تفسير القرطبي
القرطبي ج 7
[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء السابع أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبة في ظلمت الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59) فيه ثلاث مسائل: الأولى - جاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك. وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ". وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: " قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله " (1) ومفاتح جمع مفتح، هذه اللغة الفصيحة. ويقال: مفتاح ويجمع مفاتيح. وهي قراءة ابن السميقع " مفاتيح ". والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا، محسوسا كان كالقفل على البيت أو معقول كالنظر. وروى ابن ماجة في سننه وأبو حاتم البستي في صحيحه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه). وهو في الآية استعارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان، (1) راجع ج 13 ص 225. (*)
[ 2 ]
ولذالك قال بعضهم: هو مأخوذ من قول الناس أفتح علي كذا، أي أعطني أو علمني ما أتوصل إليه به. فالله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه. ولا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله، بدليل قوله تعالى: " وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء " (1) وقال: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ". (2) (الآية) (3) وقيل: المراد بالمفاتح خزائن الرزق، عن السدي والحسن. مقاتل والضحاك: خزائن الأرض. وهذا مجاز، عبر عنها بما يتوصل إليها به. وقيل: غير هذا مما يتضمنه معنى الحديث أي عنده الآجال ووقت انقضائها. وقيل: عواقب الأعمار وخواتم الأعمال، إلى غير هذا من الأقوال. والأول المختار. والله أعلم. الثانيه - قال علماؤنا: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده. (4) فمن قال: إنه ينزل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النوء (5) ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته، لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النوء، قال الله تعالى: (6) " أصبح من من عبادي مؤمن بي وكافر (بالكوكب) " على ما يأتي بيانه في " الواقعة " (7) إن شاء الله. قال ابن العربي: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ولم يفسق. وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر. أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل ان تكون فلا ريبة (1) راجع ج 4 ص 288. (2) راجع ج 19 ص 26. (3) من ك. (4) في ك: من رسول. (5) النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. (6) إى في الحديث القدسي. (7) راجع ج 17 ص 228 فما بعد. (*)
[ 3 ]
في كفره أيضا. فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا: يؤدب ولا يسجن. أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا: إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسب ما أخبر الله عنه من قوله: " والقمر قدرناه (1) منازل ". وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة، إذ لا يدركون الفرق بين هذا وغيره، فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين فأدبو حتى يسروا (2) ذالك إذا عرفوه ولا يعلنوا به. قلت: ومن هذا الباب (أيضا) (3) ما جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى عليه وسلم قال: " من أتى عرافا (فسأله عن (4) شئ) لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ". والعراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب. وهي من العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا الفن هو العيافة (بالياء). وكها ينطلق عليها اسم الكهانة، قاله القاضي عياض. والكهانة: ادعاء علم الغيب. قال أبو عمر بن عبد البر في (كتاب) (3) (الكافي): من المكاسب المجتمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله. قال علماؤنا: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان بإتيان المنجمين، والكهان لا سيما بالديار المصرية، فقد شاع في رؤسائهم وأتباعهم وأمرائهم اتخاذ المنجمين، بل ولقد أنخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاءوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال، واستخرجوا منهم الأموال فحصلوا من أقوالهم على السراب (5) والآل، ومن أديانهم على الفساد والضلال. وكل ذلك من الكبائر، لقول عليه السلام: " لم تقبل لصلاة أربعين ليلة ". فكيف بمن أتخذهم وأنفق عليهم معتمدا على أقوالهم. روى مسلم (رحمه (3) الله) عن عائشة (رضي (3) الله عنها) قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان فقال: " إنهم ليسوا بشئ) (6) " فقالوا: (1) راجع ج 15 ص 29 (2) في اوز: يستروا. (3) من ج وك وز. (4) زيادة عن صحيح مسلم. (5) السراب: الذى يكون نصف النهار لاطئا بالأرض لا صقابها كأنه ماء جار. والآل: الذى يكون بالضحى كالماء بين السماء والأرض يرفع الشخوص ويزهاها. (6) التصحيح من ز. (*)
[ 4 ]
يارسول الله، إنهم يحدثونا أحيانا بشئ فيكون حقا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها (1) في أذن وليه (قر الدجاجة (2) فيخلطون معها مائة كذبة ". قال الحميدي: ليس ليحيى (3) بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح غير هذا وأخرجه البخاري (أيضا) (4) من حديث أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوجيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ". وسيأتي هذا المعنى في " سبأ " إن شاء الله (5) تعالى. الثالثه - قوله تعالى: (ويعلم ما في البر والبحر) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات المجاورة للبشر، أي يعلم ما يهلك في البر والبحر. ويقال: يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى، وما في البحر من الدواب ورزق ما فيها " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " روى يزيد بن هارون عن نافع عن محمد بن إسحاق عن نافع ابن عمر عن النبي صلى عليه وسلم قال: " ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان " وذلك قوله في محكم كتابه: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها السقط من أولاد بني آدم، والحبة يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب يراد به الحي، واليابس يراد به الميت. قال ابن عطية: وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه. وقيل: المعنى " وما تسقط من ورقة " أي من ورقة الشجر إلا يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء، ولا حبة إلا يعلم متى تنبت وكم تنبت ومن يأكلها، " وظلمات الأرض " بطونها وهذا أصح، فإنه موافق للحديث وهو مقتضى الآية. والله الموفق للهداية. وقيل: " في ظلمات الأرض " (1) القر: ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه. (2) الزيادة عن صحيح مسلم. (*) (3) هو أحد رجال سند هذا الحديث. (4) من ك. (5) راجع ج 14 ص 278 فما بعد. (*)
[ 5 ]
يعني الصخرة التي هي أسفل الأرضين السابعة. " ولا رطب ولا يابس " بالخفض عطفا على اللفظ. وقرأ ابن السميقع والحسن وغيرهما بالرفع فيهما عطفا على موضع " من ورقة "، ف " - من " على هذا للتوكيد. (إلا في كتاب مبين) أي في اللوح المحفوظ لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه تعالى عن ذلك. وقيل: كتبه وهو يعلمه لتعظيم الأمر، أي اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف بما فيه ثواب وعقاب. قوله تعالى: وهو الذي يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (60) قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) أي ينيمكم فيقبض نفوسكم التي بها تميزون، وليس ذلك موتا حقيقة بل هو قبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت. والتوفي استيفاء الشئ. وتوفي الميت استوفى عدد أيام عمره، والذي ينام كأنه استوفى حركاته في اليقظة. والوفاة الموت. وأوفيتك المال، وتوفيته (1)، واستوفيته إذا أخذته أجمع. وقال الشاعر (2): إن بني الأدرد ليسوا من أحد * ولا توفاهم قريش في العدد ويقال: إن الروح إذا خرج من البدن في المنام تبقى فيه الحياة، ولهذا تكون فيه الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرج روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس. وقال بعضهم. لا تخرج منه الروح، ولكن يخرج منه الذهن. ويقال: هذا أمر لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى. وهذا أصح الأقاويل، والله أعلم. (ثم يبعثكم فيه) أي في النهار، ويعني اليقظة. (ليقضى أجل مسمى) أي ليستوفي كل إنسان أجلا ضرب له. وقرأ أبو رجاء وطلحة بن مصرف " ثم يبعثكم فيه ليقضى أجلا مسمى " أي عنده. و " جرحتم " كسبتم. وقد تقديم في المائدة (3). وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير وهو الذي يتوفاكم (1) في ز، ل: توفيث الشئ. (2) هو منظور الوبرى. (3) راجع ج 6 ص 66. (*)
[ 6 ]
بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه، فقدم الأهم الذي من أجله وقع البعث في النهار. وقال ابن جريج " ثم يبعثكم فيه " أي في المنام. ومعنى الآية: إن إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم فإنه أحصى كل شئ عددا وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم. وقد دل على الحشر والنشر بالبعث، لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر. قوله تعالى: وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى الله مولهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (62) قوله تعالى: (وهو قادر فوق عباده) يعني فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة على ما تقدم بيانه أول السورة. (ويرسل عليكم حفظة) أي من الملائكة. والإرسال حقيقته إطلاق الشئ بما حمل من الرسالة، فإرسال الملائكة بما حملوا من الحفظ الذي أمروا به، كما قال: " وإن عليكم لحافظين " (1) أي ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات. والحفظة جمع حافظ، مثل الكتبة والكاتب. ويقال: إنهما ملكان بالليل وملكان بالنهار، يكتب أحدهما الخير والآخر الشر، وإذا مشى الإنسان يكون أحدهما بين يديه والآخر وراءه، وإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، لقوله تعالى: " عن اليمين وعن الشمال قعيد " (2) (الآية) (3) ويقال: لكل إنسان خمسة من الملائكة: اثنان بالليل، واثنان بالنهار، والخامس لا يفارقه ليلا ولا نهارا. والله أعلم. وقال عمر بن الخطاب (رضي الله (4) عنه): ومن الناس من يعيش (5) شقيا * جاهل القلب غافل اليقظه فإذا كان ذا وفاء ورأي * حذر الموت واتقى الحفظه إنما الناس راحل ومقيم * فالذي بان للمقيم عظه (1) راجع ج 19 ص 245. (2) راجع ج 17 ص 8. (3) من ز. (4) من ز، ع. (5) في ك: سفيها. (*)
[ 7 ]
قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت) يريد أسبابه. كما تقدم في " البقرة ". (1) (توفته رسلنا) على تأنيث الجماعة، كما قال: " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات " و " كذبت رسل " (2). وقرأ حمزة " توفاه رسلنا " على تذكير الجمع. وقرأ الأعمش " تتوفاه رسلنا " بزيادة تاء والتذكير. والمراد أعوان ملك الموت، قاله ابن عباس وغيره. ويروى أنهم يسلون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها قبضها ملك الموت. وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمنا أو إلى ملائكة العذاب إن كان كافرا. ويقال: معه سبعة من ملائكة الرحمة وسبعة من ملائكة العذاب، فإذا قبض نفسا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالثواب ويصعدون بها إلى السماء، إذا قبض نفسا كافرة دفعها إلى ملائكة العذاب فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها، ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين، وروح المؤمن إلى عليين. والتوفي تارة يضاف إلى ملك الموت، كما قال: " قل يتوفاكم ملك الموت (3) " وتارة إلى الملائكة لأنهم يتولون ذلك، كما في هذه الآية وغيرها. وتارة إلى الله وهو المتوفي على الحقيقة، كما قال: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " (4) " قل الله يحييكم ثم يميتكم " (5) " الذي خلق الموت و (6) الحياة " فكل مأمور من الملائكة فإنما يفعل ما أمر به. (وهم لا يفرطون) أي لا يضيعون ولا يقصرون، أي يطيعون أمر الله. وأصله من التقدم، كما تقدم. فمعنى فرقدم العجز. وقال أبو عبيدة: لا يتوانون. وقرأ عبيد بن عمير " لا يفرطون " بالتخفيف، أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به الإكرام والإهانة. (ثم ردوا إلى الله أي ردهم الله بالبعث للحساب. (مولاهم الحق) أي خالقهم ورازقهم وباعثهم ومالكهم. " الحق " بالحفض قراءة الجمهور، على النعت والصفة لاسم الله تعالى. وقرأ الحسن " الحق " بالنصب على إضمار أعني، أو على المصدر، أي حقا. (ألا له الحكم) أي اعلموا وقولوا: له الحكم وحده يو القيامة، أي القضاء والفصل. (وهو أسرع الحاسبين) أي لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يد. وقد تقدم. (7) (1) راجع ج 2 ص 137. (2) راجع ج 6 ص 416. (3) راجع ج 14 ص 92. (*) (4) راجع ج 15 ص 260. (5) راجع ج 16 ص 172. (6) راجع ج 18 ص 206. (7) راجع ج 2 ص 435. (*)
[ 8 ]
قوله تعالى: قل ينجيكم من ظلمت البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجنا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64) قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) أي شدائدهما، يقال: يوم مظلم أي شديد. قال النحاس: والعرب تقول: يوم مظلم إذا كان شديدا، فإن عظمت ذلك قالت: يوم ذو كواكب، وأنشد سيبويه: بنى أسد هل تعلمون بلاءنا * إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا وجمع " الظلمات " على أنه يعني ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم، أي إذا أخطأتم الطريق وخفتم الهلاك دعوتموه (لئن أنجيتنا (1) من هذه) أي من هذه الشدائد (لنكونن من الشاكرين) أي من الطائعين. فوبخهم الله في دعائهم إياه عند الشدائد، وهم يدعون معه في حالة الرخاء غيره بقوله: " ثم أنتم تشركون ". وقرأ الأعمش " وخيفة " من الخوف، و (قرأ) (2) أبو بكر عن عاصم " خفية " بكسر الخاء، والباقون بضمها، لغتان. وزاد الفراء خفوة وخفوة. قال: ونظيره حبية وحبية وحبوة وحبوة. وقراءة الأعمش بعيدة، لأن معنى " تضرعا " أن تظهروا التذلل و " خفية " أن تبطنوا مثل ذلك. وقرأ الكوفيون " لئن أنجانا " واتساق المعنى بالتاء، كما قرأ أهل المدينة وأهل الشأم. قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل ركب) وقرأ الكوفيون " ينجيكم " بالتشديد، الباقون بالتخفيف. قيل: معناهما واحد مثل نجا وأنجيته ونجيته. وقيل: التشديد للتكثير. والكرب: الغم يأخذ بالنفس، يقال منه: رجل مكروب. قال عنترة: ومكروب كشفت الكرب عنه * بطعنة فيصل لما دعاني والكربة مشتقة من ذلك. قوله تعالى: (ثم أنتم تشركون) تقريع وتوبيخ، مثل قوله في أول السورة " ثم أنتم تمترون ". لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا (1) قراءة نافع. (2) من ك. (*)
[ 9 ]
بدلا منه وهو الإشراك، فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة. قوله تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الأيت لعلهم يفقهون (65) أي القادر على إنجائكم من الكرب، قادر على تعذيبكم. ومعنى (من فوقكم) الرجم والحجارة والطوفان والصيحة والريح، كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح، عن مجاهد وابن جبير وغيرهما. (أو من تحت أرجلكم) الخسف والرجفة، كما فعل بقارون وأصحاب مدين. وقيل: " من فوقكم " يعني الأمراء الظلمة، " ومن تحت أرجلكم " يعني السفلة وعبيد السوء، عن ابن عباس ومجاهد أيضا. (أو يلبسكم شيعا) وروي عن أبي عبد الله المدني " أو يلبسكم " بضم الياء، أي يجللكم العذاب ويعمكم به، وهذا من اللبس بضم الأول، وقراءة الفتح من اللبس. وهو موضع مشكل والأعراب يبينه. أي يلبس عليكم أمركم، فحذف أحد المفعولين وحرف الجر، كما قال: " وإذا كالوهم أو وزنوهم " (1) وهذا اللبس بأن يخلط أمرهم فيجعلهم مختلفي الأهواء، عن ابن عباس. وقيل: معنى " يلبسكم شيعا " يقوى عدوكم حتى يخالطكم وإذا خالطكم فقد لبسكم. " شيعا " معناه فرقا. وقيل يجعلكم فرقا يقاتل بعضكم بعضا، وذلك بتخليط أمرهم وافتراق أمرائهم (2) على طلب الدنيا. وهو معنى (قوله) (2) (ويذيق بعضكم بأس بعض) أي بالحرب والقتل في الفتنة، عن مجاهد. والآية عامة في المسلمين والكفار. وقيل هي في الكفار خاصة. وقال الحسن: هي في أهل الصلاة. قلت: وهو الصحيح، فإنه المشاهد في الوجود، فقد لبسنا العدو في ديارنا واستولى على أنفسنا وأموالنا، مع الفتنة المستولية علينا بقتل بعضنا بعضا واستباحة بعضنا أموال بعض. (1) راجع ج 19 ص 250. (2) في ك: أهوائهم. (*)
[ 10 ]
نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وعن الحسن أيضا أنه تأول ذلك فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. روى مسلم عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله (1) زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم (2) ولو أجتمع عليهم من بإقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا). وروى النسائي عن خباب بن الأرت، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله من صلاته جاءه خباب فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ! لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت الله عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعا فمنعنيها ". وقد أتينا على هذه الأخبار في كتاب (التذكرة) والحمد لله. وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: " يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك " ؟ فقال له جبريل: " إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى وأحسن الصلاة، ثم دعا فنزل جبريل وقال: " يا محمد إن الله تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ". فقال: (يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض " ؟ فنزل جبريل بهذه الآية: " آلم. أحسب الناس (1) زوى: جمع. (2) أي مجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم. (*)
[ 11 ]
أن يتركوا أن يقولوا آمنا (1) الآية. وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بوجه الله " فلما نزلت " أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " قال: (هاتان أهون). وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر قال: " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي). قال وكيع: يعني الخسف. قوله تعالى: (أنظر كيف نصرف الآيات) أي نبين لهم الحجج والدلالات. (لعلهم يفقهون) يريد بطلان ما هم عليه من الشرك والمعاصي. قوله تعالى: وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66) لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون (67) قوله تعالى: (وكذب به قومك) أي بالقرآن. وقرأ ابن أبي عبلة " وكذبت ". بالتاء. (وهو الحق) أي القصص الحق. (قل لست عليكم بوكيل) قال الحسن: لست بحافظ أعمالكم حتى أجازيكم عليها، إنما أنا منذر وقد بلغت، نظيره " وما أنا عليكم بحفيظ " (2) أي أحفظ عليكم أعمالكم. ثم قيل: هذا منسوخ بآية القتال. وقيل: ليس بمنسوخ، إذ لم يكن في وسعه إيمانهم. (لكل نبإ مستقر) لكل خبر حقيقة، أي لكل شئ وقت يقع فيه من غير تقدم وتأخر. وقيل: أي لكل عمل جزاء. قال الحسن: هذا وعيد من الله تعالى للكفار، لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث. الزجاج: يجوز أن يكون وعيدا بما ينزل بهم في الدنيا. (قال) (3) السدي: استقر يوم بدر ما كان يعدهم به من العذاب. وذكر الثعلبي أنه رأى في بعض التفاسير أن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع على السن. (1) راجع ج 13 ص 323. (2) راجع ج 9 ص 86. (3) من ك. (*)
[ 12 ]
قوله تعالى: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظلمين (68) قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) بالتكذيب والرد والأستهزاء (فأعرض عنهم) والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه. وهو صحيح، فإن العلة سماع الخوض في آيات الله، وذلك يشملهم وإياه. وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحد، لأن قيامه عن المشركين كان يشق (1) عليهم، ولم يكن المؤمنون عندهم كذلك، فأمر أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزءوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء. والخوض أصله في الماء، ثم استعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل، تشبيها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول. وقيل: هو مأخوذ من الخلط. وكل شئ خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل خلطه. فأدب الله عز وجل نبيه (صلى الله عليه وسلم (2)) بهذه الآية، (لأنه) (3) كان يقعد إلى قوم من المشركين يعظهم ويدعوهم فيستهزءون بالقرآن، فأمره الله أن يعرض عنهم إعراض منكر. ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا وعلم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه. وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " قال: هم الذين يستهزئون بكتاب الله، نهاه الله عن أن يجلس معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر قام. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هم الذين يقولون في القرآن غير الحق. الثانيه - في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية (4). وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي (رضي الله عنه (5)) أنه قال: لا تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون (1) في ك: أشق. (2) من ك وز. (3) من ك. (4) التقية والتقاة بمعنى واحده. يريد أنهم يتقون بعضهم بعضا ويظهرون الصلح والاتفاق، وباطنهم بخلاف ذالك. (5) من، ع، ز. (*)
[ 13 ]
في آيات الله. قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمنا كان أو كافرا. قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالس الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: أسمع مني كلمة، فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السختياني. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له. وروى أبو عبد الله الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم. قوله تعالى: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: (وإما ينسينك) " إما " شرط، فيلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم، كما قال: إما يصبك عدو في مناوأة * يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر وقرأ ابن عباس (1) وابن عامر " ينسينك " بتشديد السين على التكثير، يقال: نسى وأنسى بمعنى واحد (لغتان)، (1) قال الشاعر: قالت سليمى أتسري اليوم أم تقل * وقد ينسيك بعض الحاجة الكسل (2) وقال امرؤ القيس: *... تنسني إذا قمت سربالي * (3) (1) في ابن عطية: قرأ ابن عامر وحده. الخ وفي ك: قرأ ابن عياش وابن عامر وابن عمر. (2) الشاهد في ينسيك بالشد مع عدم النون الشديدة إلا أنه بدون إما. (3) والبيت بتمامه كما في اللنسان: ومثلك بيضاء العوارض طفلة * لعوب تنسى أذا قمت سربالى ورواية اللسان " تناسانى " بدل " تنسينى ". (*)
[ 14 ]
المعنى: يا محمد إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فجالستهم بعد النهى. (فلا تقعد بعد الذكرى " أي إذا ذكرت فلا تقعد (مع القوم الظالمين) يعني المشركين. والذكرى اسم للتذكير. الثانية - قيل: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ذهبوا إلى تبرئته عليه السلام من النسيان. وقيل: هو خاص به، والنسيان جائز عليه. قال ابن العربي: وإن عذرنا أصحابنا في (قولهم (1) إن) قول تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك " (2) خطاب للأمة باسم النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة الشرك عليه، فلا عذر لهم في هذا لجواز النسيان عليه. قال عليه السلام، " نسي آدم فنسيت ذريته " خرجه الترمذي وصححه. وقال مخبرا عن نفسه: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني ". خرجه في الصحيح، فأضاف النسيان إليه. وقال وقد سمع قراءة رجل: " لقد أذكرني أية كذا وكذا كنت أنسيتها ". واختلفوا بعد جواز النسيان عليه، هل يكون فيما طريقه البلاغ من الأفعال وأحكام الشرع أم لا. ؟ فذهب إلى الأول - فيما ذكره القاضي عياض - عامة العلماء والأئمة النظار، كما هو ظاهر القرآن والأحاديث، لكن شرط الأئمة أن الله تعالى ينبهه على ذلك ولا يقره عليه. ثم اختلفوا هل من شرط التنبيه اتصال بالحادثة على الفور، وهو مذهب القاضي أبي بكر والأكثر من العلماء، أو يجوز في ذلك التراخي ما لم ينخر عمره وينقطع تبليغه، وإليه نحا أبو المعالي. ومنعت طائفة من العلماء السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات الشرعية، كما منعوه أتفاقا في الأقوال البلاغية واعتذروا عن الظواهر الواردة في ذلك، وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق. وشذت الباطنية وطائفة من أرباب علم القلوب فقالوا: لا يجوز النسيان عليه، وإنما ينسى قصدا ويتعمد صورة النسيان ليسن. ونحا إلى هذا عظيم من أئمة التحقيق وهو أبو المظفر الإسفرايني في كتابه (الأوسط) وهو منحى غير سديد، وجمع الضد مع الضد مستحيل بعيد. قوله تعالى: وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون (69) (1) الزيادة من ابن العربي. (2) راجع ج 15 ص 276. (*)
[ 15 ]
قال ابن عباس: لما نزل لا تقعدوا مع المشركين وهو المراد بقوله: " فأعرض عنهم " قال المسلمون: لا يمكننا دخول المسجد والطواف، فنزلت هذه الآية. " ولكن ذكرى " أي فإن قعدوا يعني المؤمنين فليذكروهم. (لعلهم يتقون) الله في ترك ما هم فيه. ثم قيل: نسخ هذا بقوله: " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " (1). وإنما كانت الرخصة قبل الفتح وكان الوقت وقت تقية. وأشار بقول: " وقد نزل عليكم في الكتاب " إلى قول: " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ". قال القشيري: والأظهر أن الآية ليست منسوخة. والمعنى: ما عليكم شئ من حساب المشركين، فعليكم بتذكيرهم وزجرهم فإن أبوا فحسابهم على الله. و " ذكرى " في موضع نصب على المصدر، ويجوز أن تكون في موضع رفع، أي ولكن الذي يفعلونه ذكرى، أي ولكن عليهم ذكرى. وقال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى. قوله تعالى: وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهو وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلو بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70) أي لا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت إن كنت مأمورا بوعظهم. قال قتادة: هذا منسوخ، نسخه " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (2). ومعنى " لعبا ولهوا " أي استهزاء بالدين الذي دعوتهم إليه. وقيل: استهزءوا بالدين الذي هم عليه فلم يعملوا به. والاستهزاء ليس مسوغا في دين. وقيل: " لعبا ولهوا " باطلا وفرحا، وقد تقدم (3) هذا. وجاء اللعب مقدما في أربعة مواضع، وقد نظمت. (1) راجع ج 5 ص 417. (2) راجع ج 8 ص 71. (3) راجع ج 6 ص 413 فما بعده. (*)
[ 16 ]
إذا أتى لعب ولهو (1) * وكم من موضع هو في القرآن فحرف في الحديد وفي القتال * وفي الأنعام منها موضعان وقيل: المراد بالدين هنا العيد. قال الكلبي: إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه لله تعالى، وكل قوم اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوه وصلاة وذكرا وحضورا بالصدقة، مثل الجمعة والفطر والنحر. قوله تعالى: (وغرتهم الحياة الدنيا) أي لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. قوله تعالى: (وذكر به أي) بالقرآن أو بالحساب. (أن تبسل نفس بما كسبت) أي ترتهن وتسلم للهلكة، عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والسدي. والإبسال: تسليم المرء للهلاك، هذا هو المعروف في اللغة. أبسلت ولدي أرهنته، قال عوف بن الأحوص بن جعفر: وإبسالي بني بغير جرم * بعوناه ولا بدم مراق " بعوناه " بالعين المهملة معناه جنيناه. والبعو الجناية. وكان حمل عن غني لبني قشير دم ابني السجيفة (2) فقالوا: لا نرضى بك، فرهنهم بنيه طلبا للصلح. وأنشد النابغة (الجعدي) (3): ونحن رهنا بالأفاقة (4) عامرا * بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا الدرداء: كتيبة كانت لهم. (ليس لها من دون الله ولى (5) ولا شفيع (6) تقدم معناه. قوله تعالى: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) الآيه. العدل الفدية، وقد تقدم في " البقرة " (6). والحميم الماء الحار، وفي التنزيل " يصب من فوق رؤسهم الحميم (7) " الآية. " يطوفون (1) هكذا الشطر في الأصول ولعل الأصل: إذا سألت عن الخ. (2) كذا في ك. والذى في اللسان وشرح القاموس: السجفيه. والذى في الجواهري وفي ا وب وج وز: السحيفه بالحاء المهملة بدل الجحيم. (3) من ج، ع، ك، ز. (4) الأفاقة (ككناسة): موضع في أرض الحزن قرب الكوفه. أو هو ماء لبنى يربوع، ويوم الأفاقة من أيام العرب. (5) راجع ج 3 ص 283 وص 273 وج 4 ص 109. (6) راجع ج 1 ص 378 وص 380. (7) راجع ج 12 ص 25. (*)
[ 17 ]
بينها وبين حميم آن " (1). والآية منسوخة بآية القتال. وقيل: ليست بمنسوخة، لأن قوله: " وذر الذين اتخذوا دينهم " تهديد، كقول: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا " (2) ومعناه لا تحزن عليهم، فإنما عليك التبليغ والتذكير بإبسال النفوس. فمن أبسل فقد أسلم وارتهن. وقيل: أصله التحريم، من قولهم: هذا بسل عليك أي حرام، فكأنهم حرموا الجنة وحرمت عليهم الجنة. قال الشاعر (3): أجارتكم بسل علينا محرم * وجارتنا حل لكم وحليلها والإبسال: التحريم. والإبسال: التحريم. قوله تعالى: قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدنا الله كالذى استهوته الشيطان في الارض حيران له - أصحب يدعونه - إلى الهدى ائتناقل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71) وأن أقيموا الصلوة والتقوه وهو الذى إليه تحشرون (72) وهو الذى خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور علم الغيب والشهدة وهو الحكيم الخبير (73) قوله تعالى: (قل أندعوا من دون الله مالا ينفعها) أي ما لا ينفعنا إن دعونا. (4) (ولا يضرنا) إن تركناه، يريد الأصنام. (ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله) أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى. وواحد الأعقاب عقب وهو مؤنث، وتصغيره عقيبة. يقال: رجع فلان على عقبيه، إذا أدبر. قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها: قد رد على عقبيه. وقال المبرد: معناه تعقب بالشر بعد الخير. وأصله من العاقبة والعقبى وهما ما كان (1) راجع ج 17 ص 175. (2) راجع ج 10 ص 2. (3) هو الأعشى ميمون. (4) في ك: رجونا. (*)
[ 18 ]
تاليا للشئ واجبا أن يتبعه، ومنه " والعاقبة للمتقين " (1). ومنه عقب الرجل. ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب، وعنه تكون. قوله تعالى: (كالذى) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. (استهوته الشيطان في الارض حيران) أي استغوته وزينت له هواه ودعته إليه. يقال: هوى يهوى إلى الشئ أسرع إليه. وقال الزجاج: هو من هوى يهوى، من هوى النفس، أي زين له الشيطان هواه. وقراءة الجماعة " استهوته " أي هوت به، على تأنيث الجماعة. وقرأ حمزة " استهواه الشياطين " على تذكير الجمع. وروي عن ابن مسعود " استهواه الشيطان "، وروي عن الحسن، وهو كذلك في حرف أبي. ومعنى " ائتنا " تابعنا. وفي قراءة عبد الله أيضا " يدعونه إلى الهدى بينا ". وعن الحسن أيضا " استهوته الشياطون ". " حيران " نصب على الحال، ولم ينصرف لأن أنثاه حيرى كسكران وسكرى وغضبان وغضبى. والحيران هو الذي لا يهتدي لجهة أمره. وقد حار يحار حيرا وحيرورة (2)، أي تردد. وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائرا، والجمع حوران. والحائر الموضع (الذي) (3) يتحير فيه الماء. قال الشاعر: تخطو على برديتين غذاهما * غدق بساحة حائر يعبوب (4) قال ابن عباس: أي مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مضلة ومهلكة، فهو حائر في تلك المهامه. وقال في رواية أبي صالح: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون، وهو معنى قوله: (له أصحاب يدعونه إلى الهدى) فيأبى. قال أبو عمر: أمه أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية، فهو شقيق عائشة. وشهد عبد الرحمن بن أبي بكر بدرا وأحدا مع قومه وهو وكافر، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) سيأتي في ص 263 من هذا الجزء. (2) لم نجد هذا المصدر في كتب اللغة. وفي تفسير الفخر الرازي: "... وزاد الفراء حيرانا وحيرونة. (3) من ك. (4) العيوب: الطويل. (*)
[ 19 ]
قال (له) (1) " متعني بنفسك ". ثم أسلم وحسن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية. هذا قول أهل السير. قالوا: كان اسمه عبد الكعبة فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الرحمن، وكان أسن ولد أبي بكر. قال: إنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة ولاء: أب وبنوه إلا أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وابنه أبا عتيق محمد بن عبد الرحمن. والله أعلم. قوله تعالى: (وأمرنا لنسلم لرب العالمين. وأن أقيموا الصلاة واتقوه) اللام لام كي، أي أمرنا كي نسلم وبأن أقيموا الصلاة، لأن حروف الإضافة يعطف بعضها على بعض. قال الفراء: المعنى أمرنا بأن نسلم، لأن العرب تقول: أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنى. قال النحاس: سمعت أبا الحسن بن كيسان يقول هي لام الخفض، واللامات كلها ثلاث: لام خفض ولام أمر ولام توكيد، لا يخرج شئ عنها. والإسلام الإخلاص. وإقامة الصلاة الإتيان بها والدوام عليها. ويجوز أن يكون " وأن أقيموا الصلاة " عطفا على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا الصلاة، لأن معنى ائتنا أن ائتنا. قوله تعالى: (وهو الذي إليه تحشرون) ابتداء وخبر وكذا هو الذى خلق السموات والارض) أي فهو الذي يجب أن يعبد لا الأصنام. ومعنى (بالحق) أي بكلمة الحق. يعني قوله " كن ". قوله تعالى: (ويوم يقول كن فيكون) أي واذكر يوم يقول كن. أو اتقوا يوم يقول كن. أو قدر يوم يقول كن. أو قدر يوم يقول كن. وقيل: هو عطف على الهاء في قول: " واتقوه " قال الفراء: " كن فيكون " يقال: إنه للصور خاصة، أي ويوم يقول للصور كن فيكون. وقيل: المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم. وعلى هذين التأويلين يكون (قوله الحق) ابتداء وخبرا. وقيل: إن قول تعالى: " قوله " رفع بيكون، أي فيكون ما يأمر به. " الحق " من نعته. ويكون التمام على هذا " فيكون قوالحق ". وقرأ ابن عامر (1) من ع وز وك. (*)
[ 20 ]
" فيكون " بالنصب، (1) وهو إشارة إلى سرعة الحساب والبعث. وقد تقدم في البقره القول فيه مستوفى. (2) قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور) أي وله الملك يوم ينفخ في الصور. أو وله الحق يوم ينقخ في الصور. وقيل: هو بدل من " يوم يقول ". والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صورة كما زعم بعضهم، أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه. روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ".... ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى (3) ليتا ورفع ليتا (4) - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط (5) حوض إبله قال ويصعق الناس ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " وذكر الحديث. وكذا في التنزيل " ثم نفخ فيه أخرى " (6) ولم يقل فيها، فعلم أنه ليس جمع الصورة. والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام. قال أبو الهيثم: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة. وقال الجوهري: الصور القرن. قال الراجز: لقد نطحناهم غداة الجمعين * نطحا شديدا لا كنطح الصورتين ومنه قول: " ويوم ينفخ في الصور (7) ". قال الكلبي: لا أدري ما هو الصور. ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، أي ينفخ في صور الموتى والأرواح. وقرأ الحسن " يوم ينفخ (1) في ك. وفى شواذ ابن خالويه: فيكون بالنصب. الحسن. وفي الأصول الأخرى: فنكون بالنون. وهو خطأ. (2) راجع ج 2 ص 89. (3) أصغى: أمال. (4) الليت (بكسر اللام): صفحة العنق. (5) أي يطينه ويصلحه. (6) راجع ج 15 ص 177. (7) راجع ج 13 ص 239. (*)
[ 21 ]
في الصور ". والصور (بكسر الصاد) لغة في الصور (1) جمع صورة والجمع صوار، وصيار (بالياء) لغة فيه. وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض " يوم ينفخ في الصور " فهذا يعني به الخلق. والله أعلم. قلت: وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيدة. وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة. وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين، بل ينفخ فيه مرة واحدة، فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله عز وجل يحيى الصور. (وفي التنزيل " فنفخنا فيه من روحنا (2) "). قوله تعالى: عالم الغيب والشهادة برفع " عالم " صفة " الذي "، أي وهو الذي خلق السماوات والأرض عالم الغيب. ويجوز أن يرتفع على إضمار المبتدأ. وقد روي عن بعضهم أنه قرأ " ينفخ " فيجوز أن يكون الفاعل " عالم الغيب "، لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله عز وجل كان منسوبا إلى الله تعالى. ويجوز أن يكون ارتفع (عالم) حملا على المعنى، كما أنشد سيبويه: * لبيك (3) يزيد ضارع لخصومة * وقرأ الحسن والأعمش " عالم " بالخفض على البدل من الهاء (التى) (4) في " له ". قوله تعالى: وإذا قال إبراهيم لأبيه ءازر أتتخذ أصناما ءالهة إنى أريك وقومك في ضلل مبين (74) (1) نقل المؤلف هنا ما في الصحاح، وقد حذف منه ما جعل المراد غير واضح. وعبارة: "... وقرأ الحسن (يوم ينفخ في الصور) والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة. ينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجوارى: أشبهن من بقر الخلصاء أعينها * وهن أحسن من صيرانها صورا والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر. والصوار أيضا وعاء المسك، وقد جمعهما الشاعر بقوله: أذا لاح الصور ذكرت ليلى * وأذكرها إذا نفح الصوار والصيار لغة فيه ". (2) من ج وك وع. راجع ج 18 ص 203. (3) هذا صدر بيت للحارث ابن نهيك، وتمامه كما في كتاب سيبويه: * ومخبط مما تطيح الطوائح * وصف أنه كان مقيما لحجة المظلوم ناصرا له. والمختبط: الطالب المعروف. وتطيح: تذهب وتهلك. (4) من ج وك. (*)
[ 22 ]
قوله تعالى: (وإذا قال إبراهيم لأبيه ازر) تكلم العلماء في هذا، فقال أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الجويني الشافعي الأشعري في النكت من التفسير له: وليس بين الناس اختلاف، كأن اسم والد إبراهيم تارح (1). والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر. وقيل: آزر عندهم ذم في لغتهم، كأنه قال: وإذ قال لأبيه يا مخطئ " أتتخذ أصناما آلهة " وإذا كان كذلك فالاختيار الرفع. وقيل: آزر اسم صنم. وإذا كان كذلك فموضعه نصب على إضمار الفعل، كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما آلهة. قلت: ما آدعاه من الاتفاق ليس عليه وفاق، فقد قال محمد بن إسحاق والكلبي والضحاك: إن آزر أبو إبراهيم عليه السلام وهو تاريخ، مثل إسرائيل ويعقوب، (قلت (2)) فيكون له آسمان كما تقدم. وقال مقاتل: آزر لقب، وتارخ اسم: وحكاه الثعلبي عن ابن إسحاق القشيري. ويجوز أن يكون على العكس. قال الحسن: كان اسم أبيه آزر. وقال سليمان التيمي: هو سب وعيب، ومعناه في كلامهم: المعوج. وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: بلغني أنها أعوج، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه. وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهم (3) بالفارسية. وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم، كأن قال يا مخطئ، فيمن رفعه. أو كأنه قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطئ، فيمن خفض. ولا ينصرف لأنه على أفعل، قال النحاس. وقال الجوهري: آزر اسم أعجمي، وهو مشتق من آزو فلان فلانا إذا عاونه، فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام وقيل: هو مشتق من القوة، والآزر القوة، عن ابن فارس. وقال مجاهد ويمان: آزر اسم صنم. وهو في هذا التأويل في موضع نصب، التقدير: أتتخذ آزر إلها، أتتخذ أصناما. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: أتتخذ آزر أصناما. قلت: فعلى هذا آزر اسم جنس. والله أعلم. وقال الثعلبي في كتاب العرائس: إن اسم أبي إبراهيم الذي سماه به أبوه تارح، فلما صار مع النمروذ قيما على خزانة آلهته سماه آزر (4). وقال مجاهد: إن آزر ليس باسم أبيه وإنما هو اسم صنم. وهو إبراهيم بن تارح بن ناخور بن ساروع (1) في ج وك بالمعجمة، وفى ع بالمهمله. وفى جمل: ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة. (2) من ج وك وع. (3) الهم (بكسر الهاء): الشيخ الفاني. وفي ك: الهرم، وكذا قال الفراء. (4) لعل هذا هو الصحيح كما في لغة الفينيقيين إزربعل: سادن الصنم بعل. (*)
[ 23 ]
ابن أوغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوج عليه السلام. و " آزر " فيه قراءات: " أإزرا " بهمزتين، الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، عن ابن عباس. وعنه " أأزرا " بهمزتين مفتوحتين. وقرئ بالرفع، وروي ذلك عن ابن عباس. وعلى القراءتين الأوليين عنه " تتخذ " بغير همزة. قال المهدوي: أإزرا ؟ فقيل: إنه اسم صنم، فهو منصوب على تقدير أتتخذ إزرا، وكذلك أأزرا. ويجوز أن يجعل أإزرا على أنه مشتق من الأزر وهو الظهر فيكون مفعولا من أجله، كأنه قال: أللقوة تتخذ أصناما. ويجوز أن يكون إزر بمعنى وزر، أبدلت الواو همزة. قال القشيري: ذكر في الاحتجاج على المشركين قصة إبراهيم ووده على أبيه في عبادة الأصنام. وأولى الناس بأتباع إبراهيم العرب، فإنهم ذريته. أي وأذكر إذ قال إبراهيم. أو " وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت " وذكر إذ قال إبراهيم. وقرئ " آزر " أي يا آزر، على النداء المفرد، وهي قراءة أبي ويعقوب وغيرهما. وهو يقوي قول من يقول: إن آزر اسم أب إبراهيم " أتتخذ أصناما آلهة " مفعولان لتتخذ (1) وهو استفهام) فيه معنى الإنكار. قوله تعالى: وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموت والارض وليكون من الموقنين (75) قوله تعالى: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض) أي ملك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في الصفة. ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت. وقرأ أبو السمال (2) العدوي " ملكوت " بإسكان اللام. ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفتها، ولعلها لغة. و " نري " بمعنى أرينا، (فهو (3) بمعنى المضي. فقيل: أراد به ما في السماوات من عبادة الملائكة والعجائب وما في الأرض من عصيان بني آدم، فكان يدعو على من يراه يعصي فيهلكه الله، فأوحى الله إليه يا إبراهيم أمسك عن عبادي، أما علمت أن من أسمائي الصبور. روى معناه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: كشف الله له عن السماوات والأرض حتى (1) من ك. (2) أبو السمال قعنب بن أبى قعنب العدوى البصري. كذا في طبقات القاء والتاج. له قرءات شاذة عن العامة وفي الميزان: أبو السماك معتب بن هلال العدوى البصري له حروف شاذة لا يعتمد على نقله ولا يوئق به. وفي ب وج: ابن السماك. (3) من ك وج وع. (*)
[ 24 ]
العرش وأسفل الأرضين. وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال: فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى أنتهى إلى العرش، وفرجت له الأرضون فنظر إليهن، ورأى مكانه في الجنة، فذلك قول: " وآتيناه أجره في الدنيا " (1)، عن السدي.. وقال الضحاك: أراه مملكوت السماء ما قصه من الكواكب، ومن ملكوت الأرض البحار والجبال والأشجار، ونحو ذلك مما استدل به. وقال بنحوه ابن عباس. وقال: جعل حين ولد في سرب (2) وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها، وكان نمروذ اللعين رأى رؤيا فعبرت له أنه يذهب ملكه على يدي مولود يولد، فأمر بعزل الرجال عن النساء. وقيل: أمر بقتل كل مولود ذكر. وكان آزر من المقربين عند (الملك) (3) نمروذ فأرسله يوما في بعض حوائجه فواقع امرأته فحملت بإبراهيم. وقيل: بل واقعها في بيت الأصنام فحملت وخرت الأصنام على وجوهها حينئذ، فحملها إلى بعض الشعاب حتى ولدت إبراهيم، وحفر لإبراهيم سربا في الأرض ووضع على بابه صخرة لئلا تفترسه السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، وكانت تجده يمص أصابعه، من أحدها عسل ومن الآخر ماء ومن الآخر لبن، وشب فكان على سنة مثل ابن ثلاث سنين. فلما أخرجه من السرب توهمه الناس أنه ولد منذ سنين، فقال لأمه: من ربي ؟ فقالت أنا. فقال: ومن ربك ؟ قالت أبوك. قال: ومن ربه ؟ قالت نمروذ. قال: ومن ربه (4) ؟ فلطمته، وعلمت أنه الذي يذهب ملكهم على يديه. والقصص في هذا تام في قصص الأنبياء للكسائي، وهو كتاب (5) مما يقتدى به. وقال بعضهم: كان مولده بحران ولكن أبوه نقله إلى أرض بابل. وقال عامة السلف من أهل العلم: ولد إبراهيم في زمن النمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوج. وقد مضى ذكره في " البقرة " (6). وكان بين الطوفان وبين مولد إبراهيم ألف ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاث ألاف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثين سنة. قوله تعالى: (وليكون من الموقنين) أي وليكون من الموقنين أريناه ذلك، أي الملكوت. (1) راجع ج 13 ص 339. (2) السرب (بالتحريك): حفير أو بيت تحت الأرض. (3) من ك. (4) في ك: ومن رب نمرود. (5) في ج وز: كتاب حسن نظيف مما يفترى. (6) راجع ج 3 ص 283. (*)
[ 25 ]
قوله تعالى: فلما جن عليه اليل رءا كوكبا قال هذا ربى فلما أفل قال لا أحب الأفلين (76) قوله تعالى: (فلما جن عليه الليل) أي ستره بظلمته، ومنه الجنة والجنة والجنة والجنين والمجن والجن كله بمعنى الستر. وجنان الليل أدلهمامه وستره. قال الشاعر: (1) ولولا جنان الليل أدرك ركضنا * بذي الرمث والأرطى (2) عياض بن ناشب ويقال: جنون الليل أيضا. ويقال: جنة الليل وأجنه الليل لغتان. (رآى كوكبا) هذه قصة أخرى، غير قصة عرض الملكوت عليه. فقيل: رأى ذلك من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب. وقيل: لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس فرأى الإبل والخيل والغنم فقال: لا بد لها من رب. ورأى المشتري أو الزهرة ثم القمر ثم الشمس، وكان هذا في أخر الشهر. قال محمد بن إسحاق: وكان ابن خمس عشرة سنة. وقيل: ابن سبع سنين. وقيل: لما حاج نمروذا كان ابن سبع عشرة سنة. قوله تعالى: (قال هذا ربى) اختلف في معناه على أقوال، فقيل: كان هذا منه في مهلة النظر وحال الطفولية وقبل قيام الحجة، وفي تلك الحال لا يكون كفر ولا إيمان. فاستدل قائلو هذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي " فعبده حتى غاب عنه، وكذلك الشمس والقمر، فلما تم نظره قال: " إني برئ مما تشركون " واستدل بالأفول، لأنه أظهر الآيات على الحدوث. وقال قوم: هذا لا يصح، وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه برئ. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز (1) هو دريد بن الصمة، وقيل: هو لخفاف بن ندبة (عن اللسان). (2) الرمث (بالكسر): مرعى من مراعى الإبل، واسم واد لبنى أسد. والأرطي (جمع أرطاة): شجر ينبت بالرمل. (*)
[ 26 ]
أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال، وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (1) " وقال جل وعز: " إذ جاء ربه بقلب سليم (2) " أي لم يشرك به قط. قال: والجواب عندي أنه قال " هذا ربي " على قولكم، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر، ونظير هذا قوله تعالى: " أين شركائي (3) " وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى: ابن شركائي على قولكم. وقيل: لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه، فظن أنه ضوءه قال: " هذا ربي " أي بأنه يتراءى لي نوره. (فلما أفل) علم أنه ليس بربه. " فلما رأى القمر بازغا " ونظر إلى ضوئه " قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " وليس هذا شركا. إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلا (4) دله العلم على أنه غير مستحق لذلك، فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب. وقيل: إنما قال " هذا ربي " لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم، فلما أفل النجم قرر الحجة وقال: ما تغير لا يجوز أن يكون ربا. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل: " نور على نور (5) " قال: كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه أزداد نورا على نور، وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربا وخالقا. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: " أتحاجوني في الله وقد هدان " وقيل: هو على معنى الاستفهام والتوبيخ، منكرا لفعلهم. والمعنى: أهذا ربي، أو مثل هذا يكون ربا ؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل " أفإن مت فهم الخالدون (6) " أي أفهم الخالدون. وقال الهذلي (7): رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع * فقلت وأنكرت الوجوه هم هم (1) راجع ج 9 ص 367. (2) راجع ج 15 ص 91. (3) راجع ج 10 ص 97. (4) في ك: آفلا. (5) راجع ج 12 ص 255. (6) راجع ج 11 ص 287. (7) هو أبو خراش. رفوته سكته من الرعب. (*)
[ 27 ]
آخر (1): لعمدك ما أدري وإن كنت داريا * بسبع رمين الجمر أم بثمان وقيل: المعنى هذا ربي على زعمكم، كما قال تعالى: " أين شركائي الذين كنتم تزعمون (2) " وقال: " ذق إنك أنت العزيز الكريم (3) " أي عند نفسك. وقيل: المعنى أي وأنتم تقولون هذا ربي، فأضمر القول، وإضماره في القرآن كثير. وقيل: المعنى في هذا ربي، أي هذا دليل على ربي. قوله تعالى: فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين (77) قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغا) أي طالعا. يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، والبزغ الشق، كأنه يشق بنوره الظلمة، ومنه بزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. (لئن لم يهدنى ربى) أي لم يثبتني على الهداية. وقد كان مقتديا فيكون جرى هذا في مهلة النظر، أو سأل التثبيت لإمكان الجواز العقلي كما قال شعيب: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله (4). وفي التنزيل " اهدنا الصراط المستقيم " أي ثبتنا على الهداية. وقد تقدم (5). قوله تعالى: فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يقوم إنى برئ مما تشركون (78) قوله تعالى: (فلما رآى الشمس بازغة) نصب على الحال، لأن هذا من رؤية العين. بزغ يبزغ إذا طلع. وأفل يأفل أفولا إذا غاب. وقال: " هذا " والشمس مؤنثة، لقوله " فلما أفلت " فقيل: إن تأنيث الشمس لتفخيمها وعظمها، فهو كقولهم: رجل نسابة وعلامة. وإنما قال: " هذا ربي " على معنى: هذا الطالع ربي (1) هو عمر بن أبى ربيعة. (2) راجع ج 13 ص 308. (3) راجع ج 16 ص 151. (4) راجع ص 250 من هذا الجزء. (5) راجع ج 1 ص 146. (*)
[ 28 ]
قاله الكسائي والأخفش. وقال غيرهما: أي هذا الضوء. قال أبو الحسن علي بن سليمان: أي هذا الشخص، كما قال الأعشى: قامت تبكيه على قبره * من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة * قد ذل من ليس له ناصر (1) قوله تعالى: إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والارض حنيفا وما أنا من المشركين (79) قوله تعالى: (إنى وجهت وجهى) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وحده. وذكر الوجه لأنه أظهر ما يعرف به (الإنسان) (2) صاحبه. " حنيقا " مائلا إلى الحق. (وما أنا من المشركين) اسم " ما " وخبرها. وإذا وقفت قلت: " أنا " زدت الألف لبيان الحركة، وهي اللغة الفصيحة. وقال الأخفش: ومن العرب من يقول: " أن ". وقال الكسائي: ومن العرب من يقول: " أنه ". ثلاث لغات. وفي الوصل أيضا ثلاث لغات: أن تحذف الألف في الإدراج، لأنها زائدة لبيان الحركة في الوقف. ومن العرب من يثبت الألف في الوصل، كما قال الشاعر: * أنا سيف العشيرة فاعرفوني (3) * وهي لغة بعض بني قيس وربيعة، عن الفراء. ومن العرب من يقول في الوصل: أن فعلت، مثل عان فعلت، حكاه الكسائي عن بعض قضاعة. قوله تعالى: وحاجه قومه قال أتحجوني في الله وقد هدين ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون (80) (1) الشاهد فيه قوله: " ذا غربه " أي شخصا ذا غربة. (2) من ك. (3) هذا صدر بيت، وعجزه كما في اللسان مادة أنن: * جميعا قد تذريت السناما * (*)
[ 29 ]
قوله تعالى: (وحاجه قومه) دليل على الحجاج والجدال ؟ حاجوه في توحيد الله. (قال أتحاجوني في الله) قرأ نافع بتخفيف النون، وشدد النون الباقون. وفيه عن ابن عامر من رواية هشام عنه خلاف، فمن شدد قال: الأصل فيه نونان، الأولى علامة الرفع والثانية فاصلة بين الفعل والياء، فلما اجتمع مثلان في فعل وذلك ثقيل أدغم النون في الأخرى فوقع التشديد ولا بد من مد الواو لئلا يلتقي الساكنان، الواو وأول المشدد، فصارت المدة فاصلة بين الساكنين. ومن خفف حذف النون الثانية استخفافا لاجتماع المثلين، ولم تحذف الأولى لأنها علامة الرفع، فلو حذفت لاشتبه المرفوع بالمجزوم والمنصوب. وحكي عن أبي عمرو ابن العلاء أن هذه القراءة لحن. وأجاز سيبويه ذلك فقال: استثقلوا التضعيف. وأنشد: تراه كالثغام يعل مسكا * يسوء الفاليات إذا فليني (1) قوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به) أي لأنه لا ينفع ولا يضر - وكانوا خوفوه بكثرة آلهتهم - إلا أن يحييه (الله) (2) ويقدره فيخاف ضرره حينئذ، وهو معنى قوله: (إلا أن يشاء ربى شيئا) أي إلا أن يشاء أن يلحقني شئ من المكروه بذنب عملته فتتم مشيئته. وهذا استثناء ليس من الأول. والهاء في " به " يحتمل أن تكون لله عز وجل، ويجوز أن تكون للمعبود. وقال: " إلا أن يشاء ربي " يعني أن الله تعالى لا يشاء أن أخافهم. ثم قال: (وسع ربى كل شئ علما) أي وسع علمه كل شئ. وقد تقدم (3). قوله تعالى: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطنا فأى الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون (81) الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمنهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82) (1) البيت لعمرو بن معد يكرب، وصف شعره وأن الشيب قد شمله. والثغام: نبت له نور أبيض يشبه به الشيب ويعل: يطيب شيئا بعد شئ والعلل: الشرب بعد الشرب. (2) من ك. (3) راجع ج 2 ص 84. (*)
[ 30 ]
قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم) ففي " كيف " معنى الإنكار، أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام وهم لا يخافون الله عز وجل، أي كيف أخاف مواتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شئ (ما لم ينزل به عليكم سلطانا) أي حجة، وقد تقدم (1). (فأي الفريقين أحق بالأمن) أي من عذاب الله: الموحد أم المشرك، فقال الله قاضيا بينهم: (الذين آمنو ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي بشرك، قال أبو بكر الصديق وعلي وسلمان وحذيفة، رضي الله عنهم. وقال ابن عباس: هو من قوم إبراهيم، كما يسأل العالم ويجيب نفسه. وقيل: هو من قول (قوم) (2) إبراهيم، أي أجابوا بما وهو حجة عليهم، قاله ابن جريج. وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (3). (وهم مهتدون) أي في الدنيا. قوله تعالى: وتلك حجتنا ءاتينها إبراهيم على قومه نرفع درجت من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) (تلك) (4) إشارة إلى جميع احتجاجاته حتى خاصمهم وغلبهم بالحجة. وقال مجاهد: هي قول: " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ". وقيل: حجته عليهم أنهم لما قالوا له: أما تخاف (5) أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها ؟ قال لهم: أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم، فيغضب الكبير فيخبلكم ؟. (نرفع درجات من نشاء) أي بالعلم والفهم والإمامة والملك. وقرأ الكوفيون " درجات " بالتنوين. ومثله في " يوسف (6) " أوقعوا الفعل على " من " لأنه المرفوع في الحقيقة، التقدير: ونرفع من نشاء إلى درجات. ثم حذفت إلى. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو بغير تنوين على الإضافة، والفعل واقع على الدرجات، إذا رفعت فقد رفع (1) راجع ج 4 ص 233. (2) من ب وج وك. (3) راجع ج 14 ص 62. (4) من ك. (5) في ك: إنا نخاف. (6) راجع ج 9 ص 235. (*)
[ 31 ]
صاحبها. يقوي هذه القراءة قوله تعالى: " رفيع الدرجات (1) " وقول عليه السلام: " اللهم أرفع درجته ". فأضاف الرفع إلى الدرجات. وهو لا إله إلا هو الرفيع المتعالي في شرفه وفضله. فالقراءتان متقاربتان، لأن من رفعت درجاته فقد رفع، ومن رفع فقد رفعت درجاته، فأعلم. (إن ربك حكيم عليم) يضع كل شئ موضعه. قوله تعالى: ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) أي جزاءا له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه. (كلا هدينا) أي كل واحد منهم مهتد. و " كلا " نصب ب " هدينا " (ونوحا) نصب ب " هدينا " الثاني. (ومن ذريته) أي ذرية إبراهيم. وقيل: من ذرية نوح، قاله الفراء وأختاره الطبري وغير واحد من المفسرين كالقشيري وابن عطية وغيرهما. والأول قاله الزجاج، واعترض بأنه عد من (هذه (2)) الذرية يونس ولوط وما كانا من ذرية إبراهيم. وكان لوط ابن أخيه. وقيل: ابن أخته. وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعا مضافون إلى ذرية إبراهيم، وإن كان فيهم من لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أم، لأن لوطا ابن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا " نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق (3) ". وإسماعيل عم يعقوب. وعد عيسى من ذرية إبراهيم وإنما هو ابن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرية النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تمسك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد وهي: (1) راجع ج 15 ص 298. (2) من ك وب وع. (3) راجع ج 2 ص 137. (*)
[ 32 ]
الثانيه - قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف وقفا على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كل ذي رحم محرم. ويسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة، لأنهم ليسو بمحرمين. وقال الشافعي: القرابة كل ذي رحم محرم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العم (1) ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقول: لقرابتي وعقبي كقول: لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدم نحو هذا عن الشافعي في " آل عمران (2) ". والحجة لهما قول سبحانه: " يوصيكم الله (3) في أولادكم " فلم يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولد الصلب وولد الابن خاصة. وقال تعالى: " وللرسول ولذي (4) القربى " فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصار: وحجة من أدخل البنات في الأقارب قوله عليه السلام للحسن بن علي " إن ابني هذا سيد ". ولا نعلم أحدا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمهم. والمعنى يقتضي ذلك، لأن الولد مشتق من التولد وهم متولدون عن أبي أمهم لا محالة، والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب. وقد دل القرآن على ذلك، قال الله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان) إلى قول (من الصالحين) فجعل عيسى من ذريته وهو ابن ابنته. الثالثه - قد تقدم في النساء (3) بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمي، ولما كان على فاعول لا يحسن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمي. قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القتبي قال: كان من سبط يوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقتادة " والياس " بوصل الألف. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم " واليسع " بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصما " والليسع ". (1) في ك: ابن العمة. (2) راجع ج 4 ص 104. (3) راجع ج 5 ص 54 وص 15 ج 6 (4) راجع ج 8 ص 1. (*)
[ 33 ]
وكذا قرأ الكسائي، ورد قراءة من قرأ " واليسع " قال: لأنه لا يقال اليفعل مثل اليحيى. قال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، والعرب تقول: اليعمل واليحمد، ولو نكرت يحيى لقلت اليحيى. ورد أبو حاتم على من قرأ " الليسع " وقال: لا يوجد ليسع. وقال النحاس: وهذا الرد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حيدر وزينب، والحق في هذا أنه اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعا والعرب تغيرها كثيرا، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين. قال مكي: من قرأ بلامين فأصل الاسم ليسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام، إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر: اسمين لرجلين، لأنهما معرفتان علمان. فأما " ليسع " نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحب إلي، لأن أكثر القراء عليه. وقال المهدوي: من قرأ " اليسع " بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله: وجدنا اليزيد بن الوليد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كأهله (1) وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله: فيستخرج اليربوع من نافقائه * ومن بيته بالشيخة اليتقصع (2) يريد الذي يتقصع. قال القشيري: قرئ بتخفيف اللام والتشديد. والمعنى واحد في أنه اسم لنبي معروف، مثل إسماعيل وإبراهيم، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام. وتوهم قوم أن اليسع (هو) (3) إلياس، وليس كذلك، لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر. وقال وهب: اليسع (هو) (3) صاحب إلياس، وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى. وقيل: إلياس هو إدريس (وهذا غير صحيح لأن إدريس (4)) جد نوج وإلياس من ذريته (5). وقيل: إلياس هو الخضر. وقيل: لا، بل اليسع هو الخضر " ولوطا " (اسم) (6) أعجمي انصرف لخفته. وسيأتي اشتقاقه في " الأعراف (7). (1) البيت لابن ميادة. (2) البيت لذى الخرق الطهوى: كما في شرح القاموس. الفقه (كالهمزه) والنافقاء: حجر الضب واليربوع. وقيل موضوع يرققه اليربوع من حجره فإذا أتى من قبل القاصعاء. (وهو حجره) ضرب النافقاء برأسه فخرج والشيخه: رملة بيضاء ببلاد أسد حنظلة. يروى: حجره. وفى الأصول: ذو الشيخه. (3) من ك. (4) من ع ول. (5) أي من ذرية نوح. (6) من ع. (7) راجع ص 243 من هذا الجزء. (*)
[ 34 ]
قوله تعالى: ومن ءابائهم وذريتهم وإخوانهم واجتبينهم وهدينهم إلى صراط مستقيم (87) قوله تعالى: (ومن ابائهم وذرياتهم) " من " للتبعيض، أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم. واجتبيناهم قال مجاهد: خلصناهم، وهو عند أهل اللغة بمعنى اخترناهم، مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته. فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك. قال الكسائي: وجبيت الماء في الحوض جبا، مقصور. والجابية الحوض. قال: * كجابية الشيخ العراقي * تفهق (1) وقد تقدم معنى الاصطفاء والهداية (2). قوله تعالى: ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعلمون (88) قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا) أي لو عبدوا غيري لحبطت أعمالهم، ولكني عصمتهم. والحبوط البطلان. وقد تقدم في البقرة (3). قوله تعالى: أولئك الذين ءاتينهم الكتب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكفرين (89) قوله تعالى: (أولئك الذين اتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) ابتداء وخبر " والحكم " العلم والفقه. (فإن يكفر بها) أي بآياتنا. هؤلاء أي كفار عصرك يا محمد. (فقد وكلنا بها) جواب الشرط، أي وكلنا بالإيمان بها (قوما ليسوا بها بكافرين) يريد (1) هذا عجز بيت للأعشى وصدره كما في الديوان: * نفى الذم عن آل المحلق جفنة * الجفنة: القصة. والفهق: الامتلاء. (2) راجع ج 1 ص 146 وج 2 ص 132 - 133. (3) راجع ج 3 ص 46. (*)
[ 35 ]
الأنصار من أهل المدينة والمهاجرين من أهل مكة. وقال قتادة: يعنى النبيين الذين قص الله عز وجل. قال النحاس: وهذا القول أشبه بالمعنى، لأنه قال بعد: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ". وقال أبو رجاء: هم الملائكة. وقيل: هو عام في كل مؤمن من الجن والإنس والملائكة. والباء في " بكافرين " زائدة (على جهة (1)) التأكيد. قوله تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90) قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فيه مسألتان: الأولى قوله تعالى: (فبهداهم اقتده) الاقتداء طلب موافقة الغير في فعله. فقيل: المعنى أصبر كما صبروا. وفيل: معنى " فبهداهم اقتده " التوحيد والشرائع مختلفة. وقد احتج بعض العلماء بهذه الآية على وجوب أتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص، كما في صحيح مسلم وغيره: أن أخت الربيع (2) أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: " القصاص القصاص " فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ ! والله لا يقتص منها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله). قالت: والله لا يقتص منها أبدا. قال: فما زالت (3) حتى قبلوا الدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). فأحال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس (4) " الآية. وليس في كتاب الله تعالى نص على القصاص في السن إلا في هذه الآية، وهي خبر عن شرع التوراة ومع ذلك فحكم بها وأحال عليها. وإلى هذا ذهب معظم أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وأنه يجب العمل بما وجد منها. قال ابن بكير: وهو الذي تقتضيه أصول مالك (1) من ك و ز. (2) الربيع: بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة بعدها عين مهملة. أما أم الربيع فهى بفتح الراء وكسر الموحدة وتخفيف الياء. راجع شرح النوري على صحيح مسلم باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها فقيه كلام طويل عن هذه القصة. (3) في ك وز. فما زالوا. (4) راجع ج 6 ص 191. (*)
[ 36 ]
وخالف في ذلك كثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والمعتزلة، لقول تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (1) ". وهذا لاحجة فيه، لأنه يحتمل التقييد: إلا فيما قص عليكم من الأخبار عنهم مما لم يأت من كتابكم. وفي صحيح البخاري عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال: سألت ابن عباس عن سجدة " ص " فقال: أو تقرأ " ومن ذريته داود وسليمان " إلى قوله " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ؟ وكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به. الثانيه - قرأ حمزة والكسائي " اقتد قل " بغير هاء في الوصل. وقرأ ابن عامر " اقتد هي قل ". قال النحاس: وهذا لحن، لأن الهاء لبيان الحركة في الوقف وليست بهاء إضمار ولا بعدها واو ولا ياء، وكذلك أيضا لا يجوز " فبهداهم اقتد قل ". ومن اجتنب اللحن وأتبع السواد قرأ " فبهداهم اقتده " فوقف ولم يصل، لأنه إن وصل بالهاء لحن وإن حذفها خالف السواد. وقرأ الجمهور بالهاء في الوصل على نية الوقف وعلى نية الإدراج أتباعا لثباتها في الخط. وقرأ ابن عياش وهشام " اقتده قل " بكسر الهاء، وهو غلط لا يجوز في العربية. قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا) أي جعلا على القرآن. (إن هو) أي القرآن. (إلا ذكرى للعالمين) أي هو موعظة للخلق. وأضاف الهداية إليهم فقال: " فبهداهم اقتده " لوقوع الهداية بهم. وقال: " ذلك هدى الله " لأنه الخالق للهداية. قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91). (1) راجع ج 6 ص 209. (*)
[ 37 ]
قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) أي فيما وجب له واستحال عليه وجاز. قال ابن عباس: ما آمنوا أنه على كل شئ قدير. وقال الحسن: ما عظموه حق عظمته. وهذا يكون من قولهم: لفلان قدر. وشرح هذا أنهم لما قالوا: " ما أنزل الله على بشر من شئ " نسبوا الله عز وجل إلى أنه لا يقيم الحجة على عباده، ولا يأمرهم بما لهم فيه الصلاح، فلم يعظموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته. وقال أبو عبيدة: أي ما عرفوا الله حق معرفته. قال النحاس: وهذا معنى حسن، لأن معنى قدرت الشئ وقدرته عرفت مقداره. ويدل عليه قول تعالى: " إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ " أي لم يعرفوه حق معرفته، إذ أنكروا أن يرسل رسولا. والمعنيان متقاربان. وقد قيل: وما قدروا نعم الله حق تقديرها. وقرأ أبو حيوة " وما قدروا الله حق قدره " بفتح الدال، وهي لغة. (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ) قال ابن عباس وغيره: يعني مشركي قريش. وقال الحسن وسعيد بن جبير: الذي قاله أحد اليهود، قال: لم ينز الله كتابا من السماء. قال السدي: اسمه فنحاص. وعن سعيد بن جبير أيضا قال: هو مالك بن الصيف (1)، جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين) ؟ وكان حبرا سمينا. فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ! ولا على موسى ؟ فقال والله ما أنزل الله على بشر من شئ، فنزلت الآية. ثم قال نقضا لقولهم وردا عليهم: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس يجعلونه قراطيس - أي في قراطيس - يبدونها ويخفون كثيرا " هذا لليهود الذين أخفوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحكام. وقال مجاهد: قوله تعالى (2) " قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى " خطاب للمشركين، وقوله " يجعلونه قراطيس " لليهود (وقوله (2)) (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا اباؤكم) للمسلمين. وهذا يصح على قراءة من قرأ " يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون " بالياء والوجه على قراءة التاء أن يكون كله لليهود، ويكون معنى " وعلمتم ما لم تعلموا (1) في ك ج: الضيف. بمعجمه وكلاهما أثبته الرواة. (2) من ك. (*)
[ 38 ]
أي وعلمتم ما لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على وجه المن عليهم بإنزال التوراة. وجعلت التوراة صحفا فلذلك قال " قراطيس تبدونها " أي تبدون (1) القراطيس. وهذا ذم لهم، ولذلك كره العلماء كتب القرآن أجزاء. (قل الله) أي قل يا محمد الله (الذي (2)) أنزل ذلك الكتاب على موسى وهذا الكتاب علي. أو قل الله علمكم الكتاب. (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) أي لاعبين، ولو كان جوابا للأمر لقال يلعبوا. ومعنى الكلام التهديد. وقيل: هو من المنسوخ بالقتال، ثم قيل: " يجعلونه " في موضع الصفة لقوله " نورا هدى " فيكون في الصلة. ويحتمل أن يكون مستأنفا، والتقدير: يجعلونه ذا قراطيس. وقوله: " يبدونها ويخفون كثيرا " يحتمل أن يكون صفة لقراطيس، لأن النكرة توصف بالجمل. ويحتمل أن يكون مستأنفا حسبما تقدم. قوله تعالى: وهذا كتب أنزلنه مبارك مصدق الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92) قوله تعالى: (وهذا كتاب) يعني القرآن (أنزلناه) صفة (مبارك) أي بورك فيه، والبركة الزيادة. ويجوز نصبه في غير القرآن على الحال. كذا (مصدق الذى بين يديه) أي من الكتب المنزلة قبله، فإنه يوافقها في نفي الشرك وإثبات التوحيد. (ولتنذر أم القرى) يريد المكة - وقد تقدم معنى تسميتها بذلك (3) - والمراد أهلها، فحذف المضاف، أي أنزلناه للبركة والإنذار. " ومن حولها " يعني جميع الآفاق. (والذين يؤمنون بالاخرة يؤمنون به) يريد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله: (وهم على صلاتهم يحافظون) إيمان من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالنبي عليه السلام ولا بكتابه غير معتد به. (1) من ك. (2) من ك، ز. (3) راجع ج 4 ص 138. (*)
[ 39 ]
قوله تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرت الموت والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءايته تستكبرون (93) قوله تعالى: (ومن أظلم) ابتداء وخبر، أي لا أحد أظلم. (ممن افترى) أي آختلق. (على الله كذبا أو قال أوحى إلى) فزعم أنه نبي (ولم يوح إليه شئ) نزلت في رحمان اليمامة والأسود العنسي وسجاح زوج مسيلمة، كلهم تنبأ وزعم أن الله قد أوحى إليه. قال قتادة: بلغنا أن الله أنزل هذا في مسيلمة، وقال ابن عباس. قلت: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكليات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون (1)، ويستدلون على هذا بالخضر، وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وهذا القول زندقة وكفر، يقت قائله ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا المعنى في " الكهف (2) " مزيد بيان إن شاء الله تعالى. (1) في كشف الخفاء " استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " قال: رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى وأبو نعيم عن وابصة مرفوعا. (2) راجع ج 10 ص 18 فما بعد. (*)
[ 40 ]
قوله تعالى: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) " من " في موضع خفض، أي ومن أظلم ممن قال سأنزل، والمراد عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في " المؤمنون ": " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (1) " دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله " ثم أنشأنا خلقا آخر " عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان فقال: " تبارك الله أحسن الخالقين ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهكذا أنزلت على) فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلى كما أوحى إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، فذلك قوله: " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " رواه الكلبي عن ابن عباس. وذكره محمد بن إسحاق قال حدثني شرحبيل قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " ارتد عن الإسلام، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتله وقتل عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: (نعم). فلما أنصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه). فقال رجل من الأنصار: فهلا أو مأت إلى يا رسول الله ؟ فقال: (إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين (2). قال أبو عمر: وأسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك. وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين. وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم. (1) راجع ج 12 ص 108. (2) أي يضمر في نفسه غير ما يظهره فإذا كف لسانه وأومأ بعينه فقد خان. (*)
[ 41 ]
وغزا الصواري (1) من أرض الروم سنة أربع وثلاثين، فلما رجع من وفاداته منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط، فمضى إلى عسقلان، فأقام فيها حتى قتل عثمان رضي الله عنه. وقيل: بل أقام بالرملة حتى مات فارا من الفتنة. ودعا ربه فقال: اللهم أجعل خاتمة عملي صلاة الصبح، فتوضأ ثم صلى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات (2)، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه. ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره. ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية (رضي الله عنهما) (3). وكانت وفاته قبل اجتماع الناس على معاوية. وقيل: إنه توفي بإفريقية. والصحيح أنه توفي بعسقلان سنة ست أو سبع وثلاثين. وقيل: سنة ست وثلاثين. وروى حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، لأنه عارض القرآن فقال: والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. فالخابزات خبزا. فاللاقمات لقما. قوله تعالى: (ولو ترى إذا الظالمون في غمرات الموت) أي شدائده وسكراته. والغمرة الشدة، وأصلها الشئ الذي يغمر الأشياء فيغطيها. ومنه غمره (4) الماء. ثم وضعت في معنى الشدائد والمكاره. ومنه غمرات الحرب. قال الجوهري: والغمرة الشدة، والجمع غمر مثل نوبة ونوب. قال القطامي يصف سفينة نوح عليه السلام: * وحان لتالك الغمر أنحسار * وغمرات الموت شدائده (والملائكة باسطوا أيديهم) ابتداء وخبر. والأصل باسطون. قيل: بالعذاب ومطارق الحديد، عن الحسن والضحاك. وقيل: لقبض أرواحهم، وفي التنزيل: " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (5) " (1) قال ابن الأثير في (الكامل):... وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلين لما أصبوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام، فخرخوا في خمسمائة مركب أو ستمائة وخرج المسلمون... الخ. وانما سميت غزوة الصوارى لكثرة صوارى المراكب واجتماعها. راجع ج 3 ص 9 طبع أوربا. والطبري قسم أول ص 2865 طبع أوربا. (2) في ك: والصافات. (3) من ك وز. (4) في ك: غمزة. (5) راجع ج 8 ص 28. (*)
[ 42 ]
فجمعت هذه الآية القولين. يقال: بسط إليه يده بالمكروه. (أخرجوا أنفسكم) أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم، وهو توبيخ. وقيل: أخرجوها كرها، لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، وروح الكافر تنتزع أنتزاعا شديدا، ويقال: أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهو أن، كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره. وقد أتينا عليه في كتاب " التذكرة " والحمد لله. وقيل: هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه: لأذيقنك العذاب ولأخرجن نفسك، وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها ملك الموت وأعوانه. وقيل: يقال هذا للكفار وهم في النار. والجواب محذوف لعظم الأمر، أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابا عظيما. والهون والهوان سواء. و (تستكبرون) أي تتعظمون وتأنفون عن قبول آياته. قوله تعالى: ولقد جئتمونا فردي كما خلقنكم أول مرة وتركتم ما خولنكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركؤا لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94) قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى) هذه عبارة عن الحشر و " فرادى " في موضع نصب على الحال، ولم ينصرف لأن فيه ألف تأنيث. وقرأ أبو حيوة " فرادا " بالتنوين وهي لغة تميم، ولا يقولون في موضع الرفع فراد. وحكى أحمد بن يحيى " فراد " بلا تنوين، قال: مثل ثلاث ورباع. و " فرادى " جمع فردان كسكارى جمع سكران، وكسالى جمع كسلان. وقيل: واحده " فرد " بجزم الراء، و " فرد " بكسرها، و " فرد " بفتحها، و " فريد ". والمعنى: جئتمونا واحدا واحدا، كل واحد منكم منفردا بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن كان يصاحبكم في الغي، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرأ الأعرج (1) " فردي " مثل سكرى وكسلى بغير ألف. (كما خلقناكم أول مرة) أي منفردين كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم (1) في ك: الأعمش. ولعل هذا سهو من الناسخ. (*)
[ 43 ]
من بطون أمهاتكم حفاة غرلا بهما (1) ليس معهم شئ. وقال العلماء: يحشر العبد غدا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه. وهذا معنى قوله: " غرلا " أي غير مختونين، أي يرد عليهم ما قطع منه عند الختان. قوله تعالى: (وتركتم ما خولناكم) أي أعطيناكم وملكناكم والخول: ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم (2). (وراء ظهوركم) أي خلفكم. (وما نرى معكم شفعاءكم) أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء - يريد الأصنام - أي شركائي. وكان المشركون يقولون الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده. (لقد تقطع بينكم) قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم. ودل على حذف الوصل قوله " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم ". فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم: إتبرءوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم، فحسن إضمار الوصل بعد " تقطع " لدلالة الكلام عليه. وفي حرف ابن مسعود ما يدل على النصب فيه (لقد تقطع ما بينكم) وهذا لا يجوز فيه إلا النصب، لأنك ذكرت المتقطع وهو " ما ". كأنه قال: لقد تقطع الوصل بينكم. وقيل: المعنى لقد تقطع الأمر بينكم. والمعنى متقارب. وقرأ الباقون " بينكم " بالرفع على أنه اسم غير ظرف، فأسند الفعل إليه فرفع. ويقوي جعل " بين " اسما من جهة دخول حرف الجر عليه في قول تعالى: " ومن بيننا وبينك حجاب (3) " و " هذا فراق بيني وبينك (4) ". ويجوز أن تكون قراءة النصب على معنى الرفع، وإنما نصب لكثرة استعماله ظرفا منصوبا وهو في موضع رفع، وهو مذهب الأخفش، فالقراءتان على هذا بمعنى واحد، فاقرأ بأيهما شئت. (وضل عنكم) أي ذهب. (ما كنتم تزعمون) أي تكذبون به في الدنيا. روي أن الآية نزلت في، النضر بن الحارث وروي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " فقالت: يا رسول الله، واسوءتاه ! إن (1) الغرل (جمع الأغرل) وهو الأقلف الذى لم يختن. والبهم (جمع بهيم) وهو في الأصل الذى لا يخالط لونه لون سواه. يعنى ليس فيهم شى من العاهات والأعراض التى تكون في الدنيا كالعمى والمور والعرج، وغير ذلك. (2) في ك، ع، ب: النعم. (3) راجع 15 ص 339. (4) راجع ج 11 ص 24. (*)
[ 44 ]
الرجال والنساء يحشرون جميعا، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض). وهذا حديث ثابت في الصحيح أخرجه مسلم بمعناه. قوله تعالى: إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى ذلكم الله فأنى تؤفكون (96) قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) عد من عجائب صنعه ما يعجز عن أدنى شئ منه آلهتهم. والفلق: الشق، أي يشق النواة الميتة فيخرج منها ورقا أخضر، وكذلك الحبة. وخرج من الورق الأخضر نواة ميتة وحبة، وهذا معنى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، عن الحسن وقتادة. وقال ابن عباس والضحاك: معنى فالق خالق. وقال مجاهد: عني بالفلق الشق الذي في الحب وفي النوى. والنوى جمع نواة. ويجري في كل ما له كالمشمش (1) والخوخ. (يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى) يخرج البشر الحي من النطفة الميتة، والنطفة الميتة من البشر الحي، عن ابن عباس. وقد تقدم قول قتادة والحسن. وقد مضى ذلك في (آل عمران) (2). وفي صحيح مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة (3) إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. (ذلكم الله) ابتداء وخبر. (فأنى تؤفكون) فمن أين تصرفون عن الحق مع ما ترون من قدرة الله جل وعز. قوله تعالى: فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) قوله تعالى: " فالق الإصباح " نعت لاسم الله تعالى، أي ذلكم الله ربكم فالق الإصباح. وقيل المعنى إن الله فالق الإصباح. والصبح والصباح أول النهار، وكذلك الإصباح، أي (1) كزبرج وجعفر. (2) راجع ج 4 ص 56. (3) في ك: النسم. (*)
[ 45 ]
فالق الصبح كل يوم، يريد الفجر. والإصباح مصدر أصبح. والمعنى: شاق الضياء عن الظلام وكاشفه. وقال الضحاك: فالق الإصباح خالق النهار. وهو معرفة لا يجوز فيه التنوين عند أحد من النحويين. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر " فالق الإصباح " بفتح الهمزة، وهو جمع صبح. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قرأ " فلق الإصباح " على فعل، والهمزة مكسورة والحاء منصوبة. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وحمزة والكسائي " وجعل الليل سكنا " بغير ألف. ونصب " الليل " حملا على معنى " فالق " في الموضعين، لأنه بمعنى فلق، لأنه أمر قد كان فحمل على المعنى. وأيضا فإن بعده أفعالا ماضية وهو قوله: " جعل لكم النجوم ". " أنزل من السماء ماء ". فحمل أول الكلام على آخره. يقوي ذلك إجماعهم على نصب الشمس والقمر على إضمار فعل، ولم يحملوه على فاعل فيخفضوه، قاله مكي رحمه الله. وقال النحاس: وقد قرأ يزيد بن قطيب السكوني " جاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا " بالخفض عطفا على اللفظ. قلت: فيريد مكي والمهدوي وغيرهما إجماع القراء السبعة. والله أعلم. وقرأ يعقوب في رواية رويس عنه " وجاعل الليل ساكنا ". وأهل المدينة " وجاعل الليل سكنا " أي محلا للسكون. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: " اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا أقض عني الدين واغنني من الفقر وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي في سبيلك ". فإن قيل: كيف قال (وأمتعني بسمعي وبصري) وفي كتاب النسائي والترمذي وغيرهما (واجعله الوارث مني) وذلك يفنى مع البدن ؟ قيل له: في الكلام تجوز، والمعنى اللهم لا تعدمه قبلي. وقد قيل: إن المراد بالسمع والبصر هنا أبو بكر وعمر، لقوله عليه السلام فيهما: (هما السمع والبصر). وهذا تأويل بعيد، إنما المراد بهما الجارحتان. ومعنى " حسبانا " أي بحساب يتعلق به مصالح العباد. وقال ابن عباس في قول جل وعز: " والشمس والقمر حسبانا " أي بحساب. الأخفش: حسبان جمع حساب، مثل شهاب وشهبان. وقال يعقوب: حسبان مصدر
[ 46 ]
حسبت الشئ أحسبه حسبانا وحسابا وحسبة، والحساب الاسم. وقال غيره: جعل الله تعالى سير الشمس. والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص، فدلهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته. وقيل: " حسبانا " أي ضياء. والحسبان: النار في لغة، وقد قال الله تعالى: " ويرسل عليها حسبانا من السماء (1) ". قال ابن عباس: نارا. والحسبانة: الوسادة الصغيرة. قوله تعالى: وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الأيت لقوم يعلمون (97) قوله تعالى: (وهو الذى جعل لكم النجوم (2)) بين كمال قدرته، وفي النجوم منافع جمة. ذكر في هذه الآية بعض منافعها، وهي التي ندب الشرع إلى معرفتها، وفي التنزيل: " وحفظا من كل شيطان مارد (3) ". " وجعلناها رجوما للشياطين (4) ". و " جعل " هنا بمعنى خلق. (قد فصلنا الآيات) أي بيناها مفصلة لتكون أبلغ في الاعتبار. (لقوم يعلمون) خصهم لأنهم المنتفعون (5) بها. قوله تعالى: وهو الذى أنشأكم من نفس وحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الأيت لقوم يفقهون (98) قوله تعالى: (وهو الذى أنشأكم من نفس واحدة) يريد آدم عليه السلام. وقد تقدم في أول السورة (6). (فمستقر) قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج وشيبة والنخعي بكسر القاف، والباقون بفتحها. وهي في موضع رفع بالابتداء، إلا أن التقدير فيمن كسر القاف فمنها " مستقر " والفتح بمعنى لها " مستقر ". قال عبد الله بن مسعود: فلها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها، وهذا التفسير يدل على الفتح. وقال الحسن: فمستقر في القبر. وأكثر أهل التفسير يقولون: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع (1) راجع ج 10 ص 408. (2) في ك: من كمال قدرته. (3) راجع ج 15 ص 64. (4) راجع ج 18 ص 210. (5) في ك: بذلك. (6) راجع ج 6 ص 387. (*)
[ 47 ]
ما كان في الصلب، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله النخعي. وعن ابن عباس أيضا: مستقر في الأرض، ومستودع في الأصلاب. قال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس هل تزوجت ؟ قلت: لا، فقال: إن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. وروي عن ابن عباس أيضا أن المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق، ذكره الماوردي. وعن ابن عباس أيضا: ومستودع عند الله. قلت: وفي التنزيل " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " والاستيداع إشارة إلى كونهم في القبر إلى أن يبعثوا للحساب. وقد تقدم في البقرة (1). (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) قال قتادة: " فصلنا " بينا (وقررنا. والله (2) أعلم). قوله تعالى: وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنت من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشبه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لأيت لقوم يؤمنون (99) فيه سبع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وهو الذى أنزل من السماء ماء) أي المطر. (فأخرجنا به نبات كل شئ) أي كل صنف من النبات. وقيل: رزق كل حيوان. (فأخرجنا منه خضرا) قال الأخفش: أي أخضر، كما تقول العرب: أرينها نمرة أركها (3) مطرة. والخضر (4) رطب (1) راجع ج 1 ص 321. (2) الهاء في أرنيها للسحابة والثمر من السحاب الذى فيه آثار كآثار النمر. وقيل: صغار متدان بعضها من بعض. وواحدتها نمرة ومطرة: بمعنى ماطره. أي إذا رأيت دليل الشئ علمت ما يتبعه. يضرب لأمر يتيقن وقوعه إذا لاحت مخايله وتباشيره. (عن فرائد اللال ج 1 ص 252 طبع بيروت). (4) الخضر: المادة الخضراء في النبات وهى مادة الحياة. وهى من أسرار قدرة الباري سبحانه. (*)
[ 48 ]
البقول. وقال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت (1) والذرة والأرز وسائر الحبوب. (نخرج منه حبا متراكبا) أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة. الثانيه - قوله تعالى: (ومن النخل من طلعها قنوان دانية) ابتداء وخبر. وأجاز الفتراء في غير القرآن " قنوانا دانية " على العطف على ما قبله. قال سيبويه: ومن العرب من يقول: قنوان. قال الفراء: هذه لغة قيس، وأهل الحجاز يقولون: قنوان، وتميم يقولون: قنيان، ثم يجتمعون في الواحد فيقولون: قنو وقنو. والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض. والإغريض يسمى طلعا أيضا. والطلع، ما يرى من عذق النخلة. والقنوان: جمع قنو، وتثنيته قنوان كصنو وصنوان (بكسر النون). وجاء الجمع على لفظ الإثنين. قال الجوهري وغيره: الاثنان صنوان والجمع صنوان (برفع النون). والقنو: العذق والجمع القنوان والأقناء، قال: * طويلة الأقناء والأثاكل (2) * غيره: " أقناء " جمع القلة. قال المهدوي: قرأ ابن هرمز " قنوان " بفتح القاف، وروي عنه ضمها. فعلى الفتح هو اسم للجمع غير مكسر، بمنزلة ركب عند سيبويه، وبمنزلة الباقر والجامل، لأن فعلان ليس من أمثلة الجمع، وضم القاف على أنه جمع قنو وهو العذق (بكسر العين) وهي الكباسة، وهي عنقود النخلة. والعذق (بفتح العين) النخلة نفسها. وقيل: القنوان الجمار. " دانية " قريبة، ينالها القائم والقاعد. عن ابن عباس والبراء بن عازب وغيرهما. وقال الزجاج: منها دانية ومنها بعيدة، فحذف، ومثله " سرابيل تقيكم (3) الحر " وخص الدانية بالذكر، لأن من الغرض في الآية ذكر القدرة والامتنان بالنعمة، والامتنان فيما يقرب متناوله أكثر. (1) الست (بوزن القفل): ضرب من الشعير أبيض لا قشر له. (2) الأثاكل: جمع الإثكال والأثكول (لغة في العثكال والعشكول) وهو العذق الذى تكون فيه الشماريخ. وهذا عجز بيت. وصدره كما في الانسان: * قد أبصرت سعدى بها كتائلى * والسكتائل جمع كسيلة وهى النخلة الطويلة. (3) راجع ج 10 ص 159. (*)
[ 49 ]
الثالة - قوله تعالى: (وجنات من أعناب) أي وأخرجنا جنات. وقرأ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والأعمش، وهو الصحيح من قراءة عاصم " وجنات " بالرفع. وأنكر هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، حتى قال أبو حاتم: همحال، لأن الجنات لا تكون من النخل. قال النحاس. والقراءة جائزة، وليس التأويل على هذا، ولكنه رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي ولهم جنات. كما قرأ جماعة من القراء " وحور (1) عين ". وأجاز مثل هذا سيبويه والكسائي والفراء، ومثله كثير. وعلى هذا أيضا " وحورا عينا " حكاه سيبويه، وأنشد: جئني بمثل بني بدر لقومهم * أو مثل أسرة منظور بن سيار (2) وقيل: التقدير " وجنات من أعناب " أخرجناها، كقولك: أكرمت عبد الله وأخوه، أي وأخوه أكرمت أيضا. فأما الزيتون والرمان فليس فيه إلا النصب للإجماع على ذلك. وقيل: " وجنات " بالرفع عطف على " قنوان " لفظا، وإن لم تكن في المعنى من جنسها. (والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه) أي متشابها في الأوراق، أي ورق الزيتون يشبه ورق الرمان في اشتمال على جميع الغصن وفي حجم الورق، وغير متشابه في الذواق، عن قتادة وغيره. قال ابن جريج: " متشابها " في النظر " وغير متشابه " في الطعم، مثل الرمانتين لونهما واحد وطعامهما مختلف. وخص الرمان والزيتون بالذكر لقربهما منهم ومكانهما عندهم. وهو كقوله: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (3) ". ردهم إلى الإبل لأنها أغلب ما يعرفونه. الرابعة - قوله تعالى: (انظر إلى ثمره إذا أثمر) أي نظر الاعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكر. والثمر في اللغة جنى الشجر. وقرأ حمزة والكسائي " ثمره " بضم الثاء والميم. والباقون بالفتح فيهما جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر. قال مجاهد الثمر أصناف المال، والتمر ثمر النخل. وكأن المعنى على قول مجاهد: انظروا إلى الأموال التي يتحصل منه (1) راجع ج 17 ص 202. (2) البيت لجرير، يخاطب الفرزدق فيفخر عليه بسادات قيس لأنهم أخواله، وبنو بدر من فزارة وفيهم شرف قيس عيلان، وبنو سيار من فزارة من ذبيان من قيس. (عن شرح الشواهد للشنتمرى). (3) راجع ج 20 ص 34. (*)
