعرابي: المهل لمذاب من (1) الكثف: جمع كثيف، وهو الثخين الغليظ. (2) الدردى (بالضم): ما يبقى في الاسفل. (3) راجع ج 9 ص 3 51. (4) راجع ج 16 ص 236. (*)
[ 395 ]
الرصاص. وقال أبو عمرو. المهل دردى الزيت. والمهل أيضا القيح والصديد. وفى حديث أبى بكر: ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب. (مرتفقا) قال مجاهد: معناه مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ابن عباس: منزلا. عطاء: مقرا. وقيل مهادا. وقال القتبى: مجلسا، والمعنى متقارب، وأصله من المتكأ، يقال منه: ارتفقت أي اتكأت على المرفق. قال الشاعر: قالت له وارتفقت ألا فتى * يسوق بالقوم غزالات الضحا (1) ويقال: ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذؤيب الهذلى: نام الخلى وبت الليل مرتفقا (2) * كأن عينى فيها الصاب مدبوح الصاب: عصارة شجر مر. قوله تعالى: (إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت إنا لا نضيغ أجر من أحسن عملا (30) أولئك لهم جنت عدن تجرى من تحتهم الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متمئين فيها على الارائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا (31) لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب. وفى الكلام إضمار، أي نضيع أجر من أحسن منهم عملا، فأما من أحسن عملا من غير المومنين فعمله محبط. " عملا " نصب على التمييز، وإن شئت بإيقاع " أحسن " عليه. وقيل: (1) غزالة الضحى وغزالاته: بعد ما تنبسط الشمس وتضحى. وقيل: هو أول الضحا إلى مد النهار الاكبر حتى يمضى من النهار نحو من خمسه. (2) رواية الديوان: " مشتجرا " والمشتجر: الذى قد شجر نفسه ووضع يده تحت شجرة على حنكه أو على فمه. والشجر: ما بين اللحيين. ومذبوح،. شقوق. (*)
[ 396 ]
إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " كلام معترض، والخبر قوله (أولئك لهم جنات عدن) و " جنات عدن " سرة الجنة، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها، لان كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل: العدن الاقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الابل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه، ومنه " جنات عدن " أي جنات إقامة ومنه سمى المعدن (بكسر الدال)، لان الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شئ معدنه والعادن: الناقة المقيمة في المراعى. وعدن بلد، قاله الجوهرى. (تجرى من تحتهم الانهار) تقدم في غير موضع (1). (يحلون فيها من أساور من ذهب) وهو جمع سوار. قال سعيد بن جبير: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ. قلت: هذا منصوص في القرآن، قال هنا " من ذهب " وقال في الحج (2) وفاطر (3) " من ذهب ولؤلؤا " وفى الانسان (4) " من فضة ". وقال أبو هريرة: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " خرجه مسلم. وحكى الفراء: " يحلون " بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة، يقال: حليت المرأة تحلى فهى حالية إذا لبست الحلى. وحلى الشئ بعينى يحلى، ذكره النحاس. والسوار سوار المرأة، والجمع أسورة، وجمع الجمع أساورة. وقرئ " فلولا ألقى عليه أساورة من ذهب (5) ": وقد يكون الجمع أساور. وقال الله تعالى " يحلون فيها من أساور من ذهب " قاله الجوهرى. وفال ابن عزيز: أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وهو الذى يلبس في الذراع من ذهب، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة، فإن كان من قرن أو عاج فهى مسكة وجمعه مسك. قال النحاس: وحكى قطرب في واحد الاساور إسوار، وقطرب صاحب شذوذ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره. (1) راجع ج 1 ص 239. (2) راجع ج 12 ص 28. (3) راجع ج 14 ص... (4) راجع ج 19 ص 141. (5) راجع ج 16 ص 100. (*)
[ 397 ]
قلت: قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء: وأحدها إسوار. وقال المفسرون: لما كانت الملفى الدنيا الاساور. والتيجان جعل الله تعالى ذلك لاهل الجنة. قوله تعالى: (ويلبسون ثياب خضرا من سندس وإستبرق) السندس: الرفيق (1) النحيف، واحده سندسة، قال الكسائي. والاستبرق: ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير. قال الشاعر: تراهن يلبسن المشاعر مرة * وإستبرق الديباج طورا لباسها فالاستبرق الديباج. ابن بحر: المنسوج بالذهب. القتبى: فارسي معرب. الجوهرى: وتصغيره أبيرق. وقيل: هو استفعل من البريق. والصحيح أنه وفاق بين اللغتين، إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، على ما تقدم، والله اعلم. وخص الاخضر بالذكر لانه الموافق للبصر، لان البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بين البياض والسواد، وذلك يجمع الشعاع. والله اعلم. روى النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص فال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق أم نسج ينسج ؟ فضحك بعض القوم. فقال لهم: " مم تضحكون من جاهل يسأل عالما " ؟ فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أين السائل عن ثياب الجنة " ؟ فقال: ها هو ذا يا رسول الله، قال " لا بل تشقق عنها ثمر الجنة " قالها ثلاثا. وقال أبو هريرة: دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان. ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه. وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة. وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه، يقول أحد الوجهين للآخر: أنا أكرم على ولى الله منك، أنا ألى جسده وأنت لا تلى. ويقول الآخر: أنا أكرم على ولى الله منك، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر. (1) الرقيق أي من الديباج. (*)
[ 398 ]
