تفسير القرطبي
القرطبي ج 5
[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الخامس أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة النساء وهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها (1)) على ما يأتي بيانه. قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. وقد قال بعض الناس: إن قوله تعالى: (يا أيها الناس) حيث وقع إنما هو مكي، وقاله (2) علقمة وغيره، فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني. وقال النحاس: هذه السورة مكية. قلت: والصحيح الاول، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. وأما من قال: إن قوله: (يا أيها الناس) مكي حيث وقع فليس بصحيح، فإن البقرة مدنية وفيها قوله: (يا أيها الناس) في موضعين (3)، وقد تقدم. والله أعلم قوله تعالى: يا ايها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام أن الله كان عليكم رقيبا (1) فيه ست (4) مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يا ايها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم) قد مضى في (البقرة) اشتقاق (الناس) ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث، فلا معنى للاعادة (5) (1) راجع ص 255 من هذا الجزء. (2) في ه: قال، وسائر الاصول: قاله. (3) راجع ج 1 ص 235 وج 2 ص 207 (4) في دوط وى وب: سبع، والمسائل ست، ويبدوا ان الثالثة في قوله: وقرا ابراهيم النخعي الخ فتكون سبعا (5) راجع ج 1 ص 136 و 161 و 226 و 310 وج 2 ص 196 (*)
[ 2 ]
وفي الآية تنبيه على الصانع. وقال (واحدة) على تأنيث لفظ النفس. ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر. ويجوز في الكلام (من نفس واحد) وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام، قاله مجاهد وقتادة. وهي قراءة ابن أبي عبلة (واحد) بغير هاء. (وبث) [ معناه ] (1) فرق ونشر في الارض، ومنه (وزرابي مبثوثة) (2) وقد تقدم في (البقرة). و (منها) يعني آدم وحواء. قال مجاهد: خلقت حواء من قصيرى (4) آدم. وفي الحديث: (خلقت المرأة من ضلع عوجاء)، وقد مضى في البقرة. (رجالا كثيرا ونساء) حصر ذريتهما في نوعين، فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في (البقرة (5)) من اعتبار نقص الاعضاء وزيادتها. الثانيه - قوله تعالى: (واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام) كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين. و (الذي) في موضع نصب على النعت. (والارحام) معطوف. أي اتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الارحام أن تقطعوها. وقرأ أهل المدينة (تساءلون) بإدغام التاء في السين. وأهل الكوفة بحذف (6) التاء، لاجتماع تاءين، وتخفيف السين، لان المعنى يعرف، وهو كقوله: (ولا تعاونوا على الاثم (7)) و (تنزل) وشبهه. وقرأ (8) إبراهيم النخعي وقتادة والاعمش وحمزة (الارحام) بالخفض. وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم: هو لحن لا تحل القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح، ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه، قال النحاس: فيما علمت. وقال سيبويه: لم يعطف على المضمر المخفوض، لانه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال جماعة: هو معطوف على المكني، فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل: (1) من ب وج وز و ط ود. (2) راجع ج. 2 ص 33 (3) راجع ج 2 ص 196. (4) القصيرى: أسفل الاضلاع. وقيل: الضلع التى تلى الشاكلة بين الجنب والبطن. (5) راجع ج 1 ص 301 (6) في د وى وب: تحذف. (7) راجع ج 6 ص 47. (8) لعل هذا أول المسألة الثالثة على نسخ سبع مسائل. (*)
[ 3 ]
سألتك بالله والرحم، هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة، على ما يأتي. وضعفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف [ الاسم (1) ] الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض، كقوله (فخسفنا به وبداره الارض (2)) ويقبح (مررت به وزيد). قال الزجاج عن المازني: لان المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز (مررت بزيد وك) كذلك لا يجوز (مررت بك وزيد). وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر، كما قال: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا * فاذهب فما بك والايام من عجب عطف (الايام) على الكاف في (بك) بغير الباء للضرورة. وكذلك قول الآخر: نعلق في مثل السواري سيوفنا * وما بينها والكعب مهوى (3) نفانف عطف (الكعب) على الضمير في (بينها) ضرورة. وقال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس. وفي كتاب التذكرة المهدية (4) عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ (ما أنتم بمصرخي (5)) و (اتقوا الله الذي تساءلون به والارحام) لاخذت نعلي ومضيت. قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في اصول أمر الدين، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم) فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم. ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وإنه خاص (6) لله تعالى. قال النحاس: وقول بعضهم (والارحام) قسم خطأ من المعنى والاعراب، لان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلمة يدل على النصب. وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا (7) عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم، ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: (يا أيها الناس اتقوا ربكم، (1) من ب وج ود وط. (2) راجع ج 13 ص 317. (3) المهوى والمهواة: مابين الجبلين ونحو ذلك. والنفنف: الهواء. وقيل: الهواء بين الشيئين، وكل شئ بينه وبين الارض مهوى فهو نفنف. وفى النحاس: (وما بينها والكعب غوط نفانف) والغوط (بفتح الغين: المتسع من الارض مع طمأ نينة). (4) في ب وط وز. (المهذبة). (5) وهذه قراءة حمزة. راجع ج 9 ص 357. (6) في ط: عاص لله. (7) في ب وج وز: كنت. (*)
[ 4 ]
إلى: والارحام)، ثم قال: (تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره) وذكر الحديث (1). فمعنى هذا على النصب، لانه حضهم على صلة أرحامهم. وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت). فهذا يرد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرحم. وقد قال أبو إسحاق: معنى (تساءلون (به) يعني تطلبون حقوقكم به. ولا معنى للخفض أيضا مع هذا. قلت: هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة (والارحام) بالخفض، واختاره ابن عطية. ورده الامام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لان القراءات التى قرأبها (2) أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشك أحد في فصاحته. وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر، لانه عليه السلام قال لابي العشراء (3): (وأبيك لو طعنت في خاصرته). ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه. قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرحم، أي اتقوا الله وحق الرحم (4)، كما تقول: افعل كذا وحق أبيك. وقد جاء في التنزيل: (والنجم)، والطور، والتين، لعمرك) وهذا تكلف. قلت: لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون (والارحام) من هذا القبيل، فيكون [ أقسم بها (5) ] كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه. والله أعلم. (1) الرواية في صحيح مسلم كتاب الزكاة (تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمرة). وليس فيها تكرار. وهى الرواية ذاتها والسند. (2) في ب وط: قرأتها. (3) في تهذيب التهذيب: (أبو العشراء الدارمي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو طعنت في فحذها الا جزأك) الحديث في الذكاة. (4) في ج: الارحام. (5) في ب وج وط ود وى. (*)