[ 50 ]
الثمر، فالثمر بضمتين جمع ثمار وهو المال المثمر. وروي عن الأعمش (1) " ثمره " بضم الثاء وسكون الميم، حذفت الضمة لثقلها طلبا للخفة. ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة مثل بدنة وبدن. ويجوز أن يكون ثمر جمع جمع، فتقول: ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر. ويجوز أن يكون جمع ثمرة كخشبة وخشب لا جمع الجمع. الخامسة - قوله تعالى: (وينعه) قرأ محمد بن السميقع " ويانعه (2) ". وابن محيصن وابن أبي إسحاق " وينعه " بضم الياء. قال الفراء: هي لغة بعض أهل نجد، يقال: ينع الثمر يينع، والثمر يانع. وأينع يونع و (التمر (3) مونع). والمعنى: ونضجه. ينع وأينع إذا نضج وأدرك. قال الحجاج في خطبته: أرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها. قال ابن الأنباري: الينع جمع يانع، كراكب وركب، وتاجر وتجر، وهو المدرك البالغ. وقال الفراء: أينع أكثر من ينع، ومعناه أحمر، ومنه ما روي في حديث الملاعنة (إن ولدته أحمر مثل الينعة) وهي خرزة حمراء، يقال: إنه العقيق أو نوع منه. فدلت الآية لمن تدبر ونظر ببصره وقلبه، نظر من تفكر، أن المتغيرات لا بد لها من مغير، وذلك أنه تعالى قال: " انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ". فتراه أولا طلعا ثم إغريضا إذا انشق عنه الطلع. والإغريض يسمى ضحكا أيضا، ثم بلحا، ثم سيابا، ثم جدا لا إذ اخضر واستدار قبل أن يشتد، ثم بسرا إذا عظم، ثم زهوا إذا أحمر، يقال: أزهى يزهي، ثم موكتا إذا بدت فيه نقط من الإرطاب. فإن كان ذلك من قبل الذنب فهي مذنبة، وهو التذنوب، فإذا لانت فهي ثعدة، فإذا بلغ الإرطاب نصفها فهي مجزعة، فإذا بلغ ثلثيها فهي حلقانة، فإذا عمها الإرطاب فهي منسبتة، يقال: رطب منسبت، ثم ييبس فيصير تمرا. فنبه الله تعالى بانتقالها من حال إلى حال وتغيرها ووجودها بعد أن لم تكن بعد على وحدانيته وكمال قدرته، وأن لها صانعا قادرا عالما. ودل على جواز البعث، لإيجاد النبات بعد الجفاف. قال الجوهري ينع الثمر يينع ويينع ينعا وينوعا، أي نضج. السادسة - قال ابن العربي قال ما لك: الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش. قال مالك: والنقش أن ينقش أهل البصر الثمر حتى يرطب، يريد يثقب فيه بحيث يسرع دخول (1) في ك: الأعرج. (2) في شواذ ابن خالويه: " يا نعمة " ابن محيص. (3) من ج وه وز وك. (*)
[ 51 ]
الهواء إليه فيرطب معجلا. فليس ذلك الينع المراد في القرآن، ولا هو الذي ربط به رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) البيع، وإنما (هو (1) ما يكون من ذاته بغير محاولة. وفي بعض بلاد التين، وهي البلاد الباردة، لا ينضج حتى يدخل في فمه عود قد دهن زيتا، فإذا طاب حل بيعه، لأن ذلك ضرورة الهواء وعادة البلاد، ولولا ذلك ما طاب في وقت الطيب. قلت: وهذا الينع الذي يقف عليه جواز بيع التمر وبه يطيب أكلها ويأمن من العاهة، هو عند طلوع الثريا بما أجرى الله سبحانه من العادة وأحكمه من العلم والقدرة. ذكر المعلى ابن أسد عن وهيب عن عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا طلعت الثريا صباحا رفعت العاهة عن أهل البلد). والثريا النجم، لا خلاف في ذلك. وطلوعها صباحا لاثنتي عشرة ليلة تمضي من شهر أيار، وهو شهر مايو. وفي البخاري: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر. السابعة - وقد استدل من أسقط (2) الجوائح في الثمار بهذه الآثار، وما كان مثلها من نهيه عليه السلام عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. قال عثمان بن سراقة: فسألت ابن عمر متى هذا ؟ فقال: طلوع الثريا. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت عندي لم أعده، والأصل المجتمع عليه أن كل من ابتاع ما يجوز بيعه وقبضه كانت المصيبة منه، قال: ولو كنت قائلا بوضع الجوائح لو ضعتها في القليل والكثير. وهو قول الثوري والكوفيين. وذهب مالك وأكثر أهل المدينة إلى وضعها، لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح. أخرجه مسلم. وبه كان يقضي عمر بن عبد العزيز، وهو قول أحمد بن حنبل وسائر أصحاب الحديث. وأهل الظاهر وضعوها عن المبتاع في القليل والكثير على عموم الحديث، إلا أن مالكا وأصحابه أعتبروا أن تبلغ الجائحة ثلث الثمرة فصاعدا، وما كان دون الثلث ألغوه وجعلوه تبعا، إذ لا تخلو ثمرة من أن يتعذر القليل من طيبها وأن يلحقها في اليسير منها (1) من ب وج وك وز ر ل. (2) في ز: أسقط بعض الجوائح. (*)
[ 52 ]
فساد. وكان أصبغ وأشهب لا ينظران إلى الثمرة ولكن إلى القيمة، فإذا كانت القيمة الثلث فصاعدا وضع عنه. والجائحة ما لا يمكن دفعه عند ابن القاسم. وعليه فلا تكون السرقة جائحة، وكذا في كتاب محمد. وفي الكتاب أنه جائحة، وروي عن ابن القاسم، وخالفه أصحابه والناس. وقال مطرف وابن الماجشون: ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد، أو عطش أو حر أو كسر الشجر بما ليس بصنع ادمي فهو جائحة. واختلف في العطش (1)، ففي رواية ابن القاسم هو جائحة. والصحيح في البقول أنها (فيها جائحة (2)) كالثمرة. ومن باع ثمرا قبل بدو صلاحه بشرط التبقية فسخ بيعه ورد، للنهي عنه، ولأنه من أكل المال بالباطل، لقوله عليه السلام: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم أخذ أحدكم مال أخيه بغير حق) ؟ هذا قول الجمهور، وصححه أبو حنيفة وأصحابه وحملوا النهي على الكراهة. وذهب الجمهور إلى جواز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع. ومنعه الثوري وابن أبي ليلى تمسكا بالنهي الوارد في ذلك. وخصصه الجمهور بالقياس الجلي، لأنه مبيع معلوم يصح قبضه حالة العقد فصح بيعه كسائر المبيعات. قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنت بغير علم سبحنه وتعلى عما يصفون (100) قوله تعالى: " وجعلوا لله شركاء الجن " هذا ذكر نوع آخر من جهالاتهم، أي فيهم من أعتقد لله شركاء من الجن. قال النحاس: " الجن " مفعول أول، و " شركاء " مفعول ثان، مثل " وجعلكم ملوكا (3) ". " وجعلت له مالا ممدودا (4) ". وهو في القرآن كثير. والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء. ويجوز أن يكون " الجن " بدلا من شركاء، والمفعول الثاني " لله ". وأجاز الكسائي رفع " الجن " بمعنى هم الجن. " وخلقهم " كذا قراءة الجماعة (5)، أي خلق الجاعلين له شركاء. وقيل: خلق الجن الشركاء. وقرأ ابن مسعود " وهو خلقهم " بزيادة هو. وقرأ يحيى بن يعمر " وخلقهم " بسكون اللام، وقال: أي وجعلوا خلقهم لله شركاء، لأنهم كانوا يخلقون الشئ ثم يعبدونه. والآية نزلت في مشركي العرب. ومعنى إشراكهم (1) كذا في ا وج وك وز وع. وفى ب: العسكر. (2) من ك. (3) راجع ج 6 ص 123. (4) راجع ج 19 ص 69. (5) في ب وج وز وك: الجمهور. (*)
[ 53 ]
بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل، روي ذلك عن الحسن وغيره. قال قتادة والسدي: هم الذين قالوا الملائكة بنات الله. وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة، قالوا: إن الله وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق (1) الجان والسباع والعقارب. ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا: للعالم صانعان: إله قديم، والثاني شيطان حادث من فكر الإله القديم، وزعموا أن صانع الشر حادث. وكذا الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط، زعموا أن للعالم صانعين: الإله القديم، والآخر محدث، خلقه الله عز وجل أولا ثم فوض إليه تدبير العالم، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة. تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. " وخرقوا " قراءة نافع بالتشديد على التكثير، لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة، وسموهم جنا لاجتنانهم. والنصارى أدعت المسيح ابن الله. واليهود قالت: عزير ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم (2)، فشدد الفعل لمطابقة المعنى. تعالى الله عما يقولون. وقرأ الباقون بالتخفيف على التقليل. وسئل الحسن البصري عن معنى " وخرقوا له " بالتشديد فقال: إنما هو " وخرقوا " بالتخفيف، كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خرقها ورب الكعبة. وقال أهل اللغة: معنى " خرقوا " أختلقوا وافتعلوا " وخرقوا " على التكثير. قال مجاهد وقتادة وابن زيد وابن جريج: " خرقوا " كذبوا. يقال: إن معنى خرق واخترق واختلق سواء، أي أحدث: قوله تعالى: بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل شى وهو بكل شئ عليم - (101) قوله تعالى: (بديع السموات والأرض) أي مبدعهما، فكيف يجوز أن يكون له ولد. و " بديع " خبر ابتداء مضمر أي هو بديع. وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عز وجل، ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض. وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى (3). (1) في ب وج وز وك: الحيات. (2) في ج ك: من فعلهم. (3) اسم الفاعل يعمل عمل فعله إن كان صلة لأل مطلقا فإن لم يكن صلة لأل عمل بشرطين عند البصريين: أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال. وأجاز الكسائي عمله إذا كان للماضي. (*)
[ 54 ]
(أنى يكون له ولد) أي من أين يكون له ولد. وولد كل شئ شبيهه، ولا شبيه له. (ولم تكن له صاحبة) أي زوجة (وخلق كل شئ) عموم معناه الخصوص، أي خلق العالم. ولا يدخل في ذلك كلامه وصفات ذاته. ومثله " ورحمتي وسعت كل شئ (1) " ولم تسع إبليس ولا من مات كافرا. ومثله " تدمر كل شئ (2) " ولم تدمر السماوات والأرض. قوله تعالى: ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل (102) قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو) " ذلكم " في موضع رفع بالابتداء. " الله ربكم " على البدل. " خالق كل شئ " خبر الابتداء. ويجوز أن يكون " ربكم " الخبر، و " خالق " خبرا ثانيا، أو على إضمار مبتدأ، أي هو خالق. وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب. قوله تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو الطيف الخبير (103) قوله تعالى: " لا تدركه الأبصار " بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته، كما تقول: أدركت كذا وكذا، لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس: " لا تدركه الأبصار " في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة، لإخبار الله بها في قوله: " وجوه يومئذ (3) ناضرة إلى ربها ناظرة " وقال السدي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة. وسيأتي بيانه في " يونس (4) ". وقيل: " لا تدركه الأبصار " لا تحيط به وهو يحيط بها، (1) راجع ص 296 من هذا الجزء. (2) راجع ج 16 ص 205. (3) راجع ج 19 ص 105. (4) راجع ج 8 ص 330. (*)
[ 55 ]
عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه، إذ " ليس كمثله شئ (1) " وقيل المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد عليه السلام، إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلا، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل. وأختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة (2)، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن ؟ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل " ولقد رأه بالأفق المبين (3) " " ولقد رأه نزلة أخرى (4) " ؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة (من (5) سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض). فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " ؟ أو لم تسمع الله عز وجل يقول: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا - إلى قول - علي حكيم (1) " ؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (6) " قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: " قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله (7) " وإلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل: ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رأى جبريل، وأختلف عنهما. (1) راجع ج 16 ص 7 وص 52. (2) أبو عائشة: كنية الامام مسروق. (3) راجع ج 19 ص 239. (4) راجع ج 17 ص 92. (5) من ك. (6) راجع ج 6 ص 242. (7) راجع ج 13 ص 225. (*)
[ 56 ]
وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس أنه رآه بعينه، هذا هو المشهور عنه. وحجته قوله تعالى: " ما كذب الفؤاد ما رأى (1) ". وقال عبد الله بن الحارث: أجتمع ابن عباس وأبي بن كعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو (2) هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. ثم قال ابن عباس: أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم. وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه ؟ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه ! حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه (أن (3) محمدا صلى الله عليه وسلم) رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده، وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل رأه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا، لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة، فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شئ من هذا في حق موسى عليه السلام في " الأعراف (4) " إن شاء الله. قوله تعالى: " وهو يدرك الأبصار " أي لا يخفى عليه شئ إلا يراه ويعلمه. إنما خص الأبصار، لتجنيس الكلام. وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون (1) راجع ج 17 ص 92. (2) كذا في كل الأصول، وهو منصوب على الاختصاص. (3) من ع. (4) راجع ص 278 من هذا الجزء. (*)
[ 57 ]
الأبصار، أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشئ الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال: " وهو اللطيف الخبير " أي الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال: جاءتنا من فلان لطفه، أي هدية. والملاطفة المبارة، عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد: اللطيف من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذاء، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في " الشورى (1) " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104) قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم) أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل، جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر: جاءوا بصائرهم على أكتافهم * وبصيرتي يعدو بها عتد وآى (2) يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجئ لتفخيم شأنها، إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: جاءت العافية وقد أنصرف المرض، وأقبل السعود وأدبر النحوس (فمن أبصر فلنفسه) الإبصار: هو الإدراك بحاسة البصر، أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. (ومن عمى) لم يستدل، فصار بمنزلة الأعمى، فعلى نفسه يعود (1) راجع ج 16 ص 16. (2) الذى في كتب الغة: " راحوا... الخ " وأن هذا البيت للأسعر الجعفي. يقول: إنهم تركوا دم أبيهم وجعلوه خلفهم أي لم يثأروا به وأنا طلب ثارى. والعتد (بفتح التا وكسرها): الفرس التام الخلق السريع الوثبة معد للجرى ليس فيه اضطراب ولا رخاوة. والوآى (بفتح الواو والمد): الفرس السريع المقتدر الخلق. (*)
[ 58 ]
عماه. (وما أنا عليكم بحفيظ) أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم. وقيل: أي لا أحفظكم من عذاب الله. وقيل: " بحفظ " برقيب، أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شئ من أفعالكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان. قوله تعالى: وكذلك نصرف الأيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105) قوله تعالى: " وكذلك نصرف الآيات " الكاف (في (1) كذلك) في موضع نصب، أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها. " وليقولوا درست " والواو للعطف على مضمر، أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. وقيل: أي " وليقولوا درست " صرفناها، فهي لام الصيرورة. وقال الزجاج: هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، أي آل أمره إلى ذلك. وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا: درست وتعلمت من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما. قال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى " نصرف الآيات " نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا، فيذكرون (2) الأول بالآخر. فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز. وفي " درست " سبع قراءات. قرأ أبو عمرو وابن كثير " دارست " بالألف بين الدال والراء، كفاعلت. وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. قال ابن عباس: معنى " دارست " تاليت. وقرأ ابن عامر " درست " بفتح السين وإسكان التاء غير ألف، كخرجت. وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون " درست " كخرجت. فعلى الأولى: دارست أهل الكتاب ودارسوك، أي ذاكرتهم وذاكروك، قال سعيد بن جبير. ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم: " وأعانه عليه قوم آخرون (3) " أي أعان اليهود النبي (1) من ك. (2) في ك: فيلحقون. (3) راجع ج 13 ص 3. (*)
[ 59 ]
صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه. وهذا كله قول المشركين. ومثله قولهم: " وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (1) ". " إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (2) ". وقيل: المعنى دارستنا، فيكون معناه كمعنى درست، ذكره النحاس واختاره، والأول ذكره مكي. وزعم النحاس أنه مجاز، كما قال: * فللموت ما تلد الوالده (3) * ومن قرأ " درست " فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. وقرأ قتادة " درست " أي قرئت. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ " دارست ". وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز، قال: لأن الآيات لا تدارس. وقال غيره: القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم، ولكن معناه دارست أمتك، أي دارستك أمتك، وإن كان لم يتقدم لها ذكر، مثل قول: " حتى توارت بالحجاب (4) ". وحكى الأخفش " وليقولوا درست " وهو بمعنى " درست " إلا أنه أبلغ. وحكى أبو العباس أنه قرئ " وليقولوا درست " بإسكان اللام على الأمر. وفيه معنى التهديد، أي فليقولوا بما شاءوا فإن الحق بين، كما قال عز وجل " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا (5) " فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي. وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شئ واحد، إلى التليين والتذليل. و " درست " من درس يدرس دراسة، وهي القراءة على الغير. وقيل: درسته أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام أي داسه. والدياس الدراس بلغة أهل الشام. وقيل: أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته. وقد درس الثوب درسا أي أخلق. ويرجع هذا إلى التذلل أيضا. ويقال: سمي إدريسي لكثرة دراسته لكتاب الله. ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها. ودرست الكتاب درسا ودراسة. ودرست المرأة درسا أي حاضت. ويقال: (1) راجع ج 13 ص 3. (2) راجع ج 10 ص 95. (3) هذا عجز بيت وصدره كما في المغى (حرف اللام): * فإن يكن الموت أفناهم * (4) راجع ج 15 ص 195. (5) راجع ج 8 ص 216. (*)
[ 60 ]
إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس، وهو من الحيض. والدرس أيضا: الطريق الخفي. وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس أي لم يركب، ودرست من درس المنزل إذا عفا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش " وليقولوا درس " أي درس محمد الآيات. " ولنبينه " يعني القول والتصريف، أو القرآن " لقوم يعلمون ". قوله تعالى: (اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) قوله تعالى: " اتبع ما أوحي إليك من ربك " يعني القرآن، أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل أشتغل بعبادة الله. " لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين " منسوخ. قوله تعالى: ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلنك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) نص على أن الشرك بمشيئته، وهو إبطال لمذهب القدرية. كمتقدم. (وما جعلناك عليهم حفيظا) أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله. (وما أنت عليهم بوكيل) أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم، فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا، إنما أنت مبلغ. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال. قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعلمون (108)
[ 61 ]
فيه خمس مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) نهي. (فيسبوا الله) جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم، لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه، فنزلت الآية. الثانية - قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أيسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب " الذين " على معتقد الكفرة فيها. الثالثة - في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع، وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول. الرابعة - قوله تعالى: (عدوا) أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرءوا " عدوا " بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا " عدوا " بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع، كما قال: " فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (1) ". وقال تعالى: " هم (2) العدو " وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله. الخامسة - قوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر (1) راجع ج 13 ص 110. (2) راجع ج 18 ص 125. (*)
[ 62 ]
الكفر، وهو كقوله: " كذلك يضل الله من يشاء ويهدي (1) من يشاء ". وفي هذا رد على القدرية. قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جاءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الأيت عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109) قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " وأقسموا " أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله فقوله: " جهد أيمانهم " أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، كما أخبر عنهم بقوله تعالى: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (2) ". وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله. " جهد " منصوب على المصدر والعامل فيه " أقسموا " على مذهب سيبويه، لأنه في معناه. والجهد (بفتح الجيم): المشقة يقال: فعلت ذلك بجهد. والجهد (بضمها): الطاقة يقال: هذا جهدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحدا، ويحتج بقول " والذين لا يجدون إلا جهدهم (3) ". وقرئ " جهدهم " بالفتح، عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال: (أي شئ تحبون) ؟ قالوا: أجعل لنا الصفا ذهبا، فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: (إن شئت أصبح (الصفا (4) ذهبا، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فأتركهم حتى يتوب تائبهم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) راجع ج 10 ص 172. (2) راجع ج 15 ص 123. (3) راجع ج 8 ص 215. (4) من ك. (*)
[ 63 ]
(بل يتوب تائبهم) فنزلت هذه الآية. وبين الرب (1) بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يومن وإن أقسم ليؤمنن. الثانية - قوله تعالى: " جهد أيمانهم " قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمي، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: على أشد ما أخذه أحد على أحد، فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها، لأن قوله " الإيمان " جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال: علي يمينان للزمته (2) كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات. قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها، فقال أبو محمد بن أبي زيد، يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله: " وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين ". قال ابن مغيث: فجعل (3) من سميناه على القائل: " الإيمان تلزمه " طلقة واحدة، لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال (4) وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله، فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: على عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة (1) في ك: بين الله. (2) في ك، ز: ألزمناه كفارتين. (3) في ك: فحمل. (4) من ز. (*)
[ 64 ]
ويتصدق بثلث ما له في قوله: وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد، فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك " بالله " فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد، فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ماله، إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم. قوله تعالى: (قل إنما الآيات عند الله) أي قل يا محمد: الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. " وما يشعركم " أي وما يدريكم أيمانكم، فحذف المفعول. ثم استأنف فقال: " إنها إذا جاءت لا يؤمنون " بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود " وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون ". وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ " تؤمنون " بالتاء. وقال الفراء وغيره، الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: وما يشعركم أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. " أنها " بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل: " أنها " بمعنى لعلها، وحكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل: " وما يدريك لعله يزكى (1) " أي أنه يزكى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك. وقال أبو النجم: قلت لشيبان آدن من لقائه * أن تغدي القوم من شوائه وقال عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي * إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي لعل. وقال دريد (2) بن الصمة. أريني جوادا مات هزلا لأنني * أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا (1) راجع ج 19 ص 211. (2) الصحيح أنه حاتم طى. كما في الصحاح للجوهري، وديوانه. ويروى: لعلنى: فلا شاهد. (*)
[ 65 ]
أي لعلني (1). وهو في كلام العرب كثير " أن " بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب " وما أدراكم لعلها ". وقال الكسائي والفراء: أن " لا " زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت " لا "، كما زيدت " لا " في قول تعالى: " حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (2) ". لأن المعنى: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قول: " ما منعك ألا تسجد ". والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة " لا " وقالوا: هو غلط وخطأ، لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع، ذكره النحاس وغيره. قوله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغينهم يعمهون (110). هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها " ونذرهم في طغيانهم يعمهون ". قيل: المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر، كما لم يؤمنوا في الدنيا. " ونذرهم " في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم، فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. ونظيرها " وجوه يومئذ خاشعة (4) " فهذا في الآخرة. " عاملة ناصبة " في الدنيا. وقيل: ونقلب في الدنيا، أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة، لما دعوتهم وأظهرت المعجزة. وفي التنزيل: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ". والمعنى: كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم. كما لم يؤمنوا به أول مرة ودخلت الكاف على محذوف، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة، أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره. وقيل ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا (1) في ه نخ ب، وز ما نصه: ذريني أطوف في البلاد لأننى الخ. (2) راجع ج 11 ص 340. (3) راجع ص 165، وص 390 من هذا الجزء. (4) راجع ج 20 ص 26. (*)
[ 66 ]
يؤمنوا، كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما أقترحوا من الآيات. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) يتحيرون. وقد مضى في " البقرة (1) ". قوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون (111) قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) فرأوهم عيانا. (وكلهم الموتى) بإحيائنا إياهم. (وحشرنا عليهم كل شئ) سألوه من الآيات. قبلا مقابلة، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. وهي قراءة نافع وابن عامر. وقيل: معاينة، لما آمنوا. وقال محمد بن يزيد: يكون " قبلا " بمعنى ناحية، كما نقول: لي قبل فلان مال، فقبلا نصب على الظرف. وقرأ الباقون " قبلا " بضم القاف والباء، ومعناه ضمناء، فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل، نحو رغيف ورغف، كما قال: " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (2) "، أي يضمنون ذلك، عن الفراء. وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل، أي جماعة جماعة، وقال مجاهد، وهو نصب على الحال على القولين. وقال محمد بن يزيد " قبلا " أي مقابلة، ومنه " إن كان قميصه قد من قبل (3) ". ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه. ومنه قبل الحيض. حكى أبو زيد: لقيت فلانا قيلا ومقابلة وقبلا وقبلا، كله بمعنى المواجهة، فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان، قاله مكي. وقرأ الحسن " قبلا " حذف الضمة من الباء لثقلها. وعلى قول الفراء يكون فيه نطق ما لا ينطق، وفي كفالة ما يعقل آية عظيمة لهم. وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود. والحشر الجمع. ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " أن " في موضع استثناء ليس من الأول، أي لكن إن شاء ذلك لهم. وقيل: (1) راجع ج 1 ص 209. (2) راجع ج 10 ص 327. (3) راجع ج 9 ص 172. (*)
[ 67 ]
الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان. وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم. (ولكن أكثرهم يجهلون) أي يجهلون الحق وقيل: يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة. قوله تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شيطين الانس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبى) يعزي نبيه ويسليه، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك (عدوا) أي أعداء. ثم نعتهم فقال (شياطين الانس والجن) حكى سيبويه جعل بمعنى وصف. " عدوا " مفعول أول. " لكل نبي " في موضع المفعول الثاني. " شياطين الإنس والجن " بدل من عدو. ويجوز أن يكون " شياطين " مفعولا أول، " عدوا " مفعولا ثانيا، كأنه قيل: جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا. وقرأ الأعمش: " شياطين الجن والإنس " بتقديم الجن. والمعنى واحد. (يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس. وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه، ومنه سمي الذهب زخرفا. وكل شئ حسن مموه فهو زخرف. والمزخرف المزين. وزخارف الماء طرائقه. و " غرورا " نصب على المصدر، لأن معنى " يوحي بعضهم إلى بعض " يغرونهم بذلك غرورا. ويجوز أن يكون في موضع الحال والغرور الباطل. قال النحاس: وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل " يوحي بعضهم إلى بعض " قال: مع كل جني شيطان، ومع كل إنسي شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول: إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله. ويقول الآخر مثل ذلك، فهذا وحي بعضهم إلى بعض. وقاله عكرمة والضحاك
[ 68 ]
والسدي والكلبي. قال النحاس: والقول الأول يدل عليه " وإن الشياطين ليوحون إلى أو ليائهم ليجادلوكم (1) "، فهذا يبين معنى ذلك. قلت: ويدل عليه من صحيح السنة قول عليه السلام: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن) قيل: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: (ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير). روي (فأسلم) برفع الميم ونصبها. فالرفع على معنى فأسلم من شره. والنصب على معنى فأسلم هو. فقال: (ما منكم من أحد) ولم يقل ولا من الشياطين، إلا أنه يحتمل أن يكون نبه على أحد الجنسين بالآخر، فيكون من باب " سرابيل تقيكم (2) الحر " وفيه بعد، والله أعلم. وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن) ؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين ؟ قال: (نعم هم شر من شياطين الجن). وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. وسمع عمر بن الخطاب رضي (3) الله عنه امرأة تنشد: إن النساء رياحين خلقن لكم * وكلكم يشتهي شم الرياحين فأجابها عمر رضي الله عنه: إن النساء شياطين خلقن لنا * نعوذ بالله من شر الشياطين قوله تعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور. فذرهم أمر فيه معنى التهديد. قال سيبويه: ولا يقال وذر ولا ودع، استغنوا عنهما (4) بترك. قلت: هذا إنما خرج على الأكثر. وفي التنزيل: " وذر الذين (5) " و " ذرهم " و " ما ودعك (6) ". وفي السنة (لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات). وقول: (إذا فعلوا - يريد المعاصي - (1) ص 74 من هذا الجزء. (2) راجع ج 10 ص 159. (3) من ك، ع، ج. والذى يعرف أن البيت لأحد أدباء البصرة رأى من النساء فأجبه حالهن فقال: إن النساء شياطين. البيت فأجابته إحداهن: إن النساء رياحين. البيت. (4) من ب. (5) يلاحظ أن الفعل في " وذر الذين " وذرهم أمر، ولا يتجه بهما قول المؤلف. فلعل في الكلام سهوا، والعصمة لله. (6) " ودعك " بالتخفيف قراءة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم. غير سبعية. (*)
[ 69 ]
فقد تودع منهم). قال الزجاج: الواو ثقيلة، فلما كان " ترك " ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو. وهذا معنى قول وليس بنصه. قوله تعالى: ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113). قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة) تصغي تميل، يقال: صغوت أصغو صغوا وصغوا، وصغيت أصغي، وصغيت بالكسر أيضا. يقال منه: صغي يصغى صغى وصغيا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنى قال الشاعر: ترى السفيه به عن كل محكمة (1) * وزيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء ويقال: أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه. وأصله الميل إلى الشئ لغرض من الأغراض. ومنه صغت النجوم: مالت للغروب. وفي التنزيل: " فقد صغت قلوبكما (2) ". قال أبو زيد: يقال (3) ضغوه معك وصغوه، وصغاه معك، أي ميله. وفي الحديث: (فأصغى لها الإناء) يعني للهرة. وأكرموا فلانا في صاغيته، أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده. وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرجل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل. قال ذو الرمة: تصغي إذا شدها بالكور جانحة * حتى إذا ما استوى في غرزها تثب (4) واللام في " ولتصغى " لام كي، والعامل فيها " يوحي " تقديره: يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى. وزعم بعضهم أنها لام الأمر، وهو غلط، لأنه كان يجب " ولتصغ إليه " بحذف الألف، وإنما هي لام كي. وكذلك وليقترفوا إلا أن الحسن قرأ " وليرضوه (1) من ا، ب، ز، ك وفى اللسان: مكرمة. (2) راجع ج 18 ص 188. (3) من ب، ز، ك. (4) الكور (بالضم): رحل الناقة بأداتة وهو كالسرج وآلته للفرس قال ابن سيده: وكثير من الناس يفتح الكاف وهو خطأ وجانحة: مائله لاصقة. والغرز: سير كالركاب توضيح فيه الرجل عند الركاب. صف ناقته بالفطانة وسرعة الحركة. (*)
[ 70 ]
وليقترفوا " بإسكان اللام، جحلها لام أمر فيه معنى التهديد، كما يقال: أفعل ما شئت. ومعنى ولقترفوا ما هم مقترفون أي وليكتسبوا، عن ابن عباس والسدي وابن زيد. يقال خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم. وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله. وقرفتني بما ادعيت علي، أي رميتني بالريبة. وقرف القرحة إذا قشر منها. واقترف كذبا. قال رؤبة: أعيا اقتراف الكذب المقروف * تقوى التقي وعفة العفيف (1) وأصله اقتطاع قطعة من الشئ. قوله تعالى: أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتب مفصلا والذين ءاتينهم الكتب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114) قوله تعالى: (أفغير الله أبتغى حكما) " غير " نصب ب " أبتغي ". " حكما " نصب على البيان، وإن شئت على الحال. والمعنى: أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مئونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل، أي المبين. ثم قيل: الحكم أبلغ من الحاكم، إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح. والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق. (والذين آتيناهم الكتاب) يريد اليهود والنصارى. وقيل: من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبد الله بن سلا. (يعلمون أنه) أي القرآن. (منزل من ربك بالحق) أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق فلا تكونن من الممترين أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله. وقال عطاء: الذين آتينا الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قوله تعالى: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلمته وهو السميع العليم (115) (1) في ع: العفيف. وفي ا وب وج وك وز: الضعيف. (*)
[ 71 ]
قوله تعالى: (وتمت كلمات ربك) قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع. قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغير لها. والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما. قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون. (صدقا وعدلا) أي فيما وعد وحكم، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده. وحكى الرماني، عن قتادة. وحكى الرماني عن قتادة. لا مبدل لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك. ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن، لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شئ من الأمور (كلها (1). قوله تعالى: وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الضن وإن هم إلا يخرصون (116) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117) قوله تعالى: (وإن تطيع أكثر من في الارض) أي الكفار. (يضلونك عن سبيل الله) أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله. (إن يتبعون إلا الظن) " إن " بمعنى ما، وكذلك (وإن هم إلا يخرصون) أي يحدسون ويقدرون، ومنه الخرص، وأصله القطع. قال الشاعر: ترى قصد المران فينا كأنه * تذرع خرصان بأيدي الشواطب (2) يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص. وهو جمع الخرص، ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه. فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به، إذ لا يقين معه. (1) من ك. (2) البيت لقيس بن الخطيم. والقصد (بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصدة): القطعة مما يكسر والمران: نبات الرماح. أو الرماح الصلبة اللدنة. والتذرع: تقدير الشئ بذارع اليد والخرصان: القضبان من الجريد. والشواطب (جمع الشاطبة) وهى المرأة التى تقشر العسيب ثم تلقيه إلى المنقية فأخذ كل ما عليه بسكينها حتى تتركه رقيقا ثم تلقيه المنقيه إلى الشاطبة ثانيه فتشطبه على ذراعها وتترعه. وقوله: " فينا كأنه عبارة الأصول. والذى في اللسان " تلقى كأنه " وفى ديوانه: تهوى كأنها ". (*)
[ 72 ]
وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الذاريات (1) " إن شاء الله تعالى. (إن ربك هو اعلم) قال بعض الناس: إن " أعلم " هنا بمعنى يعلم، وأنشد قول حاتم الطائي: تحالفت طئ من دوننا حلفا * والله أعلم ما كنا لهم خذلا (2) وقول الخنساء: الله (3) أعلم أن جفنته * تغدو غداة الريح أو تسري وهذا لا حجة فيه، لأنه لا يطابق " هو أعلم بالمهتدين ". ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. (من يضل عن سبيله) " من " بمعنى أي، فهو في محل رفع والرافع له " يضل ". وقيل: في محل نصب بأعلم، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقيل: في محل نصب بنزع الخافض، أي بمن يضل. قال بعض البصريين، وهو حسن، لقوله: (وهو أعلم بالمهتدين) وقول في آخر النحل: " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (4) ". وقرئ " يضل " وهذا على حذف المفعول، والأول أحسن، لأنه قال: " وهو أعلم بالمهتدين ". فلو كان من الإضلال لقال وهو أعلم بالهادين. قوله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بئايته مؤمنين (118) قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) نزلت بسبب أناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله ؟ فنزلت " فكلوا " إلى قوله " وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " خرجه الترمذي وغيره. قال عطاء (5): هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم. وقوله: (إن كنتم بآياته مومنين) أي بأحكامه وأوامره آخذين، فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها. (1) راجع ج 17 ص 33. (2) في الاصول: فخالفت وخولا بالواو بدل الذال. والتصويب عن تفسير الطبري. والخذل: جمع خذول. (3) في ب وج ك وز وى: القوم. (4) راجع ج 10 ص 200. (5) في ك: قتادة. (*)
[ 73 ]
قوله تعالى: وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوآئهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمهتدين (119) قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه): المعنى ما المانع لمن أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم. (وقد فصل) أي بين لكم الحلال من الحرام، وأزيل عنكم اللبس والشك. ف " ما " استفهام يتضمن التقرير. وتقدير الكلام: وأي شئ لكم في ألا تأكلوا. " فأن " في موضع خفض بتقدير حرف الجر. ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله " ما لكم " تقديره أي ما يمنعكم. ثم استثنى فقال (إلا ما اضطررتم إليه) يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها كما تقدم في (1) البقرة. وهو استثناء منقطع. وقرأ نافع ويعقوب " وقد فصل لكم ما حرم " بفتح الفعلين. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما، والكوفيون " فصل " بالفتح " حرم " بالضم. وقرأ عطية العوفي " فصل " بالتخفيف. ومعناه أبان وظهر، كما قرئ " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت (2) " أي استبانت. واختار أبو عبيدة قراءة أهل المدينة. وقيل: " فصل " أي بين، وهو ما ذكره في سورة " المائدة " من قوله: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير (3) " الآية. قلت: هذا فيه نظر، فإن " الأنعام " مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل. والله أعلم. قوله تعالى: (وإن كثيرا ليضلون (4) وقرأ الكوفيون " يضلون " من أضل (بأهوائهم بغير) علم يعني المشركين حيث قالوا: ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم بسكاكينكم " بغير علم " أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح، إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه، ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء والله أعلم. (1) راجع ج 2 ص 224. (2) راجع ج 9 ص 2. (3) راجع ج 6 ص 47. (4) قراءة نافع. (*)
[ 74 ]
قوله تعالى: وذروا ظهر الاثم وباطنه إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون (120) قوله تعالى: (وذروا ظاهر الاثم وباطنه) للعلماء فيه أقوال كثيرة وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أمر ونهى، وهذه المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن، كما قال: " ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ". وهي المرتبة الثالثة. حسب ما تقدم بيانه في المائدة (1). وقيل: هو ما كان عليه الجاهلية من الزنا الظاهر واتخاذ الحلائل في الباطن. وما قدمنا جامع لكل إثم (وموجب لكل أمر (2). قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشيطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121) قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) فيه خمس مسائل: الأولى - روى أبو داود قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله عز وجل: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " إلى أخر الآية. وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " قال: خاصمهم (3) المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه، فقال الله سبحانه لهم: لا تأكلوا، فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي: الثانيه - وذلك أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا، فقال علماؤنا: لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم. أما ما ذكره (1) راجع ج 6 ص 293. (2) من ك. (3) أي خاصم المؤمنين المشركين. (*)
[ 75 ]
جوابا لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه، إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم. فقول: " لا تأكلوا ا " ظاهر في تناول الميتة، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول: " وما أهل به لغير الله (1) ". وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح، وعند إرسال الصيد. اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة، وهي (المسأله (2): - الثالثة - القول (2) الأول -: إن تركها سهوا أكلا جميعا، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل. فإن تركها عمدا لم يؤكلا، وقال في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء، وأختاره النحاس وقال: هذا أحسن، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا. الثاني: إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما. وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة. وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا. و (روي (2) عن ربيعة أيضا. قال عبد الوهاب: التسمية سنة، فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه. الثالث: إن تركها عامدا أو ساهيا (3) حرم أكلها، قال محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عمر ونافع وعبد الله بن زيد الخطمي والشعبي، وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية. الرابع: إن تركها عامدا كره أكلها، قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا. (1) راجع ج 2 ص 216. (2) من ك. (3) في ك: ناسيا. (*)
[ 76 ]
الخامس: قال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري. (أدلة (1) قال الله تعالى: " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " وقال: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " فبين الحالين وأوضح الحكمين. فقول: " لا تأكلوا " نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة، لتناول في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، أي يراد به التحريم والكراهة معا، وهذا من نفيس الأصول. وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه، فالشرط ليس بواجب عليه. وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول: قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر بلساني، فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جل جلاله وعظمه. أو يقول: إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة، إذ ليست بقربة، فهذا أيضا يجزئه. أو يقول: لا أسمي، وأي قدر للتسمية، فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته. قال ابن العربي: وأعجب لرأس المحققين أمام الحرمين حيث قال: ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. وهذا يعارض القرآن والسنة، قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل). فإن قيل: المراد بذكر اسم الله بالقلب، لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البراء بن عازب: اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم. قلنا: الذكر باللسان وبالقلب، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة، وأشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك: هل يسمي الله تعالى إذا توضأ فقال: أيريد أن يذبح. وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله: (اسم الله على قلب كل مؤمن) فحديث ضعيف. وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة، لقوله عليه السلام لأناس سألوه، قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سموا الله عليه وكلوا ". أخرجه الدارقطني عن عائشة ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يختلف عليه في إرساله. (1) من ب وج وك وع وى. (*)
[ 77 ]
وتأوله بأن قال في آخره: وذلك في أول الإسلام. يريد قبل أن ينزل عليه " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ". قال أبو عمر: وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه. ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " نزل في سورة " الأنعام " بمكة. ومعنى (وإنه لفسق) أي لمعصية عن ابن عباس. والفسق: الخروج. وقد تقدم (1). الرابعة - قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل. روى أبو داود عن ابن عباس في قول: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله " ولا تأكلوا مما لو يذكر اسم الله عليه " قال عكرمة: عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس. وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير: بل الشياطين الجن، وكفرة الجن أولياء قريش. وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قيل له: إن المختار يقول: يوحى إلى فقال: صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم. (وقوله: (2) " ليجادلوكم ". يريد (قولهم (2): ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه. والمجادلة: دفع القول على طريق الحجة بالقوة، مأخوذ من الأجدل، طائر قوي. وقيل: هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل: هو مأخوذ من الجدل، وهو شدة القتل، فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها (3)، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل. الخامسة - قوله تعالى: (وإن أطعتموهم) أي في تحليل الميتة (إنكم لمشركون) فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا. وقد حرم الله سبحانه المية نصا، فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. قال ابن العربي: إنما يكون المؤمن بطاعة (1) راجع ج 1 ص 244. (2) من ك. (3) في ك: يعطلها. (*)
[ 78 ]
المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد، فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص، فافهموه. وقد مضى في " المائدة (1) ". قوله تعالى: أو من كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمت ليس بخارج منها كذلك زين للكفرين ما كانوا يعملون (122) قوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه) قرأ الجمهور بفتح الواو، دخلت عليها همزة الاستفهام. وروى المسيبي عن نافع بن أبي نعيم " أو من كان " بإسكان الواو. قال النحاس: يحوز أن يكون محمولا على المعنى، أي انظروا وتدبروا أغير الله أبتغي حكما. " أو من كان ميتا فأحييناه " قيل: معناه كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه، حكاه ابن بحر. وقال ابن عباس: أو من كان كافرا فهديناه. نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل. وقال زيد بن أسلم والسدي: " فأحييناه " عمر (رضي الله عنه (2). " كمن مثله في الظلمات " أبو جهل لعنه الله (2). والصحيح أنها عامة في كل مؤمن وكافر. وقيل: كان ميتا بالجهل فأحييناه بالعلم. وأنشد بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء (البصرة (3): وفي الجهل قبل الموت موت لأهله * فأجسامهم قبل القبور قبور وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت * فليس له حتى النشور نشور والنور عبارة عن الهدى والإيمان. وقال الحسن: القرآن. وقيل: الحكمة. وقيل: هو النور المذكور في قول: " يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم (4) " وقوله: " انظرونا نقتبس من نوركم ". " يمشى به " أي بالنور في الناس كمن مثله في الظلمات " أي كمن هو فمثل زائدة. تقول: أنا أكرم مثلك، أي أكرمك. ومثله " فجزاء مثل ما قتل من النعم (5) "، (1) راجع ج 6 ص 254 وص 301. (2) من ع. (3) من ج وك وى وع وز. وفي ا وب: العرب. (4) راجع ج 17 ص 242 وص 245. (5) راجع ج 6 ص 306. (*)
[ 79 ]
" ليس كمثله (1) شئ ". وقيل: المعنى كمن مثله مثل من هو في الظلمات. والمثل والمثل واحد. (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعلمون) أي زين لهم الشيطان عبادة الأصنام وأوهمهم أنهم أفضل من المسلمين. قوله تعالى: وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (123) قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قريه أكابر مجرميها) المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية. " مجرميها " مفعول أول لجعل " أكابر " مفعول ثاني على التقديم والتأخير. وجعل بمعنى صير. والأكابر جمع الأكبر. قال مجاهد: يريد العظماء (2). وقيل: الرؤساء والعظماء. وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، أصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها. قال مجاهد: كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. (وما يمكرون إلا بأنفسهم) أي وبال مكرهم راجع إليهم. وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم. (وما يشعرون) في الحال، لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم. قوله تعالى: وإذا جاءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124) قوله تعالى: " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن " بين شيئا آخر من جهلهم، وهو أنهم قالوا لن نؤمن حتى نكون أنبياء، فنؤتي مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات، ونظيره (1) راجع ج 16 ص 7. (2) في الأصول العلماء والنصوب من الطبري عن مجاهد. (*)
[ 80 ]
" بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة (1) " والكناية في " جاءتهم " ترجع إلى الأكابر الذين جرى ذكرهم. قال الوليد بن المغيرة: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك ما لا. وقال أبو جهل: والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت الآية. وقيل: لم يطلبوا النبوة ولكن قالوا لا نصدقك حتى يأتينا جبريل والملائكة يخبروننا بصدقك. والأول أصح، لأن الله تعالى قال: " الله أعلم حيث يجعل رسالته (2) " أي بمن هو مأمون عليها وموضع لها. و " حيث " ليس ظرفا هنا، بل هو اسم نصب نصب المفعول به على الاتساع، أي الله أعلم أهل الرسالة. وكان الأصل الله أعلم بمواضع رسالته، ثم حذف الحرف، ولا يجوز أن يعمل " أعلم " في " حيث " ويكون ظرفا، لأن المعنى يكون على ذلك الله أعلم في هذا الموضع، وذلك لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى، وإنما موضعها نصب بفعل مضمر دل عليه " أعلم ". وهي اسم كما ذكرنا. والصغار: الضيم والذل والهوان، وكذلك الصغر (بالضم). والمصدر الصغر (بالتحريك). وأصله من الصغر دون الكبر، فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل: أصله من الصغر وهو الرضا بالذل، يقال منه: صغر يصغر بفتح الغين في الماضي وضمها في المستقبل. وصغر بالكسر يصغر بالفتح لغتان، صغرا وصغارا، واسم الفاعل صاغر وصغير. والصاغر: الراضي بالضيم. والمصغوراء الصغار. وأرض مصغرة: نبتها (3) لم يطل، عن ابن السكيت. " عند الله " أي من عند الله، فحذف. وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي سيصيب الذين أجرموا عند الله صغار. الفراء: سيصيب الذين أجرموا صغار من الله. وقيل: المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت عند الله. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال، لأن " عند " في موضعها. قوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125) (1) راجع ج 19 ص 88. (2) قراءة. (3) في اللسان: نبتها صغير لم يطل. (*)
[ 81 ]
قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) أي يوسعه له، ويوفقه ويزين عنده ثوابه. ويقال: شرح شق، وأصله التوسعة. وشرح الله صدره وسعه بالبيان لذلك. وشرحت الأمر: بنته وأوضحته. وكانت قريش تشرح النساء شرحا، وهو مما تقدم: من التوسعة والبسط، وهو وطء المرأة مستلقية على قفاها. فالشرح: الكشف، تقول: شرحت الغامض، ومنه تشريح اللحم. قال الراجز: كم قد أكلت كبدا وإنفحه * ثم ادخرت إليه مشرحه والقطعة منه شريحة. وكل سمين من اللحم ممتد فهو شريحة. (ومن يرد أن يضله) يغويه (يجعل صدره ضيقا حرجا) وهذا رد على القدرية. ونظير هذه الآية من السنة قوله عليه السلام: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) أخرجه الصحيحان. ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر وتنويره. والدين العبادات، كما قال: " إن الدين عند الله الإسلام (1) " ودليل خطابه أن من لم يرد الله به خيرا ضيق صدره، وأبعد فهمه فلم يفقهه. والله أعلم. وروي أن عبد الله بن مسعود قال: يا رسول الله، وهل ينشرح الصدر ؟ فقال: (نعم يدخل القلب نور) فقال: وهل لذلك من علامة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت). وقرأ ابن كثير " ضيقا " بالتخفيف، مثل (2) هين ولين لغتان. ونافع وأبو بكر " حرجا " بالكسر، ومعناه الضيق. كرر (3) المعنى، وحسن ذلك لاختلاف اللفظ. والباقون بالفتح. جمع حرجة، وهو شدة الضيق أيضا، والحرجة الغيضة (4)، والجمع حرج وحرجات. ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه في تركه هواه للمعاصي، قال الهروي. وقال ابن عباس: الحرج موضع الشجر الملتف، فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى، ذكره مكي والثعلبي وغيرهما. وكل ضيق حرج. قال الجوهري: مكان حرج وحرج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه (1) راجع ج 4 ص 43. (2) في ك: عين. (3) الأولى أن يكون حرجا: المتزايد في الضيق فيكون أخص من الأول. (4) الشجر الملتف. (*)
[ 82 ]
الراعية. وقرئ " يجعل صدره ضيقا حرجا " و " حرجا ". وهو بمنزلة الوحد والوحد والفرد والفرد والدنف والدنف، في معنى واحد، وحكاه غيره عن الفراء. وقد حرج صدره يحرج حرجا. والحرج الإثم. والحرج أيضا: الناقة الضامرة. ويقال: الطويلة على وجه الأرض، عن أبي زيد، فهو لفظ مشترك. والحرج: خشب يشد بعضه إلى بعض يحمل فيه الموتى، عن الأصمعي. وهو قول امرئ القيس: فإما تريني في رحالة جابر * على حرج كالقر تخفق أكفاني (1) وربما وضع فوق نعش النساء، قال عنترة يصف ظليما: يتبعن قلة رأسه وكأنه * حرج على نعش لهن مخيم (2) وقال الزجاج: الحرج: أضيق الضيق. فإذا قيل. فلان حرج الصدر، فالمعنى ذو حرج في صدره. فإذا قيل: حرج فهو فاعل. قال النحاس: حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به، كما يقال: رجل عدل ورضا. قوله تعالى: (كأنما يصعد في السماء) قرأه ابن كثير بإسكان الصاد مخففا، من الصعود هو الطلوع. شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يطاق. وكذلك يصاعد وأصله يتصاعد، أدغمت التاء في الصاد، وهي قراءة أبي، بكر والنخعي، إلا أن فيه معنى فعل شئ بعد شئ، وذلك أثقل على فاعله. وقرأ الباقون بالتشديد من غير ألف، وهو كالذي قبله. معناه يتكلف ما لا يطيق شيئا بعد شئ، كقولك: يتجرع ويتفوق (3). وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ " كأنما يتصعد ". قال النحاس: ومعنى هذه القراءة وقراءة من قرأ يصعد ويصاعد واحد. والمعنى فيهما أن الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدر على ذلك، (1) أراد بالرحالة الخشب الذى يحمل عليه في مرضه. وأراد بالأكفان ثيابة التى عليه، لأنه قدر أنها ثيابه التى يدفن فيها. وخفقها ضرب الريح لها. وأراد بجابر جابر بن حنى التغلبي وكان معه في بلاد الروم، فلما اشتدت علنه صنع له من الخشب شيئا كالقر يحمل فيه، والقر: مركب من مراكب الرجال بين الرحل والسرج. (عن اللسان مادة حرج). (2) وصف نعامة يتبعها رئالها وهو يبسط جناحيه ويجعلها تحته. (3) تفوق شرابه: شربه شيئا بعد شئ. (*)
[ 83 ]
فكأنه يستدعي ذلك. وقيل: المعنى كاد قلبه يصعد إلى السماء نبوا عن الإسلام. كذلك يجعل الله الرجس عليهم، كجعله ضيق الصدر في أجسادهم. وأصل الرجس في اللغة النتن. قال ابن زيد: هو العذاب وقال ابن عباس: (الرجس (1) هو) الشيطان، أي يسلطه عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لاخير فيه. وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن. فمعنى الآية والله أعلم: ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. (على الذين لا يؤمنون). قوله تعالى: وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الأيت لقوم يذكرون (126) قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما) أي هذا الذي أنت عليه يا محمد والمؤمنون دين ربك لا اعوجاج فيه. (قد فصلنا الأيات) أي بيناها (لقوم يذكرون). قوله تعالى: لهم دار السلم عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعلمون (127) قوله تعالى: (لهم) أي للمتذكرين. (دار السلام) أي الجنة، فالجنة دار الله، كما يقال: الكعبة بيت الله. ويجوز أن يكون المدار السلامة، أي التي يسلم فيها من الآفات. ومعنى (عند ربهم) أي مضمونة لهم عنده يوصلهم إليها بفضله. (وهو وليهم) أي ناصرهم ومعينهم. قوله تعالى: ويوم يحشرهم جميعا يمعشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذى أجلت لنا قال النار مثويكم خلدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم (128) (1) من ج، ز، ك. (*)
[ 84 ]
قوله تعالى: (ويوم نحشرهم (1) نصب على الفعل المحذوف، أي ويوم نحشرهم نقول. (جميعا) نصب على الحال. والمراد حشر جميع الخلق في موقف القيامة. (يا معشر الجن) نداء مضاف. (قد استكثرتم من الإنس) أي من الاستمتاع بالإنس، فحذف المصدر المضاف إلى المفعول، وحرف الجر، يدل على ذلك قوله: (ربنا استمتع بعضا ببعض) وهذا يرد قول من قال: إن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس، لأن الإنس قبلوا منهم. والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه. والتقدير في العربية: استمتع بعضنا بعضا، فاستمتاع الجن من الإنس إنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم. وقيل: كان الرجل إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب (2) هذا الوادي من جميع ما أحذر. وفي التنزيل: " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (3) ". فهذا استمتاع الإنس بالجن. وأما استمتاع الجن بالإنس فما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والكهانة والسحر. وقيل: استمتاع الجن بالإنس أنهم يعترفون أن الجن يقدرون أن يدفعوا عنهم ما يحذرون. ومعنى الآية تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين. (وبلغنا أجلنا الذى أجلت لنا) يعني الموت والقبر، ووافينا نادمين. (قال النار مثواكم) أي موضع مقامكم. والمثوى المقام. (خالدين فيها إلا ما شاء الله) استثناء ليس من الأول. قال الزجاج: يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب، فالاستثناء قطع. وقيل: يرجع الاستثناء إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات. وقال ابن عباس: الاستثناء لأهل الإيمان. ف " ما " على هذا بمعنى من. وعنه أيضا أنه قال: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار. ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت، إذ قد يسلم. وقيل: " إلا ما شاء الله " من كونهم في الدنيا بغير عذاب. ومعنى هذه الآية معنى الآية التي في " هود ". قول: " فأما الذين شقوا ففي النار " وهناك يأتي مستوفى إن شاء (4) الله. إن ربك حكيم أي في عقوبتهم وفي جميع أفعال عليم بمقدار مجازاتهم. (1) نحشرهم بالنون قراءة نافع كما في الأصول. (2) في ك: بزعيم. (3) راجع ج 19 ص 8. (4) راجع ج 9 ص 99. (*)
[ 85 ]
قوله تعالى: وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا بما كانوا يكسبون (129) قوله تعالى: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا " المعنى وكما فعلنا بهؤلاء مما وصفته لكم من استمتاع بعضهم ببعض أجعل بعض الظالمين أولياء بعض، ثم يتبرأ بعضهم من بعض غدا. ومعنى " نولي " على هذا نجعل وليا. قال ابن زيد: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس. وعنه أيضا: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله. وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالما آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه (1) أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجبا. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعان ظالما سلطه الله عليه). وقيل: المعنى نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، كما نكلهم غدا إلى رؤسائهم الذين لا يقدرون على تخليصهم من العذاب أي كما نفعل بهم ذلك في الآخرة كذلك نفعل بهم في الدنيا. وقد قيل في قوله تعالى: " نوله ما تولى (2) " نكله إلى ما وكل إليه نفسه. قال ابن عباس: تفسيرها هو أن الله إذا أراد بقوم شرا (3) ولى أمرهم شرارهم. يدل عليه قول تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (4) ". قوله تعالى: يمعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم ءايتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحيوة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كفرين (130) قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم) أي يوم نحشرهم نقول (لهم (5)) ألم يأتكم رسل فحذف، فيعترفون بما فيه افتضاحهم. ومعنى " منكم " في الخلق والتكليف والمخاطبة. (1) من ك. (2) راجع ج 5 ص 385. (3) في ك.: سوءا. (4) راجع ج 16 ص 30. (5) من ك. (*)
[ 86 ]
ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال: " منكم " وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث. وقال ابن عباس: رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي، كما قال: " ولوا إلى قومهم منذرين (1) ". وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس. وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، ثقرأ " إلى قومهم منذرين (1) ". وهو معنى قول ابن عباس، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في " الأحقاف (1) ". وقال الكلبي (2): كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس والجن جميعا. قلت: وهذا لا يصح، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) الحديث. على ما يأتي بيانه في " الأحقاف (1) ". وقال ابن عباس: كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس، ذكره أبو الليث السمر قندي. وقيل: كان قوم من الجن: استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم، كالحال مع نبينا عليه السلام. فيقال لهم رسل الله، وإن لم ينص على إرسالهم. وفي التنزيل: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (3) " أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن، فمعنى " منكم " أي من أحدكم. وكان هذا جائزا، لأن ذكرهما سبق. وقيل: إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق، فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة، لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار، وأصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا، فمنهم مؤمن وكافر. (1) راجع ج 16 ص 210. (2) في ك: قال مقاتل: وهو معنى الخ. (3) راجع ج 17 ص 161. (*)
[ 87 ]
وعدونا إبليس عدو لهم، يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم. وفيهم أهواء: شيعة وقدرية ومرجئة يتلون كتابنا. وقد وصف الله عنهم في سورة " الجن " من قوله: " وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ". " وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (1) " على ما يأتي بيانه هناك. " يقصون " في موضع رفع نعت لرسل. (قالوا شهدنا على أنفسنا) أي شهدنا أنهم بلغوا. (وغرتهم الحياة الدنيا) قيل: هذا خطاب من الله للمؤمنين، أي أن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا، أي خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا. (وشهدوا على أنفسهم) أي أعترفوا بكفرهم. قال مقاتل: هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون (2). قوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غفلون (131) قوله تعالى: " ذلك " في موضع رفع عند سيبويه، أي الأمر ذلك. و " أن " مخففة من الثقيلة، أي إنما فعلنا هذا بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم، أي بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم، فهو مثل " ولا تزر وازرة وزر أخرى (3) ". ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ما يريد. وقد قال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك (4) " وأجاز الفراء أن يكون " ذلك " في موضع نصب، المعنى: فعل ذلك بهم، لأنه لم يكن يهلك القرى بظلم. قوله تعالى: ولكل درجت مما عملوا وما ربك بغفل عما يعلمون (132) قوله تعالى: (ولكل درجت مما عملوا) أي من الجن والإنس، كما قال في أية أخرى: " أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين " ثم قال: " ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ". وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي منهم في النار، كالإنس سواء. وهو أصح (1) راجع ج 19 ص 14. (2) من ك. (3) راجع ج 7 ص 157. (4) راجع ج 6 ص 377. (5) راجع ج 16 ص 196. (*)
[ 88 ]
ما قيل في ذلك فاعلمه. ومعنى " ولكل درجات " أي ولكل عامل بطاعة درجات في الثواب ولكل عامل بمعصية دركات في العقاب. (وما ربك بغافل) أي ليس بلاه ولا ساه. والغفلة أن يذهب الشئ عنك لاشتغالك بغيره. (عما يعلمون) قرأه ابن عامر بالتاء، الباقون بالياء. قوله تعالى: وربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم ءاخرين (133) قوله تعالى: (وربك الغنى) أي عن خلقه وعن أعمالهم. (ذو الرحمة) أي بأوليائه وأهل طاعته (إن يشأ يذهبكم) بالإماتة والاستئصال بالعذاب. (ويستخلف من بعدكم ما يشاء) أي خلقا آخر أمثل منكم وأطوع. (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) والكاف في موضع نصب، أي يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مئل ما أنشأكم، ونظيره " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين (1) ". " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم (2) ". فالمعنى يبدل غيركم مكانكم، كما تقول: أعطيتك من دينارك ثوبا. قوله تعالى: إن ما توعدون لأت وما أنتم بمعجزين (134) قوله تعالى: (إن ما توعدون لآت) يحتمل أن يكون من " أوعدت " في الشر، والمصدر الإيعاد. والمراد عذاب الآخرة. ويحتمل أن يكون من " وعدت " على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلب الخير. روي معناه عن الحسن. (وما أنتم بمعجزين) أي فائتين، يقال: أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني. قوله تعالى: قل يقوم اعلموا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون من تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظلمون (135) (1) راجع ج 5 ص 409. (2) راجع ج 16 ص 257. (*)
[ 89 ]
قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) وقرأ أبو بكر بالجمع " مكاناتكم ". والمكانة الطريقة. والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه فأنا أثبت على ما أنا عليه. فإن قيل: كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفار. فالجواب أن هذا تهديد، كما قال عز وجل: " فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا (1) ". ودل عليه " فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار " أي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الإسلام، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة، أي الجنة. قال الزجاج: " مكانتكم " تمكنكم في الدنيا. ابن عباس والحسن والنخعي: على ناحيتكم. القتبي: على موضعكم. (إنى عامل) على مكانتي، فحذف لدلالة الحال عليه. " ومن " من قوله " من تكون له عاقبة الدار " في موضع نصب بمعنى الذي، لوقوع العلم عليه. ويجوز تكون في موضع رفع، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله فيكون الفعل معلفا. أي تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقول: " لنعلم أي الحزبين أحصى (2) " وقرأ حمزة والكسائي " من يكون " بالياء. وجعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136) قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) فيه مسألة واحدة ويقال: ذرأ يذرأ ذرءا، أي خلق. وفي الكلام حذف واختصار (3)، وهو وجعلوا لأصنامهم نصيبا، دل عليه ما بعده. وكان هذا مما زينه الشيطان وسوله لهم، (حتى (4) صرفوا من ماله طائفة إلى الله بزعمهم وطائفة إلى أصنامهم، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. والمعنى متقارب. جعلوا لله جزءا ولشركائهم جزءا، فإذا ذهب ما لشركائهم بالإنفاق عليها وعلى سدنتها عوضوا منه ما لله، وإذا ذهب ما لله بالإنقاق على الضيفان والمساكين لم يعوضوا منه شيئا، وقالوا: (1) راجع ج 8 ص 216. (2) راجع ج 10 ص 364. (3) في ك: إضمار. (4) من ك. (*)
[ 90 ]
الله مستغن عنه وشركاؤنا فقراء. وكان هذا من جهالاتهم وبزعمهم. والزعم الكذب. قال شريح القاضي: إن لكل شئ كنية وكنية الكذب زعموا. وكانوا يكذبون في هذه الأشياء لأنه لم ينزل بذلك شرع. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله: " قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم ". قال ابن العربي: وهذا الذي قاله كلام صحيح، فإنها تصرفت بعقولها العاجزة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل، والذي تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ الآلهة أعظم جهلا وأكبر جرما، فإن الاعتداء على الله تعالى أعظم من الاعتداء على المخلوقات. والدليل في أن الله واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في مخلوقاته أبين وأوضح من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام. وقد روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص: إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم عبدتم الحجر ! فقال عمرو: تلك عقول كادها باريها. فهذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثه الرسول عليه السلام. فكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا يظهر، وننساه حتى لا يذكر، إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه، كما ذكر كفر الكافرين به. وكانت الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن قضاءه قد سبق، وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة. وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي " بزعمهم " بضمه الزاي. والباقون بفتحها، وهما لغتان. (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) أي إلى المساكين. (ساء ما يحكمون) أي ساء الحكم حكمهم. قال ابن زيد: كانوا إذا ذبحوا ما لله ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى " فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ". فكان تركهم لذكر الله مذموما منهم وكان داخلا في ترك أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. قوله تعالى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون (137)
[ 91 ]
قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) المعنى: فكما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيبا ولأصنامهم نصيبا كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. قال مجاهد وغيره: زينت لهم قتل البنات مخافة العيلة. قال الفراء والزجاج: شركاؤهم ها هنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان. وقيل: هم الغواة من الناس. وقيل: هم الشياطين. وأشار بهذا إلى الوأد الخفي (1) وهو دفن البنت حية مخافة السباء والحاجة، وعدم ما حر من من النصرة. وسمى الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم. وقيل: كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن أحدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله. ثم قيل: في الآية أربع قراءات، أصحها قراءة الجمهور: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة. " شركاؤهم " رفع ب " زين "، لأنهم زينوا ولم يقتلوا. " قتل " نصب ب " زين " و " أولادهم " مضاف إلى المفعول، والأصل في المصدر أن يضاف إلى الفاعل، لأنه أحدثه ولأنه لا يستعني عنه ويستغني عن المفعول، فهو هنا مضاف إلى المفعول لفظا مضاف إلى الفاعل معنى، لأن التقدير زين لكثير من المشركين قتلهم أولادهم شركاؤهم، ثم حذف المضاف وهو الفاعل كما حذف من قوله تعالى: " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير (2) " أي من دعائه الخير. فالهاء فاعلة الدعاء، أي لا يسأم الإنسان من أن يدعو بالخير. وكذا قوله: زين لكثير من المشركين في أن يقتلوا أولادهم شركاؤهم. قال مكي: وهذه القراءة هي الاختيار، لصحة الإعراب فيها ولأن عليها الجماعة. القراءة الثانية " زين " (بضم الزاي). " لكثير من المشركين قتل " (بالرفع). " أولادهم " بالخفض. " شركاؤهم " (بالرفع) قراءة الحسن. ابن عامر وأهل الشام " زين " بضم الزاي " لكثير من المشركين قتل أولادهم برفع " قتل " ونصب " أولادهم ". " شركائهم " بالخفض فيما حكى أبو عبيد، وحكى غيره عن أهل الشام أنهم قرءوا " وكذلك زين " بضم الزاي " لكثير من المشركين قتل " (1) كذا في كل الأصول، والمعروف أن الوأد الخفى هو العزل كما صح في الحديث. (2) راجع ج 15 ص 372. (*)
[ 92 ]
بالرفع " أولادهم " بالخفض " شركائهم " بالخفض أيضا. فالقراءة الثانية قراءة الحسن جائزة، يكون " قتل " اسم ما لم يسم فاعله، " شركاؤهم "، رفع بإضمار فعل يدل عليه " زين "، أي زينه شركاؤهم. ويجوز على هذا ضرب زيد عمرو، بمعنى ضربه عمرو، وأنشد سيبويه: * لبيك يزيد ضارع لخصومة * أي يبكيه ضارع. وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية أبي بكر " يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال (1) " التقدير يسبحه رجال. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود (2) " بمعنى قتلهم النار. قال النحاس: وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عامر وأهل الشام فلا يجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف لأنه لا يفصل، فأما بالأسماء غير الظروف فلحن. قال مكي: وهذه القراءة فيها ضعف للتفريق (3) بين المضاف والمضاف إليه، لأنه إنما يجوز مثل هذا التفريق في الشعر مع الظروف لاتساعهم فيها وهو في المفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القراءة (4) أبعد. وقال المهدوي: قراءة ابن عامر هذه على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، ومثله قول الشاعر: فزججتها بمزجة * زج القلوص أبي مزادة (5) يريد: زج أبي مزادة القلوص. وأنشد: تمر على ما تستمر وقد شفت * غلائل عبد القيس منها صدورها يريد شقت عبد القيس غلائل صدورها. وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي: قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية، وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه، ورد قوله إلى الإجماع، وكذلك يجب أن يرد من زل منهم أو سها إلى الإجماع، فهو أولى من الإصرار (1) راجع ج 12 ص 264. (2) راجع ج 19 ص 284. (3) في ك: لأنه لا يفصل بين المضاف والمضاف إليه. (4) في ك، ز: القرآن. (5) ذكر الأخفش هذا البيت ولم يعزه إلى أحد. والزج ها هنا الطعن، والمزجة بكسر الميم: رمح قصير كالمزاريق. والقلوص بفتح القاف: الفتيه من النوق يخير أنه زج امرأته كما زج أبو مزادة القلوص. وأبو كنيه رجل. راجل شرح الشواهد الكبرى للعينى في باب الإضافة. (*)
[ 93 ]
على غير الصواب. وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، لأنه لا يفصل. كما قال: كما خط الكتاب بكف يوما * يهودي يقارب أو يزيل (1) وقال آخر: كأن أصوات من إيغالهن بنا * أواخر الميس أصوات الفراريج (2) وقال آخر: لما رأت ساتيد ما استعبرت * لله در اليوم من لامها (3) وقال القشيري: وقال قوم هذا قبيح، وهذا محال، لأنه إذا ثبتت (القراءة (4) بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو الفصيح لا القبيح. وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان " شركائهم " بالياء وهذا يدل على قراءة ابن عامر. وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء، لأن الشركاء هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه، فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل، لكنه فرق بين المضاف والمضاف إليه، وقدم المفعول وتركه منصوبا على حاله، إذ كان متأخرا في المعنى، وأخر المضاف وتركه مخفوضا على حاله، إذ كان متقدما بعد القتل. والتقدير: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. أي أن قتل شركاؤهم أولادهم. قال النحاس: فأما ما حكاه غير أبي عبيد (وهي القراءة الرابعة) فهو جائز. على أن تبدل شركاءهم من أولادهم، لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث. (ليردوهم) (1) البيت لأبى حية النميري. والشاهد فيه إضافه الكف إلى اليهود مع الفصل بالظرف. وصف رسوم الدار فشبها بالكتاب في دفتها والاستدلال بها، وخص اليهود لأنهم أهل كتاب. وجعل كتابته بعضها متقارب وبعضها مفترق متباين لاقتضاء آثار الديار تلك الصفة والحال. (عن شرح الشواهد). (2) البيت لذى الرمة. والشاهد فيه إضافه الأصوات إلى أواخر الميس مع فصله بالمجرور ضرورة. والميس: شجر تعمل منه الرحال. والايغال: سرعة السير. يقول: كأن أصوات أواخر الميس من شده سير الإبل بنا واضطراب رحالها عليها أصوات الفراريج عن شرح الشواهد. (3) البيت لعمر بن قميثه. والشاهد فيه إضافة الدر إلى من مع جواز الفصل بالظرف ضرورة إذا لم يمكنه إضافة الدار إليه. وصف امرأة نظرت إلى ساتيدما وهو جبل بعينه بعيد من ديارها، فذكرت به بلادها فاستعبرت شوقا إليها (عن شرح الشواهد للشنتمرى). (4) من ك. (*)
[ 94 ]
اللام لام كي. والإرداء الإهلاك. (وليلبسوا عليهم دينهم) الذي ارتضى لهم. أي يأمرونهم بالباطل ويشككونهم في دينهم. وكانوا على دين إسماعيل، وما كان فيه (1) قتل الولد، فيصير الحق مغطى عليه، فبهذا يلبسون. (ولو شاء الله ما فعلوه) بين (تعالى (1) أن كفرهم بمشيئة الله. وهو رد على القدرية. (فذرهم وما يفترون) يريد قولهم إن لله شركاء. قوله تعالى: وقالوا هذه أنعم وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعم حرمت ظهورها وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها افتراء سيجزيهم بما كانوا يفترون (138) ذكر (تعالى) نوعا آخر جهالتهم. وقرأ أبان بن عثمان " حجر " بضم الحاء والجيم. وقرأ الحسن وقتادة " حجر " بفتح الحاء وإسكان الجيم، لغتان بمعنى. وعن الحسن أيضا " حجر " بضم الحاء. قال أبو عبيد عن هارون قال: كان الحسن يضم الحاء في " حجر " في جميع القرآن إلا في قوله: " برزخا وحجرا محجورا (2) " فإنه كان يكسرها ها هنا. وروي عن ابن عباس وابن الزبير " وحرث حرج " الراء قبل الجيم، وكذا في مصحف أبي، وفيه قولان: أحدهما أنه مثل جبذ وجذب. والقول الآخر - وهو أصح - أنه من الحرج، فإن الحرج (بكسر الحاء) لغة في الحرج (بفتح الحاء) وهو الضيق والإثم، فيكون معناه الحرام. ومنفلان يتحرج أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه من الحرام. والحجر: لفظ مشترك. وهو هنا بمعنى الحرام، وأصله المنع. وسمي العقل حجرا لمنعه عن القبائح. وفلان في حجر القاضي أي منعه. حجرت على الصبي حجرا. والحجر العقل، قال الله تعالى: " هل في ذلك قسم لذي حجر (3) " والحجر الفرس الأنثى. والحجر القرابة. قال: يريدون أن يقصوه عني وإنه * لذو حسب دان إلي وذو حجر وحجر الإنسان وحجره لغتان، والفتح أكثر. أي حرموا أنعاما وحرثا وجعلوها لأصنامهم وقالوا: (لا يطعمها إلا من نشاء) وهم خدام الأصنام. ثم بين أن هذا تحكم لم يرد به (1) في ك: فيهم. (2) راجع ج 13 ص 58. (3) راجع ج 20 ص 42. (*)
[ 95 ]
شرع، ولهذا قال: " بزعمهم ". (وأنعام حرمت ظهورها) يريد ما يسيبونه لآلهتهم على ما تقدم من النصيب، وقال مجاهد: المراد الجيرة والوصيلة والحام (1). (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) يعني ما ذبحوه لآلهتهم. قال أبو وائل: لا يحجون عليها. (افتراء) أي للافتراء " على الله "، لأنهم كانوا يقولون: الله أمرنا بهذا. فهو نصب على المفعول له. وقيل: أي يفترون أفتراء، وانتصابه لكونه مصدورا. قوله تعالى: وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزوجنا وإن يكن ميته فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139) قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا) هذا نوع آخر من جهلهم. قال ابن عباس: هو اللبن، جعلوه حلالا للذكور وحراما على الإناث. وقيل: الأجنة، قالوا: إنها لذكورنا. ثم إن مات منها شئ أكله الرجال والنساء. والهاء في " خالصة " للمبالغة في الخلوص، ومثله رجل علامة ونسابة، عن الكسائي والأخفش. و " خالصة " بالرفع خبر المبتدأ الذي هو " ما ". وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام. وهذا القول عند قوم خطأ، لأن ما في بطونها ليس منها، فلا يشبه (قوله (2) " يلتقطه بعض السيارة (3) " لأن بعض السيارة سيارة، وهذا لا يلزم (قال (2) الفراء: فإن ما في بطون الأنعام أنعام مثلها، فأنث لتأنيثها، أي الأنعام التي في بطون الأنعام خالصة لذكورنا. وقيل: أي جماعة ما في البطون. وقيل: إن " ما " ترجع إلى الألبان أو الأجنة، فجاء التأنيث على المعنى والتذكير على اللفظ. (1) البحيرة: الناقة التى نتجت خمسه أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها (أي شقوها) وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ولا تجلى (تطرد) عن ماء ترده ولا تمنع من مرعى وإذا لقيها المعيى المنقطع به لم يركبها. والوصيلة الناقه التى وصلت بين عشرة أبطن ومن الشاه التى وصلت سبعة أبطن، عناقين، فإن ولدت في السابعة عنافا وجديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء. والحامي: الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود، قبل عشرة أبطن فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام. أي حمى ظهره فيترك، فلا ينفع منه بشى ولا يمنع من ماء ولا مرعى. راجع ج 6 ص 335. فما بعدها. (2) من ك. (3) راجع ج 9 ص 133. (*)
[ 96 ]
ولهذا قال " ومحرم على أزواجنا " على اللفظ. ولو راعى المعنى لقال ومحرمة. ويعضد هذا قراءة الأعمش " خالص " بغير هاء. قال الكسائي: معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة، كما يقال: رجل داهية وعلامة، كما تقدم. وقرأ قتادة " خالصة " بالنصب على الحال من الضمير في الظرف الذي هو صلة " ما ". وخبر المبتدأ محذوف، كقولك: الذي في الدار قائما زيد. هذا مذهب البصريين. وأنتصب عند الفراء على القطع. وكذا القول في قراءة سعيد بن جبير " خالصا ". وقرأ ابن عباس " خالصه " على الإضافة فيكون ابتداء ثانيا، والخبر " لذكورنا " والجملة خبر " ما ". ويجوز أن يكون " خالصه " بدلا من " ما ". فهذه خمس قراءات. (ومحرم على أزواجنا) أي بناتنا، عن ابن زيد. وغيره: نساؤهم. وإن يكن ميته قرئ بالياء والتاء، أي إن يكن ما في بطون الأنعام (1) ميتة (فهم فيه شركاء) أي الرجال والنساء. وقال " فيه " لأن المراد بالميتة الحيوان، وهي تقوي قراءة الياء، ولم يقل فيها. " ميتة " بالرفع بمعنى تقع أو تحدث. " ميتة " بالنصب، أي وإن تكن النسمة ميتة. (سيجزيهم وصفهم) أي كذبهم وافتراءهم، أي يعذبهم على ذلك. وانتصب " وصفهم " بنزع الخافض، أي بوصفهم وفي الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به، حتى يعرف فساد قول، ويعلم كيف يرد عليه، لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم من (أهل (2) زمانهم، ليعرفوا فساد قولهم. قوله تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (140) أخبر بخسرانهم لو أدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفها خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم. قلت: إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر الله عز وجل في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفها بغير حجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، وكانوا (1) من ك. (2) من ك وع. (*)
[ 97 ]
يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى عليه وسلم: (مالك تكون محزونا) ؟ فقال: يا رسول الله، إن أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله (لي (1) وإن أسلمت ! فقال له: (أخبرني عن ذنبك). فقال: يا رسول الله، إن كنت، من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إلى امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلقبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت ! إيش (2) تريد أن تفعل بي ! فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني. فمكثت (3) هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال: (لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك). قوله تعالى: وهو الذى أنشأ جنت معروشت وغير معروشت والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشبه كلوا من ثمره إذا أثمر وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141) (1) من ب. (2) في ك: أي شئ. (3) في ب: فكنت. (*)
[ 98 ]