قوله تعالى: (متكئين فيها على الارائك) " الارائك " جمع أريكة، وهى السرر في الحجال (1). وقيل الفرش في الحجال، قاله الزجاج. ابن عباس: هي الاسرة من ذهب، وهى مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الاريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية. وأصل متكئين موتكئين، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ، وأصل التكأة وكأة، ومنه التوكأ للتحامل على الشئ، فقلبت الواو تاء وأدغمت. ورجل وكأة كثير الانكاء. (نعم الثواب وحسنت مرتفقا) يعنى الجنات، عكس " وساءت مرتفقا ". وقد تقدم. ولو كان " نعمت " لجاز لانه اسم للجنة. وعلى هذا " وحسنت مرتفقا ". وروى البراء ابن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجچة الوداع، والنبى صلى الله عليه وسلم واقف بعبرفات على ناقته العضباء فقال: إنى رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الاربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم " ذكره الماوردى، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن على بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبن أسحاق عن البراء بن عازب قال: قام أعرابي...، فذكره. وأسنده السهيلي في كتاب الاعلام. وقد روينا جميع ذلك بالاجارة، والحمد لله. قوله تعالى: واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعنب وحففنهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين ءاتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خللها نهرا (33) وكان له ثمر فقال لصحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (34) (1) الحجال، جمع الحجلة (بفتحتين) كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور والاسرة للعروس. (*)
[ 399 ]
قوله تعالى: (واضرب لهم مثلا رجلين) هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله " واصبر نفسك ". واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما، فقال الكلبى: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الاسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. والآخر كافر وهو الاسود بن عبد الاسد، وهما الاخوان المدكوران في سورة " الصافات " في قوله " قال قائل منهم إنى كان لى قرين (1) "، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال...، ذكره الثعلبي والقشيري. وقيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة. وقيل: هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر. وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه، شبههم الله برجلين من بنى إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا، في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالالف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالالف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى، وأدركت الاول الحاجة، فأراد أن يستخدم (2) نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبى فسألته أن يستخدمنى في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بى فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين ! فما صنعت بمالك ؟. قال: اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أئنك (1) راجع ج 15 ص 81 فما بعد. (2) في ج وى: يستأجر. (*)
[ 400 ]
لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالى حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أنى كسبت وسفهت أنت، اخرج عنى. ثم كان من قصة هذا الغنى ما ذكره الله تعالى في القرآن من الاحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب. قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل: ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإنى اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإنى اشترى منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق [ بألف (1) دينار ]، بها ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإنى أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإنى أشترى منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال: ما فعل ما لك ؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما، فقال صاحبه: والله لاعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق، فقال له: يا أخى إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمى شبكته ويسمى باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمى شبكته ويسمى باسم الله فلا يطلع له فيها شئ، فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من (1) من ج وى (*)
[ 401 ]
الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا، وأراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال: " إنى كان لى قرين. يقول أإنك لمن المصدقين (1) الآية، فنادى مناد: يا أهل الجنة ! هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم، فنزلت " واضرب لهم مثلا ". بين الله تعالى حال الاخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة " الصافات " في قول " إنى كان لى قرين. يقول أإنك لمن المصدقين - إلى قوله - لمثل هذا فليعمل العاملون ". قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لاخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى غيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عنى بهذه الآية. وقد قيل: إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الامة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا، ذكره الماوردى. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله اعلم. قوله تعالى: (وحففناهما بنخل) أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة، ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به، ومنه " حافين من حول العرش (2) " (وجعلنا بينهما زرعا) أي جعلنا حول الاعناب النخل، ووسط الاعناب الزرع. (كلتا الجنتين) أي كل واحدة من الجنتين، (آتت أكلها) تاما، ولذلك لم يقل آتنا. واختلف في لفظ " كلتا وكلا " هل هو مفرد أو مثنى، فقال أهل البصرة: هو مفرد، لان كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير " كل " في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى، فإذا ولى (3) اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين، فإذا اتصل بمضمر قلبت الالف ياء في موضع الجر والنصب، تقول: (1) راجچع ج 15 ص 81 فما بعد. (2) راجع ج 15 ص 2 84 فما بعد. (3) كذا في الاصول والصحاح اللجوهرى وقد نقله عنه صاحب اللسان. وكان الاولى أنى قال: " فإذا وليه اسم ظاهر... ". (*)
[ 402 ]
رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الالف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر: في كلت رجليها سلامى (1) واحده * كلتاهما مقرونة بزائده أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة، لانه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولان معنى " كلا " مخالف لمعنى " كل " لان " كلا " للاحاطة و " كلا " يدل على شئ مخصوص، وأما هذا الشاعر فإنما حذف الالف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم " نحن " اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير: كلا يومى أمامة يوم صد * وإن لم نأتها إلا لماما فأخبر عن " كلا " بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله " آتت " ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما. واختلف أيضا في الف " كلتا "، فقال سيبويه: ألف " وكلتا " للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهى واو والاصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لان في التاء علم التأنيث، والالف " في " كلتا " قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمى: التاء ملحقة والالف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الامر على ما زعم، لقالوا في النسبة إليها كلتوى، فلما قالوا كلوى وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوى، ذكره الجوهرى. قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتتا أكلهما، لان المعنى المختار (3) كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لان المعنى كل (1) السلامى كحبارى: عظام الاصابع في اليد والقدم. (2) كذا في الاصول واللسان مادة " كلا ". وفى ديوانه المطبوع: " يوم صدق ". والبيت من قصيدة مطلها: ألا حى المنازل والخياما * وسكنا طال فيها ما أقاما (3) في ج الجنتان كلتاهما. (*)
[ 403 ]
الجنتين. قال: وفى قراءة عبد الله " كل الجنتين أتى أكله ". والمعنى على هذا عند الفراء: كل شى من الجنتين آتى أكله. والاكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل، ومنه قوله تعالى: " أكلها دائم " وقد تقدم. (1) (ولم تظلم منه شيئا) أي لم تنقص. قوله تعالى: (وفجرنا خلالهمنا نهرا) أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. (وكان له ثمر) قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبى إسحاق " ثمر " بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله " وأحيط بثمره " جمع ثمرة. قال الجوهرى: الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار، مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر، مئل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار، مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر، يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو " وكان له ثمر " بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس: ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في " الانعام " نحو هذا مبينا. ذكر النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدى قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال [ أخبرنا (3) ] هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الاعمش أن الحجاج قال: لو سمعت أحدا يقرأ " وكان له ثمر " لقطعت لسانه، فقلت للاعمش: أتأخذ بذلك ؟ فقال: لا ! ولا نعمة عين (4). فكان يقرأ " ثمر " ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس: فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر، وهو حسن في العربية إلا أن القول الاول أشبه والله اعلم، لان قوله " كلتا الجنتين آتت أكلها " يدل على أن له ثمرا. قوله تعالى: (فقال لصاحبه وهو يحاوره) أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا، أي ما رد جوابا. (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ها هنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه. (1) راجع ج 9 ص 324. (2) راجع ج 7 ص 49. (3) من ج وفى ى: حدثنا. (4) في هذا الكلمة اثنا عشر لغة: نعم عين ونعمة ونعام ونعيم (بفتحتين) ونعمى ونعامى ونعام ونعم ونعمة (بضمهن) ونعمة ونعام (بكسرها). وتنصب الكل بإضمار الفعل، أي أفعل ذلك أنعاما لعينك وإكراما. (*)
[ 404 ]
قوله تعالى: ودخل جنته وهو ظالم نفسه قال مآ أظن أن تبيد هذه أبدا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لاجدن خيرا منها منقلبا (36) قوله تعالى: (ودخل جنته) قيل: أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها. (وهو ظالم نفسه) أي بكفره، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه. (قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا) أنكر فناء الدار. (ومل أظن الساعة قائمة) أي لا أحسب البعث كائنا. (ولئن رددت إلى ربى) أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه، وهو معنى قوله: (لاجدن خيرا منها مقلبا) وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الايمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام " منهما ". وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة " منها " على التوحيد، والتثنية أولى، لان الضمير أقرب إلى الجنتين. قوله تعالى: قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37) لكنا هو الله ربى ولآ أشرك بربي أحدا (38) قوله تعالى: (قال له صاحبه) يهوذا أو تمليخا، على الخلاف في اسمه. (أكفرت بالذى خلقك كم تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الاشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الاعادة. و " سواك رجلا " أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الاعضاء ذكرا. (لكنا هو الله ربى) كذا قرأه أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية. وروى عن الكسائي " لكن هو الله " بمعنى لكن الامر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون " لكنا " بإثبات الالف. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير،
[ 405 ]