[ 5 ]
ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسما. والعرب تقسم بالرحم. ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها (1) كما حذفها في قوله: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة * ولا ناعب إلا ببين غرابها فجر وإن لم يتقدم باء. قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه. ومنه قوله: آبك أيه بي أو مصدر * من حمر الجلة جأب حشور (2) ومنه: * فاذهب فما بك والايام من عجب * وقول الآخر: * وما بينها والكعب غوط نفانف * ومنه: * فحسبك والضحاك سيف مهند * وقول الآخر: وقد رام آفاق السماء فلم يجد * له مصعدا فيها ولا الارض مقعدا وقول الآخر: ما إن بها والامور من تلف * ما حم من أمر غيبه (3) وقعا وقول الآخر: أمر على الكتيبة لست أدري * أحتفي كان فيها أم سواها ف (سواها) مجرور الموضع بفي. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى: (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين (4)) فعطف على الكاف والميم. وقرأ عبد الله بن يزيد (والارحام) بالرفع على الابتداء، والخبر مقدر، تقديره: والارحام أهل أن توصل. ويحتمل أن يكون إغراء، لان من العرب من يرفع المغرى. وأنشد [ الفراء (5) ]: (1) كذا في الاصول. الاولى: فحذفت. بالبناء المجهول تأدبا. (2) آبك: مثل ويلك. والنأيبه: الدعاء، يقال: أمت ؟ بالابل إذا صحت بهاء والمصدر: الشديد الصدر. والجأب: العليظ. والحشور: الخفيف. والجلة: المسان، وأحدها جليل. والشاهد في عطف (المصدر) على المضمر المجرور دون إعادة الجار. (3) في ج وب وز: أمر غيبة. (4) راجع ج 10 ص 12 (5) من ز وج وه وى. (*)
[ 6 ]
إن قوما منهم عمير وأشبا * ه عمير ومنهم السفاح لجديرون باللقاء إذا قا * ل أخو النجدة السلاح السلاح وقد قيل: إن (والارحام) بالنصب عطف على موضع به، لان موضعه نصب، ومنه قوله: * فلسنا بالجبال ولا الحديدا (1) * وكانوا يقولون: أنشدك بالله والرحم. والاظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا. الثالثة - اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لاسماء وقد سألته [ أأصل أمي (2) ] (نعم (3) صلي أمك) فأمرها بصلتها وهي كافرة. فلتأ كيدها دخل الفضل في صلة الكافر، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوى الارحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم، وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر). وهو قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق. ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الاول - أنه مخصوص بالاباء والاجداد. الثاني - الجناحان يعني الاخوة. الثالث - كقول أبي حنيفة. وقال الشافعي: لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته. والصحيح الاول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي. وأحسن طرقه رواية النسائي له، رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه). وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الائمة بعلة توجب تركه، غير أن النسائي قال في آخره: هذا حديث منكر. وقال غيره: تفرد به ضمرة. وهذا هو معنى المنكر والشاد في اصطلاح المحدثين. وضمرة عدل ثقة، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره. والله أعلم. (1) هذا عجز بيت لعقيبة الاسدي، وصدره: * معاوى اننا بشر فأسجح * أراد معاوية بن أبى سفيان. شكا إليه جور عماله. واسجح: سهل وأرفق. (2) من ز. (3) من ابن العربي. (*)
[ 7 ]
الرابعة - واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة. فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث. وقال (1) شريك القاضي بعتقهم. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الاب لا يعتق على الابن إذا ملكه، واحتجوا بقوله عليه السلام: (لا يحزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه). قالوا: فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك، ولصاحب الملك التصرف. وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع، فإن الله تعالى يقول: (وبالوالدين إحسانا (2)) فقد قرن بين عبادته وبين الاحسان للوالدين في الوجوب، وليس من الاحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه، فإذا يجب عليه عتقه إما لاجل الملك عملا بالحديث (فيشتريه فيعتقه)، أو لاجل الاحسان عملا بالاية. ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الايقاع منه. وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك، فوجه القول الاول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالاب المذكور في الحديث، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الاب، والاخ يقاربه في ذلك لانه يدلي بالابوة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه. وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه. والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: (والارحام) الرحم اسم لكافة الاقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في (3) منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الاعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة، ولذلك تعلق بها الارث والولاية وغيرهما من الاحكام. فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند. وهم يرون ذلك نسخا، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة، وقد جوزوها في حق بني الاعمام وبني (4) الاخوال والخالات. والله أعلم. السادسة - قوله تعالى: (أن الله كان عليكم رقيبا) أي حفيظا، عن ابن عباس ومجاهد. ابن زيد: عليما. وقيل: (رقيبا) حافظا، قيل: بمعنى فاعل. فالرقيب من صفات الله تعالى، والرقيب: الحافظ والمنتظر، تقول: رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت. (1) في ج وز وط: وكان شريك القاضى يعتقهم. (2) راجع ج 10 ص 236. (3) في ب: من. (4) في ب وج ود وط وى. (*)
[ 8 ]