فيه ثلاث وعشرون مسألة: الأولى - قوله تعالى: (أنشأ) أي خلق. جنات معروشات أي بساتين ممسوكات (1) مرفوعات. وغير معروشات غير مرفوعات. قال ابن عباس: " معروشات " ما انبسط على الأرض مما يفرش مثل الكروم والزروع والبطيخ. " وغير معروشات " ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار. وقيل: المعروشات ما ارتفعت أشجارها. وأصل التعريش الرفع. وعن ابن عباس أيضا: المعروشات ما أثبته ورفعه الناس. وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار. يدل عليه قراءة علي رضي الله عنه " مغروسات وغير مغروسات " بالغين المعجمة والسين المهملة. الثانية - قوله تعالى: (والنخل والزرع) أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة، على ما تقدم بيانه في " البقرة " عند قول: " من كان عدوا (2) لله وملائكته " الآية. " مختلفا أكله " يعني طعمه منه الجيد والدون. وسماه أكلا لأنه يؤكل. و " أكله " مرفوع بالابتداء. و " مختلفا " نعته، ولكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب. كما تقول: عندي طباخا غلام. قال: الشر منتشر يلقاك عن عرض * والصالحات عليها مغلقا باب وقيل: " مختلفا " نصب على الحال. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه مسألة مشكلة من النحو، لأنه يقال: قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقوله: " خالق كل شئ " فأعلم أنه أنشأها مختلفا أكلها، أي (3) أنه أنشأها مقدرا فيه الاختلاف، وقد بين هذا سيبويه بقوله: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، على الحال، كما تقول، لتدخلن الدار آكلين شاربين، أي مقدرين ذلك. جواب ثالث: أي لما أنشأه كان مختلفا أكله، على معنى أنه لو كان له لكان مختلفا أكله. ولم يقل أكلهما، لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما، كقول: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها (4) " أي إليهما. وقد تقدم هذا المعنى. (1) كذا في ا وك وج. لعل الأصل: مسموكات. في البحر: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا ينعطف عليه القضبان. (2) راجع ج 2 ص 36. (3) كذا في الأصول والمتبادر أن العبارة: أو أنه أنشأها الخ فيكون هذا جوابا ثان كما يستفاد من العبارة الآتية والخامس. (4) راجع ج 18 ص 109. (*)
[ 99 ]
الثالثه - قوله تعالى: (والزيتون والرمان) عطف عليه (متشابها وغير متشابه) نصب على الحال، وفي هذه أدلة ثلاثة، أحدها ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بدلها من مغير. الثاني على المنة منه سبحانه علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، إذ خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء، لأنه لا يجب عليه شئ. الثالث على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا أنتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأناسها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتب هذا الترتيب العجيب ! كلا ! لا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد. فسبحان من له في كل شئ آية ونهاية ! ووجه آتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم. الرابعة - قوله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) فهذان بناء ان جاءا بصيغة أفعل، أحدهما مباح كقول: " فانتشروا في الأرض (1) " والثاني واجب. وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف. الخامسة - قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) اختلف الناس في تفسير هذا الحق، ما هو، فقال أنس بن مالك وابن عباس وطاوس والحسن وابن زيد وابن الحنفية والضحاك وسعيد بن المسيب: هي الزكاة المفروضة، العشر ونصف العشر. ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة. وقال علي بن الحسين وعطاء والحكم وحماد وسعيد بن جبير ومجاهد: هو حق في المال سوى (2) الزكاة، الله به ندبا. وروى عن (1) راجع ج 18 ص 108. (2) وذلك قوله تعالى: وفي أموالهم حق للسائل والمحروم فإنها مكية. (*)
[ 100 ]
ابن عمر ومحمد ابن الحنفية أيضا، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته (1) وذريته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت (2) كيله فأخرج منه زكاته. وقول ثالث هو منسوخ بالزكاة، لأن هذه السورة مكية وآية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة: " خذ من أموالهم صدقة (3) "، " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (4) ". روى عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن وعطية العوفي والنخعي وسعيد بن جبير. وقال سفيان: سألت السدي عن هذه الآية فقال. نسخها العشر ونصف العشر. فقلت عمن ؟ فقال عن العلماء. السادسة - وقد تعلق أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم ما في قوله عليه السلام: " فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح (5) أو دالية نصف العشر " في إيجاب الزكاة في كل ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره. وقال أبو يوسف عنه: إلا الحطب والحشيش والقضب والتين والسعف (6) وقصب الذريرة (7) وقصب السكر. وأباه الجمهور، معولين على أن المقصود من الحديث بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر. قال أبو عمر: لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب (8). وقالت طائفة: لا زكاة في غيرها. روي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي. وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك يحيى بن آدم، وإليه ذهب أبو عبيد. وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب أبي موسى، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبيه. وقال مالك وأصحابه: الزكاة واجبة في كل مقتات مدخر، وبه قال الشافعي. وقال الشافعي: إنما تجب الزكاة فيما ييبس يدخر في كل مقتات مأكولا. ولا شئ في الزيتون لأنه إدام. وقال أبو ثور مثله. وقال أحمد أقوالا أظهرها أن الزكاة إنما تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان (1) من ك، ز. (2) في ع: وإذا عزمت على كليه فأخرج لهم زكاته. (3) راجع ج 8 ص 144. (4) راجع ج 1 ص 343. (5) النضح: سقى الزرع وغيره بالسانيه وهى الناقة يستقي عليها. (6) في ك: الشعف: هو قشر الغاف. (7) الذريره: قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به. (8) يعنى الحبوب الستة أي والذرة والسلت فإنه لا خلاف بينهم في زكاتها. (*)
[ 101 ]
يوسق، فأوجبها في اللوز لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود. واحتج بقول عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة) قال: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الوسق، وبين المقدار الذي يجب إخراج الحق منه. وذهب النخعي إلى أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجته الأرض، حتى في عشر دساتج (1) من بقل دستجة بقل. وقد أختلف عنه في ذلك، وهو قول عمر بن عبد العزيز فإنه كتب أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر، ذكره عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل، قال: كتب عمر (2)...، فذكره. وهو قول حماد بن أبي سليمان وتلميذه أبي حنيفة. وإلى هذا مال ابن العربي في أحكامه فقال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه. وقال في كتاب (القبس بما عليه الإمام مالك بن أنس) فقال: قال الله تعالى: " والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ". واختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنته أو بعضمه، وقد بينا ذلك، في (الأحكام) لبابه، أن الزكاة إنما تتعلق بالمقتات كما بينا دون الخضراوات، وقد كان بالطائف الرمان والفرسك (3) والأترج فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ذكره ولا أحد من خلفائه. قلت: هذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة، وأن الخضراوات ليس فيها شئ. وأما الآية فقد أختلف فيها، هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب. ولا قاطع يبين أحد محاملها (4)، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه: أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد استقرار الأحكام في المدينة، أفيجوز أن يتوهم متوهم أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ولا في خلافة أبي بكر، حتى عمل بذلك الكوفيون ؟. إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا وقال به ! قلت: ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (5) " أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه أو ببيانه ؟ حاشاه عن ذلك (1) الدستجة: الحزمة. تعليق الحكم بالوسق لا يتسق مع هذه الروية لتخصيصها ولكن مع رواية البخاري " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة فتأمل. (2) من ك. (3) الفرسك: الخوخ أو ضرب منه أجرد أحمر أو ما ينفلق عن نواة. (4) في ك: محتملاتها. (5) راجع ج 6 ص 242. (*)
[ 102 ]
وقال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي (1) " ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا. وقال جابر بن عبد الله فيما رواه الدارقطني: إن المقاثئ (2) كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شئ. وقال الزهري والحسن: تزكى أثمان الخضر إذا بيعت (3) وبلغ الثمن مائتي درهم، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه. ولا حجة في قولهما لما ذكرنا. وقد روى الترمذي عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال: (ليس فيها شئ). وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبد الله بن جحش وأبي موسى وعائشة. ذكر أحاديثهم الدارقطني رحمه الله. قال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ. واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة). قال أبو عمر: وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا، وإنما هو من قول إبراهيم. قلت: وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها فلم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية، وعموم قول عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) ما ذكرنا. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في شئ من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة. وكان محمد يعتبر في العصفر والكتان البزر، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العصفر والكتان تبعا للبزر، وأخذ منه العشر أو نصف العشر. وأما القطن فليس (فيه (4) عنده دون خمسة أحمال شئ، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي. والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منها شئ. فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة، عشرا أو نصف، العشر. وقال أبو يوسف: وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج، فيه ما في الزعفران. وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول. وهذا خلاف (1) راجع ج 6 ص 61. (2) المقائى. (جمع مقثأة بفتح الثاء وضمها): موضع القثاء. (3) كذا في ج وك وز: وفي أو ب: أينعت. (4) من ك. (*)
[ 103 ]
ما عليه مالك وأصحابه، لا زكاة عندهم لا في اللوز ولا في الجوز ولا في الجلوز (1) وما كان مثلها، وإن كان ذلك يدخر. كما أنه لا زكاة عندهم في الإجاص (2) ولا في التفاح ولا في الكمثرى، ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يدخر. واختلفوا في التين، والأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التين. إلا عبد الملك بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك، قياسا على التمر والزبيب. وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم البغداد بين المالكيين، إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه. قال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شئ من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك. وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه. قال أبو عمر: فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه (والله أعلم) لم يعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب، لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان. وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم. والتين مكيل يراعى فيه الخمسة الأوسق وما كان مثلها وزنا، ويحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما. وقال الشافعي: لا زكاة في شئ من الثمار غير التمر والعنب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما وكانا قوتا بالحجاز يدخر. قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما، لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة. ولا زكاة في الزيتون، لقول تعالى: " والزيتون والرمان " فقرنه مع الرمان، ولا زكاة فيه. وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه. وللشافعي قول بزكاة الزيتون قاله بالعراق، والأول (3) قال بمصر، فاضطرب قول الشافعي في الزيتون، ولم يختلف فيه قول مالك. فدل على أن الآية محكمة عندهما غير منسوخة. واتفقا (4) جميعا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه. قال أبو عمر: فإن كان الرمان خرج باتفاق فقد بان بذلك المراد بأن الآية ليست على عمومها، وكان الضمير عائدا على بعض المذكور دون بعض. والله أعلم. (1) الجلوز: البندق. (2) الإجاص: شجر معروف واحدته إجاصة. ثمره حلو لذيذ. (3) في ك: والأولى ما قاله بمصر. (4) في ك: والفقهاء جميعا. (*)
[ 104 ]
قلت: بهذا استدل من أوجب العشر في الخضراوات فإنه تعالى قال: " واتوا حقه يوم حصاده " والمذكور قبله الزيتون والرمان، والمذكور عقيب. جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف، قال الكيا الطبري. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما لقحت رمانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا أكلتم الرمانة فكلوها بشحمها فإنه دباغ المعدة. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابن عباس قال: لا تكسروا الرمانة من رأسها فإن فيها دودة يعتري منها الجذام. وسيأتي منافع زيت الزيتون في سورة " المؤمنون (1) " إن شاء الله تعالى. وممن قال بوجوب زكاة الزيتون الزهري والأوزاعي والليث والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور. قال الزهري والأوزاعي والليث: يخرص (2) زيتونا ويؤخذ زيتا صافيا. وقال مالك: لا يخرص، ولكن يؤخذ العشر بعد أن يعصر ويبلغ كيله خمسة أوسق. وقال أبو حنيفة والثوري: يؤخذ من حبه. السابعة - قوله تعالى: " يوم حصاده " قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم " حصاده " بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان مشهورتان، ومثله الصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال: الأولى: أنه وقت الجذاذ، قال محمد بن مسلمة، لقول تعالى: " يوم حصاده ". الثاني: يوم الطيب، لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما، فإذا طاب وحان (3) الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون الإيتاء الحصاد لما قد وجب يوم الطيب. الثالث: أنه يكون بعد تمام الخرص، لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها. أصله مجئ الساعي في الغنم، وبه قال المغيرة. والصحيح الأول لنص التنزيل. والمشهور من المذهب الثاني، وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف إذا مات بعد الطيب (1) راجع ج 12 ص 114. (2) ستأتي معاني الخرص في المسألة التاسعة. (3) في ك وزوى: وكان. (*)
[ 105 ]
زكيت على ملكه، أو قبل الخرص على ورثته. وقال محمد بن مسلمة: إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار، ولو قدم رجل زكاته بعد الخرص وقبل الجذاذ يجزه، لأنه أخرجها قبل وجوبها. وقد اختلف العلماء في القول بالخرص وهي: - الثامنة - فكرهه الثوري ولم يجزه بحال، وقال: الخرص غير مستعمل. قال: وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق. وروى الشيباني عن الشعبي أنه قال: الخرص اليوم بدعة. والجمهور على خلاف هذا، ثم اختلفوا فالمعظم على جوازه في النخل والعنب، لحديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا. رواه أبو داود. وقال داود بن علي: الخرص للزكاة جائز في النخل، وغير جائز في العنب، ودفع حديث عتاب بن أسيد لأنه منقطع ولا يتصل من طريق صحيح، قال أبو محمد عبد الحق. التاسعة: وصفة الخرص أن يقدر ما على نخله رطبا ويقدر ما ينقص لو يتمر (1)، ثم يعتد بما بقي بعد النقص ويضيف بعض ذلك إلى بعض حتى يكمل الحائط (2)، وكذلك في العنب (في كل دالية). العاشر - ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم. فإذا كان في التمر زيادة على ما خرص لم يلزم رب الحائط الإخراج عنه، لأنه حكم قد نفذ، قال عبد الوهاب. وكذلك إذا نقصى لم تنقص الزكاة. قال الحسن: كان المسلمون يخرص عليهم ثم يؤخذ منهم على ذلك الخرص. الحادية عشرة - فإن استكثر رب الحائط الخرص خيره الخارص في أن يعطيه ما خرص وأخذ خرصه، ذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن أبي (4) الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لما خيرهم أخذوا التمر وأعطوه عشرين ألف وسق. قال ابن جريج فقلت لعطاء: فحق على الخارص إذا استكثر سيد المال (1) في ك: تتمر. أي صار تمرا بتيبيسه. (2) الحائط البستان. (3) من ك. (5) في ك: ابن الزبير. (*)
[ 106 ]
الخرص أن يخيره كما خير ابن رواحة اليهود ؟ قال: أي لعمري ! وأي سنة خير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثانية عشرة - ولا يكون الخرص إلا بعد الطيب، لحديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ابن رواحة إلى اليهود فيحرص عليهم النخل حين تطيب أول التمرة قبل أن يؤكل منها، ثم يخير يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه. وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق. أخرجه الدارقطني من حديث ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة. قال: ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وأرسله مالك ومعمر وعقيل عن الزهري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثالثة عشرة - فإذا خرص الخارص فحكمه أن يسقط من خرصه مقدارا ما، لما رواه أبو داود والترمذي والبستي (1) في صحيحه عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع). لفظ الترمذي. قال أبو داود: الخارص يدع الثلث للخرفة: وكذا قال يحيى القطان. وقال أبو حاتم البستي لهذا الخبر صفتان: أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر، والثاني أن يترك ذلك من نفس التمر قبل أن يعشر، إذا كان ذلك حائطا كبيرا يحتمله. الخرفة بضم الخاء: ما يخترف من النخل حين يدرك ثمره، أي يجتنى. يقال: التمر خرفة الصائم، عن الجوهري والهروي. والمشهور من مذهب مالك أنه لا يترك الخارص شيئا في حين خرصه من تمر النخل والعنب إلا خرصه. وقد روى بعض المدنيين أنه يخفف في الخرص ويترك (2) للعرايا والصلة ونحوها. الرابعة عشرة - فإن لحقت الثمرة جائحة بعد الخرص وقبل الجذاذ سقطت الزكاة عنه بإجماع من أهل العلم، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوسق فصاعدا. (1) في ك، النسائي. (2) العرايا (واحدة عرية) وهى النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا. والإعراء أن يجعل له ثمرة عامها. (*)
[ 107 ]
الخامسة عشرة - ولا زكاة في أقل من خمسة أوسق، كذا جاء مبينا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في الكتاب مجمل، قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض (1) ". وقال تعالى: " وآتوا حقه ". ثم وقع البيان بالعشر ونصف العشر. ثم لما كان المقدار الذي إذا بلغه المال أخذ منه الحق مجملا بينه أيضا فقال: (ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة) وهو ينفي الصدقة في الخضراوات، إذ ليست مما يوسق، فمن حصل له خمسة أوسق في نصيبه من تمر أو حب وجبت عليه الزكاة، وكذلك من زبيب، وهو المسمى بالنصاب عند العلماء. يقال: وسق ووسق (بكسر الواو وفتحها) وهو ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي ومبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل (2). السادسة عشرة - ومن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه الزكاة (إجماعا (3) لأنهما صنفان مختلفان. وكذلك أجمعوا على أنه لا يضاف التمر إلى البر ولا البر إلى الزبيب، ولا الإبل إلى البقر، ولا البقر إلى الغنم. ويضاف الضأن إلى المعز بإجماع. واختلفوا في ضم البر إلى الشعير والسلت وهي: السابعة عشرة - فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصة فقط، لأنها في معنى الصنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر، والمعز والغنم. وقال الشافعي وغيره: لا يجمع بينها، لأنها أصناف مختلفة، وصفاتها متباينة، وأسماؤها متغايرة، وطعمها مختلف، وذلك يوجب افتراقها. والله أعلم. قال مالك: والقطاني كلها صنف واحد، يضم إلى بعض. وقال الشافعي: لا يضم حبة عرفت باسم منفرد دون صاحبتها، وهي خلافها مباينه في الخلقة والطعم إلى غيرها يضم كل صنف بعضه إلى بعض، رديئه إلى جيده، كالتمر وأنواعه، والزبيب أسوده وأحمره، والحنطة وأنواعها من السمراء وغيرها. وهو قول الثوري (1) راجع ج 3 ص 320. (2) في المصباح: الرطل بالبغدادي اثنا عشر أوقية والأوقية أستار وثلثا أستار والأستار أربعة مثاقيل ونصف مثقال والمثقال درهم وثلاثه أسباع درهم والدرهم ستة دوانق والدوانق ثمان حبات وخمسا حبة. وعلى هذا فالرطل تسعون مثقالا. وهى مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. (3) من ب وز وك. (*)
[ 108 ]
وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد وأبي ثور. وقال الليث: تضم الحبوب كلها: القطنية (1) وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة. وكان أحمد بن حنبل يجبن عن ضم الذهب إلى الورق، وضم الحبوب بعضها إلى بعض، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعي. الثامنه عشرة - قال مالك: وما استهلكه منه ربه بعد بدو صلاحه أو بعدما أفرك حسب عليه، وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه، ومن الزيتون في التقاطه، تحرى ذلك وحسب عليه. وأكثر الفقهاء يخالقونه في ذلك، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس. قال الليث في زكاة الحبوب: يبدأ بها قبل النفقة، وما أكل من فريك هو وأهله فلا يحسب عليه، بمنزلة الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يخرص عليهم. وقال الشافعي: يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا، لا يخرصه عليهم. وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه. قال أبو عمر: أحتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى: " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ". واستدلوا على أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية. واحتجوا بقول عليه السلام: (إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع). وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدرس لم يحسب منه شئ على صاحبه عند مالك وغيره. التاسعة - عشرة - وما بيع من الفول والحمص والجلبان أخضر، تحري مقدار ذلك يابسا وأخرجت زكاته حبا. وكذا ما بيع من الثمر أخضر أعتبر وتوخي وخرص يابسا وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيبا وتمرا. وقيل: يخرج من ثمنه. الموفية عشرين - وأما ما لا يتتمر من ثمر النخل ولا يتزبب من العنب كعنب مصر (وبلحها (2)، وكذلك زيتونها الذي لا يعصر، فقال مالك: تخرج زكاته من ثمنه، لا يكلف غير ذلك صاحبه، ولا يراعى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالا أو مائتي دوهم، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر. وقال الشافعي: (يخرج (2) عشره أو نصف عشره من وسطه تمرا إذا أكله أهله رطبا أو أطعموه. (1) القطنية (بضم القاف وكسرها): ما كان سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر. في التذهيب: القطتية اسم جامع للحبوب التى تطبخ مثل العدس والبقلا واللوبيا والحمص... الخ. (2) من ك. وفى أو ب: نخيلها. (*)
[ 109 ]
الحادية والعشرون - روى أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى عليه وسلم: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر (1)، وفيما سقي بالسواني (2) أو النضح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سيحا فيه العشر). وهو الماء الجاري على وجه الأرض، قال ابن السكيت. ولفظ السيح مذكور في الحديث، خرجه النسائي (3). فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء، على المشهور من المذهب. ورأى أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح، فلو سقي مرة بماء السماء ومرة بدالية، فقال مالك: ينظر إلى ما تم به الزرع وحيي وكان أكثر، فيتعلق الحكم عليه. هذه رواية ابن القاسم عنه. وروى عنه ابن وهب: إذا سقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسقي بقية السنة بالناضح فإن عليه نصف زكاته عشرا، والنصف الآخر نصف العشر. وقال مرة: زكاته بالذي تمت به حياته. وقال الشافعي: يزكى واحد منهما بحسابه. مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء، فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح ! وهكذا ما زاد ونقصي بحساب. وبهذا كان يفتي بكار بقتيبة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ينظر إلى الأغلب فيزكى، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك. وروي عن الشافعي. قال الطحاوي: قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوما أو يومين أنه لا أعتبار به، ولا يجعل لذلك حصة، فدل على أن الاعتبار بالأغلب، والله أعلم. قلت: فهذه جملة من أحكام هذه الآية، ولعل غيرنا يأتي بأكثر منها على ما يفتح الله له. وقد مضى في " البقرة (4) " جملة من معنى هذه الآية، والحمد لله. الثانية والعشرون - وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في حب ولا تمر صدقة (5) فخرجه النسائي. قال حمزة الكناني: لم يذكر في هذا الحديث (في حب) غير إسماعيل بن أمية، وهو ثقة قرشي من ولد سعيد بن العاص. قال: وهذه السنة لم يروها أحد عن النبي (1) البعل: هو ما ينبت من النخيل في أرض يقرب ماءها، فرسخت عروقها في الماء واستغنت عن ماء السماء والأنهار. ويروى: أو كان عثريا. وهو البعلى. (2) السوانى: جمع سانية وهى الناقة التى يستقى عليها. (3) لم نجد في النسائي هذه الزيادة والله أعلم. (4) راجع ج 3 ص 321. (5) بقيته: حتى تبلغ خمسة أوسق الحديث. (*)
[ 110 ]
صلى الله عليه وسلم من أصحابه غير أبي سعيد الخدري. قال أبو عمر: هو كما قال حمزة، وهذه سنة جليلة تلقاها الجميع بالقبول، ولم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت محفوظ غير أبي سعيد. وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ولكنه غريب، وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن. الثاثة والعشرون - قوله تعالى: (ولا تسرفوا) الإسراف في اللغة الخطأ. وقال أعرابي أراد قوما: طلبتكم فسرفتكم، أي أخطأت موضعكم. وقال الشاعر: وقال قائلهم والخيل تخبطهم * أسرفتم فأجبنا أننا سرف والإسراف في النفقة: التبذير. ومسرف لقب مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة (1)، لأنه قد أسرف فيها. قال علي بن عبد الله بن العباس: هم منعوا ذماري يوم جاءت * كتائب مسرف وبني (2) اللكيعه والمعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشئ بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه، قاله أصبغ بن الفرج. ونحوه قول إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف والأسراف في النفقة: التبذير. ومسرف لقب مسلم بن عقبة المرى صاحب وقعة الحرة (1)، لأنه قد أسرف فيها. قال علي بن عبد الله بن العباس: هم منعوا ذمارى يوم جاءت * كتائب مسرف وبنى (2) اللكيعه والمعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشئ بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه، قاله أصبع ابن الفرج. ونحوه قول إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف. وقال ابن زيد: هو خطاب للولاة، يقول: لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس. والمعنيان يحتملهما قوله عليه السلام: (المعتدي في الصدقة كمانعها). وقال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. قلت: وهذا ضعيف، يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا، فنزلت " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا كله. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: جذ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شي: فنزل " ولا تسرفوا ". قال السدي: " ولا تسرفوا " أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى: " ولا تسرفوا " قال: الإسراف ما قصرت (3) عن حق الله تعالى. (1) بظاهر المدينة المنوره في عهد يزيد بن معاوية. (2) في اللسان: بنو اللكيعة. معطوف على فاعل جاءت. في س ر ف. وفي ل ك ع بنى. (3) في ك: ما يصرف. (*)
[ 111 ]
قلت: فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ومنه إخراج حق المساكين داخلين، في حكم السرف، والعدل خلاف هذا، فيتصدق ويبقي كما قال عليه السلام: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى (1) إلا أن يكون قوي النفس غنيا بالله متوكلا عليه منفردا لا عيال له، فله أن يتصدق بجميع ماله، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يعن في بعض الأحوال من الحقوق المتعينة في المال. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الإسراف ما لم يقدر على رده إلى الصلاح. والسرف ما يقدر على رده إلى الصلاح. وقال النضر بن شميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال جرير: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية * ما في عطائهم من ولا سرف أي إغفال، ويقال: خطأ. ورجل سرف الفؤاد، أي مخطئ الفؤاد غافله. قال طرفة: إن امرأ سوف الفؤاد يرى * عسلا بماء سحابة شتمي قوله تعالى: ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطن إنه لكم عدو مبين (142) قوله تعالى: (ومن الأنعام حمولة وفرشا) عطف (على ما (2) تقدم). أي وأنشأ حمولة وفرشا من الأنعام. وللعلماء في الأنعام ثلاثة أقوال: أحدها - أن الأنعام الإبل خاصة، وسيأتي في " النحل (3) " بيانه. الثاني - أن الأنعام الإبل وحدها، وإذا كان معها بقر وغنم فهي أنعام أيضا. الثالث - وهو أصحها قال أحمد بن يحيى: الأنعام كل ما أحله الله عز وجل من الحيوان. ويدل على صحة هذا قول تعالى: " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم (4) " وقد تقدم. والحمولة ما أطاق الحمل والعمل، عن ابن مسعود وغيره. ثم قيل: يختص اللفظ بالإبل. وقيل: كل ما أحتمل عليه الحي من حمار أو بغل أو بعير، عن أبي زيد، سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن. (1) أي ما كان عفوا قد فضل عن غنى. وقيل: أرادما فضل عن العيال. والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعا للكلام وتمكينا كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوى من المال من ابن الأثير. (2) من ك. (3) راجع ج 10 ص 68. (4) راجع ج 6 ص 33. (*)
[ 112 ]
قال عنترة: ما راعني إلا حمولة أهلها * وسط الديار تسف حب الحمحم (1) وفعولة بفتح الفاء إذا كانت بمعنى الفاعل استوى فيها المؤنث والمذكر، نحو قولك: رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف. ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا، ولا جمع له. فإذا كانت بمعنى المفعول فرق بين المذكر والمؤنث بالهاء كالحلوبة والركوبة. والحمولة (بضم الحاء): الأحمال. وأما الحمول (بالضم بلا هاء) فهي الإبل التي عليها الهوادج، كان فيها نساء أو لم يكن، عن أبي زيد. " و فرشا " قال الضحاك: الحمولة من الإبل والبقر. والفرش: الغنم. النحاس: واستشهد لصاحب هذا القول بقول: " ثمانية أزواج " قال: ف " ثمانية " بدل من قوله: " حمولة وفرشا ". وقال الحسن: الحمولة الإبل. والفرش: الغنم. وقال ابن عباس: الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير. والفرش: الغنم. وقال ابن زيد: الحمولة ما يركب، والفرش ما يؤكل لحمه ومحلب، مثل الغنم والفصلان والعجاجيل، سميت فرشا للطافة أجسامها وقربها من الفرش، وهي الأرض المستوية التي يتوطؤها الناس. قال الراجز: أورثني حمولة وفرشا * أمشها في كل يوم مشا (2) وقال آخر: وحوينا الفرش من أنعامكم * والحمولات وربات الحجل قال الأصمعي: لم أسمع له بجمع. قال: ويحتمل أن يكون مصدرا سمي به، من قولهم: فرشها الله فرشا، أي بثها بثا. والفرش: المفروش من متاع البيت. والفرش: الزرع إذا فرش. والفرش: الفضاء الواسع. والفرش في رجل البعير: أتساع قليل، وهو محمود. وافترش الشئ أنبسط، فهو لفظ مشترك. وقد يرجع قول تعالى: " وفرشا " إلى هذا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل فيهما أن الحمولة المسخرة المذللة للحمل. والفرش ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس ويتمهد. وباقى الآيه قد تقدم. (1) الحمحم (بكسر الحاء ويقال بلخاء): نبات تعلف حبه الابل. (2) مش الناقة يمشها مشا: حلبها. (*)
[ 113 ]
قوله تعالى: ثمنية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئونى بعلم إن كنتم صدقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى القوم الظلمين (144) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ثمانيه أزواج) " ثمانية " منصوب بفعل مضمر، أي وأنشأ " ثمانية أزواج "، عن الكسائي. وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من " حمولة وفرشا ". وقال الأخفش علي بن سليمان: يكون منصوبا " بكلوا "، أي كلوا لحم ثمانية أزواج. ويجوز أن يكون منصوبا على البدل من " ما " على الموضع. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى كلوا المباح " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ". ونزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا: " ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا " فنبه الله عز وجل نبيه والمؤمنين بهذه الآية على ما أحله لهم، لئلا يكونوا بمنزلة من حرم ما أحله الله تعالى. والزوج خلاف الفرد، يقال: زوج أو فرد. كما يقال: خسا أوزكا، شفع (1) أو وتر. فقول: " ثمانية أزواج " يعني ثمانية أفراد. وكل فرد عند العرب يحتاج إلى آخر يسمى زوجا، فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج. ويقع لفظ الزوج للواحد وللاثنين، يقال هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيان وهما سواء. وتقول: أشتريت زوجي حمام. وأنت تعني ذكرا وأنثى. الثانية - قوله تعالى: (من الضان اثنين) أي الذكر والأنثى. والضأن: ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن. والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن. وقيل: هو جمع (1) في ك: لشفع أو وتر. (*)
[ 114 ]
لا واحد له. وقيل في جمعه: ضئين، كعبد وعبيد. ويقال فيه ضئين. كما يقال في شعير: شعير، كسرت الضاد اتباعا. وقرأ طلحة بن مصرف " من الضأن اثنين " بفتح الهمزة، وهي لغة مسموعة عند البصريين. وهو مطرد عند الكوفيين في كل ما ثانيه حرف حلق. وكذلك الفتح والإسكان في المعز. وقرأ أبان بن عثمان " من الضأن اثنان ومن المعز اثنان " رفعا بالابتداء. وفي حرف أبي. (ومن المعز اثنان (1)) وهي قراءة الأكثر. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بالفتح. قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان. ويدل على هذا قولهم في الجمع: معيز، فهذا جمع معز. كما يقال: عبد وعبيد. قال أمرؤ القيس: ويمنحها بنو شمجى بن جرم * معيزهم حنانك ذا الحنان ومثله ضأن وضئين. والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وكذلك المعز والمعيز والأمعوز والمعزى. وواحد المعز ماعز، مثل صاحب وصحب وتاجر وتجر. والأنثى ماعزة وهي العنز، والجمع مواعز. وأمعز القوم كثرت معزاهم. والمعاز صاحب المعزى. قال أبو محمد الفقعسي يصف إبلا بكثرة اللبن ويفضلها على الغنم في شدة الزمان: يكلن كليلا ليس بالممحوق * إذ رضي المعاز باللعوق والمعز الصلابة من الأرض. والأمعز: المكان الصلب الكثير الحصى، والمعزاء أيضا. واستمعز الرجل في أمره: جد. (قل آلذكرين) منصوب " بحرم ". (أم الأنثين) عطف عليه. وكذا (أما اشتملت). وزيدت مع ألف الوصل مدة للفرق بين الاستفهام والخبر. ويجوز حذف الهمزة لأن " أم " تدل على الاستفهام. كما قال: تروح من الحي أم تبتكر الثالثه - قال العلماء: الآية أحتجاج على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها. وقولهم: " ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ". فدلت على إثبات المناظرة في العلم، لأن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بأن يناظرهم، ويبين لهم فساد قولهم. وفيها إثبات القول بالنظر والقياس. وفيها دليل بأن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به. (1) كذا في الأصول. والذى في شواذ ابن خالويه: من المعزى أبى وهو الصواب كما في البحر. وروح المعاني. وقراءة أبى: من المعزى اثنين. فيما يتبادر. وقوله: وهى قراءة الأكثر راجع إلى الإسكان في المعز. (*)
[ 115 ]
ويروى: " إذا ورد عليه النقض "، لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة، وأمرهم بطرد علتهم. والمعنى: قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام. لان كان حرم الإناث فكل أنثى حرام. لان كان حرم ما أشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز، فكل مولود حرام، ذكرا كان أو أنثى. وكلها مولود فكلها إذا حرام لوجود العلة فيها، فبين (1) أنتقاض علتهم وفساد قولهم، فأعلم الله سبحانه أن ما فعلوه من ذلك افتراء عليه (نبئونى بعلم) أي بعلم إن كان عندكم، من أين هذا التحريم الذي افتعلتموه ؟ ولا علم عندهم، لأنهم لا يقرءون الكتب. والقول في: " ومن الإبل اثنين وما بعده كما سبق (أم كنتم شهداء) أي (هل (2)) شاهدتم الله قد حرم هذا. ولما لزمتهم الحجة أخذوا في الافتراء فقالوا: كذا أمر الله. كذا أمر الله. فقال الله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم) بين أنهم كذبوا، إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل. قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميته أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا فإن ربك غفور رحيم (145) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما) أعلم الله عز وجل في هذه الأية بما حرم. والمعنى: يا محمد لا أجد فيما أوحي إلي محرما إلا هذه الأشياء لا ما تحرمونه بشهوتكم. والآية مكية. ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة " المائدة " بالمدينة. وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة (3) والمتردية والنطيحة والخمر وغير ذلك. وحرم رسول الله صلى الله عليه بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. (1) في ك: فيكون. (2) من ك، ع. (3) الموقوذة: الشاة المضروبة حتى تموت ولم تذك. والمتردية: التى تقع من جبل، أو تطبح في بئر، أو تسقط من موضع مشرف فتموت. (*)
[ 116 ]
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال: الأول - ما أشرنا إليه من أن هذه الآية مكية، وكل محرم حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جاء في الكتاب مضموم إليها، فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من (أهل (1)) النظر، والفقه والأثر. ونظيره نكاح (2) المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله: " وأحل لكم ما وراء (3) ذلكم " وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قول: " فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان (4) " وقد قيل: إنها منسوخة بقوله عليه السلام (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) أخرجه مالك، وهو حديث صحيح. وقيل: الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها وهو قول يروى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، وروي عنهم خلافه. قال مالك: لا حرام بين إلا ما ذكر في هذه الآية. وقال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية تحليل كل شئ من الحيوان وغيره إلا ما استثني في الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير. ولهذا قلنا: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح. وقال الكيا الطبري: وعليها بنى الشافعي تحليل كل مسكوت عنه، أخذا من هذه الآية، إلا ما دل عليه الدليل. وقيل: إن الآية جواب لمن سأل عن شئ بعينه فوقع الجواب مخصوصا. وهذا مذهب الشافعي. وقد روى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه قال: في هذه الآية أشياء سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء. وقيل: أي لا أجد فيما أوحي إلى أي في، هذه الحال حال الوحي ووقت نزوله، ثم لا يمتنع حدوث وحي بعد ذلك بتحريم أشياء أخر. وزعم ابن العربي أن هذه الآية مدنية (وهي (5)) مكية في قول الأكثرين، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل عليه " اليوم أكملت لكم دينكم (6) " ولم ينزل بعدها ناسخ فهي محكمة، فلا محرم إلا ما فيها، وإليه أميل. قلت: وهذا ما رأيته قال غيره. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الإجماع في أن سورة " الأنعام " مكية إلا قوله تعالى: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " الثلاث الآيات، وقد (1) من ع. (2) أي تحريمه. (3) راجع ج 5 ص 124. (4) راجع ج 3 ص 391. (5) من ك. (6) راجع ج 6 ص 47. (*)
[ 117 ]
نزل بعدها قرآن كثير وسنن جمة. فنزل تحريم الخمر بالمدينة في " المائدة ". وأجمعوا على أن نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة. قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " لأن ذلك مكي. قلت: وهذا هو مثار الخلاف بين العلماء. فعدل جماعة عن ظاهر الأحاديث الواردة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، لأنها متأخرة عنها والحصر فيها ظاهر فالأخذ بها أولى، لأنها إما ناسخة لما تقدمها أو راجحة على تلك الأحاديث. وأما القائلون بالتحريم فظهر لهم وثبت عندهم أن سورة " الأنعام " مكية، نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال وغيرها، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. قال أبو عمر: ويلزم على قول من قال: " لا محرم إلا ما فيها " ألا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا، وتستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب دليل واضح على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد فيما أوحي إليه محرما غير ما في سورة " الأنعام " مما (1) قد نزل بعدها من القرآن. وقد اختلفت الرواية عن مالك في لحوم السباع والحمير والبغال فقال (مرة (2)): هي محرمة، لما ورد من نهيه عليه السلام عن ذلك، وهو الصحيح من قول على ما في الموطأ. وقال مرة: هي مكروهة، وهو ظاهر المدونة، لظاهر الآية، ولما روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحة أكلها وهو قول الأوزاعي. روى البخاري من رواية عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية ؟ فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ " قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما ". وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال: لا بأس بها. فقيل له: حديث أبي ثعلبة الخشني (3) (1) في ك: فيما. (2) من ك. (3) حديث أبى ثعلبه: أنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أكل كل ذى ناب من السباع حرام ". (*)
[ 118 ]
فقال: لا ندع كتاب الله ربنا لحديث (1) أعرابي يبول على ساقيه. وسئل الشعبي عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية: وقال القاسم: كانت عائشة تقول لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع: ذلك حلال، وتتلو هذه الآية " قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما " ثم قالت: إن كانت البرمة ليكون ماؤها أصفر من الدم ثم يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحرمها. والصحيح في هذا الباب ما بدأنا بذكره، وإن ما ورد من المحرمات بعد الآية مضموم إليها معطوف عليها. وقد أشار القاضي أبو بكر بن العربي إلى هذا في قبسه خلاف ما ذكر في أحكامه قال: روي عن ابن عباس أن هذه الآية من آخر ما نزل، فقال البغداديون من أصحابنا: إن كل ما عداها حلال، لكنه يكره أكل السباع. وعند فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبد الملك أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله: " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " بما يرد من الدليل فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) فذكر الكفر والزنى والقتل. ثم قال علماؤنا: إن أسباب القتل عشرة بما ورد من الأدلة، إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخبر بما وصل إليه من العلم عن الباري تعالى، وهو يمحو ما يشاء ويثبت وينسخ ويقدم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام) وقد روي أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير. وروى مسلم عن معن عن مالك: " نهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير " والأول أصح وتحريم كل ذي ناب من السباع هو صريح المذهب وبه ترجم مالك في الموطأ حين قال: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. ثم ذكر الحديث وعقبه بعد ذلك بأن قال: وهو الأمر عندنا. فأخبر أن العمل أطرد مع الأثر. قال القشيري: فقول مالك " هذه الآية من أواخر ما نزل " لا يمنعنا من (2) أن نقول: ثبت تحريم بعض هذه الأشياء بعد هذه الآية، وقد أحل الله الطيبات وحرم الخبائث، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل كل ذي مخلب من الطير، ونهى عن لحوم الحمر الأهلية (1) في ج وى وك وب: لقول. (2) في ك: بل نقول ثبت الخ. (*)
[ 119 ]
عام خيبر. والذي يدل على صحة هذا التأويل الإجماع على تحريم العذرة والبول والحشرات المستقذرة والحمر مما ليس مذكورا في هذه الآية. الثانيه - قوله تعالى: " محرما " قال ابن عطية: لفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها صالحة أن تنتهي بالشئ المذكور غاية الحظر والمنع، وصالحة (أيضا (1)) بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهة ونحوها، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع الكل منهم ولم تضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع، ولحق بالخنزير والميتة والدم، وهذه صفة تحريم الخمر. وما اقترنت به قرينة اضطراب ألفاظ الأحاديث واختلفت الأئمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام: (أكل كل ذي ناب من السباع حرام). وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك، فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها. وما أقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنه نجس، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض. وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها، فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها نحوها (1)) بحسب اجتهاده وقياسه. قلت: وهذا عقد حسن في هذا الباب وفي سبب الخلاف على ما تقدم. وقد قيل: إن الحمار لا يؤكل، لأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط، فسمي رجسا. قال محمد بن سيرين: ليس شئ من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار، ذكره الترمذي في نوادر الأصول. الثالثة - روى عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء، فبعث الله نبيه عليه السلام وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية (1) من ك. (*)
[ 120 ]
" قل لا أجد " الآية. يعني ما لم يبين تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية. وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس أنه قرأ " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " قال: إنما حرم من الميتة أكلها، ما يؤكل منها وهو اللحم، فأما الجلد والعظم والصوف والشعر فحلال. وروى أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما. الحشرة: صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ. ونحوها، قال الشاعر: أكلنا الربى (1) يا أم عمرو ومن يكن * غريبا لديكم يأكل الحشرات أي ما دب ودرج. والربى جمع ربية وهي الفأرة. قال الخطابي: وليس في قوله " لم أسمع لها تحريما " دليل على أنها مباحة، لجواز أن يكون غيره قد سمعه. وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر (2) والجمع وبار ونحوهما من الحشرات، فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور. قال الشافعي: لا بأس بالوبر وكرهه ابن سيرين والحكم وحماد وأصحاب الرأي. وكره أصحاب الرأي القنفذ. وسئل عنه مالك بن أنس فقال: لا أدري. وحكى أبو عمرو: وقال مالك لا بأس بأكل القنفذ. وكان أبو ثور لا يرى به بأسا، وحكاه عن الشافعي. وسئل عنه ابن عمر فتلا " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما " الآية، فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خبيثة من الخبائث). فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال. ذكره أبو داود. وقال مالك: لا بأس بأكل الضب واليربوع والورل (3). وجائز عنده أكل الحيات إذا ذكيت، وهو قول ابن أبي ليلى والأوزاعي. وكذلك الأفاعي والعقارب والفأر و (4) العظاية والقنفذ والضفدع. وقال ابن القاسم: ولا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك، لأنه قال: موته في الماء لا يفسده. وقال مالك: لا بأس بأكل فراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه. (1) في ك: الدبى. ولعل قول المؤلف: ما دب ودرج يدل على هذا لكن البيت الربا. كما في باقى الأصول واللسان والتاج وفيهما: غريبا بأرض. (2) الوبر (بالتسكين): دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء من دواب الصحراء حسنه العينين شديده الحياء تكون بالغور. (3) الورل: دابه على خلقه النصب إلا أنه أعظم منه، يكون في الرمال والصحارى. (4) العظاية: دويبة كسام أبرض. (*)
[ 121 ]
والحجة له حديث ملقام (1) بن تلب، وقول ابن عباس وأبي الدرداء: ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقالت عائشة في الفأرة: ما هي بحرام، وقرأت " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ". ومن علماء أهل المدينة جماعة لا يجيزون أكل كل شئ من خشاش الأرض وهوامها، مثل الحيات والأوزاغ والفأر وما أشبهه. وكل ما يجوز قتله فلا يجوز عند هؤلاء أكله، ولا تعمل الذكاة عندهم فيه. وهو قول ابن شهاب وعروة والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم. ولا يؤكل عند مالك وأصحابه شئ من سباع الوحش كلها، ولا الهر الأهلي ولا الوحشي لأنه سبع. وقال: ولا يؤكل الضبع ولا الثعلب، ولا بأس بأكل سباع الطير كلها: الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل. وقال الأوزاعي الطير كله حلال، إلا أنهم يكرهون الرخم. وحجة مالك أنه لم يجد أحدا من أهل العلم يكره أكل سباع الطير، وأنكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير). وروي عن أشهب أنه قال: لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي، وهو قول الشعبي، ومنع منه الشافعي. وكره النعمان وأصحابه أكل الضبع والثعلب. ورخص في ذلك الشافعي، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع. وحجة مالك، عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولم يخصى سبعا من سبع. وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي، لأنه حديث أنفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس مشهورا بنقل العلم، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه. قال أبو عمر: وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة. وروى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار. قال أبو عمر: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله، ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه. قال: وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن أيوب. سئل مجاهد عن أكل القرد فقال: ليس من بهيمة الأنعام. (1) في التذهيب: ابن التلب. (*)
[ 122 ]
قلت: ذكر ابن المنذر أنه قال: روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم فقال: يحكم به ذوا عدل. قال: فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه، لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد. وفي (بحر المذهب) للروياني على مذهب الإمام الشافعي: وقال الشافعي يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع. وحكى الكشفلي عن ابن شريح يجوز بيعه لأنه ينتفع به. فقيل له: وما وجه الانتفاع به ؟ قال تفرح به الصبيان. قال أبو عمر: والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثل القرد. والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره. وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس. وروى أبو داود عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. في رواية: عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها. قال الحليمي أبو عبد الله: فأما الحلالة فهي التي تأكل العذرة من الدواب والدجاج المخلاة. ونهى النبي عن لحومها. وقال العلماء: كل ما ظهر منها ريح العذرة في لحمه أو طعمه فهو حرام، وما لم يظهر فهو حلال. وقال الخطابي: هذا نهي تنزه وتنظف، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهي العذرة وجد نتن رائحتها في لحومها، وهذا إذا كان غالب علفها منها، فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة، وإنما هي كالدجاج المخلاة، ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشئ منها وغالب غذائه وعلفه من غيره فلا يكره أكلها. وقال أصحاب الرأي والشافعي وأحمد: لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها، فإذا طاب لحمها أكلت. وقد روي في الحديث (أن البقر تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها). وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح. وقال إسحاق: لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا. وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة، وكذلك مالك بن أنس. ومن هذا الباب نهي أن تلقى في الأرض العذرة. روي عن بعضهم قال: كنا نكري أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط على من يكريها ألا يلقي فيها العذرة. وعن ابن عمر أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن (1) بالعذرة. وروي أن رجل كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر: أنت الذي تطعم الناس ما يخرج ما منهم. (1) دمن الأرض (من باب نصر): أصلحها بالسرجين. وهو السماد. وفى ب وك: تدنس. (*)
[ 123 ]
واختلفوا في أكل الخيل، فأباحها الشافعي، وهو الصحيح، وكرهها مالك. وأما البغل فهو متولد من بين الحمار والفرس، وأحدهما مأكول أو مكروه وهو الفرس، والآخر محرم وهو الحمار، فغلب حكم التحريم، لأن التحليل والتحريم إذا اجتمعا في عين واحدة غلب حكم التحريم. وسيأتي بيان هذه المسألة في " النحل (1) " إن شاء الله بأوعب من هذا. وسيأتي حكم الجراد في " الأعراف (2) ". والجمهور من الخلف والسلف على جواز أكل الأرنب. وقد حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص تحريمه. وعن ابن أبي ليلى كراهته. قال عبد الله بن عمرو: جئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها. وزعم أنها تحيض. ذكره أبو داود. وروى النسائي مرسلا عن موسى بن طلحة قال: أتي النبي بأرنب قد شواها رجل وقال: يا رسول الله، إني رأيت بها دما، فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكلها، وقال لمن عنده: (كلوا فإني لو اشتهيتها أكلتها). قلت: وليس في هذا ما يدل على تحريمه، وإنما هو نحو من قول عليه السلام: (إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه). وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: مررنا بمر الظهران فاستنفجنا (3) أرنبا فسعوا عليه فلغبوا (4). قال: فسعيت حتى أدركتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، فبعث بوركها وفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله. الرابعة - قوله تعالى: على طاعم يطعمه أي أكل يأكله. وروي عن ابن عامر أنه قرأ " أوحى " بفتح الهمزة. وقرأ علي بن أبي طالب " يطعمه " مثقل الطاء، أراد يتطعمه فأدغم. وقرأت عائشة ومحمد ابن الحنفية " على طاعم طعمه " بفعل ماض إلا أن يكون ميتة قرئ بالياء والتاء، أي إلا أن تكون العين أو الجثة أو النفس ميتة. وقرئ " يكون " بالياء " ميتة " بالرفع بمعنى تقع وتحدث ميتة. والمسفوح: الجاري الذي يسيل (1) راجع ج 10 ص 73 فما بعد. (2) راجع ص 268 فما بعد من هذا الجزء. (3) قال النووي: معنى استنفجنا: أئرنا ونفرنا. ومر الظهران (بفتح الميم والظله): موضع قريب من مكة. (4) فلغبوا: أي أعيوا وعجزوا عن أخذها. (*)
[ 124 ]
وهو المحرم. وغيره معفو عنه. وحكى الماوردي أن الدم غير المسفوح أنه إن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال، لقول عليه السلام: (أحلت لنا ميتتان ودمان) الحديث. وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها، وإنما هو مع اللحم ففي تحريمه قولان: أحدهما أنه حرام، لأنه من جملة المسفوح أو بعضه. وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه. والثاني أنه لا يحرم، لتخصيص التحريم بالمسفوح. قلت: وهو الصحيح. قال عمران بن حدير: سألت أبا مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم، وعن القدر تعلوها الحمرة من الدم فقال: لا بأس به، إنما حرم الله المسفوح. وقالت نحوه عائشة وغيرها، وعليه إجماع العلماء. وقال عكرمة: لو لا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما تتبع اليهود. وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ. وقد تقدم هذا وحكم المضطر في (البقره (1) (والله أعلم (2). قوله تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزينهم ببعضم وإنا لصدقون (146) فيه ست مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر) لما ذكر الله عز وجل ما حرم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود، لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم: إن الله لم يحرم علينا شيئا، وإنما نحن حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. وقد تقدم في البقره معنى (هادوا (3). وهذا التحريم على الذين هادوا إنما هو تكليف بلوى وعقوبة. فأول ما ذكر من المحرمات عليهم كل ذي ظفر. وقرأ الحسن " ظفر " بإسكان الفاء. وقرأ أبو السمال " ظفر " بكسر الظاء وإسكان الفاء. وأنكر أبو حاتم كسر (1) راجع ج 2 ص 216. ما بعدها. (2) في ج. وفي ز: يتلوه. (3) راجع ج 1 ص 432. (*)
[ 125 ]
الظاء وإسكان الفاء، ولم يذكر هذه القراءة وهي لغة. " وظفر " بكسرهما. والجمع أظفار وأظفور وأظافير (1)، قال الجوهري. وزاد النحاس عن الفراء أظافير وأظافرة، قال ابن السكيت: يقال رجل أظفر بين الظفر إذا كان طويل الأظفار، كما يقال: رجل أشعر للطويل الشعر. قال مجاهد وقتادة: " ذي ظفر " ما ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير، مثل الإبل والنعام والإوز والبط. وقال ابن زيد: الإبل فقط. وقال ابن عباس: " ذي ظفر " البعير والنعامة، لأن النعامة ذات ظفر كالإبل. وقيل: يعني كل ذي بخلب من الطير وذي حافر من الدواب. ويسمى الحافر ظفرا استعارة. وقال الترمذي الحكيم: الحافر ظفر، والمخلب ظفر، إلا أن هذا على قدره، وذاك على قدره وليس ههنا استعارة، ألا ترى أن كليهما يقص ويؤخذ منهما وكلاهما جنس واحد: عظم لين رخو. أصله من غذاء ينبت فيقص مثل ظفر الإنسان، وإنما سمي حافرا لأنه يحفر الأرض بوقعه عليها. وسمي مخلبا لأنه يخلب الطير برؤوس تلك الإبر منها. وسمي ظفرا لأنه يأخذ الأشياء بظفره، أي يظفر به الآدمي والطير. الثانيه - قوله تعالى: (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) قال قتادة: يعني الثروب وشحم الكليتين، وقال السدي. والثروب جمع الثرب، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش. قال ابن جريج: حرم عليهم كل شحم غير مختلط بعظم أو على عظم، وأحل لهم شحم الجنب والألية، لأنه على العصعص. الثالثه - قوله تعالى: (إلا ما حملت ظهورهما) " ما " في موضع نصب على الاستثناء " ظهورهما " رفع " بحملت ". (أو الحوايا) في موضع رفع عطف على الظهور أي أو حملت حواياهما، والألف واللام بدل من الإضافة. وعلى هذا تكون الحوايا من جملة ما أحل. (أو ما أختلط بعظم) " ما " في موضع نصب عطف على " ما حملت " أيضا هذا أصح ما قيل فيه. وهو. قول الكسائي والفراء وأحمد بن يحيى. والنظر يوجب أن يعطف (1) في الأصول: ".. أظافر وأظافرة، مثل ضاربه وضوارب.. ". فقوله: مثل ضاربة وضوارب خطأ من النساخ. (*)
[ 126 ]
الشئ على ما يليه، إلا ألا يصح معناه أو يدل دليل على غير ذلك. وقيل: إن الاستثناء في التحليل إنما هو ما حملت الظهور خاصة، وقوله: " أو الحوايا أو ما اختلط بعظم " معطوف على المحرم. والمعنى: حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم. وقد احتج الشافعي بهذه الآية في أن من حلف ألا يأكل الشحم حنث بأكل شحم الظهور، لاستثناء الله عز وجل ما على ظهورهما من جملة الشحم. الرابعة - قوله تعالى: (أو الحوايا): الحوايا: هي المباعر، عن ابن عباس وغيره. وهو جمع مبعر، سمي بذلك لاجتماع البعر فيه. وهو الزبل. وواحد الحوايا حاوياء، مثل قاصعاء وقواصع. وقيل: حاوية مثل ضاربة وضوارب. وقيل: حوية مثل سفينة وسفائن. قال أبو عبيدة: الحوايا ما تحوى من البطن أي استدار. وهي منحوية أي مستديرة. وقيل: الحوايا خزائن اللبن، وهو يتصل بالمباعر وهي المصارين. وقيل: الحوايا الأمعاء التي عليها الشحوم. والحوايا في غير هذا الموضع: كساء يحوى حول سنام البعير. قال امرؤ القيس: جعلن حوايا واقتعدن قعائدا * وخففن من حوك العراق المنمق فأخبر الله سبحانه أنه كتب عليهم تحريم هذا في التوراة ردا لكذبهم. ونصه فيها: " حرمت عليكم " الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه سفاسق (1) " أي بياض. ثم نسخ الله ذلك كله بشريعة محمد. وأباح لهم ما كان محرما عليهم من الحيوان، وأزال الحرج بمحمد عليه السلام، وألزم الخليقة دين الإسلام بحله وحرمه وأمره ونهيه. الخامسة - لو ذبحوا أنعامهم فأكلوا ما أحل الله لهم في التوراة وتركوا ما حرم (عليهم (2)) فهل يحل لنا، قال مالك في كتاب محمد: هي محرمة. وقال في سماع المبسوط: هل محللة وبه قال ابن نافع وقال ابن القاسم: أكرهه. وجه الأول أنهم يدينون بتحريمها ولا يقصدونها عند الذكاة، فكانت محرمة كالدم. ووجه الثاني وهو الصحيح أن الله عز وجل رفع ذلك التحريم بالإسلام، واعتقادهم فيه لا يؤثر، لأنه اعتقاد فاسد، قاله ابن العربي. (1) كذا في ز. ولعل المراد الطرائق. وفي ك: سقاشق. وفي ى: شفاشق. (2) من ك. (*)
[ 127 ]
قلت: ويدل على صحته ما رواه الصحيحان عن عبد الله بن مغفل قال: كنا محاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت (1) لآخذه فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه. لفظ البخاري. ولفظ مسلم: قال عبد الله بن مغفل: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، قال فالتزمته وقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما. قال علماؤنا: تبسمه عليه السلام إنما كان لما رأى من شدة حرص ابن مغفل على أخذ الجراب ومن ضنته به، ولم يأمره بطرحه ولا نهاه. وعلى جواز الأكل مذهب أبي حنيفة والشافعي وعامة العلماء، غير أن مالكا كرهه للخلاف فيه. وحكى ابن المنذر عن مالك تحريمها، وإليه ذهب كبراء أصحاب مالك. ومتمسكهم ما تقدم، والحديث حجة عليهم، فلو ذبحوا كل ذي ظفر قال أصبغ: ما كان محرما في كتاب الله من ذبائحهم فلا يحل أكله، لأنهم يدينون بتحريمها. وقاله أشهب وابن القاسم، وأجازه ابن وهب. وقال ابن حبيب: ما كان محرما عليهم، وعلمنا ذلك من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم، وما لم نعلم تحريمه إلا من أقوالهم واجتهادهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم. السادسة - قوله تعالى: (ذلك) أي ذلك التحريم. فذلك في موضع رفع، أي الأمر ذلك. (جزيناهم ببغيهم) أي بظلمهم، عقوبة لهم لقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل. وفي هذا دليل على أن التحريم إنما يكون بذنب، لأنه ضيق فلا يعدل عن السعة إليه إلا عند المؤاخذة. (وإنا لصادقون) في إخبارنا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من اللحوم والشحوم. قوله تعالى: فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة وسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين (147) (1) النزو: الوئب. (*)
[ 128 ]
قوله تعالى: (فإن كذبوك) شرط والجواب (فقل ربكم ذو رحمة واسعة) أي من سعة رحمته حلم عنكم فلم يعاقبكم في الدنيا. ثم أعده لهم في الآخرة من العذاب فقال: (ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) وقيل: المعنى ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين إذا أراد حلوله في الدنيا. قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا) قال مجاهد: يعني كفار قريش. (قالوا (1)) (لو شاء الله ما أشركنا ولا اباؤنا ولا حرمنا من شئ) يريد البحيرة والسائبة والوصيلة. أخبر الله عز وجل بالغيب عما سيقولونه (1)، وظنوا أن هذا متمسك لهم لما لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما كانوا عليه. والمعنى: لو شاء الله لأرسل إلى آبائنا رسولا فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحل (لهم (1)) فينتهوا فأتبعناهم على ذلك. فرد الله عليهم ذلك فقال: (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) أي أعندكم دليل على أن هذا كذا ؟: (إن تتبعون إلا الظن) في هذا القول. (وإن أنتم إلا تخرصون) لتوهموا ضعفتكم أن لكم حجة. (وقوله (1)) " ولا آباؤنا " عطف على النون في " أشركنا ". ولم يقل نحن ولا آباؤنا، لأن قول " ولا " قام مقام توكيد المضمر، ولهذا حسن أن يقال: ما قمت ولا زيد. قوله تعالى: قل فلله الحجة البلغة فلو شاء لهديكم أجمعين (149) قوله تعالى: " قل فلله الحجة البالغة " أي التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء، فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته (1) من ك. (*)
[ 129 ]
وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه. وقد لبست المعتزلة بقول: " لو شاء الله ما أشركنا " فقالوا: قد ذم الله هؤلاء الذين جعلوا شركهم عن مشيئته. وتعلقهم بذلك باطل، لأن الله تعالى إنما ذمهم على ترك اجتهادهم في طلب الحق. وإنما قالوا ذلك على جهة الهزء واللعب. نظيره " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم (1) ". ولو قالوه على جهة التعظيم والإجلال والمعرفة به لما عابهم، لأن الله تعالى يقول: " لو شاء الله ما أشركوا (2) ". و " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله (2) ". " ولو شاء لهداكم أجمعين (3) ". ومثله كثير. فالمؤمنون يقولونه لعلم منهم بالله تعالى. قوله تعالى: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بئايتنا والذين لا يومنون بالأخرة وهم بربهم يعدلون (150) قوله تعالى: (قل هلم شهداءكم) أي قل لهؤلاء المشركين أحضروا شهداءكم على أن الله حرم ما حرمتم. و " هلم " كلمة دعوة إلى شئ، ويستوي فيه الواحد والجماعة والذكر والأنثى عند أهل الحجاز، إلا في لغة نجد فإنهم يقولون: هلما هلموا هلمي، يأتون بالعلامة كما تكون في سائر الأفعال. وعلى لغة (أهل (4)) الحجاز جاء القرآن، قال الله تعالى: " والقائلين لإخوانهم هلم إلينا (5) " يقول: هلم أي أحضر أو ادن. وهلم الطعام، أي هات الطعام. والمعنى ها هنا: هاتوا شهداءكم، وفتحت الميم لالتقاء الساكنين، كما تقول: رد يا هذا، ولا يجوز ضمها ولا كسرها. والأصل عند الخليل " ها " ضمت إليها " لم " ثم حذفت الألف لكثرة الاستعمال. وقال غيره. الأصل " هل " زيدت عليها " لم ". وقيل: هي على لفظها تدل على معنى هات. وفي كتاب العين للخليل: أصلها هل أؤم، أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم (1) راجع ج 16 ص 73. (2) راجع ص 60 و 66. من هذا الجزء. (3) راجع ج 10 ص 81. (4) من ك. (5) راجع ج 14 ص 151. (*)
[ 130 ]
إياها حتى صار المقصود بقولها (احضر (1)) كما أن (تعال (1)) أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل، فكثر استعمالهم إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي تعال. (فإن شهدوا) أي شهد بعضهم لبعض (فلا تشهد معهم) أي فلا تصدق أداء الشهادة إلا من كتاب أو على لسان نبي، وليس معهم شئ من ذلك. قوله تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالولدين إحسانا ولا تقتلوا أولدكم من إملق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم وصكم به لعلكم تعقلون (151) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون (152) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به لعلكم تتقون (153) فيه أربع عشرة مسألة: الأولى - قوله تعالى: (قل تعالوا أتل) أي تقدموا واقرءوا حقا يقينا كما أوحى إلى ربي، لا ظنا ولا كذبا كما زعمتم. ثم بين ذلك فقال " ألا تشركوا به شيئا " يقال للرجل: تعال، أي تقدم، وللمرأة تعالي، وللاثنين والاثنتين تعاليا، ولجماعة الرجال تعالوا، ولجماعة النساء تعالين، قال الله تعالى: " فتعالين أمتعكن (2) ". وجعلوا التقدم ضربا من التعالي (1) من ب وك. (2) راجع ج 14 ص 170. (*)
[ 131 ]
والارتفاع، لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي، قال ابن الشجري. الثانية - قوله تعالى: (ما حرم) الوجه في " ما " أن تكون خبرية في موضع نصب " بأتل " والمعنى: تعالوا أتل الذي حرم ربكم عليكم، فإن علقت " عليكم " " بحرم " فهو الوجه، لأنه الأقرب وهو اختيار البصر بين. وإن علقته " بأتل " فجيد لأنه الأسبق، وهو اختيار الكوفيين، فالتقدير في هذا القول أتل عليكم الذي حرم ربكم. (ألا تشركوا) في موضع نصب بتقدير فعل من لفظ الأول، أي أتل عليكم ألا تشركوا، أي أتل عليكم تحريم الإشراك، ويحتمل أيكون منصوبا بما في " عليكم " من الإغراء، وتكون " عليكم " منقطعة مما قبلها، أي عليكم ترك الإشراك، وعليكم إحسانا بالوالدين، وألا تقتلوا أولادكم وألا تقربوا الفواحش. كما تقول: عليك شأنك، أي آلزم أنك. وكما قال: " عليكم أنفسكم (1) " قال جميعه ابن الشجري. وقال النحاس: يجوز أن تكون " أن " في موضع نصب بدلا من " ما "، أي أتل عليكم تحريم الإشراك. واختار الفراء أن تكون " لا " للنهي، لأن بعده " ولا ". الثالثة - هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله. وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم مما حل. قال الله تعالى: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه (2) ". وذكر ابن المبارك: أخبرنا عيسى بن عمر عن عمرو بن مرة أنه حدثهم قال: قال ربيع بن خيثم (3) لجليس له: أيسرك أن تؤتى بصحيفة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يفك خاتمها ؟ قال نعم. قال فاقرأ " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " فقرأ إلى آخر الثلاث الآيات. وقال كعب الأحبار: هذه الآية مفتتح (4) التوراة: (بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم (1) راجع ج 6 ص 342. (2) راجع ج 4 ص 304. (3) قال في التقريب: (الربيع بن خيثم) بضم المعجمة وفتح المثئلة، ولكن في الخلاصة: بفتح المعجمة والمثلثة بينها تحتانيه ساكنة. تهذيب. (4) تقدم عن كعب أيضا أول السورة أن أول الأنعام مفتتح التوراة. (*)
[ 132 ]
ربكم عليكم) الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة " آل عمران (1) " أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزلة على موسى. الرابعة - قوله تعالى: (وبالوالدين إحسانا) الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما و صيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما. و " إحسانا " نصب على المصدر، وناصبه فعل مضمر من لفظه، تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا. الخامسة - قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الإملاق الفقر: أي لا تئدوا - من الموءودة (2) - بناتكم خشية العيلة، فإني رازقكم وإياهم. وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر، كما هو ظاهر الآية. أملق أي افتقر. وأملقه أي أفقره، فهو لازم ومتعد. وحكى النقاش عن مؤرج أنه قال: الإملاق الجوع بلغة لخم. وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق، يقال: أملق ماله بمعنى أنفقه. وذكر أن عليا رضي الله عنه قال لامرأته: أملقي من مالك ما شئت. ورجل ملق يعطي بلسانه ما ليس في قلبه. فالملق لفظ مشترك يأتي (4) بيانه في موضعه. السادسة - وقد يستدل بهذا من يمنع العزل، لأن الوأد يرفع الموجود والنسل، والعزل منع أصل النسل فتشابها، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا، ولذلك قال بعض علمائنا: إنه يفهم من قوله عليه السلام في العزل: (ذلك الوأد الخفي) الكراهة لا التحريم وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم. وقال بإباحته أيضا جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء، لقوله عليه السلام: (لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر) أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا. وقد فهم منه الحسن ومحمد بن المثنى النهي والزجر عن العزل. والتأويل الأول أولى، لقوله عليه السلام: (إذا أراد الله خلق شئ لم يمنعه شئ). قال مالك والشافعي: لا يجوز العزل عن الحرة إلا (5) بإذنها. وكأنهم رأوا الإنزال من تمام لذاتها، ومن حقها في الولد، ولم يروا ذلك في الموطوءة بملك اليمين، إذ له أن يعزل عنها بغير إذنها، إذ لا حق لها في شئ مما ذكر. (1) كذا في ز وك وى وفي ب الأنعام. (2) في ك: من الوأد. (3) من ع. (4) من ك. (5) في ك: ولا بإذنها. (*)
[ 133 ]
السابعة - قوله تعالى: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) نظيره " وذروا ظاهر الإثم وباطنه (1) ". فقوله: " ما ظهر " نهي عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي. " وما بطن " ما عقد عليه القلب المخالفة. وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء. و " ما ظهر " نصب على البدل من " الفواحش ". " وما بطن " عطف عليه. الثامنه - قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق) الألف واللام في " النفس " لتعريف الجنس، كقولهم: أهلك الناس حب الدرهم والدينار. ومثله " إن الإنسان خلق (2) هلوعا " ألا ترى قول سبحانه: " إلا المصلين " ؟ وكذلك قوله: " والعصر. إن الإنسان لفي خسر (3) " لأنه قال: " إلا الذين آمنوا " وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة، مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله) وهذا الحق أمور: منها منع الزكاة وترك الصلاة، وقد قاتل الصديق مانعي الزكاة وفي التنزيل " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم (4) " وهذا بين. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة). وقال عليه السلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا (5) الآخر منهما). أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به). وسيأتي بيان هذا في " الأعراف (1) ". وفي التنزيل: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا (6) " (الآية (7)). وقال: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا (8) " الآية. وكذلك من شق عصا المسلمين وخالف إمام جماعتهم وفرق كلمتهم وسعى في الأرض فسادا بانتهاب الأهل والمال والبغي على السلطان والامتناع من حكمه يقتل. فهذا معنى قوله: " إلا بالحق ". (1) راجع ص 74 وص 243. من هذا الجزء. (2) راجع ج 18 ص 289. (3) راجع ج 20 ص 178. (4) راجع ج 8 ص 71. (5) أي فادفعوا الآخر بالقتل إذا لم يمكن دفعه بدونه. (6) راجع ج 6 ص 147. (7) من ك. (8) راجع ج 16 ص 315. (*)
[ 134 ]
وقال عليه السلام: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين). وروى أبو داود والنسائي عن أبي بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل معاهدا في غير كنهه (1) حرم الله عليه الجنة ". وفي رواية أخرى لأبي داود قال: (من قتل رجل من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما). في البخاري في هذا الحديث (وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما). خرجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. التاسعة - قوله تعالى: (ذلكم) إشارة إلى هذه المحرمات. والكاف والميم للخطاب، ولاحظ لهما من الإعراب. (وصاكم به) الوصية الأمر المؤكد المقدور. والكاف والميم محله النصب، لأنه ضمير موضوع للمخاطبة. وفي وصى ضمير فاعل يعود على الله. وروى مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف على أصحابه فقال: علام تقتلوني ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد حصانه (2) فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو آرتد بعد إسلامه فعليه القتل) فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي به (3)، ولا أرتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسول، ذلكم الذي ذكرت لكم وصاكم به لعلكم تعقلون ! العاشرة - قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن) أي بما فيه صلاحه وتثميره (4)، وذلك بحفظ أصول وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا، فإنه جامع قال مجاهد: " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " بالتجارة فيه، ولا تشتري منه ولا تستقرض. الحادية عشرة - قوله تعالى: (حتى يبلغ أشده) يعني قوته، وقد تكون في البدن، وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بد من حصول الوجهين، فإن الأشد وقعت هنا مطلقة (1) كنه الأمر: حقيقته. وقيل: وقته وقدره. وقيل: غايته، يعنى من قتله في غير وقته أو غاية أمره الذى يجوز فيه قتله (عن النهاية). (2) في ب وج وك: إحصانه. (3) في ك: منه. (4) في ج: تدبيره. (*)
[ 135 ]
وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة " النساء " مقيدة، فقال: " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا (1) " فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد، فلو مكن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهوته وبقي صعلوكا لا مال له. وخص اليتيم بهذا الشرط لغفلة الناس عنه وافتقاد الآباء لأبنائهم فكان الاهتبال (2) بفقيد الأب أولى. وليس بلوغ الأشد مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن، لأن الحرمة في حق البالغ ثابتة. وخص اليتيم بالذكر لأن خصمه الله. والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده. وفي الكلام حذف، فإذا بلغ أشده وأونس منه الرشد فادفعوا إليه ماله. واختلف العلماء في أشد اليتيم، فقال ابن زيد: بلوغه. وقال أهل المدينة. بلوغه وإيناس رشده. وعند أبي حنيفة: خمس وعشرون سنة. قال ابن العربي: وعجبا من أبي حنيفة، فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت قياسا ولا نظرا وإنما تثبت نقلا، وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة، ولكنه سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس، ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدين (3). وقد قيل: إن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد، كما قال سحيم بن وثيل: أخو خمسين مجتمع أشدي * ونجذني مداورة الشؤون (4) يروى " نجدني " بالدال والذال. والأشد واحد لا جمع له، بمنزلة الآنك وهو الرصاص. وقد قيل: واحده شد، كفلس وأفلس. وأصله من شد النهار أي ارتفع، يقال: أتيته شد النهار ومد النهار. وكان محمد بن الضبي ينشد بيت عنترة: عهدي به النهار كأنما * خضب اللبان ورأسه بالعظلم (5) (1) راجع ج 5 ص 33. (2) الاهتبال: اغتنام الفرضة وابتغاءها وتكسبها: أي الاشتغال بشأن اليتيم أولى. (3) في ك: المذهب وفى ز: الذهب. يريد بدار الضرب: بغداد. والمعدن.: معدن الشريعة ومنجمها المدينة المنوره. (4) رجل منجد (بالدال والذال): جرب الأمور وعرفها وأحكمها. ومداورة الشئون: مداوتة الأمور ومعالجتها. (5) اللبان (بفتح اللام): الصدر. وفي ع: " البنان " وهى رواية. والعظلم (بكسر العين واللام وسكون الظاء): صبغ أحمر وقيل: هو الوسمة د، شجر له ورق يخنضب به. (*)
[ 136 ]
(وقال (1) آخر: تطيف به شد النهار ظعينة * طويلة أنقاء اليدين سحوق (2) وكان سيبويه يقول: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال: بلغ الغلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم، من قولهم: يوم بؤس ويوم نعم. وأما قول من قال: واحده شد، مثل كلب وأكلب، وشد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس. كما يقولون في واحد الأبابيل: أبول، قياسا على عجول، وليس هو شيئا سمع من العرب. قال أبو زيد: أصابتني شدى على فعلى، أي شدة. وأشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة. الثانيه عشرة - قوله تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط). أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء. والقسط: العدل. (لا نكلف نفسا إلا وسعها) أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن. وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرر. وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الكيلين، ولا يدخل تحت قدرة البشر فمعفو عنه. وقيل: الكيل بمعنى المكيال. يقال: هذا كذا وكذا كيلا، ولهذا عطف عليه بالميزان. وقال بعض العلماء: لما علم الله سبحانه من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب للغير بما لا يجب عليها له أمر المعطي بإيفاء رب الحق حقه الذي هو له، ولم يكلفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر صاحب الحق بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقل منه، لما في النقصان من ضيق نفسه. وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبد الله بن عباس أنه قال: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم إلاكثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر (3) قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو (4). وقال ابن عباس أيضا: إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم الكيل والميزان (5). (1) من ك. (2) السحوق: المرأة الطويله. (3) الختر: الغدر. وفى ك: غدر. (4) رواه الطبراني حديثا عن ابن عباس. (5) من ك. (*)
[ 137 ]
الثالثه عشرة - قوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا يتضمن الأحكام والشهادات. ولو كان ذا قربى أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم. كما تقدم في النساء (1). (وبعهد الله أوفوا) عام في جميع ما عهده الله إلى عباده. ومحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين. وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به (لعلكم تذكرون) تتعظون. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم، فإنه لما نهى وأمر حذر هنا عن اتباع غير سبيله، فأمر فيها باتباع طريقه على ما نبينه بالأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. " وأن " في موضع نصب، أي واتل أن هذا صراطي. عن الفراء والكسائي. قال الفراء: ويجوز أن يكون خفضا، أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. وتقديرها عند الخليل وسيبويه: ولأن هذا صراطي، كما قال: " وأن المساجد (2) لله " وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي " وإن هذا " بكسر الهمزة على الاستئناف، أي الذي ذكر في الآيات (4) صراطي مستقيما. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب " وأن هذا " بالتخفيف. والمخففة مثل المشددة، إلا أن فيه ضمير القصة والشان، أي وأنه هذا. فهي في موضع رفع. ويجوز النصب. ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد، كما قال عز وجل: " فلما أن جاء البشير (4) ". والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام. " مستقيما " نصب على الحال، ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة. وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) أي تميل. روى الدارمي أبو محمد في مسنده بإسناد صحيح: أخبرنا عفان حدثنا حماد بن زيد حدثنا عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال (هذه سبل على كل سبيل (1) راجع ج 5 ص 410. (2) راجع ج 19 ص 19. (3) من ب ج ز ك. (4) راجع ج 9 ص 259. (*)
[ 138 ]
منها شيطان يدعو إليها) ثم قرأ هذه الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: (هذا سبيل الله - ثم تلا هذه الآية - " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتعبوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ". وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد، قال ابن عطية. قلت: وهو الصحيح. ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن أبان أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم ؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد (1) وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط آنتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: " وأن هذا صراطي مستقيما " الآية. وقال عبد الله بن مسعود: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع (2)، وعليكم بالعتيق (3). أخرجه الدارمي. وقال مجاهد في قوله: " ولا تتبعوا السبل " قال: البدع. قال ابن شهاب: وهذا كقوله تعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا (4) " الآية. فالهرب الهرب، والنجاة النجاة ! والتمسك بالطريق المستقيم والسنن القويم، الذي سلكه السلف الصالح، وفيه المتجر الرابح. روى الأئمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا). وروى ابن ماجة وغيره عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت (1) الجواد (بتشديد الدال): الطرق، واحدها جادة، وهى سواء الطريق. وقيل: معظمه وقيل: وسطه. (2) عرف الراغب البدعه بقوله: البدعه في المذهب إيراد قوله لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعه وأما ثلها المتقدمه وأصولها المتقنه. (3) العتيق: القديم الأول. (4) راجع ص 149. من هذا الجزء. (*)
[ 139 ]
منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا ؟ فقال: (قد تركتكم على البيضاء (1) ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة وعليكم بالطاعة وإن عبد ا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف (2) حيثما قيد انقاد) أخرجه الترمذي بمعناه وصححه. وروى أبو داود قال حدثنا ابن كثير قال أخبرنا سفيان قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأل عن القدر، فكتب (إليه (3)): أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤونته، فعليك بلزوم الجماعة فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم أعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فان السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ و الزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وإنهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدي ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، قد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من مجسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا وإنهم مع (4) ذلك لعلى مستقيم. وذكر الحديث. وقال سهل بن عبد الله التستري: عليكم بالاقتداء بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحوال ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه. قال سهل: إنما ظهرت البدعة على يدي أهل السنة لأنهم ظاهروهم وقاولوهم (5)، فظهرت أقاويلهم وفشت في العامة فسمعه من لم يكن يسمعه، فلو تركوهم (1) البيضاء. يريد صلى الله عليه وسلم الملة والحجة الواضحة التى لا تقبل الشبه أصلا. (2) الأنف (ككتف): المأنوف وهو الذى عقر الخشاش أنفه، فهو لا يمتنع على قائده للوجع الذى به. وقيل: الأنف الذلول. (3) من ك وز. (4) في ك: بين. (5) في ك وع: ناولوهم. (*)
[ 140 ]
ولم يكلموهم لمات كل واحد منهم على ما في صدره ولم يظهر منه شئ وحمله معه إلى قبره. وقال سهل: لا يحدث أحدكم بدعة حتى يحدث له إبليس عبادة فيتعبد بها ثم يحدث له بدعة، فإذا نطق بالبدعة ودعا الناس إليها نزع منه تلك الخذمة (1). قال سهل: لا أعلم حديثا جاء في المبتدعة أشد هذا الحديث: (حجب الله الجنة عن صاحب البدعة). قال: فاليهودي والنصراني أرجى منهم. قال سهل: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يخاصمن أهل الأهواء. وقال أيضا: أتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. وفي مسند الدارمي: أن أبا موسى الأشعري جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن رأيت في المسجد آنفا شيئا أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو ؟ قال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول لهم: كبروا مائة، فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة. ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم ؟ قال: ما قلت لهم شيئا، انتظار رأيك وانتظار أمرك. قال أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي (أراكم (2)) تصنعون ؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم وأنا ضامن لكم ألا يضيع من حسناتكم شئ، ويحكم يا أمة محمد ! ما أسرع هلكتكم. أو مفتتحي (3) باب ضلالة ! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. فقال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. وعن عمر بن عبد العزيز وسأله رجل عن شئ من أهل الأهواء والبدع، فقال: عليك بدين الأعراب والغلام في الكتاب، وآله عما سوى ذلك. وقال الأوزاعي: قال إبليس لأوليائه من أي شئ تأتون بنى آدم ؟ فقالوا: من كل شئ. قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار ؟ قالوا: (1) كذا في ب وفي ج وك: الخدمه. (2) عن ك وسنن الدارمي. (3) كذا في الأصول. والذى في سنن الدارمي. المطبوعة والمخطوطة:... " ما أسرع هلكتكم. هؤلاء صحابه نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر والذى نفسي بيده إنكم لعلى مله هي أهدى من مله محمد أو مفتتحى باب.. ". الخ في نخ ط دمشق: أو مفتتحوا. على هامش المطبوع: " أو مفتتح " بغيرياء. راجع ج 1 ص 68 ط الشام. (*)
[ 141 ]
هيهات ! ذلك شئ قرن بالتوحيد. قال: لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه. قال: فبث فيهم الأهواء. وقال مجاهد: ولا أدري أي النعمتين علي أعظم أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء. وقال الشعبي: إنما سموا أصحاب الأهواء لأنهم يهوون في النار. كله عن الدارمي. وسئل سهل بن عبد الله عن الصلاة خلف المعتزلة والنكاح منهم وتزوجهم. فقال: لا، ولا كرامة ! هم كفار (1)، كيف يؤمن من يقول: القرآن مخلوق، ولا جنة مخلوقة ولا نار مخلوقة، ولا لله صراط ولا شفاعة، ولا أحد من المؤمنين يدخل النار ولا يخرج من النار من مذنبي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عذاب القبر ولا منكر ولا نكير، ولا رؤية لربنا في الآخرة ولا زيادة، وأن علم الله مخلوق، ولا يرون السلطان ولا جمعة، ويكفرون من يؤمن بهذا. وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وقال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وقال ابن عباس: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة، عبادة. وقال أبو العالية: عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا. قال عاصم الأحول: فحدثت به الحسن فقال: قد نصحك والله وصدقك. وقد مضى في " آل عمران " معنى قول عليه السلام: (تفرقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين فرقة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين). الحديث (2). وقد قال بعض العلماء العارفين: هذه الفرقة التي زادت في فرق أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم قوم يعادون العلماء ويبغضون الفقهاء، ولم يكن ذلك قط في الأمم السالفة. وقد روى رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى). قال فقلت: جعلت فداك يا رسول الله ! كيف ذاك ؟ قال: (يقرون ببعض ويكفرون ببعض). قال قلت: جعلت فداك يا رسول الله ! وكيف يقولون ؟ قال: (يجعلون إبليس عدلا لله في خلقه (1) ليس من أصول أهل السنه تكفير أهل القبله بخطإ في التأويل. فليتأمل. (2) راجع ج 4 ص 159. (*)
[ 142 ]