تقديره: لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من " أنا " طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الاخرى وحذفت ألف " أنا " في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الاصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة: الاصل لكن أنا، فحذفت الالف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي: لهنك من عبسية لوسيمة * على هنوات كاذب من يقولها أراد: لله إنك [ لوسيمة (1) ]، فأسقط إحدى اللامين من " لله " وحذف الالف من إنك. وقال آخر فجاء به على الاصل: وترمينني (2) بالطرف أي أنت مذنب * وتقلينني لكن إياك لا أقلي أي لكن أنا. وقال أبو حاتم: ورووا عن عاصم " لكنا هو الله ربي " وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الالف في الادراج. قال الزجاج: إثبات الالف في " لكنا هو الله ربي " في الادراج جيد، لانه قد حذفت الالف من أنا فجاءوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبي " لكن أنا هو الله ربي ". وقرأ ابن عامر والمسيلي (3) عن نافع ورويس عن يعقوب " لكنا " في حال الوقف والوصل معا بإثبات الالف. وقال الشاعر: أنا سيف العشيرة فاعرفوني * حميدا قد تذريت السناما وقال الاعشى: فكيف أنا وانتحال القوافي * بعد المشيب كفى ذاك عارا ولا خلاف في إثباتها في الوقف. (هو الله ربي) " هو " ضمير القصة والشأن والامر، كقوله " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا (4) " وقوله: " قل هو الله أحد (5) ". (ولا أشرك (1) من ج وى. (2) في ج وى: ويرميني بالطرف أي أنت مذنب. ويقلينى لكن أياه لا أقلى. (3) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد. وهذه النسبة إلى مسيلة (كسفينة) بلدة بالقطر الجزائري. (4) راجع ج 11 ص 340. (5) راجع ج 20 ص 244. (*)
[ 406 ]
بربي أحدا) دل مفهومه على أن الاخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه، وهو الذى آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه، فهو إشراك. قوله تعالى: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنل أقل منك مالا وولدا (39) فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا (40) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا (41) قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) فيه مسئلتان: الاولى - قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) أو أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " و " ما " في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء: الامر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي الامر مشيئة الله تعالى. وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. " لاقوة إلا بالله " أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع. الثانية - قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا " ما شاء الله لا قوة إلا بالله ". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابي هريرة: " ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة " قلت: بلى يا رسول الله، قال " لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدى واستسلم " أخرجه مسلم
[ 407 ]
في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه: فقال " يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة - " قلت: ما هي يا رسول الله ؟ قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله ". وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة " قلت: بلى، فقال " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". وروى أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له: " هديت وكفيت ووقيت ". وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدى ووقي وكفي ". وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء " من الضعيف ؟ قال: الذى يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين ". وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شئ إلا رضي به. وروى أن من قال أربعا أمن من أربع: من قال هذه أمن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمرى إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
[ 408 ]
قوله تعالى: (إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا) " إن " شرط " ترن " مجزوم به، والجواب " فعسى ربي " و " أنا " فاصلة لا موضع لها من الاعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر " إن ترن أنا أقل منك " بالرفع، يجعل " أنا " مبتدأ و " أقل " خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الاول النون والياء، إلا أن الياء حذفت لان الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الاصل لانها الاسم على الحقيقة. و (فعسى) بمعنى لعل أي فلعل ربي. (أن يؤتينى خيرا من جنتك) أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. (ويرسل عليها) أي على جنتك. (حسبانا) أي مرامي من السماء، وأحدها حسبانة، قاله الاخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الاعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهرى: والحسبان (بالضم): العذاب. وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الارض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال الله تعالى: " الشمس والقمر بحسبان (1) " وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك، فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمى الاكاسرة. والمرامى من السماء عذاب. " فتصبح صعيدا زلقا " يعنى أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهى أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض، و " زلقا " تأكيد لوصف الصعيد، أي وتزل عنها الاقدام لملاستها. يقال: مكان زلق (بالتحريك) أي دحض، وهو في الاصل مصدر قولك: زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة: * كأنها حقباء بلقاء الزلق * والمزلقة والمزلقة: الموضع الذى لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه، قال الجوهرى. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد (1) راجع ج 152 17. (*)
[ 409 ]
أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حللا يبقى عليه شعر، قاله القشيرى. (أو يصبح ماؤها غورا) أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح، ويستوى فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم: تظل جياده نوحا عليه * مقلدة أعنتها صفونا آخر: هريقى من دموعهما سجاما * ضباع وجاوبي نوحا قياما أي نائحات. وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور، فحذف المضاف، مثل " واسأل القرية (1) " ذكره النحاس. وقال الكسائي: ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغوورا، أي سفل في الارض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغوورا، دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال: * أغارت عينه أم لم تغارا * وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت. قال أبو ذؤيب: هل الدهر إلا ليلة ونهارها * وإلا طلوع الشمس ثم غيارها (فلن تستطيع له طلبا) أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره. قوله تعالى: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول يليتنى لم أشرك بربي أحدا (42) قوله تعالى: (وأحيط بثمره) اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى " أحيط بثمره " أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. (فأصبح يقلب كفيه) أي فأصبح الكافر يضرب إحدى (1) راجع ج 9 ص 245 فما بعد. (*)
[ 410 ]
يديه على الاخرى ندما، لان هذا يصدر من النادم. وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق، وهذا لان الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي فملكه مال. ودل قوله " فأصبح " على أن هذا الاهلاك جرى بالليل، كقوله " فطاف (1) عليها طائف من ربك وهم نائمون. فأصبحت كالصريم " ويقال: أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. (وهى خاوية على عروشها) أي خالية قد سقط بعضها على بعض، مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت، وكذلك إذا سقطت، ومنه قوله تعالى: " فتلك بيوتهم خاوية بما (2) ظلموا " ويقال: ساقطة، كما يقال فهى خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها، فجمع عليه بين هلاك الثمر والاصل، وهذا من أعظم الجوانح، مقابلة على بغية. (ويقول يا ليتنى لم أشرك بربي أحدا) أي يا ليتنى عرفت نعم الله على، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم. قوله تعالى: ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا (43) قوله تعالى: (ولو تكن له فئه ينصرونه من دون الله) " فئة " اسم " تكن " و " له " الخبر. " ينصرونه " في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون " ينصرونه " الخبر. والوجه الاول عند سيبويه أولى لانه قد تقدم " له ". وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل " ولم يكن له كفوا أحد ". (3) وقد أجاز سيبويه الآخر. و " ينصرونه " على معنى فئة، لان معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره، أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم. (وما كان منتصرا) أي ممتنعا، قاله قتادة. وقيل: مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في " آل عمران (4) ". والهاء عوض من الياء التى نقصت (1) راجع ج 18 ص 238. (2) راجع ج 13 ص 216 فما بعد. (3) راجع ج 20 ص 344. فما بعد. (4) راجع ج 4 ص 24. (*)
[ 411 ]
من وسطه، أصله فئ مثل فيع، لانه من فاء، ويجمع على فئون وفئات مئل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد. قوله تعالى: هنالك الولية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا (44) قوله تعالى: (هنالك الولية لله الحق) اختلف في العامل في قوله " هنالك " وهو ظرف، فقيل: العامل فيه " ولم تكن له فئة " ولا كان هنالك، أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب. وقيل: تم الكلام عند قوله " منتصرا ". والعامل في قوله " هنالك ": " الولاية ". وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية لله الحق هنالك، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي " الحق " بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة " الحق " بالخفض نعتا لله عز وجل، والتقدير: لله ذى الحق. قال الزجاج: ويجوز " الحق " بالنصب على المصدر والتوكيد، كما تقول: هذا لك حقا. وقرأ الاعمش وحمزة والكسائي " الولاية " بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة، كقوله " الله ولى الذين آمنوا (1) ". " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ". وبالكسر يعنى السلطان والقدرة والامارة، كقوله " والامر يومئذ لله (3) " أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد، والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوى والتوهمات يوم القيامة. وقال أبو عبيد: إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق. (هو خير ثوابا) أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال، أي هو خير من يرجى. (وخير عقبا) قرأ عاصم والاعمش وحمزة ويحيى " عقبا " ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد، أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به. يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره. (1) راجع ج 3 ص 282 فما بعد. (2) راجع ج 16 ص 234. (3) راجع ج 19 ص 247. (*)
[ 412 ]
قوله تعالى: واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزله من السماء فلختلط نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الريح وكان الله على كل شئ مقتدرا (45) قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها. (كماء أنزلناه من السماء فاختلط به) أي بالماء. (نبات الارض) حتى استوى. وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لان النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في " يونس (1) " مبينا. وقالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لان الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولان الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولان الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولان الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولان الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفى حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل: يا رسول الله، إنى أريد أن أكون من الفائزين، قال: " ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفى والكثير منها يطغى ". وفى صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه ". (فأصبح) أي النبات (هشيما) أي متكسرا من اليبس متفتتا، يعنى بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم: كسر الشئ اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم، إذا كان سمحا. ورجل هشيم: ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم (1) راجع ج 8 ص 326. (*)