والمرقب: المكان العالي المشرف، يقف عليه الرقيب. والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. (1). ويقال: إن الرقيب ضرب من الحيات، فهو لفظ مشترك. والله أعلم. قوله تعالى: وأتوا اليتامى اموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا اموالهم إلى اموالكم انه كان حوبا كبيرا (2) فيه خمس مسائل: الاولى قوله تعالى: (وآتوا اليتامى اموالهم) وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما، كقوله: (وألقي السحرة ساجدين (2)) ولا سحر مع السجود، فكذلك لا يتم مع البلوغ (3). وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يتيم أبي طالب) استصحابا لما كان. (وآتوا) أي أعطوا. والايتاء الاعطاء. ولفلان أتو، أي عطاء. أبو زيد: أتوت الرجل آتوه إتاوة، وهي الرشوة. واليتيم من لم يبلغ الحلم، وقد تقدم في (البقرة) مستوفى (4). وهذه الاية خطاب للاولياء والاوصياء. نزلت - في قول مقاتل والكلبي - في رجل من غطفان [ كان معه (5) ] مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه، فنزلت، فقال العم: نعوذ بالله من الحوب (6) الكبير ! ورد المال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره) يعني جنته. فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله، فقال عليه السلام: (ثبت الاجر وبقي الوزر). فقيل: كيف يا رسول الله ؟ فقال: (ثبت الاجر للغلام وبقي الوزر على والده) لانه كان مشركا. الثانية - وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين: أحدهما - إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية، إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الاخذ الكلى والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير. الثاني - الايتاء بالتمكن وإسلام المال إليه، وذلك عند الابتلاء والارشاد، (1) وهى: الفذ، التوأم، الرقيب، الحلس، النافز، المسبل، المعلى. راجع ج 2 ص 58 (2) راجع ج 7 ص 260 (3) الحديث (لا يتم بعد احتلام). (4) راجع ج 2 ص 14 (5) في ب وج وط وى. (6) الحوب: الاثم. (*)
[ 9 ]
وتكون تسميته مجازا، المعنى: الذي كان يتيما، وهو استصحاب الاسم، كقوله تعالى: (وألقي السحرة ساجدين) أي الذين كانوا سحرة. وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يتيم أبي طالب). فإذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ما له كله على كل حال، لانه يصير جدا. قلت: لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم). قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن: لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما، فأقول: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد، وجب دفع المال إليه، وإن كان دون ذلك لم يجب، عملا بالآيتين (2). وقال أبو حنيفة: لما بلغ [ رشده (2) ] صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح (3) إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم ؟ ! وهل ذلك إلا في غاية البعد ؟. قال ابن العربي: وهذا باطل لا وجه له، لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص، وليس في هذه المسألة. وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى. الثالثة - قوله تعالى: (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) أي لا تتبدلو الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة، ولا الدرهم الطيب بالزيف. وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى، فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالردئ من أموالهم، ويقولون: اسم باسم ورأس برأس، فنهاهم الله عن ذلك. هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم. وقال مجاهد وأبو صالح وباذان: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعو انتظارا الرزق الحلال من [ عند (4) ] الله. وقال ابن زيد: (1) راجع أحكام الجصاص ج 1 ص 489، وج 2 ص 49 في اختلاف العبارة. (2) من ب وى وط. وفى غيرها: أشده. (3) في أ وه: يصلح. (4) من ب وط وى وز. (*)
[ 10 ]
كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الاكبر الميراث. عطاء: لا تربح يتيمك الذي عندك وهو غر صغير. وهذان القولان خارجان (1) عن ظاهر الآية، فإنه يقال: تبدل الشئ بالشئ أي أخذه مكانه. ومنه البدل. الرابعة - قوله تعالى: (ولا تأكلوا لهم إلى أموالكم) قال مجاهد: وهذه الاية ناهية عن الخلط في الانفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله (ان تخالطوهم فاخوانكم (2)). وقال ابن فورك عن الحسن: تأول الناس في هذه الاية النهى عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم فخفف عنهم في آية البقرة (2). وقالت طائفة من المتأخرين: ان (إلى) بمعنى مع، كقوله تعالى: (من أنصارى إلى الله (3)). وأنشد القتبى: يسدون أبواب القباب بضمر * إلى عنن مستوثقات الاواصر (4) وليس بجيد. وقال الحذاق: (إلى) على بابها وهي تتضمن الا ضافة، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الاكل. فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالاكل والانتفاع. الخامسة - قوله تعالى: (انه كان حوبا كبيرا) (أنه) أي الاكل. (كان حوبا كبيرا) أي إثما كبيرا، عن ابن عباس والحسن وغيرهما. يقال: حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم. وأصله الزجر للابل، فسمي الاثم حوبا، لانه يزجر عنه وبه. ويقال في الدعاء: اللهم اغفر حوبتي، أي إثمي. والحوبة أيضا الحاجة. ومنه في الدعاء: إليك أرفع حوبتي، أي حاجتي. والحوب الوحشة، ومنه قوله عليه السلام لابي أيوب: (إن طلاق أم أيوب لحوب). وفيه ثلاث لغات (حوبا) بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز. وقرأ الحسن (حوبا) بفتح الحاء. وقال الاخفش: وهي لغة تميم. مقاتل: لغه الحبش. (1) في ب وج وى وط وه: خارج. (2) راجع ج 3 ص 62 (3) راجع ج 18 ص 89 (4) البيت لسلمة بن الحرشب يصف الحيل، يريد خيلا ربطت بأفنيتهم. والعنن: كنف سترت بها الخيل من الربح والبرد، والاواصر: الاواخى والاوارى واحدتها آصرة، وهو حبل يدفن في الارض ويبرز منه كالعروة تشدء إليه الداية. (عن اللسان مادتي أصروأخا). (*)
[ 11 ]
والحوب المصدر، وكذلك الحيابة. والحوب الاسم. وقرأ أبي بن كعب (حابا) على المصدر مثل القال. ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد. والحوأب (بهمزة بعد الواو): المكان الواسع. والحوأب ماء أيضا. ويقال: ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة، ومنه قولهم: بات بحيبة سوء. وأصل الياء الواو. وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه. والتحوب أيضا التحزن. وهو أيضا الصياح الشديد، كالزجر، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل: فذقوا كما ذقنا غداة محجر (1) * من الغيظ في أكبادنا (1) والتحوب قوله تعالى: وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3) فيه أربع عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وان خفتم) شرط، وجوابه (فانكحوا). أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفى النفقة عليهن (فانكحوا ما طاب لكم) أي غيرهن. وروى الا ئمة واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة في قول الله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ما له فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. وذكر الحديث. وقال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه، ويبيع من نفسه من غير محاباة. وللموكل النظر فيما اشترى وكيله لنفسه أو باع منها. وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك. فأما الاب فليس لاحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه (1) محجر (كمعظم ومحدث): اسم موضع، وفى الديوان: في أجوافنا. (*)
[ 12 ]