وقوته ورزقه ويقولون الخير من الله والشر من إبليس). قال: فيكفرون بالله ثم يقرءون على ذلك كتاب الله، فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان و المعرفة ؟ قال: (فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة). وذكر الحديث. ومضى في " النساء " وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال: " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا (1) " الآية. ثم بين في سورة " النساء " وهي مدنية عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال: " وقد نزل عليكم في الكتاب " الآية (2). فألحق من جالسهم بهم. وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس (3) أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا: ينهي عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم. وقد حمل عمر بن عبد العزيز الحد على مجالس شربة الخمر، وتلا " إنكم إذا مثلهم ". قيل له (4): فإنه يقول إني أجالسهم لأباينهم وأرد عليهم. قال (4) ينهى عن مجالستهم، فإن لم ينته ألحق بهم. قوله تعالى: ثم ءاتينا موسى الكتب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154) وهذا كتب أنزلنه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155) قول تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب) مفعولان. (تماما) مفعول من أجله أو مصدر. (على الذين أحسن) قرئ بالنصب والرفع. فمن رفع - وهي قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق - فعلى تقدير: تماما على الذي هو أحسن. قال المهدوي: وفيه بعد من أجل حذف المبتدأ العائد على الذي. وحكى سيبويه عن الخليل أنه سمع " ما أنا بالذي قائل لك شيئا ". ومن نصب فعلى أنه فعل ماضي داخل في الصلة، هذا قول البصريين. وأجاز الكسائي والفراء (1) راجع ص 12 من هذا الجزء. (2) راجع ج 5 ص 417. (3) في ك: مجالسه. (4) كذا في ك. وفي ب وج وز وى: قيل لهم. قالوا. (*)
[ 143 ]
أن يكون اسما نعتا للذي. وأجازا " مررت بالذي أخيك " ينعتان الذي بالمعرفة وما قاربها. قال النحاس: وهذا محال عند البصريين، لأنه نعت للاسم قبل أن يتم، والمعنى عندهم: على المحسن. قال مجاهد: تماما على المحسن المؤمن. وقال الحسن في معنى قول: " تماما على الذين أحسن " كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماما على المحسنين. والدليل على صحة هذا القول أن ابن مسعود قرأ: " تماما على الذين أحسنوا ". وقيل: المعنى أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما كان علمه الله قبل نزول التوراة عليه. قال محمد بن يزيد: فالمعنى " تماما على الذي أحسن " أي تماما على الذي أحسنه الله عز وجل إلى موسى عليه السلام من الرسالة وغيرها. وقال عبد الله بن زيد: معناه على إحسان الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام (من الرسالة (1) وغيرها). وقال الربيع بن أنس: تماما على إحسان موسى من طاعته لله عز وجل، وقاله الفراء. ثم قيل: " ثم " يدل على أن الثاني بعد الأول، وقصة موسى صلى الله عليه وسلم وإتيانه الكتاب قبل هذا، فقيل: " ثم " بمعنى الواو، أي وآتينا موسى الكتاب، لأنهما حرفا عطف. وقيل: تقدير الكلام ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ثم أتل ما آتينا موسى تماما. " وتفصيلا " عطف عليه. وكذا " وهدى ورحمة " " وهذا كتاب " ابتداء وخبر. " أنزلناه مبارك " نعت، أي كثير الخيرات. ويجوز في غير القرآن " مباركا " على الحال. " فاتبعوه " أي أعملوا بما فيه. " واتقوا " أي اتقوا تحريفه. " لعلكم ترحمون " أي لتكونوا راجين للرحمة فلا تعذبون. قوله تعالى: أن تقولوا إنما أنزل الكتب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينه من ربكم وهدى ورحمه فمن أظلم ممن كذب بئايت الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن ءايتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (157) (1) من ب وج وك. (*)
[ 144 ]
قوله تعالى: (أن تقولوا) في موضع نصب. قال الكوفيون. لئلا تقولوا. وقال البصريون: أنزلناه كراهية أن تقولوا. وقال الفراء والكسائي: المعنى فاتقوا أن تقولوا يا أهل مكة. (أنما أنزل الكتاب) أي التوراة والإنجيل. (على طائفين من قبلنا) أي على اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا كتاب. (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) أي عن تلاوة كتبهم وعن لغاتهم. ولم يقل عن دراستهما، لأن كل طائفة جماعة. (أو تقولوا) عطف على " أن تقولوا ". (فقد جاءكم بينه من ربكم) أي قد زال العذر بمجئ محمد صلى الله عليه وسلم. والبينة والبيان واحد، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، سماه سبحانه بينة. (وهدى ورحمة) أي لمن أتبعه. ثم قال: (فمن أظلم) أي فإن كذبتم فلا أحد أظلم منكم. (صدف) أعرض، يصدفون (يصدفون) يعرضون. وقد تقدم (1). قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملئكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض ءايت ربك يوم يأتي بعض ءايت ربك لا ينفع نفسا إيمنها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمنها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون (158) قوله تعالى: (هل ينظرون) معناه أقمت عليهم الحجة وأنزلت عليهم الكتاب فلم يؤمنوا، فماذا ينتظرون. (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) أي عند الموت لقبض أرواحهم. (أو يأتي ربك) قال ابن عباس والضحاك: أمر ربك فيهم بالقتل أو غيره، وقد يذكر المضاف إليه والمراد به المضاف، كقول تعالى: " واسأل القرية (2) " يعني أهل القرية. وقوله: " وأشربوا في قلوبهم العجل (3) " أي حب العجل. كذلك هنا: يأتي أمر ربك، أي عقوبة ربك وعذاب ربك. ويقال: هذ من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. وقد تقدم القول (1) راجع ج 6 ص 428. (2) راجع ج 9 ص 245. (3) راجع ج 2 ص 31. (*)
[ 145 ]
في مثله في " البقرة " وغيرها (أو يأتي بعض آيات ربك) قيل: هو طلوع الشمس من مغربها. بين بهذا أنهم يمهلون في الدنيا فإذا ظهرت الساعة فلا إمهال. وقيل: إتيان الله تعالى مجيئه لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، كما قال تعالى: " وجاء ربك والملك صفا (1) صفا " وليس مجيئه تعالى حركة ولا انتقالا ولا زوالا، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا. والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: يجئ وينزل ويأتي. ولا يكيفون، لأنه " ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (2) " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض). وعن صفوان بن عسال المرادي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمغرب باب مفتوحا للتوبة مسيرة سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه). أخرجه الدارقطني والدارمي (3) والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال سفيان (4): قبل الشام، خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض. (مفتوحا) يعني للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. قال: حديث حسن صحيح. قلت: وكذب بهذا كله الخوارج (5) والمعتزلة كما تقدم. وروى ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب فقال (6): أيها الناس، إن الرجم حق فلا تخدعن عنه، وإن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم، وأن أبا بكر قد رجم وأنا قد رجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا (7). ذكر أبو عمر. وذكر الثعلبي في حديث فيه طول عن أبي هريرة عن النبي صلى الله (1) راجع ج 20 ص 55. (2) راجع ج 16 ص 7. (3) من ك. (4) سفيان: أحد رجال سند هذا الحديث. (5) إن أراد الإباضيه كزعمه فإن الرجم عندهم حكم ثابت إلى يوم القيامة لكن من السنه كما صح في مسند الربيع عن أبى الشعثاء جابر بن زيد، لا من القرآن. ولم يزالوا يرجمون في أمامتهم، ولا أنكروا طلوع الشمس من مغربها ولا خروج الدجال. (6) كذا في الأصول إلا في ك: يقول. والذى في الدا المنثور "... خطبنا عمر فقال. (7) امتحشوا: احترقوا. والمحش: احترق الجلد وظهور العظم. ويروى: " امتحشوا على ما لم يسم فاعله. (*)
[ 146 ]
عليه وسلم ما معناه: أن الشمس تحبس عن الناس - حين تكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويفشو المنكر فلا ينهى عنه - مقدار ليلة تحت العرش، كلما سجدت واستأذنت ربها تعالى من ابن تطلع لم يجئ (1) لها جواب حتى يوافيها القمر فيسجد معها، ويستأذن من أين يطلع فلا يجاء (2) إليهما جواب حتى يحبسا مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين فإذا تم لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله تعالى إليهما جبريل عليه السلام فيقول: (إن الرب سبحانه وتعالى يأمر كما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه، وأنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور) فيطلعان من مغاربهما أسودين، لا ضوء للشمس ولا نور للقمر، مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله (تعالى (3): " وجمع الشمس والقمر (4) " وقوله: " إذا الشمس كورت (4) " فيرتفعان كذلك مثل البعيرين المقرونين، فإذا ما الشمس والقمر سرة السماء وهي منصفها جاءهما جبريل (عليه (3) السلام) فأخذ بقرونهما وردهما إلى المغرب، فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة ثم يرد المصراعين، ثم يلتئم ما بينهما فيصير كأنه لم يكن بينهما صدع. فإذا أغلق باب التوبة لم تقبل لعبد بعد ذلك توبة، ولم تنفعه بعد ذلك حسنة يعملها، إلا من كان قبل ذلك محسنا فإنه يجري عليه ما كان عليه قبل ذلك اليوم، فذلك قول تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا). ثم إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما (5) كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان. قال العلماء: وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوعها من مغربها، لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته، كما لا تقبل توبة من حضره الموت. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل توبة (1) في ى ز: يخرج. وفى ب: فلا يحار إليها. (2) في ز: يجاب. وفى ب ك: يحار. (3) من ز ك. (4) راجع ج 19 ص 94 وص 225. (5) في ز: على ما. (*)
[ 147 ]
العبد ما لم يغرغر) أي تبلغ روحه رأس حلقه وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار، فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله. وعلى هذا ينبغي أن تكون توبة كل من شاهد ذلك أو كان كالمشاهد له مردودة ما عاش، لأن علمه بالله تعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبوعده (1) قد صار ضرورة. فإن أمتدت أيام الدنيا إلى أن ينسى الناس من هذا الأمر العظيم ما كان، ولا يتحدثوا عنه إلا قليلا، فيصير الخبر عنه خاصا وينقطع التواتر عنه، فمن أسلم في ذلك الوقت أو تاب قبل منه. والله أعلم. وفي صحيح مسلم عن عبد الله قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا). وفيه عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفة ونحن أسفل منه، فأطلع إلينا فقال: (ما تذكرون) ؟ قلنا: الساعة. قال: إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات. خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس). قال شعبة: وحدثني عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة مثل ذلك، لا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أحدهما في العاشرة: ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: وريح تلقي الناس في البحر. قلت: وهذا حديث متقن (2) في ترتيب العلامات. وقد وقع بعضها وهي الخسوفات على ما ذكر أبو الفرج الجوزي من وقوعها بعراق العجم والمغرب. وهلك، بسببها خلق كثير، ذكره في كتاب فهوم الآثار وغيره. ويأتي ذكر الدابة في " النمل (3) ". ويأجوج ومأجوج في " الكهف (4) ". ويقال: إن الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاما فعاما. وقيل: إن الحكم في طلوع الشمس من مغربها أن إبراهيم عليه السلام قال لنمروذ: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها (1) في ك: توعه. (2) كذا في ا ول. وفى ب وج وك وى: متفق. وفى ز: متفق عليه. (3) راجع ج 13 ص 234. (4) راجع ج 11 ص 55. (*)
[ 148 ]
من المغرب فبهت الذي كفر (1) " وأن الملحدة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون: هو غير كائن، فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته أن الشمس في ملكه، إن شاء أطلعها من المشرق وإن شاء أطلعها من المغرب. وعلى هذا يحتمل أن يكون رد التوبة والإيمان على من آمن وتاب من المنكرين لذلك المكذبين لخبر النبي صلى الله عليه وسلم بطلوعها، فأما المصدقون لذلك فإنه تقبل توبتهم وينفعهم إيمانهم قبل ذلك. وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال: لا يقبل من كافر (2) عمل ولا توبة إذا أسلم حين يراها، إلا من كان صغيرا يومئذ، فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل ذلك منه. ومن كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنب قبل منه. وروي عن عمران بن حصين أنه قال: إنما لم تقبل (توبته (3)) وقت طلوع (الشمس (3)) حين تكون صيحة فيهلك فيها كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته، ذكره أبو الليث السمر قندي في تفسيره. وقال عبد الله بن عمر: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتى يغرسوا النحل. والله بغيبه أعلم. وقرأ ابن عمر وابن الزبير (4) " يوم تأتي " بالتاء، مثل " تلقطه بعض السيارة (5) ". وذهبت بعض أصابعه. وقال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع (6) قال المبرد: التأنيث على المجاورة لمؤنث لا على الأصل. وقرأ ابن سيرين " لا تنفع " بالتاء. قال أبو حاتم: يذكرون أن هذا غلط من ابن سيرين. قال النحاس: في هذا شئ دقيق من النحو ذكره سيبويه، وذلك أن الإيمان والنفس كل واحد منهما مشتمل على الآخر فأنث الإيمان إذ هو من النفس وبها، وأنشد سيبويه: مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم (7) (1) راجع ج 3 ص 283. (2) في ك: إيمانه ولا توبته ولا عمل. (3) من ك. (4) في ك: ابن مسعود. (5) راجع ج 9 ص 131. (6) وصف مقتل الزبير بن العوام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصراف يوم الجمل وقتل في الطريق غيله. (7) البيت لذى الرمة. وصف نساء، فيقول: إذا مشين اهتززن في مشين وتثنين فكأنهن رماح نصب فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت. (*)
[ 149 ]
قال المهدوي: وكثيرا ما يؤنثون فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه منه أو به، وعليه قول ذي الرمة: * مشين... البيت فأنث المر لإضافته إلى الرياح وهي مؤنثة، إذ كان المر من الرياح. قال النحاس: وفيه قول آخر وهو أن يؤنث الإيمان لأنه مصدر كما يذكر المصدر المؤنث، مثل " فمن جاءه موعظة من ربه (1) " وكما قال (2): * فقد عذرتنا في صحابته العذ * ففي أحد الأقوال أنث العذر لأنه بمعنى المعذرة. " قل انتظروا إنا منتظرون " بكم العذاب. قوله تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159) قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم) قرأه حمزة والكسائي (فارقوا (3)) بالألف، وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، من المفارقة والفراق. على معنى أنهم تركوا دينهم وخرجوا عنه. وكان علي يقول: والله ما فرقوه ولكن فارقوه. وقرأ الباقون بالتشديد، إلا النخعي فإنه قرأ " فرقوا " مخففا، أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض. والمراد اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك. وقد وصفوا بالتفرق، قال الله تعالى: " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة (4) ". وقال: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله (5) ". وقيل: عنى المشركين، عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة. وقيل: الآية عامة في جميع الكفار. وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر الله عز وجل به فقد فرق دينه. وروي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " إن الذين فرقوا دينهم " هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة. وروي بقية بن الوليد (1) راجع ج 3 ص 359. (2) البيت لحاتم وهو في ديوانه واللسان: أمنوي قد ضال التجنب والهجر * وقد عذرتني في طلابكم العذر. (3) من ك. (4) راجع ج 20 ص 143. (5) راجع ج 6 ص 5. (*)
[ 150 ]
حدثنا شعبة بن الحجاج حدثنا مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا إنما هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليس لهم توبة وأنا برئ منهم وهم منا برآء). وروى ليث بن أبي سليم عن طاوس عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " إن الذين فارقوا دينهم ". ومعنى (شيعا) فرقا وأحزابا. وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. (لست منهم في شئ) فأوجب براءته منهم، وهو كقول عليه السلام: (من غشنا فليس منا) أي نحن برآء منه. وقال الشاعر: إذا حاولت في أسد فجورا * فإني لست منك ولست مني (1) أي أنا أبرأ منك. وموضع " في شئ " نصب على الحال من المضمر الذي في الخبر، قاله أبو علي. وقال الفراء هو على حذف مضاف، المعنى لست من عقابهم في شئ، وإنما عليك الإنذار (2). (إنما أمرهم إلى الله) تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (160) قوله تعالى: (من جاء بالحسة) ابتداء، وهو شرط، والجواب (فله عشر أمثالها) فله عشر حسنات أمثالها، فحذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها، جمع مثل وحكى سيبويه: عندي عشرة نسابات، أي عندي عشرة رجال نسابات. وقال أبو علي: حسن التأنيث في " عشر أمثالها " لما كان الأمثال مضافا إلى مؤنث، والإضافة إلى المؤنث إذا كان إياه في المعنى يحسن فيه ذلك، نحو " تلقطه بعض السيارة ". (1) البيت للنابغه الذبيانى. يقول هذا لعيينه بن حصن الفزارى. وكان قد دعاه وقومه إلى مقاطعة بنى أسد ونقض حلفهم فأبى عليه وتوعده بهم. وأراد بالفجور نقض الحلف (عن شرح الشواهد). (2) في ز: البلاغ. (*)
[ 151 ]
وذهبت بعض أصابعه (1). وقرأ الحسن وسعيد بن جبير والأعمش " فله عشر أمثالها ". والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، أي له من الجزاء عشرة أضعاف مما يجب له. ويجوز أن يكون له مثل، ويضاعف المثل فيصير عشرة. والحسنة هنا: الإيمان. أي من جاء بشهادة أن لا إله إلا الله فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب. (ومن جاء بالسيئه) يعني الشرك (فلا يجزى إلا مثلها) وهو الخلود في النار، لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة، فذلك قول تعالى: " جزاء وفاقا (2) " يعني جزاء وافق العمل. وأما الحسنة فبخلاف ذلك، لنص الله تعالى على ذلك. وفي الخبر (الحسنة بعشر أمثالها وأزيد والسيئة واحدة وأغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره). وروى الأعمش عن أبي صالح قال: الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك. (وهم لا يظلمون) أي لا ينقص ثواب أعمالهم. وقد مضى في " البقرة (3) " بيان هذه الآية، وأنها مخالفة للإنفاق في سبيل الله، ولهذا قال بعض العلماء: العشر لسائر الحسنات والسبعمائة للنفقة في سبيل الله، والخاص والعام فيه سواء. وقال بعضهم: يكون للعوام عشرة وللخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى، وهذا يحتاج إلى توقيف. والأول أصح، لحديث خريم بن فاتك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (وأما حسنة بعشر فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها وأما حسنة بسبعمائة فالنفقة في سبيل الله). قوله تعالى: قل إننى هديني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161) قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163) (1) في ك: بعض أصحابه. (2) راجع ج 19 ص 179. (3) راجع ج 3 ص 240 و 305. (*)
[ 152 ]
فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (قل إننى هداني ربى إلى صراط مستقيم) لما بين تعالى أن الكفار تفرقوا بين أن الله هداه إلى الدين المستقيم وهو دين إبراهيم (دينا) نصب على الحال، عن قطرب. وقيل: نصب " بهداني " عن الأخفش. (قال (1)) غيره: انتصب حملا على المعنى، لأن معنى هداني عرفني دينا. ويجوز أن يكون بدلا من الصراط، أي هداني صراطا مستقيما دينا. وقيل: منصوب بإضمار فعل، فكأنه قال: اتبعوا دينا، وأعرفوا دينا. (قيما) قرأه الكوفيون وابن عامر (2) بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء، مصدر كالشبع فوصف به. والباقون بفتح القاف وكسر الياء وشدها، وهما لغتان. وأصل الياء الواو " قيوم " ثم أدغمت الواو في الياء كميت. ومعناه دينا مستقيما لا عوج فيه (ملة إبراهيم) بدل (حنيفا) قال الزجاج: هو حال من إبراهيم. وقال علي بن سليمان: هو نصب بإضمار أعنى. الثانية - قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكى) قد تقدم اشتقاق لفظ الصلاة (3). وقيل: المراد بها هنا صلاة الليل. وقيل: صلاة العيد. والنسك جمع نسيكة، وهي الذبيحة، وكذلك قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم. والمعنى: ذبحي في الحج والعمرة. وقال الحسن: نسكي ديني. وقال الزجاج: عبادتي، ومنه الناسك الذي يتقرب إلى الله بالعبادة. وقال قوم: النسك في هذه الآية جميع أعمال (البر (4)) والطاعات، من قولك نسك فلان فهو ناسك، إذا تعبد. (ومحياى) أي ما أعمله في حياتي (ومماتي) أي ما أوصي به بعد وفاتي. لله رب العالمين أي أفرده بالتقرب بها إليه. وقيل: " ومحياي ومماتي لله " أي حياتي وموتي له. وقرأ الحسن: " نسكي " بإسكان السين. وأهل المدينة " ومحياي " بسكون الياء في الإدراج. والعامة بفتحها، لأنه يجتمع ساكنان. قال النحاس: لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن قبله ألفا، والألف المدة التي فيها تقوم مقام الحركة. وأجاز يونس آضربان زيدا، وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني (1) من ك. (2) في ك: والكسائي. لكن في البحر وقرأ باقى السبعة: قيما كسپد. (3) راجع ج 1 ص 168. (4) من ك. (*)
[ 153 ]
إدغام، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على " محياي " فيكون غير لاحن عند جميع النحويين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري " ومحيي " بتشديد الياء الثانية من غير ألف، وهي لغة عليا مضر يقولون: قفي وعصي. وأنشد أهل اللغة: سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم (1) وقد تقدم. الثالية - قال الكيا الطبري: قول تعالى: " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم " إلى قوله: " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " استدل به الشافعي على افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل في كتابه، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين - إلى قوله - وأنا من المسلمين). قلت: روي مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيقا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك. تباركت وتعاليت. أستغفرك وأتوب إليك). الحديث. وأخرجه الدارقطني وقال في آخره: بلغنا عن النضر بن شميل وكان من العلماء باللغة وغيرها قال: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (والشر ليس إليك) الشر ليس مما (1) هذا صدر بيت لأبى ذؤيب. وعجزه كما في ج 1 ص 328. * فتخرموا ولكل جنب مصرع * (*)
[ 154 ]
يتقرب به إليك. قال مالك: ليس التوجيه في الصلاة بواجب على الناس، والواجب عليهم التكبير ثم القراءة. قال ابن القاسم: لم ير مالك هذا الذي يقوله الناس قبل القراءة: سبحانك اللهم وبحمدك. وفي مختصر ما ليس في المختصر: أن مالكا كان يقوله في خاصة نفسه، لصحة الحديث به، وكان لا يراه للناس مخافة أن يعتقدوا وجوبه. قال أبو الفرج الجوزي: وكنت أصلى وراء شيخنا أبي بكر الدينوري الفقيه في زمان الصبا، فرآني مرة أفعل هذا فقال: يا بني، إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ولم يختلفوا أن الافتتاح سنه، فاشتغل بالواجب ودع السنن. والحجة لمالك قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي علمه الصلاة: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ) ولم يقل له سبح كما يقول أبو حنيفة، ولا قل وجهت وجهي، كما يقول الشافعي. وقال لأبي: (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة) ؟ قال: قلت الله أكبر الحمد لله رب العالمين. فلم يذكر توجيها ولا تسبيحا. فإن قيل: فإن عليا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله. قلنا: يحتمل أن يكون قاله قبل التكبير ثم كبر، وذلك حسن عندنا. فإن قيل: فقد روى النسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح (1) الصلاة كبر ثم يقول: (إن صلاتي ونسكي) الحديث قلنا: هذا نحمله على النافلة في صلاة الليل، كما جاء في كتاب النسائي عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح (2) الصلاة بالليل قال: (سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك). أو في النافلة مطلقا، فإن النافلة أخف من الفرض، لأنه يجوز أن يصليها قائما وقاعدا وراكبا، وإلى القبلة وغيرها في السفر، فأمرها أيسر. وقد روى النسائي عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا قال: (الله أكبر. وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك). ثم يقرأ. وهذا نص في التطوع لا في الواجب. وإن صح أن ذلك كان في الفريضة بعد التكبير، فيحمل (1) في ك وى استفتح. (2) في ك وز وب: استفتح. (*)
[ 155 ]
على الجواز والاستحباب، وأما المسنون فالقراءة بعد التكبير، والله بحقائق الأمور عليم. ثم إذا قال فلا يقل: " وأنا أول المسلمين ". وهي: الرابعة - إذ ليس أحدهم بأولهم إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: أو ليس إبراهيم والنبيون قبله ؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة: الأول: أنه أول الخلق أجمع معنى، كما في حديث أبي هريرة من قوله عليه السلام: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة). وفي حديث حذيفة (نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق) الثاني: أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم، قال الله تعالى: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح (1) ". قال قتادة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث (2). فلذلك وقع ذكره هنا مقدما قبل نوح وغيره. الثالث: أول المسلمين من أهل ملته، قال ابن العربي وهو قول قتادة وغيره. واختلفت الروايات في " أول " ففي بعضها ثبوتها وفي بعضها لا، على ما ذكرنا. وروى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك في أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ثم قولي: " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ". قال عمران: يا رسول الله، هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال: (بل للمسلمين عامة). قوله تعالى: قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون قوله تعالى: (قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ) أي مالكه. روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، وأترك ما أنت (1) راجع ج 14 ص 126. (2) الحديث في كشف الخفا: " كنت أول البنين " الحديث وفيه مبحث قيم. ج 2 ص 129. (*)
[ 156 ]
عليه، ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت الآية. وهي استفهام يقتضي التقرير والتوبيخ. و " غير " نصب " بأبغي " و " ربا " تمييز. قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " أي لا ينفعني في ابتغاء رب غير الله كونكم على ذلك، إلا تكسب كل نفس إلا عليها، أي لا يؤخذ بما أتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها. الثانية: وقد استدل بعض العلماء من المخالفين بهذه الآية على أن بيع الفضولي لا يصح، وهو قول الشافعي. وقال علماؤنا: المراد من الآية تحمل الثواب والعقاب دون أحكام الدنيا، بدليل قول تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " على ما يأتي. وبيع الفضولي عندنا موقوف على إجازة المالك، فإن أجازه جاز. هذا عروة البارقي قد باع للنبي صلى الله عليه وسلم واشترى وتصرف بغير أمره، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال أبو حنيفة. وروى البخاري والدارقطني عن عروة بن أبي الجعد قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب (1) فأعطاني دينارا وقال: (أي عروة ايت الجلب فاشتر لنا شاة بهذا الدينار) فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما - أو قال أقودهما - فلقينى رجل في الطريق فساومني فبعته إحدى الشاتين بدينار، وجئت بالشاة الأخرى وبدينار، فقلت: يا رسول الله، هذه الشاة وهذا ديناركم. قال: (كيف صنعت) ؟ فحدثته الحديث. قال: (اللهم بارك له في صفقة يمينه). قال: فلقد رأيتني أقف في كناسة (2) الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي. لفظ الدارقطني. قال أبو عمر: وهو حديث جيد، وفيه (3) صحة ثبوت النبي صلى الله عليه وسلم للشاتين (4)، ولو لا ذلك ما أخذ منه الدينار ولا أمضى له البيع. وفيه دليل على جواز الوكالة، ولا خلاف فيها بين العلماء. فإذا قال الموكل لو كيله: اشتر كذا، فاشترى زيادة على ما وكل به فهل يلزم ذلك الأمر أم لا ؟. كرجل قال لرجل: أشتر بهذا (1) الجلب (بالتحريك): ما جلب القوم من غنم وغيره. (2) محله بالكوفة يشبه أن تكون سوقا. (3) في ج: في صحته ثبوت. (4) في ك: للشارين. (*)
[ 157 ]
الدرهم رطل لحم، صفته كذا، فاشترى له أربعة أرطال من تلك الصفة بذلك الدرهم. فالذي عليه مالك وأصحابه أن الجميع يلزمه إذا وافق الصفة ومن جنسها، لأنه محسن. وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: الزيادة للمشتري. وهذا الحديث حجة عليه. قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) " أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها. وأصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى: " ووضعنا عنك وزرك (1) ". وهو هنا الذنب، كما قال تعالى: " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ". وقد تقدم (2). قال الأخفش: يقال وزر يوزر، ووزر يزر، ووزر يوزر وزرا. ويجوز إزرا، كما يقال: إسادة (3). والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أو زاركم، ذكره ابن عباس. وقيل: إنها نزلت ردا على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وبابنه وبجريرة حليفه. قلت: ويحتمل أن يكون المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها، فأما التي (4) في الدنيا فقد يؤاخذ فيها بعضهم بجرم بعض، لا سيما إذا لم ينه الطائعون العاصين، كما تقدم في حديث أبي بكر في قول: " عليكم أنفسكم (2) ". وقوله تعالى: " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة (5) ". " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (6) ". وقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث). قال العلماء: معناه أولاد الزنى. والخبث (بفتح الباء) اسم للزنى. فأوجب الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ على العاقلة حتى لا يطل (7) دم الحر (8) المسلم تعظيما للدماء. وأجمع أهل العلم على ذلك من غير خلاف بينهم في ذلك ز، فدل على ما قلناه. وقد يحتمل أن يكون هذا في الدنيا، في ألا يؤاخذ زيد بفعل عمرو، وأن كل مباشر لجريمة فعليه مغبتها. وروى أبو داود عن أبي رمثة قال، انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي (1) راجع ج 20 ص 105. (2) راجع ج 6 ص 413 وص 342. (3) في قولهم: وسادة. (4) من ز. (5) راجع ص 391 من هذا الجزء. (6) راجع ج 9 ص 291. (7) طل دمه: ذهب هدرا. (8) في ك: المرء. (*)
[ 158 ]
صلى الله عليه وسلم قال لأبي: (ابنك هذا) ؟ قال: إي ورب الكعبة. قال: (حقا). قال: أشهد به. قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا من ثبت (1) شبهي في أبي، ومن حلف أبي علي. ثم قال: (أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه). وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا تزر وازرة وزر أخرى ". ولا يعارض ما قلناه أولا بقوله: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم (2) "، فإن هذا مبين في الآية الأخرى قوله: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم (3) ". فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل (4) شئ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وهو الذى جعلكم خلئف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجت ليبلوكم في ما ءاتكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغور رحيم (165) قوله تعالى: (وهو الذى جعلكم خلائف الأرض " خلائف " جمع خليفة، ككرائم جمع كريمة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. أي جعلكم خلفا للأمم الماضية والقرون السالفة. قال الشماخ: تصيبهم وتخطئني المنايا * وأخلف في ربوع عن ربوع (ورفع بعضكم فوق بعض) في الخلق والرزق والقوة والبسطة والفضل والعلم. (درجات) نصب بإسقاط الخافض، أي إلى درجات. (ليبلوكم) نصب بلام كي. والابتلاء الاختبار، أي ليظهر منكم ما يكون غايته الثواب والعقاب. ولم يزل بعلمه غنيا، فأبتلي الموسر: بالغني وطلب منه الشكر، وأبتلي المعسر بالفقر وطلب منه الصبر. ويقال: " ليبلوكم " أي بعضكم ببعض. كما قال: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة (2) " على ما يأتي بيانه. ثم خوفهم (1) كذا في الأصول أي استقرار وفى سنن أبى داود: بين. (2) راجع ج 13 ص 330. وص 12. (3) راجع ج 10 ص 96. (4) في ك: المظلين. (*)
[ 159 ]
فقال: (إن ربك سريع العقاب) لمن عصاه. (وإنه لغفور رحيم) لمن أطاعه. وقال: " سريع العقاب " مع وصفه سبحانه بالإمهال، ومع أن عقاب النار في الآخرة، لأن كل آت قريب، فهو سريع على هذا. كما قال تعالى: " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب (1) ". وقال " يرونه بعيدا. ونراه قريبا (2) ". ويكون أيضا سريع العقاب لمن استحقه في دار الدنيا، فيكون تحذير المواقع (3) الخطيئة على هذه الجهة. والله أعلم. تمت سورة الأنعام بحمد الله تعالى وصلواته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا (4). (1) راجع ج 10 ص 150. (2) راجع ج 18 ص 283. (3) في ز: لمواقعة. (4) من ك. (*)
[ 160 ]
بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة الأعراف وهي مكية، إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى: " واسألهم عن القرية " إلى قوله: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم (1) ". وروى النسائي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرقها في ركعتين. صححه أبو محمد عبد الحق. قوله تعالى: المص (1) كتب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) قوله تعالى: (المص) تقدم في أول البقره (2) وموضعه رفع بالابتدك. و " كتاب " خبره. كأنه قال: " المص " حروف " كتاب أنزل إليك " وقال الكسائي: أي هذا كتاب. قوله تعالى: (فلا يكن في صدرك حرج منه) فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: " حرج " أي ضيق، أي لا يضيق صدرك بالإبلاغ، لأنه روي عنه عليه السلام أنه قال: (إني أخاف أن يثلغوا (3) رأسي فيدعوه خبزة) الحديث. خرجه مسلم. قال الكيا: فظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه، أي لا يضيق صدرك ألا يؤمنوا به، فإنما عليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به من شئ من إيمانهم (1) راجع ص 304. فما بعد. (2) راجع ج 1 ص 154. (3) كذا في الأصول. والذى في صحيح مسلم: إذا يثلغوا رأسي. راجع صحيح مسلم. كتاب الجنة، باب الصفات التى يصرف بها أهل الجنه وأهل النار. والثلغ: الشدخ. وقيل: هو ضربك الشئ الرطب بالشى اليابس حتى ينشدخ. وفى النهايه: إذن يثغلوا رأسي كما تثلغ الخبزة. (*)
[ 161 ]
أو كفرهم، ومثله قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك (1) " الآية. وقال: " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (2) ". ومذهب مجاهد وقتادة أن الحرج هنا الشك، وليس هذا شك الكفر إنما هو شك الضيق. وكذلك قوله تعالى: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (1) ". وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وفيه بعد. والهاء في " منه " للقرآن. وقيل: للإنذار، أي أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه. فالكلام فيه تقديم وتأخير. وقيل للتكذيب الذي يعطيه قوة الكلام. أي فلا يكن في صدرك ضيق من تكذيب المكذبين له. الثانيه - قوله تعالى: " وذكرى " يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض. فالرفع من وجهين، قال البصريون: هي رفع على إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: عطف على " كتاب " والنصب من وجهين، على المصدر، أي وذكر به ذكرى، قال البصريون. وقال الكسائي: عطف على الهاء في " أنزلناه (3) ". والخفض حملا على موضع " لتنذر به " والإنذار للكافرين، والذكرى للمؤمنين، لأنهم المنتفعون به. قوله تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3) فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) يعني الكتاب والسنة. قال الله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (4) ". وقالت فرقة: هذا أمر يعم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. والظاهر أنه أمر لجميع الناس دونه. أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص. (1) راجع ج 10 ص 353 وص 63. (2) راجع ج 13 ص 89. (3) كذا في الأصول. وفى السمين: إنها حال من الضمير في أنزل. وقال: هذا سهو. (4) راجع ج 18 ص 17. (*)
[ 162 ]
الثانيه - قوله تعالى: (ولا تتبعوا من دونه أولياء) " من دونه " من غيره. والهاء تعود على الرب سبحانه، والمعنى: لا تعبدوا معه غيره، ولا تتخذوا من عدل عن دين الله وليا. وكل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه. وروي عن مالك بن دينار أنه قرأ " ولا تبتغوا من دونه أولياء " أي ولا تطلبوا. ولم ينصرف " أولياء " لأن فيه ألف التأنيث. وقيل: تعود على " ما " من قوله: " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ". (قليلا ما تذكرون) " ما " زائدة. وقيل: تكون مع الفعل مصدرا. قوله تعالى: وكم من قريه أهلكنها فجاءها بأسنا بيتا أو هم قائلون فما كان دعويهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظلمين قوله تعالى: (وكم من قريه أهلكناها) " كم " للتكثير، كما أن " رب " للتقليل. وهي في موضع رفع بالابتداء، و " أهلكنا " الخبر. أي وكثير من القرى - وهي مواضع أجتماع الناس - أهلكناها. ويجوز النصب بإضمار فعل بعدها، ولا يقدر قبلها، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. ويقوي الأول قوله: " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح (1) " ولو لا اشتغال " أهلكنا " بالضمير لانتصب به موضع " كم ". ويجوز أن يكون " أهلكنا " صفة للقرية، و " كم " في المعنى هي القرية، فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم. يدل على ذلك قوله تعالى: " وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا " فعاد الضمير على " كم ". على المعنى، إذ كانت الملائكة في المعنى. فلا يصح على هذا التقدير أن يكون " كم " في موضع نصب بإضمار فعل بعدها. " فجاءها بأسنا " فيه إشكال للعطف بالفاء. فقال الفراء: الفاء بمعنى الواو، فلا يلزم الترتيب. وقيل: أي وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، كقوله: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (2) ". وقيل: إن (1) راجع ج 10 ص 235 وص 174. (2) راجع ج 17 ص 103. (*)
[ 163 ]
الهلاك. واقع ببعض القوم، فيكون التقدير: وكم من قرية أهلكنا بعضها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع. وقيل: المعنى وكم من قرية أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا. وقيل: أهلكناها بإرسالنا ملائكة العذاب إليها، فجاءها بأسنا وهو الاستئصال. والبأس، العذاب الآتي على النفس. وقيل: المعنى أهلكناها فكان إهلاكنا إياهم في وقت كذا، فمجئ البأس على هذا هو الإهلاك. وقيل: البأس غير الإهلاك، كما ذكرنا. وحكى الفراء أيضا أنه إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، مثل دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء، وأساء فشتمني، لأن الإساءة والشتم شئ واحد. وكذلك قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر (1) ". المعنى - والله أعلم - انشق القمر فاقتربت الساعة. والمعنى واحد. " بياتا " أي ليلا، ومنه البيت، لأنه يبات فيه. يقال: بات يبيت بيتا وبياتا. أوهم قائلون أي " أو هم قائلون " أي أو وهم قائلون، فاستثقلوا فحذفوا الواو، قاله الفراء. وقال الزجاج: هذا خطأ، إذا عاد الذكر استغني عن الواو، تقول: جاءني زيد راكبا أو هو ماش، ولا يحتاج إلى الواو. قال المهدوي: ولم يقل بياتا أو وهم قائلون لأن في الجملة ضميرا يرجع إلى الأول فاستغني عن الواو. وهو معنى قول الزجاج سواء، وليس أو للشك بل للتفصيل، كقولك: لأكرمنك منصفا لي أو ظالما. وهذه الواو تسمى عند النحويين واو الوقت. و " قائلون " من القائلة وهي القيلولة، وهي نوم نصف النهار وقيل: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم. والمعنى جاءهم عذابنا وهم غافلون إما ليلا وإما نهارا. والدعوى الدعاء، ومنه قول: " وآخر دعواهم (2) ". وحكى النحويون: اللهم أشركنا في صالح دعوى من دعاك. وقد تكون الدعوى بمعنى الادعاء. والمعنى: أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين. " دعواهم " في موضع نصب خبر كان، واسمها " إلا أن قالوا ". نظيره (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا (3) (1) راجع ج 17 ص 125. (2) راجع ج 8 ص 313. (3) راجع ج 13 ص 219. (*)
[ 164 ]
ويجوز أن تكون الدعوى رفعا، و " أن قالوا " نصبا، كقول تعالى: " ليس البر أن تولوا (1) " برفع " البر " وقوله: " ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا (2) " برفع " عاقبة ". قوله تعالى: فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7) قوله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم) دليل على أن الكفار يحاسبون. وفي التنزيل " ثم إن علينا (3) حسابهم ". وفي سورة القصص " ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون (4) " يعني إذا استقروا في العذاب. والآخرة مواطن: موطن يسألون فيه للحساب. وموطن لا يسألون فيه. وسؤالهم تقرير وتوبيخ وإفضاح. وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح، أي عن جواب القوم لهم. وهو معنى قوله: " ليسأل الصادقين عن صدقهم (2) " على ما يأتي. وقيل: المعنى " فلنسألن الذين أرسل إليهم " أي الأنبياء " ولنسألن المرسلين " أي الملائكة الذين أرسلوا إليهم. واللام في " فلنسألن " لام القسم وحقيقتها التوكيد. كذا (فلقصن عليهم بعلم) قال ابن عباس: ينطق عليهم (5). (وما كنا غائبين) أي كنا شاهدين لأعمالهم. ودلت الآية على أن الله تعالى عالم بعلم. قوله تعالى: والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موزينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بئايتنا يظلمون (9) قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق) ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون " الحق " نعته، والخبر " يومئذ ". ويجوز نصب " الحق " على المصدر. والمراد بالوزن وزن أعمال العباد (1) راجع ج 2 ص 237. (2) راجع ج 14 ص 9 وص 129. (3) راجع ج 20 ص 37. (4) راجع ج 13 ص 315. (5) عبارة الطبري: " ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم. (*)
[ 165 ]
بالميزان. قال ابن عمر: توزن صحائف أعمال العباد. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي. وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. وقال مجاهد: الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها. وعنه أيضا والضحاك والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذكر الوزن ضرب مثل، كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن. قال الزجاج: هذا سائغ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيري: وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الذين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة. وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل. وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصا. قال ابن فورك: وقد أنكرت المعتزلة (1) الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها. ومن المتكلمين من يقول: إن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة. وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف. وقد روي في الخبر ما يحقق ذلك، وهو أنه روي (أن ميزان بعض بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رق مكتوب فيه " لا إله إلا الله " فيثقل). فقد علم أن لك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يوضع في كفتيه من الصحف التي فيها الأعمال. وفي صحيح مسلم عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى (2) ؟ قال سمعته يقول: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطي صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله). فقوله: (فيعطى صحيفة حسناته) (1) في ز: الإمامية. (2) يريد مناجاة الله تعالى للعبد يوم القيامة. (*)
[ 166 ]
دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن. وروى ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول الله تبارك وتعالى هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). زاد الترمذي (فلا يثقل مع اسم الله شئ) وقال: حديث حسن غريب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في " الكهف (1) والأنبياء (2) " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون " " موازينه " جمع ميزان، وأصله موزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله. ويمكن أن يكون ذلك ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع، كما تقول: خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن. وفي التنزيل: " كذبت قوم نوح المرسلين ". " كذبت عاد المرسلين (2) ". وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين. وقيل: الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان. أراد بالموازين الأعمال الموزونة. " ومن خفت موازينه " مثله. وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان كفتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته، فذلك قوله: " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون " ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار. وما أشار إليه (1) راجع ج 11 ص 66 وص 293. (2) راجع ج 13 ص 118 وص 122. (*)
[ 167 ]
ابن عباس قريب مما قيل: يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهرا فيقع الوزن على تلك الجواهر. ورده ابن فورك وغيره. وفي الخبر (إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صل الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي ! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت ؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها). ذكره القشيري في تفسيره. وذكر أن البطاقة (بكسر الباء) رقعة فيها رقم المتاع بلغة. أهل مصر. وقال ابن ماجة: قال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة، وأهل مصر يقولون للرقعة بطاقة. وقال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، يقول الله تعالى: (يا جبريل زن بينهم فرد من بعض على بعض). قال: وليس ثم ذهب ولا فضة، فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فرد على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم، فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم آبرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وأنظر ما يرفع إليك من أعمال بنيك فمن رجح خيره على شره مثقال حبة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالما). قوله تعالى: ولقد مكنكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معيش قليلا ما تشكرون (10) أي جعلناها لكم قرارا ومهادا، وهيأنا لكم فيها أسباب المعيشة. والمعايش جمع معيشة، أي ما يتعيش به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة. يقال: عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشا ومعيشة وعيشة. وقال الزجاج: المعيشة ما يتوصل به إلى العيش. ومعيشة في قول الأخفش وكثير من النحويين مفعلة. وقرأ الأعرج: " معائش " بالهمز. وكذا روى خارجة بن مصعب عن نافع. قال النحاس: والهمز لحن لا يجوز، لأن الواحدة معيشة، أصلها معيشة، فزيدت ألف الوصل وهي ساكنة والياء ساكنة، فلا بد من تحريك إذ لا سبيل
[ 168 ]
إلى الحذف، والألف لا تحرك فحركت الياء بما كان يجب لها في الواحد. ونظيره من الواو مناور ومناور، ومقام ومقاوم، كما قال الشاعر: وإني لقوام مقاوم لم يكن * جرير ولا مولى جرير يقومها وكذا مصيبة ومصاوب. هذا الجيد، ولغة شاذة مصائب. قال الأخفش: إنما جاز مصائب لأن الواحدة معتلة. قال الزجاج: هذا خطأ يلزمه عليه أن يقول مقائم. ولكن القول أنه مثل وسادة وإسادة. وقيل: لم يجز الهمز في معايش لأن المعيشة مفعلة، فالياء أصلية، وإنما يهمز إذا كانت الياء زائدة مثل مدينة ومدائن، وصحيفة وصحائف، وكريمة وكرائم، ووظيفة ووظائف، وشبهه. قوله تعالى: ولقد خلقنكم ثم صورنكم ثم قلنا للملئكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من السجدين (11) قوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) لما ذكر نعمه ذكر ابتداء خلقه. وقد تقدم معنى الخلق (1) في غير موضع. " ثم صورناكم " أي خلقناكم نطفا ثم صورناكم، ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره. وقال الأخفش: " ثم " بمعنى الواو. وقيل: المعنى " ولقد خلقناكم " يعني آدم عليه السلام، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم، على التقديم والتأخير. وقيل: " ولقد خلقناكم " يعني آدم، ذكر بلفظ الجمع لأنه أبو البشر. " ثم صورناكم " راجع إليه أيضا. كما يقال: نحن قتلناكم، أي قتلنا سيدكم. " ثم قلنا لملائكة اسجدوا لآدم " وعلى هذا لا تقديم ولا تأخير، عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى ولقد خلقناكم، يريد آدم وحواء، فآدم من التراب وحواء من ضلع من أضلاعه، ثم وقع التصوير بعد ذلك. فالمعنى: ولقد خلقنا أبويكم ثم صورناهما، قاله الحسن. وقيل: المعنى خلقناكم في ظهر آدم (1) راجع ج 1 ص 226، 251. (*)
[ 169 ]
ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. هذا قول مجاهد، رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح. قال النحاس: وهذا أحسن الأقوال. يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم، ثم صورهم حين أخذ عليهم الميثاق، ثم كان السجود بعد. ويقوي هذا " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم (1) ذريتهم ". والحديث (أنه أخرجهم أمثال الذر فأخذ عليهم الميثاق). وقيل: " ثم " للإخبار، أي ولقد خلقناكم يعني في ظهر آدم صلى الله عليه وسلم، ثم صورناكم أي في الأرحام. قال النحاس: هذا صحيح عن ابن عباس. قلت: كل هذه الأقوال محتمل، والصحيح منها ما يعضده التنزيل، قال الله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (2) " يعني آدم. وقال: " وخلق منها زوجها (3) ". ثم قال: " جعلناه " أي جعلنا نسله وذريته " نطفة في قرار مكين " الآية (2). فآدم خلق من طين ثم صور وأكوم بالسجود، وذريته صوروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء. وقد تقدم في أول سورة الأنعام (4) أن كل إنسان مخلوق من نطفة وتربة، فتأمله وقال هنا: " خلقناكم ثم صورناكم " وقال في آخر الحشر: " هو الله الخالق البارئ المصور (5) ". فذكر التصوير بعد البرء. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: معنى " ولقد خلقناكم " أي خلقنا الأرواح أولا ثم صورنا الأشباح آخرا. قوله تعالى: (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) استثناء من غير الجنس. وقيل: من الجنس. وقد اختلف العلماء: هل كان من الملائكة أم لا. كما سبق بيانه في البقرة (6). قوله تعالى: قال ما منعك ألا تسجد إذا أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12) (1) راجع ص 313 من هذا الجزء. (2) راجع ج 12 ص 108. (3) راجع ج د ص 1. (4) راجع ج 6 ص 388. (5) راجع ج 18 ص 48. (6) راجع ج 1 ص 29. (*)
[ 170 ]
فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ما منعك) " ما " في موضع رفع بالابتداء، أي أي شئ منعك. وهذا سؤال توبيخ. ألا تسجد في موضع نصب، أي من أن تسجد. و " لا " زائدة. وفي ص " ما منعك أن تسجد (1) " وقال الشاعر: أبي جوده لا البخل فاستعجلت به * نعم من فتى لا يمنع الجود نائله أراد أبي جوده البخل، فزاد " لا ". وقيل: ليست بزائدة، فان المنع فيه طرف من القول والدعاء، فكأنه قال: من قال لك ألا تسجد ؟ أو من دعاك إلى ألا تسجد ؟ كما تقول: قد قلت لك ألا تفعل كذا. وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد. قال العلماء: الذي أحوجه إلى ترك السجود هو الكبر والحسد، وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمر بذلك. وكان أمره من قبل خلق آدم، يقول الله تعالى: " إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (1) ". فكأنه دخله أمر عظيم من قوله " فقعوا له ساجدين ". فإن في الوقوع توضيع الواقع وتشريفا لمن وقع له، فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره في ذلك الوقت. فلما نفخ فيه الروح وقعت الملائكة سجدا، وبقي هو قائما بين أظهرهم، فأظهر بقيامه وترك السجود ما في ضميره. فقال الله تعالى: " ما منعك ألا تسجد " أي ما منعك من الانقياد لأمري، فأخرج سر ضميره فقال: " أنا خير منه ". الثانيه - قوله تعالى: (إذا أمرتك) يدل علما يقوله الفقهاء من أن الأمر يقتضي الوجوب بمطلقه من غير قرينة، لأن الذم علق على ترك الأمر المطلق الذي هو قوله عز وجل للملائكة: " اسجدوا لآدم " وهذا بين. الثالثة - قوله تعالى: (قال أنا خير منه) أي منعني من السجود فضلي عليه، فهذا من إبليس جواب على المعنى. كما تقول: لمن هذه الدار ؟ فيقول المخاطب: مالكها (1) راجع ج 15 ص 228 وص 227. (*)
[ 171 ]
زيد. فليس هذا عين الجواب، بل هو كلام يرجع إلى معنى الجواب. (خلقتني من نار وخلقته من طين) فرأى أن النار أشرف من الطين، لعلوها وصعودها وخفتها، ولأنها جوهر مضئ. قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس إبليس فأخطأ القياس. فمن قاس الدين برأيه قرنه مع إبليس. قال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين، وإن كانا في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق. فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: أحدها - أن من جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء، قال القفال. الثاني - إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا. الثالث - أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سببا للعذاب. الرابع - أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب. قلت - ومحتمل قولا خامسا وهو أن التراب مسجد وطهور، كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب، كما قال تعالى: " ذلك يخوف الله به عباده (1) ". وقال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وهو أول من قاس برأيه. والقياس في مخالفة النص مردود. الرابعة - واختلف الناس في القياس إلى قائل به، وراد له، فأما القائلون به فهم الصحابة والتابعون، وجمهور من بعدهم، وأن التعبد به جائز عقلا واقع شرعا، وهو الصحيح. (1) راجع ج 15 ص 243. (*)
[ 172 ]
وذهب القفال من الشافعية وأبو الحسين البصري إلى وجوب التعبد به عقلا. وذهب النظام إلى أنه يستحيل التعبد به عقلا وشرعا، ورده بعض أهل الظاهر. والأول الصحيح. قال البخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): المعنى لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو سنة نبيه أو في إجماع العلماء إذا وجد فيها الحكم فإن لم يوجد فالقياس. وقد ترجم على هذا (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمها ليفهم السائل). وترجم بعد هذا (باب الأحكام التي تعرف بالدلائل وكيف معنى الدلالة وتفسيرها). وقال الطبري: الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس، فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة. وقال أبو بكر: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا ؟ فقاس الإمامة على الصلاة. وقاس الصديق الزكاة على الصلاة وقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله. وصرح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر من الصحابة وقال: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد القاذف. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتابا فيه: الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، أعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق فيما ترى. الحديث بطوله ذكره الدارقطني. وقد قال أبو عبيدة لعمر (رضي الله (1) عنهما) في حديث الوباء، حين رجع عمر من سرغ (2): نفر من قدر الله ؟ فقال عمر: نعم ! نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم قال له عمر: أرأيت (3)... فقايسه وناظره بما يشبه من مسألته بمحضر المهاجرين والأنصار، وحسبك. وأما الآثار وأي القرآن في هذا المعنى فكثير. وهو يدل على أن القياس أصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين، يرجع إليه المجتهدون، ويفزع إليه العلماء العاملون، فيستنبطون (1) من ع. (2) موضع قرب الشام بين المغيثة وتبوك. (3) راجع الموطأ: " باب ما جاء في الطاعون ". (*)
[ 173 ]
به الأحكام. وهذا قول الجماعة الذين هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها. وأما الرأي المذموم والقياس المتكلف (1) المنهي عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول المذكورة، لأن ذلك ظن و (2) نزغ من الشيطان، قال الله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم (3) ". وكل ما يورده المخالف من الأحاديث الضعيفة والأخبار الواهية في ذم القياس فهي محمولة على هذا النوع من القياس المذموم، الذي ليس له في الشرع أصل معلوم. وتتميم هذا الباب في كتب الأصول. قوله تعالى: قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصغرين (13) قوله تعالى: (قال فاهبط منها) أي من السماء. (فما يكون لك أن تتكبر فيها لأن أهلها الملائكة المتواضعون. (فاخرج إنك من الصاغرين) أي من الأذلين. ودل هذا أن من عصى مولاه فهو ذليل. وقال أبو روق والبجلي: " فاهبط منها " أي من صورتك التي أنت فيها، لأنه افتخر بأنه من النار فشوهت صورته بالإظلام وزوال إشراقه. وقيل: " فاهبط منها " أي انتقل من الأرض إلى جزائر البحار، كما يقال: هبطنا أرض كذا أي انتقلنا إليها من مكان أخر، فكأنه أخرج من الأرض إلى جزائر البحار فسلطانه فيها، فلا يدخل الأرض إلا كهيئة السارق (4) يخاف فيها حتى يخرج منها. والقول الأول أظهر. وقد تقدم في البقره (5). قوله تعالى: قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15) سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب. طلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده، فقال الله تعالى: (إنك من المنظرين). قال ابن عباس والسدي وغيرها: (1) في ع: المشكل. (2) في ع: وغرور. وفى ب: نغز. وهو الإغراء. (3) راجع ج 10 ص 257. (4) في ب: السارى بالياء. (5) راجع ج 1 ص 327. (*)
[ 174 ]
أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين، فأبى الله ذلك عليه. وقال: " إلى يوم يبعثون " ولم يتقدم من يبعث، لأن القصة في آدم وذريته، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون. قوله تعالى: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صرطك المستقيم (16) ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمنهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شكرين (17) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (فبما أغويتني) الإغواء إيقاع الغي في القلب، أي فبما أوقعت في قلبي من الغي والعناد والاستكبار. وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل، بل هو كفر عناد واستكبار. وقد تقدم في البقره (1). قيل: معنى الكلام القسم، أي فبإغوائك إياي لأقعدن لهم على صراطك، أو في صراطك، فحذف. دليل على هذا القول قوله في (ص): " فبعزتك لأغوينهم أجمعين (2) " كأن إبليس أعظم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاما لقدره عنده. وقيل: الباء بمعنى اللام، كأنه قال: فلإغوائك إياي. وقيل: هي بمعنى مع، والمعنى فمع إغوائك إياي. وقيل: هو استفهام، كأنه سأل بأي شئ أغواه ؟. وكان ينبغي على هذا أن يكون: فبم أغويتني ؟. وقيل: المعنى فبما أهلكتني بلعنك إياي. والإغواء الإهلاك، قال الله تعالى: " فسوف يلقون غيا (3) " أي هلاكا. وقيل: فبما أضللتني. والإغواء: الإضلال والإبعاد، قال ابن عباس. وقيل: خيبتني من رحمتك، ومنه قول الشاعر (4): * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما * (1) راجع ج 1 ص 295. (2) راجع ج 15 ص 228. (3) راجع ج 11 ص 125. (4) هذا عجز بيت للرقش، وصدره كما في اللسان مادة غوى: * فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * (*)
[ 175 ]
أي من يخب. وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي (1) غيا إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه. وهو أحد معاني قول تعالى: " وعصى آدم ربه فغوى (2) " أي فسد عيشه في الجنة. ويقال: غوي الفصيل إذا لم يدر لبن أمه. الثانية - مذهب أهل السنة أي أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر، ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالى وهو الحقيقة، فلا شئ في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى. وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون: أخطأ إبليس، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالى الله عن ذلك. فيقال لهم: وإبليس وإن كان أهلا للخطأ فما تصنعون في نبي مكرم معصوم، وهو ونوح عليه السلام حيث قال لقومه: " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (3) " وقد روي أن طاوسا جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهما بالقدر، وكان من الفقهاء الكبار، فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام ؟ فقيل لطاوس: تقول هذا لرجل فقيه ! فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: رب بما أغويتني. ويقول هذا: أنا أغوي نفسي. الثالثه - قوله تعالى: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) أي بالصد عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يخيبوا كما خيب، حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة ف " أغويتني ". والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة. و " صراطك " منصوب على حذف " على " أو " في " من قوله: " صراطك المستقيم "، كما حكى سيبويه " ضرب زيد الظهر والبطن ". وأنشد: لدن بهز الكف يعسل متنه * فيه كما عسل الطريق الثعلب (4) (1) من ج. (2) راجع ج 11 ص 255. (3) راجع ج 9 ص 28. (4) البيت لساعدة بن جؤية. يريد في الطريق. وصف في البيت رمحا لين الهز فشبه اضطرابه في نفسه أو في حال هزه بعسلان الثعلب في سيره. والعسل العسلان (بالتحريك): سير سريع في اضطراب. واللدن: الناعم اللين. (عن شرح الشواهد). (*)
[ 176 ]
ومن أحسن ما قيل في تأويل (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) أي لأصدنهم (1) عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة. وهذا غاية في الضلالة. كما قال: " ولأضلنهم (2) " حسب ما تقدم. وروى سفيان عن منصور عن الحكم بن عتيبة: " من بين أيديهم " من دنياهم. " ومن خلفهم " من آخرتهم. " وعن أيمانهم " يعني حسناتهم. " وعن شمائلهم " يعني سيئاتهم. قال النحاس: وهذا قول حسن وشرحه: أن معنى " ثم لآتينهم من بين أيديهم " من دنياهم، حتى يكذبوا بما فيها (3) من الآيات وأخبار الأمم السالفة " ومن خلفهم " من آخرتهم حتى يكذبوا بها. " وعن أيمانهم " من حسناتهم وأمور دينهم. ويدل على هذا قوله: " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ". " وعن شمائلهم " يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات، لأنه يزينها لهم. (ولا تجد أكثرهم شاكرين) أي موحدين طائعين مظهرين الشكر. قوله تعالى: قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين قوله تعالى: (قال اخرج منها) أي من الجنة. (مذءوما مدحورا) " مذءوما " أي مذموما. والذأم: العيب، بتخفيف (4) الميم. قال ابن زيد: مذءوما ومذموما سواء، يقال: ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرأ الأعمش " مذوما ". والمعنى واحد، إلا أنه خفف الهمزة. وقال مجاهد: المذءوم المنفي. والمعنيان متقاربان. والمدحور: المبعد المطرود، عن مجاهد وغيره. وأصله الدفع. (لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) اللام لام القسم، والجواب " لأملأن جهنم ". وقيل: " لمن تبعك " لام توكيد. " لأملأن " لام قسم. والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز * (هامش) (1) في ج: لأضلنهم. (2) راجع ج 5 ص 389. (3) راجع ج 15 ص 73. (4) في ج: مما قبلها. (5) لا حاجة لهذا القيد: فإن الهمز كاف للفرق بيته وبين الذم. (*)
[ 177 ]
حذف الثانية. وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة، أي من تبعك عذبته. ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز، إلا أن تريد لأعذبه. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عياش " لمن تبعك منهم " بكسر اللام. وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره - والله أعلم - من أجل من تبعك. كما يقال: أكرمت فلانا لك. وقد يكون المعنى: الدحر لمن تبعك. ومعنى " منكم أجمعين " أي منكم ومن بني آدم، لأن ذكرهم قد جرى إذ قال: " ولقد خلقناكم " خاطب ولد آدم. قوله تعالى: ويئآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (91) قال لآدم بعد إخراج إبليس من موضعه من السماء: اسكن أنت وحواء الجنة. وقد تقدم في البقرة (1) معنى الإسكان، فأغنى عن إعادته. وقد تقدم معنى ولا تقربا هذه الشجرة هناك. والحمد لله. قوله تعالى: فوسوس لهما الشيطن ليبدى لهما ما ورى عنهما من سوأتهما وقال ما نهكما ربكما عن هذه الشجة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخلدين قوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان) أي إليهما. قيل: داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل: من خارج بالسلطنة (2) التى جعلت له. وقد مضى هذا في البقره. والوسوسة: الصوت الخفى. والوسوسة: حديث النفس يقال: وسوست إليه نفسه وسوسه ووسواسا (بكسر الواو). والوسواس (بالفتح): اسم مثل الزلزال. ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلى: وسواس. قال الأعشى: (1) راجع ج 1 ص 298. وص 204. (2) في ج: بالشيطة. (*)
[ 178 ]
تسمع للحلى وسواسا إذا انصرفت * كما استعان بريح عشرق زجل (1) والوسواس: اسم الشيطان قال الله تعالى: (من شر الوسواس الخناس (2)). (ليبدى لهما) أي ليظهر لهما. واللام لام العاقبة كما قال (ليكون لهم عدوا وحزنا (3)) وقيل: لام كى و (وورى) أي ستر وغطى عنهما. ويجوز في غير القرآن أورى مثل أقتت ومن سوأتهما من (عوراتهما (4)) وسمعي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه. ودل هذا على قبح كشفها فقيل: إنما بدت سوأتهما لهما لا لغيرهما كان عليهما نور (5) لا ترى عوراتهما فزال النور. وقيل: ثوب فتهافت (6)، والله أعلم. (إلا أن تكونا ملكين) (أن) في موضع نصب، بمعنى إلا، كراهية أن فحذف المضاف. هذا قول البصرين. والكوفيون يقولون: لئلا تكونا. وقيل: أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر. وقيل طمع آدم في الخلود لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة. قال النحاس: وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا وهو (إلا أن تكونا ملكين). ومنه (ولا أقول إنى ملك (7)). ومنه (ولا الملائكة المقربون (8)). وقال الحسن: فضل الله الملائكة بالصور. والأجنحة والكرامة. وقال غيره: فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية، فلهذا يقع التفضيل في كل شئ. وقال ابن فورك. لاحجة في هذه الآية، لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام. واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة، وقد مضى في البقره (9). وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، لأنهم من جملة رسل الله. وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله. وقرأ ابن عباس " ملكين " بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي (10) كثير والضحاك. وأنكر (1) العشرق كزبرج: شجر قدر ذراع له حب صغار إذا جف صوت بمر الريح. (2) راجع ج 20 ص 261. (3) راجع ج 13 ص 252. (4) من ج وك وى. (5) النور بفتح النون: الزهر. (6) تهافت: تساقط. (7) راجع ج 9 ص 25. (8) راجع ج 6 ص 26. (9) راجع ج 1 ص 289. (10) من ب وع وز. (*)
[ 179 ]
أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال: لم يكن قبل آدم صلى الله عليه وسلم. ملك فيصيرا ملكين. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة. قال ابن عباس: أتاهما الملعون من جهة الملك، ولهذا قال: " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (1) ". وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله: " وملك لا يبلى " حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس: " إلا أن تكون ملكين " قراءة شاذة. وقد أنكر على أبى عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش. وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة، وهو غاية الطالبين. وإنما معنى " وملك لا يبلى " المقام في ملك الجنة، والخلود فيه. قوله تعالى: وقاسمهما إنى لكما لمن النصحين (21) قوله تعالى: (وقاسمهما) أي حلف لهما. يقال: أقسم إقساما، أي حلف. قال الشاعر: وقاسمها بالله جهدا لأنتم * ألذ من السلوى إذا ما نشورها (2) وجاء " فاعلت " من واحد. وهو يرد على من قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين. وقد تقدم في المائدة. (إنى لكما لمن الناصحين) ليس " لكما " داخلا في الصلة. والتقدير: إني ناصح لكما لمن الناصحين، قاله هشام النحوي. وقد تقدم مثله في البقره. ومعنى الكلام: اتبعاني أرشدكما، ذكره قتادة. قوله تعالى: فدلهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنه وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطن لكما عدو مبين (22) قالا ربنا (1) راجع ج 11 ص 254. (2) السلوى: العسل. وشار العسل: اجتناه وأخذه من موضعه. (*)
[ 180 ]
ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخسرين (23) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتع إلى حين (24) قوله تعالى: (فدلاهما بغرور) أوقعهما في الهلاك. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا، فغررهما بوسوسته وقسمه لهما. وقال قتادة: حلف بالله لهما حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. كان بعض العلماء يقول: من خادعنا بالله خدعنا. وفي الحديث عنه صلى: (المؤمن غر (1) كريم والفاجر خب لئيم). وأنشد نفطويه: إن الكريم إذا تشاء خدعته * وترى اللئيم مجربا لا يخدع " فدلاهما " يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وقيل: " دلاهما " أي دللهما، من الدالة وهي الجرأة. أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة. قوله تعالى: (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليها من ورق الجنة) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: " فلما ذاقا الشجرة " أي أكلا منها. وقد مضى في " البقرة " الخلاف في هذه الشجرة (2)، وكيف أكل آدم منها. " بدت لهما سوآتهما " أكلت حواء أولا فلم يصبها شئ، فلما أكل آدم حلت العقوبة، لأن النهي ورد عليهما كما تقدم في " البقرة (2) ". قال ابن عباس: تقلص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل. الثانيه - " وطفقا " ويجوز إسكان (3) الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق، مثل ضرب يضرب. يقال: طفق، أي أخذ في الفعل. " يخصفان " وقرأ الحسن بكسر الخاء وشد الصاد. والأصل " يختصفان " فأدغم، وكسر الخاء (1) الغر: الذى لا يفطن للشر. والخلب (بكسر الخاء وفتحها): ضد الغر، وهو الخدع المفسد. الرواية الثابتة عن أبى هريرة: والمنافق خب لثيم بدل الفاجر. (2) راجع ج 1 ص 304. (3) كذا في الأصول. والمتبادر أنه يريد المصدر على لغة ضرب ضربا لأن طفق كفرح. (*)
[ 181 ]
وشد الصاد. والأصل يخصفان فأدغم وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء، ألقيا حركة التاء عليها. ويجوز " يخصفان " بضم الياء، من خصف يخصف. وقرأ الزهري " يخصفان " من أخصف. وكلاهما منقول بالهمزة أو التضعيف والمعنى: يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به، ومنه خصف النعل. والخصاف الذي يرقعها. والمخصف المثقب. قال ابن عباس: هو ورق التين. ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على أشجار الجنة يسل (1) منها ورقة يغطي بها عورته، فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة. " فطفقا " يعني آدم وحواء " يخصفان عليهما من ورق الجنة " فكافأ الله التين بأن سوى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة وأعطاه ثمرتين في عام واحد مرتين. الثالية - وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة، كما قيل لهما: " ولا تقربا هذه الشجرة ". وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك، لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها، كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم. قوله (2) تعالى: (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) أي قال لهما: ألم أنهكما. قالا ربنا نداء مضاف. والأصل يا ربنا. وقيل. إن في حذف " يا " معنى التعظيم. فاعترفا بالخطيئة وتابا (صلى الله عليهما وسلم (3)). وقد مضى في (البقره (4)) ومعنى قوله: (قال اهبطوا) تقدم أيضا إلى آخر الآية. قوله تعالى: قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25) الضمائر كلها للأرض. ولم يذكر الواو في " قال "، ولو ذكرها لجاز (5) أيضا. وهو كقولك: قال زيد لعمرو كذا قال له كذا. (1) في ك: يسأل. (2) في ع وز وك: الثالثة قوله تعالى: " وناداهما " الآيه. (3) من ع. (4) راجع ج 1 ص 324. وص 319. (5) أي في مثل هذا التركيب في غير القرآن. (*)
[ 182 ]
قوله تعالى: يبنئ ادم قد أنزلنا عليكم لباسا يورى سوأتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من ءايت الله لعلهم يذكرون (26) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (يا بنى آدم أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوآتكم) قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة، لأنه قال: " يواري سوآتكم ". وقال قوم إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط. قلت: القول الأول أصح. ومن جملة الإنعام ستر العورة، فبين أنه (سبحانه وتعالى (1)) جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا في العورة ما هي ؟ فقال ابن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما. وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة (2) والطبري، لقوله تعالى: " لباسا يواري سوآتكم "، " بدت لهما سواتهما "، " ليريهما سوآتهما ". وفي البخاري عن أنس: " فأجرى (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر - وفيه - ثم حسر (4) الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ". وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وهو قول عطاء. وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح. وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين. وحجة مالك قوله عليه السلام لجرهد: (غط فخذك فإن الفخذ عورة). خرجه البخاري تعليقا وقال: حديث أنس أسند (5)، وحديث جرهد أحوط حتى يخرج من اختلافهم. وحديث جرهد هذا (1) من ع. (2) في وز: وابن عطية. (3) أي أجرى دابته. (4) أي أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد. (*)
[ 183 ]
يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وروي أن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي وقال: أقبل منك ما كان رسول الله صلى عليه وسلم يقبل منك. فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة، ولا مكنه الحسن منها. وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم. وقد قال النبي صلى: (من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها). ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كشئ من المرأة عورة حتى ظفرها. وروي عن أحمد بن حنبل نحوه. وأما أم الولد فقال الأثرم: سمعته - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن أم الولد كيف تصلي ؟ فقال: تغطي رأسها وقدميها، لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة. وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها. وقيل: حكمها حكم الرجل. وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رؤوسهن ويقول: لا تشبهن بالحرائر. وقال أصبغ: إن انكشف فخذها أعادت الصلاة في الوقت. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شئ من الأمة عورة حتى ظفرها. وهذا خارج عن أقوال الفقهاء، لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله، تباشر الأرض به. فالأمة أولى، وأم الولد أغلظ حالا من الأمة. والصبي الصغير لا حرمة لعورته. فإذا بلغت الجارية إلى حد تأخذها العين وتشتهى سترت عورتها. وحجة أبي بكر بن عبد الرحمن قول تعالى: " يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن (1) ". وحديث أم سلمة أنها سئلت: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب ؟ فقالت: تصلي الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها. وقد روي مرفوعا. والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ، منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما. قال أبو داود: ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه (2) عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) راجع ج 14 ص 241. (2) في ب: عن أبيه. وقد روى عن أبيه وأمه. (*)
[ 184 ]
قال أبو عمر: عبد الرحمن هذا ضعيف عندهم، إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه. والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر. الثانية - قوله تعالى: " أنزلنا عليكم لباسا " يعني المطر الذي ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم (1) الذي منها الأصواف والأوبار والأشعار، فهو مجاز مثل " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج (2) " على ما يأتي. وقيل: هذا الإنزال إنزال شئ اللباس مع آدم وحواء، ليكون مثالا لغيره. وقال سعيد بن جبير: " أنزلنا عليكم " (أي (3)) خلقنا لكم، كقوله: " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج " أي خلق. على ما يأتي. وقيل: ألهمناكم كيفية صنعته. الثالثه - قوله تعالى: (وريشا) قرأ أبو عبد الرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي، وأبو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي " ورياشا ". ولم يحكه أبو عبيد (4) إلا عن الحسن، ولم يفسر معناه. وهو جمع ريش. وهو ما كان من المال واللباس. وقال الفراء: ريش ورياش، كما يقال: لبس ولباس. وريش الطائر ما ستره الله به. وقيل: هو الخصب ورفاهية العيش. والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. وأنشد سيبويه: فريشي منكم وهواي معكم * وإن كانت زياتكم لماما وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهت له دابة بريشها، أي بكسوتها وما عليها من اللباس. الرابعة - قوله تعالى: (ولباس التقوى ذلك خير) بين أن التقوى خير لباس، كما قال: إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى * تقلب عيانا وإن كان كاسيا وخير لباس المرء طاعة ربه * ولا خير فيمن كان لله عاصيا وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبد الجهني قال: " لباس التقوى " الحياء. وقال ابن عباس: " لباس التقوى " هو العمل الصالح. وعنه أيضا: السمت الحسن (1) كذا في الأصول. ولعل الصواب: التى. (2) راجع ج 15 ص 234. (3) من ك. (4) في ك: أبو عبد الرحمن. (*)
[ 185 ]
في الوجه. وقيل: ما علمه عز وجل وهدى به. وقيل: " لباس التقوى " لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له خير من غيره. وقال زيد بن علي: " لباس التقوى " الدرع والمغفر، والساعدان، والساقان، يتقى بهما في الحرب. وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله. وقيل: هو استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه. قلت: وهو الصحيح، وإليه يرجع قول ابن عباس وعروة. وقول زيد بن علي حسن، فإنه خض على الجهاد. وقال ابن زيد: هو ستر العورة. وهذا فيه تكرار، إذ قال أولا: " قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم ". ومن قال: إنه لبس الخشن من الثياب فإنه أقرب إلى التواضع وترك الرعونات فدعوى، فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب مع حصول التقوى، على ما يأتي مبينا إن شاء الله تعالى. وقرأ أهل المدينة والكسائي " لباس " بالنصب عطفا على " لباسا " الأول. وقيل: انتصب بفعل مضمر، أي وأنزلنا لباس التقوى. والباقون بالرفع على الابتداء. و " ذلك " نعته و " خير " خبر الابتداء. والمعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم، ومن الرياش الذي أنزلنا إليكم، فألبسوه. وقيل: ارتفع بإضمار هو، أي وهو لباس التقوى، أي هو ستر العورة. وعليه يخرج قول ابن زيد. وقيل: المعنى ولباس التقوى هو خير، " فذلك " بمعنى هو. والإعراب الأول أحسن ما قيل فيه. وقرأ الأعمش " ولباس التقوى خير " ولم يقرأ " ذلك ". وهو خلاف المصحف. (ذلك من آيات الله) أي مما يدل على أن له خالقا. و " ذلك " رفع على الصفة، أو على البدل، أو عطف بيان. قوله تعالى: يبنئ ادم لا يفتننكم الشيطن كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوأتهما إنه يريكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشيطن أولياء الذين لا يؤمنون (27)
[ 186 ]
فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: (لا يفتننكم) أي لا يصرفنكم الشيطان عن الدين، كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة. " أب " للمذكر، و " أبة " للمؤنث. فعلى هذا قيل: أبوان (ينزع عنهما لباسهما) في موضع نصب على الحال. ويكون مستأنفا فيوقف على " من الجنة ". " ليريهما " نصب بلام كي. (إنه يراكم هو وقبيله) الأصل يرءاكم ثم خففت الهمزة. وقبيله عطف على المضمر وهو توكيد ليحسن العطف كقوله: (اسكن أنت وزوجك الجنة) وهذا يدل على أنه يقبح رأيتك وعمرو، وأن المضمر كالمظهر وفي هذا أيضا دليل على وجوب ستر العورة، لقوله: (ينزع عنهما لباسهما). قال الآخرون: إنما فيه التحذير من زوال النعمة، كما نزل بآدم. هذا أن لو ثبت أن شرع آدم يلزمنا، والأمر بخلاف ذلك. الثانية - قوله تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله) " قبيله " جنوده. قال مجاهد: يعني الجن والشياطين. ابن زيد: " قبيله " نسله. وقيل: جيله. من حيث لا ترونهم قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الجن لا يرون، لقوله " من حيث لا ترونهم " قيل: جائز أن يروا، لأن الله تعالى إذا أراد أن يريهم كشف أجسامهم حتى ترى. قال النحاس: " من حيث لا ترونهم " يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي، ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقا لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم. وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم. وفي الخبر (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقال تعالى: " الذي يوسوس في صدور الناس (1) ". وقال عليه السلام: (إن للملك لمة وللشيطان لمة - أي بالقلب - فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق). وقد تقدم (1) راجع ج 20 ص 263. (*)
[ 187 ]
في البقرة (1). وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة. وقد خرج البخاري عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة طويلة، ذكر فيها أنه أخذ الجني الذي كان يأخذ التمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما فعل أسيرك البارحة). وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لو لا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة) - في العفريت الذي تفلت (2) عليه. وسيأتي في " ص " إن (3) شاء الله تعالى. (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) أي زيادة في عقوبتهم وسوينا بينهم في الذهاب عن الحق. قوله تعالى: وإذا فعلوا فحشة قالوا وجدنا عليها ءاباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون (28) الفاحشة هنا في قول كثر المفسرين طوافهم بالبيت عراة. وقال الحسن: هي الشرك والكفر. واحتجوا على ذلك بتقليدهم أسلافهم، وبأن الله أمرهم بها. وقال الحسن: " والله أمرنا بها " قالوا: لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه. (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) بين أنهم متحكمون، ولا دليل لهم على أن الله أمرهم بما ادعوا. وقد مضى ذم التقليد وذم كثير من جهالاتهم. وهذا منها. قوله تعالى: قل أمر ربى بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضللة إنهم اتخذوا الشيطن أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30) (1) راجع ج 3 ص 329. وص 269. (2) أي تعرض بغتة. (3) في قوله تعالى: " قال رب اغفر لى وهب لى... " ج 15 ص 204. (*)
[ 188 ]
قوله تعالى: (قل أمر ربى بالقسط) قال ابن عباس: لا إله إلا الله. وقيل: القسط العدل، أي أمر: العدل فأطيعوه. ففي الكلام حذف. (وأقيموا وجوهكم) أي توجهوا إليه في كل صلاة إلى القبلة. (عند كل مسجد) أي في أي مسجد كنتم. (وادعوا مخلصين له) الدين أي وحدوه ولا تشركوا به. (كما بدأكم تعودون) نظيره " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة (1) " وقد تقدم. والكاف في موضع نصب، أي تعودون كما بدأكم، أي كما خلقكم أول مرة يعيدكم. وقال الزجاج: هو متعلق بما قبله. أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون. (فريقا هدى) " فريقا " نصب على الحال من المضمر في " تعودون " أي تعودون فريقين: سعداء، وأشقياء. يقوي هذا قراءة أبي " تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة "، عن الكسائي. وقال محمد بن (2) كعب القرظي في قوله تعالى " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى. ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة. ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة، وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه. قال: " وكان من الكافرين " وفي هذا رد واضح على القدرية ومن تابعهم. وقيل: " فريقا " نصب " بهدى "، " وفريقا " الثاني نصب بإضمار فعل، أي وأضل فريقا. وأنشد سيبويه: أصبحت لا أحمل السلاح ولا * أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به * وحدي وأخشى الرياح والمطرا (3) قال الفراء: ولو كان مرفوعا (4) لجاز. (إنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله) وقرأ عيسى بن عمر: " أنهم " ب الهمزة، يعني لأنهم. قوله تعالى: يبنئ ادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلو واشربوا ولا تسرفواإنه لا يحب المسرفين (31) (1) راجع ص 42 من هذا الجزء. (2) من البحر. (3) البيتان للربيع بن ضبع الفزارى. وصف فيهما انتهاء شبيبته وذهاب قوته. (4) أي في مثل هذا التركيب في غير كلام الله. (*)
[ 189 ]
فيه سبع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (يا بنى آدم) هو خطاب لجميع العالم، وإن كان المقصود بها من كان يطوف من العرب بالبيت عريانا، فإنه عام في كل مسجد للصلاة. لأن العبرة للعموم لا ! للسبب. ومن العلماء من أنكر أن يكون المراد به الطواف، لأن الطواف لا يكون إلا في مسجد واحد، والذي يعم كل مسجد هو الصلاة. وهذا قول من خفي عليه مقاصد الشريعة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول: من يعيرني تطوافا (1) ؟ تجعله على فرجها. وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية " خذوا زينتكم عند كل مسجد " التطواف (بكسر التاء). وهذه المرأة هي ضباعة بنت عامر بن قرط، قاله القاضي عياض. وفي صحيح مسلم أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس (2)، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء. وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات (3). في غير مسلم: ويقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبا ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى، قال قائل من العرب: كفى حزنا كري عليه كأنه * لقى بين أيدي الطائفين حريم فكانوا على تلك الجهالة والبدعة والضلالة حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: " يا بني آدم خذوا زينتكم " الآية (4). وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يطوف بالبيت عريان. (1) الثوب الذى يطاف به. على وزن تفعال بالفتح وبالكسر. (2) الحمس سموا بهذا لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا والخامسة الشجاعة. (3) في صحيح مسلم: يبلغون عرفات. (4) من ع. (*)
[ 190 ]
قلت: ومن قال بأن المراد الصلاة فزينتها النعال، لما رواه كرز بن وبرة عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: (خذوا زينة الصلاة) قيل: وما زينة الصلاة ؟ قال: (البسوا نعالكم فصلوا فيها). الثانية - دلت الآية على وجوب ستر العورة كما تقدم. وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها فرض من فروض الصلاة. وقال الأبهري هي فرض في الجملة، وعلى الإنسان أن يسترها عن أعين الناس في الصلاة وغيرها. وهو الصحيح، لقوله عليه السلام للمسور بن مخرمة: (أرجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة). أخرجه مسلم. وذهب إسماعيل القاضي إلى أن ستر العورة من سنن الصلاة، وأحتج بأنه لو كان فرضا في الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلي، لأن كل شئ من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه، أو بدله مع عدمه، أو تسقط الصلاة جملة، وليس كذلك. قال ابن العربي: وإذا قلنا إن ستر العورة فرض في الصلاة فسقط ثوب إمام فانكشف دبره وهو راكع فرفع رأسه فغطاه أجزأه، قاله ابن القاسم. وقال سحنون: وكل من نظر إليه من المأمومين أعاد. وروي عن سحنون أيضا: أنه يعيد ويعيدون، لأن ستر العورة شرط من شروط الصلاة، فإذا ظهرت بطلت الصلاة. أصله الطهارة. قال القاضي ابن العربي: أما من قال، إن صلاتهم لا تبطل فإنهم لم يفقدوا شرطا، وأما من قال إن أخذه مكانه صحت صلاته وتبطل صلاة من نظر إليه فصحيفة يجب محوها ولا يجوز الاشتغال بها. وفي البخاري والنسائي عن عمرو بن سلمة قال: لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قال: (ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن). قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود، فكنت أصلي بهم وكانت علي بردة مفتوقة، وكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا است ابنك. لفظ النسائي. وثبت عن سهل بن سعد قال: لقد كانت الرجال عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كأمثال الصبيان، فقال قائل: يا معشر النساء، لا ترفعن رؤوسكن حتى ترفع الرجال. أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود.