[ 413 ]
ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هشم الثريد، ومنه سمى هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبد الله بن الزبعرى: عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون (1) ذهبن بالاموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز، فحمله في الغرائر على الابل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعنى كسره وثرده، ونحر تلك الابل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة، فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التى أصابتهم، فسمى بذلك هاشما. (تذروه الرياح) أي تفرقه، قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجئ. ابن عباس: تديره، والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف " تذريه الريح ". قال الكسائي: وفى قراءة عبد الله " تذريه ". يقال: ذرته الريح تذروه ذروا و [ تذريه ] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء: فقلت له صوب ولا تجهدنه * فيذرك (2) من أخرى القطاة فتزلق قوله تعالى: (وكان الله على كل شئ مقتدرا) من الانشاء والافناء والاحياء، سبحانه. ! قوله تعالى: المال والبنون زينة الحيوة الدنيا والباقيات الصلحت خير عند ربك ثوابا وخير أملا (46) قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) ويجوز " زينتا " وهو خبر الابتداء في التثنية والافراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لان في المال جمالا ونفعا، وفى البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معقرينة الصفة للمال (1) في ج: سنوات. (2) في كتاب سيبويه: " فيدنك " وهى رواية أخرى في البيت. وقد نسبه سيبويه إلى عمرو بن عمار الطائى. ومعنى صوب: خذ القصد في السير وارفق بالفرس ولا تجهد. وأخرى القطاة: آخرها والقطاة: وقعد الرديف. (أي مؤخر الظهر حيث يكون ردف الراكب) يقول هذه لغلامه وقد حمله على فرسه ليصيد له. (راجع الشنتمرى على كتاب سيبويه). (*)
[ 414 ]
والبنين، لان المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقر فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح، إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لانه فئ ذاهب، ولا مع النساء لانها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لانه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفى قى هذا قول الله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة (1) ". وقال تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم (2) ". قوله تعالى: (والباقيات الصالحات) أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات. (خير عند ربك ثوابا) أي أفضل. (وخير أملا) أي أفضل من ذى المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا (3) ". وقيل: خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنهحير في طنهم. واختلف العلماء في " الباقيات الصالحات "، فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل: هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله، لان كل ما بقى ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال لى رضى الله عنه: الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله تعالى لاقوام. وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله (1) راجع ج 18 ص 140. (2) راجع ج 13 ص 21 ص فما بعد. (*)
[ 415 ]
صلى الله عليه وسلم قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات) قيل: وما هي يا رسول الله ؟ قال: [ المسألة. قيل وما هي يارسول الله ؟ قال (1): ] " التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا باله ". صححه أبو محمد عبد الحق رحمه الله. وروى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال: " إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات ". ذكره الثعلبي، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعنى يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها ". وأخرجه الترمذي من حديث الاعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال: " إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة ". قال: هذا حديث غريب ولا نعرف للاعمش سماعا من أنس، ولا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بى فقال يا محمد أقرئ أمتك منى السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " قال: حديث حسن غريب، خرجه الماوردى بمعناه. وفيه - فقلت: ما غراس الجنة ؟ قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله ". وخرج ابن ماجة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال: " يا أبا هريرة ما الذى تغرس " ؟ قلت غراسا. قال: " ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة ". وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات، لان بها تقبل الاعمال وترفع، قال الحسن. وقال عبيد بن عمير: هن البنات، يدل عليه أوائل، الآية، قال الله تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " ثم قال " والباقيات الصالحات " يعنى البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا، (1) من ج وى. (*)
[ 416 ]
وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. يدل عليه ما روته عائشة رضى الله عنها قالت: دخلت على امرأة مسكينة... الحديث، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله: " يتوارى من القوم " الآية (1). وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لقد رأيت رجلا من أمتى أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه الله بهن ". وقال قتادة في قوله تعالى: " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما (2) " قال: أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبى فولدت له اثنى عشر غلاما كلهم أنبياء. قوله تعالى: ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرنهم فلم نغادر منهم أحدا (47) قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة) قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو وقيل: المعنى واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الارض، ونسيرها كما نسير السحاب، كما قال في آية أخرى " وهى تمر مر السحاب (3) " ثم تكسر فتعود إلى الارض، كما قال: " وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا (4) ". وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر " ويوم تسير " بتاء مضمومة وفتح الياء. و " الجبال " رفعا على الفعل المجهول. وقرأ ابن محيصن ومجاهد " ويوم تسير الجبال " بفتح التاء مخففا من سار. " الجبال " رفعا. دليل قراءة أبى عمرو " وإذا الجبال سيرت (5) ". ودليل قراءة ابن محيصن " وتسير الجبال سيرا (4) ". واختار أبو عبيد القراءة الاولى " نسير " بالنون لقوله " وحشرناهم ". ومعنى " بارزة " ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان، أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها، فهى بارزة ظاهرة. وعلى هذا القول أهل التفسير. وقيل: " وترى الارض بارزة " أي برز ما فيها من الكنوز والاموات، كما قال " وألقت ما فيها (1) راجع ص 117 من هذا الجزء. (2) راجع ج 211 ص 33 فما بعد. (3) راجع ج 13 ص... (4) راجع ج 17 ص 194 فما بعد. (5) راجع ج 19 ص 225 فما بعد. (*)
[ 417 ]
وتخلت (1) " وقال " وأخرجت الارض أثقالها (2) " وهذا قول عطاء. (وحشرناهم) أي إلى الموقف. (فلم نغادر منهم أحدا) أي لم نترك، يقال: غادرت كذا أي تركته. قال عنترة: غادرته متعفرا أوصاله * والقوم بين مجرح ومجدل أي تركته. والمغادرة الترك، ومنه الغدر، لانه ترل الوفاء. وإنما سمى الغدير من الماء غديرا لان الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة لانها تجعلها خلفها. يقول: حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم. قوله تعالى: وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما حلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا (48) قوله تعالى: (وعرضوا على ربك صفا) " صفا " نصب على الحال. قال مقاتل: يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا، لا أنهم صف واحد. وقيل: جميعا، كقوله " ثم ائتوا صفا (3) " أي جميعا. وقيل قياما. وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى ينادى يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسئولون محاسبون. يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ". قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله. (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) أي يقال لهم: لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدا. وقيل فرادى، دليله قوله " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة (4) ". وقد تقدم. وقال الزجاج: أي بعثناكم كما خلقناكم. (بل زعمتم) هذا خطاب لمنكري (1) راجع ج 19 ص 267 فما بعد. (2) راجع ج 20 ص 147. (3) راجع ج 11 ص 215 فما بعد. (4) راجع ج 7 ص 42 (*)
[ 418 ]
البعث، أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث. وفى صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " قلت: يا رسول الله ! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال: " يا عائشة، الاملا أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ". " غرلا " أي غير مختونين. وقد تقدم في " الانعام (1) " بيانه. قوله تعالى: ووضع الكتب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يويلتنا مال هذا الكتب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49) قوله تعالى: (ووضع الكتاب) " الكتاب " اسم جنس، وفيه وجهان: أحدهما - أنها كتب الاعمال في أيدى العباد، قاله مقاتل. الثاني - أنه وضع الحساب، قاله الكلبى، فعبر عن الحساب بالكتاب لانهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. والقول الاول أظهر، ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم - شك نعيم - عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بنى أسد قال قال عمر لكعب: ويحك يا كعب ! حدثنا من حديث الآخرة، قال: نعم يا أمير المؤمنين ! إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال - ثم يؤتى بالصحف التى فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " قال الاسدي: الصغيرة ما دون الشرك، والكبيرة الشرك، إلا أحصاها - قال كعب، ثم يدعى المؤمن فيعطى. كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لى حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر (1) راجع ج 7 ص 42. (*)
[ 419 ]
ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة، فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول " هآؤم اقرءوا كتابيه. إنى ظننت أنى ملاق حسابيه (1) " ثم يدعى بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوى عنقه، فذلك قوله " وأما من أوتى كتابه وراء ظهره (2) " فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه ! ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر. قال ابن عباس: الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك، يعنى ما كان من ذلك في معصية الله عز وجل، ذكره الثعلبي. وحكى الماوردى عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك. قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله أعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردى على التبسم، وقد قال تعالى: " فتبسم ضاحكا من قولها (3) " وقال سعيد بن جبير: إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل، والكبيرة المواقعة والزنى. وقد مضى في " النساء (4) " بيان هذا. قال قتادة: اشتكى القوم الاحصاء، وما اشتكى أحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. وقد مضى. ومعنى. " أحصاها " عدها وأحاط بها، وأضيف الاحصاء إلى الكتاب توسعا. (ووجدوا ما عملوا حاضرا) أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا. وقيل: وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا (ولا يظلم ربك أحدا) أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد، ولا يأخذوه بما لم يعمله، قال الضحاك. وقيل: لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه. قوله تعالى: وإذا قلنا للملكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظلمين بدلاأ (50) (1) راجع ج 18 ص 268 فما بعد. (2) راجع ج 19 ص 170. (3) راجع ج 13 ص 175. (4) راجع ج 5 ص 158. (*)