السلطان حينئذ، وقد مضى في (البقرة (1)) القول في هذا. وقال الضحاك والحسن وغير هما: إن الاية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الاسلام، من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء، فقصرتهن الاية على أربع. وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما: المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء، لانهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء و (خفتم) من الاضداد، فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع، وقد يكون مظنونا، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف. فقال أبو عبيدة: (خفتم) بمعنى أيقنتم. وقال آخرون: (خفتم) ظننتم. قال ابن عطية: وهذا الذي اختاره الحذاق، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين. التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها. و (تقسطوا) معناه تعدلوا. يقال: أقسط الرجل إذا عدل. وقسط إذا جار وظلم صاحبه. قال الله تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (2)) يعني الجائرون. وقال عليه السلام: (المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة) يعني العادلين. وقرأ ابن وثاب والنخعي (تقسطوا) بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة (لا) كأنه قال: وإن خفتم أن تجوروا. الثانية - قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) إن قيل: كيف جاءت (ما) للادميين وإنما أصلها لما لا يعقل، فعنه أجوبة خمسة: الاول - أن (من) و (ما) قد يتعاقبان، قال الله تعالى: (والسماء وما بناها (3)) أي ومن بناها. وقال (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع (4)). فما ههنا لمن يعقل وهن النساء، لقوله بعد ذلك (من النساء) مبينا لمبهم. وقرأ ابن أبي عبلة (من طاب) على ذكر من يعقل. الثاني - قال البصريون: (ما) تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل يقال: ما عندك ؟ فيقال: ظريف وكريم. فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء، أي الحلال، وما حرمه الله فليس بطيب. وفي التنزيل (وما رب العالمين (5)) فأجابه موسى على وفق ما سأل، وسيأتي. الثالث - حكى بعض الناس أن (ما) في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون (1) راجع ج 3 ص 62. (2) راجع ج 19 ص 15 (3) راجع ج 20 ص 74 (4) راجع ج 12 ص 291 (5) راجع ج 13 ص 98 (*)
[ 13 ]
النكاح قال. ابن عطية: وفي هذا المنزع ضعف. جواب رابع - قال الفراء: (ما) ههنا مصدر. وقال النحاس: وهذا بعيد جدا، لا يصح فانكحوا الطيبة. قال الجوهري: طاب الشئ يطيب طيبة وتطيابا. قال علقمة: * كأن تطيابها في الانف مشموم (1) * جواب خامس - وهو أن المراد بما هنا العقد، أي فانكحوا نكاحا طيبا. وقراءة ابن أبي عبلة ترد هذه الاقوال الثلاثة. وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما سبح له الرعد. أي سبحان من سبح له الرعد. ومثله قولهم: سبحان ما سخر كن لنا. أي من سخر كن. واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) ليس له مفهوم، إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف. فدل على أن الاية نزلت جوابا لمن خاف ذلك، وأن حكمها أعم من ذلك. الثالثة - تعلق أبو حنيفة بهذه الاية في تجويزه (2) نكاح اليتيمة قبل البلوغ. وقال: إنما تكون يتيمة قبل البلوغ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة، بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطها عن صداق مثلها، لانها تختار ذلك فيجوز إجماعا. وذهب مالك والشافعي والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر، لقوله تعالى: (ويستفتونك في النساء) والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور، واسم الرجل لا يتناول الصغير، فكذلك اسم النساء، والمرأة لا يتناول الصغيرة. وقد قال: (في يتامى النساء) والمراد به هناك اليتامى هنا، كما قالت عائشة رضي الله عنها. فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الاية فلا تزوج إلا بإذنها، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج إلا بإذنها. كما رواه الدار قطني من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال وخطبها إليها، فرفع شأنها إلى النبي صلى الله (1) هذا عجز بيت، وصدره: * يحملن اترجة نضخ العبير بها * (2) كذا في وط وى. (*)
[ 14 ]
عليه وسلم فقال قدامة: يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها، زوجتها من قد علمت فضله وقرابته. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها) فنزعت مني وزوجها المغيرة بن شعبة. قال الدار قطني: لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع، وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه. ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال: فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي تكره ذلك. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ففارقها. وقال: (ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا سكتن فهو إذنها). فتزوجها بعد عبد الله المغيرة بن شعبة. فهذا يرد ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح. وقد مضى في (البقرة (1)) ذكره، فلا معنى لقولهم: إن هذا الحديث محمول على غير البالغة لقوله (إلا بإذنها) فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم. الرابعة - وفي تفسير عائشة للاية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل، والرد إليه فيما فسد من الصداق ووقع الغبن في مقداره، لقولها: بأدنى من سنة صداقها. فوجب أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم. وقد قال مالك: للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها. أي صدقات وأكفاء. وسئل مالك عن رجل زوج ابنته [ غنية (2) ] من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال: إني لارى لها في ذلك متكلما. فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الام عليه. وروى (لا أرى) بزيادة الالف والاول أصح. وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها، لان الاية إنما خرجت في اليتامى. هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها. الخامسة - فإذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها جاز له أن يتزوجها، ويكون هو الناكح والمنكح على ما فسرته عائشة. وبه قال أبو حنيفة والاوزاعي والثوري وأبو ثور، وقاله من التابعين الحسن وربيعة، وهو قول الليث. وقال زفر والشافعي: (1) راجع ج 3 ص 72. (2) زيادة من احكام القران لابن العربي. (*)
[ 15 ]
لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها منه ولي لها هو أقعد بها منه، أو مثله في القعدد، (1) وأما أن يتولى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحا منكحا فلا. واحتجوا بأن الولاية شرط من شروط العقد لقوله عليه السلام: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل). فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب، فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين. وفي المسألة قول ثالث، وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوجها منه. روي هذا عن المغيرة بن شعبة، وبه قال أحمد، ذكره ابن المنذر. السادسة - قوله تعالى: (ما طاب لكم من النساء) معناه ما حل لكم، عن الحسن وابن جبير وغيرهما. واكتفى بذمن يجوز نكاحه، لان المحرمات من النساء كثير. وقرأ ابن إسحاق والجحدري وحمزة (طاب) (بالامالة) وفي مصحف أبي (طيب) بالياء، فهذا دليل الامالة. (من النساء) دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحلم. وواحد النساء نسوة، ولا واحد لنسوة من لفظه، ولكن يقال امرأة. السابعة - قوله تعالى: (مثنى وثلاثو رباع) وموضعها من الاعراب نصب على البدل من (ما) وهي نكرة لا تنصرف، لانها معدولة وصفة، كذا قال أبو علي. وقال الطبري: هي معارف، لانها لا يدخلها الالف واللام، وهي بمنزلة عمر في التعريف، قاله الكوفي. وخطأ الزجاج هذا القول. وقيل: لم ينصرف، لانه معدول عن لفظه ومعناه، فأحاد معدول عن واحد واحد، ومثنى معدولة عن اثنين اثنين، وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة، ورباع عن أربعة أربعة. وفى كل واحد منها لغتان: فعال ومفعل، يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع، وكذلك إلى معشر وعشار. وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة: أحد وثنى وثلث وربع مثل عمر وزفر. وكذلك قرأ النخعي في هذه الاية. وحكى المهدوي عن النخعي وابن وثاب (ثلاث وربع) بغير ألف في ربع فهو مقصور من رباع استخفافا، كما قال: (1) اقعد: اقرب إلى الحد الاكبر. (2) القعدد (بضم القاف وفتح الدال وضمها) أملك القرابة في النسب. (3) في أ: قال. (*)