[ 191 ]
الثالثة - واختلفوا إذا رأى عورة نفسه، فقال الشافعي: إذا كان الثوب ضيقا يزره أو يخلله بشئ لئلا يتجافى القميص فترى من الجيب العورة، فإن لم يفعل ورأى عورة نفسه أعاد الصلاة. وهو قول أحمد. ورخص مالك في الصلاة في القميص محلول الأزرار، ليس عليه سراويل. وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور. وكان سالم يصلي محلول الأزرار. وقال داود الطائي: إذا كان عظيم اللحية فلا بأس به. وحكى معناه الأثرم عن أحمد. فإن كان إماما فلا يصلي إلا بردائه، لأنه من الزينة. وقيل: من الزينة الصلاة في النعلين، رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح. وقيل: زينة الصلاة رفع الأيدي في الركوع وفي الرفع منه. قال أبو عمر: لكل شئ زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، جمع رجل عليه ثيابه، صلى في إزار (1) ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء - (2) وأحسبه قال: في تبان (3) وقميص - في تبان ورداء، في تبان وقباء. رواه البخاري والدارقطني. الرابعة - قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة (4). فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال، لأنه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل. وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد، لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام، وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح، فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان (1) الإزار: ما يؤتزر به في النصف الأسفل. والرداء للنصف الأعلى. (2) القباء (بالفتح): ثوب يلبس فوق الثياب. وقيل: يلبس فوق القميص ويتنطق عليه. (3) التبان (بضم المثناة وتشديد الموحدة) سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط. (4) المخيلة: الكبر. (*)
[ 192 ]
والأسنان والطعمان. ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة (1)، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بيانا شافيا يغني عن كلام الأطباء فقال: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). خرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب. قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة. ويذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شئ، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي ؟ قال قوله عز وجل: " وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا ". فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شئ من الطب. فقال علي: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة (2). قال: ما هي ؟ قال: (المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء وأعط كل جسد ما عودته). فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. قلت: ويقال إن معالجة المريض نصفان: نصف دواء ونصف حمية: فإن اجتمعا فكأنك بالمريض قد برأ وصح. وإلا فالحمية به أولى، إذ ينفع دواء مع ترك الحمية. ولقد تنفع الحمية مع ترك الدواء. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصل كل دواء الحمية). والمعني بها - والله أعلم - أنها تغني عن كل دواء، ولذلك يقال: إن الهند جل معالجتهم الجمية، يمتنع المريض عن الأكل والشراب والكلام عدة أيام فيبرأ ويصح. الخامسة - روى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد). وهذا منه صلى الله (1) في ع: نتن للمنحة. قال الجوهرى: الأنفحة هي الكرش. (2) في ع: المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء. هكذا في الرواية المشهورة وليس بحديث بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب راجع كشف الخلفاء ج 2 ص 214. ففيه قيم في هذا الحديث. (*)
[ 193 ]
عليه وسلم حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة. وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته. كما قال قائلهم: تكفيه فلذة كبد إن ألم بها * من الشواء ويروي شربه الغمر (1) وقالت أم زرع في ابن (2) أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة (3). وقال حاتم الطائي يذم بكثرة الأكل: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا (4) وقال الخطاب: معنى قوله (صلى الله (5) عليه وسلم): المؤمن يأكل في معى واحد أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه ويبقي من زاده لغيره، فيقنعه ما أكل. والتأويل الأول أولى والله أعلم. وقيل في قوله عليه السلام: (والكافر يأكل في سبعة أمعاء) ليس على عمومه، لأن المشاهدة تدفعه، فإنه قد يوجد كافر أقل أكلا من مؤمن، ويسلم الكافر فلا يقل أكله ولا يزيد. وقيل: هو إشارة إلى معين. ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف كافر يقال: إنه الجهجاه الغفاري. وقيل: ثمامة بن أثال. وقيل: نضلة بن عمرو الغفاري. وقيل: بصرة بن أبي بصرة الغفاري. فشرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فشرب حلاب شاة فلم يستتمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فكأنه قال: هذا الكافر. والله أعلم. وقيل: إن القلب لما تنور بنور التوحيد نظر إلى الطعام بعين التقوى على الطاعة، فأخذ منه قدر الحاجة، وحين كان مظلما بالكفر كان أكله كالبهيمة ترتع حتى تثلط (6). واختلف في هذه الأمعاء، هل هي حقيقة أم لا ؟ فقبل حقيقة، ولها أسماء معروفة عند أهل العلم بالطب والتشريح. وقيل: هي كنايات عن أسباب سبعة يأكل بها النهم: يأكل للحاجة والخبر (7) والشم والنظر واللمس والذوق ويزيد استغناما (8). وقيل: المعنى أن يأكل أكل من له سبعة أمعاء. والمؤمن بخفة أكله يأكل أكل من ليس له إلا معى واحد، (1) البيت لأعشى باهلة يرثى أخاه المنتشر بن وهب الباهلى. ورواية اللسان: يكفيه حزة فلذ... والمعنى واحد. والغمر (بضم الأول وفتح الثاني): القرح الصغير. (2) في ع: ابنة. تشبعها (3) الجفرة: الصغيرة من ولد المعزى إذا بلغ أربعة أشهر. (4) الذى في ديوانه: * وإنك مهما تعط... الخ. (5) من ع. (6) الثلط: الرقيق من الروث. (7) يريد شهوة الأذن. (8) في ع: استتعاما. (*)
[ 194 ]
فيشارك الكافر بجزء من أجزاء أكله، ويزيد الكافر عليه بسبعة أمثال. والمعى في هذا الحديث هو المعدة. السادسة - وإذا تقرر هذا فأعلم أنه يستحب للإنسان غسل اليد قبل الطعام وبعده، لقوله عليه السلام: (الوضوء قبل الطعام وبعده بركة). وكذا في التوراة. رواه زاذان عن سلمان. وكان مالك يكره غسل اليد النظيفة. والاقتداء بالحديث أولى. ولا يأكل طعاما حتى يعرف أحارا هو أم باردا ؟ فإنه إن كان حارا فقد يتأذى. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أبردوا بالطعام فإن الحار غير ذي بركة) حديث صحيح. وقد تقدم في البقرة ولا يشمه فإن ذلك من عمل البهائم، بل إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، ويصغر اللقمة ويكثر مضغها لئلا يعد شرها. ويسمي الله تعالى في أوله ويحمده في آخره. ولا ينبغي أن يرفع صوته بالحمد إلا أن يكون جلساؤه قد فرغوا من الأكل، لأن في رفع الصوت منعا لهم من الأكل. وآداب الأكل كثيرة، هذه جملة منها. وسيأتي بعضها في سورة " هود (1) " إن شاء الله تعالى. وللشراب أيضا آداب معروفة، تركنا ذكرها لشهرتها. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشمال ويشرب بشماله). السابعة - قوله تعالى: " ولا تسرفوا " أي في كثرة الأكل، وعنه يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير. فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه. روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: أكلت ثريدا بلحم سمين، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشى (2)، فقال: (اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة). فما أكل أبو جحيفة بمل ء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى. (1) راجع ج 9 ص 64. (2) التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء في ى وع وز: ثريد بر. (*)
[ 195 ]
قلت: وقد يكون هذا معنى قوله عليه السلام: (المؤمن يأكل في معى واحد) أي التام الإيمان، لأن من حسن إسلامه وكمل إيمانه كأبي جحيفة تفكر فيما يصير إليه من أمر الموت وما بعده، فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته. والله أعلم. وقال ابن زيد: معنى " ولا تسرفوا " لا تأكلوا حراما. وقيل: (من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت). رواه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه ابن ماجة في سننه. وقيل: من الإسراف الأكل بعد الشبع. وكل ذلك محظور. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعا فوق شبع، فإنك إن تنبذه (1) للكلب خير من أن تأكله. وسأل سمرة بن جندب عن ابنه ما فعل ؟ قالوا: بشم البارحة. قال: بشم ! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: " خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " في تحريم ما لم يحرم عليكم. قوله تعالى: قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبت من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيمة كذلك نفصل الأيت لقوم يعلمون فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله) بين أنهم حرموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم. والزينة هنا الملبس الحسن، إذا قدر عليه صاحبه. وقيل: جميع الثياب، كما روي عن عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا. وقد تقدم. وروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب شيخ مالك رضي الله عنهم أنه كان يلبس كساء خز بخمسين دينارا، يلبسه في الشتاء، فإذا كان في الصيف تصدق به، أو باعه فتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف (1) في ج: تنشره. (*)
[ 196 ]
ثوبين من متاع بمصر ممشقين (1) ويقول: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ". الثانية - وإذا كان هذا فقد دلت الآية على لباس الرفيع من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد، وعند لقاء الناس ومزاورة الإخوان. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه رأى حلة سيراء (2) تباع عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يلبس هذا من لاخلاق له في الآخرة). فما أنكر عليه ذكر التجمل، فما أنكر عليه ذكر التجمل، وإنما أنكر عليه كونها سيراء. وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها. وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد. وكان ثوب أحمد بن حنبل يشترى بنحو الدينار. أين هذا ممن يرغب عنه ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب. ويقول: " ولباس التقوى ذلك خير " هيهات ! أترى من ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله ! بل هم أهل التقوى وأولو المعرفة والنهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى. قال خالد بن شوذب: شهدت الحسن وأتاه فرقد، فأخذه الحسن بكسائه فمده إليه وقال: يا فريقد، يا بن أم فريقد، إن البر ليس في هذا الكساء، إنما البر ما وقر في الصدر وصدقه العمل. ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن يسار (3) وعليه جبة صوف، فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد، صوفت قلبك أو جسمك ؟ صوف قلبك والبس القوهي على القوهي (4). وقال رجل للشبلي: قد ورد جماعة من أصحابك وهم في الجامع، فمضى فرأى عليهم المرقعات والفوط، فأنشأ يقول: أما الخيام فإنها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائه (1) ثوب ممشق. ممشوق: مصبوغ بالمشق، وهو صبغ أحمر. (2) سيراء بسين مهمهلة مكسوره ثم ياء مثناة مفتوحه ثم ألف ممدودة: نوع من البرود فيه خطوط صفر، أو يخالطه. حرير. وضبطوا الحلة هنا بالتنوين، على أن سيراء صفة. وبغير تنوين على الإضافة. وهما وجهان مشهوران. (3) في ج وع وك وه: بشار. (4) القوهى: ضرب من الثياب بيض فارسي منسوبة إلى قهستان. (*)
[ 197 ]
قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله: وأنا أكره ليس الفوط والمرقعات لأربعة أوجه: أحدها: أنه ليس من لبس السلف، وإنما كانوا يرقعون ضرورة. والثاني: أنه يتضمن ادعاء الفقر، وقد أمر الإنسان أن يظهر أثر نعم (1) الله عليه. والثالث - إظهار التزهد، وقد أمرنا بستره. والرابع - أنه تشبه بهؤلاء المتزحزحين عن الشريعة. ومن تشبه بقوم فهو منهم وقال الطبري: ولقد أخطأ من أثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله. ومن أكل البقول والعدس واختاه على خبز البر. ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض شهوة النساء. وسئل بشر بن الحارث عن لبس الصوف، فشق عليه وتبينت الكراهة في وجهه ثم قال: لبس الخزز والمعصفر أحب إلي من لبس الصوف في الأمصار. وقال أبو الفرج: وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المترفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة والعيد وللقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم قبيحا. وأما اللباس الذي بزري بصاحبه فإنه يتضمن إظهار الزهد وإظهار الفقر، وكأنه لسان شكوى من الله تعالى، ويوجب احتقار اللابس، وكل ذلك مكروه منهي عنه. فإن قال قائل تجويد اللباس هوى النفس وقد أمرنا بمجاهدتها، وتزين للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق. فالجواب ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهي عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه أو على وجه الرياء في باب الدين. فإن الإنسان يجب أن يرى جميلا. وذلك حظ للنفس لا يلام فيه. ولهذا يسرح شعره وينظر في المرآة ويسوي عمامته ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل وظهارته الحسنة إلى خارج. وليس في شئ من هذا ما يكره ولا يذم. وقد روى مكحول عن عائشة قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا ؟ قال: (نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال). وفي صحيح. مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). (1) في ج وك: نعمة. وفى الحديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده رواء الترمذي. (*)
[ 198 ]
فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة. وقد روى محمد بن سعد أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا مندل عن ثور عن خالد بن معدان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وعن ابن جريج: مشط عاج يمتشط به. قال ابن سعد: وأخبرنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن ربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه ويسرح لحيته بالماء. أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين. الثالثة - قوله تعالى: (والطيبات من الرزق) الطيبات اسم عام لما طاب كسبا وطعما. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل: هي كل مستلذ من الطعام. وقد اختلف في ترك الطيبات والإعراض عن اللذات، فقال قوم: ليس ذلك من القربات، والفعل والترك يستوي في المباحات. وقال آخرون: ليس قربة في ذاته، وإنما هو سبيل إلى الزهد في الدنيا، وقصر الأمل فيها، وترك التكلف لأجلها، وذلك مندوب إليه، والمندوب قربة. وقال آخرون: ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لو شئنا لاتخذنا صلاء وصلائق وصنابا، ولكني سمعت الله تعالى يذم أقواما فقال: " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا (1) " ويروى " صرائق " بالراء، وهما جميعا الجرادق (2). والصلائق (باللام): ما يلصق من اللحوم والبقول. والصلاء (بكسر الصاد والمد): الشواء: والصناب: الخردل بالزبيب. وفرق آخرون بين حضور ذلك كله بكلفة وبغير كلفة. قال أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي شيخ أشياخنا: وهو الصحيح إشاء الله عز وجل، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من (1) راجع ج 16 ص 199. (2) الجرادق: جمع جردقة، وهى الرغيف. (*)
[ 199 ]
طعام لأجل طيبه قط، بل كان يأكل الحلوى والعسل والبطيخ والرطب، وإنما يكره التكلف لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. والله تعالى أعلم. قلت: وقد كره بعض الصوفية أكل الطيبات، واحتج بقول عمر رضي الله عنه: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضرواة (1) الخمر. والجواب أن هذا من عمر قول خرج على من خشي منه إيثار التنعم في الدنيا، والمداومة على الشهوات، وشفاء النفس من اللذات، ونسيان الآخرة والإقبال على الدنيا، ولذلك كان يكتب عمر إلى عمال: إياكم والتنعم وزي أهل العجم، واخشوشنوا. ولم يرد رضي الله عنه تحريم شئ أحله الله، ولا تحظير ما أباحه الله تبارك اسمه. وقول الله عز وجل أولى ما امتثل واعتمد عليه. قال الله تعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخج لعباده والطيبات من الرزق ". وقال عليه السلام: (سيد آدام الدنيا والآخرة اللحم). وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطبيخ بالرطب ويقول: (يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا). والطبيخ لغة في البطيخ، وهو من المقلوب. وقد (2) مضى في " المائدة " الرد على من آثر أكل الخشن من الطعام. وهذه الآية ترد عليه وغيرها: والحمد لله. الرابعة - قوله تعالى: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) يعني بحقها من توحيد الله تعالى والتصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحده المنعم عليه وصدقه فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه. وفي صحيح الحديث (لاأحد أصبر على أذى من الله يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الصاحبة والولد). وتم الكلام على " الحياة الدنيا ". ثم قال " خالصة " بالرفع وهي قراءة ابن عباس ونافع. " خالصة يوم القيامة " أي يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شئ كما كان لهم في الدنيا من الاشتراك فيها. ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا مع غيرهم، وهي للمؤمنين (1) أي أن له عادة ينزع إليها كعادة الخمر. أي عادة طلابة لأكله وتسمى القرم وهى شدة شهوة اللحم. (2) راجع ج 6 ص 260. (*)
[ 200 ]
خالصة يوم القيامة. فخالصة مستأنف على خبر مبتدأ مضمر. وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد. وقيل: المعنى أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة، للمؤمنين في الدنيا، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون فقوله: " في الحياة الدنيا " متعلق " بآمنوا ". وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع، لأن الكلام قد تم دونه. ولايجوز الوقف على هذه القراءة على " الدنيا "، لأن ما بعده متعلق بقول " للذين آمنوا " حال منه، بتقدير قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة، قاله أبو علي. وخبر الابتداء " للذين آمنوا ". والعالم في الحال ما في اللام من معنى الفعل في قوله: " للذين " واختار سيبويه النصب لتقدم الظرف. " كذلك نفصل الآيات " أي كالذي فصلت لكم الحلال والحرام أفصل لكم ما تحتاجون إليه. قوله تعالى: قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون. فيه مسألة واحدة. قال الكلبي: لما لبس المسلمون الثياب وطافوا بالبيت غيرهم المشركون، فنزلت هذه الآية. والفواحش: الأعمال المفرطة في القبح، ما ظهر منها وما بطن. وروى روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ما ظهر منها " ما ظهر منها " نكاح الأمهات في الجاهلية. وما بطن " وما بطن " الزنى. وقال قتادة: سرها وعلانيتها. وهذا فيه نظر، فإنه ذكر الإثم والبغي فدل أن المراد بالفواحش. بعضها، وإذا كان كذلك فالظاهر من الفواحش الزنى. والله أعلم. (والإثم) قال الحسن: الخمر. قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي * كذاك الإثم تذهب بالعقول
[ 201 ]
وقال أخر: نشرب الإثم بالصواع جهارا * وترى المسك بيننا مستعارا (1) " والبغي " الظلم وتجاوز الحد فيه. وقد تقدم. وقال ثعلب: البغي أن يقع الرجل في الرجل فيتكلم فيه، ويبغي عليه بغير الحق، إلا أن ينتصر منه بحق. وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما، فنص على ذكرهما تأكيدا لأمرهما وقصدا للزجر عنهما. وكذا وأن تشركوا وأن تقولوا وهما في موضع نصب عطفا على ما قبل. وقد أنكر جماعة أن يكون الإثم بمعنى الخمر. قال الفراء: الإثم ما دون الحد والاستطالة على الناس. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك، وحقيقة الإثم أنه جميع المعاصي، كما قال الشاعر: إني وجدت الأمر أرشده * تقوى الإله وشره الإثم قلت: وأنكره ابن العربي أيضا وقال: " ولا حجة في البيت (2)، لأنه لو قال: شربت الذنب أو شربت الوزر لكان كذلك، ولم يوجب قول أن يكون الذنب والوزر اسما من أسماء الخمر كذلك الإثم. والذي أوجب التكلم بمثل هذا الجهل باللغة وبطريق الأدلة في المعاني ". قلت: وقد ذكرناه عن الحسن. وقال الجوهري في الصحاح: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد: شربت الإثم.... * البيت وأنشده الهروي في غريبيه، على أن الخمر الإثم. فلا يبعد أن يكون الإثم يقع على جميع المعاصي وعلى الخمر أيضا لغة، فلا تناقض. والبغي: التجاوز في الظلم، وقيل: الفساد. قوله تعالى: ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون فيه مسألة واحدة: (1) الصراع: إنا يشرب فيه. ومستعار: متداول. أي نتعاوره بأيدينا تشنمه. (2) يريد به البيت الأول. (*)
[ 202 ]
قوله تعالى: (ولكل أمة أجل) أي وقت مؤقت. (فإذا جاء أجلهم) أي الوقت المعلوم عند الله عز وجل. وقرأ ابن سيرين " جاء آجالهم " بالجمع لا يستأخرون عنه ساعة ولا أقل من ساعة، إلا أن الساعة خصت بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات، وهي ظرف زمان. ولا يستقدمون فدل بهذا على أن المقتول إنما يقتل بأجله. وأجل الموت هو وقت الموت، كما أن أجل الدين هو وقت حلوله. وكل شئ وقت به شي فهو أجل له. وأجل الإنسان هو الوقت الذي يعلم الله أنه يموت (1) الحي فيه لا محالة وهو وقت لا يجوز تأخير موته عنه، لامن حيث إنه ليس مقدورا تأخيره. وقال كثير من المعتزلة إلا من شذ منهم: إن المقتول مات بغير أجله الذي ضرب له، وإنه لو لم يقتل لحيي. وهذا غلط، لأن المقتول لم يمت من أجل قتل غيره له، بل من أجل ما فعله الله من إزهاق نفسه عند الضرب له. فإن قيل: فإن مات بأجله فلم تقتلون ضاربه وتقتصون منه ؟. قيل له: نقتله لتعديه وتصرفه فيما ليس له أن يتصرف فيه، لالموته وخروج الروح إذ ليس ذلك من فعله. ولو ترك الناس والتعدي من غير قصاص لأدى ذلك إلى الفساد ودمار العباد. وهذا واضح. قوله تعالى: يبنئ ادم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم ءايتى فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون والذين كذبوا بئايتنا واستكبروا عنها أولئك أصحب النار هم فيها خلدون قوله تعالى: (يا بنى آدم إما يأتينكم رسل منكم) شرط. ودخلت النون توكيدا لدخول " ما ". وقيل: ما صلة، أي إن يأتكم. أخبر أنه يرسل إليهم الرسل منهم لتكون إجابتهم أقرب. والقصص إتباع الحديث بعضه بعضا. (آياتي) أي فرائضي وأحكامي. فمن اتقى وأصلح شرط، وما بعده جوابه، وهو جواب الأول. أي وأصلح منكم ما بيني وبينه. فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون دليل على أن المؤمنين يوم القيامة لا يخافون ولا يحزنون، ولا يلحقهم رعب ولافزع. وقيل: قد يلحقهم أهوال يوم القيامة، ولكن (1) في ك: يميت. (*)
[ 203 ]
مآلهم الأمن. وقيل: جواب " إما يأتينكم " ما دل عليه الكلام، أي فأطيعوهم " فمن اتقى وأصلح " والقول الأول قول الزجاج. قوله تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بئايته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كفرين (37) قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآيته) المعنى أي ظلم أشنع من الافتراء على الله تعالى والتكذيب بآياته. ثم قال: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) أي ما كتب لهم من رزق وعمر وعمل، عن ابن زيد. ابن جبير: من شقاء وسعادة. ابن عباس: من خير وشر. الحسن وأبو صالح: من العذاب بقدر كفرهم. واختيار الطبري أن يكون المعنى: ما كتب لهم، أي ما قدر لهم من خير وشر ورزق وعمل وأجل، على ما تقدم عن ابن زيد وابن عباس وابن جبير. قال: ألا ترى أنه أتبع ذلك بقوله: (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) يعني رسل ملك الموت. وقيل: " الكتاب " هنا القرآن، لأن عذاب الكفار مذكور فيه. وقيل: " الكتاب " اللوح المحفوظ. ذكر الحسن بن علي الحلواني قال: أملى علي علي بن المديني قال: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن القدر فقال لي: كل شئ بقدر، والطاعة والمعصية بقدر، وقد أعظم الفرية من قال: إن المعاصي ليست بقدر. قال علي وقال لي عبد الرحمن بن مهدي: العلم والقدر والكتاب سواء. ثم عرضت كلام عبد الرحمن بن مهدي على يحيى بن سعيد فقال: لم يبق بعد هذا قليل ولا كثير. وروى يحيى بن معين حدثنا مروان الفزاي حدثنا إسماعيل بن سميع عن بكير الطويل عن مجاهد عن ابن عباس " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب " قال: قوم يعملون أعمالا لابد لهم من أن يعملوها. و " حتى " ليست غاية، بل هي ابتداء خبر عنهم. قال الخليل وسيبويه: حتى وإما وألا
[ 204 ]
لايملن لأنهن حروف ففرق بينها وبين الأسماء نحو حبلى وسكرى. قال الزجاج: تكتب حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى، ولو كتبت ألا بالياء لأشبهت إلى. ولم تكتب إما بالياء لأنها " إن " ضمت إليها ما. (قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله) سؤال توبيخ. ومعنى " تدعون " تعبدون. (قالوا ضلوا عنا) أي بطلوا وذهبوا. قيل: يكون هذا في الآخرة. (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) أي أقروا بالكفر على أنفسهم. قوله تعالى: قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادراكوا فيها جميعا قالت أخريهم لأولهم ربنا هؤلاء أضلونا فئاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولهم لأخريهم فيها كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39) قوله تعالى: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار) أي مع أمم، ف " في " بمعنى مع. وهذا لا يمتنع، لأن قولك: زيد في القوم، أي مع القوم. وقيل: هي على بابها، أي ادخلوا في جملتهم. والقائل قيل: هو الله عز وجل، أي قال الله ادخلوا. وقيل: هو مالك خازن النار. (كلما دخلت أمة لعنت أختها) أي التي سبقتها إلى النار، وهي أختها في، الدين والملة. حتى إذا ادركوا فيها جميعا أي اجتمعوا. وقرأ الأعمش " تداركوا " وهو الأصل، ثم وقع الإدغام فاحتيج إلى ألف الوصل. وحكاها المهدوي عن ابن مسعود. النحاس: وقرأ ابن مسعود " حتى إذا أدركوا " أي أدرك بعضهم بعضا. وعصمة عن أبي عمرو " حتى إذا اداركوا " بإثبات الألف على الجمع بين الساكنين. وحكى: هذان عبد الله. وله ثلثا المال. وعن أبي عمرو أيضا: " إذا اداركوا " بقطع ألف
[ 205 ]
الوصل، فكأنه سكت على " إذا " للتذكر، فلما طال سكوته قطع ألف الوصل، كالمبتدئ بها. وقد جاء في الشعر قطع ألف الوصل نحو قوله: يا نفس صبرا كل حي لاقي * وكل إثنين إلى افتراق وعن مجاهد وحميد بن قيس " حتى إذ ادركوا " بحذف ألف " إذا " لالتقاء الساكنين، وحذف الألف التي بعد الدال. " جميعا " نصب على الحال. (قالت أخراهم لأولاهم) أي آخرهم دخولا وهم الأتباع لأولاهم وهم القادة. ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار. فاللام في " لأولاهم " لام أجل، لأنهم لم يخاطبوا أولاهم ولكن قالوا في حق أولاهم ربنا هؤلاء أضلونا. والضعف المثل الزائد على مثله مرة أو مرات. وعن ابن مسعود أن الضعف ها هنا الأفاعي والحيات. ونظير هذه الآية " ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (1) ". وهناك يأتي ذكر الضعف بأبشع من هذا وما يترتب عليه من الأحكام، إن شاء الله تعالى. قال لكل ضعف أي للتابع والمتبوع. (ولكن لا يعلمون) على قراءة من قرأ بالياء، أي لا يعلم كل فريق ما بالفريق الآخر، إذ لو علم بعض من في النار أن عذاب أحد فوق عذابه لكان نوع سلوة له. وقيل المعنى " ولكن لا تعلمون " بالتاء، أي ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما يجدون من العذاب. ويجوز أن يكون المعنى ولكن لا تعلمون يأهل الدنيا مقدار ما هم فيه من العذاب. (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) أي قد كفرتم وفعلتم كما فعلنا، فليس تستحقون تخفيفا من العذاب فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون. قوله تعالى: إن الذين كذبوا بئايتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبوب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجرى المجرمين (40) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزى الظالمين (41) (1) راجع ج 14 ص 249. (*)
[ 206 ]
قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبوب السماء) أي لأرواحهم. جاءت بذلك أخبار صحاح ذكرناها في كتاب (التذكرة). منها حديث البراء بن عازب، وفيه في قبض روح الكافر قال: ويخرج منها ريح كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة. فيقولون فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون فلا يفتح لهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفتح لهم أبواب السماء " الآية. وقيل: لا تفتح لهم أبواب السماء إذا دعوا، قاله مجاهد والنخعي. وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب الجنة، لأن الجنة في السماء. ودل على ذلك قوله: (ولا يدخلون الجنه حتى يلج الجمل في سم الخياط) والجمل لا يلج فلا يدخلونها البتة. وهذا دليل قطعي لا يجوز العفو عنهم. وعلى هذا أجمع المسلمون الذين لا يجوز عليهم الخطأ أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر لهم ولالأحد منهم. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فإن قال قائل كيف يكون هذا إجماعا من الأمة ؟ وقد زعم قوم من المتكلمين بأن مقلدة اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ليسوا في النار. قيل له: هؤلاء قوم أنكروا أن يكون المقلد كافرا لشبهة دخلت عليهم، ولم يزعموا أن المقلد كافر وأنه مع ذلك ليس في النار، والعلم بأن المقلد كافر أو غير كافر طريقه النظر دون التوقيف والخبر. وقرأ حمزة والكسائي: " لا تفتح " بالياء مضمومة على تذكير الجمع. وقرأ الباقون بالتاء على تأنيث الجماعة، كما قال: " مفتحة لهم الأبواب (1) " فأنث. ولما كان التأنيث في الأبواب غير حقيقي جاز تذكير الجمع. وهي قراءة ابن عباس بالياء وخفف أبو عمرو وحمزة والكسائي، على معنى أن التخفيف يكون للقليل والكثير، والتشديد للتكثير والتكرير مرة بعد مرة لا غير، والتشديد هنا أولى لأنه على الكثير أدل. والجمل من الإبل. قال الفراء: الجمل زوج الناقة. وكذا قال عبد الله بن مسعود لما سئل عن الجمل فقال: هو زوج الناقة، كأنه استجهل من سأله عما يعرفه الناس جميعا. والجمع (1) راجع ج 15 ص 219. (*)
[ 207 ]
جمال وأجمال وجمالات وجمائل. وإنما يسمى جملا إذا أربع. وفي قراءة عبد الله: " حتى يلج الجمل الأصفر في سم الخياط ". ذكره أبو بكر الأنباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن ابن كثير عن مجاهد قال في قراءة عبد الله...، فذكره. وقرأ ابن عباس " الجمل " بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها. وهو حبل السفينة الذي يقال له القلس، وهو حبال مجموعة، جمع جملة، قاله أحمد بن يحيى ثعلب. وقيل: الحبل الغليظ من القنب. وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل. وروي عنه أيضا وعن سعيد بن جبير: " الجمل " بضم الجيم وتخفيف الميم هو القلس أيضا والحبل، على ما ذكرنا آنفا. وروي عنه أيضا " الجمل " بضمتين جمع جمل، كأسد وأسد، والجمل مثل أسد وأسد. وعن أبي السمال " الجمل " بفتح الجيم وسكون الميم، تخفيف " جمل ". وسم الخياط: ثقب الإبرة، عن ابن عباس وغيره. وكل ثقب لطيف في البدن يسمى سما وسما وجمعه سموم. وجمع السم القاتل سمام. وقرأ ابن سيرين " في سم " بضم السين. والخياط: ما يخاط به، يقال: خياط ومخيط، مثل إزار ومئزر وقناع ومقنع. " المهاد " الفراش. و " غواش " جمع غاشية، أي نيران تغشاهم. (وكذلك نجزى الظالمين) يعني الكفار. والله أعلم. قوله تعالى: والذين ءامنوا وعملوا الصلحت لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحب الجنة هم فيها خلدون (41) قوله تعالى: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) كلام معترض، أي والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. ومعنى " لا نكلف نفسا إلا وسعها " أي أنه لم يكلف أحدا من نفقات الزوجات إلا ما وجد وتمكن منه، دون ما لا تناله يده، ولم يرد إثبات الاستطاعة قبل الفعل، قال ابن الطيب. نظيره " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها (1) ". (1) راجع ج 18 ص 170. (*)
[ 208 ]
قوله تعالى: ونزعنا ما في صدورهم من غل تجرى من تحتهم الأنهر وقالوا الحمد لله الذى هدينا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدينا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون (43) ذكر الله عز وجل فيما ينعم به على أهل الجنة نزع الغل من صدورهم. والنزع: الاستخراج والغل: الحقد الكامن في الصدر. والجمع غلال. أي أذهبنا في الجنة ما كان في قلوبهم من الغل في الدنيا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين). وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: " ونزعنا ما في صدورهم من غل ". وقيل: نزع الغل في الجنة ألا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل منازلهم. وقد قيل: إن ذلك يكون عن شراب الجنة، ولهذا قال: " وسقاهم ربهم شرابا طهورا (1) " أي يطهر الأوضار من الصدور، على ما يأتي بيانه في سورة " الإنسان " و " الزمر (2) " إن شاء الله تعالى. (وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهذا) (أي لهذا (3)) الثواب، بأن أرشدنا وخلق لنا الهداية. وهذا رد على القدرية. (وما كنا) قراءة ابن عامر بإسقاط الواو. والباقون بإثباتها. (لنهتدي) لام كي. (لولا أن هدانا الله) في موضع رفع. (ونودوا) أصله. نوديوا (أن) في موضع نصب مخففة من الثقيلة، أي بأنه (تلكم الجنة). وقد تكون تفسيرا لما نودوا به، لأن النداء قول، فلا يكون لها موضع. أي قيل لهم: " تلكم الجنة " لأنهم وعدوا بها في الدنيا، أي قيل لهم: هذه تلكم الجنة التي وعدتم بها، أو يقال ذلك قبل الدخو حين عاينوها من بعد. وقيل: " تلكم " بمعنى هذه. ومعنى (أورثتموها بما كنتم تعلمون) أي ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إياها برحمة الله وفضله. كما قال: " ذلك الفضل من الله (4) ". (1) راجع ج 19 ص 141. (2) راجع ج 15 ص 284. (3) من ع. (4) راجع ج 5 ص 271. (*)
[ 209 ]
وقال: " فسيدخلهم في رحمة منه وفضل (1) ". وفي صحيح مسلم: (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة) قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته منه وفضل). وفي غير الصحيح: ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا (2) إلى منازلهم فيها، فقيل لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله. ثم يقال: يأهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون، فتقسم بين أهل الجنة منازلهم. قلت: وفي صحيح مسلم: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا). فهذا أيضا ميراث، نعم بفضله من شاء وعذب بعدله من شاء. وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته، فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته، ودخلوها برحمته، إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل عليهم. وقرئ " أورثتموها " من غير إدغام. وقرئ بإدغام التاء في الثاء. قوله تعالى: ونادى أصحب الجنة أصحب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظلمين (44) قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة) هذا سؤال تقريع وتعيير. (أن قد وجدنا) مثل " أن تلكم الجنة " أي أنه قد وجدنا. وقيل: هو نفس النداء. (فأذن مؤذن بينهم) أي نادى وصوت، يعني من الملائكة. " بينهم " ظرف، كما تقول: أعلم وسطهم. وقرأ الأعمش والكسائي: " نعم " بكسر العين وتجوز على هذه اللغة بإسكان العين. قال مكي: من قال " نعم " بكسر العين أراد أن يفرق بين " نعم " التي هي جواب وبين " نعم " التي هي اسم للإبل والبقر والغنم. وقد روي عن عمر إنكار " نعم " بفتح العين في الجواب، وقال: قل (1) راجع ج 6 ص 27. (2) في ك: فينظرون. (*)
[ 210 ]
نعم. ونعم ونعم، لغتان بمعنى العدة والتصديق. فالعدة إذا استفهمت عن موجب نحو قولك: أيقوم زيد ؟ فيقول نعم. والتصديق إذا أخبرت عما وقع، تقول: قد كان كذا وكذا، فيقول نعم. فإذا أستفهمت عن منفي فالجواب بلى نحو قولك ألم أكرمك، فيقول بلى. فنعم لجواب الاستفهام الداخل على الإيجاب كما في هذه الآية. وبلى، لجواب الاستفهام الداخل على النفي، كما قال تعالى: " ألست بربكم قالوا بلى (1) ". وقرأ البزي وابن عامر وحمزة والكسائي " أن لعنة الله " وهو الأصل. وقرأ الباقون بتخفيف " أن " ورفع اللعنة على الابتداء. ف " أن " في موضع نصب على القراءتين على إسقاط الخافض. ويجوز في المخففة ألا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مفسرة كما تقوم. وحكي عن الأعمش أنه قرأ " إن لعنة الله " بكسر الهمزة، فهذا على إضمار القول كما قرأ الكوفيون (2) " فناداه الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله " ويروى أن طاوسا دخل على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق الله واحذر يوم الأذان. فقال: وما يوم الأذان ؟ قال: قوله تعالى: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " فصعق هشام. فقال طاوس: هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة. قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالأخرة كفرون (45) قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله) في موضع خفض ل " ظالمين " على النعت. ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم أو أعني. أي الذين كانوا يصدون في الدنيا الناس عن الإسلام. فهو من الصد الذي هو المنع. أو يصدون بأنفسهم عن سبيل الله أي يعرضون. وهذا من الصدود. (ويبغونها عوجا) يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها. وقد مضى هذا (3) المعنى. - (وهم بالأخرة كافرون) أي وكانوا بها كافرين، فحذف وهو كثير في الكلام. (1) راجع ص 313 من هذا الجزء. (2) كذا في الأصول. وتقدم في ج 4 ص 74 أنها قراءة حمزة والكسائي فيكون الصواب: الكوفيان. وفى الشواذ قراءة ابن مسعود. (3) راجع ج 4 ص 154. (*)
[ 211 ]
قوله تعالى: وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيمهم ونادوا أصحب الجنة أن سلم عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون قوله تعالى: (وبينهما حجاب) أي بين النار والجنة - لأنه جرى ذكرهما - حاجز، أسور. وهو السور الذي ذكره الله في قوله: " فضرب بينهم بسور (1) ". (وعلى الأعراف رجال) أي على أعراف السور، وهي شرفه. ومنه عرف الفرس وعرف الديك. روى عبد الله بن أبي (2) يزيد عن ابن عباس أنه قال: الأعراف الشئ المشرف. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: الأعراف سور له عرف كعرف الديك. والأعراف في اللغة: المكان المشرف، جمع عرف. قال يحيى بن آدم: سألت الكسائي عن واحد الأعراف فسكت، فقلت: حدثنا إسرائيل عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال: الأعراف سور له عرف كعرف الديك. فقال: نعم والله، واحده يعني، وجماعته أعراف، يا غلام، هات القرطاس، فكتبه. وهذا الكلام خرج مخرج. المدح، كما قال فيه: " رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (2) " وقد تكلم العلماء في أصحاب الأعراف على عشرة أقوال: فقال عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وابن جبير: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. قال ابن عطية: وفي مسند خيثمة بن سليمان (في آخر الجزء الخامس عشر) حديث عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة (3) دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار). قيل: يا وسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال: (أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون). وقال مجاهد: هم قوم صالحون فقهاء علماء. وقيل: هم الشهداء، ذكره المهدوي. وقال القشيري: وقيل هم فضلاء المؤمنين والشهداء، فرغوا من شغل أنفسهم، وتفرغوا لمطالعة حال الناس، فإذا (1) راجع ج 17 ص 245. (2) كذا في أو ج وك. وفى ز: ابن أبى زيد. والظاهر: ابن زيد. راجع ج 12 ص 264. (3) الصؤابة: بيضة القلملة. (*)
[ 212 ]
رأوا أصحاب النار تعوذوا بالله أن يردوا إلى النار، فإن في قدرة الله كل شئ، وخلاف المعلوم مقدور. فإذا رأوا أهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد يرجون لهم دخولها. وقال شرحبيل بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم. وذكر الطبري في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم. وذكر الثعلبي بإسناده عن ابن عباس في قول عز وجل: " وعلى الأعراف رجال " قال: الأعراف موضع عال على الصراط، عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين، رضي الله عنهم، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه. وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة. واختار هذا القول النحاس، وقال: وهو من أحسن ما قيل فيه، فهم على السور بين الجنة والنار. وقال الزجاج: هم قوم أنبياء. وقيل: هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم. وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف، لأن مذهبه أنهم مذنبون. وقيل: هم أولاد الزنى (1)، ذكره القشيري عن ابن عباس. وقيل: هم ملائكة موكلون بهذا السور، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، ذكره أبو مجلز. فقيل له: لا يقال للملائكة رجال ؟ فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث، فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم، كما أوقع على الجن في قوله: " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن (2) " فهؤلاء الملائكة يعرفون المؤمنين بعلاماتهم والكفار بعلاماتهم، فيبشرون المؤمنين قبدخولهم الجنة وهم لم يدخلوها بعد فيطمعون فيها. وإذا رأوا أهل النار دعوا لأنفسهم بالسلامة من العذاب. قال ابن عطية: واللازم من الآية أن على الأعراف رجالا من أهل الجنة يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين. أي بعلاماتهم، وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة، وسوادها وقبحها في أهل النار، إلى غير ذلك من معرفة حيز هؤلاء وحيز هؤلاء. (1) في ع: الزناة. (2) راجع ج 19 ص 8. (*)
[ 213 ]
قلت: فوقف عن التعيين لاضطراب الأثر والتفصيل، والله بحقائق الأمور عليم. ثم قيل: الأعراف جمع عرف وهو كل عال مرتفع، لأنه بظهوره أعرف من المنخفض. قال ابن عباس: الأعراف شر ف الصراط. وقيل: هو جبل أحد يوضع هناك. قال ابن عطية: وذكر الزهراوي حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدا جبل يحبنا ونحبه وإنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة). وذكر حديثا آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدا على ركن من أركان الجنة). قلت: وذكر أبو عمر عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحد جبل يحبنا ونحبه وإنه لعلى ترعة من ترع الجنة). قوله تعالى: (ونادوا أصحاب الجنة) أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة. أن سلام عليكم أي قالوا لهم سلام عليكم. وقيل: المعنى سلمتم من العقوبة. لم يدخلوها وهم يطعمون أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف، أي لم يدخلوها بعد. " وهم يطمعون " على هذا التأويل بمعنى وهم يعلمون أنهم يدخلونها. وذلك معروف في اللغة أن يكون طمع بمعنى علم، ذكره النحاس. وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، أن المراد أصحاب الأعراف. وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة، أي قال لهم أصحاب الأعراف سلام عليكم وأهل الجنة لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في دخولها للمؤمنين المارين على أصحاب الأعراف. والوقف على قوله: " سلام عليكم ". وعلى قوله: " لم يدخلوها ". ثم يبتدئ " وهم يطمعون " على معنى وهم يطمعون في دخولها. ويجوز أن يكون " وهم يطمعون " حالا، ويكون المعنى: لم يدخلها المؤمنون المارون على أصحاب الأعراف طامعين، وإنما دخلوها غير طامعين في دخولها، فلا يوقف على " لم يدخلوها ". قوله تعالى: وإذا صرفت أبصرهم تلقاء أصحب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظلمين (47)
[ 214 ]
قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) أي جهة اللقاء وهي جهة المقابلة. ولم يأت مصدر على تفعال غير حرفين (1): تلقاء وتبيان. والباقي بالفتح، مثل تسيار وتهمام وتذكار. وأما الاسم بالكسر فيه فكثير، مثل تقصار وتمثال. قالوا أي قال أصحاب الأعراف. (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) سألوا الله ألا يجعلهم معهم، وقد علموا أنه لا يجعلهم معهم. فهذا على سبيل التذلل، كما يقول أهل الجنة: " ربنا أتمم لنا نورنا (2) " ويقولون: الحمد لله. على سبيل الشكر لله عز وجل. ولهم في ذلك لذة. قوله تعالى: ونادى أصحب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيمهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم وما تستكبرون (48) أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لاحوف عليكم ولا أنتم تحزنون (49) قوله تعالى: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم) أي من أهل النار. (قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) أي للدنيا واستكباركم عن الإيمان. (أهؤلاء الذين) إشارة إلى قوم من المؤمنين الفقراء، كبلال وسلمان وخباب وغيرهم. (أقسمتم) في الدنيا. (لا ينالهم الله) في الآخرة. (برحمة) يوبخونهم بذلك. وزيدوا غما وحسرة بأن قالوا لهم (ادخلوا الجنة) وقرأ عكرمة " دخلوا الجنة " بغير ألف والدال مفتوحة. وقرأ طلحة بن مصرف " أدخلوا الجنة " بكسر الخاء على أنه فعل ماض (3). ودلت الآية على أن أصحاب الأعراف ملائكة أو أنبياء، فإن قولهم ذلك إخبار عن الله تعالى ومن جعل أصحاب الأعراف المذنبين كان آخر قولهم لأصحاب النار " وما كنتم تستكبرون " ويكون " أهؤلاء الذين " إلى آخر الآية من قول الله تعالى لأهل النار توبيخا لهم على ما كان من قولهم في الدنيا. وروي عن ابن عباس، والأول عن الحسن. وقيل: هو من كلام الملائكة (1) الذى في المصباح: قالوا ولم يجئ بالكسر إلا تبيان وتلقاء والتنضال. قلت: في هذه الصيغة خلاف. (2) راجع ج 18 ص 197. (3) فعل ماض مبنى للمجهول كما في أبى حيان. (*)
[ 215 ]
الموكلين بأصحاب الأعراف، فإن أهل النار يحلفون أن أصحاب الأعراف يدخلون معهم النار فتقول الملائكة لأصحاب الأعراف: " ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولا أنتم تحزنون " قوله تعالى: ونادى أصحب النار أصحب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار اصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ونادى) قيل: إذا صار أهل الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار فقالوا: يا ربنا إن لنا قرابات في الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم. وأهل الجنة لا يعرفونهم لسواد وجوههم. فيقولون: (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) فبين أن ابن آدم لا يستغني عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب. (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) يعني طعام الجنة وشرابها. والإفاضة التوسعة، يقال: أفاض عليه نعمه. الثانية - في هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل ؟ فقال: الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة " أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " ؟. وروى أبو داود أن سعدا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصدقة (1) أعجب إليك ؟ قال: (الماء). وفي رواية: فحفر بئرا فقال: (هذه لأم سعد). وعن أنس قال قال سعد: يا رسول الله، إن أم سعد كانت تحب الصدقة، أفينفعها أن أتصدق عنها ؟ قال: (نعم وعليك بالماء). وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن عبادة أن يسقي عنها الماء. فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله تعالى. وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه. روى (1) في ك: أي الأعمال. (*)
[ 216 ]
البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذ كلب يأكل الثرى من العطش فقال لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله (1) له فغفر له). قالوا: يا رسول الله، وإلنا في البهائم لأجرا ؟ قال: (في كل ذات كبد رطبة (2) أجر ". وعكس هذا ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عذبت أمرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لاهي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش (3) الأرض). وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق رقبة ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها). خرجه ابن ماجة في السنن. الثالثة - وقد استدل بهذه الآية من قال: إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، وأن له منعه ممن أراده، لأن معنى قول أهل الجنة: " إن الله حرمهما على الكافرين " لا حق لكم فيها. وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا المعنى: (باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه) وأدخل في الباب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض). قال المهلب: لا خلاف أن صاحب الحوض أحق بمائه، لقوله عليه السلام: (لأذودن رجالا عن حوضي). قوله تعالى: الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيوة الدنيا فاليوم ننسهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بئايتنا يجحدون (51) " الذين " في موضع خفض نعت للكافرين. وقد يكون رفعا ونصبا بإضمار. قيل: هو من قول أهل الجنة. فاليوم ننساهم أي نتركهم في النار. كمنسوا لقاء يومهم (1) أي أثنى عليه أو قبل عمله ذلك، أو أظهر ما جازاه به عند ملائكته. (عن شرح القسطلائى). (2) روايه البخاري وأحمد وابن ماجة " في كل ذات كبد حراء أجر ". (3) خشاش الأرض (مثلثة الخاء): هوامها وحشراتها. (*)
[ 217 ]
هذا أي تركوا العمل به وكذبوا به. و " ما " مصدرية، أي كنسيهم. (وما كانوا بآياتنا يجحدون) عطف عليه، وجحدهم. قوله تعالى: ولقد جئنهم بكتب فصلنه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب) يعني القرآن. " فصلناه " أي بيناه حتى يعرفه من تدبره وقيل: " فصلناه " أنزلناه متفرقا. (على علم) منا به، لم يقع فيه سهو ولاغلط. (هدى ورحمة) قال الزجاج: أي هاديا وذا رحمة، فجعله حالا من الهاء التي في " فصلناه ". قال ويجوز هدى ورحمة، بمعنى هو هدى ورحمة. وقيل: يجوز هدى ورحمة بالخفض على المن كتاب. وقال الكسائي والفراء: ويجوز هدى ورحمة بالحفض على النعت لكتاب. قال الفراء: مثل " وهذا كتاب أنزلناه مبارك (1) ". (لقوم يؤمنون) خص المؤمنون لأنهم المنتفعون به. قوله تعالى: هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (53) قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله) بالهمز، من آل. وأهل المدينة يخففون الهمزة. والنظر: الانتظار، أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في القرآن من العقاب والحساب. وقيل: " ينظرون " من النظر إلى يوم القيامة. فالكناية في " تأويله " ترجع إلى الكتاب. وعاقبة (2) الكتاب ما وعد الله فيه من البعث والحساب. وقال مجاهد: " تأويله " (1) راجع ص 142 من هذا الجرء. (2) كذا في الأصول ولعله بعد قول قتادة الآتى. (*)
[ 218 ]
جزاؤه، أي جزاء تكذيبهم بالكتاب. قال قتادة: " تأويله " عاقبته. والمعنى متقارب. (يوم يأتي تأويله) أي تبدو عواقبه يوم القيامة. و " يوم " منصوب ب " يقول "، أي يقول الذين نسوه من قبل يوم يأتي تأويله. (قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء) استفهام فيه معنى التمني. (فيشفعوا) نصب لأنه جواب الاستفهام. (لنا أو نرد) قال الفراء: المعنى أو هل نرد. (فنعمل غير الذي كنا نعمل) قال الزجاج: نرد عطف على المعنى، أي هل يشفع لنا أحد أو نرد. وقرأ ابن إسحاق " أنرد فنعمل " بالنصب فيهما. والمعنى إلا أن نرد، كما قال (1): فقلت له لا تبك عينك إنما * نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقرأ الحسن " أو نرد فنعمل " برفعهما جميعا. (قد خسروا أنفسهم) أي فلم ينتفعوا بها، وكل من لم ينتفع بنفسه فقد خسرها. وقيل: خسروا النعم وحظ أنفسهم منها. (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي بطل ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر. قوله تعالى: إن ربكم الله الذى خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرت بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العلمين (54) قوله تعالى: (إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض في ستة أيام) بين أنه المنفرد بقدرة الإيجاد، فهو الذي يجب أن يعبد وأصل " ستة " سدسة، فأرادوا إدغام الدال في السين فالتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليهما. وإن شئت قلت: أبدل من إحدى السينين تاء وأدغم في الدال، لأنك تقول في تصغيرها: سديسة، وفي الجمع أسداس، والجمع والتصغير يردان الأسماء إلى أصولها. ويقولون: جاء فلان سادسا وسادتا وساتا، فمن قال: (1) هو امرؤ القيس. (*)
[ 219 ]
سادتا أيدل من السين تاء. واليوم: من طلوع الشمس إلى غروبها. فإن لم يكن شمس فلا يوم، قال القشيري. وقال: ومعنى (في ستة أيام) أي من أيام الآخرة، كل يوم ألف سنة، لتفخيم خلق السماوات والأرض. وقيل: من أيام الدنيا. قال مجاهد وغيره: أولها الأحد وآخرها الجمعة. وذكر هذه المدة ولو أراد خلقها في لحظة لفعل، إذ هو القادر على أن يقول لها كوني فتكون. ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور، ولتظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شئ. وهذا عند من يقول: خلق الملائكة قبل خلق السماوات والأرض. وحكمة أخرى - خلقها في ستة أيام لأن لكل شئ عنده أجلا. وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب، لأن لكل شئ عنده أجلا. وهذا كقول: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب. فاصبر على ما يقولون (1)). بعد أن قال: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا " قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في الكتاب (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولا. والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين. وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لاتعلم حقيقته. قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف (1) راجع ج 17 ص 22. فما بعد. (*)
[ 220 ]
مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها. وهذا القدر كاف، ومن أراد زيادة عليه فليقف عليه في موضعه من كتب العلماء. والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار. قال الجوهري: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته، أي استقر. واستوى إلى السماء أي قصد. واستوى أي استولى وظهر. قال: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق واستوى الرجل أي انتهى شبابه. واستوى الشئ إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى (1) " قال: علا. وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة * وقد حلق النجم اليماني فاستوى أي علا وارتفع. قلت: فعلو الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه، لكنه العلي بالإطلاق سبحانه. قوله تعالى: (على العرش) لفظ مشترك يطلق على أكثر من واحد. قال الجوهري وغيره: العرش سرير الملك. وفي التنزيل " نكروا لها عرشها (2) "، " ورفع أبويه على العرش (3) " والعرش: سقف البيت. وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها وفيه الأصابع. وعرش السماك: أربعة كواكب صغار أسفل من العواء (4)، يقال: إنها عجز الأسد. وعرش البئر: طيها بالخشب، بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة قدر قامة، فذلك الخشب هو العرش، والجمع عروش. والعرش اسم لمكة. والعرش الملك والسلطان. يقال: ثل عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزه. قال زهير: تداركتما عبسا وقد ثل عرشها * وذبيان إذ ذلت بأقدامها النعل (1) راجع ج 11 ص 169. (2) راجع ج 13 ص 207. (3) راجع ج 9 ص 264. (4) العواء: خمسة كواكب على خط معقف. وقال ابن سيده. العواء منزل من منازل القمر، يمد ويقصر والألف في آخره للتأنيث. (*)
[ 221 ]
وقد يئول العرش في الآية بمعنى الملك، أي ما استوى الملك إلا له جل وعز. وهو قول حسن وفيه نظر، وقد بيناه في جملة الأقوال في كتابنا. والحمد لله. قوله تعالى: (يغشى الليل النهار) أي يجعله كالغشاء، أي يذهب نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجئ الليل. فالليل للسكون، والنهار للمعاش. وقرئ " يغشى " بالتشديد، ومثله في " الرعد (1) ". وهي قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي. وخفف الباقون. وهما لغتان أغشى وغشى. وقد أجمعوا على " فغشاها (2) ما غشى " مشددا. وأجمعوا على " فأغشيناهم (3) " فالقراءتان متساويتان. وفي التشديد معنى التكرير والتكثير. والتغشية والإغشاء: إلباس الشئ الشئ. ولم يذكر في هذه الآية دخول النهار على الليل، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، مثل " سرابيل تقيكم (4) الحر ". " بيدك الخير (5) ". وقرأ حميد بن قيس " يغشي الليل النهار " ومعناه أن النهار يغشى الليل. (يطلبه حثيثا) أي يطلبه دائما من غير فتور. و " يغشي الليل النهار " في موضع نصب على الحال. والتقدير: استوى على العرش مغشيا الليل النهار. وكذا " يطلبه حثيثا " حال من الليل، أي يغشي الليل النهار طالبا له. ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة ليست بحال. " حثيثا " بدل من طالب المقدر أو نعت له، أو نعت لمصدر محذوف، أي يطلبه طلبا سريعا. والحث: الإعجال والسرعة. وولى حثيثا أي مسرعا. (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) قال الأخفش: هي معطوفة على السماوات، أي وخلق الشمس. وروي عن عبد الله بن عامر بالرفع فيها كلها على الابتداء والخبر. قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) فيه مسألتان الأولى - صدق الله في خبره، فله الخلق وله الأمر، خلقهم وأمرهم بما أحب. وهذا الأمر يقتضي النهي. قال ابن عيينة: فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر. (1) راجع ج 9 ص 280. (2) راجع ج 17 ص 121. (3) راجع ج 15 ص 9. (4) راجع ج 10 ص 159. (5) راجع ج 4 ص 51. (*)
[ 222 ]
فالخلق المخلوق، والأمر كلامه الذي هو غير مخلوق وهو قوله: " كن ". " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (1) " وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بين على فساد قول من قال بخلق القرآن، إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقا لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق. وذلك عي من الكلام ومستهجن ومستغث. والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه. ويدل عليه قوله سبحانه. " ومن آياته أن تقوم السماء والأرض (2) بأمره ". " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره (3) ". فأخبر سبحانه أن المخلوقات قائمة بأمره، فلو كان الأمر مخلوقا لافتقر إلى أمر آخر يقوم به، وذلك الأمر إلى أمر آخر إلى ما لا نهاية له. وذلك محال. فثبت أن أمره الذي هو كلامه قديم أزلي غير مخلوق، ليصح قيام المخلوقات به. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا (3) بالحق ". وأخبر تعالى أنه خلقهما بالحق، يعني القول وهو قوله للمكونات: " كن ". فلو كان الحق مخلوقا لما صح أن يخلق به المخلوقات، لأن الخلق لا يخلق بالمخلوق. يدل عليه " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ". " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (4) ". " ولكن حق القول مني (2) ". وهذا كله إشارة إلى السبق في القول في القدم (5)، وذلك يوجب الأزل في الوجود. وهذه النكتة كافية في الرد عليهم. ولهم آيات احتجوا بها على مذهبهم، مثل قوله تعالى: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " الآية. ومثل قوله تعالى: " وكان أمر الله قدرا مقدورا (2) ". و " مفعولا (2) " وما كان مثله. قال القاضي أبو بكر: معنى " ما يأتيهم من ذكر (4) " أي من وعظ من النبي صلى الله عليه وسلم ووعد وتخويف " إلا استمعوه وهم يلعبون "، لأن وعظ الرسل صلوات الله عليهم وسلامه وتحذيرهم ذكر. قال الله تعالى: " فذكر إنما أنت مذكر (6) ". ويقال: فلان في مجلس الذكر. ومعنى " وكان أمر الله قدرا مقدورا " و " مفعولا " أراد سبحانه (1) راجع ج 15 ص 60 وص 139. (2) راجع ج 14 ص 19 وص 965. 188. (3) راجع ج 10 ص 83 وص 53. (4) راجع ج 11 ص 345 وص 266. (5) في ج: القديم. (6) راجع ج 20 ص 37. (*)
[ 223 ]
عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين وما حكم به وقدره من أفعاله. ومن ذلك قوله تعالى: " حتى إذا جاء أمرنا (1) " وقال عز وجل: " وما أمر فرعون برشيد " يعني به شأنه وأفعال وطرائقه. قال الشاعر: لها أمرها حتى إذا ما تبوأت * بأخفافها مرعى تبوأ مضجعا الثانية - وإذا تقرر هذا فأعلم أن الأمر ليس من الإرادة في شئ. والمعتزلة تقول: الأمر نفس الإرادة. وليس بصحيح، بل يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد. ألا ترى أنه أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه، وأمر نبيه أن يصلي مع أمته خمسين صلاة، ولم يرد منه إلا خمس صلوات. وقد أراد شهادة حمزة حيث يقول: " ويتخذ منكم شهداء (2) ". وقد نهى الكفار عن قتله ولم يأمرهم به. وهذا صحيح نفيس فبابه، فتأمله. قوله تعالى: (تبارك الله رب العالمين) " تبارك " تفاعل، من البركة وهي الكثرة والاتساع. يقال بورك الشئ وبورك فيه، قال ابن عرفة. وقال الأزهري: " تبارك " تعالى وتعاظم وارتفع. وقيل: إن باسمه يتبرك ويتيمن. وقد مضى في الفاتحة معنى " رب العالمين (3) " قوله تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ادعوا ربكم) هذا أمر بالدعاء وتعبد به. ثم قرن جل وعز بالأمر صفات تحسن معه، وهي الخشوع والاستكانة والتضرع. ومعنى " خفية " أي سرا في النفس ليبعد عن الرياء، وبذلك أثنى على نبيه زكريا عليه السلام إذ قال مخبرا عنه: " إذ نادى ربه نداء خفيا (4) ". ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي). والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر. (1) راجع ج 9 ص 33 وص 93. (2) راجع ج 4 ص 218. (3) راجع ج 1 ص 136. (4) راجع ج 11 ص 76. (*)
[ 224 ]
وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة (1) ". قال الحسن بن أبي الحسن: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية). وذكر عبد ا صالحا رضي فعله فقال: " إذ نادى ربه نداء خفيا ". وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذا على أن إخفاء " آمين " أولى من الجهر بها، لأنه دعاء. وقد مضى القول فيه في " الفاتحة (2) ". وروى مسلم عن أبي موسى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر - وفي رواية في غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير - وفي رواية فجعل رجل كلما علا ثنية قال: لا إله إلا الله - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس اربعوا (3) على أنفسكم إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم). الحديث. الثانية - واختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء، فكرهه طائفة منهم جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. ورأى شريح رجلا رافعا يديه فقال: من تتناول بهما، لا أم لك ! وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قطعها الله. واختاروا إذا دعا الله في حاجة أن يشير بأصبعه السبابة. ويقولون: ذلك الإخلاص. وكان قتادة يشير بأصبعه ولا يرفع يديه. وكره رفع الأيدي عطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم. وروى جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره البخاري. قال أبو موسى الأشعري: دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه. ومثله عن أنس. وقال ابن عمر: رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد (4). وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله (1) راجع ج 3 ص 332. (2) راجع ج 1 ص 127. (3) أي أرفقوا بها ولا تبالغوا في الجهد. (4) هو خالد بن الوليد، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بنى جذيمد داعيا إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. فنقم النبي صلى الله عليه وسلم على خالد استعجاله في شأنهم وترك التثبت في أمرهم. راجع كتاب المغازى في صحيح البخاري. (*)
[ 225 ]
عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر (1) رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادا يديه، فجعل يهتف بربه، وذكر الحديث. وروى الترمذي عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه. قال: هذا حديث صحيح غريب. وروى ابن ماجة عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه إليه فيردهما صفرا (أو قال (2)) خائبتين). احتج الأولون بما رواه مسلم عن عمارة بن رويبة ورأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة. وبما روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أنس ابن مالك حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في شئ من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه. والأول أصح طرقا وأثبت من حديث سعيد بن أبي عروبة، فإن سعيدا كان قد تغير عقله في آخر عمره. وقد خالفه شعبة في روايته عن قتادة عن أنس (بن مالك (3)) فقال فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه. وقد قيل: إنه إذا نزلت بالمسلمين نازلة أن الرفع عند ذلك جميل حسن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويوم بدر. قلت: والدعاء حسن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان لإظهار موضع الفقر والحاجة إلى الله عز وجل، والتذلل له والخضوع. فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في الأحاديث. وقد قال تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية ". ولم يرد (4) صفة من رفع يدين وغيرها. وقال: " الذين يذكرون الله قياما وقعودا (5) " فمدحهم ولم يشترط حالة غير ما ذكر. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة وهو غير مستقبل القبلة. (1) تقدم في ج 3 ص 255. أن أهل بدر كأصحاب طالوت وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. وهذا هو المشهور. فليراجع. (2) الزيادة عن سنن ابن ماجة. (3) من ج. (4) في ع: ولم ترد صفة. (5) راجع ج 4 ص 305. (*)
[ 226 ]
الثالثة - قوله تعالى: (إنه لا يحب المعتدين) يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما (إلى هذا هي الإشارة (1). والمعتدي هو المجاوز للحد ومرتكب الحظر. وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء). أخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة. حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: أي بني، سل الله الجنة وعذبه من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء). والاعتداء في الدعاء على وجوه: منها الجهر الكثير والصياح، كما تقدم. ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي، أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط. ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك. ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظا مفقرة (2) وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره ويترك ما دعا به رسوله عليه السلام. وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء. كما تقدم في البقره بيانه. قوله تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) فيه مسألة واحدة وهو أنه سبحانه نهى عن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر. فهو على العموم على الصحيح من الأقوال. وقال الضحاك: معناه لا تعوروا (4) الماء المعين، ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارا. وقد ورد: قطع الدنانير من الفساد في الأرض. وقد قيل: تجارة الحكام من الفساد في الأرض. وقال القشيري: المراد ولا تشركوا، فهو نهي عن الشرك وسفك الدماء والهرج في الأرض، وأمر بلزوم الشرائع بعد إصلاحها، بعد أن أصلحها الله ببعثه الرسل، وتقرير (5) (1) ما بين المربعات هكذا ورد في نسخ الأصل ولعله زيادة من الناسخ. (2) في ع: مقفاه. (3) راجع ج 2 ص 308. (4) عورت عيون المياه: إذا دفنها وسددتها. (5) في ز: تقدير. (*)
[ 227 ]
الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر. قلت: وأما ما ذكره الضحاك فليس على عمومه، وإنما ذلك إذا كان فيه ضرر على المؤمن، وأما ما يعود ضرره على المشركين فذلك جائز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عور ماء قليب (1) بدر وقطع شجر الكافرين. وسيأتي الكلام في قطع الدنانير في " هود (2) " إن شاء الله تعالى. (وادعوه خوفا وطمعا) أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف وتأميل لله عز وجل، حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، قال الله تعالى: " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم (3) ". فرجى وخوف. فيدعو الإنسان خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه، قال الله تعالى: " ويدعوننا رغبا ورهبا (4) ". وسيأتي القول فيه. والخوف: الانزعاج لما لا يؤمن من المضار. والطمع: توقع المحبوب، قال القشيري. وقال بعض أهل العلم: ينبغي أن يغلب (5) الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله). صحيح أخرجه مسلم. قوله تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) ولم يقل قريبة. ففيه سبعة أوجه: أولها أن الرحمة والرحم واحد، وهي بمعنى العفو الغفران، قاله الزجاج واختاره النحاس. وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير، كقوله: " فمن جاءه موعظة (6) ". وهذا قريب من قول الزجاج، لأن الموعظة بمعنى الوعظ. وقيل: أراد بالرحمة الإحسان، (1) القليب (بفتح القاف): البئر العادية القديمة التى لا يعلم لها رب ولا حافر، تكون في البراري. (2) راجع ج 9 ص 84. (3) راجع ج 10 ص 34. (4) راجع ج 11 ص 336. (5) هذا يخالف ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام لو وزن خوف المؤمن ورجاءه بميزان تريص ما زاد أحدهما على الآخر، وفى رواية " لاعتدلا ". وورد عن حذيفة رضى الله عنه حين احتضر: اللهم إنك أمرتنا أن نعدل بين الخوف والرجاء والآن الرجاء فيك أمثل. (6) راجع ج 3 ص 347. (*)
[ 228 ]
ولأن ما لا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره، ذكره الجوهري. وقيل: أراد بالرحمة هنا المطر، قاله الأخفش. قال: ويجوز أن يذكر كما يذكر بعض المؤنث. وأنشد: فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها (1) وقال أبو عبيدة: ذكر " قريب " على تذكير المكان، أي مكانا قريبا. قال علي بن سليمان: وهذا خطأ، ولو كان كما قال لكان " قريب " منصوبا في القرآن، كما تقول: إن زيدا قريبا منك. وقيل: ذكر على النسب، كأنه قال: إن رحمة الله ذات قرب، كما تقول: امرأة طالق وحائض. وقال الفراء: إذا كان القريب في معنى المسافة يذكر مؤنث، إن كان في معنى النسب يؤنث بلا اختلاف بينهم. تقول: هذه المرأة قريبتي، أي ذات قرابتي، ذكره الجوهري. وذكره غيره عن الفراء: يقال في النسب قريبة فلان، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث، يقال: دارك منا قريب، وفلانة منا قريب، قال الله تعالى: " وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (2) ". وقال من احتج له: كذا كلام العرب، كما قال امرؤ القيس: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم * قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا قال الزجاج: وهذا خطأ، لأن سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما. قوله تعالى: وهو الذى يرسل الريح بشرا بين يدى رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقنه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57) قوله تعالى: (وهو الذى يرسل الرياح بشرابين يدى رحمته) عطف على قوله: " يغشي الليل النهار ". ذكر شيئا آخر من نعمه، ودل على وحدانيته وثبوت إلهيته. وقد مضى الكلام (1) البيت لعامر بن جوين الطائى. وصف أرضا مخصبة لكثرة ما نزل بها من الغيث. والودق: المطر. رالمزنة: السحابة (عن شرح الشواهد). (2) راجع ج 14 ص 248. (*)
[ 229 ]
في الريح في البقرة (1). ورياح جمع كثرة وأرواح جمع قلة. وأصل ريح روح. وقد خطئ من قال في جمع القلة أرياح. " بشرا " فيه سبع قراءات: قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو " نشرا " بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب، أي ذات نشر، فهو مثل شاهد وشهد. ويجوز أن يكون جمع نشور كرسول ورسل. يقال: ريح النشور إذا أتت من هاهنا وهاهنا. والنشور بمعنى المنشور، كالركوب بمعنى المركوب. أي وهو الذي يرسل الرياح منشرة. وقرأ الحسن وقتادة " نشرا " بضم النون وإسكان الشين مخففا من نشر، كما يقال: كتب ورسل. وقرأ الأعمش وحمزة " نشرا " بفتح النون وإسكان الشين على المصدر، أعمل فيه معنى ما قبله، كأنه قال: وهو الذي ينشر الرياح نشرا. نشرت الشئ فانتشر، فكأنها كانت مطوية فنشرت عند الهبوب. ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال من الرياح، كأنه قال يرسل الرياح منشرة، أي محيية، من أنشر الله الميت فنشر، كما تقول أتانا ركضا، أي راكضا. وقد قيل: إن نشرا (بالفتح) من النشر الذي هو خلاف الطي على ما ذكرنا. كأن الريح في سكونها كالمطوية ثم ترسل من طيها ذلك فتصير كالمنفتحة. وقد فسره أبو عبيد بمعنى متفرقة في وجوهها، على معنى ينشرها هاهنا وهاهنا. وقرأ عاصم: " بشرا " بالباء وإسكان الشين والتنوين جمع بشير، أي الرياح تبشر بالمطر. وشاهده قوله: " ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات (2) ". وأصل الشين الضم، لكن سكنت تخفيفا كرسل ورسل. وروي عنه " بشرا " بفتح الباء. قال النحاس: ويقرأ " بشرا " و " بشر مصدر بشره يبشره بمعنى بشره " فهذه خمس قراءات. وقرأ محمد اليماني " بشرى " على وزن حبلى. وقراءة سابعة " بشرى " بضم الباء والشين. (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا) السحاب يذكر ويؤنث. وكذا كل جمع بينه وبين واحدته هاء. ويجوز نعته بواحد فتقول: سحاب ثقيل وثقيلة. والمعنى: حملت الريح سحابا ثقالا بالماء، أي أثقلت بحمله. يقال: أقل فلان الشئ أي حمله. سقناه (1) راجع ج 2 ص 197. (2) راجع ج 14 ص 43. (*)
[ 230 ]
أي السحاب. (لبلد ميت) أي ليس فيه نبات. يقال: سقته لبلد كذا وإلى بلد كذا. وقيل لأجل بلد ميت، فاللام لام أجل. والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون. والبلدة والبلد واحد البلاد والبلدان. والبلد الأثر وجمعه أبلاد. قال الشاعر: من بعد ما شمل البلى أبلادها (1) والبلد: أدحي (2) النعام. يقال: هو أذل من بيضة البلد، أي من بيضة النعام التي يتركها. والبلدة الأرض، يقال: هذه بلدتنا كما يقال بحرتنا. والبلدة من منازل القمر، وهي ستة أنجم من القوس تنزلها الشمس في أقصر يوم في السنة. والبلدة الصدر، يقال: فلان واسع البلدة أي واسع قال الشاعر: أنيخت فألقت بلدة فوق (3) بلدة * قليل بها الأصوات إلا بغامها يقول: بركت الناقة فألقت صدرها على الأرض. والبلدة (بفتح الباء وضمها): نقاوة ما بين الحاجبين، فهما من الألفاظ المشتركة. (فأنزلنا به الماء) أي بالبلد. وقيل: أنزلنا بالسحاب الماء، لأن السحاب آلة لإنزال الماء. ويحتمل أن يكون المعنى فأنزلنا منه الماء، كقوله: " يشرب بها عباد الله (4) " أي منها. (فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) الكاف في موضع نصب. أي مثل ذلك الإخراج نحيي الموتى. وخرج البيهقي وغيره عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يعيد الله الخلق، وما آية ذلك في خلقه ؟ قال: (أما مررت بوادي قومك جدبا ثم مررت به يهتز خضرا) قال: نعم، قال: (فتلك آية الله في خلقه). وقيل: وجه التشبيه أن إحياءهم من قبورهم يكون بمطر يبعثه الله على قبورهم، فتنشق عنهم القبور، ثم تعود إليهم الأرواح. وفي صحيح (1) هذا عجز بيت لابن الرقاع. وصدره: عرف الديار توهما فاعتادها * (2) الأدحى (بضم الهمزه وكسرها: مبيض النعام في الرمل، لأن النعام تبيض فيه وليس للنعام عش. (3) في الأصول: " بعد ". والتصويب عن اللسان وديوان ذى الرمة. أراد بالبدة الأولى ما يقع على الأرض من صدرها. وبالثانية الفلاة التى أناخ ناقته فيها. والبغام: صوت الناقة وأصله للظبى فاستعاره للناقة. (4) راجع ج 19 ص 122. (*)
[ 231 ]
مسلم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم (ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم يقال يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسئولون). وذكر الحديث. وقد ذكرناه بكماله في كتاب (التذكرة) والحمد لله. فدل على البعث والنشور، وإلى الله ترجع الأمور. قوله تعالى: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الأيت لقوم يشكرون (58) قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا) أي التربة الطيبة. والخبيث الذي في تربته حجارة أو شوك، عن الحسن. وقيل: معناه التشبيه، شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، والبليد بالذي خبث، عن النحاس. وقيل: هذا مثل للقلوب، فقلب يقبل الوعظ والذكرى، وقلب فاسق ينبو عن ذلك، قال الحسن أيضا. وقال قتادة: مثل للمؤمن يعمل محتسبا متطوعا، والمنافق غير محتسب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين (1) حسنتين لشهد العشاء). " نكدا " نصب على الحال، وهو العسر الممتنع من إعطاء الخير. وهذا تمثيل. قال مجاهد: يعني أن في بني آدم الطيب والخبيث. وقرأ طلحة " إلا نكدا " حذف الكسرة لثقلها. وقرأ ابن القعقاع " نكدا " بفتح الكاف، فهو مصدر بمعنى ذا نكد. كما قال: فإنما هي إقبال وإدبار (2) وقيل: " نكدا " بنصب الكاف وخفضها بمعنى، كالدنف والدنف، لغتان. (كذلك نصرف الآيات) أي كما صرفنا من الآيات، وهي الحجج والدلالات، في إبطال الشرك، كذلك نصرف الآيات في كل ما يحتاج إليه الناس. (لقوم يشكرون) وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك. (1) المرماة (بكسر الميم وفتحها): ظلف الشاه. وقيل: ما بين ظلفها. (2) البيت للخنساء. وصدره: ترقع ما رتعت حتى إذا أدركت. الخزانة ج 1 ص 207. (*)
[ 232 ]
قوله تعالى: لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (59) قوله تعالى: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله) لما بين أنه الخالق القادر على الكمال ذكر أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار. واللام في " لقد " للتأكيد المنبه على القسم. والفاء دالة على أن الثاني بعد الأول. " يا قوم " نداء مضاف. ويجوز " يا قومي " على الأصل. ونوح أول الرسل إلى الأرض بعد آدم عليهما السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات. قال النحاس: وانصرف لأنه على ثلاثة أحرف. وقد يجوز أن يشتق من ناح ينوح، وقد تقدم إن في " آل عمران (1) " هذا المعنى وغيره فأغنى عن إعادته. قال ابن العربي: ومن قال إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم. والدليل على صحة وهمه الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النبي صلى الله عليه وسلم آدم وإدريس فقال له آدم: (مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح). وقال له إدريس: (مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح). فلو كان إدريس أبا لنوح لقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح. فلما قال له والأخ الصالح دل ذلك على أنه يجتمع معه في نوح، صلوات الله عليهم أجمعين. ولا كلام لمنصف بعد هذا. قال القاضي عياض: وجاء جواب الآباء ها هنا كنوح وإبراهيم وآدم (مرحبا بالابن الصالح). وقال عن إدريس (بالأخ الصالح) كما ذكر عن موسى وعيسى ويوسف وهارون ويحيى ممن ليس بأب باتفاق للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال المازري: قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام. فإن قام الدليل على أن إدريس بعث أيضا لم يصح قول النسابين أنه قبل نوح، لما أخبر عليه السلام من قول آدم أن نوحا أول رسول بعث، وإن لم يقم دليل جاز ما قالوا: وصح أن يحمل أن إدريس كان نبيا غير مرسل. قال القاضي عياض: قد يجمع بين هذا بأن يقال: اختص بعث نوح لأهل الأرض - كما قال في الحديث - كافة كنبينا عليه السلام. ويكون إدريس لقومه كموسى وهود وصالح ولوط وغيرهم. وقد استدل (1) راجع ج 4 ص 62. (*)
[ 233 ]
بعضهم على هذا بقوله تعالى: " وإن إلياس لمن المرسلين. إذ قال لقومه ألا تتقون (1) ". وقد قيل: إن إلياس هو إدريس. وقد قرئ " سلام على إدراسين ". قال القاضي عياض: وقد رأيت أبا الحسن بن بطال ذهب إلى أن آدم ليس برسول، ليسلم من هذا الاعتراض. وحديث أبي ذر الطويل يدل على أن آدم وإدريس رسولان. قال ابن عطية: ومجمع ذلك بأن تكون بعثة نوح مشهورة لإصلاح الناس وحملهم بالعذاب والإهلاك على الإيمان، فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة. والله أعلم. وروي عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام بعث وهو ابن أربعين سنة. قال الكلبي: بعد آدم بثمانمائة سنة. وقال ابن عباس: وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، كما أخبر التنزيل. ثم عاش بعد الطوفان ستين سنة. حتى كثر الناس وفشوا. وقال وهب: بعث نوح وهو ابن خمسين سنة. وقال عون بن شداد: بعث نوح وهو ابن ثلثمائة وخمسين سنة. وفي كثير من كتب الحديث: الترمذي وغيره أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام. وذكر النقاش عن سليمان بن أرقم عن الزهري: أن العرب وفارس والروم وأهل الشام وأهل اليمن من ولد سام بن نوح. والسند والهند والزنج والحبشة والزط والنوبة، وكل جلد أسود من ولد حام بن نوح. والترك وبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة كلهم من ولد يافث بن نوح. والخلق كلهم ذرية نوح. قوله تعالى: (ما لكم من إله غيره) برفع " غيره " قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم وحمزة. أي ما لكم إله غيره. نعت على الموضع. وقيل: " غير " بمعنى إلا، أي ما لكم من إله إلا الله. قال أبو عمرو: ما أعرف الجر ولا النصب. وقرأ الكسائي بالخفض على الموضع. ويجوز النصب على الاستثناء، وليس بكثير، غير أن الكسائي والفراء أجازا نصب " غير " في كل موضع يحسن فيه " إلا " تم الكلام أو لم يتم فأجازا: ما جاءني غيرك. قال الفراء: هي لغة بعض بني أسد وقضاعة. وأنشد: (1) راجع ج 15 ص 115. (*)
[ 234 ]
لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت * حمامة في سحوق ذات أو قال (1) قال الكسائي: ولا يجوز جاءني غيرك، في الإيجاب، لأن إلا لا تقع هاهنا قال النحاس لا يجوز عند البصريين نصب " غير " إذا لم يتم الكلام. وذلك عندهم من أقبح اللحن. قوله تعالى: قال الملأ من قومه إنا لنريك في ضلل مبين (60) قال يقوم ليس بى ضللة ولكني رسول من رب العالمين (61) أبلغكم رسلت ربى وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62) " الملأ " أشرف القوم ورؤساؤهم. وقد تقدم بيانه في البقرة (2). الضلال والضلالة: العدول عن طريق الحق، والذهاب عنه. أي إنا لنراك في دعائنا إلى إله واحد في ضلال عن الحق. (أبلغكم) بالتشديد من التبليغ، وبالتخفيف من الإبلاغ. وقيل: هما بمعنى واحد لغتان، مثل كرمه وأكرمه. (وأنصح لكم) النصح: إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة، بخلاف الغش. يقال: نصحته ونصحت له نصيحة ونصاحة ونصحا. وهو باللام أفصح. قال الله تعالى: " وأنصح لكم " والاسم النصيحة. والنصيح الناصح، وقوم نصحاء. ورجل ناصح الجيب أي نقي القلب. قال الأصمعي: الناصح الخالص من العسل وغيره. مثل الناصع. وكل شئ خلص فقد نصح. وانتصح فلان أقبل على النصيحة. يقال: انتصحني إنني لك ناصح. والناصح الخياط. والنصاح السلك يخاط به. والنصاحات أيضا الجلود. قال الأعشى: فترى الشرب نشاوى كلهم * مثل ما مدت نصاحات الربح الربح لغة في الربع، وهو الفصيل. والربح أيضا طائر. وسيأتي لهذا زيادة معنى في " براءة (3) " إن شاء الله تعالى. (1) البيت لأبى قيس بن الأسلت. السحوق: ما طال من الدوم. وفى الخزانة: في غصون. وأوقاله ثماره. خ ج 2 ص 45. (2) راجع ج 3 ص 243. (3) راجع ج 8 ص 226. (*)
[ 235 ]
قوله تعالى: أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) فكذبوه فأنجينه والذين معه. في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بايتنا إنهم كانوا قوما عمين (64) قوله تعالى: (أوعجبتم) فحت الواو لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف الاستفهام للتقرير. وسبيل الواو أن تدخل على حروف الاستفهام إلا الألف لقوتها. (أن جاءكم ذكر) أي وعظ من ربكم. (على رجل منكم) أي على لسان رجل. وقيل: " على " بمعنى " مع "، أي مع رجل وقيل: المعنى أن جاءكم ذكر من ربكم منزل على رجل منكم، أي تعرفون نسبه. أي على رجل من جنسكم. ولو كان ملكا فربما كان في اختلاف الجنس تنافر الطبع. " الفلك " يكون واحدا ويكون جمعا. وقد تقدم في البقرة (1). و " عمين " أي عن الحق، قال قتادة. وقيل: عن معرفة الله تعالى وقدرته، يقال: رجل عم بكذا، أي جاهل. قوله تعالى: وإلى عاد أخاهم هودا قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون (65) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنريك في سفاهة وإنا لنظنك من الكذبين (66) قال يقوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العالمين (67) أبلغكم رسلت ربى وأنا لكم ناصح أمين (68) أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا ءالاء الله لعلكم تفلحون (69) قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. قال ابن عباس أي ابن أبيهم. وقيل: أخاهم في القبيلة. وقيل: أي بشرا من بني أبيهم آدم. (1) راجع ج 2 ص 194. (*)
[ 236 ]
وفي مصنف أبي داود أن أخاهم هودا أي صاحبهم. وعاد من ولد سام بن نوح. قال ابن إسحاق: وعاد هو ابن عوص بن إرم بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. وهود هو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. بعثه الله إلى عاد نبيا. وكان من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا. و " عاد " من لم يصرفه جعله اسما للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي. قال أبو حاتم: وفي حرف أبي وابن مسعود " عاد الأولى (1) " بغير ألف. و " هود " أعجمي، وانصرف لخفته، لأنه على ثلاثة أحرف. وقد يجوز أن يكون عربيا مشتقا من هاد يهود. والنصب على البدل. وكان بين هود ونوح فيما ذكر المفسرون سبعة آباء. وكانت عاد فيما روي ثلاث عشرة قبيلة، ينزلون الرمال، رمل عالج. وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت بلادهم أخصب البلاد، فسخط الله عليهم فجعلها مفاوز. وكانت فيما روي بنواحي حضرموت إلى اليمن، وكانوا يعبدون الأصنام. ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بمكة، فلم يزالوا بها حتى ماتوا. (إنا لنريك في سفاهة) أي في حمق وخفة عقل. قال (2): مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة (2) ". والرؤية هنا وفي قصة نوح قيل: هي من رؤية البصر. وقيل: يجوز أن يراد بها الرأي الذي هو أغلب الظن. قوله تعالى: (واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) " خلفاء " جمع خليفة على التذكير والمعنى، وخلائف على اللفظ. من عليهم بأن جعلهم سكان الأرض بعد قوم نوح. (وزادكم في الخلق بسطة) ويجوز " بصطة " بالصاد لأن بعدها طاء، أي طولا في الخلق وعظم الجسم. قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا. وهذه الزيادة كانت على خلق آبائهم. وقيل: على خلق قوم نوح. قال وهب: كان رأس أحدهم (1) راجع ج 17 ص 118. (2) هو ذوالرمة. بصف نسوة. (*)
[ 237 ]
مثل قبة عظيمة، وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم. وروى شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: أن كان الرجل من قوم عاد يتخذ المصراعين من حجارة لو اجتمع عليها خمسمائة رجل من هذه الأمة لم يطيقوه، وأن كان أحدهم ليغمز برجله الأرض فتدخل فيها. (فاذكروا آلاء الله) أي نعم الله، واحدها إلى وإلي وإلو وألى. كالاناء واحدها إنى وإني وإنو وأنى. (لعلكم تفلحون) تقدم (1). قوله تعالى: قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد ءاباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصدقين (70) قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجدلوننى في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطن فانتظروا إنى معكم من المنتظرين (71) فأنجينه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بايتنا وما كانوا مؤمنين (72) طلبوا العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه. فقال لهم: (قد وقع عليكم). ومعنى وقع أي وجب. يقال: وقع القول والحكم أي وجب ! ومثله: " ولما وقع عليهم الرجز (2) ". أي نزل بهم. " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض (3) ". والرجس العذاب وقيل: عني بالرجس الرين على القلب بزيادة الكفر. 0 أتجادلونني في أسماء) يعني الأصنام التي عبدوها، وكان لها أسماء مختلفة. ما نزل الله بها من سلطان أي من حجة لكم في عبادتها. فالإسم هنا بمعنى المسمى. نظيره " إن هي إلا أسماء سميتموها (4) " وهذه الأسماء مثل العزى من العز والأعز واللات، وليس لها من العز والإلهية شئ. دابر آخر. وقد تقدم (5). أي لم يبق لهم بقية. (1) راجع ج 1 ص 181. (2) راجع ص 271 من هذا الجزء. (3) راجع ج 13 ص 233. (4) راجع ج 9 ص 192. (5) راجع ج 6 ص 425. (*)
[ 238 ]
قوله تعالى: وإلى ثمود أخاهم صلحا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73) وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح. وهو أخو جديس، وكانوا في سعة من معايشهم، فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره، وأفسدوا في الأرض. فبعث الله إليهم صالحا نبيا، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وكانوا قوما عربا. وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط (1) ولا يتبعه. منهم إلا قليل مستضعفون. ولم ينصرف " ثمود " لأنه جعل اسما للقبيلة. وقال أبو حاتم: لم ينصرف، لأنه اسم أعجمي. قال النحاس: وهذا غلط، لأنه مشتق من الثمد وهو الماء القليل. وقد قرأ القراء " ألا إن ثمود كفروا ربهم (2) " على أنه اسم للحي. وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وهم من ولد سام بن نوح. وسميت ثمود لقلة مائها. وسيأتي بيانه في " الحجر (3) " إن شاء الله تعالى. (هذه ناقة الله لكم آية) أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد، فكان لها يوم تشرب فيه ماء الوادي كله، وتسقيهم مثله لبنا لم يشرب قط ألذ وأحلى منه. وكان بقدر حاجتهم على كرتهم، قال الله تعالى: " لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (4) ". وأضيفت الناقة إلى الله عز وجل على جهة إضافة الخلق إلى الخالق. وفيه معنى التشريف والتخصيص. (فذروها تأكل في أرض الله) أي ليس عليكم رزقها ومؤونتها. (1) الشمط، (بفتح الميم): شيب اللحية. وقيل: بياض شعر الرأس يخالط سواده. (2) راجع ج 9 ص 59. (3) راجع ج 10 ص 45 فما بعد. (4) راجع ج 13 ص 127. (*)
[ 239 ]
قوله تعالى: واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (74) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وبوأكم في الأرض) فيه محذوف، أي بوأكم في الأرض منازل. (تتخذون من سهولها قصورا) أي تبنون القصور بكل موضع. (وتنحتون الجبال بيوتا) اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. وقرأ الحسن بفتح الحاء، وهي لغة. وفيه حرف من حروف الحلق فلذلك جاء على فعل يفعل. الثانية - استدل بهذه الآية من أجاز (1) البناء الرفيع كالقصور ونحوها، وبقوله: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق (2) ". ذكر أن ابنا لمحمد بن سيرين بنى دارا وأنفق فيها مالا كثيرا فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال: ما أرى بأسا أن يبني الرجل بناء ينفعه. وروي أنه عليه السلام قال: (إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه). ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة. ألا ترى أنه إذا اشترى جارية جميلة بمال عظيم فإنه يجوز وقد يكفيه دون ذلك، فكذلك البناء. وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا بقوله عليه السلام: (إذا أراد الله بعبد شرا أهلك ماله في الطين واللبن). وفي خبر آخر عنه أنه عليه السلام قال: (من بنى فوق ما يكفيه جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه). قلت: بهذا أقول، لقول عليه السلام: (وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله عز وجل إلا ما كان في بنيان أو معصية). رواه جابر بن عبد الله وخرجه الدارقطني. (1) كذا في ك وفي ج: اختار جواز البناء. وفى ب وى: أجاز جواز. (2) راجع ص 195 من هذ الجزء. (*)
[ 240 ]
وقوله عليه السلام: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف (1) الخبز والماء) أخرجه الترمذي. الثالثه - قوله تعالى: " فاذكروا آلاء الله " أي نعمه. وهذا يدل على أن الكفار منعم عليهم. وقد مضى في " آل عمران (2) " القول فيه. " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " تقدم في (البقرة (3)). والعثي والعثو لغتان. وقرأ الأعمش " تعثوا " بكسر التاء أخذه من عثي بعثي لا من عثا يعثو. قوله تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن ءامن منهم أتعملون أن صلحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذئ امنتم به كفرون (76) قوله تعالى: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم) الثاني بدل من الأول، لأن المستضعفين هم المؤمنون. وهو بدل البعض من الكل. قوله تعالى: فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يصلح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين (77) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جثمين (78) فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم ولكن لا تحبون النصحين (79) قوله تعالى: (فعقروا الناقة) العقر الجرح. وقيل: قطع عضو يؤثر في النفس. وعقرت الفرس: إذا ضربت قوائمه بالسيف. وخيل عقرى. وعقرت ظهر الدابة: إذا أدبرته. (1) الجلف بالكسر: الخبز وحده لا أدم معه. وقيل: الخبز الغليظ اليابس. (2) راجع ج 4 ص 330. (3) راجع ج 1 ص 421. (*)
[ 241 ]
قال امرؤ القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معا * عقرت بعيري يا امرأ القيس فأنزل أي جرحته وأدبرته قال القشيري: العقر كشف (1) عرقوب البعير، ثم قيل للنحر عقر، لأن العقر سبب النحر في الغالب. وقد اختلف في عاقر الناقة على أقوال. أصحها ما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن زمعة قال، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: (إذ انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم (2) منيع في رهطه (3) مثل أبي زمعة) وذكر الحديث. وقيل في اسمه: قدار بن سالف. وقيل: إن ملكهم كان إلى امرأة يقال لها ملكي، فحسدت صالحا لما مال إليه الناس، وقالت لامرأتين كان لهما خليلان يعشقانهما: لا تطيعاهما واسألاهما عقر الناقة، ففعلتا. وخرج الرجلان وألجآ الناقة إلى مضيق ورماها أحدهما بسهم وقتلاها. وجاء السقب وهو ولدها إلى الصخرة التي خرجت الناقة منها فرغا ثلاثا وانفجرت الصخرة فدخل فيها. ويقال: إنه الدابة التي تخرج في آخر الزمان على الناس، على ما يأتي بيانه في " النمل (4) ". وقال ابن إسحاق: أتبع السقب أربعة نفر ممن كان عقر الناقة، مصدع وأخوه ذؤاب (5). فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه (6)، ثم جره برجله فألحقه بأمه، وأكلوه معها. والأول أصح، فإن صالحا قال لهم: إنه بقي من عمركم ثلاثة أيام، ولهذا رغا ثلاثا. وقيل: عقرها عاقرها ومعه ثمانية رجال، وهم الذين قال الله فيهم: " وكان في المدينة تسعة رهط (4) " على ما يأتي بيانه في " النمل ". وهو معنى قوله " فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (7) ". وكانوا يشربون فأعوزهم الماء ليمزجوا شرابهم، وكان يوم لبن الناقة، فقام أحدهم وترصد الناس وقال: لأريحن الناس منها، فعقرها. قوله تعالى: (وعتوا عن أمر ربهم) أي استكبروا. عتا يعتو عتوا أي استكبر. وتعتى فلان إذا لم يطع. والليل العاتي: الشديد الظلمة، عن الخليل. (1) في ج وك: كسر. (2) عارم: أي خبيث شرير. (3) في ج: أهله. (4) راجع ج 13 ص 334. وص 215. (5) كذا في الأصول. (6) انتظم الصيد: إذا طعنه أو رماه حتى ينفذه. (7) راجع ج 17 ص 140. (*)
[ 242 ]
(وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) أي من العذاب. (فأخذتهم الرجفة) أي الزلزلة الشديدة. وقيل: كان صيحة شديدة خلعت (1) قلوبهم، كما (في (2) قصة ثمود) في سورة " هود (3) " في قصة ثمود فأخذتهم الصيحة. يقال: رجف الشئ يرجف رجفا رجفانا. وأرجفت الريح الشجر حركته. وأصله حركة مع صوت، ومنه قوله تعالى " يوم ترجف الراجفة (4) " قال الشاعر: ولما رأيت الحج قد آن وقته * وظلت مطايا القوم بالقوم ترجف (فأصبحوا في دارهم) أي بلدهم. وقيل: وحد على طريق الجنس، والمعنى: في دورهم. وقال في موضع آخر: " في ديارهم " إي في منازلهم. (جاثمين) أي لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم، كما يجثم الطائر. أي صاروا خامدين من شدة العذاب. وأصل الجثوم للأرنب وشبهها، والموضع مجثم. قال زهير: بها العين والآرام يمشين خلفة * وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم (5) وقيل: احترقوا بالصاعقة فأصبحوا ميتين، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه. (فتولى عنهم) أي عند اليأس منهم. (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم) يحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم. ويحتمل أنه قال بعد موتهم، كقوله عليه السلام لقتلى بدر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا) فقيل: أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال: (ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب). والأول أظهر. يدل عليه (ولكن لا تحبون الناصحين) أي لم تقبلوا نصحي. قوله تعالى: ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفحشة ما سبقكم بها من أحد من العلمين (80) فيه أربع مسائل: (1) في ب: تقطت. (2) من ج وز وك وى. (3) راجع ج 9 ص 59. (4) راجع ج 19 ص 188. (5) العين بكسر أوله: البقر واحدها أعين وعيناه. والآرام. الظباء والأطلاء: أولادها، الواحد طلا. وخلفة: فوج بعد فوج. وقيل: محتلفة، هذه مقبلة وهذه مدبرة، وهذه صاعدة وهذه نازلة. (عن شرح المعلقات). (*)
[ 243 ]
الأولى - قوله تعالى: (ولوطا إذ قال لقومه) قال الفراء: لوط مشتق من قولهم: هذا أليط بقلبي، أي ألصق. وقال النحاس: قال الزجاج زعم بعض النحويين - يعني الفراء - أن لوطا يجوز أن يكون مشتقا من لطت إذا ملسته بالطين. قال: وهذا غلط، لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق كإسحاق، فلا يقال: إنه من السحق وهو البعد. وإنما صرف لوط لخفته (1) لأنه على ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط. قال النقاش: لوط من الأسماء الأعجمية وليس من العربية. فأما لطت الحوض، وهذا أليط بقلبي من هذا، فصحيح. ولكن الاسم أعجمي كإبراهيم وإسحاق. قال سيبويه: نوح ولوط أسماء أعجمية، إلا أنها خفيفة فلذلك صرفت. بعثه الله تعالى إلى أمة تسمى سدوم، وكان ابن أخي إبراهيم. ونصبه إما ب " أرسلنا " المتقدمة فيكون معطوفا. ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى واذكر. الثانية - قوله تعالى: (أتأتون الفاحشة) يعني إتيان الذكور. ذكرها الله باسم الفاحشة ليبين أنها زنى، كما قال الله تعالى: " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة (2) ". واختلف العلماء فيما يجب على من فعل ذلك بعد إجماعهم على تحريمه، فقال مالك: يرجم، أحصن أو لم يحصن. وكذلك يرجم المفعول به إن كان محتلما. وروي عنه أيضا: يرجم إن كان محصنا، ويحبس ويؤدب إن كان غير محصن. وهو مذهب عطاء والنخعي وابن المسيب وغيرهم. وقال أبو حنيفة: يعزر المحصن وغيره، وروي عن مالك. وقال الشافعي: يحد حد الزنى قياسا عليه. احتج مالك بقول تعالى: " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ". فكان ذلك عقوبة لهم وجزاء على فعلهم. فإن قيل: لا حجة فيها لوجهين، أحدهما - أن قوم لوط إنما عوقبوا على الكفر والتكذيب كسائر الأمم. الثاني - أن صغيرهم وكبيرهم دخل فيها، فدل على خروجها من باب الحدود. قيل: أما الأول فغلط، فإن الله سبحانه أخبر عنهم أنهم كانوا على معاصي فأخذهم بها، منها هذه. وأما الثاني فكان منهم فاعل وكان منهم راض، فعوقب الجميع لسكوت الجماهير عليه. وهي حكمة الله وسنته في عباده. (1) من ب وج ك وى وز. (2) راجع ج 10 ص 253 وص 42 وج 9 ص 81. (*)
[ 244 ]
وبقي أمر العقوبة على الفاعلين مستمرا. والله أعلم. وقد روى أبو داود وابن ماجة والترمذي والنسائي والدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به). لفظ أبي داود وابن ماجة. وعند الترمذي (أحصنا أو لم يحصنا). وروى أبو داود والدارقطني عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية قال: يرجم. وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه حرق رجلا يسمى الفجاءة حين عمل عمل قوم لوط بالنار. وهو رأي علي بن أبي طالب، فإنه لما كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر في ذلك جمع أبو بكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستشارهم فيه، فقال علي: إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما علمتم، أرى أن يحرق بالنار. فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار فأحرقه. ثم أحرقهم ابن الزبير في زمانه. ثم أحرقهم هشام بن الوليد. ثم أحرقهم خالد القسري بالعراق. وروي أن سبعة أخذوا في زمن ابن الزبير في لواط، فسأل عنهم فوجد أربعة قد أحصنوا فأمر بهم فخرجوا (بهم (1)) من الحرم فرجموا بالحجارة حتى ماتوا، وحد الثلاثة، وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا عليه. وإلى هذا ذهب الشافعي. قال ابن العربي: والذي صار إليه مالك أحق، فهو أصح سندا وأقوى معتمدا. وتعلق الحنفيون بأن قالوا: عقوبة الزنى معلومة، فلما كانت هذه المعصية غيرها وجب ألا يشاركها في حدها. ويأثرون (2) في هذا حديثا: (من وضع حدا في غير حد فقد تعدى وظلم). وأيضا فإنه وطء في فرج لا يتعلق به إحلال ولا إحصان، ولا وجوب مهر ولا ثبوت نسب، فلم يتعلق به حد. الثالثة - فإن أتى بهيمة فقد قيل: لا يقتل هو ولا البهيمة. وقيل: يقتلان، حكاه ابن المنذر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وفي الباب حديث رواه أبو داود والدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه). فقلنا لابن عباس: ما شأن البهيمة ؟ قال: ما أراه قال ذلك، إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل. قال ابن المنذر: إن يك الحديث ثابتا فالقول (3) به (1) كذا في ب وج وك. وفى ز: فأخرجوا بهم. (2) في ز: يرون. (3) في ج وز: فالعمل. (*)
[ 245 ]
يجب، وإن لم يثبت فليستغفر الله من فعل ذلك كثيرا، وإن عزره الحاكم كان حسنا. والله أعلم. وقد قيل: إن قتل البهيمة لئلا تلقي خلقا مشوها، فيكون قتلها مصلحة لهذا المعنى مع ما جاء من السنة. والله أعلم. وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: ليس على الذي زنى بالبهيمة حد. قال أبو داود: وكذا قال عطاء. وقال الحكم: أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحد. وقال الحسن: هو بمنزلة الزاني. وقال الزهري: يجلد مائة أحصن أو لم يحصن. وقال مالك والثوري وأحمد وأصحاب الرأي يعزر. وروي عن عطاء والنخعي والحكم. واختلفت الرواية (1) عن الشافعي، وهذا أشبه على مذهبه في هذا الباب. وقال جابر بن زيد: يقام عليه الحد، إلا أن تكون البهيمة له. الرابعة - قوله تعالى: (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) " من " لاستغراق الجنس، أي لم يكن اللواط في أمة قبل (2) قوم لوط. والملحدون يزعمون أن ذلك كان قبلهم. والصدق ما ورد به القرآن. وحكى النقاش أن إبليس كان أصل عملهم بأن دعاهم إلى نفسه لعنه الله، فكان ينكح بعضهم بعضا. قال الحسن: كانوا يفعلون ذلك بالغرباء، ولم يكن يفعله بعضهم ببعض. وروى ابن ماجة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط). وقال محمد بن سيرين: ليس شئ من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار. قوله تعالى: إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81) قوله تعالى: (إنكم) قرأ نافع وحفص على الخبر بهمزة واحدة مكسورة، تفسيرا للفاحشة المذكورة، فلم يحسن إدخال الاستفهام عليه لأنه يقطع ما بعده مما قبله. وقرأ الباقون بهمزتين على لفظ الاستفهام الذي معناه التوبيخ وحسن ذلك لأن ما قبله وبعده (3) كلام مستقل. واختار الأول أبو عبيد والنسائي وغيرهما، واحتجوا بقوله عز وجل: " أفإن مت فهم (1) في ب وج وزوك: الروايات. (2) في ج: غير. (3) كذا في الأصول والعبارة غير واضحة. (*)
[ 246 ]
الخالدون (1) " ولم يقل أفهم. وقال: " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (2) " ولم يقل أنقلبتم. وهذا من أقبح الغلط لأنهما شبها شيئين بما لا يشتبهان، لأن الشرط وجوابه بمنزلة شئ واحد كالمبتدأ والخبر، فلا يجوز أن يكون فيهما استفهامان. فلا يجوز: أفإن مت أفهم، كما لا يجوز أزيد أمنطلق. وقصة لوط عليه السلام فيها جملتان، فلك أن تستفهم عن كل واحدة منهما. هذا قول الخليل وسيبويه، واختاره النحاس ومكي وغيرهما " شهوة " نصب على المصدر، أي تشتهونهم شهوة. ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. " بل أنتم قوم مسرفون " نظيرة " بل أنتم قوم عادون (3) " في جمعكم إلى الشرك هذه الفاحشة. قوله تعالى: وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82) فأنجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغبرين (83) قوله تعالى: (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم) أي لوطا وأتباعه. ومعنى (يتطهرون) عن الإتيان في هذا المأتى. يقال: تطهر الرجل أي تنزه عن الإثم. قال قتادة: عابوهم والله بغير عيب. (من الغابرين) أي الباقين في عذاب الله، قال ابن عباس وقتادة. غبر الشئ إذا مضى، وغبر إذا بقي. وهو من الأضداد. وقال قوم: الماضي عابر بالعين غير معجمة. والباقي غابر بالغين معجمة. حكاه ابن فارس في (4) المجمل. وقال الزجاج: " من الغابرين " أي من الغائبين عن النجاة وقيل: لطول عمرها. قال النحاس: وأبو عبيدة يذهب إلى أن المعنى من المعمرين، أي أنها قد هرمت. والأكثر في اللغة أن يكون الغابر الباقي، قال الراجز: فما ونى محمد مذ أن غفر * له الإله ما مضى وما غبر قوله تعالى: وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عقبة المجرمين (84) (1) راجع ج 11 ص 287. (2) راجع ج 4 ص 226. (3) راجع ج 13 ص 132. (4) من ب وج وز وك. (*)
[ 247 ]
سرى لوط بأهله كما وصف الله " بقطع من الليل (1) " ثم أمر جبريل، عليه السلام فأدخل جناحه تحت مدائنهم فاقتلعها ورفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها، وأمطرت عليهم حجارة من سجيل، قيل: على من غاب منهم. وأدرك امرأة لوط، وكانت معه حجر فقتلها. وكانت فيما ذكر أربع قرى. وقيل: خمس فيها أربعمائة ألف. وسيأتي في سورة " هود (1) " قصة لوط بأبين من هذا، إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينه من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (85) ولا تقعدوا بكل صرط توعدون وتصدون عن سبيل الله من ءامن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عقبة المفسدين (86) وإن كان طائفة منكم ءامنوا بالذى أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (87) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وإلى مدين) قيل في مدين: اسم بلد وقطر. وقيل: اسم قبيلة كما يقال: بكر وتميم. وقيل: هم من ولد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام. فمن رأى أن مدين اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي. ومن رآه اسما للقبيلة أو الأرض فهو أحرى بألا يصرفه. قال المهدوي: ويروى أنه كان ابن بنت لوط. وقال مكي: كان زوج بنت لوط. واختلف في نسبه، فقال عطاء وابن إسحاق وغيرهما: وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر (1) راجع ج 9 ص 84. فما بعد. (*)
[ 248 ]
ابن مدين بن إبراهيم عليه السلام. وكان اسمه بالسريانية بيروت. وأمه ميكائيل بنت لوط. وزعم الشرقي بن القطامي أن شعيبا بن عيفاء بن يوبب بن مدين بن إبراهيم. وزعم ابن سمعان أن شعيبا بن جزى بن يشجر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وشعيب تصغير شعب أو شعب (1). وقال قتادة: هو شعيب بن يوبب (2). وقيل: شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم (3). والله أعلم. وكان أعمى (4)، ولذلك قال قومه: " وإنا لنراك فينا ضعيفا (5) ". وكان يقال له: خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. وكان قومه أهل كفر بالله وبخس للمكيال والميزان. (قد جاءتكم بينه من ربكم) أي بيان، وهو مجئ شعيب بالرسالة. ولم يذكر له معجزة في القرآن. وقيل: معجزته فيما ذكر الكسائي في قصص الأنبياء. الثابية - قوله تعالى: (ولا تنخسوا الناس أشياءهم) البخس النقص. وهو يكون في السلعة بالتعييب والتزهيد فيها، أو المخادعة عن القيمة، والاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه. وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وذلك منهي عنه في الأمم المتقدمة والسالفة على ألسنة الرسل (صلوات الله وسلامه على جميعهم (6)) وحسبنا الله ونعم الوكيل. الثالثة - قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلا حها) عطف على " ولا تبخسوا ". وهو لفظ يعم دقيق الفساد وجليله. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي وتستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء. قال: فذلك فسادها. فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكل نبي بعث إلى قومه فهو صلاحهم. الرابعة - قوله تعالى: (ولا تقعدوا بكل صراط) نهاهم عن القعود بالطرق والصد عن الطريق الذي يؤدي إلى طاعة الله، وكانوا يوعدون العذاب من آمن. واختلف العلماء (1) في شرح القاموس: تصغير شعب أو أشعب: كما قالوا في تصغير أسود سويد. (2) في ع: ثويب. (3) وردت هذه الأسماء مضطربه في نسخ الأصل وفى المصادر التى بين أيدينا. ولم نوفق لضبطها. (4) ليس رسول من الله أعمى وإنما شعيب الرجل الصالح صاحب موسى هو فيما قيل أعمى وبينهما ثلاثمائة سنة إذ عصمة الأنبياء تنافى ما ينفر من الصفات. مصححة. (5) راجع ج 9 ص 84. (6) من ع. (*)
[ 249 ]
في معنى قعودهم على الطرق على ثلاثة معان، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجئ إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ظاهر الآية. وقال أبو هريرة: هذا نهي عن قطع الطريق (1)، وأخذ السلب، وكان ذلك من فعلهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شئ إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل قال هذا مثل لقوم من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه) - ثم تلا - " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " الآية. وقد مضى القول في اللصوص والمحاربين، والحمد لله (2). وقال السدي أيضا: كانوا عشارين متقبلين. ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون ما لا يلزمهم شرعا من الوظائف المالية بالقهر والجبر، فضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي. والمترتبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد. وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها، فإنه غصب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له، وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! لم يبق من الإسلام إلا رسمه، ولا من الدين إلا اسمه. يعضد هذا التأويل ما تقدم من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والبخس. قوله تعالى: (من آمن به) الضمير في " به " يحتمل أن يعود على اسم الله تعالى، وأن يعود إلى شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للصد، وأن يعود على السبيل. " عوجا " قال أبو عبيدة والزجاج: كسر العين في المعاني. وفتحها في الأجرام. قوله تعالى: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) أي كثر عددكم، أو كثركم بالغنى بعد الفقر. أي كنتم فقراء فأغناكم. " فاصبروا " ليس هذا أمرا بالمقام على الكفر، ولكنه وعيد وتهديد. وقال: (وإن كان طائفة منكم) فذكر على المعنى، ولو راعى (3) اللفظ قال: كانت. (1) في ب وج وك: الطرق. (2) راجع ج 6 ص 147 فما بعد. (3) الأولى: روعى لقيل. (*)
[ 250 ]
قوله تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يشعيب والذين ءامنوا معك من قريتنا أو لتعودون في ملتنا قال أولو كنا كرهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجينا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفتحين (89) قوله تعالى: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) تقدم معناه. ومعنى " أو لتعودن في ملتنا " أي لتصيرن إلى ملتنا وقيل: كان أتباع شعيب قبل الإيمان به على الكفر أي لتعودن إلينا كما كنتم من قبل. قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء، يقال: عاد إلي من فلان مكروه، أي صار، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، أي لحقني ذلك منه. فقال لهم شعيب: (أو لو كنا كارهين) أي ولو كنا كارهين تجبروننا عليه، أي على الخروج من الوطن أو العود في ملتكم. أي إن فعلتم هذا أتيتم عظيما. (قد افتريا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها) إياس من العود إلى ملتهم. (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا) قال أبو إسحاق الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عز وجل، قال: وهذا قول أهل السنة، أي وما يقع منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك. فالاستثناء منقطع. وقيل: الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل، كما قال: " وما توفيقي إلا بالله (1) ". والدليل على هذا أن بعده " وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ". وقيل: هو كقولك ألا أكلمك حتى يبيض الغراب، وحتى يلج الجمل في سم الخياط. والغراب لا يبيض أبدا، والجمل لا يلج (في سم الخياط (2)). (1) راجع ج 9 ص 84. (2) من ز. (*)
[ 251 ]
قوله تعالى: (وسع ربنا كل شئ علما) أي علم ما كان وما يكون. " علما " نصب على التمييز. " وما يكون لنا أن نعود فيها " أي في القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا، بل نخرج من قريتكم مهاجرين إلى غيرها. " إلا أن يشاء الله " ردنا إليها. وفيه بعد، لأنه يقال: عاد للقرية ولا يقال عاد في القرية. قوله تعالى: (على الله توكلنا) أي اعتمدنا. وقد تقدم في غير موضع (1). (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) قال قتادة: بعثه الله إلى أمتين: أهل مدين، وأصحاب الأيكة. قال ابن عباس: وكان شعيب كثير الصلاة، فلما (طال (3)) تمادى قومه في كفرهم وغيهم، ويئس من صلاحهم، دعا عليهم فقال: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (4) " فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالرجفة. قوله تعالى: وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخسرون (90) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جثمين (91) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخسرين (92) فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسلت ربى ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كفرين (93) قوله تعالى: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه) أي قالوا لمن دونهم. (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) أي هالكون. (فأخذتهم الرجفة) أي الزلزلة. وقيل: الصيحة. وأصحاب الأيكة أهلكوا بالظلة (5)، على ما يأتي. قوله تعالى: (الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) قال الجرجاني: قيل هذا كلام مستأنف، أي الذين كذبوا شعيبا صاروا كأنهم لم يزالوا موتى. " يغنوا " يقيموا، يقال: (1) راجع ج 4 ص 189. (2) الأيكة: الشجر الكثير الملتف. (3) من ب وج وك. (4) قال الفراء: فتح بمعنى حكم بلغة أهل عمان: الطبري. (5) الظلة: سحانة فيها نار أمطرتهم بها. وقيل: سموم. راجع ج 13 ص 135. (*)
[ 252 ]
غنيت بالمكان إذا أقمت به. وغني القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها. والمغنى: المنزل، والجمع المغاني. قال لبيد: وعنيت ستا قبل مجرى داحس * لو كان للنفس اللجوج خلود وقال حاتم طي: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى * (كما الدهر في أيامه العسر واليسر (1)) (كسبنا صروف الدهر لينا وغلظة (1)) * وكلا سقاناه بكأسهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة * غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر (الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) ابتداء خطاب، وهو مبالغة في الذم والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأم وتفخيمه. ولما قالوا: من اتبع شعيبا خاسر قال الله الخاسرون هم الذين قالوا هذا القول. (فكيف آسى على قوم كافرين) أي أحزن. أسيت على الشئ آسى (أسى (2))، وأنا آس. قوله تعالى: وما أرسلنا في قرية من نبى إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسرآء فأخذنهم بغتة وهم لا يشعرون (95) قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نبى) فيه إضمار، وهو فكذب أهلها. إلا أخذناهم. (بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون) تقدم القول فيه (3). (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة) أي أبدلناهم بالجدب خصبا. حتى عفوا أي كثروا، عن ابن عباس. وقال ابن زيد: كثرت أموالهم وأولادهم. وعفا: من الأضداد: عفا: كثر. وعفا: درس. أعلم الله تعالى أنه أخذهم بالشدة والرخاء فلم يزدجروا ولم يشكروا. وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فنحن مثلهم. فأخذناهم بغتة أي فجأة ليكون أكثر حسرة. (1) التكملة عن ديوان حاتم. (2) من ب وج وك. (3) راجع ج 2 ص 243. (*)
[ 253 ]
قوله تعالى: ولو أن أهل القرئ امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذنهم بما كانوا يكسبون قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى) يقال للمدينة قرية لاجتماع الناس فيها. من قريت الماء إذا جمعته. وقد مضى في " البقرة " مستوفى (1). (آمنوا) أي صدقوا. (واتقوا) أي الشرك. (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) يعني المطر والنبات. وهذا في أقوام على الخصوص جرى ذكرهم. إذ قد يمتحن المؤمنون بضيق العيش ويكون تكفيرا لذنوبهم. ألا ترى أنه أخبر عن نوح إذ قال لقومه " استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا (2) " وعن هود " ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا (3) ". فوعدهم المطر والخصب على التخصيص. يدل عليه (ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) أي كذبوا الرسل. والمؤمنون صدقوا ولم يكذبوا. قوله تعالى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا وهم نائمون (97) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) قوله تعالى: (أفأمن أهل القرى) الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف. نظيره: " أفحكم الجاهلية (4) ". والمراد بالقرى مكة وما حولها، لأنهم كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وقيل: هو عام في جميع القرى. (أن يأتيهم بأسنا) أي عذابنا. (بياتا) أي ليلا (وهم نائمون) (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا) قرأه الحرميان وابن عامر بإسكان الواو للعطف، على معنى الإباحة، مثل " ولا تطع منهم آثما أو كفورا (5) ". جالس الحسن أو ابن سيرين. والمعنى: أو أمنوا هذه الضروب من العقوبات. أي إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر. (1) راجع ج 1 ص 49. (2) راجع ج 18 ص 301. (3) راجع ج 9 ص 50. (4) راجع ج 6 ص 214. (5) راجع 19 ص 146. (*)
[ 254 ]
ويجوز أن يكون " أو " لأحد الشيئين، كقولك: ضربت زيدا أو عمرا. وقرأ الباقون بفتحها بهمزة بعدها. جعلها واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام، نظيره " أو كلما عاهدوا عهدا (1) ". ومعنى (ضحى وهم يلعبون) أي وهم فيما لا يجدي عليهم، يقال لكل من كان فيما يضره ولا يجدي عليه لاعب، ذكر النحاس. وفي الصحاح. اللعب معروف، واللعب مثله. وقد لعب يلعب. وتلعب: (لعب (2)) مرة بعد أخرى. ورجل تلعابة: كثير اللعب، والتلعاب (3) (بالفتح) المصدر. وجارية لعوب. قوله تعالى: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخسرون قوله تعالى: (أفأمنوا مكر الله) أي عذابه وجزاءه على مكرهم. وقيل: مكره استدراجه بالنعمة والصحة. قوله تعالى: أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبنهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون قوله تعالى: (أو لم يهد) أي يبين. (للذين يرثون الأرض) يريد كفار مكة ومن حولهم. (أصبناهم) أي أخذناهم (بذنبهم) أي بكفرهم وتكذيبهم. (ونطبع) أي ونحن نطبع، فهو مستأنف. وقيل: هو معطوف على أصبنا، نصيبهم ونطبع، فوقع الماضي موقع المستقبل. قوله تعالى: تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينت فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكفرين (101) (1) راجع ج 2 ص 39. (2) زيادة عن كتب اللغة. (3) في ب: تلعابة. (*)
[ 255 ]
قوله تعالى: (تلك القرى) أي هذه القرى التي أهلكناها، وهي قرى نوح وعاد (1) ولوط وهود وشعيب المتقدمة الذكر. (نقص) أي نتلو. (عليك من أنباها) أي من أخبارها. وهي تسلية للنبي عليه السلام والمسلمين. (فما كانوا ليؤمنوا) أي فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بعد هلاكهم لأحييناهم، قاله مجاهد. نظيره " ولو ردوا لعادوا (2) ". وقال ابن عباس والربيع: كان في علم الله تعالى يوم أخذ عليهم الميثاق أنهم لا يؤمنون بالرسل. (بما كذبوا من قبل) يريد يوم الميساق حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها لا طوعا. قال السدي: آمنوا يوم أخذ عليهم الميثاق كرها فلم يكونوا ليؤمنوا الآن حقيقة. وقيل: سألوا المعجزات، فلما رأوها ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤية المعجزة (3). نظيره " كما لم يؤمنوا به أول مرة (4) ". (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) أي مثل طبعه على قلوب هؤلاء المذكورين كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفسقين (102) قوله تعالى: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد). " من " زائدة، وهي تدل على معنى الجنس، ولولا " من " لجاز أن يتوهم أنه واحد في المعنى. قال ابن عباس: يريد العهد المأخوذ عليهم وقت الذر، ومن نقض العهد قيل له إنه لا عهد له، أي كأنه لم يعهد. وقال الحسن: العهد الذي عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وقيل: أراد أن الكفار منقسمون، فالأكثرون منهم من لا أمانة له ولا وفاء، ومنهم من له أمانة مع كفره وإن قلوا، روي عن أبي عبيدة. قوله تعالى: ثم بعثنا من بعدهم موسى بئايتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان عقبة المفسدين (103) (1) في ج: نوح وعاد ولوط وشعيب. (2) راجع ج 6 ص 410. (3) في ب وج وك: المعجزات. (4) راجع ص 65 من هذا الجزء. (*)
[ 256 ]
قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم) أي من بعد نوح وهود (1) وصالح ولوط وشعيب. (موسى) أي موسى بن عمران (بآياتنا) أي بمعجزاتنا. (فظلموا بها) أي كفروا ولم يصدقوا بالآيات. والظلم: وضع الشئ في غير موضعه. قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) أي آخر أمرهم. قوله تعالى: وقال موسى يفرعون إنى رسول من رب العلمين (104) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنى إسرءيل (105) قال إن كنت جعت بإية فأت بها إن كنت من الصدقين (106) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (107) ونزع يده فإذا هي بيضاء للنظرين (108) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) قالو أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حشرين (111) يأتوك بكل سحر عليم (112) (حقيق على (2)) أي واجب. ومن قرأ " على ألا " فالمعنى حريص على ألا أقول. وفي قراءة عبد الله " حقيق ألا أقول " بإسقاط " على ". وقيل: " على " بمعنى الباء، أي حقيق بألا أقول. وكذا في قراءة أبي والأعمش " بألا أقول ". كما تقول: رميت بالقوس وعلى القوس. ف " حقيق " على هذا بمعنى محقوق. ومعنى " فأرسل معى بنى إسرائيل " أي خلهم. وكان يستعملهم (3) في الأعمال الشاقة. (فألقى عصاه) يستعمل في الأجسام والمعاني. وقد تقدم (4). والثعبان: الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات. (مبين) (1) كذا في ع. وفى بقية الأصول: نمود. (2) قرأة نافع. (3) في ع: يشغلهم. (4) راجع ج 4 ص 232. (*)
[ 257 ]
" أي حية لا لبس فيها. (ونزع يده) أي أخرجها وأظهرها. قيل: من جيبه أو من جناحه كما في التنزيل (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء (1)) أي من غير برص. وكان موسى أسمر شديد السمرة، ثم أعاد يده إلى جيبه فعادت إلى لونها الأول. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضئ ما بين السماء والأرض. وقيل: كانت تخرج يده بيضاء كالثلج تلوح، فإذا ردها عادت إلى مثل سائر بدنه. ومعنى (عليم) أي بالسحر. (من أرضكم) أي من ملككم معاشر القبط، بتقديمه بني إسرائيل عليكم. (فماذا تأمرون) أي قال فرعون: فماذا تأمرون. وقيل: هو من قول الملأ، أي قالوا لفرعون وحده فماذا تأمرون. كما يخاطب الجبارون والرؤساء: ما ترون في كذا. ويجوز أن يكون قالوا له ولأصحابه. و " ما " في موضع رفع، على أن " ذا " بمعنى الذي. وفي موضع نصب، على أن " ما " و " ذا " شئ واحد. (قالوا أرجه) قرأ أهل المدينة وعاصم والكسائي بغير حمزة، إلا أن ورشا والكسائي أشبعا كسرة الهاء. وقرأ أبو عمرو بهمزة ساكنة والهاء مضمومة. وهما لغتان، يقال: أرجأته وأرجيته، أي أخرته. وكذلك قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام، إلا أنهم أشبعوا ضمة الهاء. وقرأ سائر أهل الكوفة " أرجه " بإسكان الهاء. قال الفراء: هي لغة للعرب، يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، وكذا هذه طلحة قد أقبلت. وأنكر البصريون هذا. قال قتادة: معنى " أرجه " احبسه. وقال ابن عباس: أخره. وقيل: " أرجه " مأخوذ من رجا يرجو، أي أطمعه ودعه يرجو، حكاه النحاس عن محمد بن يزيد. وكسر الهاء على الإتباع. ويجوز ضمها على الأصل. وإسكانها لحن (2) لا يجوز إلا في شذوذ من الشعر. (وأخاه) عطف على الهاء. (حاشرين) نصب على الحال. (يأتوك) جزم، لأنه جواب الأمر ولذلك حذفت منه النون. قرأ أهل الكوفة إلا عاصما " بكل سحار " وقرأ سائر الناس " ساحر " وهما متقاربان، إلا أفعالا أشد مبالغة. (1) راجع ج 13 ص 156. (2) كذا في الأصول وإعراب القرآن للنحاس. ويلاحظ أنها قراءة أهل الكوفة. (*)
[ 258 ]
قوله تعالى: وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغلبين (113) قال نعم وإنكم لمن المقربين (114) قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون) وحذف ذكر الإرسال لعلم السامع. قال ابن عبد الحكم: كانوا اثني عشر نقيبا، مع كل نقيب عشرون عريفا، تحت يدي كل عريف ألف ساحر. وكان رئيسهم شمعون في قول مقاتل بن سليمان. وقال ابن جريج: كانوا تسعمائة من العريش والفيوم والإسكندرية أثلاثا. وقال ابن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألف ساحر، وروي عن وهب. وقيل: كانوا اثني عشر ألفا. وقال ابن المنكدر: ثمانين ألفا. وقيل: أربعة عشر ألفا. وقيل: كانوا ثلثمائة ألف ساحر من الريف، وثلثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلثمائة ألف ساحر من الفيوم وما والاها. وقيل: كانوا سبعين رجلا. وقيل: ثلاثة وسبعين، فالله أعلم. وكان معهم فيما روي حبال وعصي يحملها ثلثمائة بعير. فالتقمت الحية ذلك كله. قال ابن عباس والسدي: كانت إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين ذراعا، واضعة فكها الأسفل على الأرض، وفكها الأعلى على سور القصر. وقيل: كان سعة فمها أربعين ذراعا، فالله أعلم. فقصدت فرعون لتبتلعه، فوثب من سريره فهرب منها واستغاث بموسى، فأخذها فإذا هي عصا كما كانت. قال وهب: مات من خوف العصا خمسة وعشرون ألفا. (قالوا أئن لنا لأجرا) أي جائزة ومالا. ولم يقل فقالوا بالفاء، لأنه أراد لما جاءوا قالوا. وقرئ " إن لنا " على الخبر. وهي قراءة نافع وابن كثير. ألزموا فرعون أن يجعل لهم مالا إن غلبوا. فقال لهم فرعون: (نعم وإنكم لمن المقربين) أي لمن أهل المنزلة الرفيعة لدينا، فزادهم على ما طلبوا. وقيل: إنهم إنما قطعوا ذلك لأنفسهم في حكمهم إن غلبوا. أي قالوا: يجب لنا الأجر إن غلبنا. وقرأ الباقون بالاستفهام على جهة الاستخبار. استخبروا فرعون: هل يجعل لهم أجرا إن غلبوا أو لا، فلم يقطعوا على فرعون بذلك، إنما استخبروه هل يفعل ذلك، فقال لهم " نعم " لكم الأجر والقرب إن غلبتم.