[ 420 ]
قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) تقدم في " البقرة " هذا مستوفى (1). قال أبو جعفر النحاس: وفى هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى. " ففسق عن أمر ربه " ففى هذا قولان: أحدهما - وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول: أطعمته عن جوع. والقول الآخر - وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني) وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله: أفتتخذونه يا بنى آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو، أي أعداء، فهو اسم جنس (بئس للظالمين بدلا) أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله. أو بئس إبليس بدلا عن الله. واختلف هل لابليس ذرية من صلبه، فقال الشعبى: سألني رجل فقال هل لابليس زوجة ؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله " أفتتخذونه وذريته أولياء " فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم. وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات، فهذا أصل ذريته. وقيل: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفى اليسرى فرجا، فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بنى آدم فتنة، وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيرى أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لابليس أتباعا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بنى آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الامر فيه على نقل صحيح. قلت: الذى ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدى في الجمع بين الصحيحين عن الامام أبى بكر البرقانى أنه خرج في كتابه مسندا عن أبى محمد عبد الغنى بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبى عثمان عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تكن (1) راجع ج 1 ص 291. (*)
[ 421 ]
أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ ". وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله اعلم. قال ابن عطية: وقول " وذريته " ظاهر اللفظ يقتضى الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل. وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الاسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والارض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق. وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب. والاعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط (1) صاحب الاخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا. وداسم الذى إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. قال الاعمش: وإنى ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والابيض، وهو الذى يوسوس للانبياء. وصخر وهو الذى اختلس خاتم سليمان عليه السلام. والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها. والاقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى. والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان. وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفى في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والاعور صاحب أبواب السلطان. قال وقال الدارانى: إن لابليس شيطانا يقال له المتقاضى، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية. قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب. وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان. قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح، وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره. (1) في ج: وشوط. (*)
[ 422 ]
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدرى ما اسمه يحدث. وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته ". وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الاشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق، قال: يوشك أن يبر. فال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب، قال: أنت ! قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى، قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى قتل، قال: أنت أنت ! وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدرى ما اسمه يحدث. وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته ". وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الاشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق، قال: يوشك أن يبر. فال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب، قال: أنت ! قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى، قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى قتل، قال: أنت أنت ! وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجئ أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت. وقد تقدم وسمعت شيخنا الامام أبا محمد عبد المعطي بثغر الاسكندرية يقول: إن شيطانا يقال له البيضاوى يتمثل للفقراء المواصلين (1) في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملا عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا. (1) في ج: المواظبين. (*) حققه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش تم الجزء العاشر من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء تعالى الجزء الحادى عشر، وأوله قوله تعالى " ما أشهدتهم خلق السموات والارض "