[ 16 ]
أقبل سيل جاء من عند الله * يحرد حرد الجنة المغلة (1) قال الثعلبي: ولا يزاد من هذا البناء على الاربع إلا بيت جاء عن الكميت: فلم يستر يثوك حتى رمي * ت فوق الرجال خصالا عشارا يعني طعنت عشرة. وقال ابن الدهان: وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر بالبيت لشذوذه. وقال أبو عمرو بن الحاجب: ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع. وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال ؟ فيه خلاف أصحها أنه لم يثبت. وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك. وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الاعداد غير المعدولة، تقول جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع، مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير تكرار. وهي في موضع الحال هنا وفي الاية، وتكون صفة، ومثال كون هذه الاعداد صفة يتبين في قوله تعالى: (أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع (2)) [ فهي (3) ] صفة للاجنحة [ وهي (3) ] نكرة. وقال ساعدة بن جؤية: ولكنما أهلي بواد أنيسه * ذئاب تبغي الناس مثنى وموحد (4) وأنشد الفراء: قتلنا به من بين مثنى وموحد * بأربعة منكم وآخر خامس (5) فوصف ذئابا وهي نكرة بمثنى وموحد، وكذلك بيت الفراء، أي قتلنا به ناسا، فلا تنصرف إذا هذه الاسماء في معرفة ولا نكرة. وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة. وزعم الاخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة، لانه قد زال عنه العدل. (1) حرد يحرد بالكسر حردا: قصد. (2) راجع ج 14 ص 319. (3) من ب وج وط وز. (4) تبغى الناس: تطالبهم. (5) الذى في معاني القرآن للفراء: وأن الغلام المستهام بذكره * قلنا به من بين مثنى وموحد باربعة منكم واخر خامس * وساد مع الاظلام في رمح معبد كذا في شرح السبيل. (*)
[ 17 ]
الثامنة - اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع، كما قال من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الامة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه (1) المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة، تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لاجماع الامة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وأخرج مالك في موطئه، والنسائي والدار قطني في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: (اختر منهن أربعا وفارق سائرهن). وفي كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اختر منهن أربعا). وقال مقاتل: إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر، فلما نزلت هذه الاية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا. كذا قال: (قيس بن الحارث)، والصواب أن ذلك كان حارث ابن قيس الاسدي كما ذكر أبو داود. وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: أن ذلك كان حارث ابن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء. وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته، على ما يأتي بيانه في (الاحزاب (2)). وأما قولهم: إن الواو جامعة، فقد قيل ذلك، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات. والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة. وكذلك تستقبح ممن يقول: اعط فلانا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر. وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو. ولو جاء بأو لجاز إلا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع. وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثة، (1) في ه: بهذه. (2) راجع ج 14 ص 212 (*)
[ 18 ]
ورباع أربعة، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم. وكذلك جهل الاخرين، بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث ثلاثة ثلاثة، ورباع أربعة أربعة، ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حصر للعدد. ومثنى وثلاث ورباع بخلافها. ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الاصل، وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجة. قال الجوهري: وكذلك معدول العدد. وقال غيره: إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار، فإنما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة، وليس هذا المعنى في الاصل، لانك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة. فإذا قلت جاءوني رباع وثناء فلم تحصر عدتهم. وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين. وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم. وأما اختلاف علماء المسلمين في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع وهى: التاسعة - فقال مالك والشافعي: عليه الحد إن كان عالما. وبه قال أبو ثور. وقال الزهري: يرجم إذا كان عالما، وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا. وقالت طائفة: لا حد عليه في شئ من ذلك. هذا قول النعمان. وقال يعقوب ومحمد: يحد في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك من النكاح. وذلك مثل أن يتزوج مجوسية أو خمسة (2) في عقدة أو تزوج [ متعة (3) ] أو تزوج بغير شهود، أو أمة تزوجها بغير إذن مولاها. وقال أبو ثور: إذا علم أن هذا لا يحل له يجب أن يحد فيه كله إلا التزوج بغير شهود. وفيه قول ثالث قاله النخعي في الرجل ينكح الخامسة متعمدا قبل أن تنقضي عدة الرابعة من نسائه: جلد مائة ولا ينفى. فهذه فتيا علمائنا (4) في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر فكيف بما فوقها. (1) في ا: جهله الاخرون لان. الخ. (2) في ج: أو ستة أو خمسة. (3) كذا في ط وج وب وز وه وى. وفى ا: معتدة. ولعله أحق. (4) في ط وب وج وى: علماء المسلمين. (*)
[ 19 ]