[ 259 ]
قوله تعالى: قالوا يموسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) تأدبوا مع موسى عليه السلام فكان ذلك سبب إيمانهم. و " أن " في موضع نصب عند الكسائي والفراء، على معنى إما أن تفعل الإلقاء. ومثله قول الشاعر: قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا (1) قال ألقوا قال الفراء: في الكلام حذف. والمعنى: قال لهم موسى إنكم لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا آياته. وهذا من معجز القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس، ولا يقدرون عليه. يأتي اللفظ اليسير بجمع المعاني الكثيرة. وقيل: هو تهديد. أي ابتدءوا بالإلقاء، فسترون ما يحل بكم من الافتضاح، إذا لا يجوز على موسى أن يأمرهم بالسحر. وقيل: أمرهم بذلك ليبين كذبهم وتمويههم. (فلما ألقوا) أي الحبال والعصي (سحروا أعين الناس) أي خيلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها، بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد. كما تقدم في البقرة (2) بيانه. ومعنى (عظيم) أي عندهم، لأنه كان كثيرا وليس بعظيم على الحقيقة. قال ابن زيد: كان الاجتماع بالإسكندرية فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة. وقال غيره: وفتحت فاها فجعلت تلقف - أي تلتقم - ما ألقوا من حبالهم وعصيهم. وقيل: كان ما ألقوا حبالا من أدم فيها زئبق فتحركت وقالوا هذه حيات. وقرأ حفص " تلقف " بإسكان اللام والتخفيف. جعله مستقبل لقف يلقف. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة " تلقف " لأنه من لقف. وقرأ الباقون بالتشديد وفتح اللام، وجعلوه مستقبل تلقف، فهي تتلقف. يقال: لقفت الشئ وتلقفته إذا أخذته أو بلعته. تلقف وتلقم (1) هذا صدر بيت وتمامه: أو النزول فإنا معشر نزل. في ب: فقلت تلك. (2) راجع ج 2 ص 43. (*)
[ 260 ]
وتلهم بمعنى واحد. قال أبو حاتم: وبلغني في بعض القراءات " تلقم " بالميم والتشديد. قال الشاعر: أنت عصا موسى التي لم تزل * تلقم ما يأفكه الساحر ويروى: تلقف. (ما يأفكون) أي ما يكذبون، لأنهم جاءوا بحبال وجعلوا فيها زئبقا حتى، تحركت. قوله تعالى: فوقع الحق وبطل ما كانوا (118) يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صغرين (119) وألقى السحرة سجدين (120) قالوا ءامنا برب العلمين (121) رب موسى وهرون (122) قوله تعالى: (فوقع الحق) قال مجاهد: فظهر الحق. (وانقلبوا صاغرين) نصب على الحال. والفعل منه صغر يصغر صغرا وصغرا وصغارا (1). أي انقلب قوم فرعون وفرعون معهم أذلاء مقهورين مغلوبين. فأما السحرة فقد آمنوا. قوله تعالى: قال فرعون ءامنتم به قبل أن ءاذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلون (123) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف ثم لأصلبنكم أجمعين (124) قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منا إلا أن ءامنا بئايت ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126) قوله تعالى: (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم) إنكار منه عليهم. (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها) أي جرت بينكم وبينه مواطأة في هذا لتستولوا على مصر، أي كان هذا منكم في مدينة مصر قبل أن تبرزوا إلى هذه الصحراء (1) هو من باب فرح وكرم. (*)
[ 261 ]
(فسوف تعلمون) تهديدا لهم. قال ابن عباس: كان فرعون أول من صلب، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، الرجل اليمنى واليد اليسرى، واليد اليمنى والرجل اليسرى، عن الحسن. (وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا) قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش: هي لغة يقال: نقمت الأمر ونقمته أنكرته، أي لست تكره منا سوى أن آمنا بالله وهو الحق. (لما جاءتنا) آياته وبيناته. (ربنا أفرغ علينا صبرا) الإفراغ الصب، أي اصببه علينا عند القطع والصلب. (وتوفنا مسلمين) فقيل: إن فرعون أخذ السحرة وقطعهم على شاطئ النهر، وإنه آمن بموسى عند إيمان ستمائة ألف. قوله تعالى: وقال الملأ من قوم فرعون أنذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وءالهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحى نساءهم وإنا فوقهم قهرون (127) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعقبة للمتقين (128) قوله تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) أي بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل. (ويذرك) بنصب الراء جواب الاستفهام، والواو نائبة عن الفاء. (وآلهتك) قال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام، فكان يعبد ويعبد. قال سليمان التيمي: بلغني أن فرعون كان يعبد البقر قال التيمي: فقلت للحسن هل كان فرعون يعبد شيئا ؟ قال نعم، إنه كان يعبد (1) شيئا كان قد جعل في عنقه. وقيل: معنى " وآلهتك " أي وطاعتك، كما قيل في قول: اتخذو أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (2) " إنهم ما عبدوهم ولكن أطاعوهم، فصار تمثيلا. وقرأ نعيم بن ميسرة " ويذرك " بالرفع على تقدير وهو يذرك. وقرأ الأشهب العقيلي " ويذرك " مجزوما مخفف يذرك لثقل الضمة. وقرأ أنس (1) في زوك: أن كان ليعبد. (2) راجع ج 8 ص 199. (*)
[ 262 ]
ابن مالك " ونذرك " بالرفع والنون. أخبروا عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا. وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك " وإلاهتك " ومعناه وعبادتك. وعلى هذه القراءة كان يعبد ولا يعبد، أي ويترك عبادته لك. قال أبو بكر الأنباري: فمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال " أنا ربكم الأعلى (1) " و " ما علمت لكم من إله غيري (2) " نفى أن يكون له رب والإهة. فقيل له: ويذرك وإلاهتك، بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك. وقرا العامة " وآلهتك " كما تقدم، وهي مبنية على أن فرعون ادعى الربوبية في ظاهر أمره وكان يعلم أنه مربوب. ودليل هذا قوله عند حضور الحمام " ءامنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل " فلم يقبل هذا القول منه (لما أتى به (4)) بعد إغلاق (باب (4)) التوبة. وكان قبل هذا الحال له إله يعبده سرا دون رب العالمين جل وعز، قال الحسن وغيره. وفي حرف أبي " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك ". وقيل: " وإلاهتك " قيل: كان يعبد بقرة، وكان إذا استحسن بقرة أمر بعبادتها، وقال: أنا ربكم ورب هذه. ولهذا قال: " فأخرج لهم (5) عجلا جسدا ". ذكره ابن عباس والسدي. قال الزجاج: كان له أصنام صغار يعبدها قومه تقربا إليه فنسبت إليه، ولهذا قال: " أنا ربكم الأعلى ". قال إسماعيل بن إسحاق: قول فرعون " أنا ربكم الأعلى ". يدل على أنهم كانوا يعبدون شيئا غيره. وقد قيل: إن المراد بالإلاهة على قراءة ابن عباس البقرة التي كان يعبدها. وقيل: أرادوا بها الشمس وكانوا يعبدونها. قال الشاعر: * وأعجلنا الإلاهة أن تؤبا * ثم آنس قومه فقال (سنقتل أبناءهم) بالتخفيف، قراءة نافع وابن كثير. والباقون بالتشديد على التكثير. (ونستحيي نساءهم) أي لا تخافوا جانبهم. (وإنا فوقهم قاهرون) آنسهم بهذا الكلام. ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه. وعن سعيد بن جبير قال: كان فرعون قد ملئ من موسى رعبا، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار. ولما بلغ قوم (1) راجع ج 19 ص 198. (2) راجع ج 14 ص 288. (3) راجع ج 8 ص 337. (4) من ب وج وز وك. (5) راجع ج 11 ص 232. يلاحظ أن الآية في السامري. (*)
[ 263 ]
موسى من فرعون هذا قال لهم موسى: (استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء) أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر. (والعاقبة للمتقين) أي الجنة لمن اتقى. وعاقبة كل شئ: آخره، ولكنها إذا أطلقت فقيل: العاقبة لفلان فهم منه في العرف الخير. قوله تعالى: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا) أي في ابتداء ولادتك بقتل الأبناء واسترقاق النساء. (ومن بعد ما جئتنا) أي والآن أعيد علينا ذلك، يعنون الوعيد الذى كان من فرعون. وقيل: الأذى من قبل تسخيرهم لبنى إسرائيل في أعمالهم إلى نصف النهار، وإرسالهم بقيته ليكتسبوا لأنفسهم. والأذى من بعد: تسخيرهم جميع النهار كله بلا طعام ولا شراب، قاله جوبير. وقال الحسن الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو أخذ الجزية. (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض) " عسى " من الله واجب، جدد (1) لهم الوعد وحققه. وقد استحلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، كما تقدم. وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى وتبعهم فرعون فكان وراءهم والبحر أمامهم، فحقق الله الوعيد بأن غرق فرعون وقومه وأنجاهم. (فينظر كيف تعلمون) تقدم نظائره. أي يرى ذلك العمل الذي يجب به الجزاء، لأن الله لا يجازيهم على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم. قوله تعالى: ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين ونقص من الثمرت لعلهم يذكرون (130) قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) يعني الجدوب. وهذا معروف في اللغة، يقال: أصابتهم سنة، أي جدب. وتقديره جدب سنة. وفي الحديث: (اللهم (1) في ب وج وز وك: حدد. بالمهملة. (*)
[ 264 ]
أجعلها عليهم سنين كسنى يوسف). ومن العرب من يعرب النون في السنين، وأنشد الفراء: أرى مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار (1) من الهلال قال النحاس: وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون، ولكن أنشد (2) في هذا مالا يجوز غيره، وهو قوله: * وقد جاوزت رأس الأربعين * وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنينا يا هذا، مصروفا. قال: وبنو تميم لا يصرفون ويقولون: مضت له سنين يا هذا. وسنين جمع سنة، والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول. ومنه أسنت القوم أي أجدبوا. قال عبد الله بن الزبعري: عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف (3) (لعلهم يذكرون) أي ليتعظوا وترق قلوبهم. قوله تعالى: فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طئرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (131) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة) أي الخصب والسعة. (قالوا لنا هذه) أي أعطيناها باستحقاق. (وإن تصبهم سيئة) أي قحط ومرض وهى المسألة: - الثانية - (يطيروا بموسى) أي يتشاءموا به. نظيره " وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك (4) ". والأصل " يتطيروا " أدغمت التاء في الطاء. وقرأ طلحة: " تطيروا " على أنه فعل ماض. والأصل في هذا من الطيرة وزجر الطير، ثم كثر استعمالهم حتى قيل لكل (1) السرار والسرر (بفتح السين وكسرها فيهما): الليلة التى يستسر فيها القمر آخر الشهر. (2) في ع: أنشدوا. (3) يريد به هاشم بن عبد مناف أبا عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسمى عمرا. (4) راجع ج 5 ص 282. (*)
[ 265 ]
من تشاءم: تطير. وكانت العرب تتيمن بالسانح: وهو الذي يأتي من ناحية اليمين. وتتشاءم بالبارح: وهو الذي يأتي من ناحية الشمال. وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب، ويتأولونه البين. وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك. وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون إذا برحت: " من لي بالسانح بعد البارح (1) ". إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير، فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه. وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب به إلى العلم بالغداة، ويتيمنون برؤية صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون برؤية السقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السقاء مفتوحة (قربته (2))، ومتشاءمون بالحمال المثقل بالحمل، والدابة الموقرة (3)، ويتيمنون بالحمال الذي وضع جمله، وبالدابة يحط عنها ثقلها. فجاء الإسلام بالنهي عن التطير والتشاؤم بما يسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أي حال كان، فقال عليه السلام: (أقروا الطير على مكناتها (4)). وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة أتى الطير في وكرها فنفرها، فإذا أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم. وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا بقول: (أقروا الطير على مكناتها) هكذا في الحديث. وأهل العربية يقولون: (وكناتها) قال امرؤ القيس: * وقد أغتدي والطير في وكناتها * والوكنة: اسم لكل وكر وعش. والوكن: موضع الطائر الذي يبيض فيه ويفرخ، وهو الخرق في الحيطان والشجر. ويقال: وكن الطائر يكن وكونا إذا حضن بيضه. وكان أيضا من العرب من لا يرى التطير شيئا، ويمدحون من كذب به. قال المرقش: (1) هذا مثل يضرب للرجل يسئ الرجل فيقال له: إنه سوف يحسن إليك. وأصل ذلك أن رجلا مرت به ظباء بارحة فقيل له سوف تسنح لك فقال: من لى... الخ. (2) من ع. (3) الدابة الموقرة: التى أصابتها الوقرة وهى صدع في الساق. (4) مكناتها بكسر الكاف وقد تفتح: أي بيضها. وهى في الأصل بيض الضباب. وقيل على أمكنتها ومساكنها. قال شمر: والصحيح في قوله على مكناتها أنها جمع المكنة والملكة: التمكن. وقال الزمخشري: ويروى: مكناتها جمع مكن ومكن جمع مكان. (*)
[ 266 ]
ولقد غدوت وكنت لا * أغدو على واق وحاتم (1) فإذا الأشائم كالأيا * من والأيامن كالأشائم وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، خير. فقال ابن عباس: ما عند هذا لا خير ولا شر. قال علماؤنا: وأما أقوال الطير فلا تعلق لها بما يجعل دلالة عليه، ولا لها علم بكائن فضلا عن مستقبل فتخبر به، ولا في الناس من يعلم منطق الطير، إلا ما كان الله تعال خص به سليمان صلى الله عليه وسلم من ذلك، فالتحق التطير بجملة الباطل. والله أعلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تحلم (2) أو تكهن أو رده عن سفره تطير). وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة شرك - ثلاثا - وما منا إلا ولكن (3) الله يذهبه بالتوكل). وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك). قيل: وما كفارة ذلك يا رسول الله ؟ قال: (أن يقول أحدهم اللهم لاطير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضي لحاجته). وفي خبر آخر: (إذا وجد ذلك أحدكم فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بك). ثم يذهب متوكلا على الله، فإن الله يكفيه ما وجد في نفسه من ذلك، وكفاه الله تعالى ما يهمه. وقد تقدم في المائدة الفرق بين الفأل والطيرة (4). (ألا إنما طائرهم عند الله) وقرأ الحسن " طيرهم " جمع طائر. أي ما قدر لهم (1) الواق بكسر القاف: الصرد وهو طائر أبقع ضخم الرأس يكون في الشجر نصفه أبيض ونصفه أسود. والحاتم: الغراب الأسود. (2) تحلم: إذا ادعى الرؤيا كاذبا. (3) كذا في مسند أبى داود وبعض نسخ الأصل. قال ابن الأثير: " هكذا جاء في الحديث مقطوعا ولم يذكر المستثنى. أي إلا وقد يعتريه التطير، وتسبق إلى قلبه الكراهة، فحذف اختصار واعتمادا على فهم السامع... وقوله: " ولكن الله يذهبه بالتوكل " معناه أنه إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله وسلم إليه ولم يعمل بذلك الخاطر غفره الله له ولم يؤاخذه به ". وفى ب: ".. وما منا إلا من تطير.. " الخ. (4) راجع ج 6 ص 59. (*)
[ 267 ]
وعليهم. (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن ما لحقهم من القحط والشدائد إنما هو من عند الله عز وجل بذنوبهم لا من عند موسى وقومه. قوله تعالى: وقالوا مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (132) قوله تعالى: (وقالوا مهما تأتنا به من آية) أي قال قوم فرعون لموسى " مهما ". قال الخليل: الأصل ما، ما، الأولى للشرط، والثانية زائدة توكيد للجزاء، كما تزاد في سائر الحروف، مثل إما وحيثما وأينما وكيفما. فكرهوا حرفين لفظهما واحد، فأبدلوا من الألف الأولى هاء فقالوا مهما. وقال الكسائي: أصله مه، أي اكفف، ما تأتنا به من آية. وقيل: هي كلمة مفردة، يجازي بها ليجزم ما بعدها على تقدير إن. والجواب " فما نحن لك بمؤمنين " (لتسحرنا) لتصرفنا عما نحن عليه. وقد مضى في البقرة بيان هذه اللفظة (1). قيل: بقي موسى في القبط بعد إلقاء السحرة سجدا عشرين سنة يريهم الآيات إلى أن أغرق الله فرعون، فكان هذا قولهم. قوله تعالى: فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايت مفصلت فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (133) فيه خمس مسائل: الأولى - روى إسرائيل عن سماك عن نوف الشامي قال: مكث موسى صلى الله عليه وسلم في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين عاما. وقال محمد بن عمان بن أبي شيبة عن منجاب: عشرين سنة، يريهم الآيات: الجراد والقمل والضفادع والدم. الثانية - قوله تعالى: (الطوفان) أي المطر الشديد حتى عاموا فيه. وقال مجاهد وعطاء: الطوفان الموت قال الأخفش: واحدته طوفانة. وقيل: هو مصدر كالرجحان (1) راجع ج 2 ص 200. (*)
[ 268 ]
والنقصان، فلا يطلب له واحد. قال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكا من موت أو سيل، أي ما يطيف بهم فيهلكهم. وقال السدي: ولم يصب بني إسرائيل قطرة من ماء، بل دخل بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم (1)، ودام عليهم سبعة أيام. وقيل: أربعين يوما. فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن بك، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان فلم يؤمنوا. فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع. فقالوا: كان ذلك الماء نعمة، فبعث الله عليها الجراد وهو الحيوان المعروف، جمع جرادة في المذكر والمؤنث. فإن أردت الفصل نعت فقلت رأيت جرادة ذكرا - فأكل زروعهم وثمارهم حتى أنها كانت تأكل السقوف والأبواب حتى تنهدم ديارهم. ولم يدخل دور بني إسرائيل منها شئ. الثالثة - واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حل بأرض فأفسد، فقيل: لا يقتل. وقال أهل الفقه كلهم: يقتل. احتج الأولون بأنه خلق عظيم من خلق الله يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم. وبما روي (لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم). واحتج الجمهور بأن في تركها فساد الأموال، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أراد أخذ مال، فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى أن يجوز قتلها. ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب ؟ لأنهما يؤذيان الناس فكذلك الجراد. روى ابن ماجة عن جابر وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال: (اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء). قال رجل: يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ قال: (إن الجراد (2) نثرة الحوت في البحر). الرابعة: ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. ولم يختلف العلماء في أكله على الجملة، (1) التراقي: جمع التوقوة، وهى عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين. (2) النثره: شبه العطسة. (*)
[ 269 ]
وأنه إذا أخذ حيا وقطعت رأسه أنه حلال باتفاق. وإن ذلك يتنزل منه منزلة الذكاة فيه. وإنما اختلفوا هل يحتاج إلى سبب يموت به إذا صيد أم لا، فعامتهم على أنه لا يحتاج إلى ذلك، ويؤكل كيفما مات. وحكمه عندهم حكم الحيتان، وإليه ذهب ابن نافع ومطرف وذهب مالك إلى أنه لابد له من سبب يموت به، كقطع رؤوسه أو أرجله أو أجنحته إذا مات من ذلك، أو يصلق أو يطرح في النار، لأنه عنده من حيوان البر فميتته محرمة. وكان الليث يكره أكل ميت الجراد، إلا ما أخذ حيا ثم مات فإن أخذه ذكاة. وإليه ذهب سعيد بن المسيب. وروى الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحل لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال). وقال ابن ماجة: حدثنا أحمد ابن منيع حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد سمع أنس بن مالك يقول: كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق. ذكره ابن المنذر أيضا. الخامسة - روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر وأربعمائة في البر وإن أول هلاك هذه الأمم الجراد فإذا هلكت الجراد تتابعت الأمم مثل نظام السلك إذا انقطع). ذكره الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول) وقال: وإنما صار الجراد أول هذه الأمم هلاكا لأنه خلق من الطينة التي فضلت من طينة آدم. وإنما تهلك الأمم لهلاك الآدمين لأنها مسخرة لهم. رجعنا إلى قصة القبط - فعاهدوا موسى أن يؤمنوا لو كشف عنهم الجراد، فدعا فكشف وكان قد بقي من زروعهم شئ فقالوا: يكفينا ما بقي، ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم القمل، وهو صغار الدبى، قاله قتادة. والدبى: الجراد قبل أن يطير، الواحدة دباة. وأرض مدبية إذا أكل الدبى نباتها. وقال ابن عباس: القمل السوس الذي في الحنطة. وقال ابن زيد: البراغيث. وقال الحسن: دواب سود صغار. وقال أبو عبيدة: الحمنان، وهو ضرب من القراد، واحدها حمنانة. فأكلت دوابهم وزروعهم، ولزمت جلودهم كأنها الجدري عليهم،
[ 270 ]
ومنعهم النوم والقرار. وقال حبيب بن (أبي (1)) ثابت: القمل الجعلان (2). والقمل عند أهل اللغة ضرب من القردان. قال أبو الحسن الأعرابي العدوي: القمل دواب صغار من جنس القردان، إلا أنها أصغر منها، واحدتها قملة. قال النحاس: وليس هذا بناقض لما قاله أهل التفسير، لأنه يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم، وهي أنها كلها تجتمع في أنها تؤذيهم. وذكر بعض المفسرين أنه كان " بعين شمس (3) " كثيب من رمل فضربه موسى بعصاه فصار قملا. وواحد القمل قملة. وقيل: القمل القمل، قاله عطاء الخراساني. وفي قراءة الحسن " والقمل " بفتح القاف وإسكان الميم فتضرعوا فلما كشف عنهم لم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، جمع ضفدع (4) وهي المعروفة التي تكون في الماء، (وفيه مسألة (5) واحدة هي أن) النهي ورد عن قتلها، أخرجه أبو داود وابن ماجة بإسناد صحيح. أخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق وابن ماجة عن محمد بن يحيى النيسابوري الذهلي عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد والضفدع والنملة والهدهد. وخرج النسائي عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. صححه أبو محمد عبد الحق. وعن أبي هريرة قال: الصرد أول طير صام. ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشأم إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة (6) معه والصرد، فكان الصرد دليله إلى الموضع، والسكينة مقداره. فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت: ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصرد لأنه كان دليل إبراهيم على البيت، وعن الضفدع لأنها كانت تصب الماء على نار إبراهيم. ولما تسلطت على فرعون جاءت فأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التنور وثبت فيها وهي نار تسعر، طاعة لله. فجعل (الله (7) نقيقها تسبيحا. يقال: إنها أكثر الدواب تسبيحا. قال عبد الله بن عمرو: لا تقتلوا الضفدع فإن نقيقه الذي تسمعون تسبيح. فروي أنها ملأت (1) من ب وج وك. والتهذيب. (2) الجعلان (بكسر الجيم جمع جعل كصرد) وهو دابة سوداء من دواب الأرض. (3) عاصمة مصر يومئذ. (4) الضفدع: بفتح الضاد والدال وبكسرهما وسكون الفاء. (5) من ج وك. (6) السكينه: ريح خجوج، أي سريعة الممر. (7) من ع. (*)
[ 271 ]
فرشهم وأوعيتهم وطعامهم وشرابهم، فكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، وإذا تكلم وثب الضفدع في فيه. فشكوا إلى موسى وقالوا: نتوب، فكشف الله عنهم ذلك فعادوا إلى كفرهم، فأرسل الله عليهم الدم فسال النيل عليهم (1) دما. وكان الإسرائيلي يغترف منه الماء، والقبطي الدم. وكان الإسرائيلي يصب الماء في فم القبطي فيصير دما، والقبطي يصب الدم في فم الإسرائيلي فيصير ماء زلالا. (آيات مفصلات) أي مبينات ظاهرات، عن مجاهد. قال الزجاج: (آيات مفصلات) نصب على الحال. ويروى أنه كان بين الآية والآية ثمانية أيام. وقيل: أربعون يوما. وقيل: شهر، فلهذا قال " مفصلات ". (فاستكبروا) أي ترفعوا عن الإيمان بالله تعالى. قوله تعالى: ولما وقع عليهم الرجز قالوا يموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل (134) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بلغوه إذا هم ينكثون (135) فانتقمنا منهم فأغرقنهم في اليم بأنهم كذبوا بئايتنا وكانوا عنها غفلين قوله تعالى: (ولما وقع عليهم الرجز) أي العذاب. وقرئ بضم الراء، لغتان. قال ابن جبير: كان طاعونا مات به من القبط في يوم واحد سبعون (2) ألفا. وقيل: المراد بالرجز ما تقدم ذكره من الآيات. (بما عهد عندك) " ما " بمعنى الذي، أي بما استودعك من العلم، أو بما اختصك به فنبأك. وقيل: هذا قسم، أي بعهده عندك إلا ما دعوت لنا، ف " ما " صلة (3). (لئن كشفت عنا الرجز) أي بدعائك لإلهك حتى يكشف عنا. (لنؤمنن لك) أي نصدقك بما جئت به. (ولنرسلن معك بنى إسرائيل) وكانوا يستخدمونهم، على ما تقدم (إلى أجل هم بالغوه) يعني أجلهم الذي ضرب لهم في التغريق. (إذا هم ينكثون) أي ينقضون ما عقدوه (1) من ب وج وك وى. (2) في ع: تسمعون. (3) كذا في جميع نسخ الأصل، وظاهر أنها مصدرية. (*)
[ 272 ]
على أنفسهم. (فانتقمناه منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) واليم البحر. " وكانوا عنها " أي النقمة. دل عليها " فانتقمنا ". وقيل: عن الآيات أي لم يعتبروا بها حتى صاروا كالغافلين عنها. قوله تعالى: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشرق الأرض ومغربها التى بركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137) قوله تعالى: (وأورثناه القوم) يريد بني إسرائيل. (الذين كانوا يستضعفون) أي يستذلون بالخدمة. (مشارق الأرض ومغاربها) زعم الكسائي والفراء أن الأصل " في مشارق الأرض ومغاربها " ثم حذف " في " فنصب. والظاهر أنهم ورثوا أرض القبط. فهما نصب على المفعول الصريح، يقال: ورثت المال وأورثته المال، فلما تعدى الفعل بالهمزة نصب مفعولين. والأرض هي أرض الشأم ومصر. ومشارقها ومغاربها جهات الشرق والغرب بها، فالأرض مخصوصة، عن الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: أراد جميع الأرض، لأن بن بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرض. (التى باركنا فيها) أي بإخراج الزروع والثمار والأنهار. (وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل) هي قوله: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (1) ". (بما صبروا) أي بصبرهم على أذى فرعون، وعلى أمر الله بعد أن آمنوا بموسى. (ودمرنا ماكان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) يقال: عرش يعرش إذا بنى. قال ابن عباس ومجاهد: أي ما كانوا يبنون من القصور وغيرها. وقال الحسن: هو تعريش الكرم. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم " يعرشون " بضم الراء. قال الكسائي: هي لغة تميم. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " يعرشون " بتشديد الراء وضم الياء. (1) راجع ج 13 ص 247. (*)
[ 273 ]
قوله تعالى: وجوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يموسى قالوا يموسى اجعل لنا إلها كما لهم ءالهة قال إنكم قوم تجهلون (138) قوله تعالى: (وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف، والباقون بضمها. يقال: عكف يعكف ويعكف بمعنى أقام على الشئ ولزمه. والمصدر منهما على فعول. قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرقة وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر، ولهذا أخرج لهم السامري عجلا. (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) نظيره قول جهال الأعراب وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى ذات أنواط (1) يعظمونها في كل سنة يوما: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر. قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " لتركبن سنن في قبلكم حذو القذة (2) بالقذة حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه). وكان هذا في مخرجه إلى حنين، على ما يأتي بيانه في " براءة (3) " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وبطل ما كانوا يعلمون (139) قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العلمين (140) قوله تعالى: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه) أي مهلك، والتبار: الهلاك. وكل إناء مكسر متبر. وأمر متبر. أي إن العابد والمعبود مهلكان. وقوله: (وباطل) أي ذاهب (1) ينوطون بها سلاحهم، أي يعلقونه. (2) القذه ريش الهم. قال ابن الأثير: يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان. (3) راجع ج 8 ص 97. (*)
[ 274 ]
مضمحل. (ما كانوا يعملون) كانوا صلة رائدة. (قال أغير الله أبغيكم إلها) أي أطلب لكم إلها غير الله تعالى. يقال: بغيته وبغيت له. (وهو فضلكم على العالمين) أي على عالمي زمانكم. وقيل: فضلهم بإهلاك عدوهم، وبما خصهم به من الآيات. قوله تعالى: وإذ أنجينكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم (141) ذكرهم منته. وقيل: هو خطاب ليهود عصر النبي صلى الله عليه وسلم. أي واذكروا إذ أنجينا أسلافكم. حسب ما تقدم ييانه في سورة (البقرة (1)). قوله تعالى: ووعدنا موسى ثلثين ليلة وأتممنها بعشر فتم ميقت ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هرون اخلفنى في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142) قوله تعالى: (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة) ذكر أن مما كرم الله (2) به موسى صلى الله عليه وسلم هذا فكان وعده المناجاة إكراما له. (وأتممناها بعشر) قال ابن عباس ومجاهد ومسروق رضي الله عنهم: هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. أمره أن يصوم الشهر وينفرد فيه بالعبادة، فلما صامه أنكر خلوف فمه فاستاك. قيل: بعود خرنوب، فقالت الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. فزيد عليه عشر ليال من ذي الحجة. وقيل: إن الله تعالى أوحى إليه لما استاك: (يا موسى لا أكلمك حتى يعود (1) راجع ج 1 ص 381. (2) من ع. (*)
[ 275 ]
فوك إلى ما كان عليه قبل، أما علمت أن رائحة الصائم أحب إلي من ريح المسك). وأمره بصيام عشرة أيام. وكان كلام الله تعالى لموسى (صلى الله عليه وسلم (1)) غداة النحر حين فدى إسماعيل من الذبح، وأكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم الحج. وحذفت الهاء من عشر لأن المعدود مؤنث. والفائدة في قوله: " فتم ميقات ربه أربعين ليلة " وقد علم أن ثلاثين وعشرة أربعون، لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها، فبين أن العشر سوى الثلاثين. فإن قيل: فقد قال في البقرة أربعين وقال هنا ثلاثين، فيكون ذلك من البداء. قيل: ليس كذلك، فقد قال: " وأتممناها بعشر " والأربعون، والثلاثون والعشرة قول واحد ليس بمختلف. وإنما قال القولين على تفصيل وتأليف، قال أربعين في قول مؤلف، وقال ثلاثين، يعني شهرا متتابعا وعشرا. وكل ذلك أربعون، كما قال الشاعر: " عشر وأربع... " يعني أربع عشرة، ليلة البدر. وهذا جائز في كلام العرب. الثانية - قال علماؤنا: دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله تعالى في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال. وأول أجل ضربه الله تعالى الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات، " ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (2) ". وقد بينا معناه فيما تقدم في هذه السورة من قوله: " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام (3) ". قال ابن العربي: فإذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجل فجاء الأجل ولم يتيسر زيد فيه تبصرة ومعذرة. وقد بين الله تعالى ذلك لموسى عليه السلام فضرب له أجلا ثلاثين ثم زاده عشرا تتمة أربعين. وأبطأ موسى عليه السلام في هذه العشر على قومه، فما عقلوا جواز التأني والتأخر حتى قالوا: إن موسى ضل أو نسي، ونكثوا عهده وبدلوا بعده، وعبدوا إلها غير الله. قال ابن عباس: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه، وأخلف فيكم (1) من ع. (2) راجع ج 17 ص 23. (3) راجع ص 218 من هذا الجزء. (*)
[ 276 ]
هارون، فلما فصل (1) موسى إلى ربه زاده الله عشرا، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله بما فعلوه من عبادة العجل، على ما يأتي بيانه. ثم الزيادة التي تكون على الأجل تكون مقدرة، كما أن الأجل مقدر. ولا يكون إلا باجتهاد من الحاكم بعد النظر إلى المعاني المتعلقة بالأمر: من وقت وحال وعمل، فيكون مثل ثلث المدة السالفة، كما أجل الله لموسى. فإن رأى الحاكم أن يجمع له الأصل في الأجل والزيادة في مدة واحدة جاز، ولكن لا بدمن التربص بعدها لما يطرأ من العذر على البشر، قال ابن العربي. روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة (2). قلت: وهذا أيضا أصل لإعذار الحكام إلى المحكوم عليه مرة بعد أخرى. وكان هذا لطفا بالخلق، ولينفذ القيام عليهم بالحق. يقال: أعذر في الأمر أي بالغ فيه، أي أعذر غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده. وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم لتتم حجته عليهم، " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (3) ". وقال " وجاءكم النذير (4) " قيل: هم الرسل. ابن عباس: هو الشيب. فإنه يأتي في سن الاكتهال، فهو علامة لمفارقة سن الصبا. وجعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية ولقاء الله، ففيه إعذار بعد إعذار (5). الأول بالنبي عليه السلام، والثاني بالشيب، وذلك عند كمال الأربعين، قال الله تعالى: " وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك (6) ". فذكر عز وجل أن من بلغ أربعين فقد أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها (7). قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا، وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس. الثالثة - ودلت الآية أيضا على أن التاريخ يكون بالليالي دون الأيام، لقوله تعالى: " ثلاثين ليلة " لأن الليالي أوائل الشهور. وبها كانت الصحابة رضي الله عنهم تخبر عن (1) فصل: خرج. (2) أي لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة ولم يعتذر. (3) راجع ج 10 ص 231. (4) راجع ج 14 ص 351. (5) في ب: وإنذار بعد إنذار. (6) راجع ج 16 ص 194. (7) كذا في ج وك وهو الصواب. وفى اوب وز وى يشكرهما. (*)
[ 277 ]
الأيام، حتى روي عنها أنها كانت تقول: صمنا خمسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعجم تخالف في ذلك، فتحسب بالأيام لأن معولها على الشمس. ابن العربي: وحساب الشمس للمنافع، وحساب القمر للمناسك، ولهذا قال: " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ". فيقال: أرخت تاريخا، وورخت توريخا، لغتان. قوله تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى في قومي وأصلح) المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون: كن خليفتي، فدل على النيابة. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي حين خلفه في بعض مغازيه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). فاستدل بهذا الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا على جميع الأمة، حتى كفر الصحابة الإمامية - قبحهم الله - لأنهم عندهم تركوا العمل الذي هو النص على استخلاف علي واستخلفوا غيره بالاجتهاد منهم. ومنهم من كفر عليا إذ لم يقم بطلب حقه. وهؤلاء لاشك في كفرهم وكفر من تبعهم على مقالتهم، ولم يعلموا أن هذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو بموته، لا يقتضي أنه متماد بعد وفاته، فينحل على هذا ما تعلق به الإمامية وغيرهم. وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وغيره، ولم يلزم من ذلك استخلافه دائما بالاتفاق. على أنه قد كان هارون شرك مع موسى في أصل الرسالة، فلا يكون لهم فيه على ما راموه دلالة. والله الموفق للهداية. قوله تعالى: " وأصلح " أمر بالإصلاح. قال ابن جريج: كان من الإصلاح أن يزجر. السامري ويغير عليه. وقيل: أي ارفق بهم، وأصلح أمرهم، وأصلح نفسك، أي كن مصلحا. ولا تتبع سبيل المفسدين أي لا تسلك سبيل العاصين، ولا تكن عونا للظالين.
[ 278 ]
قوله تعالى: واما جاء موسى لميقتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترينى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترينى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحنك تبت إليك وأنا أول المومنين (143) قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا) أي في الوقت الموعود. (وكلمه ربه) أي أسمعه كلامه من غير واسطة. (قال رب أرنى أنظر إليك) سأل النظر إليه، وآشتاق إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. ف (قال لن تراني) أي في الدنيا. ولا يجوز الحمل على أنه أراد: أرني آية عظيمة لأنظر إلى قدرتك، لأنه قال " إليك " و " قال لن تراني ". ولو سأل آية لأعطاه الله ما سأل، كما أعطاه سائر الآيات. وقد كان لموسى عليه السلام فيها مقنع عن طلب آية أخرى، فبطل هذا التأويل. (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) ضرب له مثالا مما هو أقوى من بنيته وأثبت. أي فإن ثبت الجبل وسكن فسوف تراني، وإن لم يسكن فإنك لا تطيق رؤيتي، كما أن الجبل لا يطيق رؤيتي. وذكر القاضي عياض عن القاضي أبي بكر بن الطيب ما معناه: أن موسى عليه السلام رأى الله فلذلك خر صعقا، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له. واستنبط ذلك من قوله: " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ". ثم قال (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) وتجلى معناه ظهر، من قولك: جلوت العروس أي أبرزتها. وجلوت السيف أبرزته من الصدإ، جلاء فيهما. وتجلى الشي انكشف. وقيل: تجلى أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره. وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة " دكا "، يدل على صحتها " دكت الأرض دكا " وأن الجبل مذكر. (2) وقرأ أهل الكوفة " دكاء " أي جعله مثل أرض دكاء، وهي الناتئة (3) لا تبلغ أن تكون جبلا. والمذكر أدك، وجمع دكاء دكاوات (1) راجع ج 20 ص 54. (2) في ب وج: قرءة. (3) الذى في مفردات الراغب: أرض دكاء مسواة. (*)
[ 279 ]
ودك، مثل حمراوات وحمر. قال الكسائي: الدك من الجبال: العراض، واحدها أدك. غيره: والدكاوات جمع دكاء: رواب من طين ليست بالغلاظ. والدكداك كذلك من الرمل: ما التبد بالأرض فلم يرتفع. وناقة دكاء لا سنام لها. وفي التفسير: فساخ الجبل في الأرض، فهو يذهب فيها حتى الآن. وقال ابن عباس: جعله ترابا. عطية العوفي: رملا هائلا. (وخر موسى صعقا) أي مغشيا عليه، عن ابن عباس والحسن وقتادة. وقيل: ميتا، يقال: صعق الرجل فهو صعق. وصعق فهو مصعوق. وقال قتادة والكلبي: خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك قال مجاهد: من مسألة الرؤية في الدنيا. وقيل: سأل من غير استئذان، فلذلك تاب. وقيل: قال على جهة الإنابة إلى الله والخشوع له عند ظهور الآيات. وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية، فإن الأنبياء معصومون. وأيضا عند أهل السنة والجماعة الرؤية جائزة. وعند المبتدعة سأل لأجل القوم ليبين لهم أنها غير جائزة، وهذا لا يقتضي التوبة. فقيل: أي تبت إليك من قتل القبطي، ذكره القشيري. وقد مضى في " الأنعام (1) " بيان أن الرؤية جائزة. قال علي بن مهدي الطبري: لو كان سؤال موسى مستحيلا ما أقدم عليه مع معرفته بالله، كما لم يجز أن يقول له يا رب ألك صاحبة وولد. وسيأتي في " القيامة (2) " مذهب المعتزلة والرد عليهم، إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وأنا أول المؤنين) قيل: بن قومي. وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر. وقيل: بأنك لا ترى في الدنيا لوعدك السابق، في ذلك. وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصفته الأولى). أو قال (كفته صعقته الأولى). وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال: إن الله تبارك وتعالى قسم (1) راجع ج 54 من هذا الجزء. (2) راجع ج 19 ص 105. (*)
[ 280 ]
كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما، فكلمه موسى مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين. قوله تعالى: قال يموسى إنى اصطفيتك على الناس برسلتى وبكلمي فخذ ماء اتيتك وكن من الشكرين (144) قوله تعالى: (يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامي) الاصطفاء: الاجتباء، أي فضلتك. ولم يقل على الخلق، لأن من هذا الاصطفاء أنه كلمه وقد كلم الملائكة وأرسله وأرسل غيره. فالمراد " على الناس " المرسل إليهم. وقرأ " برسالتي " على الإفراد نافع وابن كثير. والباقون بالجمع. والرسالة مصدر، فيجوز إفرادها. ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالة فاختلفت أنواعها، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه، كما قال: " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (1) ". فجمع لاختلاف أجناس الأصوات واختلاف المصوتين. ووحد في قوله " الصوت " لما أراد به جنسا واحدا من الأصوات. ودل هذا على أن قومه لم يشاركه في التكليم ولا واحد من السبعين، كما بيناه في " البقرة (2) ". قوله تعالى: (فخذ ما آتيك) إشارة إلى القناعة، أي اقنع بما أعطيتك. (وكن من الشاكرين) أي من المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك، يقال: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. والشاكر معرض للمزيد كما قال: " لئن شكرتم لأزيدنكم (3) ". ويروى أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه الله تعالى أربعين ليلة لا يراه أحد إلا مات من نور الله عز وجل. قوله تعالى: وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفسقين (145) (1) راجع ج 14 ص 71. (2) راجع ج 1 ص 403. (3) راجع ج 9 ص 342. (*)
[ 281 ]
قوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شئ) يريد لتوراة. وروي في الخبر أنه قبض عليه جبريل عليه السلام بجناحه فمر به في العلا حتى أدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله له الألواح، ذكره الترمذي الحكيم. وقال مجاهد: كانت الألواح من زمردة خضراء. ابن جبير: من ياقوتة حمراء. أبو العالية: من زبرجد. الحسن: من خشب، نزلت من السماء. وقيل: من صخرة صماء، لينها الله لموسى عليه السلام فقطعها بيده ثم شقها بأصابعه، فأطاعته كالحديد لداود. قال مقاتل: أي كتبنا (له (1)) في الألواح كنقس الخاتم. ربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر (2) بعير. وأضاف الكتابة إلى نفسه على جهة التشريف، إذ هي مكتوبة بأمره كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر. واستمد من نهر النور. وقيل: هي كتابة أظهرها الله وخلقها في الألواح. وأصل اللوح: (لوح (3)) (بفتح اللام)، قال الله تعالى: " بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ (4) ". فكأن اللوح تلوح فيه المعاني. ويروى أنها لوحان، وجاء بالجمع لأن الاثنين جمع. ويقال: رجل عظيم الألواح إذا كان كبير عظم اليدين والرجلين. ابن عباس: وتكسرت الألواح حين ألقاها فرفعت إلا سدسها. وقيل: بقي سبعها ورفعت ستة أسباعها. فكان في الذي رفع تفصيل كل شئ، وفي الذي بقي الهدى والرحمة. وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال: بلغني أن موسى بن عمران نبي الله صلى الله عليه وسلم صام أربعين ليلة، فلما ألقى الألواح تكسرت فصام مثلها فردت إليه. ومعنى " من كل شئ " مما يحتاج إليه في دينه من الأحكام وتبيين الحلال والحرام، عن الثوري وغيره. وقيل: هو لفظ يذكر تفخيما ولا يراد به التعميم، تقول: دخلت السوق فاشتريت كل شئ. وعند فلان كل شئ. و " تدمر كل شئ (5) ". " وأوتيت من كل شئ (6) " وقد تقدم. (موعظة وتفصيلا لكل شئ) أي لكل شئ أمروا به من الأحكام، فإنه لم يكن عندهم اجتهاد، وإنما خص بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (فخذها بقوة) في الكلام حذف، أي فقلنا له: خذها بقوة، أي بجد ونشاط. نظيره (1) من ب، ع. (2) الوقر (بكسر الواو): الحمل الثقيل. وعم بعضهم به الثقيل والخفيف وما بينهما. (3) من ع. وهو الصواب. والذى في ب ى ا ك: اللمع. وليست بشئ. بدليل الآية الشاهد. (4) راجع ج 19 ص 269. (5) راجع ج 16 ص 206. (6) راجع ج 13 ص 184. (*)
[ 282 ]
" خذوا ما آتيناكم بقوة " وقد تقدم (1). (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي، ويتدبروا الأمثال والمواعظ. نظيره " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم (2) ". وقال: " فيتبعون أحسنه (2) ". والعفو أحسن من الاقتصاص. والصبر أحسن من الانتصار. وقيل: أحسنها الفرائض والنوافل، وأدونها المباح. سأريكم دار الفاسقين قال الكلبي: " دار الفاسقين " ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود، والقرون التي (3) أهلكوا. وقيل: هي جهنم، عن الحسن ومجاهد. أي فلتكن منكم على ذكر، فاحذروا أن تكونوا منها. وقيل: أراد بها مصر، أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية عنهم، عن ابن جبير. قتادة: المعنى سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها يعني الشأم. وهذان القولان يدل عليهما " وأورثنا القوم (4) " الآية. " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض (5) " الآية، وقد تقدم. وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير " سأورثكم " من ورث. وهذا ظاهر. وقيل: الدار الهلاك، وجمعه أدوار. وذلك أن الله تعالى لما أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل، قال: ففعل، فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين. قوله تعالى: سأصرف عن ءايتى الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بئايتنا وكانوا عنها غفلين (146) والذين كذبوا بايتنا ولقاء الأخرة حبطت أعملهم هل يجزون إلا ما كانوا يعلمون (147) (1) راجع ج 1 ص 437. (2) راجع ج 15 ص 270، ص 243. (3) في ج وك: الذين. (4) راجع ص 272. من هذا الجزء. (5) راجع ج 13 ص 247. (*)
[ 283 ]
قوله تعالى: (سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) قال قتادة: سأمنعهم فهم كتابي. وقاله سفيان بن عيينة. وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها. وقيل: سأصرفهم عن نفعها، وذلك مجازاة على تكبرهم. نظيره: " فلما زاغوا أزاغ الله (1) قلوبهم ". والآيات على هذا المعجزات أو الكتب المنزلة. وقيل: خلق السماوات والأرض. أي أصرفهم عن الاعتبار بها. (يتكبرون) يرون أنهم أفضل الخلق. وهذا ظن باطل، فلهذا قال: (بغير الحق) فلا يتبعون نبيا ولا يصغون إليه لتكبرهم. قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا) يعني هؤلاء المتكبرون. أخبر عنهم أنهم يتركون طريق الرشاد ويتبعون سبيل الغي والضلال، أي الكفر يتخذونه دينا. ثم علل فقال: (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) أي ذلك الفعل الذي فعلته بهم بتكذيبهم. (وكانوا عنها غافلين) أي كانوا في تركهم تدبر الحق كالغافلين. ويحتمل أن يكونوا غافلين عما يجازون به، كما يقال: ما أغفل فلان عما يراد به، وقرأ مالك بن دينار " وإن يروا " بضم الياء في الحرفين، أي يفعل ذلك بهم. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة " سبيل الرشد " بضم الراء وإسكان الشين. وأهل الكوفة إلا عاصما " الرشد " بفتح الراء والشين. قال أبو عبيد: فرق أبو عمرو بين الرشد والرشد فقال: الرشد في الصلاح. والرشد في الدين. قال النحاس: " سيبويه يذهب إلى أن الرشد والرشد مثل السخط والسخط، وكذا قال الكسائي. والصحيح عن أبي عمرو غير ما قال أبو عبيد. قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو بن العلاء قال: إذا كان الرشد وسط الآية فهو مسكن، وإذا كان رأس الآية فهو محرك. قال النحاس: يعني برأس الآية نحو " وهئ لنا من أمرنا رشدا (2) " فهما عنده لغتان بمعنى واحد، إلا أنه فتح هذا لتتفق الآيات. ويقال: رشد يرشد، ورشد يرشد. وحكى سيبويه رشد يرشد. وحقيقة الرشد والرشد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد، وهو ضد الخيبة ". (1) راجع ج 18 ص 82. (2) راجع ج 10 ص 358. (*)
[ 284 ]
قوله تعالى: واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظلمين (148) قوله تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده) أي من بعد خروجه إلى الطور. (من حليهم) هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة. وقرأ أهل الكوفة عاصما " من حليهم " بكسر الحاء. وقرأ يعقوب " من حليهم " بفتح الحاء والتخفيف. قال النحاس: جمع حلي وحلي وحلي، مثل ثدي وثدي وثدي. والأصل " حلوى " ثم أدغمت الواو في الياء فانكسرت اللام لمجاورتها الياء، وتكسر الحاء لكسرة اللام. وضمها على الأصل. (عجلا) مفعول. (جسدا) نعت أو بدل. (له خوار) رفع بالابتداء. يقال: خار يخور خوارا إذا صاح. وكذلك جأر يجأر جؤارا. ويقال: خور يخور خورا إذا جبن وضعف. وروي في قصص العجل: أن السامري، واسمه موسى بن ظفر، ينسب إلى قرية تدعى سامرة. ولد عام قتل الأبناء، وأخفته أمه في كهف جبل فغذاه جبريل فعرفه لذلك، فأخذ حين عبر البحر على فرس وديق (1) ليتقدم فرعون في البحر - قبضة من أثر حافر الفرس. وهو معنى قوله: " فقبضت قبضة من أثر الرسول (2) ". وكان موسى وعد قومه ثلاثين يوما، فلما أبطأ في العشر الزائد ومضت ثلاثون ليلة قال لبني إسرائيل وكان مطاعا فيهم: إن معكم حليا من حلي آل فرعون، وكان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا لذلك اليوم، فلما أخرجهم الله من مصر وغرق القبط بقي ذلك الحلي في أيديهم، فقال لهم السامري: إنه حرام عليكم، فهاتوا ما عندكم فنحرقه. وقيل: هذا الحلي ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون بعد الغرق، وأن هارون قال لهم: إن الحلي غنيمة، وهي لا تحل لكم، فجمعها في حفرة حفرها فأخذها السامري. وقيل: استعاروا الحلي ليلة أرادوا الخروج من مصر، وأوهموا القبط أن لهم عرسا أو مجتمعا، (1) أي تشتهى الفحل. (2) راجع ج 11 ص 238. (*)
[ 285 ]
وكان السامري سمع قولهم " اجعل لنا إلها كما لهم (1) آلهة ". وكانت تلك الآلهة على مثال البقر، فصاغ لهم عجلا جسدا، أي مصمتا، غير أنهم كانوا يسمعون منه خوار. وقيل: قلبه الله لحما ودما. وقيل: إنه لما ألقى تلك القبضة من التراب في النار على الحلي صار عجلا له خوار، فخار خورة واحدة ولم يثن ثم قال للقوم: " هذا إلهكم وإله موسى فنسي (2) ". يقول: نسيه ها هنا وذهب يطلبه فضل عنه - فتعالوا نعبد هذا العجل. فقال الله لموسى وهو يناجيه: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ". فقال موسى: يا رب، هذا السامري أخرج لهم عجلا من حليهم، فمن جعل له جسدا ؟ - يريد اللحم والدم - ومن جعل له خوارا ؟ فقال الله سبحانه: أنا فقال: وعزتك وجلالك ما أضلهم غيرك. قال صدقت يا حكيم الحكماء. وهو معنى قوله: " إن هي إلا فتنتك (2) ". وقال القفال: كان السامري احتال بأن جوف العجل، وكان قابل به الريح، حتى جاء من ذلك ما يحاكي الخوار، وأوهمهم أن ذلك إنما صار كذلك لما طرح في الجسد من التراب الذي كان أخذه من تراب قوائم فرس جبريل. وهذا كلام فيه تهافت (3)، قال القشيري. قوله تعالى: (ألم يروا أنه لا يكلمهم) بين أن المعبود يجب أن يتصف بالكلام. (ولا يهديهم سبيلا) أي طريقا إلى حجة. (اتخذوه) أي إلها. (وكانوا ظالمين) أي لأنفسهم فيما فعلوا من اتخاذه (4). وقيل: وصاروا ظالمين أي مشركين لجعلهم العجل إلها. قوله تعالى: ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخسرين (149) قوله تعالى: (ولما سقط في أيديهم) أي بعد عود موسى من الميقات. يقال للنادم المتحير: قد سقط في يده. قال الأخفش: يقال سقط في يده، وأسقط. ومن قال: سقط في أيديهم على بناء الفاعل، فالمعنى عنده: سقط الندم، قال الأزهري والنحاس وغيرهما. (1) راجع ص 273 من هذا الجزء. (2) راجع ج 11 ص 232 وص 294 من هذا الجزء. (3) في ب وى: متهافت. (4) في ز: اتخاذهم. (*)
[ 286 ]
والندم يكون في القلب، ولكنه ذكر اليد لأنه يقال لمن تحصل على شئ: قد حصل في يده أمر كذا، لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد، قال الله تعالى: " ذلك بما قدمت يداك (1) ". وأيضا: الندم وإن حل في القلب فأثره يظهر في البدن، لأن النادم يعض يده، ويضرب إحدى يديه على الأخرى، وقال الله تعالى: " فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها (2) " أي ندم. " ويوم يعض الظالم على يديه (3) " أي من الندم. والنادم يضع ذقنه في يده. وقيل: أصله من الاستئسار، وهو أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره أو يكتفه، فالمرمي مسقوط به في يد الساقط. (ورأوا أنهم قد ضلوا) أي انقلبوا (4) بمعصية الله. (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنوكنن من الخاسرين) أخذوا في الإقرار بالعبودية والاستغفار. وقرأ حمزة والكسائي: " لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا " بالتاء على الخطاب. وفيه معنى الاستغاثة والتضرع والابتهال في السؤال والدعاء. " ربنا " بالنصب على حذف النداء. وهو أيضا أبلغ في الدعاء والخضوع. فقراءتهما أبلغ في الاستكانة والتضرع، فهي أولى. قوله تعالى: ولما رجع موسى إلى قومه غضبن أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدى أعجلتم أمر ربكم وألقى الأرواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بى الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظلمين (150) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151) قوله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) لم ينصرف " غضبان " لأن مؤنثه غضبى، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء. وهو نصب على الحال. و " أسفا " شديد الغضب. قال أبو الدرداء: الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك. وهو أسف وأسف وأسفان وأسوف. والأسيف أيضا الحزين. ابن عباس (1) راجع ج 12 ص 15. (2) راجع ج 10 ص 409. (3) راجع ج 13 ص 25. (4) في ب وى: ابتلوا. (*)
[ 287 ]
والسدي: رجع حزينا من صنيع قومه. وقال الطبري: أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل، فلذلك رجع وهو غضبان. ابن العربي: وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضبا، لكنه كان سريع الفيئة (1)، فتلك بتلك. قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: كان موسى عليه السلام إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته، ورفع شعر بدنه جبته. وذلك أن الغضب جمرة تتوقد في القلب. ولأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يضطجع. فإن لم يذهب غضبه اغتسل، فيخمدها اضطجاعه ويطفئها اغتساله. وسرعه غضبه كان سببا لصكه ملك الموت ففقأ عينه. وقد تقدم في المائدة (2) ما للعلماء في هذا. وقال الترمذي الحكيم: وإنما استجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله، كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مد إليه يدا بأذى فقد عظم الخطب فيه. ألا ترى أنه احتج عليه فقال: من أين تنزع روحي ؟ أمن فمي وقد ناجيت به ربي ! أم من سمعي وقد سمعت به كلام ربي ! أم من يدي وقد قبضت منه (3) الألواح ! أم من قدمي وقد قمت بين يديه أكلمه بالطور ! أم من عيني وقد أشرق وجهي لنوره. فرجع إلى ربه مفحما. وفي مصنف أبي داود عن أبي ذر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع). وروي أيضا عن أبي وائل القاص قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه، فقام ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). قوله تعالى: (بئسما خلقتموني من بعدى) ذم منه لهم، أي بئس العمل عملتم (4) بعدي. يقال: خلفه، بما يكره. ويقال في الخير أيضا. يقال منه: خلفه بخير أو بشر في أهله وقومه (1) الفيئة (بفتح الفاء وكسرها): الحالة من الرجوع عن الشى الذى يكون قد لابسه الإنسان وباشره. (2) راجع ج 6 ص 122. (3) في ج: به. (4) في ب: عملكم. (*)
[ 288 ]
بعد شخوصه. (أعجلتم أمر ربكم) أي سبقتموه. والعجلة: التقدم بالشئ قبل وقته، وهي مذمومة. والسرعة: عمل الشئ في أول أوقاته، وهي محمودة. قال يعقوب: يقال عجلت الشئ سبقته. وأعجلت الرجل استعجلته، أي حملته على العجلة. ومعنى " أمر ربكم " أي ميعاد ربكم، أي وعد أربعين ليلة. وقيل: أن تعجلتم سخط ربكم. وقيل: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم. قوله تعالى: (وألقى الألواح) فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: (وألقى الألواح) أي مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، وعلى أخيه في إهمال أمرهم، قال سعيد بن جبير. ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة. ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح عنه، ولا يصح أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول ردئ ينبغي أن يضاف إلى موسى صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الألواح تكسرت، وأنه رفع منها التفصيل وبقي (فيها (1)) الهدى والرحمة. الثانية - وقد استدل بعض جهال المتصوفة بهذا على جواز رمي الثياب إذا اشتد طربهم على المغنى. ثم منهم من يرمي بها صحاحا، ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها. قال: هؤلاء في غيبة فلا يلامون، فإن موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل، رمى الألواح فكسرها، ولم يدر ما صنع. قال أبو الفرج الجوزي: من يصحح عن موسى عليه السلام أنه رماها رمي كاسر ؟ والذي ذكر في القرآن ألقاها، فمن أين لنا أنها تكسرت ؟ ثم لو قيل: تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها ؟ ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه. ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغنى من غيره، ويحذرون من بئر لو كانت عندهم. ثم كيف تقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء. وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال: خطأ وحرام، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. فقال له قائل: فإنهم لا يعقلون ما يفعلون. فقال: (1) من ب. (*)
[ 289 ]
إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما أدخلوه على أنفسهم من التخريق وغيره مما أفسدوا، ولا يسقط عنهم خطاب الشرع، لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذا الموضع الذي يفضي إلى ذلك. كما هم منهيون عن شرب المسكر، كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجدا إن صدقوا أن فيه سكر طبع، وإن كذبوا أفسدو مع الصحو، فلا سلامة فيه مع الحالين، وتجنب مواضع الريب واجب. قوله تعالى: (وأخذ برأس أخيه يجره إليه) أي بلحيته وذؤابته. وكان هارون أكبر من موسى - صلوات الله وسلامه عليهما - بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى، لأنه كان لين الغضب. للعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربع تأويلات الأول - أن ذلك كان متعارفا عندهم، كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما، فلم يكن ذلك على طريق الإذلال. الثاني - أن ذلك إنما كان ليسر إليه نزول الألواح عليه، لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. الثالث - إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. الرابع - ضم إليه أخاه ليعلم ما لديه، فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه، فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. فلما سمع عذره قال: رب اغفر لي ولأخي، أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، ولأخي لأنه ظنه مقصرا في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير، أي اغفر لأخي إن قصر. قال الحسن: عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثم مؤمن غير موسى وهارون لما اقتصر على قوله: رب اغفر لي ولأخي، ولدعا لذلك المؤمن أيضا. وقيل: استغفر لنفسه من فعله بأخيه،
[ 290 ]
فعل ذلك لموجدته عليه، إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى ليرجع فيتلافاهم، ولهذا قال: " يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن (1) " الآية. فبين هارون أنه إنما أقام خوفا على نفسه من القتل. فدلت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت. وقد تقدم بيان هذا في " آل عمران (2) " ابن العربي: وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس، فإن موسى عليه السلام لم يغير غضبه شيئا من أفعاله، بل اطردت على مجراها من إلقاء لوح وعتاب أخ وصك ملك. الهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا أو يتفرقوا. قوله تعالى: (قال ابن أم) وكان ابن أمه وأبيه. ولكنها كلمة لين وعطف. قال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. وقرئ بفتح الميم وكسرها، فمن فتح جعل " ابن أم " اسما واحدا كخمسة عشر، فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا. ومن كسر الميم جعله مضاف إلى ضمير المتكلم ثم حذف ياء الإضافة، لأن مبنى النداء على الحذف، وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الإضافة، كقوله: " يا عباد (3) ". يدل عليه قراءة ابن السميقع " يا بن أمي " بإثبات الياء على الأصل. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد: " يا بن أم " بالفتح، تقديره يا بن أماه. وقال البصريون: هذا القول خطأ، لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الاسمين اسما واحدا. وقال الأخفش وأبو حاتم: " يا بن أم " بالكسر كما تقول: يا غلام غلام أقبل، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة. وإنما هذا فيما يكون مضافا إليك، فأما المضاف إلى مضاف إليك فالوجه أن تقول: يا غلام غلامي، ويا بن أخي. وجوزوا يا بن أم، يا بن عم، لكثرتها في الكلام. قال الزجاج والنحاس: ولكن لها وجه حسن جيد، يجعل الابن مع الأم ومع العم اسما واحدا، بمنزلة قولك: يا خمسة عشر أقبلوا، فحذفت الياء كما حذفت من يا غلام إن القوم استضعفوني استذلوني وعدوني ضعيفا. وكادوا أي قاربوا. يقتلونني بنونين، لأنه فعل مستقبل. ويجوز الإدغام في غير (4) القرآن. فلا تشمت بى الأعداء (1) راجع ج 11 ص 236. (2) راجع ج 4 ص 47. (3) راجع ج 15 ص 243. (4) راجع ج 15 ص 276 ففيه خلاف هذا. (*)
[ 291 ]
أي لا تسرهم. والشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا. وهي محرمة منهي عنها. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء). أخرجه البخاري وغيره. وقال الشاعر: إذا ما الدهر جر على أناس * كلاكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا وقرأ مجاهد ومالك بن دينار " تشمت " بالنصب في التاء وفتح الميم، " الأعداء " بالرفع. والمعنى: لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي. وعن مجاهد أيضا " تشمت " بالفتح فيهما " الأعداء " بالنصب. قال ابن جني: المعنى فلا تشمت بي أنت يا رب. وجاز هذا كما قال: " الله يستهزئ بهم (1) " ونحوه. ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلا نصب به الأعداء، كأنه قال: ولا تشمت بي، الأعداء. قال أبو عبيد: وحكيت عن حميد: " فلا تشمت " بكسر الميم. قال النحاس: ولا وجه لهذه القراءة، لأنه إن كان من شمت وجب أن يقول تشمت. وإن كان من أشمت وجب أن يقول تشمت. وقوله: (ولا تجعلني مع القوم الظالمين) قال مجاهد: يعني الذين عبدوا العجل. (قال رب اغفر لى ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (2)) تقدم. قوله تعالى: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحيوة الدنيا وكذلك نجزى المفترين (152) والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وءامنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153) قوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم). الغضب من الله العقوبة. وذلة في الحيوة الدنيا لأنهم أمروا بقتل بعضهم بعضا. وقيل: الذلة الجزية. (1) راجع ج 1 ص 207. (2) راجع ج 3 ص 431. (*)
[ 292 ]
وفيه بعد، لأن الجزية لم تؤخذ منهم وإنما أخذت من ذرياتهم. ثم قيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام، أخبر الله عز وجل به عنه، وتم الكلام. ثم قال الله تعالى: " وكذلك نجزى المفترين ". وكان هذا القول من موسى عليه السلام قبل أن يتوب القوم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم - كما تقدم بيانه في البقرة (1) - أخبرهم أن من مات منهم قتيلا فهو شهيد، ومن بقي حيا فهو مغفور له. وقيل: كان ثم طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أحبه، فلم يتوبوا، فهم المعنيون. بقوله: (إن الذين اتخذوا العجل) وقيل: أراد من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات. وقيل: أراد أولادهم. وهو ما جرى على قريظة والنضير، أي سينال أولادهم. والله أعلم. (وكذلك نجزي المفترين) أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم - حتى قال - وكذلك نجزي المفترين " أي المبتدعين. وقيل: إن موسى أمر بذبح العجل، فجرى منه دم وبرده بالمبرد وألقاه مع الدم في اليم وأمرهم بالشرب من ذلك الماء، فمن عبد ذلك العجل وأشربه (2) ظهر ذلك على أطراف فمه، فبذلك عرف عبدة العجل قد مضى هذا في البقره ثم أخبر الله تعالى أن الله يقبل توبة التائب من الشرك وغيره. موضع (والذين عملوا السيئات) أي الكفر والمعاصي. (ثم تابوا من بعدها) أي من بعد فعلها. (وآمنوا إن ربك من بعدها) أي من بعد التوبة لغفور رحيم. قوله تعالى: ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفى نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون (154) قوله تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب) أي سكن. وكذلك قرأها معاوية بن قرة " سكن " بالنون وأصل السكوت السكون والإمساك، يقال: جرى الوادي ثلاثا (1) راجع ج 1 ص 401. (2) في ك: وشربه. ولعل أصل العبارة: إشربه وظهر. الخ. راجع ج 2 ص 31. (*)
[ 293 ]
ثم سكن، أي أمسك عن الجري. وقال عكرمة: سكت موسى عن الغضب، فهو من المقلوب. كقولك: أدخلت الأصبع في الخاتم وأدخلت الخاتم في الأصبع. وأدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت رأسي في القلنسوة. (أخذ الألواح) التي ألقاها. (وفى نسختها هدى ورحمة) أي " هدى " من الضلالة، " ورحمة " أي من العذاب. والنسخ: نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر. ويقال للأصل الذي كتبت منه: نسخة، وللفرع نسخة. فقيل: لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما، فردت عليه وأعيدت له تلك الألواح في لوحين، ولم يفقد منها شيئا، ذكره ابن عباس. قال القشيري: فعلى هذا " وفي نسختها " أي وفيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة هدى ورحمة. وقال عطاء: وفيما بقي منها. وذلك أنه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها. ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شئ. وقيل: المعنى " وفي نسختها " أي وفيما نسخ له منها من اللوح المحفوظ هدى. وقيل: المعنى وفيما كتب له فيها هدى ورحمة، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه. وهذا كما يقال: انسخ ما يقول فلان، أي أثبته في كتابك. قوله تعالى: (للذين هم لربهم يرهبون) أي يخافون. وفي اللام ثلاثة أقوال: قول الكوفيين هي زائدة. قال الكسائي: حدثني من سمع الفرزدق يقول نقدت لها مائة درهم، بمعنى نقدتها. وقيل: هي لام أجل، المعنى: والذين هم من أجل ربهم يرهبون رياء ولا سمعة، عن الأخفش. وقال محمد بن يزيد: هي متعلقة بمصدر، المعنى: للذين هم رهبتهم لربهم. وقيل: لما تقدم المفعول حسن دخول اللام، كقول: " إن كنتم للرؤيا تعبرون (1) ". فلما تقدم المعمول وهو المفعول ضعف عمل الفعل فصار بمنزلة ما لا يتعدى. قوله تعالى: واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيى أتهلكنا (1) راجع ج 9 ص 198. (*)
[ 294 ]
بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغفرين (155) قوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا) مفعولان، أحدهما حذفت منه من، وأنشد سيبويه: منا الذي اختير الرجال سماحة * وبرا إذا هب الرياح الزعازع (1) وقال الراعي يمدح رجلا: اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم * واختل (2) من كان يرجى عنده السول يريد: اخترتك من الناس. وأصل اختار اختير، فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفا، نحو قال وباع. قوله تعالى: (فلما أخذتهم الرجفة) أي ماتوا. والرجفة في اللغة الزلزلة الشديدة. ويروى أنهم زلزلوا حتى ماتوا. قوله تعالى: (قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى) أي أمتهم، كما قال عز وجل: " إن امرؤ هلك (3) ". " وإياي " عطف. والمعنى: لو شئت أمتنا من قبل أن نخرج إلى الميقات بمحضر بني إسرائيل حتى لا يتهموني. أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد عن علي رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون صلى الله عليهما وانطلق شبر وشبير - هما ابنا هارون - فانتهوا إلى جبل فيه سرير، فقام عليه هارون فقبض روحه. فرجع موسى إلى قومه، فقالوا: أنت قتلته، حسدتنا (4) على لينه وعلى خلقه، أو كلمة نحوها، الشك من سفيان، فقال: كيف أقتله ومعي ابناه ! قال: فاختاروا من شئتم، فاختاروا من كل سبط عشرة. قال: فذلك قوله: " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا " فانتهوا إليه، فقالوا: من قتلك يا هارون ؟ قال: ما قتلني (1) البيت للفرزدق، كما في شواهد سيبويه. في ديوانه: وخيرا. (2) اختل: افتقر. (3) راجع ج 6 ص 28. (4) في ك: حسدا. (*)
[ 295 ]
أحد ولكن الله توفاني. قالوا: يا موسى، ما تعصى (1). فأخذتهم الرجفة، فجعلوا يترددون (2) يمينا وشمالا، ويقول: (لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك) قال فأحياهم وجعلهم أنبياء كلهم. وقيل: أخذتهم الرجفة لقولهم: أرنا الله جهرة كما قال الله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة " على ما تقدم بيانه في البقره (3). وقال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا من عبد العجل، ولم يرضوا عبادته. وقيل: هؤلاء السبعون غير من قالوا أرنا الله جهرة. وقال وهب: ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وخاف موسى عليهم الموت. وقد تقدم في " البقرة " عن وهب أنهم ماتوا يوما وليلة. وقيل غير هذا في معنى سبب أخذهم بالرجفة. والله أعلم بصحة ذلك. ومقصود الاستفهام في قوله: " أتهلكنا " الجحد، أي لست تفعل ذلك. وهو كثير في كلام العرب. وإذا كان نفيا كان بمعنى الإيجاب، كما قال: ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح (4) وقيل: معناه الدعاء والطلب، أي لا تهلكنا، وأضاف إلى نفسه. والمراد القوم الذين ماتوا من الرجفة. وقال المبرد: المراد بالاستفهام استفهام استعظام، كأنه يقول: لا تهلكنا، وقد علم موسى أن الله لا يهلك أحدا بذنب غيره، ولكنه كقول عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك (5) ". وقيل: المراد بالسفهاء السبعون. والمعنى: أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم " أرنا الله جهرة ". " إن هي إلا فتنتك " أي ما هذا إلا اختبارك وامتحانك. وأضاف الفتنة إلى الله عز وجل ولم يضفها إلى نفسه، كما قال إبراهيم: " وإذا مرضت فهو يشفين (6) " فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى: وقال يوشع: " وما أنسانيه إلا الشيطان (7) ". وإنما استفاد ذلك موسى عليه السلام من قوله تعالى له: (1) في ع: ما تقضى. (2) ع: يتردون. (3) راجع ج 1 ص 403. (4) الراح: جمع راحة، وهى الكف. (5) راجع ج 6 ص 377. (6) راجع ج 13 ص 110. (7) راجع ج 11 ص 12. (*)
[ 296 ]
" فإنا قد فتنا قومك من بعدك (1) ". فلما رجع إلى قومه ورأى العجل منصوبا للعبادة وله خوار قال (إن هي إلا فتنتك تضل بها) أي بالفتنة. (من تشاء وتهدى من تشاء) وهذا رد على القدرية. قوله تعالى: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الأخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة والذين هم بئايتنا يؤمنون (156) قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) أي وفقنا للأعمال الصالحة التي تكتب لنا بها الحسنات. (وفى الأخرة) أي جزاء عليها. (إنا هدنا إليك) أي تبنا، قاله مجاهد وأبو العالية وقتادة. والهود: التوبة، وقد تقدم في البقرة (2). قوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء) أي المستحقين له، أي هذه الرجفة والصاعقة عذاب مني أصيب به من أشاء. وقيل: المعنى " من أشاء " أي من أشاء أن أضله. قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شئ) عموم، أي لا نهاية لها أي من دخل فيها لم تعجز عنه. وقيل: وسعت كل شئ من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها. قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية كل شئ حتى إبليس فقال: أنا شئ، فقال الله تعالى: (فسأكتبها للذين يتقون) فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون، فقال الله تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " الآية. فخرجت الآية عن العموم، والحمد لله. روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة. (1) راجع ج 11 ص 232. (2) راجع ج 1 ص 423. (*)
[ 297 ]
قوله تعالى: الذين يتبعون الرسول الأمي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التورية والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينههم عن المنكر ويحل لهم الطيبت ويحرم عليهم الخبئث ويضع عنهم إصرهم والأغلل التى كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون (157) فيه عشر مسائل: الأولى - روى يحيى بن أبي كثير عن نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى: أن أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ونريد أن نقرأها إلا نظرا. فقال الله تعالى: " فسأكتبها للذين يتقون - إلى قوله - المفلحون ". فجعلها لهذه الأمة. فقال موسى: يا رب، اجعلني نبيهم. فقال: نبيهم منهم. قال: رب اجعلني (1) منهم. قال: إنك لن تدركهم. فقال موسى: يا رب، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وفادتنا لغيرنا. فأنزل الله عز وجل: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (2) ". فرضي موسى. قال نوف: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم. وذكر أبو نعيم أيضا هذه القصة من حديث الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني (3) قال حدثني نوف البكالي (4) إذا افتتح موعظة قال: ألا تحمدون ربكم الذي حفظ غيبتكم وأخذ لكم بعد سهمكم وجعل وفادة القوم لكم. وذلك أن موسى عليه السلام (1) في ج: أخرني حتى تجعلني منهم. (2) راجع ص 302 من هذا الجزء. (3) السيبانى في التقريب: بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة، وسيبان بطن من حمير. هالتهذيب. (4) في ج وز وك وى: قال كان أبو عمرو البكالى إذا افتتح. الخ وأبو عمرو كنية نوف ولعله يحدث عن نفسه. (*)
[ 298 ]
وفد ببني إسرائيل فقال (الله (1)) لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدا حيثما صليتم فيها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن من صلى فيمن لم أقبل صلاته المقبرة والحمام والمرحاض. قالوا: لا، إلا في الكنيسة. قال: وجعلت لكم التراب طهورا إذا لم تجدوا الماء. قالوا: لا، إلا بالماء. قال: وجعلت لكم حيثما صلى الرجل فكان وحده تقبلت صلاته. قالوا: لا، إلا في جماعة. الثانية - قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في، قوله: " فسأكتبها للذين يتقون " وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس وابن جبير وغيرهما. و " يتبعون " يعني في شرعه ودينه وما جاء به. والرسول والنبي صلى الله عليه وسلم اسمان لمعنيين، فإن الرسول أخص من النبي. وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: وبرسولك الذي أرسلت. فقال له: (قل آمنت بنبيك الذي أرسلت) خرجه في الصحيح. وأيضا فإن في قوله: " وبرسولك الذي أرسلت " تكرير الرسالة، وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه. بخلاف قوله: " ونبيك الذي أرسلت " فإنهما لا تكرار فيهما. وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر (خاص (2)) وهي الرسالة. فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول الله. وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. الثالثة - قوله تعالى: " الأمي " هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، قال ابن (3) عزيز. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، قال الله تعالى: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك (4) ". وروي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي (1) من ج وز وى. (2) من ك. (3) من اوب وج وح وز وى. وابن عزيز أو عزير من علماء المالكية. وفى ل: ابن جرير. وفى ك: ابن العربي. (4) راجع ج 13 ص 351. (*)
[ 299 ]
صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب). الحديث. وقيل: نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة أم القرى، ذكره النحاس. الرابعة - قوله تعالى: (الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) روى البخاري قال: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (1))، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (2) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلقا. (في غير البخاري (3)) قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلفا حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته: قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا. قال ابن عطية: وأظن هذا وهما أو عجمة. وقد روي عن كعب أنه قالها: قلوبا غلوفا وآذانا صموما وأعينا عموميا. قال الطبري: هي لغة حميرية. وزاد كعب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: مولده بمكة، وهجرته بطابة (4)، وملكه بالشأم، وأمته الحامدون، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزل، يوضئون أطرافهم ويأتزرون إلى أنصاف ساقهم، رعاة الشمس، يصلون الصلوات حيثما أدركتهم ولو على ظهر الكناسة (5)، صفهم في القتال مثل (6) صفهم في الصلاة. ثم قرأ " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (7) ". الخامسة - قوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) قال عطاء: " يأمرهم بالمعروف " بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام. " وينهاهم عن المنكر " عبادة الأصنام، وقطع الأرحام. (1) راجع ج 14 ص 199. (2) في ع، ه: سخاب. بمهملة لغة في صخاب. (3) من ب وج وك وى. (4) طابة: طيبة وهى المدينة المنوره. (5) كذا في كل الأصول. والكناسة: القمامة ومكانها. والصلاة لا تجوز على المزبلة. فتأمل. (6) في ج. كصفهم. (7) راجع ج 18 ص 81.