العاشرة - ذكر الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال: أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله عزوجل. فقال لها: نعم الزوج (1) زوجك. فجعلت تكرر عليه القول و [ هو (2) ] يكرر عليها الجواب. فقال له كعب الاسدي: (3) يا أمير المومنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه. فقال عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما. فقال كعب: علي بزوجها، فأتي به فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك. قال: أفي طعام أم شراب ؟ قال لا. فقالت المرأة: يا أيها القاضي الحكيم رشده * ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده * فاقض القضا كعب ولا تردده نهاره وليله ما يرقده * فلست في أمر النساء أحمده فقال زوجها: زهدني في فرشها وفي الحجل (4) * أني امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع (5) الطول * وفي كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إن لها عليك حقا يا رجل * نصيبها في أربع لمن عقل * فأعطها ذاك ودع عنك العلل * ثم قال: إن الله عزوجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك. فقال عمر، والله ما أدري من أي أمريك أعجب ؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما ؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة. وروى أبو هدبة إبراهيم (1) في ب وط: نعم الرجل. (2) من ب وط وه وز. (3) هو كعب بن سوار الازدي. راجع أسد الغابة. (4) الجحل: جمع جحلة بفتحتين، وهى بيت يزين للعروس بالثياب والاسرة والستور. (5) السبع الطول من سور القرآن وهى البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانعام والاعراف واختلفوا في السابعة فنهم من قال براءة والانفال عدهما سورة واحدة، ومنهم من جعلها سورة يونس. والطول جمع الطولى. وفى ب وج وز وه: النمل بدل النحل. (*)
[ 20 ]
ابن هدبة حدثنا أنس بن مالك قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تستعدي زوجها، فقالت: ليس لي ما للنساء، زوجي يصوم الدهر. قال: (لك يوم وله يوم، للعبادة يوم وللمرأة يوم). الحادية عشرة - قوله تعالى: (فان خفتم الا تعدلوا فواحدة) قال الضحاك وغيره: في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الاربع والثلاث والاثنين، (فواحدة). فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة. وذلك دليل على وجوب ذلك، والله أعلم. وقرئت بالرفع، أي فواحدة فيها كفاية أو كافية. وقال الكسائي: فواحدة تقنع. وقرئت بالنصب بإضمار فعل، أي فانكحوا واحدة. الثانية عشرة - قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) يريد الاماء. وهو عطف على (فواحدة) أي إن خاف ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه. وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في الوطئ ولا القسم، لا ن المعنى (فإن خفتم ألا تعدلوا) في القسم (فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة، فانتفى بذلك أن يكون للاماء حق في الوطئ أو في القسم. إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق. وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها. ألا ترى أنها المنفقة ؟ كما قال عليه السلام: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الالية يمينا، وهي المتلقية لرايات المجد، كما قال: إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين (1) الثالثة عشرة - قوله تعالى: (ذلك أدنى ألا تعولوا) أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. يقال: عال الرجل يعول إذا جار ومال. ومنه قولهم: عال السهم عن الهدف مال عنه. قال ابن عمر: إنه لعائل الكيل والوزن، قال الشاعر: (1) البيت للشماخ، يمدح عرابة الاوسي. وقبله: رأيت عرابة الاوسي يسمو * إلى الخيرات منقطع القرين (*)
[ 21 ]
قالوا (1) اتبعنا رسول الله واطرحوا * قول الرسول وعالوا في الموازين أي جاروا. وقال أبو طالب: بميزان صدق لا يغل (2) شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل يريد غير مائل. وقال آخر: ثلاثة أنفس وثلاث ذود * لقد عال الزمان على عيالي (3) أي جار ومال. وعال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة. ومنه قوله تعالى: (وإن خفتم عيلة (4)). ومنه قول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه * وما يدرى الغنى متى يعيل (5) وهو عائل وقوم عيلة، والعيلة والعالة الفاقة، وعالني الشئ يعولني إذا غلبني وثقل علي، وعال الامر اشتد وتفاقم. وقال الشافعي: (ألا تعولوا) ألا تكثر عيالكم. قال الثعلبي: وما قال هذا غيره، وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياليه. وزعم ابن العربي أن عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال: عال مال، الثاني زاد، الثالث جار، الرابع افتقر، الخامس أثقل، حكاه ابن دريد. قالت الخنساء: * ويكفي العشيرة (6) ما عالها * السادس عال قام بمئونة العيال، ومنه قوله عليه السلام: (وابدأ بمن تعول). السابع عال غلب، ومنه عيل صبره (7). أي غلب. ويقال: أعال الرجل كثر عياليه. وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح. (1) في اللسان مادة عول: انا تبعنا... الخ. (2) في ج: يخيس. وفي ابن عطية رواية: بميزان قسط لا يخيس شعيرة * ووازن صدق وزنه غير عائل (3) البيت للحطيئة. وفيه شاهد آخر، وهو تذكير الثلاثة والنفس مؤنثة لحملها على معنى الشخص وثلاث ذود: أنوق كان يقوم بها على عياله ففضلت له، في ب وى وط د: نحن ثلاثة. وهى رواية الاغانى ج 2 ص 173 (4) راجع ج 8 ص 106 (5) البيت لاحيحة بن الجلاح وبعده: وما تدرى إذا أزمعت أمرا * تأى الارض يدركك المقيل (6) في ديوانها: وما كان أدنى ولكنه * سيكفى العشيرة ما عالها (7) في ب وه: صبرى. (*)
[ 22 ]
قلت: أما قول الثعلبي (ما قاله غيره) فقد الدار قطني في سننه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد، فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعي إليه. وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر وعدم الصحة فلا يصح. وقد ذكرنا: عال الامر اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري. وقال الهروي في غريبيه: (وقال أبو بكر: يقال عال الرجل في الارض يعيل فيها أي (1) ضرب فيها. وقال الاحمر: يقال عالني الشئ يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك). وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدوري وابن الاعرابي. قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أي كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا، ولعله لغة. قال الثعلبي المفسر: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير، وأنشد: وإن الموت يأخذ كل حي * بلا شك وإن أمشى وعالا يعني وإن كثرت ماشيته وعياله. وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت (2) أن آخذ عن لاحن لحنا. وقرأ طلحة بن مصرف (ألا تعيلوا) وهي حجة الشافعي رضي الله عنه. قال ابن عطية: وقدح الزجاج وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السرارى وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال. وهذا القدح غير صحيح، لان السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما [ العيال (3) ] القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وحكى ابن الاعرابي أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله. الرابعة عشرة - تعلق بهذه الاية من أجاز للمملوك أن يتزوج أربعا، لان الله تعالى قال: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) يعني ما حل (مثنى وثلاث ورباع) ولم يخص عبدا من حر. وهو قول داود والطبري وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئه، وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب. وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين، قال وهو قول الليث. فال أبو عمر: قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري (1) قى ط: إذا. (2) في ب وى ط وز: حييت. (3) الزيادة في ط وج وب، وابن عطية، والبحر. (*)
[ 23 ]
والليث بن سعد: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين، وبه قال أحمد وإسحاق. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب و عبد الرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين، ولا أعلم لهم مخالفا من الصحابة. وهو قول الشعبي (1) وعطاء وابن سيرين والحكم (2) وإبراهيم [ وحماد (3) ]. والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه وحده. وكل من قال حده نصف حد الحر، وطلاقه تطليقتان، وإيلاؤه شهران، ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال: تناقض في قوله (ينكح أربعا) والله أعلم. قوله تعالى: وءاتو النساء صدقاتهن نخلة فان طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيا مريا (4) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن) الصدقات جمع، الواحدة صدقة. قال الاخفش: وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت. قال المازني: يقال صداق المرأة ء [ بالكسر (4) ]، ولا يقال بالفتح. وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس. والخطاب في هذه الاية للازواج، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج. أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لازواجهم. وقيل: الخطاب للاولياء، قاله أبو صالح. وكان الولي يأخذ مهر المراة ولا يعطيها شيئا، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن. قال في رواية الكلبي: أن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة (5) لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير، فنزل: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة). وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي ان المراد بالاية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور. والاول أظهر، فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للازواج فهم المراد، لانه قال: (وإن خفتم (1) في ب: الشافعي. في ا: الحسن. (2) في ط وج. (3) من ج وط. (4) من النحاس. (5) في ج وب وط: في العشيرة. (*)
[ 24 ]
ألا تقسطوا في اليتامى) إلى قوله: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة). وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الاول فيها هو الاخر. الثانية - هذه الاية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض [ أهل العلم (1) ] من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يحجب فيه صداق، وليس بشئ، لقوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) فعم. وقال: (فانكحوهن بإذن أهلهن وأتوهن أجورهن بالمعرف (2)). وأجمع العلماء أيضا أنه لاحد لكثيره، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله: (وآتيتم إحداهن قنطارا (3)). وقرأ الجمهور (صدقاتهن) بفتح الصاد وضم الدال. وقرأ قتادة (صدقاتهن) بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد (صدقتهن). الثالثة - قوله تعالى: (نحلة) النحلة والنحلة، بكسر النون وضمها لغتان. وأصلها من العطاء، نحلت فلانا شيئا أعطيته. فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة. وقيل: (نحلة) أي عن طيب نفس من الازواج من غير تنازع. وقال قتادة: معنى (نحلة) فريضة واجبة. ابن جريج وابن زيد: فريضة مسماة. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة. وقال الزجاج: (نحلة) تدينا. والنحلة الديانة والملة. يقال: هذا نحلته أي دينه. وهذا يحسن (4) مع كون الخطاب للاولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية، حتى قال بعض النساء في زوجها: * لا يأخذ الحلوان من بناتنا * تقول: لا يفعل ما يفعله غيره. فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء. و (نحلة) منصوبة على أنها حال من الازواج بإضمار فعل من لفظها تقديره أنحلوهن نحلة. وقيل: هي نصب على التفسير. وقيل: هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال. الرابعة - قوله تعالى: (فان طبن لكم عن شئ منه نفسا) مخاطبة للازواج، ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة، وبه قال جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها. (1) سقطت جملة: أهل العلم. من ب وز ج وه وط وى. (2) راجع ص 141 من هذا الجزء. (3) ص 98 من هذا الجزء. (4) أو ح: حسن. (*)
[ 25 ]
وزعم الفراء أنه مخاطبة للاولياء، لانهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. والقول الاول أصح، لانه لم يتقدم (1) للاولياء ذكر، والضمير في (منه) عائد على الصداق. وكذلك قال عكرمة وغيره. وسبب الاية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شئ مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت (فإن طبن لكم). الخامسة - واتفق العلماء على أن المرأة المالكة لامر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه. إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه، واحتج بقوله: (فإن طبن لكم عنه شئ منه نفسا) وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا. قال ابن العربي: وهذا باطل، لانها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها، إذ ليس المراد صورة الاكل، وإنما هو كناية عن الاحلال والاستحلال، وهذا بين. السادسة - فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها، وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها، ثم تزوج عليها فلا شئ لها عليه في رواية ابن القاسم، لانها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه. كما اشترط أهل بريرة (2) أن تعتقها عائشة والولاء لبائعها، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط. كذلك ههنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة (3). قال ابن عبد الحكم: إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشئ، وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها، لانه شرط على نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام: (المؤمنون عند شروطهم). السابعة - وفي الاية دليل على أن العتق لا يكون صداقا، لانه ليس بمال، إذ لا يمكن المرأة هبته ولا الزوج أكله. وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي. وقال أحمد ابن حنبل وإسحاق ويعقوب: يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق، على حديث صفية (4) - (1) في ج وب وز وط: لم يجئ. (2) بريرة: مولاة عائشة رضى الله عنها كانت لعتية بن أبى لهب. وقيل: لبعض بنى هلال، فكاتبوها ثم باعوها فاشترتها عائشة، وجاء الحديث في شأنها بأن الولاء لمن أعتق. (3) كذا في الاصول. وكان ينبغى: ويبطل ما التزمه، وقد يريد بالزيجة الهيئة التى حصل عليها العقد. (4) هي صفية بنت حيى بن أخطب، سپاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. (*)
[ 26 ]