[ 300 ]
السادسة - قوله تعالى: (ويحل لهم الطيبات) مذهب مالك أن الطيبات هي المحللات، فكأنه وصفها بالطيب، إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. وبحسب هذا نقول في الخبائث: إنها المحرمات، ولذلك قال ابن عباس: الخبائث هي لحم الخنزير والربا وغيره. وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم، إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها، لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير، بل يراها مختصة فيما حلله الشرع. ويرى الخبائث لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات، فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى. والناس على هذين القولين. وقد تقدم في البقرة (1) هذا المعنى. السابعة - قوله تعالى: (ويضع عنهم إصرهم) الإصر: الثقل، قال مجاهد وقتادة وابن جبير. والإصر أيضا: العهد، قال ابن عباس والضحاك والحسن. وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال، فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال، كغسل البول، وتحليل الغنائم، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها، فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه. وروي: جلد أحدهم. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث (2) الصحيح وغيره. الثامنه - قوله تعالى: (والأغلال التى كانت عليهم) فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال. ومن الأثقال ترك الاشتغال يوم السبت، فإنه يروى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه. هذا قول جمهور المفسرين ولم يكن فيهم الدية، وإنما كان القصاص. وأمروا بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم، إلى غير ذلك. فشبه ذلك بالأغلال، كما قال الشاعر: (1) راجع ج 2 ص 207. (2) من ع. (*)
[ 301 ]
فليس كعهد الدار يا أم مالك * ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل * سوى العدل شيئا فاستراح العواذل فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطي إلى المحظورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب. ومن هذا المعنى قول أبي أحمد بن جحش لأبي سفيان: اذهب بها اذهب بها * طوقتها طوق الحمامه أي لزمك عارها. يقال: طوق فلان كذا إذا لزمه. التاسعة - إن قيل: كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد، فالجواب أن الإصر مصدر يقع على الكثرة. وقرأ ابن عامر " آصارهم " بالجمع، مثل أعمالهم. فجمعه لاختلاف ضروب المآثم. والباقون بالتوحيد، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه مع إفراد لفظه. وقد أجمعوا على التوحيد في قوله: " ولا تحمل علينا إصرا (1) ". وهكذا كلما يرد عليك من هذا المعنى، مثل " وعلى سمعهم (1) ". " لا يرتد إليهم طرفهم (2) " و " من طرف خفي (3) ". كله بمعنى الجمع. العاشرة - قوله تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه) أي وقروه ونصروه. قال الأخفش: وقرأ الجحدري وعيسى " وعزروه " بالتخفيف. وكذا " وعزرتموهم (4) ". يقال: عزره يعزره ويعزره. و (النور) القرآن " الفلاح " الظفر بالمطلوب. وقد تقدم (هذا (5)). قوله تعالى: قل يأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحى ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذى يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون (158) (1) راجع ج 3 ص 430 وج 1 ص 185 و 181. (2) راجع ج 9 ص 377. (3) راجع ج 16 ص 45. (4) راجع ج 6 ص 114. (5) من ج وك. (*)
[ 302 ]
ذكر أن موسى بشر به، وأن عيسى بشر به. ثم أمره أن يقول بنفسه " إني رسول الله إليكم جميعا ". و (كلماته) كلمات الله تعالى كتبه من التوراة والإنجيل والقرآن. قوله تعالى: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159) أي يدعون الناس إلى الهداية. و (يعدلون) معناه في الحكم. وفي التفسير: إن هؤلاء قوم من وراء الصين، من وراء نهر الرمل، يعبدون الله بالحق والعدل، آمنوا بمحمد وتركوا السبت، يستقبلون قبلتنا، لا يصل إلينا منهم أحد، ولا منا إليهم أحد. فروي أنه لما وقع الاختلاف بعد موسى كانت منهم أمة يهدون بالحق، ولم يقدروا أن يكونوا بين ظهراني بني إسرائيل حتى أخرجهم الله إلى ناحية من أرضه في عزلة من الخلق، فصار لهم سرب في الأرض، فمشوا فيه سنة ونصف سنة حتى خرجوا وراء الصين، فهم على الحق إلى الآن. وبين الناس وبينهم بحر لا يوصل إليهم بسببه. ذهب جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليلة المعراج فآمنوا به وعلمهم سورا من القرآن وقال لهم: هل لكم مكيال وميزان ؟ قالوا: لا، قال: فمن أين معاشكم ؟ قالوا: نخرج إلى البرية فنزرع، فإذا حصدنا وضعناه هناك، فإذا احتاج أحدنا إليه يأخذ حاجته. قال: فأين نساؤكم ؟ قالوا: في ناحية منا، فإذا احتاج أحدنا لزوجته صار إليها في وقت الحاجة. قال: فيكذب أحدكم في حديثه ؟ قالوا: لو فعل ذلك أحدنا أخذته لظى، إن النار تنزل فتحرقه. قال: فما بال بيوتكم مستوية ؟ قالوا لئلا يعلو بعضنا على بعض. قال: فما بال قبوركم على أبوابكم ؟ قالوا: لئلا نغفل عن ذكر الموت. ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا ليلة الإسراء أنزل عليه: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (1) " يعني أمة محمد عليه السلام. يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك. وقيل: هم الذين آمنوا بنبينا محمد عليه السلام من أهل الكتاب. وقيل: هم قوم من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه، ولم يبدلوا ولم يقتلوا الأنبياء. (1) راجع ص 329 من هذا لجزء. تأمل هذا مع كون الآية مدينة بالأجماع. (*)
[ 303 ]
قوله تعالى: وقطعنهم اثنتى عشرة أسباطا أمما وأوحينا ألى موسى إذا استسقيه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناه قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمم وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبت ما رزقنكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (160) وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئتكم سنريد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (162) قوله تعالى: (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما) عدد نعمه على بني إسرائيل، وجعلهم أسباطا ليكون أمر كل سبط معروفا من جهة رئيسهم، فيخف الأمر على موسى. وفي التنزيل " وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " وقد تقدم (1). وقوله: " اثنتي عشرة والسبط مذكر لأن بعده " أمما " فذهب التأنيث إلى الأمم. ولو قال: اثني عشر لتذكير السبط جاز، عن الفراء. وقيل: أراد بالأسباط القبائل والفرق، فلذلك أنث العدد. قال الشاعر: وإن قريشا كلها عشر أبطن * وأنت برئ من قبائلها العشر فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، فلذلك أنثها. والبطن مذكر، كما أن الأسباط جمع مذكر. الزجاج: المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة. " أسباطا " بدل من اثنتي عشرة " أمما " نعت للأسباط. وروى المفضل عن عاصم " وقطعناهم " مخففا. " أسباطا " الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل عليهما السلام. والأسباط مأخوذ من السبط وهو شجر تعلفه الإبل. وقد مضى في البقرة (2) مستوفى. وروى معمر عن همام بن منبه (1) راجع ج 6 ص 112. (2) راجع ج 2 ص 140. (*)
[ 304 ]
عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: " فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم " قالوا: حبة في شعرة. وقيل لهم: " ادخلوا الباب سجدا " فدخلوا متوركين على أستاههم. (بما كانوا يظلموا) مرفوع، لأنه فعل مستقبل وموضعه نصب. و " ما " بمعنى المصدر، أي بظلمهم. وقد مضى في " البقرة " ما في هذه الأية من المعاني والأحكام (1). والحمد لله. قوله تعالى: وسئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذا يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163) وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164) قوله تعالى: (واسألهم عن القرية) أي عن أهل القرية، فعبر عنهم بها لما كانت مستقرا لهم أو سبب اجتماعهم. نظيره " واسأل القرية التي كنا فيها (2) ". وقوله عليه السلام: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ) يعني أهل العرش من الملائكة، فرحا واستبشارا (3) بقدومه، رضي الله عنه. أي واسأل اليهود الذين هم جيرانك عن أخبار أسلافهم وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. هذا سؤال تقرير وتوبيخ. وكان ذلك علامة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم. وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لأنا من سبط خليله إبراهيم، ومن سبط إسرائيل وهم بكر (4) الله، ومن سبط موسى كليم الله، ومن سبط ولده عزير، فنحن من أولادهم. فقال الله عز وجل لنبيه: سلهم يا محمد عن القرية، أما عذبتهم بذنوبهم، وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة. (1) راجع ج 1 ص 409. (2) راجع ج 9 ص 245. (3) في ج وك وع وه: استبشارا به أي بقدومه. (4) زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكرى من الولد. راجع ج 6 ص 120. (*)
[ 305 ]
واختلف في تعيين هذه القرية، فقال ابن عباس وعكرمة والسدي: هي أيلة. وعن ابن عباس أيضا أنها مدين بين أيلة والطور. الزهري: طبرية. قتادة وزيد بن أسلم: هي ساحل من سواحل الشأم، بين مدين وعينون، يقال لها: مقناة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم. (التى كانت حاضرة البحر) أي كانت بقرب (1) البحر، تقول: كنت بحضرة الدار أي بقربها. (إذا يعدون في السبت) أي يصيدون الحيتان، وقد نهوا عنه، يقال سبت اليهود، تركوا العمل في سبتهم. وسبت الرجل للمفعول سباتا أخذه ذلك، من الخرس. وأسبت سكن فلم يتحرك. والقوم صاروا في السبت. واليهود دخلوا في السبت، وهو اليوم المعروف. وهو من الراحة والقطع. ويجمع أسبت وسبوت وأسبات. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من احتجم يوم السبت فأصابه برص فلا يلومن إلا نفسه). قال علماؤنا: وذلك لأن الدم يجمد يوم السبت، فإذا مددته لتستخرجه لم يجر وعاد برصا. وقراءة الجماعة " يعدون ". وقرأ أبو نهيك " يعدون " بضم الياء وكسر العين وشد الدال. الأولى من الاعتداء والثانية من الإعداد، أي يهيئو الآلة لأخذها. وقرأ ابن السميقع " في الأسبات " على جمع السبت. (إذا تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم) وقرئ " أسباتهم ". شرعا أي شوارع ظاهرة على الماء كثيرة. وقال الليث: حيتان شرع رافعة رؤوسها. وقيل: معناه أن حيتان البحر كانت ترد يوم السبت عنقا (2) من البحر فتزاحم أيلة. ألهمها الله تعالى أنها لا تصاد يوم السبت، لنهيه تعالى اليهود عن صيدها. وقيل: إنها كانت تشرع على أبوابهم، كالكباش البيض رافعة رؤوسها. حكاه بعض المتأخرين، فتعدوا فأخذوها في السبت، قاله الحسن. وقيل: يوم الأحد، وهو الأصح على ما يأتي بيانه. (ويوم لا يسبتون) أي لا يفعلون السبت، يقال: سبت يسبت إذا عظم السبت. وقرأ الحسن " يسبتون " بضم الياء، أي يدخلون في السبت، كما يقال: أجمعنا وأظهرنا وأشهرنا، أي دخلنا في الجمعة والظهر والشهر. لا تأتيهم أي حيتانهم. كذلك نبلوهم أي نشدد (1) حاضرة البحر فيه معنى التعظيم. قال أبو حيان في البحر: يحتمل أن يريد معنى الحاضرة عل جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر الخ. (2) أي طوائف يقال: جاء القوم عنقا عنقا، أي قطيعا قطيعا. (*)
[ 306 ]
عليهم في العبادة ونختبرهم. والكاف في موضع نصب. (بما كانوا يفسقون) أي بفسقهم. وسئل الحسين بن الفضل: هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا، والحرام يأتيك جزفا جزفا ؟ قال: نعم، في قصة داود وأيلة " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ". وروي في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود عليه السلام، وأن إبليس أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء، فيأخذونها يوم الأحد. وروى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطا ويضع فيه وهقة (1)، وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى حتى كثر صيد الحوت، ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت، وجاهرت بالنهي واعتزلت. وقيل (2): إن الناهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم ! فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. فعلى هذا القول إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين. ويكون المعنى في قوله تعالى (وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) أي قال الفاعلون للواعظين حين وعظوهم: إذا علمتم أن الله مهلكنا فلم تعظوننا ؟ فمسخهم الله قردة. (قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون) أي قال الواعظون: موعظتنا إياكم معذرة (إلى (3) ربكم)، أي إنما يجب علينا أن نعظكم لعلكم تتقون. أسند (1) الوهق (بالتحريك وتسكن الهاء): الحبل في طرفيه أنشوطة يطرح في عنق الدابة والإنسان حتى تؤخذ. والأنشوطة: عقدة يسهل انحالالها، إذا أخذ بأحد طرفيها انفتحت كعقدة التكة. (2) في ب وج وع وى: ويقال. (3) من ب وج وك وى. (*)
[ 307 ]
هذا القول الطبري عن ابن الكلبي. وقال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية. فرقة عصمت وصادت، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وإن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظن، وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. ثم اختلف بعد هذا، فقالت فرقة: إن الطائفة التي لم تنه ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي، قاله ابن عباس. وقال أيضا: ما أدري ما فعل بهم، وهو الظاهر من الآية. وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال ما أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم ؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نحوا، فكساني حلة. وهذا مذهب الحسن. ومما يدل على أنه إنما هلكت الفرقة العادية لا غير قوله: " وأخذنا الذين ظلموا ". وقوله: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " الآية. وقرأ عيسى وطلحة " معذرة " بالنصب. ونصبه عند الكسائي من وجهين: أحدهما على المصدر. والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة. وهي قراءة حفص عن عاصم. والباقون بالرفع: وهو الاختيار، لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه، ولكنهم قيل لهم: لم تعظون ؟ فقالوا: موعظتنا معذرة. ولو قال رجل لرجل: معذرة إلى الله وإليك من كذا، يريد اعتذارا، لنصب. هذا قول سيبويه. ودلت الآية على القول بسد الذرائع. وقد مضى في (البقرة). ومضى فيها الكلام في الممسوخ هل ينسل أم لا، مبينا (1). والحمد لله. ومضى في " آل عمران " و " المائدة " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (2). ومضى في (النساء (3)) اعتزال أهل الفساد ومجانبتم، وأن من جالسهم كان مثلهم، فلا معنى للإعادة. (1) راجع ج 1 ص 439 فما بعد. (2) راجع ج 4 ص 46 وج 6 ص 253. (3) راجع ج 5 ص 417 فما بعد. (*)
[ 308 ]
قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165) والنسيان يطلق على الساهي. والعامد: التارك، لقوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به) أي تركوه عن قصد، ومنه " نسوا الله فنسيهم (1) ". ومعنى (بعذاب بئيس) أي شديد. وفيه إحدى عشرة قراءة: الأولى - قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي " بئيس " على وزن فعيل. الثانية - قراءة أهل مكة " بئيس " بكسر الباء والوزن واحد. والثالثة - قراءة أهل المدينة " بيس " الباء مكسورة بعدها ياء ساكنة بعدها سين مكسورة منونة، وفيها (2) قولان. قال الكسائي: الأصل فيه " بييس " خفيفة الهمزة، فالتقت ياءان فحذفت إحداهما وكسر أوله: كما يقال: رغيف وشهيد. وقيل: أراد " بئس " على وزن فعل، فكسر أوله وخفف الهمزة وحذف الكسرة، كما يقال: رحم ورحم. الرابعة - قراءة الحسن، الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها سين مفتوحة. الخامسة - قرأ أبو عبد الرحمن المقرئ " بئس " الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مكسورة منونة. السادسة - قال يعقوب القارئ: وجاء عن بعض القراء " بعذاب بئس " الباء مفتوحة والهمزة مكسورة والسين مفتوحة. السابعة - قراءة الأعمش " بيئس " على وزن فيعل. وروي عنه " بيأس " على وزن فيعل. وروي عنه " بئس " بباء مفتوحة وهمزة مشددة مكسورة، والسين في كله مكسورة منونة، أعني قراءة الأعمش. العاشرة - قراءة نصر بن عاصم (3) " بعذاب بيس " الباء مفتوحة والياء مشددة بغير همز. قال يعقوب القارئ: وجاء عن بعض القراء " بئيس " الباء مكسورة بعدها همزة ساكنة بعدها ياء مفتوحة. فهذه إحدى عشرة قراءة ذكرها النحاس. قال علي بن سليمان: العرب تقول جاء ببنات بيس أي بشئ ردئ. فمعنى " بعذاب بيس " بعذاب ردئ. وأما قراءة الحسن فزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها، قال: لأنه لا يقال مررت برجل بئس، حتى يقال: بئس الرجل، أو بئس رجلا. قال النحاس: وهذا مردود من (1) راجع ج 8 ص 199. (2) في ج: وقيل فيها قولان. (3) نصربن عاصم الليثى البصري. (*)
[ 309 ]
كلام أبي حاتم، حكى النحويون: إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت. يريدون فيها ونعمت الخصلة. والتقدير على قراءة الحسن: بعذاب بئس العذاب. قوله تعالى: فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خسئين قوله تعالى: (فلما عتوا عما نهوا عنه) أي فلما تجاوزوا في معصية الله. (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) يقال: خسأته فخسأ، أي باعدته وطردته. وقد تقدم في البقرة (1). ودل على أن المعاصي سبب (2) النقمة: وهذا لا خفاء به. فقيل: قال لهم ذلك بكلام يسمع، فكانوا كذلك. وقيل: المعنى كوناهم قردة. قوله تعالى: وإذا تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيمة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (167) أي أعلم أسلافهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم. وقال أبو علي: " أذن " بالمد، أعلم. و " أذن " بالتشديد، نادى. وقال قوم: آذن وأذن بمعنى أعلم، كما يقال: أيقن وتيقن. قال زهير: فقلت تعلم إن للصيد غرة * فإلا تضعيها فإنك قاتلة وقال آخر: تعلم إن شر الناس حي * ينادى في شعارهم يسار أي اعلم (3). ومعنى " يسومهم " يذيقهم، وقد تقدم في (البقرة (4)). قيل: المراد بختنصر. وقيل: العرب. وقيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أظهر، فإنهم الباقون إلى يوم القيامة. والله أعلم. قال ابن عباس: " سوء العذاب " هنا أخذ الجزية. فإن قيل: فقد (1) راجع ج 1 ص 443. (2) في ع: تسبب. (3) قال أبو حيان في البحر: أجرى مجرى فعل القسم ولذلك أجيب بما يجاب به القسم. وكذا قال الزمخشري. (4) راجع ج 1 ص 384. (*)
[ 310 ]
مسخوا، فكيف تؤخذ منهم الجزية ؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم، وهم أذل قوم، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير " سوء العذاب " قال: الخراج، ولم يجب نبي قط الخراج، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج، فجباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك، ونبينا عليه السلام. قوله تعالى: وقطعنهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلونهم بالحسنت والسيئات لعلهم يرجعون (168) قوله تعالى: (وقطعناهم في الأرض أمما) أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم، فلم تجمع لهم كلمة. (منهم الصالحون) رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات نسخ شرع موسى. أو هم الذين وراء الصين، كما سبق. (ومنهم دون ذلك) منصوب على الظرف. قال النحاس: ولا نعلم أحدا رفعه. والمراد الكفار منهم. (وبلوناهم) أي أختبرناهم. (بالحسنات) أي بالخصب والعافية. (والسيئات) أي الجدب والشدائد. (لعلهم يرجعون) ليرجعوا عن كفرهم. قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثق الكتب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169) قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف) يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم: " الخلف " بسكون اللام: الأولاد الواحد والجميع فيه سواء. و " الخلف " بفتح اللام البدل، ولدا كان أو غريبا. وقال ابن الأعرابي: " الخلف " بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف كجلد الأجرب
[ 311 ]
ومنه قيل للردئ من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلفا ". فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت: لنا القدم الأولى إليك وخلقنا * لأولنا في طاعة الله تابع وقال آخر. إنا وجدنا خلفا بئس الخلف * أغلق عنا بابه ثم حلف (1) لا يدخل البواب إلا من عرف * عبد ا إذا ما ناء بالحمل وقف ويروى: خضف، أي ردم (2). والمقصود من الآية الذم. (ورثوا الكتاب) قال المفسرون: هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرءوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. يأخذون عرض هذا الأدنى ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. (ويقولون سيغفر لنا) وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون. قوله تعالى: (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) والعرض: متاع الدنيا، بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم (سيغفر لنا) وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم. قلت: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد: حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ (1) كذا وردت هذه الأبيات في الأصول. والذى في اللسان " مادة خضف ". إنا وجدنا خلفا بئس خلفا بئس الخلف * عبد إذا ما ناء بالحمل خضف أغلق عنا بابه ثم حلف * لا يدخل البواب إلا من عرف (2) الردم: الضراط. (*)
[ 312 ]
بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا. وقيل: إن الضمير في " يأتهم " ليهود المدينة، أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم. قوله تعالى: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله ألا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون) فيه مسألتان. الأولى - قوله تعالى: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب) يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل. قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء وأخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وكتاب ربنا، على ما تقدم بيانه في (النساء (1)). ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله. الثانية - قوله تعالى: (ودرسوا ما فيه) أي قرءوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبد الرحمن وادرسوا ما فيه فأدغم (2) التاء في الدال. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذى كتبوه بأيديهم وحكموا له. وقال ابن عباس: " ألا يقولوا على الله إلا الحق " وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به. وقال ابن زيد: يعني في الأحكام التي يحكمون بها، كما ذكرنا. وقال بعض العلماء إن معنى " ودرسوا ما فيه " أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولك: درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ - أي موافق - لقوله (1) راجع ج 6 ص 7 فما بعدها. (2) كذا في الأصول، والعبارة كما في البحر: أصله تدارسوا، أي فأدغم. (*)
[ 313 ]
تعالى: " نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم (1) " الآية. وقوله: " فنبذوه وراء ظهورهم (2) ". حسب ما تقدم بيانه في (البقرة). قوله تعالى: والذين يمسكون بالكتب وأقاموا الصلوة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170) قوله تعالى: " والذين يمسكون بالكتاب " أي بالتوراة، أي بالعمل بها، يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر " يمسكون " بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى، لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك. وقال كعب بن زهير: فما تمسك بالعهد الذي زعمت * إلا كما تمسك الماء الغرابيل فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد. قوله تعالى: وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما ءاتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171) قوله تعالى (وإذ نتقنا الجبل) " نتقنا " معناه رفعنا. وقد تقدم بيانه في البقرة. " كأنه ظلة " أي كأنه لارتفاعه سحابة تظل. " خذوا ما آتيناكم بقوة " أي بجد. وقد مضى في البقرة (3) إلى آخر الأية. قوله تعالى: وإذا أخذ ربك من بنئ ادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم (1) راجع ج 2 ص 41. (2) راجع ج 4 ص 304. (3) راجع ج 1 ص 436. (*)
[ 314 ]
القيمة إنا كنا عن هذا غفلين (172) أو تقولوا إنما أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الأيت ولعلهم يرجعون (174) فيه ست مسائل: الأولى - قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك) أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه آية مشكلة وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: معنى " أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم " دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرور أن له ربا واحدا. " ألست بربكم " أي قال. فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: " قالتا أتينا طائعين (1) ". ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. قلت: وفي الحديث عن النبي صلى الله عيله وسلم غير هذين القولين، وأنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم عليه السلام. وروى مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه سئل عن هذه الآية " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت (1) راجع ج 15 ص 344. (*)
[ 315 ]
هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعلمون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ". فقال رجل: ففيم العمل ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار ". قال أبو عمر: هذا حديث منقطع الإسناد، لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر. وقال فيه يحيى بن معين: مسلم بن يسار لا (1) يعرف، بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة، ذكره النسائي، ونعيم غير معروف بحمل العلم. لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها (من ذريته (2)) إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال يا رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا ؟ فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم عليه السلام جاءه ملك الموت فقال أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته ". في غير الترمذي: فحينئذ أمر بالكتاب والشهود. في رواية: فرأى فيهم الضعف والغني والفقير (والذليل (3)) والمبتلى والصحيح. فقال (له (3)) آدم: يا رب، ما هذا ؟ ألا سويت بينهم ! قال: أردت أن أشكر. وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس ". وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم (1) في ك: مسلم بن يسار يعرف. لعله الصواب. (2) الزيادة عن صحيح الترمذي. (3) من ج. (*)
[ 316 ]
بأنه سيبعث إليهم الرسل، فشهد بعضهم على بعض. قال أبي بن كعب: وأشهد عليهم السماوات السبع، فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عليه العهد. واختلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال، فقال ابن عباس: ببطن نعمان، واد إلى جنب عرفة. و (روي (1)) عنه أن ذلك برهبا - أرض بالهند - الذي هبط فيه آدم عليه السلام. وقال يحيى بن سلام قال ابن عباس في هذه الآية: أهبط الله آدم بالهند، ثم مسح على ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " قال يحيى قال الحسن: ثم أعادهم في صلب آدم عليه السلام. وقال الكلبي: بين مكة والطائف. وقال السدي: في السماء الدنيا حين أهبط من الجنة إليها مسح على ظهره فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي. وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء وقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي. قال ابن جريج: خرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء، وكل نفس مخلوقة للنار سوداء. الثانية - قال ابن العربي (رحمه الله (2)): " فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه، قلنا: ومن أين يمتنع ذلك، أعقلا أم شرعا ؟ فإن قيل: لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا: لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه، وربنا تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق، ولا تحمل أفعال العباد على أفعال الإله، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله، والخلق بأجمعهم له، صرفهم كيف شاء، وحكم بينهم (3) بما أراد، وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة وشفقة الجنسية وحب الثناء والمدح، لما يتوقع فذلك من الانتفاع، والباري تعالى متقدس عن ذلك كله، فلا يجوز أن يعتبر به ". واختلف في هذه الآية، هل هي خاصة أو عامة. فقيل: الآية خاصة، لأنه تعالى قال: " من بني آدم من ظهورهم " فخرج من هذا (الحديث (4)) من كان من ولد آدم لصلبه. وقال جل وعز: (أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل) فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون. (1) من ك. (2) من ع. (3) في ى: وحكيم فيهم كما أراد. (4) من ج.
[ 317 ]
وقيل: هي مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء. وقيل: بل هي عامة لجميع الناس، لأن كل أحد يعلم أنه كان طفلا فغذي وربي، وأن له مدبرا وخالقا. فهذا معنى " واشهدهم على أنفسهم ". ومعنى (قالوا بلى) أي إن ذلك واجب عليهم. فلما اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا عنه ذكرهم بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم فقال له: " فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر (1) ". ثم مكنه من الصيطرة، وأتاه السلطنة، ومكن له دينه في الأرض. قال الطرطوشي (2): إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة، كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه ". الرابعة - وقد استدل بهذه الآية من قال: إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في، الميثاق الأول. ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأول. وهذا القائل يقول: أطفال المشركين في الجنة، وهو الصحيح في الباب. وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار، والصحيح ما ذكرناه. وسيأتي الكلام في هذا في " الروم (3) " إن شاء الله. وقد أتينا عليها في كتاب " التذكرة " والحمد لله. الخامسة - قوله تعالى: " من ظهورهم " بدل اشتمال من قوله " من بني آدم ". وألفاظ الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم، وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظ. ووجه النظم على هذا: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم. وإنما لم يذكر ظهر آدم لأن المعلوم أنهم كلهم بنوه. وأنهم أخرجوا يوم الميثاق من ظهره. فاستغنى عن ذكره لقوله: " من بني آدم ". (ذريتهم) قرأ الكوفيون وابن كثير بالتوحيد وفتح التاء، وهي تقع للواحد والجمع، قال الله تعالى: " هب لي من لدنك ذرية طيبة (4) " فهذا للواحد، لأنه إنما سأل هبة ولد فبشر بيحيى. وأجمع القراء على التوحيد في قوله: " من ذرية آدم (5) " ولا شئ أكثر من ذرية آدم. وقال: " وكنا ذرية من بعدهم " فهذا للجمع. وقرأ الباقون (1) راجع ج 20 ص 37. (2) في ى " الطرلوسى " بالسين المهملة. (3) راجع ج 14 ص 24 فما بعد. (4) راجع ج 4 ص 69 فما بعد. (5) راجع ج 11 ص 120. (*)
[ 318 ]
" ذرياتهم " بالجمع، لأن الذرية لما كانت تقع للواحد أتى بلفظ لا يقع للواحد فجمع لتخلص الكلمة إلى معناها المقصود إليه لا يشركها فيه شئ وهو الجمع، لأن ظهور بني آدم استخرج منها ذريات كثيرة متناسبة، أعقاب بعد أعقاب، لا يعلم عددهم إلا الله، فجمع لهذا المعنى. السادسة - قوله تعالى: (بلى) تقدم القول فيها في " البقرة " عند قوله بلى من كسب سيئة مستوفى، فتأمله هناك (1). (أن يقولوا) " أو يقولوا " قرأ أبو عمرو بالياء فيهما. ردهما على لفظ الغيبة المتكرر قبله، وهو قول: " من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشدهم على أنفسهم ". وقوله: " قالوا بلى " أيضا لفظ غيبة. وكذا " وكنا ذرية من بعدهم " " ولعلهم " فحمله على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء فيهما، ردوه على لفظ الخطاب المتقدم في قوله: " ألست بربكم قالوا بلى ". ويكون " شهدنا " من قول الملائكة. لما قالوا " بلى " قالت الملائكة: " شهدنا أن تقولوا " " أو تقولوا " أي لئلا تقولوا. وقيل: معنى ذلك أنهم لما قالوا بلى، فأقروا له بالربوبية، قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا قالوا شهدنا بإقراركم لئلا تقولوا أو تقولوا. وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي. وقال ابن عباس وأبي بن كعب: قوله " شهدنا " هو من قول بني آدم، والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا، وقال ابن عباس: أشهد بعضهم على بعض، فالمعنى على هذا قالوا بلى شهد بعضنا على بعض، فإذا كان ذلك من قول الملائكة فيوقف على " بلى " ولا يحسن الوقف عليه إذا كان من قول بني آدم، لأن " أن " متعلقة بما قبل بلى، من قوله: " وأشهدهم على أنفسهم " لئلا يقولوا. وقد روى مجاهد (2) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا ". أي شهدنا عليكم بالإقرار بالربوبية لئلا تقولوا. فهذا يدل على التاء. قال مكي: وهو الاختيار لصحة معناه، ولأن الجماعة عليه. وقد قيل: إن قوله " شهدنا " من قول الله تعالى والملائكة. والمعنى: فشهدنا على إقراركم، قاله أبو مالك، وروي عن السدي أيضا. (1) راجع ج 2 ص 11. (2) في ع: عن مجاهد. (*)
[ 319 ]
(وكنا ذرية من بعدهم) أي اقتدينا بهم. (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) بمعنى: لست تفعل هذا. ولا عذر للمقلد في التوحيد. قوله تعالى: واتل عليهم نبأ الذئ اتينه ءايتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطن فكان من الغاوين (175) ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة. واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات فقال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم (1)، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " ولم يقل آية، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث (أنه (2)) كان أول من صنف كتابا (في (2)) أن " ليس للعالم صانع ". قال مالك ابن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان، فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى، ففيه نزلت هذه الآيات. (روى (2)) المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: كان بلعام قد أوتي النبوة، (3) وكان مجاب الدعوة، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعوا على موسى فقام ليدعو فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه. فقيل له في ذلك، لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره. فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى، فإن وقعوا فيه هلكوا، ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا. وقد ذكر هذا الخبر بكماله الثعلبي وغيره. وروي أن بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين، فاستجيب له وبقي في التيه (4). فقال موسى: يا رب، بأي ذنب بقينا في التيه. فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم، (1) في ع وزوى: بلعم. وفى ز: ويقال: بلعم. وفى ى: ويقال: باعر. (2) من ع. (3) قوله: أوتى النبوة. فليتأمل كيف يؤتى النبوة ثم يضل فإنه مناف لعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. (4) التيه: موضع بين مصر والعقبة. (*)
[ 320 ]
فسلخه الله ما كان عليه، وقال أبو حامد في (آخر (1)) كتاب منهاج العارفين له: وسمعت بعض العارفين يقول إن بعض الأنبياء سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرد بعد تلك الآيات والكرامات، فقال الله تعالى: لم يشكرني يوما من الأيام على ما أعطيته، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته. وقال عكرمة: كان بلعام نبيا وأوتي كتابا. وقال مجاهد: إنه أوتي النبوة، فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردي: وهذا غير صحيح، لأن الله تعالى لا يصطفي لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آمن شعره وكفر قلبه ". وقال سعيد بن المسيب: نزلت في أبي عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية، فكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقال: يا محمد، ما هذا الذي جئت به ؟ قال: " جئت بالحنيفية دين إبراهيم ". قال: فإني عليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها ". فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم أمات الله الكاذب منا كذلك " وإنما قال هذا يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة. فخرج أبو عامر إلى الشأم ومر إلى قيصر وكتب إلى المنافقين: استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمدا من المدينة، فمات بالشام وحيدا. وفيه نزل: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل (2) " وسيأتي في براءة. وقال ابن عباس في رواية: نزلت في رجل كان له ثلاث دعوات يستجاب له فيها، وكانت له امرأة يقال لها " البسوس " فكان له منها ولد، فقالت: آجعل لي منها دعوة واحدة. فقال: لك واحدة، فما تأمرين ؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة (1) من ج وك وه وى. (2) راجع ج 8 ص 252 فما بعد. (*)
[ 321 ]
في بني إسرائيل. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة. فذهب فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: لا صبر لنا عن هذا، وقد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها كما كانت، فدعا فعادت إلى ما كانت، وذهبت الدعوات فيها. والقول الأول أشهر وعليه الأكثر. قال عبادة بن الصامت: نزلت في قريش، آتاهم الله آياته التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم فانسلخوا منها ولم يقبلوها. قال ابن عباس: كان بلعام من مدينة الجبارين. وقيل: كان من اليمن. (فانسلخ منها) أي من معرفة الله تعالى، أي نزع منه العلم الذي كان يعلمه. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم). فهذا مثل علم بلعام وأشباهه، نعوذ بالله منه، ونسأل التوفيق والممات على التحقيق. والانسلاخ: الخروج، يقال: انسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه. وقيل: هذا من المقلوب، أي انسلخت الآيات منه. (فاتبعه الشيطان) أي لحق به، يقال: أتبعت القوم أي لحقتهم. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به. قوله تعالى: ولو شئنا لرفعنه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هوئه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بأيتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) ساء مثلا القوم الذين كذبوا بأيتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) قوله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه) يريد بلعام. أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة. (بها) أي بالعمل بها. (ولكنه أخلد إلى الأرض) أي ركن إليها، عن
[ 322 ]
ابن جبير والسدي. مجاهد: سكن إليها، أي سكن إلى لذاتها. وأصل الإخلاد اللزوم. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه. قال زهير: لمن الديار غشيتها بالغرقد * كالوحي في حجر المسيل المخلد (1) يعني المقيم، فكأن المعنى لزم لذات الأرض فعبر عنها بالأرض، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض. (وأتبع هواه) أي ما زين له الشيطان. وقيل: كان هواه مع الكفار. وقيل: اتبع رضا زوجته، وكانت رغبت في أموال حتى حملته على الدعاء على موسى. (فمثله كمثل الكلب) ابتداء وخبر. (إن تحمل عليه يلهث) شرط وجوابه. وهو في موضع الحال، أي فمثله كمثل الكلب لاهثا. والمعنى: أنه على شئ واحد لا يرعوي عن المعصية، كمثل الكلب الذي هذه حالته. فالمعنى: أنه لاهث على كل حال، طردته أو لم تطرده. قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، كذلك الذي يترك الهدى لا فؤاد له، وإنما فؤاده منقطع. قال القتيبي: كل شئ يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث، كقول تعالى: " وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون (2) ". قال الجوهري: لهث الكلب " بالفتح " يلهث لهثا ولهاثا " بالضم " إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وكذلك الرجل إذا أعيا. وقوله تعالى " إن تحمل عليه يلهث " لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإذا تركته شد عليك ونبح، فيتعب نفسه مقبلا عليك ومدبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. قال الترمذي الحكيم في نوادر (3) الأصول: (1) الغرقد: هو بقيع الغرقد، مقابر بالمدينة. والذى في ديوانه " بالفدفد " وهو الموضع الذى فيه غلظ وارتفاع. الوحى: الكتاب، وإنما جعله في حجرالمسيل لأنه أصلب. عن شرح الديوان. (2) راجع ص 341 من هذا الجزء. (3) من ز. (*)
[ 323 ]
إنما شبهه بالكلب من بين السباع لأن الكلب ميت الفؤاد، وإنما لهاثه لموت فؤاده. وسائر السباع ليست كذلك فلذلك لا يلهثن. وإنما صار الكلب كذلك لأنه لما نزل آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض شمت به العدو، فذهب إلى السباع فأشلاهم (1) على آدم، فكان الكلب من أشدهم طلبا. فنزل جبريل بالعصا التي صرفت إلى موسى بمدين وجعلها آية له إلى فرعون وملئه، وجعل فيها سلطانا عظيما وكانت من آس الجنة، فأعطاها آدم (صلى الله عليه وسلم يومئذ (2)) ليطرد بها السباع عن نفسه، وأمره فيما روي أن يدنو من الكلب ويضع يده على رأسه، فمن ذلك ألفه الكلب ومات الفؤاد منه لسلطان العصا، وألف به وبولده إلى يومنا هذا، لوضع يده على رأسه، وصار حارسا من حراس ولده. وإذا أدب وعلم الاصطياد تأدب وقبل التعليم (3)، وذلك قوله: " تعلمونهن مما علمكم الله (4) ". السدي: كان بلعام بعد ذلك يلهث كما يلهث الكلب. وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عام في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به. وقيل: هو في كل منافق. والأول أصح. قال مجاهد في قوله تعالى: " فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " أي إن تحمل عليه بدابتك أو برجلك يلهث أو تتركه يلهث. وكذلك من يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه. وقال غيره: هذا شر تمثيل، لأنه مثله في أنه قد غلب عليه هواه حتى صار لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بكلب لاهث أبدا، حمل عليه أو لم يحمل عليه، فهو لا يملك لنفسه ترك اللهثان. وقيل: من أخلاق الكلب الوقوع بمن لم يخفه على جهة الابتداء بالجفاء، ثم تهدأ طائشته بنيل كل عوض (5) خسيس. ضربه الله مثلا للذي قبل الرشوة في الدين حتى انسلخ من آيات ربه. فدلت الآية لمن تدبرها على ألا يغتر أحد بعمله ولا بعلمه، إذ لا يدري بما يختم له. ودلت على منع أخذ الرشوة لإبطال حق أو تغييره. وقد مضى بيانه في " المائدة (4) ". ودلت أيضا على منع التقليد لعالم إلا بحجة يبينها، لأن الله تعالى أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وألا يقبل منه إلا بحجة. (1) الإشلاء: الإغراء. (2) من ع، ى. (3) في ع: وصار ذا أدب وعلم. (4) راجع ج 6 ص 65 وص 183. (5) في ع: غرض. (*)
[ 324 ]
قوله تعالى: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص لعلهم يتفكرون. ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآيتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) أي هو مثل جميع الكفار. وقوله: " ساء مثلا القوم " يقال: ساء الشئ قبح، فهو لازم، وساء يسوء مساءة، فهو متعد، أي قبح مثلهم. وتقديره: ساء مثلا مثل القوم، فحذف المضاف، ونصب " مثلا " على التمييز. قال الأخفش: فجعل المثل القوم مجازا. والقوم مرفوع بالابتدا أو على إضمار مبتدأ. التقدير: ساء المثل مثلا هو مثل القوم. وقدره أبو علي: ساء مثلا مثل القوم. وقرأ عاصم الجحدي والأعمش " ساء مثل القوم " رفع مثلا بساء. قوله تعالى: من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخسرون (178) تقدم معناه في غير هذه موضع. وهذه الآية ترد على القدرية كما سبق، وترد على من قال إن الله تعالى هدى جميع المكلفين ولا يجوز أن يضل أحدا. قوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذن لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغفلون (179) أخبر تعالى أنه خلق للنار أهلا بعدله. ثم وصفهم فقال: " لهم قلوب لا يفقهون بها " بمنزلة من لا يفقه، لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا. (أعين لا يبصرون) بها الهدى. (وآذن لا يسمعون بها) المواعظ. وليس الغرض نفي الإدراكات عن حواسهم جملة. كما بيناه في (البقرة (1)). (أولئك كالأنعام بل هم أضل) لأنهم لا يهتدون إلى ثواب، فهم كالأنعام، أي همتهم الأكل والشرب، وهم أضل لأن الأنعام تبصر منافعها (1) راجع ج 1 ص 214. (*)
[ 325 ]
ومضارها وتتبع مالكها، وهم بخلاف ذلك. وقال عطاء: الأنعام تعرف الله، والكافر لا يعرفه. وقيل: الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع. (أولئك هم الغافلون) أي تركوا التدبر وأعرضوا عن الجنة والنار. قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمئه سيجزون ما كانوا يعلمون (180) قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) فيه ست مسائل: الأولى - قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) أمر بإخلاص العبادة لله، ومجانبة المشركين والملحدين. قال مقاتل وغيره من المفسرين: نزلت الآية في رجل من المسلمين، كان يقول في صلاته: يا رحمن يا رحيم. فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ". الثانية - جاء في كتاب الترمذي وسنن ابن ماجة وغيرهما حديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيه (أن لله) تسعة وتسعين اسما، في أحدهما ما ليس في الآخر. وقد بينا ذلك في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى). قال ابن عطية - وذكر حديث الترمذي - وذلك الحديث ليس بالمتواتر، وإن كان قد قال فيه أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. وإنما المتواتر منه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ". ومعنى " أحصاها " عدها وحفظها. وقيل غير هذا مما بيناه في كتابنا. وذكرنا هناك تصحيح حديث الترمذي، وذكرنا من الأسماء ما اجتمع عليه وما اختلف فيه مما وقفنا عليه في كتب أئمتنا ما ينيف على مائتي اسم. وذكرنا قبل تعيينها في مقدمة الكتاب اثنين وثلاثين فصلا فيما يتعلق بأحكامها، فمن أراده وقف عليه هناك وفي غيره من الكتب الموضوعة في هذا الباب. والله الموفق (للصواب (1))، لا رب سواه. (1) من ج وك. (*)
[ 326 ]
الثالثه - واختلف العلماء من هذا الباب في الاسم والمسمى، وقد ذكرنا ما للعلماء من ذلك في " الكتاب الأسنى ". قال ابن الحصار: وفي هذه الآية وقوع الاسم على المسمى ووقوعه على التسمية. فقوله: " ولله " وقع على المسمى، وقوله: " الأسماء " وهو جمع اسم واقع على التسميات. يدل على صحة ما قلناه قوله: " فادعوه بها "، والهاء في قوله: " فادعوه " تعود على المسمى سبحانه وتعالى، فهو المدعو. والهاء في قوله " بها " تعود على الأسماء، وهي التسميات التي يدعى بلا بغيرها. هذا الذي يقتضيه لسان العرب. ومثل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد " الحديث. وقد تقدم في البقرة شئ من هذا (1). والذي يذهب إليه أهل الحق أن الاسم هو المسمى، أو صفة له تتعلق به، وأنه غير التسمية. قال ابن العربي عند كلامه على قوله تعالى: " ولله الأسماء الحسنى ": فيه ثلاثة أقوال. قال بعض علمائنا: في ذلك دليل على أن الاسم المسمى، لأنه لو كان غيره لوجب أن تكون الأسماء لغير الله تعالى. الثاني: قال آخرون: المراد به التسميات، لأنه سبحانه واحد والأسماء جمع. قلت - ذكر ابن عطية في تفسيره أن الأسماء في الآية بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يجوز غيره. وقال القاضي أبو بكر في كتاب التمهيد: وتأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة " أي أن له تسعة وتسعين تسمية بلا خلاف، وهي عبارات عن كون الله تعالى على أوصاف شتى، منها ما يستحقه لنفسه ومنها ما يستحقه لصفة تتعلق به، وأسماؤه العائدة إلى نفسه هي هو، وما تعلق بصفة له فهي أسماء له. ومنها صفات لذاته. ومنها صفات أفعال. وهذا هو تأويل قوله تعالى: " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " أي التسميات الحسنى. الثالث - قال آخرون منهم: ولله الصفات. الرابعة - سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى لأنها حسنة في الأسماع والقلوب، فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله. والحسنى مصدر وصف به. ويجوز أن يقدر (1) راجع المسألة الثانية ج 1 ص 281. (*)
[ 327 ]
" الحسنى " فعلى، مؤنث الأحسن، كالكبرى تأنيث الأكبر، والجمع الكبر والحسن. وعلى الأول أفرد كما أفرد وصف ما لا يعقل، كما قال تعالى: " مآرب أخرى (1) " و " يا جبال أوبي معه (2) ". الخامسة - قوله تعالى: (فادعوه بها) أي اطلبوا منه بأسمائه، فيطلب بكل اسم ما يليق به، تقول يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رازق ارزقني، يا هادي اهدني، يا فتاح افتح لي، يا تواب تب علي، هكذا. فإن دعوت باسم عام قلت: يا مالك ارحمني، يا عزيز احكم لي، يا لطيف ارزقني. وإن دعوت بالأعم الأعظم فقلت: يا ألله، فهو متضمن لكل اسم. ولا تقول: يا رزاق اهدني، إلا أن تريد يا رزاق ارزقني الخير. قال ابن العربي: وهكذا، رتب دعاءك تكن من المخلصين. وقد تقدم في " البقرة (3) " شرائط الدعاء وفى هذه السورة أيضا (4). الحمد لله. السادسة - أدخل القاضي أبو بكر بن العربي عدة من الأسماء في أسمائه سبحانه، مثل متم نوره، وخير الوارثين، وخير الماكرين، ورابع ثلاثة، وسادس خمسة، والطيب، والمعلم، وأمثال ذلك. قال ابن الحصار: واقتدى في ذلك بابن برجان (5)، إذ ذكر في الأسماء " النظيف " وغير ذلك مما لم يرد في كتاب ولا سنة. قلت: أما ما ذكر من قوله: " مما لم يرد في كتاب ولا سنة " فقد جاء في صحيح مسلم " الطيب ". وخرج الترمذي " النظيف ". وخرج عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه (رب اعني ولا تعن علي وانصرني ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر علي " الحديث. وقال فيه: حديث حسن صحيح. فعلى هذا جائز أن يقال: يا خير الماكرين امكر لي ولا تمكر علي. والله أعلم. وقد ذكرنا " الطيب، والنظيف " في كتابنا وغيره مما جاء (1) راجع ج 11 ص 185. (2) راجع ج 14 ص 264. (3) راجع ج 2 ص 308. (4) راجع ص 223 من هذا الجزء. (5) برجان (بفتح الياء وتشديد الراء): هو عبد السلام ابن عبد الرحمن بن أبى الرحال محمد بن عبد الرحمن أبو الحكم اللخمى الأفريقى ثم الأشبيلي الصوفى المفسر. مات بمراكش سنة 536 (عن طبقات المفسرين). (*)
[ 328 ]
ذكره في الأخبار، وعن السلف الأخيار، وما يجوز أن يسمى به ويدعى، وما يجوز أن يسمى به ولا يدعى، وما لا يجوز أن يسمى به ولا يدعى. حسب ما ذكره الشيخ أبو الحسن الأشعري. وهناك يتبين لك ذلك إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعلمون) فيه مسألتان: الأولى - قوله تعالى: " يلحدون " الإلحاد: الميل وترك القصد، يقال: ألحد الرجل في الدين. وألحد إذا مال. ومنه اللحد في القبر، لأنه في ناحيته. وقرئ " يلحدون " لغتان والإلحاد يكون بثلاثة أوجه أحدها: بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم، فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة. الثاني - بالزيادة فيها. الثالث - بالنقصان منها، كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرون بغير ما يذكر من أفعاله، إلى غير ذلك مما لا يليق به. قال ابن العربي: " فحذار منها، ولا يدعون أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة، وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فهذه الكتب التي يدور الإسلام عليها، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا ما سواها، ولا يقولن أحدكم أختار دعاء كذا وكذا، فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم. الثانية - معنى الزيادة في الأسماء التشبيه، والنقصان التعطيل. فإن المشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه، والمعطلة سلبوه ما اتصف به، ولذلك قال أهل الحق: إن ديننا طريق بين طريقين، لا بتشبيه ولا بتعطيل. وسئل الشيخ أبو الحسن البوشنجي عن التوحيد فقال: إثبات ذات غير مشبهة بالذوات، ولا معطلة من الصفات. وقد قيل في قوله تعالى: " وذروا الذين يلحدون " معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم. فالآية على هذا منسوخة بالقتال، قاله ابن زيد. وقيل: معناه الوعيد، كقوله تعالى: " ذرني ومن خلقت
[ 329 ]
وحيدا (1) " وقوله: " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا (2) ". وهو الظاهر من الآية، لقول تعالى: سيجزون ما كانوا يعلمون. والله أعلم. قوله تعالى: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181) في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هم هذه الأمة). وروي أنه قال: (هذه لكم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها) وقرأ هذه الآية وقال: " إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم ". فدلت الآية على أن الله عز وجل لا يخلي الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق. قوله تعالى: والذين كذبوا بأيتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (182) أخبر تعالى عمن كذب بآياته أنه سيستدرجهم. قال ابن عباس: هم أهل مكة. والاستدراج هو الأخذ بالتدريج، منزلة بعد منزلة. والدرج: لف الشئ، يقال: أدرجته ودرجته. ومنه أدرج الميت في أكفانه. وقيل: هو من الدرجة، فالاستدراج أن يحط درجة بعد درجة إلى المقصود. قال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وقيل لذي النون: ما أقصى ما يخدع به العبد ؟ قال: بالألطاف والكرامات، لذلك قال سبحانه وتعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر، وأنشدوا: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت * ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها * وعند صفو الليالي يحدث الكدر قوله تعالى: وأملى لهم إن كيدى متين (183) قوله تعالى: (وأملى لهم) أي أطيل لهم المدة وأمهلهم وأؤخر عقوبتهم. (إن كيدي) أي مكري. (متين) أي شديد قوي. وأصله من المتن، وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب (1) راجع ج 19 ص 69. (2) راجع ج 10 ص 2. (*)
[ 330 ]
الصلب. قيل: نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة. نظيره " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة (1) ". وقد تقدم. قوله تعالى: أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) قوله تعالى: (أو لم يتفكروا) أي فيما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم. والوقف على " يتفكروا " حسن. ثم قال: " ما بصاحبهم من جنة " رد لقولهم: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (2) ". وقيل: نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة على الصفا يدعو قريشا، فخذا فخذا، فيقول: " يا بني فلان ". يحذرهم بأس الله وعقابه. فقال قائلهم: إن صاحبهم هذا لمجنون، بات يصوت حتى الصباح. قوله تعالى: أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأى حديث بعده يؤمنون (185) قوله تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) فيه أربع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (أو لم ينظروا) عجب من إعراضهم عن النظر في آياته، ليعرفوا كمال قدرته، حسب ما بيناه في سورة (البقرة (3)). والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم. وقد تقدم (4). الثانية - استدل بهذه الآية - وما كان مثلها من قوله تعالى: " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض (5) " وقوله تعالى: " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها (6) " وقوله: (1) راجع ج 6 ص 425. (2) راجع ج 10 ص 4. (3) راجع ج 1 ص 185. (4) راجع ص 23 من هذا الجزء. (5) راجع ج 8 ص 386. (6) راجع ج 17 ص 5. (*)
[ 331 ]
" أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (1) " الآية. وقوله: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون (2) " - من قال بوجوب النظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته. قالوا: وقد ذم الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم فقال: " لهم قلوب لا يفقهون بها " الآية. وقد اختلف العلماء في أول الواجبات، هل هو النظر والاستدلال، أو الإيمان الذي هو التصديق الحاصل في القلب الذي ليس من شرط صحته المعرفة. فذهب القاضي وغيره إلى أن أول الواجبات النظر والاستدلال، لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخاري رحمه الله حيث بوب في كتابه (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل: " فاعلم أنه لا إله إلا الله (3)). قال القاضي: من لم يكن عالما بالله فهو جاهل، والجاهل به كافر. قال ابن رشد في مقدماته: وليس هذا بالبين، لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد، وبأول وهلة من الاعتبار بما أرشد الله إلى الاعتبار به في غير ما آية. قال: وقد استدل الباجي على من قال إن النظر والاستدلال أول الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلد مؤمنين. قال: فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحا لما صح أن يسمى مؤمنا إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال: وأيضا فلو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم: لا يحل لكم قتلنا، لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل. قال: وهذا يؤدي إلى تركهم على كفرهم، وألا يقتلوا حتى ينظروا يستدلوا. قلت: هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (ذكر صفة كمال الإيمان) أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن (1) راجع ج 20 ص 34. (2) راجع ج 17 ص 40. (3) راجع ج 16 ص 241. (*)
[ 332 ]
لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح العقل - أنه مسلم. وإن رجع بعد ذلك وأظهر الكفر كان مرتدا يجب عليه ما يجب على المرتد. وقال أبو حفص الزنجاني وكان شيخنا القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني يقول: أول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى، فيتقدم وجوب الإيمان بالله تعالى عنده على المعرفة بالله. قال: وهذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق، لأن أكثرهم لا يعرفون حقيقة المعرفة والنظر والاستدلال. فلو قلنا: إن أول الواجبات المعرفة بالله لأدى إلى تكفير الجم الغفير والعدد الكثير، وألا يدخل الجنة إلا آحاد الناس، وذلك بعيد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع بأن أكثر أهل الجنة أمته، وأن أمم الأنبياء كلهم صف واحد وأمته ثمانون صفا. وهذا بين لا إشكال فيه. والحمد لله. الثالثة - ذهب بعض المتأخرين والمتقدمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر، فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأول من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه. وقد أورد على بعضهم هذا فقال: لا تشنع علي بكثرة أهل النار. أو كما قال. قلت: وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بكتاب الله وسنة نبيه، لأنه ضيق رحمة الله الواسعة على شرذمة يسيرة من المتكلمين، واقتحموا في تكفير عامة المسلمين. أي هذا من قول الأعرابي الذي كشف عن فرجه ليبول، وانتهره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حجرت واسعا ". خرجه البخاري والترمذي وغيرهما من الأئمة. أترى هذا الأعرابي عرف الله بالدليل والبرهان والحجة والبيان ؟ وأن رحمته وسعت كل شئ، وكم من مثله محكوم له بالإيمان. بل اكتفى صلى الله عليه وسلم من كثير ممن أسلم بالنطق بالشهادتين، وحتى إنه اكتفى بالإشارة في ذلك. ألا تراه لما قال للسوداء: " أين الله " ؟ قالت: في السماء. قال: " من أنا " ؟ قالت:
[ 333 ]
أنت رسول الله. قال: " أعتقها فإنها مؤمنة ". ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أول وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة. والله أعلم. الرابعة - ولا يكون النظر أيضا والاعتبار في الوجوه الحسان من المرد والنسوان. قال أبو الفرج الجوزي: قال أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلي والمصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع. وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم. قال أبو الفرج: وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل لم يحل الله النظر إلا على صور لا ميل للنفس إليها، ولا حظ للهوى فيها، بل عبرة لا يمازجها شهوة، ولا يقارنها لذة. ولذلك ما بعث الله سبحانه امرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا، كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة. فمن قال: أنا أجد (1) من الصور المستحسنة عبرا كذبناه. وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا كذبناه، وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين. وقال بعض الحكماء: كل شئ في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، ولذلك قال تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن (2) تقويم " وقال: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون (3) ". وقد بينا وجه التمثيل في أول " الأنعام (4) ". فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه ومتفكر في خلقه من حين كونه ماء دافقا إلى كونه خلقا سويا، يعان بالأغذية ويربى بالرفق، ويحفظ باللين حتى يكتسب القوى، ويبلغ الأشد. وإذا هو قد قال: أنا، وأنا، ونسي حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، وسيعود مقبورا، فيا ويحه إن كان محسورا. قال الله تعالى " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين - إلى قوله - تبعثون (5) " فينظر أنه عبد مربوب مكلف، مخوف بالعذاب إن قصر، مرتجيا (6) بالثواب إن ائتمر (7)، فيقبل على عبادة مولاه (فإنه (8)) وإن كان لا يراه يراه و (لا (7)) يخشى الناس (1) في ى: آخذ (2) راجع ج 20 ص 113. (3) راجع ج 17 ص 40. (4) راجع ج 6 ص 387. (5) راجع ج 12 ص 108. (6) من ز. وفى ى: فرحا. (7) في ع: إن شمر. (7) من ع (*)
[ 334 ]
والله أحق أن يخشاه، ولا يتكبر على أحد من عباد الله، فإنه مؤلف من أقذار، مشحون من أوضار (1)، صائر إلى جنة إن أطاع أو إلى نار. وقال ابن العربي: وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية: كيف يزهو من رجيعه (2) * أبد الدهر ضجيعه فهو منه وإليه * وأخوه ورضيعه وهو يدعوه إلى الحش * (3) بصغر فيعطيه قوله تعالى: (وما خلق الله من شئ) معطوف على ما قبله، أي وفيما خلق الله من الأشياء. (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت، فهو في موضع خفض معطوف على ما قبله. وقال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر ويوم أحد. (فبأى حديث بعده يؤمنون) أي بأي قرآن غير ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم (4)) يصدقون. وقيل: الهاء للأجل، على معنى بأي حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان، لأن الآخرة ليست بدار تكليف. قوله تعالى: من يضلل الله فلا هادى له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (186) بين أن إعراضهم لأن الله أضلهم. وهذا رد على القدرية. (ويذرهم في طغيانهم) بالرفع على الاستئناف. وقرئ بالجزم حملا على موضع الفاء وما بعدها. (يعمهون) أي يتحيرون. وقيل: يترددون. وقد مضى في أول البقرة (5) مستوفى. (1) الزيادة عن ابن العربي. والأوضار: الأوساخ. (2) الرجيع: العذرة والروث. (3) الحش بالتثليث: النخل المجتمع، ويكنى به عن بيت الخلاء، لما كان من عادتهم التغوظ في البساتين. في ع: بعلم. وفى ى: بحصر. (4) من ع. (5) راجع ج 1 ص 209. (*)
[ 335 ]
قوله تعالى: يسئلونك عن الساعة أيان مرسيها قل إنما علمها عند ربى لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفى عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187) قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) " أيان " سؤال عن الزمان، مثل متى. قال الراجز: أيان تقضي حاجتي أيانا * أما ترى لنجحها أوانا وكانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبيا فأخبرنا عن الساعة متى تقوم. وروي أن المشركين قالوا ذلك لفرط الإنكار. و " مرساها " في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر " أيان ". وهو ظرف مبني على الفتح، بني لأن فيه معنى الاستفهام. و " مرساها " بضم الميم، من أرساها الله، أي أثبتها، أي متى مثبتها، أي متى وقوعها. وبفتح الميم من رست، أي ثبتت ووقفت، ومنه " وقدور راسيات (1) ". قال قتادة: أي ثابتات. (قل إنما علمها عند ربى) ابتداء وخبر، أي لم يبينها لأحد، حتى يكون العبد أبدا على حذر (لا يجليها) أي لا يظهرها. " لوقتها " أي في وقتها " إلا هو " والتجلية: إظهار الشئ، يقال: جلا لي فلان الخبر إذا أظهره وأوضحه. ومعنى (ثقلت في السموات والأرض خفي علمها على أهل السماوات والأرض). وكل ما خفي، علمه فهو ثقيل على الفؤاد. وقيل: كبر مجيئها على أهل السماوات والأرض، عن الحسن وغيره. ابن جريج والسدي: عظم وصفها (2) على أهل السماوات والأرض. وقال قتادة: وغيره: المعنى تطيقها السماوات والأرض لعظمها: لأن السماء تنشق والنجوم تتناثر والبحار تنضب. وقيل: المعنى ثقلت المسألة (3) عنها. (لا تأتيكم إلا بغتة) أي فجأة، مصدر في موضع الحال (يسألونك كأنك حفى) (1) راجع ج 14 ص 376. (2) في ع: وقعها. (3) في ز: غم. (*)
[ 336 ]
عنها) أي عالم بها كثير السؤال عنها. قال ابن فارس: الحفي العالم بالشئ. والحفي المستقصي في السؤال. قال الأعشى: فإن تسألي عني فيارب سائل * خفي عن الأعشى به حيث أصعدا يقال: أحفى في المسألة وفي الطلب، فهو محف وحفي على التكثير، مثل مخصب وخصيب. قال محمد بن يزيد: المعنى يسألونك كأنك حفي بالمسألة عنها، أي ملح. يذهب إلى أنه ليس في الكلام تقديم وتأخير. وقال ابن عباس وغيره: هو على التقديم والتأخير، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفي بهم أي حفي ببرهم وفرح بسؤالهم. وذلك لأنهم قالوا: بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا بوقت الساعة. (قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ليس هذا تكريرا، ولكن أحد المسلمين لوقوعها والآخر لكنهها. قوله تعالى: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (188) قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا) أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيرا ولا أدفع عنها شرا، فكيف أملك علم الساعة. وقيل: لا أملك لنفسي الهدى والضلال. (إلا ما شاء الله) في موضع نصب بالاستثناء. والمعنى: إلا ما شاء الله أن يملكني يمكنني منه. وأنشد سيبويه: * مهما شاء بالناس يفعل (1) * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) المعنى لو كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته. وقيل: لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب. وقال ابن عباس: لو كنت أعلم سنة الجدب لهيأت لها في زمن الخصب ما يكفيني. وقيل: المعنى لو كنت أعلم التجارة التي تنفق لاشتريتها وقت كسادها. وقيل: (1) عجز بيت للأسود بن يعفر: والبيت: ألا هل لهذا الدهر من متعلل * عن الناس مهما. الخ. (*)
[ 337 ]
المعنى لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح، عن الحسن وابن جريج. وقيل: المعنى لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه. وكله مراد، والله أعلم. (وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) هذا استئناف كلام، أي ليس بي جنون، لأنهم نسبوه إلى الجنون. وقيل: هو متصل، والمعنى لو علمت الغيب لما مسني سوء ولحذرت، " ودل على هذا قوله تعالى: إن أنا إلا نذير مبين (1) ". قوله تعالى: هو الذى خلقكم من نفس وحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشيها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن ءاتيتنا صلحا لنكونن من الشكرين (186) فلما ءاتهما صلحا جعلا له شركاء فيما ءاتيهما فتعلى الله عما يشركون (190) فيه سبع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (هو الذى خلقنكم من نفس واحدة) قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم. (وجعل منها زوجها) يعني حواء. (ليسكن إليها) ليأنس بها ويطمئن، وكان هذا كله في الجنة. ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطهما فقال: (فلما تغشاها) كناية عن الوقاع. (حملت حملا خفيفا) كل ما كان في بطن أو على رأس شجرة فهو حمل بالفتح. وإذا كان على ظهر أو على رأس فهو حمل بالكسر. وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة حمل وجمل، يشبه مرة لاستبطانه بحمل المرأة، ومرة لبروزه وظهوره بحمل الدابة. والحمل أيضا مصدر حمل عليه يحمل حملا إذا صال. (فمرت به) يعني المني، أي استمرت بذلك الحمل الخفيف. يقول: تقوم وتقعد وتقلب، ولا تكترث بحمله إلى أن ثقل، عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقيل: (1) من ج. وفى ب: إن أنا إلا نذير وبشير. (*)
[ 338 ]
المعنى فاستمر بها الحمل، فهو من المقلوب، كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي. وقرأ عبد الله بن عمر " فمارت به " بألف والتخفيف، من مار يمور إذا ذهب وجاء وتصرف. وقرأ ابن عباس ويحيى بن يعمر " فمرت به " خفيفة من المرية، أي شكت فيما أصابها، هل هو حمل أو مرض، أو نحو ذلك. الثانية - قوله تعالى: (فلما أثقلت) صارت ذات ثقل، كما تقول: أثمر النخل. وقيل: دخلت في الثقل، كما تقول: أصبح وأمسى. (دعوا الله ربهما) الضمير في " دعوا " عائد على آدم وحواء. وعلى هذا القول روي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو. وهذا يقوي قراءة من قرأ " فمرت به " بالتخفيف. فجزعت بذلك، فوجد إبليس السبيل إليها. قال الكلبي: إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال: ما هذا الذي في بطنك ؟ قالت: ما أدري ! قال: إني أخاف أن يكون بهيمة. فقالت ذلك لآدم عليه السلام. فلم يزالا في هم من ذلك. ثم عاد إليها فقال: هو من الله بمنزلة، فإن دعوت الله فولدت إنسانا أفتسمينه (1) بي ؟ قالت نعم. قال: فإني أدعو الله. فأتاها وقد ولدت فقال: سميه باسمي. فقالت: وما اسمك ؟ قال: الحارث - ولو سمى لها نفسه لعرفته - فسمته عبد الحارث. ونحو هذا مذكور من ضعيف الحديث، في الترمذي وغيره. وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات، فلا يعول عليها من لم قلب، فإن آدم وحواء عليهما السلام وإن غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطر وكتب. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خدعهما مرتين (خدعهما) في الجنة وخدعهما في الأرض ". وعضد هذا بقراءة السلمي " أتشركون " بالتاء. ومعنى (صالحا) يريد ولدا سويا. (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء، وهي: الثالثة - قال المفسرون: كان شركا في التسمية والصفة، لا في العباد والربوبية. وقال أهل المعاني: إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحارث، (1) في الأصول فتسمية. (*)
[ 339 ]
لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا على أن الضيف ربه، كما قال حاتم: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا * وما في إلا تيك من شيمة العبد وقال قوم: إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام، وهو الذي يعول عليه. فقوله: " جعلا له " يعني الذكر والأنثى الكافرين، ويعنى به الجنسان. ودل على هذا (فتعالى الله عما يشركون) ولم يقل يشركان. وهذا قول حسن. وقيل: المعنى " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " من هيئة واحدة وشكل واحد " وجعل منها زوجها " أي من جنسها " فلما تغشاها " يعني الجنسين. وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية، فإذا آتاهما الولد صالحا سليما سويا كما أراداه صرفاه عن الفطرة إلى الشرك، فهذا فعل المشركين. قال صلى الله عليه وسلم " ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية (على هذه (1)) الملة - أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ". قال عكرمة: لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم. وقال الحسين بن الفضل: وهذا أعجب إلى أهل النظر، لما في القول الأول من المضاف من العظائم بنبي الله آدم. وقرأ أهل المدينة وعاصم " شركا " على التوحيد. وأبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع، على مثل فعلاء، جمع شريك. وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى، وهي صحيحة على حذف المضاف، أي جعلا له ذا شرك، مثل " واسأل القرية " فيرجع المعنى إلى أنهم جعلوا له شركاء. الرابعة - ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض. روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال: أول الحمل يسر (2) وسرور، وآخره مرض من الأمراض. وهذا الذي قاله مالك: " إنه مرض من الأمراض " يعطيه ظاهر قوله: " دعوا الله ربهما " وهذه الحالة مشاهدة في الحمال، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة، كما ورد في الحديث (3). (1) من ه وى. (2) في ج وا ول وز: بشر. (3) في قوله صلى الله عليه وسلم: " الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغريق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطلون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذى يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت يجمع شهيدة " أي تموت وفى بطنها ولد. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حيان والحكم. (*)
[ 340 ]
وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه. وقال أبو حنيفة والشافعي: وإنما يكون ذلك في الحامل بحال الطلق، فأما قبل ذلك فلا. واحتجوا بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة. قلنا: كذلك أكثر الأمراض غالبه السلامة، وقد يموت من لم يمرض. الخامسة - قال مالك: إذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث. ومن طلق زوجته وهي حامل طلاقا بائنا فلما أتى عليها ستة أشهر فأراد ارتجاعها لم يكن له ذلك، لأنها مريضة ونكاح المريضة لا يصح. السادسة - قال يحيى: وسمعت مالكا يقول في الرجل يحضر القتال: إنه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ما له شيئا إلا في الثلث، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال. ويلتحق بهذا المحبوس للقتل في قصاص. وخالف في هذا أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. قال ابن العربي: وإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض، وإنكار ذلك غفلة في النظر، فإن سبب الموت موجود عندهما، كما أن المرض سبب الموت، قال الله تعالى: " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ". وقال رويشد الطائي: يا أيها الراكب المزجي مطيته * سائل بني أسد ما هذه الصوت (2) وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا * قولا يبرئكم إني أنا الموت ومما يدل على هذا قوله تعالى: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر (3) ". فكيف يقول الشافعي وأبو حنيفة: الحال الشديدة إنما هي المبارزة، وقد أخبر الله عز وجل عن مقاومة (4) العدو وتداني الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر، ومن سوء الظنون بالله، ومن زلزلة القلوب واضطرابها، (1) راجع ج 4 ص 220. (2) الصوت: الجرس، مذكر. وإنما أنثه هنا لأنه أراد به الضوضاء والجلبة، على معنى الصيحة أو الاستغائة. (3) راجع ج 14 ص 144. (4) في ج: مقاربة. (*)
[ 341 ]
هل هذه حالة ترى على المريض أم لا ؟ هذا ما لا يشك فيه منصف، وهذا لمن ثبت في اعتقاده، وجاهد في الله حق جهاده، وشاهد الرسول وآياته، فكيف بنا ؟ السابعة - وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول، هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل. فقال ابن القاسم: حكمه حكم الصحيح. وقال ابن وهب وأشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. قال القاضي أبو محمد: وقولهما أقيس، لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل. قال ابن العربي: وابن القاسم لم يركب البحر، ولا رأى دودا على عود. ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر. قوله تعالى: أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192) قوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئا) أي أيعبدون ما لا يقدر على خلق شئ. (وهم يخلقون) أي الأصنام مخلوقة. وقال: " يخلقون " بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع، فأجريت مجرى الناس، كقوله: " في فلك يسبحون (1) ". وقوله: " يا أيها النمل ادخلوا (2) مساكنكم ". (ولا يستطيعون لهم نصراولا أنفسهم ينصرون) أي إن الأصنام، لا تنصر ولا تنتصر. قوله تعالى: وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صمتون (193) قوله تعالى: (إن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) قال الأخفش: أي وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم. (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) قال أحمد (1) راجع ج 11 ص 286 وج 15 ص 32. (2) راجع ج 13 ص 169. (*)
[ 342 ]
ابن يحيى: لأنه رأس آية. يريد أنه قال: " أم أنتم صامتون " ولم يقل أم صمتم. وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد. وقيل: المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن. وقرئ " لا يتبعوكم " مشددا ومخففا " لغتان بمعنى. وقال بعض أهل اللغة: " أتبعه " - مخففا - إذا مضى خلفه ولم يدركه. و " اتبعه " - مشددا - إذا مضى خلفه فأدركه. قوله تعالى: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صدقين (194) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون (195) إن وليى الله الذى نزل الكتب وهو يتولى الصلحين (196). قوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) حاجهم في عبادة الأصنام. " تدعون " تعبدون. وقيل: تدعونها آلهة. " من دون الله " أي من غير الله. وسميت الأوثان عباد ا لأنها مملوكة لله مسخرة. الحسن: المعنى أن الأصنام مخلوقة أمثالكم. ولما اعتقد المشركون أن الأصنام تضر وتنفع أجراها مجرى الناس فقال: (فادعوهم) ولم يقل فادعوهن. وقال: " عباد "، وقال: " إن الذين " ولم يقل إن التي. ومعنى " فادعوهم " أي (1) فاطلبوا منهم النفع والضر. أن عبادة الأصنام تنفع. قال ابن عباس: معنى فادعوهم فاعبدوهم. ثم وبخهم الله تعالى وسفه عقولهم فقال: " ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها " الآية. أي أنتم أفضل منهم فكيف تعبدونهم. والغرض بيان جهلهم، لأن المعبود يتصف بالجوارح. وقرأ سعيد بن جبير: " إن الذين تدعون من دون الله عباد ا أمثالكم " بتخفيف " إن " وكسرها لالتقاء الساكنين، ونصب " عباد ا " بالتنوين، " أمثالكم " بالنصب. والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عباد ا أمثالكم، أي هي حجارة وخشب، فأنتم تعبدون ما أنتم أشرف منه. (1) من ج. (*)
[ 343 ]
قال النحاس: وهذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها من ثلاث جهات: أحدها: أنها مخالفة للسواد. والثانية - أن سيبويه يختار الرفع في خبر إن إذا كانت بمعنى ما، فيقول: إن زيد منطلق، لأن عمل " ما " ضعيف، و " إن " بمعناها فهي أضعف منها. والثالثة - إن الكسائي زعم أن " إن " لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى " ما "، إلا أن يكون بعدها إيجاب، كما قال عز وجل: " إن الكافرون إلا في غرور (1) ". " فليستجيبوا لكم " الأصل أن تكون اللام مكسورة، فحذفت الكسرة لثقلها. ثم قيل: في الكلام حذف، المعنى: فادعوهم إلى أن يتبعوكم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أنهم آلهة. وقرأ أبو جعفر وشيبة " أم لهم أيد يبطشون بها " بضم الطاء، وهي لغة. واليد والرجل والأذن مؤنثات يصغرن بالهاء. وتزاد في اليد ياء في التصغير، ترد إلى أصلها فيقال: يدية بالتشديد لاجتماع الياءين. قوله تعالى: (قل ادعوا شركاءكم) أي الأصنام. (ثم كيدون) أنتم وهي. (فلا تنظرون) أي فلا تؤخرون. والأصل " كيدوني " حذفت الياء لأن الكسرة تدل عليها. وكذا " فلا تنظرون ". والكيد المكر. والكيد الحرب، يقال: غزا فلم يلق كيدا. (إن وليى الله الذى نزل الكتاب) أي الذي يتولى نصري وحفظي الله. وولي الشئ: الذي يحفظه ويمنع عنه الضرر. والكتاب: القرآن. (وهو يتولى الصالحين) أي يحفظهم. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير مرة يقول: " ألا إن آل أبي - يعني (2) فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ". وقال الأخفش: وقرئ " إن ولي الله الذي نزل الكتاب " يعني جبريل. النحاس. هي قراءة عاصم الجحدي. والقراءة الأولى أبين، لقوله: " وهو يتولى الصالحين ". (1) راجع ج 18 ص 218. (2) في شرح النوري على صحيح مسلم: " هذه الكناية بقوله: يعنى فلانا، هي من بعض الرواة خشى أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة، إما في حق نفسه، وإما في حقه وحق غيره فكنى عنه... قال القاضى عياض رضى الله عنه قيل: إن المكنى عنه ها هنا هو الحكم بن أبى العاص والله أعلم ". (*)
[ 344 ]
قوله تعالى: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون (197) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتريهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198) قوله تعالى: (والذين تدعون من دونه) كرره ليبين أن ما يعبدونه لا ينفع ولا يضر. (وإن تدعوهم إلى الهدى) شرط، والجواب (لا يسمعوا). (وتراهم) مستأنف. (ينظرون إليك) في موضع الحال. يعني الأصنام. ومعنى النظر فتح العينين المنظور إليه، وتراهم كالناظرين إليك. وخبر عنهم بالواو وهي جماد لا تبصر، لأن الخبر جرى على فعل من يعقل. وقيل: كانت لهم أعين من جواهر مصنوعة فلذلك قال " وتراهم ينظرون " وقيل: المراد بذلك المشركون، أخبر عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم. قوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهلين (199) فيه ثلاث مسائل: الأولى - هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله: (خذ العفو) دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين ودخل في قوله: (وأمر بالعرف) صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله (وأعرض عن الجاهلين) الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة. قلت: هذه الخصال تحتاج إلى بسط، وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن سليم. قال جابر بن سليم أبو جري: ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله
[ 345 ]
صلى الله عليه وسلم، فأنخت قعودي بباب المسجد، فدلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: " وعليك السلام ". فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء، فعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: " آدن " ثلاثا، فدنوت فقال: " أعد علي " فأعدت عليه فقال: (اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وإن أمرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى). قال أبو جري: فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار في مسنده بمعناه. وروى أبو سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ". وقال ابن الزبير: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير في قوله: " خذ العفو وأمر بالعرف " قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس. وروى سفيان بن عيينة عن الشعبي أنه قال: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما هذا يا جبريل " ؟ فقال: " لا أدري حتى أسأل العالم " في رواية " لا أدري حتى أسأل ربي " فذهب فمكث ساعة ثم رجع فقال: " إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك ". فنظمه بعض الشعراء فقال: مكارم الأخلاق في ثلاثة * وممن كملت فيه فذلك الفتى (1) إعطاء من تحرمه ووصل من * تقطعه والعفو عمن أعتدى وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقال الشاعر: (1) في ك، ع، ه: وفى ا، ز: الغنى. (*)
[ 346 ]
كل الأمور تزول عنك وتنقضي * إلا الثناء فإنه لك باقي ولو أنني خيرت كل فضيلة * ما اخترت غير مكارم الأخلاق وقال سهل بن عبد الله: كلم الله موسى بطور سيناء. قيل له: بأي شئ أوصاك ؟ قال: بتسعة أشياء، الخشية في السر والعلانية، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغني، وأمرني أن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرة. قلت: وقد روي عن نبينا محمد أنه قال، (أمرني ربي بتسع الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكرا وصمتي فكرا نظري عبرة). وقيل: المراد بقوله: " خذ العفو " أي الزكاة، لأنها يسير من كثير. وفيه بعد، لأنه من عفا إذا درس. وقد يقال: خذ العفو منه، أي لا تنقص عليه وسامحه. وسبب النزول يرده، والله أعلم. فإنه لما أمره بمحاجة المشركين دله على مكارم الأخلاق، فإنها سبب جر المشركين إلى الإيمان. أي اقبل من الناس ما عفا لك من أخلاقهم وتيسر، تقول: أخذت حقي عفوا صفوا، أي سهلا. الثانية - قوله تعالى: (وأمر بالعرف) أي بالمعروف. وقرأ عيسى بن عمر " العرف " بضمتين، مثل الحلم، وهما لغتان. والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه * لا يذهب العرف بين الله والناس وقال عطاء: " وأمر بالعرف " يعني بلا إله إلا الله. الثالثة - قوله تعالى: (وأعرض عن الجاهلين) أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم، صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن
[ 347 ]
كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. وقال ابن زيد وعطاء: هي منسوخة بآية السيف. وقال مجاهد وقتادة: هي محكمة، وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس بن حصن، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال سأستأذن لك عليه، فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا بن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل ! قال: فغضب عمر حتى هم بأن يقع به. فقال الحر، يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا (1) عند كتاب الله عز وجل. قلت: فاستعمال عمر رضي الله عنه لهذه الآية واستدلال الحر بها يدل على أنها محكمة لا منسوخة. وكذلك استعملها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، على ما يأتي بيانه. وإذا كان الجفاء على السلطان تعمدا واستخفافا بحقه فله تعزيره. وإذا كان غير ذلك فالإعراض والصفح والعفو، كما فعل الخليفة العدل. قوله تعالى: وإما ينزغنك من الشيطن نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200) فيه مسألتان: الأولى - لما نزل قوله تعالى: (خذ العفو) قال عليه السلام: " كيف يا رب والغضب " فنزلت: " وإما ينزغنك " ونزغ الشيطان: وساوسه. وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنزاغ والنغاز، وهم المورشون (2). الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون، ومن (1) أي لا يتجاوز حكمه. (2) التوريش: التحريش، يقال: ورش بين القوم وأرش. (*)
[ 348 ]
الشيطان أدنى وسوسة. قال سعيد بن المسيب: شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا، ثم لم يبرحا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه. ومعنى (ينزغنك): يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل. (فاستعذ بالله) أي اطلب النجاة من ذلك بالله. فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به، ولله المثل الأعلى. فلا يستعاذ من الكلاب إلا برب الكلاب. وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا ؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد ؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد ؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع ؟ قال: أكابده وأرده جهدي. قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك. الثانية - النغز والنزغ والهمز والوسوسة سواء، قال الله تعالى: " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين (1) " وقال: " من شر الوسواس الخناس (2) ". وأصل النزغ الفساد، يقال: نزغ بيننا، أي أفسد. ومنه قوله: " نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي (3) " أي أفسد. وقيل: النزغ الإغواء والإغراء، والمعنى متقارب. قلت: ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته). وفيه عن عبد الله قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: (تلك محض الإيمان). وفي حديث أبي هريرة: (ذلك صريح الإيمان) والصريح الخالص. وهذا ليس على ظاهره، إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان، لأن الإيمان اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم. فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه، لصحة إيمانكم، وعلمكم بفسادها. فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها (1) راجع ج 12 ص 148. (2) راجع ج 20 ص 261. (3) راجع ج 9 ص 264. (*)
[ 349 ]
والجزع منها صادرا عن الإيمان. وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان. وأما الأمر بالانتهاء فعن الركون إليها والالتفات نحوها. فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه نفعه وانتفع به. وأما من خالجته الشبهة وغلب عليه الحس ولم يقدر على الانفكاك عنها فلا بد من مشافهته بالدليل العقلي، كما قال صلى الله عليه وسلم للذي خالطته شبهة الإبل الجرب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ". وقال أعرابي: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فإذا دخل فيها البعير الأجرب أجربها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " فمن أعدى الأول " فاستأصل الشبهة من أصلها. فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات. والوساوس: الترهات، فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم فجاءوا - كما في الصحيح - فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: " أو قد وجدتموه " ؟ قالوا: نعم. قال: (ذلك صريح الإيمان رغما للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (1) ". فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة. والله أعلم. وقد مضى في آخر البقرة (2) هذا المعنى، والحمد لله. قوله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطن تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون (202) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (إن الذين اتقوا) يريد الشرك والمعاصي. (إذا مسهم طيف من الشيطان) هذه قراءة أهل البصرة وأهل مكة. وقراءة أهل المدينة وأهل الكوفة " طائف ". وروي عن سعيد بن جبير " طيف " بتشديد الياء. قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا " طيف " بالتخفيف، على أنه مصدر من طاف يطيف. قال الكسائي: (1) راجع ج 10 ص 38 وص 28 فما بعدها. (2) راجع ج 3 ص 428.، فما بعد. (*)
[ 350 ]
هو مخفف من " طيف " مثل ميت وميت. قال النحاس: ومعنى " طيف " في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم، وكذا معنى طائف. وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن طيف، فقال: ليس في المصادر فيعل. قال النحاس: ليس هو بمصدر، ولكن يكون بمعنى طائف. والمعنى إن الذين اتقوا المعاصي إذا لحقهم شئ تفكروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية، وقيل: الطيف والطائف معنيان مختلفان فالأول - التخيل. والثاني - الشيطان نفسه. فالأول مصدر طاف الخيال يطوف طيفا، ولم يقولوا من هذا طائف في اسم الفاعل. قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له. فأما قوله: " فطاف عليها طائف من ربك (1) " فلا يقال فيه: طيف، لأنه اسم فاعل حقيقة، ويقال: إنه جبريل. قال الزجاج: طفت عليهم أطوف، وطاف الخيال يطيف. وقال حسان: فدع هذا ولكن من لطيف * يؤرقني إذا ذهب العشاء مجاهد: الطيف الغضب. ويسمى الجنون والغضب والوسوسة طيفا، لأنه لمة من الشيطان تشبه بلمة (2) الخيال. (فإذا هم مبصرون) أي منتهون. وقيل: فإذا هم على بصيرة. وقرأ سعيد بن جبير: " تذكروا " بتشديد الذال. ولا وجه له في العربية، ذكره النحاس. الثانية - قال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي عليهما السلام، فأعجبني سمته وحسن روائه، فأثار مني الحسد ما كان يجنه صدري لأبيه من البغض، فقلت: أنت ابن أبي طالب ! قال نعم. فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إلي نظرة عاطف رءوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " فقرأ إلى قوله: " فإذا هم مبصرون " ثم قال لي: خفض عليك، استغفر الله لي ولك إنك لو استعنتنا أعناك، ولو استرفدتنا أرفدناك، (1) راجع ج 18 ص 238 فما بعد. (2) اللة الخطرة بالقلب. (*)
[ 351 ]
ولو استرشدتنا أرشدناك. فتوسم في الندم على ما فرط مني فقال: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (1) " أمن أهل الشأم أنت ؟ قلت نعم. فقال: * شنشنة أعرفها من أخزم (2) * حياك الله وبياك، وعافاك، وآداك (3)، انبسط (4) إلينا في حوائجك وما يعرض لك، تجدنا عند أفضل ظنك، إن شاء الله. قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت أنها ساخت بي، ثم تسللت منه لواذا (5)، وما على وجه الأرض أحب إلي منه ومن أبيه. قوله تعالى: (وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون) قيل: المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلال الإنس تمدهم الشياطين في الغي. وقيل للفجار إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم. وقد سبق فهذه الآية ذكر الشيطان. هذا أحسن ما قيل فيه، وهو قول قتادة والحسن والضحاك ومعنى " لا يقصرون " أي لا يتوبون ولا يرجعون. وقال الزجاج: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي، لأن الكفار إخوان الشياطين. ومعنى الآية: إن المؤمن إذا مسه طيف من الشيطان تنبه عن قرب، فأما المشركون فيمدهم الشيطان. و " لا يقصرون " قيل: يرجع إلى الكفار على القولين جميعا. وقيل: يجوز أن يرجع إلى الشيطان. قال قتادة: المعنى ثم لا يقصرون عنهم ولا يرحمونهم. والإقصار: الانتهاء عن الشئ، أي لا تقصر الشياطين في مدهم الكفار بالغي. وقوله: " في الغي " يجوز أن يكون متصلا بقوله: (1) راجع ج 9 ص 255 فما بعد. (2) الشنشة (بكسر الشين): العادة والطبيعة. قال الأصمعى: وهذا بيت رجز تمثل به لأبى أخزم الطائى وهو: * إن بنى زملوني بالدم * شنشة أعرفها من أخزم * من يلق آسادالرجل يكلم * قال ابن برى: وكان أخزم عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال ذلك، أي إنهم أشبهوا أباهم في العقوق. (3) قوله: حباك الله وبياك، أي ملك واعتمدك بالتحية. وبياك: معناه وبواك منزلا، إلا أنها لما جاءت مع حياك تركت همزتها وقلبت واوها ياء... وآداك: فواك وأعانك. (4) الأنبساط: ترك الاحتشام. (5) اللواذ: الاستتار. (*)
[ 352 ]
" يمدونهم " ويجوز أن يكون متصلا بالإخوان. والغي: الجهل. وقرأ نافع " يمدونهم " بضم الياء وكسر الميم. والباقون بفتح الياء وضم الميم. وهما لغتان مد وأمد. ومد أكثر، بغير الألف، قاله مكي. النحاس: وجماعة من أهل العربية ينكرون قراءة أهل المدينة، منهم أبو حاتم وأبو عبيد، قال أبو حاتم: لا أعرف لها وجها، إلا أن يكون المعنى يزيدونهم في الغي. وحكى جماعة من أهل اللغة منهم أبو عبيد أنه يقال إذا كثر شئ شيئا بنفسه مده، وإذا كثره (1) بغيره قيل أمده، نحو " يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة (2) مسومين ". وحكي عن محمد بن يزيد أنه احتج لقراءة أهل المدينة قال: يقال مددت له في كذا أي زينته له واستدعيته أن يفعله. وأمددته فكذا أي أعنته برأي أو غير ذلك. قال مكي: والاختيار الفتح، لأنه يقال: مددت في الشر، وأمددت في الخير، قال الله تعالى: " ويمدهم في طغيانهم يعمهون (3) ". فهذا يدل على قوة الفتح في هذا الحرف، لأنه في الشر، والغي هو الشر، ولأن الجماعة عليه. وقرأ عاصم الجحدي " يمادونهم في الغي ". وقرأ عيسى بن عمر " يقصرون " بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف. الباقون " يقصرون " بضده، وهما لغتان. قال امرؤ القيس: * سمالك شوق بعد ما كان أقصرا * قوله تعالى: وإذا لم تأتهم بأية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلى من ربى هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (203) قوله تعالى: (وإذا لم تأتيهم بآية) أي تقرؤها عليهم. (قالوا لولا اجتبيتها) لولا بمعنى هلا، ولا يليها على هذا المعنى إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا. وقد تقدم القول فيها في البقرة مستوفى (4). ومعنى " اجتبيتها " اختلقتها من نفسك. فأعلمهم أن الآيات من قبل الله (1) في الأصول: مده. (2) راجع ج 4 ص 160. (3) راجع ج 1 ص 207. (4) راجع ج 2 ص 91. (*)
[ 353 ]
عز وجل، وأنه لا يقرأ عليهم إلا ما أنزل عليه. يقال: اجتبيت الكلام أي ارتجلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك. (قل إنما أتبع ما يوحى إلى من ربى) أي من عند الله لا من عند نفسي. (هذا بصائر من ربكم) يعني القرآن، جمع بصيرة، هي الدلالة والعبرة. أي هذا الذي دللتكم به على أن وجل واحد. بصائر، أي يستبصر بها. وقال الزجاج: " بصائر " أي طرق. والبصائر طرق الدين. قال الجعفي: راحوا بصائرهم على أكتافهم * وبصيرتي يعدو بها عتد وأى (1) " وهدى " رشد وبيان. " ورحمة " أي ونعمة. قوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204) فيه مسئلتان: الأولى - قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قيل: إن هذا نزل في الصلاة، روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب. قال سعيد: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض بمكة: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه (2) ". فأنزل الله جل وعز جوابا لهم " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ". وقيل: إنها نزلت في الخطبة، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وزيد بن أسلم والقاسم بن مخيمرة ومسلم بن يسار وشهر بن حوشب وعبد الله بن المبارك. وهذا ضعيف، لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها، قاله ابن العربي. النقاش: والآية مكية، ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة. وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أيضا أن هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام فهو عام. وهو الصحيح (1) راجع ص 57 من هذا الجزء. (2) راجع ج 15 ص 355. (*)
[ 354 ]
لأنه يجمع جميع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات. قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أن يكون في كل شئ، إلا أن يدل دليل على اختصاص شئ. وقال الزجاج: يجوز أن يكون " فاستمعوا له وأنصتوا " اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه. والإنصات: السكوت للاستماع والإصغاء والمراعاة. انصت ينصت إنصاتا، ونصت أيضا، قال الشاعر: قال الإمام عليكم أمر سيدكم * فلم نخالف وأنصتنا كما قالا ويقال: أنصتوه وأنصتوا له، قال الشاعر: إذا قالت حذام فأنصتوها * فإن القول ما قالت حذام وقال بعضهم في قوله " فاستمعوا له وأنصتوا ": كان هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصا ليعيه عنه أصحابه. قلت: هذا فيه بعد، والصحيح القول بالعموم، لقوله: " لعلكم ترحمون " والتخصيص يحتاج إلى دليل. وقال عبد الجبار بن أحمد في فوائد القرآن له: إن المشركين كانوا يكثرون اللغط والشغب تفنتا وعنادا، على ما حكاه الله عنهم: " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ". فأمر الله المسلمين حالة أداء الوحي أن يكونوا على خلاف هذه الحالة وأن يستمعوا، ومدح الجن على ذلك فقال: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن (1) " الآية. وقال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في الصلاة أجابه من وراءه، إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة. فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث، فنزل: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له لعلكم ترحمون " فأنصتوا. وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم، كم بقي، فأنزل الله تعالى: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له (1) راجع ج 16 ص 210. (*)
[ 355 ]
وأنصتوا ". وعن مجاهد هذا أيضا: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم، فنزل قوله تعالى: " لعلكم ترحمون ". وقد مضى في الفاتحة الاختلاف في قراءة المأموم خلف الإمام. ويأتي في " الجمعة (1) " حكم الخطبة، إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والأصال ولا تكن من الغفلين قوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) نظيره " ادعوا ربكم تضرعا وخفية (2) " وقد تقدم. قال أبو جعفر النحاس: ولم يختلف في معنى " واذكر ربك في نفسك " أنه في الدعاء. قلت: قد روي عن ابن عباس أنه يعني بالذكر القراءة في الصلاة. وقيل: المعنى اقرأ القرآن بتأمل وتدبر. " تضرعا " مصدر، وقد يكون في موضع الحال. " وخفية " معطوف عليه. وجمع خيفة خوف، لأنه بمعنى الخوف، ذكره النحاس. وأصل خيفة خوفة، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. خاف الرجل يخاف خوفا وخيفة ومخافة، فهو خائف، وقوم خوف على الأصل، وخيف على اللفظ. وحكى الفراء أنه يقال أيضا في جمع خيفة خيف. قال الجوهري: والجيفة الخوف، والجمع خيف، وأصله الواو. (ودون الجهر) أي دون الرفع في القول. أي أسمع نفسك، كما قال: " وابتغ بين ذلك سبيلا (3) " أي بين الجهر والمخافتة. ودل هذا على أن رفع الصوت بالذكر ممنوع. على ما تقدم في غير موضع. (بالغدو والآصال) قال قتادة وابن زيد: الآصال العشيات. والغدو جمع غدوة. وقرأ أبو مجلز " بالغدو والإيصال " وهو مصدر آصلنا، أي دخلنا في العشي. والآصال جمع أصل، مثل طنب وأطناب، فهو جمع الجمع، والواحد أصيل، جميع على أصل، عن الزجاج. (1) راجع ج 18 ص 97 فما بعد. (2) راجع ص 223 من هذا الجزء. (3) راجع ج 10 ص 342 فما بعد. (*)
[ 356 ]
الأخفش: الآصال جمع أصيل، مثل يمين وأيمان. الفراء: أصل جمع أصيل، وقد يكون أصل واحدا، كما قال الشاعر: * ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل * الجوهري: الأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب، وجمعه أصل وآصال وأصائل، كأنه جمع أصيلة، قال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله * وأقعد في أفيائه بالأصائل ويجمع أيضا على أصلان، مثل بعير وبعران، ثم صغروا الجمع فقالوا أصيلان، ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا أصيلال، ومنه قول النابغة: وقفت فيها أصيلالا أسائلها * عيت جوابا وما بالربع من أحد وحكى اللحياني: لقيته أصيلالا. (ولا تكن من الغافلين) أي عن الذكر. قوله تعالى: إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206) فيه ثمان مسائل: الأولى: قوله تعالى: (إن الذين عند ربك) يعني الملائكة بإجماع. وقال: " عند ربك " والله تعالى بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته، وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده، عن الزجاج. وقال غيره لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله. وقيل: لأنهم رسل الله، كما يقال: عند الخليفة جيش كثير. وقيل: هذا على جهة التشريف لهم، وأنهم بالمكان المكرم، فهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة. " ويسبحونه " أي ويعظمونه وينزهونه عن كل سوء. " وله يسجدون " قيل: يصلون. وقيل: يذلون، خلاف أهل المعاصي.
[ 357 ]
الثانية: والجمهور من العلماء في أن هذا موضع سجود للقارئ. وقد اختلفوا في عدد سجود القرآن، فأقصى ما قيل: خمس عشرة. أولها خاتمة الأعراف، وآخرها خاتمة العلق. وهو قول ابن حبيب وابن وهب - في رواية - وإسحاق. ومن العلماء من زاد سجدة الحجر قوله تعالى: " وكن من الساجدين " على ما يأتي (1) بيانه إن شاء الله تعالى. فعلى هذا تكون ست عشرة. وقيل: أربع عشرة، قاله ابن وهب في الرواية الأخرى عنه. فأسقط ثانية الحج. وهو قول أصحاب الرأي والصحيح سقوطها، لأن الحديث لم يصح بثبوتها. ورواه ابن ماجة وأبو داود في سننهما عن عبد الله بن منين من بني عبد كلال عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان. وعبد الله بن منين لا يحتج به، قاله أبو محمد عبد الحق. وذكر أبو داود أيضا من حديث عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، أفي سورة الحج سجدتان ؟. قال: " نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ". في إسناده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف جدا. وأثبتهما الشافعي وأسقط سجدة ص. وقيل: إحدى عشرة سجدة، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل. وهو مشهور مذهب مالك. وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم. وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شئ، الأعراف والرعد والنحل وبنى إسرائيل ومريم والحج سجده والفرقان وسليمان سورة النمل والسجدة وص وسجدة الحواميم. وقيل: عشر، وأسقط آخرة الحج وص وثلاث المفصل، ذكر عن ابن عباس. وقيل: إنها أربع، سجدة آلم تنزيل وحم تنزيل والنجم والعلق. وسبب الخلاف اختلاف النقل في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأم المجرد بالسجود في القرآن، هل المراد به سجود التلاوة أو سجود الفرض في الصلاة ؟ الثالثة - واختلفوا في وجوب سجود التلاوة، فقال مالك والشافعي: ليس بواجب. وقال أبو حنيفة: هو واجب. وتعلق بأن مطلق الأمر بالسجود على الوجوب، وبقوله عليه السلام: " إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله ". وفي رواية (1) راجع ج 10 ص 63. (*)
[ 358 ]
أبي كريب " يا ويلي "، وبقوله عليه السلام إخبارا عن إبليس لعنه الله: " أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار " أخرجه مسلم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه. وعول علماؤنا على حديث عمر الثابت - خرجه البخاري - أنه قرأ آية سجدة على المنبر (فنزل (1)) فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود، فقال: " أيها الناس على رسلكم ! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ". وذلك بمحضر الصحابة (رضي الله عنهم أجمعين (2)) من الأنصار والمهاجرين. فلم ينكر عليه أحد فثبت الإجماع به في ذلك. وأما قول: " أمر ابن آدم بالسجود " فإخبار عن السجود الواجب. ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الاستحباب ! والله أعلم. الرابعة - ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة حدث ونجس ونية واستقبال قبلة ووقت. إلا ما ذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة. وذكره ابن المنذر عن الشعبي. وعلى قول الجمهور هل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده وتكبير وتسليم ؟ اختلفوا في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع للتكبير لها. وقد روي في الأثر عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد كبر، وكذلك إذا رفع كبر. ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة. واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة، وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء، ولا سلام لها عند الجمهور. وذهب جماعة من السلف وإسحاق إلى أنه يسلم منها. وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير في أولها للإحرام. وعلى قول من لا يسلم يكون للسجود فحسب. والأول أولى، لقوله عليه السلام: " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " وهذه عبادة لها تكبير، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى، لأنها فعل وصلاة الجنازة قول. وهذا اختيار ابن العربي. الخامسة - وأما وقته فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقا، لأنها صلاة لسبب. وهو قول الشافعي وجماعة. وقيل: ما لم يسفر الصبح، أو ما لم تصفر الشمس بعد العصر (3). (1) من ابن عربي. (2) من ك. (3) من ك وع وفى ه: بعد الصبح. وهو خطأ ناسخ. (*)
[ 359 ]
وقيل: لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر. وقيل: يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر. وهذه الثلاثة الأقوال في مذهبنا. وسبب الخلاف معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب عليها لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح. واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين، والله أعلم. السادسة - فإذا سجد يقول في سجوده: اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا. رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن ماجة. السابعة - فإن قرأها في صلاة، فإن كان في نافلة سجد إن كان منفردا أو في جماعة وأمن التخليط فيها. وإن كان في جماعة لا يأمن ذلك فيها فالمنصوص جوازه. وقيل: لا يسجد. وأما في الفريضة فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها، سواء كانت صلاة سر أو جهر، جماعة أو فرادى. وهو معلل بكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة. وقيل: معلل بخوف التخليط على الجماعة، وهذا أشبه. وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط. الثامنة - روى البخاري عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ " إذا السماء انشقت " فسجد، فقلت: ما هذه ؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. انفرد بإخراجه. وفيه: " وقيل لعمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها ؟ قال: أرأيت لو قعد لها ! كأنه لا يوجبه عليه. وقال سلمان: ما لهذا غدونا (1). وقال عثمان (2): إنما السجدة على من استمعها. وقال الزهري: لا يسجد إلا أن يكون طاهرا، فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة، فإن كنت راكبا فلا عليك، حيث كان وجهك. وكان السائب لا يسجد لسجود القاص (3) " والله أعلم. (1) في ك وه: عدونا. (2) في ك: " عمر " (3) القاص (بتشديد الصاد المهملة): الذى يقرأ القصص والأخبار والمواعظ، لكونه ليس قاصدا لتلاوة القرآن. وفى ع: القصاص. (*)
[ 360 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنفال مدنية بدرية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن عباس: هي مدنية إلا سبع آيات، من قوله تعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا (1) " إلى آخر السبع آيات. قوله تعالى: يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (1) فيه ست مسائل: الأولى - روى عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلقوا العدو، فلما هزمهم الله اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستولت طائفة على العسكر والنهب، فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم قالوا: لنا النفل، نحن الذين طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم أحق به منا، بل هو لنا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة. وقال الذين استلووا على العسكر والنهب: ما أنتم بأحق منا، هو لنا، نحن حويناه واستولينا عليه، فأنزل الله عز وجل: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين). فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فواق بينهم. قال أبو عمر: قال أهل العلم بلسان العرب: استلووا أطافوا وأحاطوا، يقال: الموت مستلو على العباد. وقوله: " فقسمه عن فواق " يعني عن سرعة. قالوا: والفواق ما بين حلبتي الناقة. يقال: انتظره فواق ناقة، أي هذا (1) راجع ص 395. من هذا الجزء. (*)
[ 361 ]
المقدار. ويقولونها بالضم والفتح: فواق وفواق. وكان هذا قبل أن ينزل: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " الآية. وكأن المعنى عند العلماء: أي إلى الله وإلى الرسول الحكم فيها والعمل بها بما يقرب من الله تعالى. وذكر محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن سليمان بن موسى الأشدق عن مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بواء. يقول: على السواء. فكان ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وصلاح ذات البين وروي في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: اغتنم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة، فإذا فيها سيف، فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف، فأنا من قد علمت حاله. قال: " رده من حيث أخذته " فانطلقت حتى أردت أن ألقيه في القبض (1) لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه. قال: فشد لي صوته (رده من حيث أخذته) فانطلقت حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه، قال: فشد لي صوته " رده من حيث أخذته " فأنزل الله " يسألونك عن الأنفال ". لفظ مسلم. والروايات كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق للهداية. الثانية: الأنفال واحدها نفل بتحريك الفاء، قال (2): إن تقوى ربنا خير نفل * وبإذن الله ريثي والعجل أي خير غنيمة. والنفل: اليمين، ومنه الحديث " فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم ". والنفل الانتفاء، ومنه الحديث " فانتفل من ولدها ". والنفل: نبت معروف. والنفل: الزيادة على الواجب، وهو التطوع. وولد الولد نافلة، لأنه زيادة على الولد. والغنيمة نافلة، لأنها (1) القبض بالتحريك بمعنى المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. (2) القائل هو ليد، كما اللسان (مادة النقل). (*)
[ 362 ]
زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرما على غيرها. قال صلى الله عليه وسلم: " فضلت على الأنبياء بست - وفيها - وأحلت لي الغنائم ". والأنفال: الغنائم أنفسها. قال عنترة: إنا إذا احمر الوغى نروي القنا * ونعف عند مقاسم الأنفال أي الغنائم. الثالثة - واختلف العلماء في محل الأنفال على أربعة أقوال: الأول - محلها فيما شد عن الكافرين إلى المسلمين أو أخذ بغير حرب. الثاني - محلها الخمس. الثالث - خمس الخمس. الرابع - رأس الغنيمة، حسب ما يراه الإمام. ومذهب مالك رحمه الله أن الأنفال مواهب الإمام من الخمس، على ما يرى من الاجتهاد، وليس في الأربعة الأخماس نفل، وإنما لم ير النفل من رأس الغنيمة لأن أهلها معينون وهم الموجفون (1)، والخمس مردود قسمه إلى اجتهاد الإمام. وأهله غير معينين. قال صلى الله عليه وسلم: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ". فلم يمكن بعد هذا أن يكون النفل من حق أحد، وإنما يكون من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخمس. هذا هو المعروف من مذهبه وقد روي عنه أن ذلك من خمس الخمس. وهو قول ابن المسيب والشافعي وأبي حنيفة. وسبب الخلاف حديث ابن عمر، رواه مالك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا. هكذا رواه مالك على الشك في رواية يحيى عنه، وتابعه على ذلك جماعة رواة الموطأ إلا الوليد بن مسلم فإنه رواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فقال فيه: فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا ولم يشك. وذكر الوليد بن مسلم والحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد - في رواية الوليد: أربعة آلاف - وانبعثت سرية من الجيش - في رواية الوليد: فكنت ممن خرج فيها - فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا، اثني عشر بعيرا، ونقل أهل السرية بعيرا بعيرا، فكان سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا، ذكره أبو داود. فاحتج بهذا من (1) الموجفون: الممحصلون بخيل وركاب. والإيجاف: سرعة السير. (*)
[ 363 ]
يقول: إن النفل إنما يكون من جملة الخمس. وبيانه أن هذه السرية لو نزلت على أن أهلها كانوا عشرة مثلا أصابوا في غنيمتهم مائة وخمسين، أخرج منها خمسها ثلاثين وصار لهم مائة وعشرون، قسمت على عشرة وجب لكل واحد اثنا عشر بعيرا، اثنا عشر بعيرا، ثم أعطي القوم من الخمس بعيرا بعيرا، لأن خمس الثلاثين لا يكون فيه عشرة أبعرة. فإذا عرفت ما للعشرة عرفت ما للمائة والألف وأزيد. واحتج من قال: إن ذلك كان من خمس الخمس بأن قال: جائز أن يكون هناك ثياب تباع ومتاع غير الإبل، فأعط من لم يبلغه البعير قيمة البعير من تلك العروض. ومما يعضد هذا ما روى مسلم في بعض طرق هذا الحديث: فأصبنا إبلا وغنما، الحديث. وذكر محمد بن إسحاق في هذا الحديث أن الأمير نفلهم قبل القسم، وهذا يوجب أن يكون النفل من رأس الغنيمة، وهو خلاف قول مالك. وقول من روى خلافه أولى لأنهم حفاظ، قاله أبو عمر رحمه الله. وقال مكحول والأوزاعي: لا ينفل بأكثر من الثلث، وهو قول الجمهور من العلماء. قال الأوزاعي: فإن زادهم فليف لهم ويجعل ذلك من الخمس. وقال الشافعي: ليس في النفل حد لا يتجاوزه الإمام. الرابعة - ودل حديث ابن عمر على ما ذكره الوليد والحكم عن شعيب عن نافع أن السرية إذا خرجت من العسكر فغنمت أن العسكر شركاؤهم. وهذه مسألة وحكم لم يذكره في الحديث غير شعيب عن نافع، ولم يختلف العلماء فيه، والحمد لله. الخامسة - واختلف العلماء في الإمام يقول قبل القتال: من هدم كذا من الحصن فله كذا، ومن بلغ إلى موضع كذا فله كذا، ومن جاء برأس فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا، يضريهم (1). فروي عن مالك أنه كرهه. وقال: هو قتال على الدنيا. وكان لا يجيزه. قال الثوري: ذلك جائز ولا بأس به. قلت: وقد جاء هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا ". الحديث بطوله. (1) التضرية: الإغراء. (*)
[ 364 ]
وفي رواية عكرمة عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من فعل كذا وكذا وأتى مكان كذا وكذا فله كذا ". فتسارع الشبان وثبت الشيوخ مع الرايات، فلما فتح لهم جاء الشبان يطلبون ما جعل لهم فقال لهم الأشياخ: لا تذهبون به دوننا، فقد كنا ردءا لكم، فأنزل الله تعالى: " وأصلحوا ذات بينكم " ذكره إسماعيل بن إسحاق أيضا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشأم: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وسبي ؟. وقال بهذا جماعة فقهاء الشأم: الأوزاعي ومكحول وابن حيوة وغيرهم. ورأوا الخمس من جملة الغنيمة، والنفل بعد الخمس ثم الغنيمة بين أهل العسكر، وبه قال إسحاق وأحمد وأبو عبيد. قال أبو عبيد: والناس اليوم على أن لا نفل من جهة الغنيمة حتى تخمس. وقال مالك: لا يجوز أن يقول الإمام لسرية: ما أخذتم فلكم ثلثه. قال سحنون: يريد ابتداء. فإن نزل (1) مضى، ولهم أنصباؤهم في الباقي. وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه، فهذا لا يجوز، فإن نزل (1) رددته، لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى. السادسة - واستحب مالك رحمه الله ألا ينفل الإمام إلا ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف. ومنع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا ونحوه. وقال بعضهم: النفل جائز من كل شئ. وهو الصحيح لقول عمر ومقتضى الآية، والله أعلم. السابعة - قوله تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أمر بالتقوى والإصلاح، أي كونوا مجتمعين على أمر الله في الدعاء: اللهم أصلح ذات البين، أي الحال التي يقع بها الاجتماع. فدل هذا على التصريح بأنه شجر بينهم اختلاف، أو مالت النفوس إلى التشاح، كما هو منصوص في الحديث. وتقدم معنى التقوى (2)، أي اتقوا الله في أقوالكم، وأفعالكم، وأصلحوا ذات بينكم. (وأطيعوا الله ورسوله) في الغنائم ونحوها. (إن كنتم مؤمنين) أي إن سبيل المؤمن أن يمتثل ما ذكرنا. وقيل: " إن " بمعنى " إذ ". (1) في ز وك: ترك. (2) راجع ج 1 ص 161. (*)
[ 365 ]
قوله تعالى: إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم ءايته زادتهم إيمنا وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجت عند ربهم ومغفرة ورزق كريم (4) قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون). فيه ثلاث مسائل: الأولى - قال العلماء: هذ الآية تحريض على إلزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة تلك الغنيمة. والوجل: الخوف. وفي مستقبله أربع لغات: وجل يوجل وياجل وييجل وييجل، حكاه سيبويه. والمصدر وجل جلا وموجلا، بالفتح. وهذا موجله (بالكسر) للموضع والاسم. فمن قال: ياجل في المستقبل جعل الواو ألفا لفتحة ما قبلها. ولغة القرآن الواو " قالوا لا توجل (1) " ومن قال: " ييجل " بكسر الياء فهي على لغة بني أسد، فإنهم يقولون: أنا إيجل، ونحن نيجل، وأنت تيجل، كلها بالكسر. ومن قال: " ييجل " بناه على هذه اللغة، ولكنه فتح الياء كما فتحوها في يعلم، ولم تكسر الياء في يعلم لاستثقالهم الكسر على الياء. وكسرت في " ييجل " لتقوي إحدى الياءين بالأخرى. والأمر منه " إيجل " صارت الواو ياء الكسرة ما قبلها. وتقول: إني منه لأوجل. ولا يقال في المؤنث: وجلاء: ولكن وجلة. وروى سفيان عن السدي في قوله جل وعز: " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " قال: إذا أراد أن يظلم مظلمة قيل له: اتق الله، ووجل قلبه. الثانية - وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره. وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ونظير هذه الآية " وبشر المخبتين. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم (2) ". وقال " وتطمئن قلوبهم بذكر (3) الله ". فهذا يرجع إلى كمال (1) راجع ج 10 ص 34. (2) راجع ج 12 ص 58 فما بعد. (3) راجع ج 9 ص 314 فما بعد. (*)
[ 366 ]
المعرفة وثقة القلب. والوجل: الفزع من عذاب الله، فلا تناقض. وقد جمع الله بين المعنيين في قوله " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله (1) ". أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله. فهذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته، لا كما يفعله جهال العوام والمبتدعة الطغام (2) من الزعيق والزئير ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير. فيقال لمن تعاطى ذلك وزعم أن ذلك وجد وخشوع: لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله، والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفا من الله. ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (3) ". فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم. ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم، فمن كان مستنا فليستن، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسهم حالا، والجنون فنون. روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه (4) في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: " سلوني لا تسألوني عن شئ إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا ". فلما سمع ذلك القوم أرموا (5) ورهبوا أن يكون بين (يدي (6)) أمر قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يمينا وشمالا فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. الحديث. ولم يقل: زعقنا ولا رقصنا ولا زفنا (7) ولا قمنا. (1) راجع ج 15 ص 248. (2) الطغام والطغامة: أرذال الناس وأوغادهم. (3) راجع ج 6 ص 258. (4) أي أكثروا عليه. أحفى في السؤال وألحف بمعنى ألح. (5) أرحم الرجل إرماما: إذا سكت فهو مرم. (6) زيادة عن صحيح مسلم. (7) زفن " من باب ضرب ": رقص، وأصله الدفع الشديد والضرب بالرجل: كما يفعل الراقص. (*)
[ 367 ]
الثالثة - قوله تعالى: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) أي تصديقا. فإن إيمان هذه الساعة زيادة على إيمان أمس، فمن صدق ثانيا وثالثا فهو زيادة تصديق بالنسبة إلى ما تقدم. وقيل: هو زيادة انشراح الصدر بكثرة الآيات والأدلة، وقد مضى هذا المعنى " في آل عمران (1) ". (وعلى ربهم يتوكلون) تقدم معنى التوكل في " آل عمران (1) " أيضا. (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) تقدم في أول سورة " البقرة (2) ". (أولئك هم المؤمنون حقا) أي الذي استوى في الإيمان ظاهرهم وباطنهم. ودل هذا على أن لكل حق حقيقة، وقد قال عليه السلام لحارثة: " إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك " ؟ الحديث. وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد، أمؤمن أنت ؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم - إلى قوله - أولئك هم المؤمنون حقا " فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. وقال أبو بكر الواسطي: من قال أنا مؤمن بالله حقا، قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة، فمن فقده بطل دعواه فيها. يريد بذلك ما قاله أهل السنة: إن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة، فمن لم يعلم ذلك من سر حكمته تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيح. قوله تعالى: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكرهون قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. أي مثل إخراجك ربك من بيتك بالحق. والمعنى: امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا، لأن بعض (1) راجع ج 4 ص 280 و 189. (2) راجع ج 1 ص 164. (*)
[ 368 ]
الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئا قال: يبقى أكثر الناس بغير شئ. فموضع الكاف في " كما " نصب كما ذكرنا. وقال الفراء أيضا. قال أبو عبيدة: هو قسم، أي والذي أخرجك، فالكاف بمعنى الواو، وما بمعنى الذي. وقال سعيد بن مسعدة: المعنى أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. قال وقال بعض العلماء " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم. وقال عكرمة: المعنى أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك. وقيل: " كما أخرجك " متعلق بقوله " لهم درجات " المعنى: لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له، فأنجزك وعدك. وأظفرك بعدوك وأوفى لك، لأنه قال عز وجل: " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ". فكما أنجز هذا الوعد في الدنيا كذا ينجزكم ما وعدكم به في الآخرة. وهذا قول حسن ذكره النحاس واختاره. وقيل: الكاف في " كما " كاف التشبيه، ومخرجه على سبيل، المجازاة، كقول القائل لعبده: كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألت مددا فأمددتك وقويتك وأزحت علتك، فخذهم الآن فعاقبهم بكذا. وكما كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكذا. وكما أحسنت إليك فاشكرني عليه. فقال: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغشاكم النعاس أمنة منه - يعني به إياه ومن معه - وأنزل من السماء ماء ليطهركم به، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مردفين، فاضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان. كأنه يقول: قد أزحت عللكم، وأمددتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع، وهو المقتل، لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل. والله أعلم. (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) أي لكارهون ترك مكة وترك أموالهم وديارهم. قوله تعالى: يجدلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (6)
[ 369 ]
قوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) مجادلتهم: قولهم لما ندبهم إلى العير وفات العير وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أهبة شق ذلك عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة. ومعنى " في الحق " أي في القتال. " بعد ما تبين " لهم أنك لا تأمر بشئ إلا بإذن الله. وقيل: بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم إما الظفر بالعير أو بأهل مكة، وإذ فات العير فلا بد من أهل مكة والظفر بهم. فمعنى الكلام الإنكار لمجادلتهم. (كأنما يساقون إلى الموت) كراهة للقاء القوم. (وهم ينظرون) أي يعلمون أن ذلك واقع بهم، قال الله تعالى: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه (1) " أي يعلم. قوله تعالى: وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلمته ويقطع دابر الكفرين (7) ليحق الحق ويبطل البطل ولو كره المجرمون (8) قوله تعالى: (وإذا يعدكم الله إحدى الطائفين أنها لكم) " إحدى " في موضع نصب مفعول ثان. " أنها لكم " في موضع نصب أيضا بدلا من " إحدى ". وتودون أي تحبون (أن غير ذات الشوكة تكون لكم) قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد. والشوكة: السلاح. والشوك: النبت الذي له حد، ومنه رجل شائك السلاح، أي حديد السلاح. ثم يقلب فيقال: شاكي السلاح. أي تودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ولا فيها حرب، عن الزجاج. (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) أي أن يظهر الإسلام. والحق حق أبدا، ولكن إظهاره تحقيق له من حيث إنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. " بكلماته " أي بوعده، فإنه وعد نبيه ذلك في سورة " الدخان " فقال: " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (2) " أي من أبي جهل وأصحابه. وقال: " ليظهره على الدين كله (3) ". وقيل: " بكلماته " أي (1) راجع ج 19 ص 183. (2) راجع ج 16 ص 133. (3) راجع ج 8 ص 121. فما بعده. (*)
[ 370 ]
بأمره، إياكم أن تجاهدوهم. (ويقطع دابر الكافرين) أي يستأصلهم بالهلاك. (ليحق الحق) أي يظهر دين الإسلام (1) ويعزه. (ويبطل الباطل) أي الكفر. وإبطاله إعدامه، كما أن إحقاق الحق إظهاره " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو (2) زاهق ". (ولو كره المجرمون). قوله تعالى: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملئكة مردفين (9) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم (10) قول تعالى: (إذ تستغيثون ربكم) الاستغاثة: طلب الغوث والنصر. غوث الرجل قال: واغوثاه. والاسم الغوث والغواث والغواث. واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث (3)، عن الجوهري. وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة (4) عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم ائتني ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض). فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى: " وإذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين " فأمده الله بالملائكة. وذكر الحديث. (مردفين) بفتح الدال قراءة نافع. والباقون بالكسر اسم فاعل، أي متتابعين، تأتي فرقة بعد فرقة، وذلك أهيب في العيون. و " مردفين " بفتح الدال على ما لم يسم فاعله، لأن الناس الذين قاتلوا يوم بدر أردفوا بألف من الملائكة، أي أنزلوا إليهم لمعونتهم على (1) في ج: دين الله. (2) راجع ج 11 ص 277. (3) صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. (4) الذى في صحيح مسلم: "... تسعة عشر.. ". والمشهور: ثلاثمائة وثلاثة عشر كما يأتي. (*)
[ 371 ]
الكفار. فمردفين بفتح الدال نعت لألف. وقيل: هو حال من الضمير المنصوب في " ممدكم ". أي ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة، وهذا مذهب مجاهد. وحكى أبو عبيدة أن ردفني وأردفني واحد. وأنكر أبو عبيد أن يكون أردف بمعنى ردف، قال لقول الله عز وجل: " تتبعها الرادفة (1) " ولم يقل المردفة. قال النحاس ومكي وغيرهما: وقراءة كسر الدال أولى، لأن أهل التأويل على هذه القراءة يفسرون. أي أردف بعضهم بعضا، ولأن فيها معنى الفتح على ما حكى أبو عبيدة، ولأن عليه أكثر القراء. قال سيبويه: وقرأ بعضهم " مردفين " بفتح الراء وشد الدال. وبعضهم " مردفين " بكسر الراء. وبعضهم " مردفين " بضم الراء. والدال مكسورة مشددة في القراءات الثلاث. فالقراءة الأولى تقديرها عند سيبويه مرتدفين، ثم أدغم التاء في الدال، وألقى حركتها على الراء لئلا يلتقي ساكنان. والثانية كسرت فيها الراء لالتقاء الساكنين. وضمت الراء في الثالثة إتباعا لضمة الميم، كما تقول: (رد ورد (2) ورد) يا هذا. وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري: " بآلف " جمع ألف، مثل فلس وأفلس. وعنهما أيضا " بألف ". وقد مضى في " آل عمران " ذكر نزول الملائكة وسيماهم وقتالهم. وتقدم فيها القول في معنى قوله: " وما جعله الله إلا بشرى (3) ". والمراد الإمداد. ويجوز أن يكون الإرداف. (وما النصر إلا من عند الله) نبه على أن النصر من عنده جل وعز لا من الملائكة، أي لولا نصره لما انتفع بكثرة العدد بالملائكة. والنصر من عند الله يكون بالسيف ويكون بالحجة. قوله تعالى: إذ يغشيكم النعاس أمنه منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطن وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام (11) قوله تعالى: (إذ (4) يغشيكم النعاس) مفعولان. وهي قراءة أهل المدينة، وهي حسنة لإضافة الفعل إلى الله عز وجل لتقدم ذكره في قوله: " وما النصر إلا من عند الله ". (1) راجع ج 19 ص 193. (2) من ك، ه، ج. (3) راجع ج 4 ص 190 وص 198. (4) هي قراءة نافع. (*)
[ 372 ]
ولأن بعده " وينزل عليكم " فأضاف الفعل إلى الله عز وجل. فكذلك الإغشاء يضاف إلى الله عز وجل ليتشاكل الكلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " يغشاكم النعاس " بإضافة الفعل إلى النعاس. دليله " أمنة نعاسا يغشى (1) " في قراءة من قرأ بالياء أو بالتاء، فأضاف الفعل إلى النعاس أو إلى الأمنة. والأمنة هي النعاس، فأخبر أن النعاس هو الذي يغشى القوم. وقرأ الباقون " يغشيكم " بفتح الغين وشد الشين. " النعاس " بالنصب على معنى قراءة نافع، لغتان بمعنى غشى وأغشى، قال الله تعالى: " فأغشيناهم (2) ". وقال: " فغشاها ما غشى (3) ". وقال: " كأنما أغشيت وجوههم (4) ". قال مكي: والاختيار ضم الياء والتشديد ونصب النعاس، لأن بعده " أمنة منه " والهاء في " منه " لله، فهو الذي يغشيهم النعاس، ولأن الأكثر عليه. وقيل: أمنة من العدو و " أمنة " مفعول من أجله أو مصدر، يقال: أمن أمنة وأمنا وأمانا، كلها سواء. والنعاس حالة الآمن الذي لا يخاف. وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم. وعن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، ذكره البيهقي. (5) الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: - أحدهما: أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر. وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين. وقد مضى مثل هذا في يوم أحد في " آل عمران ". قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام) ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر. وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقى المؤمنون لا ماء لهم، فوجست (6) نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا (1) راجع ج 4 ص 241. (2) راجع ج 15 ص 9. (3) راجع ج 17 ص 118. (4) راجع ج 8 ص 332. (5) في ك، ى: والماوردي. (6) وجست: وقع في نفوسهم الفزع. (*)
[ 373 ]
كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول وحالنا هذه والمشركون على الماء. فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية، فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر (1) وتلبدت السبخة (2) التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال. وقد قيل: إن هذ الأحوال كانت قبل وصولهم إلى بدر، وهو أصح، وهو الذي ذكره ابن إسحاق في سيرته وغيره. وهذا اختصاره: قال ابن عباس لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان أنه مقبل من الشأم ندب المسلمين إليهم وقال: " هذه عير قريش فيها الأموال فأخرجوا إليهم لعل الله أن ينفلكموها " قال: فانبعث معه من خف، وثقل قوم وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) لا يلوي على من تعذر، ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من مهاجري وأنصاري. وفي البخاري عن البراء بن عازب قال: كان المهاجرون يوم بدر نيفا وثمانين، وكان الأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وخرج أيضا عنه قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، على عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن. وذكر البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري قال: فخرجنا - يعنى إلى بدر - فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعاد، ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله وقال: " عدة أصحاب طالوت ". قال ابن إسحاق: وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا فلم يكثر استعدادهم. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر لكم الناس، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا (1) الظهر: الإبل التى يحمل عليها وتركب. (2) السبخة (محركة): أرض ذات ملح ونز. والمراد بها هنا الأرض التى تسوخ فيها الأرجل. (3) لا يلوى: لا يقف ولا ينظر. (*)
[ 374 ]
يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد عرض لها في أصحابه، ففعل ضمضم. فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، وقام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه (1)، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. ثم قال: " أشيروا علي أيها الناس " يريد الأنصار. وذلك أنهم عدد الناس، وكانوا حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى أن عليها نصرته إلا بالمدينة، وأنه ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو بغير بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه سعد بن معاذ - وقيل سعد بن عبادة، ويمكن أنهما تكلما جميعا في ذلك اليوم - فقال: يا رسول الله، كأنك تريدنا معشر الأنصار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجل) فقال: إنا قد آمنا بك واتبعناك، فامض لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم ". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق قريشا إلى ماء بدر. ومنع قريشا من السبق إليه مطر عظيم أنزله الله عليهم، ولم يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير. والدهس: الرمل اللين الذي تسوخ فيه الأرجل. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فأشار عليه الحباب (1) في ج: من دونها. (*)
[ 375 ]
ابن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك وقال له: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال عليه السلام: " بل هو الرأي والحرب والمكيدة ". فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونعور (1) ما وراءه من القلب (2)، ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من رأيه، وفعله. ثم التقوا فنصر الله نبيه والمسلمين، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين، وانتقم منهم للمؤمنين، وشفى الله صدر رسوله عليه السلام وصدور أصحابه من غيظهم. وفي ذلك يقول حسان: عرفت ديار زينب بالكثيب * كخط الوحي في الورق القشيب (3) تداولها الرياح وكل جون * من الوسمي منهمر سكوب (4) فأمسى ربعها خلقا وأمست * يبابا (5) بعد ساكنها الحبيب فدع عنك التذكر كل يوم * ورد حرارة الصدر الكئيب (6) وخبر بالذي لا عيب فيه * بصدق غير إخبار الكذوب بما صنع الإله غداة بدر * لنا في المشركين من النصيب غداة كأن جمعهم حراء * بدت أركانه جنح الغروب فلاقيناهم منا بجمع * كأسد الغاب مردان وشيب أمام محمد قد وازروه * على الأعداء في لفح الحروب بأيديهم صوارم مرهفات * وكل مجرب خاظي الكعوب (7) (1) عور عيون المياه: إذا دفنها وسدها. (2) القلب: جمع قليب، وهى البئر العاديه القديمة التى لا يعلم لها رب ولا حافر تكون في البراري. (3) الوحى: الكتابة. والقشيب: الجديد. (4) الجون: السحاب. والوسمى: المطر الذى يأتي في الربيع. (5) اليباب: الخراب. (6) الكئيب: الحزين. (7) الخاظى: الكثير اللحم، والمراد الضحم العظيم، أو ذو الشرف والمجد. (*)
[ 376 ]
بنو الأوس الغطارف وازرتها * بنو النجار في الدين الصليب (1) فغادرنا أبا جهل صريعا * وعتبة قد تركنا بالجبوب (2) وشيبة قد تركنا في رجال * ذوي نسب إذا نسبوا حسيب يناديهم رسول الله لما * قذفناهم كباكب في القليب (3) ألم تجدوا كلامي كان حقا * وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا، ولو نطقوا لقالوا * أصبت وكنت ذا رأي مصيب وهنا ثلاث مسائل: الأولى - قال مالك: بلغني أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أهل بدر فيكم) ؟ قال: " خيارنا " فقال: " إنهم كذلك فينا ". فدل هذا على أن شرف المخلوقات ليس بالذوات، وإنما هو بالأفعال. فللملائكة أفعالها الشريفة من المواظبة على التسبيح الدائم. ولنا أفعالنا بالإخلاص بالطاعة. وتتفاضل الطاعات بتفضيل الشرع لها، وأفضلها الجهاد، وأفضل الجهاد يوم بدر، لأن بناء الإسلام كان عليه. الثانية - ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال. وهو يرد ما كره مالك من ذلك، إذ قال: ذلك قتال على الدنيا، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير، ليس دونها شئ. فناداه العباس وهو في الأسرى: لا يصلح هذا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولم) ؟ قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك الله ما وعدك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (1) الغطارف: جمع الغطريف، وهو السيد الشريف السخى. ولصليب: الشديد المتين. (2) الجبوب: وجه الأرض. (3) كباكب: جمع كبكبة وهى الجماعة الكثيرة. والقليب: البئر. (*)
[ 377 ]
" صدقت ". وعلم ذلك العباس بحديث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبما كان من شأن بدر، فسمع ذلك في أثناء الحديث. الثالثة - روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم قام عليهم فناداهم فقال: (يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ". فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، كيف يسمعون، وأنى يجيبون وقد جيفوا ؟ قال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا). ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في القليب، قليب بدر. " جيفوا " بفتح الجيم والياء، ومعناه أنتنوا فصاروا جيفا. وقول عمر: " يسمعون " استبعاد على ما جرت به (حكم (1)) العادة. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء. وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم) الحديث. أخرجه الصحيح. قوله تعالى: (ويثبت به الأقدام) الضمير في " به " عائد على الماء الذي شد دهس الوادي، كما تقوم. وقيل: هو عائد على ربط القلوب، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب. قوله تعالى: إذ يوحى ربك إلى الملئكة أنى معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (1) من ج، ك، ه. (*)
[ 378 ]
قوله تعالى: (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم) العامل في " إذ، يثبت " أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت. وقيل: العامل " ليربط " أي وليربط إذ يوحي. وقد يكون التقدير: اذكر " إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم " في موضع نصب، والمعنى: بأني معكم، أي بالنصر والمعونة. " معكم " بفتح العين ظرف، ومن أسكنها فهي عنده حرف. (فثبتوا الذين آمنوا) أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال، فكان الملك يسير أمام الصف في، صورة الرجل ويقول: سيروا فإن الله ناصركم. ويظن المسلمون أنه منهم، وقد تقدم في " آل (1) عمران " أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم. فكانوا يرون رءوسا تندر (2) عن الأعناق من غير ضارب يرونه. وسمع بعضهم قائلا يسمع قوله ولا يرى شخصه: أقدم حيزوم (3). وقيل: كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مددا. قوله تعالى: (سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب) تقدم في آل عمران بيانه. (فاضربوا فوق الأعناق) هذا أم للملائكة. وقيل: للمؤمنين، أي اضربوا الأعناق، و " فوق " زائدة، قاله الأخفش والضحاك وعطية. وقد روى المسعودي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق). وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن " فوق " تفيد معنى فلا يجوز زيادتها، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. وقال ابن عباس: كل هام وجمجمة. وقيل: أي ما فوق الأعناق، وهو الرؤوس، قال عكرمة. والضرب على الرأس أبلغ، لأن أدنى شئ يؤثر في الدماغ. وقد مضى شئ من هذا المعنى في " النساء " وأن " فوق " ليست بزائدة، عند قوله: " فوق اثنتين (4) ". واضربوا منهم كل بنان قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء. والبنان مشتق من (1) راجع ج 4 ص 190، ص 232. (2) ندر: سقط. (3) حيزوم: ام فرس من خيل الملائكة. (4) راجع ج 5 ص 63. (*)
[ 379 ]
قولهم: أبن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة. وقيل: المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة: وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها * ويضرب عند الكرب كل بنان ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضا: وأن الموت طوع يدي إذا ما * وصلت بنانها بالهندواني وهو كثير في أشعار العرب، البنان: الأصابع. قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف. وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن (1) وقال الضحاك: البنان كل مفصل. قوله تعالى: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب (13) ذلكم فذوقوه وأن للكفرين عذاب النار (14) قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله) " ذلك " في موضع رفع على الابتداء، والتقدير: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك. " شاقوا الله " أي أولياءه. والشقاق: أن يصير كل واحد في شق. وقد تقدم (2). (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) قال الزجاج: " ذلكم " رفع بإضمار الأمر أو القصة، أي الأمر ذلكم فذوقوه. ويجوز أن يكون في موضع نصب ب " ذوقوا " كقولك: زيدا فاضربه. ومعنى الكلام التوبيخ للكافرين. " وأن " في موضع رفع عطف على ذلكم. قال الفراء: ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى وبأن للكافرين. قال: ويجوز أن يضمر واعلموا أن. الزجاج: لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق (1) بن بالمكان: أقام. (2) راجع ج 2 ص 143. (*)
[ 380 ]
وعمرا جالسا، بل كان يجوز في الابتداء زيدا منطلقا، لأن المخبر معلم، وهذا لا يقوله أحد من النحويين. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأويه جهنم وبئس المصير (16) فيه سبع مسائل: الأولى - قوله تعالى: (زحفا) الزحف الدنو قليلا قليلا. وأصله الاندفاع على الألية، ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفا. والتزاحف: التداني والتقارب، يقال: زحف إلى العدو زحفا. وازدحف القوم، أي مشى بعضهم إلى بعض. ومنه زحاف الشعر، وهو أن يسقط بين الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر. يقول: إذا تدانيتم وتعاينتم فلا تفروا عنهم ولا تعطوهم أدباركم. حرم الله ذلك على المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد وقتال الكفار. قال ابن عطية: والأدبار جمع دبر. والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة، لأنها بشعة على الفار، ذامة له. الثانية - أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار. وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين (2) من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم. فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف. ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف، ولا يتوجه عليه الوعيد. والفرار كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع الأكثر من الأئمة. وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة: إنه يراعى الضعف والقوة والعدة، فيجوز على قولهم أن يفر مائة فارس (2) من مائة فارس إذا علموا أن ما عند المشركين من النجدة والبسالة ضعف ما عندهم. وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا (1) في ب، ج، ه، ك: مؤمنه. (2) في ج، ه: أمام. (*)
[ 381 ]
مما زاد على، المائتين، فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين فيجوز الانهزام، والصبر أحسن. وقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام. قلت: ووقع في تاريخ فتح الأندلس، أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، فالتقى وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان، فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح. قال ابن وهب: سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدو وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم ؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فأذنوهم. الثانية - واختلف الناس هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ؟ فروي عن أبي سعيد الخدري أن ذلك مخصوص بيوم بدر، وبه قال نافع والحسن وقتادة ويزيد بن أبي حبيب والضحاك، وبه قال أبو حنيفة. وأن ذلك خاص بأهل بدر فلم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض. قال الكيا: وهذا فيه نظر، لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكونوا يرون أنه قتال، وإنما ظنوا أنها العير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه. ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة. احتج الأولون بما ذكرنا، وبقوله تعالى: " يومئذ " فقالوا: هو إشارة إلى يوم بدر، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف. وبقي حكم الفرار من الزحف ليس بكبيرة. وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم، وقال الله فيهم يوم حنين " ثم وليتم مدبرين (1) " ولم يقع على ذلك تعنيف. وقال الجمهور من العلماء: إنما ذلك إشارة (1) راجع ج 8 ص 96. (*)
[ 382 ]
إلى يوم الزحف الذي يتضمنه قوله تعالى: " إذا لقيتم ". وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى، وليس في الآية نسخ. والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب وذهاب اليوم بما فيه. وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات - وفيه - والتولي يوم الزحف) وهذا نص في المسألة. وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا. وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف عن الكثرة، على ما يأتي بيانه. الرابعة - قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فر من الزحف، ولا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم، ومن يولهم يومئذ دبره الآية. قال: ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا، فإن بلغ اثني عشر ألفا لم يحل لهم الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة " فإن أكثر أهل العلم خصصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية. قلت: رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي، وهو الحكم بن عبد الله بن خطاف وهو متروك. قالا: حدثنا الزهري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وغلم قال: (يا أكثم بن الجون اغز مع غير قومك يحسن خلقك وتكرم على رفقائك. يا أكثم بن الجون خير الرفقاء أربعة وخير الطلائع أربعون وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى آثنا عشر ألفا من قلة). وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه وهو قوله للعمري (1) العابد إذ سأله هل لك سعة في ترك مجاهدة من غير الأحكام وبدلها ؟ فقال: إن كان معك اثنا عشر ألفا فلا سعة لك في ذلك. (1) العمرى (بضم العين وفتح الميم) وهو عبد الله بن عمر العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان من أزهد أهل زمانه. مات سنة 184 ه (عن أنساب السمعاني). (*)
[ 383 ]
الخامسة - فإن فر فليستغفر الله عز وجل. روى الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدي سمع النبي صلى الله عيله وسلم يقول: " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر الله له وإن كان قد فر من الزحف ". قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. السادسة - قوله تعالى: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) التحرف: الزوال عن جهة الاستواء. فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم، وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضا. روى أبو داود عن عبد الله بن عمر أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحاص (1) الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، قال: فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب. فقلنا: ندخل المدينة فنتثبت فيها ونذهب ولا يرانا أحد. قال: فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا. قال: فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا، نحن الفرارون، فأقبل إلينا فقال: " لا بل أنتم العكارون " قال: فدنونا فقبلنا يده. فقال: (أنا فئة المسلمين). قال ثعلب: العكارون هم العطافون. وقال غيره: يقال للرجل الذي يولي عند الحرب ثم يكر راجعا: عكر واعتكر. وروى جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، هلكت ! فررت من الزحف. فقال عمر: أنا فئتك. وقال محمد بن سيرين: لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إلي لكنت له فئة، فأنا فئة كل مسلم. وعلى هذه الأحاديث لا يكون الفرار كبيرة، لأن الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا. وعلى القول الآخر يكون كبيرة، لأن الفئة هناك الجماعة من الناس الحاضرة للحرب. هذا على قول الجمهور أن الفرار من الزحف كبيرة. قالوا: وإنما كان ذلك القول (1) خاص: جال، أي جالوا جولة يطلبون الفرار. (*)
[ 384 ]
من النبي صلى الله عليه وسلم وعمر على جهة الحيطة على المؤمنين، إذ كانوا في ذلك الزمان يثبتون لأضعافهم مرارا. والله أعلم. وفي قوله: " والتولي يوم الزحف " ما يكفي. السابعة - قوله تعالى: (فقد باء بغضب من الله) أي استحق الغضب. وأصل " باء " رجع وقد تقدم (1). (ومأواه جهنم) أي مقامه. وهذا لا يدل على الخلود، كما تقدم في غير موضع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفر له وإن كان قد فر من الزحف ". قوله تعالى: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17) ذلكم وأن الله موهن كيد الكفرين (18) قوله تعالى (فلم تقتولهم ولكن الله قتلهم) أي يوم بدر. روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا، فجاء من ذلك تفاخر (2) ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده. وهذه الآية ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق (3) لهم. فقيل: المعنى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم. وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم. (وما رميت إذ رميت) مثله، " ولكن الله رمى ". واختلف العلماء في هذا الرمى على أربعة أقوال: الأول - إن هذا الرمي إنما كان في حصب (4) رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، رواه ابن وهب عن مالك. قال مالك: ولم يبق في ذلك اليوم أحد إلا وقد أصابه ذلك. وكذلك روى عنه ابن القاسم أيضا. (1) راجع ج 1 ص 430. (2) في ه: مفاخر. (3) في ى: من خلق لهم. (4) أي رمى في وجه العدو بالحصى. (*)
[ 385 ]
الثاني - أن هذا كان يوم أحد حين رمى أبي بن خلف بالحربة في عنقه، فكر أبي منهزما. فقال له المشركون: والله ما بك من بأس. فقال: والله لو بصق علي لقتلني. أليس قد قال: بل أنا أقتله. وكان أوعد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل بمكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل أنا أقتلك " فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة، بموضع يقال له " سرف (1) ". قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: لما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريه قتله. قال موسى بن عقبة قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه، فاستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مصعب ابن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوه أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم. قال سعيد: فكسر ضلعا من أضلاعه، فقال: ففي ذلك نزل " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ". وهذا ضعيف، لأن الآية نزلت عقيب بدر. الثالث - أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر، فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه. وهذا أيضا فاسد، وخيبر وفتحها أبعد من أحد بكثير. والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا. الرابع - أنها كانت يوم بدر، قال ابن إسحاق. وهو أصح، لأن السورة بدرية، وذلك أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (خذ قبضة من التراب) فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين، من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، وقاله ابن عباس، وسيأتي. قال ثعلب: المعنى " وما رميت " الفزع والرعب في قلوبهم " إذ رميت " بالحصباء فانهزموا " ولكن الله رمى " أي أعانك وأظفرك. والعرب تقول: رمى الله لك، أي أعانك وأظفر وصنع لك. حكى هذا أبو عبيدة (1) سرف: موضع قريب من التنعيم وبه تروج رسول الله أم المؤمنين ميمونة الهلالية وبه توفيت ودفنت رضى الله عنها. (*)
[ 386 ]
في كتاب المجاز. وقال محمد بن يزيد: وما رميت بقوتك، إذ رميت، ولكنك بقوة الله رميت. (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) البلاء ها هنا النعمة. واللام تتعلق بمحذوف، أي وليبلي المؤمنين فعل ذلك. (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو. وقراءة أهل الكوفة (موهن كيد الكافرين). وفي التشديد معنى المبالغة. وروي عن الحسن " موهن كيد الكافرين " بالإضافة والتخفيف (1). والمعنى: أن الله عز وجل يلقى في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرق جمعهم فيضعفوا. والكيد: المكر. وقد تقدم (2). قوله تعالى: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين (19) قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) شرطه وجوابه. وفيه ثلاثة أقوال: يكون خطابا للكفار، لأنهم استفتحوا فقالوا: اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما. وكان هذا القول منهم وقت خروجهم لنصره العير. وقيل: قاله أبو جهل وقت القتال. وقال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وهو ممن قتل ببدر. والاستفتاح: طلب النصر، أي قد جاءكم الفتح ولكنه كان للمسلمين عليكم. أي فقد جاءكم ما بان به الأمر، وانكشف لكم الحق. " وإن تنتهوا " (أي (3)) عن الكفر (فهو خير لكم). (وإن تعودوا) أي إلى هذا القول وقتال محمد. (نعد) إلى نصر المؤمنين. (ولن تغني عنكم فئتكم) أي (عن (4)) جماعتكم (شيئا). (ولو كثرت) أي في العدد. الثاني - يكون خطابا للمؤمنين، أي إن تستنصروا فقد جاءكم النصر. وإن " تنتهوا " أي عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم والأسرى قبل الإذن، " فهو خير لكم ". و " وإن تعودوا " أي إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم. كما قال: " لولا كتاب من الله سبق " الآية (5). (1) هذه القراءة عاصم رواية حفص. قال في البحر: وقرأ باقى السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص. (2) راجع ج 5 ص 280. (3) من ه وج وب. (4) من ج. (5) راجع ج 8 ص 50. (*)
[ 387 ]
والقول الثالث - أن يكون " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " خطابا للمؤمنين، وما بعده للكفار. أي وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى مثل وقعة بدر. القشيري: والصحيح أنه خطاب للكفار، فإنهم لما نفروا إلى نصر العير تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أهدى الطائفتين، وأفضل الدينين. المهدوي: وروي أن المشركين خرجوا معهم بأستار الكعبة يستفتحون بها، أي يستنصرون قلت: ولا تعارض لاحتمال أن يكونوا فعلوا الحالتين. (وإن الله مع المؤمنين) بكسر الألف على الاستئناف، وبفتحها عطف على قوله: " وأن الله موهن كيد الكافرين ". أو على قوله: " أني معكم ". والمعنى: ولأن الله، والتقدير لكثرتها وأن الله. أي من كان الله في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله) الخطاب للمؤمنين المصدقين. أفردهم بالخطاب دون المنافقين إجلالا لهم. جدد الله عليهم الأمر بطاعة الله والرسول ونهاهم عن التولي عنه. هذا قول الجمهور. وقالت فرقة: الخطاب بهذه الآية إنما هو للمنافقين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط. قال ابن عطية: وهذا وإنما كان محتملا على بعد فهو ضعيف جدا، لأن (1) الله تعالى وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان. والإيمان التصديق، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشئ. وأبعد من هذا من قال: إن الخطاب لبني إسرائيل، فإنه أجنبي من (2) الآية. (ولا تولوا عنه) التولي الإعراض. وقال " عنه " ولم يقل عنهما لأن طاعة الرسول طاعته، وهو كقوله تعالى: " والله ورسوله أحق أن يرضوه (3) ". (وأنتم (1) في ب وج وه: لأجل. (2) في ى: في الآية. (3) راجع ج 8 ص 193 فما بعد. (*)
[ 388 ]
تسمعون) ابتداء وخبر في موضع الحال. والمعنى: وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين في القرآن. قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا) أي كاليهود أو المنافقين أو المشركين. وهو من سماع الأذن. (وهم لا يسمعون) أي لا يتدبرون ما سمعوا، ولا يفكرون فيه، فهم بمنزلة من لم يسمع وأعرض عن الحق. نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. فدلت الآية على أن قول المؤمن: سمعت وأطعت، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله. فإذا قصر في الأوامر فلم يأتها، واعتمد النواهي فاقتحمها فأي سمع عنده وأي طاعة ! وإنما يكون حينئذ بمنزلة المنافقين الذي يظهر الإيمان، ويسر الكفر، وذلك هو المراد بقوله: " ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ". يعني بذلك المنافقين، أو اليهود أو المشركين، على مما تقدم. ثم أخبر تعالى أن الكفار شر مادب على الأرض. وفي البخاري عن ابن عباس " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون " قال: هم نفر من بني عبد الدار. والأصل أشر، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. وكذا خير، الأصل أخير. قوله تعالى: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) قوله تعالى: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) قيل: الحجج والبراهين، إسماع تفهم. ولكن سبق علمه بشقاوتهم (ولو أسمعهم) أي لو أفهمهم لما آمنوا بعد علمه الأزلي بكفرهم. وقيل: المعنى لأسمعهم كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم، لأنهم طلبوا إحياء قصي بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. الزجاج: لأسمعهم جواب كل ما سألوا عنه. (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) إذ سبق في علمه أنهم لا يؤمنون.
[ 389 ]
قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون (24) فيه ثلاث مسائل: الأولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف. والاستجابة: الإجابة. و (يحييكم) أصله يحييكم، حذفت الضمة من الياء لثقلها. ولا يجوز الإدغام. قال أبو عبيدة: معنى " استجيبوا " أجيبوا، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام، ويتعدى أجاب دون لام. قال الله تعالى: " يا قومنا أجيبوا داعي الله (1) ". وقد يتعدى استجاب بغير لام، والشاهد له قول الشاعر (2): وداع دعا يا من يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب تقول: أجابه وأجاب عن سؤاله. والمصدر الإجابة. والاسم الجابة، بمنزلة الطاقة والطاعة. تقول: أساء سمعا فأساء جابة (3). هكذا يتكلم بهذا الحرف. والمجاوبة والتجاوب: التحاور. وتقول: إنه لحسن الجيبة (بالكسر) أي الجواب. (لما يحييكم) متعلق بقوله: " استجيبوا ". المعنى: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم. وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى ما يحييكم، أي يحيي دينكم ويعلمكم. وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدوه، وهذا إحياء مستعار، لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي، ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله " لما يحييكم " الجهاد، فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدو إذا لم (1) راجع ج 16 ص 217. (2) هو كعب بن سعد الغنوى يرئى أخاه أيا المغوار. (3) أصل هذا المثل على ما ذكر الزبير بن بكار أنه كان لسهل بن عمر بن مضعوف فقال له إنسان: أين أمك (بفتح الهمزه وتشديد الميم المضمومه) أي أين قصدك، فظن أنه يقول له: أين أمك، (بضم الهمزه والميم) فقال: ذهبت تشترى دقيقا. فقال أبوه: أساء سمعا... الخ. (عن اللسان). (*)
[ 390 ]
يغز غزا، وفي غزوه الموت، والموت في الجهاد الحياة الأبدية، قال الله عز وجل: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء (1) " والصحيح العموم كما قال الجمهور. الثانية - روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. فقال: " ألم يقل الله عز وجل " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لمما يحييكم " " وذكر الحديث. وقد تقدم في الفاتحة (2). وقال الشافعي رحمه الله: هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتي به في الصلاة لا تبطل، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة. قلت: وفيه حجة لقول الأوزاعي: لو أن رجلا يصلي فأبصر غلاما يريد أن يسقط في، بئر فصاح به وانصرف إليه وانتهره لم يكن بذلك بأس. والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) قيل: إنه يقتضي النص منه على خلقه تعالى الكفر والإيمان فيحول بين المرء الكافر وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكتسبه إذا لم يقدره عليه بل أقدره على ضده وهو الكفر. وهكذا المؤمن يحول بينه وبين الكفر. فبان بهذا النص أنه تعالى خالق لجميع اكتساب (3) العباد خيرها وشرها. وهذا معنى قوله عليه السلام: " لا، ومقلب القلوب ". وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. قال السدي: يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلا بإذنه، ولا يكفر أيضا إلا بإذنه، أي بمشيئته. والقلب موضع الفكر. وقد تقدم في " البقرة (4) " بيانه. وهو بيد الله، متى شاء حال بين العبد وبينه بمرض أو آفة كيلا يعقل. أي بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. وقال مجاهد: المعنى يحول بين المرء (1) راجع ج 4 ص 268. (2) راجع ج 1 ص 108. (3) أي أفعالهم إذ هي مخلوقة له سبحانه والاكتساب للعبد. (4) راجع ج 1 ص 187. (*)
[ 391 ]
وعقله حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له (1) قلب " أي عقل. وقيل: يحول بينه وبينه بالموت، فلا يمكنه استدراك ما فات. وقيل: خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدو فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمنا، ويبدل عدوهم من الأمن خوفا. وقيل: المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال، وهذا جامع. واختيار الطبري أن يكون ذلك إخبارا من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل. (وأنه إليه تحشرون) عطف. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت، " وأنه " كان صوابا. قوله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلوا أن الله شديد العقاب (25) فيه مسألتان: الأولى - قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. وكذلك تأول فيها الزبير بن العوام فإنه قال يوم الجمل، وكان سنة ست وثلاثين: ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت. وكذلك تأول الحسن البصري والسدي وغيرهما. قال السدي: نزلت (الآية (2)) في أهل بدر خاصة، فأصابتهم الفتنة يوم الجمل فاقتتلوا. وقال ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر فيما بينهم فيعمهم الله بالعذاب. وعن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون بين ناس من أصحابي فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستن بهم فيها ناس بعدهم يدخلهم الله بها النار). قلت: وهذه التأويلات هي التي تعضدها الأحاديث الصحيحة، ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا (1) راجع ج 17 ص 22. (2) من ج. (*)
[ 392 ]
الصالحون ؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث ". وفي صحيح الترمذي: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده) وقد تقدمت هذه الأحاديث. وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا (1) على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ". ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل. وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا لا نساكنكم. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم. روى ابن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها. خرجه الصحيح. وروى البخاري عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم ". فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين. وروى مسلم عن عبد الله بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: عبث (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، فقلت: يا رسول الله، صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله ؟ فقال: (العجب، إن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم ". فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق (1) استهموا: افترعوا. (2) عبث: معناه اضطرب بجسمه. وقيل: حرك أطرافه كمن يأخذ شيئا أو يدفعه. (*)
[ 393 ]
قد يجمع الناس. قال: " نعم، فيهم المستبصر (1) والمحبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله تعالى على نياتهم ". فإن قيل: فقد قال الله تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى (2) ". " كل نفس بما كسبت رهينة (3) ". " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت (4) ". وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب. فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت (5) عليه فكلهم عاص. هذا بفعله وهذا برضاه. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل، فانتظم في العقوبة (6)، قاله ابن العربي. وهو مضمون الأحاديث كما ذكرنا. ومقصود الآية: واتقوا فتنة تتعدى الظالم، فتصيب الصالح والطالح. الثانية - واختلف النحاة في دخول النون في " لا تصيبن ". قال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك، فهو جواب الأمر بلفظ النهي، أي إن تنزل عنها لا تطرحنك. ومثله قوله تعالى: " ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم (7) ". أي إن تدخلوا لا يحطمنكم، فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء. وقيل: لأنه خرج مخرج القسم، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي ألا على جواب القسم. وقال أبو العباس المبرد: إنه نهي بعد أمر، والمعنى النهي للظالمين، أي لا تقربن الظلم. وحكى سيبويه: لا أرينك ها هنا، أي لا تكن ها هنا، فإنه من كان ها هنا رأيته. وقال الجرجاني: المعنى اتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا خاصة. فقوله " لا تصيبن " نهي في موضع وصف النكرة، وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا. وقرأ علي وزيد بن ثابت وأبي وابن مسعود " لتصيبن " بلا ألف. قال المهدوي: من قرأ " لتصيبن " جاز أن يكون مقصورا من " لا تصيبن " حذفت الألف كما حذفت من " ما " وهي أخت " لا " في نحو أم والله لأفعلن، وشبهه. ويجوز أن تكون مخالقة لقراءة الجماعة، فيكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة. (1) المستبصر: هو المستبين للأمر، القاصد لذلك عمدا. والمجبور: المكره. (2) راجع ج 7 ص 155 فما بعد. وج 10 ص 230 وج 17 ص 113 (3) راجع ج 19 ص 82 فما بعد. (4) راجع ج 3 ص 424 فما بعد. (5) كذا في ب وج وه وك وى. وفى ز: سكتوا. (6) عبارة ابن العربي: " فانتظم الذنب بالعقوبة ". (7) راجع ج 13 ص 169 فما بعد. (*)
[ 394 ]
قوله تعالى: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فأويكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبت لعلكم تشكرون (26) قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل) قال الكلبي: نزلت في المهاجرين، يعني وصف حالهم قبل الهجرة وفي ابتداء الإسلام. (مستضعفون) نعت. (في الأرض) أي أرض مكة. (تخافون) نعت. (أن يتحطفكم) في موضع نصب. والخطب: الأخذ بسرعة. (الناس) رفع على الفاعل. قتادة وعكرمة: هم مشركو قريش. وهب بن منبه: فارس والروم. (فآواكم) قال ابن عباس: إلى الأنصار. السدي: إلى المدينة، والمعنى واحد. أوى إليه (بالمد): ضم إليه. وأوى إليه (بالقصر): انضم إليه. (وأيديكم) قواكم. (بنصره) أي بعونه (1). وقيل: بالأنصار. وقيل: بالملائكة يوم بدر. (ورزقكم من الطيبات) أي الغنائم. (لعلكم تشكرون) قد تقدم معناه (2). قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمنتكم وأنتم تعلمون (27) روي أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. فلما نزلت شد نفسه إلى سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي. الخبر مشهور (3). وعن عكرمة قال: لما كان شأن قريظة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فيمن كان عنده من الناس، فلما انتهى إليهم وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء جبريل عليه السلام على فرس أبلق فقالت عائشة رضي الله عنها: فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه (1) في ج وك وه وى: بقوته. (2) راجع ج 1 ص 397. (3) راجع ج 8 ص 242. (*)
[ 395 ]
جبريل عليهما السلام، فقلت: هذا دحية يا رسول الله ؟ فقال: " هذا جبريل عليه السلام ". قال: " يا رسول الله ما يمنعك من بني قريظة أن تأتيهم) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فكيف لي بحصنهم " فقال جبريل: " فإني أدخل فرسي هذا عليهم ". فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا معروري (1)، فلما رآه علي رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لا عليك ألا تأتيهم، فإنهم يشتمونك. فقال: " كلا إنها ستكون تحية ". فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا إخوة القردة والخنازير) فقالوا: يا أبا القاسم، ما كنت فحاشا ! فقالوا: لا ننزل على حكم محمد، ولكنا ننزل على حكم سعد بن معاذ، فنزل. فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بذلك طرقني الملك سحرا ". فنزل فيهم " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ". نزلت في أبي لبابة، أشار إلى بني قريظة حين قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، لا تفعلوا فإنه الذبح، وأشار إلى حلقه. وقيل: نزلت الآية في أنهم يسمعون الشئ من النبي صلى الله عليه وسلم فيلقونه إلى المشركين ويفشونه. وقيل: المعنى بغلول الغنائم. ونسبتها إلى الله، لأنه هو (2) الذي أمر بقسمتها. وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه المؤدي عن الله عز وجل والقيم بها. والخيانة: الغدر وإخفاء الشئ، ومنه: (يعلم خائنة الأعين (3)) وكان عليه السلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة). خرجه النسائي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره. (وتحونوا أماناتكم) في موضع جزم، نسقا على الأول. وقد يكون على الجواب، كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد. وسميت أمانة لأنها يؤمن معها من منع الحق، مأخوذ من الأمن. وقد تقدم في " النساء " القول في أداء الأمانات والودائع (4) وغير ذلك. (وأنتم تعلمون) أي ما في الخيانة من القبح والعار. وقيل: تعلمون أنها أمانة. (1) عريانا. (2) من ج. (3) راجع ج 15 ص 301 فما بعد. (4) راجع ج 5 ص 255. (*)
[ 396 ]
قوله تعالى: واعلوا أنما أموالكم وأولدكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (28) قوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) كان لأبي لبابة أموال وأولاد في بني قريظة: وهو الذي حمله على ملاينتهم، فهذا إشارة إلى ذلك. (فتنة) أي اختبار، امتحنهم بها. (وأن الله عنده أجر عظيم) فآثروا حقه على حقكم. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيأتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم (29) قد تقدم معنى " التقوى ". وكان الله عالما بأنهم يتقون أم لا يتقون. فذكر بلفظ الشرط، لأنه خاطب العباد بما يخاطب بعضهم بعضا. فإذا اتقى العبد ربه - وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه - وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه بالنية الخالصة، وجوارحه بالأعمال الصالحة، وتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال، والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال، جعل له بين الحق والباطل فرقانا، ورزقه فيما يريد من الخير إمكانا. قال ابن وهب: سألت مالكا عن قوله سبحانه وتعالى: " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " قال: مخرجا، ثم قرأ " ومن يتق الله يجعل له مخرجا (1) ". وحكى ابن القاسم وأشهب عن مالك مثله سواء، وقاله مجاهد قبله. وقال الشاعر: مالك من طول الأسى فرقان * بعد قطين رحلوا وبانوا وقال آخر: وكيف أرجي الخلد والموت طالبي * وما لي من كأس المنية فرقان ابن إسحاق: " فرقانا " فصلا بين الحق والباطل، وقال ابن زيد. السدي: نجاة. الفراء: فتحا ونصرا. وقيل: في الآخرة، فيدخلكم الجنة ويدخل الكفار النار. (1) راجع ج 18 ص 157 فما بعد. (*)
[ 397 ]
قوله تعالى: وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير المكرين (30) هذا إخبار بما اجتمع عليه المشركون من المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، فاجتمع رأيهم على قتله فبيتوه، ورصدوه على باب منزل طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمى عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض. فلما أصبحوا خرج عليهم علي فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. الخبر مشهور في السيرة وغيرها. ومعنى " ليثبتوك " ليحبسوك، يقال: أثبته إذا حبسته. وقال قتادة: " ليثبتوك " وثاقا. وعنه أيضا وعبد الله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن تغلب وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب الشديد. قال الشاعر: فقلت ويحكما ما في صحيفتكم * قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا (أو يقتلوك أو يخرجوك) عطف. (ويمكرون) مستأنف. والمكر: التدبير في الأمر في خفية. (والله خير الماكرين) ابتداء وخبر. والمكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من حيث لا يشعرون. قوله تعالى: وإذا تتلى عليهم ءايتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أسطير الأولين (31) نزلت في النضر بن الحارث، كان خرج إلى الحيرة في التجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكسرى وقيصر، فلما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار من مضى قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا. وكان هذا وقاحة وكذبا. وقيل: إنهم توهموا أنهم
[ 398 ]
يأتون بمثله، كما توهمت سحرة موسى، ثم راموا ذلك فعجزوا عنه وقالوا عنادا: إن هذا إلا أساطير الأولين. وقد تقدم (1). قوله تعالى: وإذا قالوا اللهم إن كان هذا الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (32) القراء على نصب " الحق " على خبر (كان). ودخلت (هو) للفصل. ويجوز (هو الحق) بالرفع. (من عندك) قال الزجاج: ولا أعلم أحدا قرأ بها. ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها ولكن القراءة سنة، لا يقرأ فيها إلا بقراءة مرضية. واختلف فيمن قال هذه المقالة، فقال مجاهد وابن جبير: قائل هذا هو النضر بن الحارث. أنس بن مالك: قائله أبو جهل، رواه البخاري ومسلم. ثم يجوز أن يقال: قالوه لشبهة كانت في صدورهم، أو على وجه العناد والإبهام على الناس أنهم على بصيرة، ثم حل بهم يوم بدر ما سألوا حكي أن ابن عباس لقيه رجل من اليهود، فقال اليهودي: ممن أنت ؟ قال: من قريش. فقال: أنت من القوم الذين قالوا: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية. فهلا عليهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ! إن هؤلاء قوم يجهلون. قال ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي، من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه، وأنجى موسى وقومه، حتى قالوا: " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (2) " فقال لهم موسى: " إنكم قوم تجهلون " فأطرق اليهودي مفحما. (فأمطر) أمطر في العذاب. ومطر في الرحمة، عن أبي عبيدة. وقد تقدم. قوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يسغفرون (33) (1) راجع ج 6 ص 404. (2) راجع ص 273 من هذا الجزء. (*)
[ 399 ]
لما قال أبو جهل: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية، نزلت " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " كذا في صحيح مسلم. وقال ابن عباس: لم يعذب أهل قرية حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم منها والمؤمنون، يلحقوا بحيث أمروا. (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) ابن عباس: كانوا يقولون في الطواف: غفرانك. والاستغفار وإن وقع من الفجار يدفع به ضرب من الشرور والإضرار. وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم. أي وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا عذبهم الله يوم بدر وغيره،. قاله الضحاك وغيره. وقيل: إن الاستغفار هنا يراد به الإسلام. أي " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " أي يسلمون، قاله مجاهد وعكرمة. وقيل: " وهم يستغفرون " أي في أصلابهم من يستغفر الله. روي عن مجاهد أيضا. وقيل: معنى " يستغفرون " لو استغفروا. أي لو استغفروا لم يعذبوا. استدعاهم إلى الاستغفار، قاله قتادة وابن زيد. وقال المدائني عن بعض العلماء قال: كان رجل من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسرفا على نفسه، لم يكن يتحرج، فلما أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف ورجع عما كان عليه، وأظهر الدين والنسك. فقيل له: لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك. قال: كان لي أمانان، فمضى واحد وبقي الآخر، قال الله تبارك وتعالى: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " فهذا أمان. والثاني " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ". قوله تعالى: وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون (34) قوله تعالى: (وما لهم ألا يعذبهم الله) المعنى: وما يمنعهم من أن يعذبوا. أي إنهم مستحقون العذاب لما ارتكبوا من القبائح والأسباب، ولكن لكل أجل كتاب، فعذبهم الله
[ 400 ]
بالسيف بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك نزلت: " سأل سائل بعذاب واقع (1) " وقال الأخفش: إن " أن " زائدة. قال النحاس: لو كان كما قال لرفع " يعذبهم ". " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي إن المتقين أولياؤه. قوله تعالى: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون (36) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخسرون (37) قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة في ظنهم والمكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق، قاله مجاهد والسدي وابن عمر رضي الله عنهم. ومنه قول عنترة: وحليل غانية تركت مجدلا * تمكو فريصته كشدق الأعلم (2) أي تصوت. ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح. قال السدي: المكاء الصفير، على لحن (3) طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء. قال الشاعر: إذا غرد المكاء في غير روضة * فويل لأهل الشاء والحمرات قتادة: المكاء ضرب بالأيدي، والتصدية صياح. وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون (ويصعقون (4)). وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء، ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد أنه (1) راجع ج 18 ص 278. (2) الحليل: الزوج. ويروى: وخليل بالخاء المعجمة. الفريصة: الموضع الذى يرعد من الدابة والإنسان إذا خاف. والأعلم: المشقوق الشفة العليا. (3) من ج وه وك وز وى. وفى ب: نحو. (4) من ب وج وه وز ك وى. (*)
[ 401 ]
قال: المكاء إدخالهم أصابعهم في أفواههم. والتصدية: الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. قال النحاس: المعروف في اللغة ما روي عن ابن عمر. حكى أبو عبيد وغيره أنه يقال: مكا يمكو ومكاء إذا صفر. وصدى يصدي تصدية إذا صفق، ومنه قول عمرو بن الإطنابة (1): وظلوا جميعا لهم ضجة * مكاء لدى البيت بالتصدية أي بالتصفيق. سعيد بن جبير وابن زيد: معنى التصدية صدهم عن البيت، فالأصل على هذا تصدده، فأبدل من أحد الدالين ياء. (ليميز الله الخبيث من الطيب) أي المؤمن من الكافر. وقيل: هو عام في كل شئ، من الأعمال والنفقات وغير ذلك. قوله تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38) فيه مسائل: الأولى - قوله تعالى: (قل للذين كفروا) أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى، وسواء قال بهذه العبارة أو غيرها. قال ابن عطية: ولو كان كما ذكر الكسائي أنه في مصحف عبد الله بن مسعود " قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم " لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها، هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ. الثانية - قوله تعالى: (إن ينتهوا) يريد عن الكفر. قال ابن عطية: ولا بد، والحامل على ذلك جواب الشرط " يغفر لهم ما قد سلف " ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر. ولقد أحسن القائل أبو سعيد أحمد بن محمد الزبيري: يستوجب العفو الفتى إذا اعترف * ثم انتهى عما أتاه واقترف لقوله سبحانه في المعترف * إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف (1) في القاموس وشرحه: " والإطنابة امرأة من بنى كنانة بن القيس بن جسر بن قضاعة، وعمرو ابنها شاعر مشهور، واسم أبيه زيد مناة ". (*)
[ 402 ]
روى مسلم عن أبي شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت يبكي طويلا. الحديث. وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله " الحديث. قال ابن العربي: هذه لطيفة من الله سبحانه من بها على الخلق، وذلك أن الكفار يقتحمون الكفر والجرائم، ويرتكبون المعاصي والمآثم، فلو كان ذلك يوجب مؤاخذة لهم لما استدركوا أبدا توبة ولا نالتهم مغفرة. فيسر الله تعالى عليهم قبول التوبة عند الإنابة، وبذل المغفرة بالإسلام، وهدم جميع ما تقدم، ليكون ذلك أقرب لدخولهم في الدين، وأدعى إلى قبولهم لكلمة المسلمين، ولو علموا أنهم يؤاخذون لما تابوا ولا أسلموا. وفي صحيح مسلم: أن رجلا فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفسا ثم سأل هل له من توبة فجاء عابدا فسأل هل له من توبة فقال: لا توبة لك فقتله فكمل به مائة، الحديث. فانظروا إلى قول العابد: لا توبة لك، فلما علم أنه قد أيئسه قتله، فعل الآيس من الرحمة. فالتنفير مفسدة للخليفة، والتيسير مصلحة لهم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا جاء إليه رجل لم يقتل فسأل: هل لقاتل من توبة ؟ فيقول: لا توبة، تخويفا وتحذيرا. فإذا جاءه من قتل فسأله: هل لقاتل من توبة ؟ قال له: لك توبة، تيسيرا وتأليفا. وقد تقدم. الثالثة - قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك فيمن طلق في الشرك ثم أسلم: فلا طلاق له. وكذلك من حلف فأسلم فلا حنث عليه. وكذا من وجبت عليه هذه الأشياء، فذلك مغفور له. فأما من افترى على مسلم ثم أسلم أو سرق ثم أسلم أقيم عليه الحد للفرية والسرقة. ولو زنى وأسلم، أو اغتصب مسلمة سقط عنه الحد. وروى أشهب عن مالك أنه قال: إنما يعني الله عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام، من مال أو دم أو شئ. قال ابن العربي: وهذا هو الصواب، لما قدمناه من عموم قوله تعالى: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف "، وقوله: (الإسلام يهدم ما قبله)، وما بيناه من المعنى من التيسير وعدم التنفير. قلت: أما الكافر الحربي فلا خلاف في إسقاط ما فعله في حال كفره في دار الحرب. وأما إن دخل إلينا بأمان فقذف مسلما فإنه يحد، وإن سرق قطع. وكذلك الذمي إذا قذف
[ 403 ]
حد ثمانين، وإذا سرق قطع، وإن قتل قتل. ولا يسقط الإسلام ذلك عنه لنقضه العهد حال كفره، على رواية ابن القاسم وغيره. قال ابن المنذر: واختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين، فحكي عن الشافعي رضي الله عنه إذ هو بالعراق لا حد عليه ولا تغريب، لقول الله عز وجل: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " قال ابن المنذر: وهذا موافق لما روي عن مالك. وقال أبو ثور: إذا أقر وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أقيم عليه الحد. وحكي عن الكوفي أنه قال: لا يحد. الرابعة - فأما المرتد إذا أسلم وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات وأتلف أموالا، فقيل: حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم، لا يؤخذ بشئ مما أحدثه في حال ارتداده. وقال الشافعي في أحد قوليه: يلزمه كل حق لله عز وجل وللآدمي، بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى. وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط. قال ابن العربي: وهو قول علمائنا، لأن الله تعالى مستغن عن حقه، والآدمي مفتقر إليه. ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي وتلزمه حقوق الآدميين. قالوا: وقوله تعالى: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " عام في الحقوق لله تعالى. الخامسة - قوله تعالى: (وإن يعودوا) يريد إلى القتال، لأن لفظة " عاد " إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها. قال ابن عطية: ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال. ولا يجوز أن يتأول إلى الكفر، لأنهم لم ينفصلوا عنه، وإنما قلنا ذلك في " عاد " إذا كانت مطلقة لأنها قد تجئ في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر، فيكون معناها معنى صار، كما تقول: عاد زيد ملكا، يريد صار، ومنه قول أميه بن أبى الصلت: تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل. فهى مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونها، فحكمها حكم صار.
[ 404 ]
قوله تعالى: (فقد مضت سنة الاولين) عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله. قوله تعالى: وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير (40) إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة كان الإنسان عليها ثم انتقل عنها. قال ابن عطية: ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال. ولا يجوز أن يتأول إلى الكفر، لأنهم لم ينفصلوا عنه، وإنما قلنا ذلك في " عاد " إذا كانت مطلقة لأنها قد تجئ في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر، فيكون معناها معنى صار، كما تقول: عاد زيد ملكا، يريد صار، ومنه قول أميه بن أبى الصلت: تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل. فهى مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونها، فحكمها حكم صار.
[ 404 ]
قوله تعالى: (فقد مضت سنة الاولين) عبارة تجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله. قوله تعالى: وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير (40) قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي كفر. إلى آخر الآية تقدم معناها وتفسير ألفاظها في البقرة (1) وغيرها والحمد لله. (1) راجع ج 2 ص 353. (*)
[ 405 ]
مصححه أبو إسحاق إبراهيم أطفيش * * * تم الجزء السابع من تفسير القرطبى يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن، وأوله قوله تعالى: " واعلوا أنما غنمتم من شئ " بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء السابع من " تفسير القرطبى "