رواه الائمة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وروي عن أنس أنه فعله، وهو راوي حديث صفية. وأجاب الاولون بأن قالوا: لا حجة في حديث صفية، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق، وقد أراد زينب فحرمت على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق. فلا ينبغى الاستدلال بمثل هذا، والله أعلم. الثامنة - قوله تعالى: (نفسا) قيل: هو منصوب على البيان. ولا يجيز سيبوية ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان، وأجاز ذلك المازني وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا. وأنشد: * وما كان نفسا بالفراق تطيب (1) * وفي التنزيل (خشعا أبصارهم يخرجون (2)) فعلى هذا يجوز (شحما تفقأت. ووجها حسنت). وقال أصحاب سيبويه: إن (نفسا) منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا، وليست منصوبة على التمييز، وإذا كان هذا فلا حجة فيه. وقال الزجاج. الرواية: * وما كان نفسي... * واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما. التاسعة - قوله تعالى: (فكلوه) ليس المقصود صورة الاكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعني بقوله في الاية التي بعدها (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما). وليس المراد نفس الاكل، إلا أن الاكل لما كان أو في (3) أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات بالاكل. ونظيره قوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع (4)) يعلم أن صورة البيع غير مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره، ولكن ذكر البيع لانه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى. العاشرة - قوله تعالى (هنيا مريا) منصوب (5) على الحال من الهاء في (كلوه) وقيل: نعت لمصدر محذوف، أي أكلا هنيئا بطيب (6) الانفس. هنأه الطعام والشراب يهنئه، (1) هذا عجز بيت للمخبل السعدى، وصدر: * أتهجر ليلى بالفراق حبيبها * (2) راجع ج 17 ص 125 (3) في ط: أرجى. (4) راجع ج 18 ص 97 (5) في ز: منصوبان. (6) كذا في أ وب وج وه، وفى ى: يطيب للانفس. وفى ز: لطيب. (*)
[ 27 ]
وما كان هنيئا، ولقد هنؤ، والمصدر الهن ء. وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنئ. وهنئ اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف. وهنئ يهنأ فهو هنئ على فعل كزمن. وهنأني الطعام ومرأني على الاتباع، فإذا لم يذكر (هنأني) قلت: أمرأني الطعام بالالف، أي انهضم. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث (ارجعن مأزورات غير مأجورات). فقلبوا الواو من (موزورات) ألفا إتباعا للفظ مأجورات. وقال أبو العباس عن ابن الاعرابي: يقال هنئ وهنأني ومرأني وأمرأني ولايقال مرئني، حكاه الهروي. وحكى القشيري أنه يقال: هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني، وهو قليل. وقيل: (هنيئا) لا إثم فيه، و (مريئا) لا داء فيه. قال كثير: هنيئا مريئا غير داء مخامر * لعزة من أعراضنا ما استحلت ودخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له: كل من الهنئ المرئ. وقيل: الهنئ الطيب المساغ الذي لا ينغصه شئ، والمرئ المحمود العاقبة، التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة. يدل عليه ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الاية (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه) فقال: (إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة) وروي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما (1) من صداقها، ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء السماء، فيجمع الله عزوجل له الهنئ والمرئ والماء المبارك. والله أعلم. قوله تعالى: ولا توتوا السقهاء اموالكم التى جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا معروفا (5) فيه عشر مسائل: الاولى - لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله: (وآتوا اليتامى أموالهم) وإيصال الصدقات إلى الزوجات، بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه. فدلت (1) كذا في ى. وفى اخرى الاصول: دراهم. ولا يتسق مع ما بعد. (*)
[ 28 ]
الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للايتام. وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة. واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة، فقال عوام أهل العلم: الوصية لها جائزة. واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة. وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال: لا تكون المرأة وصيا، فإن فعل حولت إلى رجل من قومه. واختلفوا في الوصية إلى العبد، فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب. وأجازه مالك (1) والاوزاعي وابن عبد الحكم. وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده. وقد مضى القول في هذا في (البقرة (2)) مستوفى. الثانبة - قوله تعالى: (السفهاء) قد مضى في (البقرة) معنى السفه (3) لغة. واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء، من هم ؟ فروى سالم الافطس عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال: هم الاولاد الصغار، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شئ. وروى سفيان عن حميد الاعرج عن مجاهد قال: هم النساء. قال النحاس وغيره: وهذا القول لا يصح، إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات، لانه الاكثر في جمع فعيلة. ويقال: لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر أنه قال: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، فذلك قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) يعني الجهال بالاحكام. ويقال: لا تدفع إلى الكفار، ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع، أو يدفع (4) إليه مضاربة. وقال أبو موسى الاشعري رضي الله عنه: السفهاء هنا كل من يستحق الحجر. وهذا جامع. وقال ابن خويز منداد: وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال: حال يحجر عليه لصغره، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله. فأما المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به. والحجر يكون مرة في حق الانسان ومرة في حق غيره، فأما المحجور عليه في حق نفسه من (1) سقط من ط. (2) راجع ج 2 ص 257 وما بعدها. (3) راجع ج 1 ص 205 (4) في ز: يدفعه. (*)
[ 29 ]
ذكرنا. والمحجور عليه في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج، والبكر في حق نفسها. فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما. وأما الكبير فلانه لا يحسن النظر لنفسه في ماله، ولا يؤمن منه إتلاف ما له في غير وجه، فأشبه الصبي، وفيه خلاف يأتي. ولا فرق بين أن يتلف ما له في المعاصي أو في القرب والمباحات. واختلف أصحابنا إذا أتلف ما له في القرب، فمنهم من حجر عليه، ومنهم من لم يحجر عليه. والعبد لا خلاف فيه. والمديان ينزع ما بيده لغرمائه، لاجماع الصحابة، وفعل عمر ذلك بأسيفع جهينة (1)، ذكره مالك في الموطأ. والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها، لانها لا تحسن النظر لنفسها. حتى إذ تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع. وأما ذات الزوج فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها). قلت: وأما الجاهل بالاحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره (2)، فلا يدفع إليه المال، لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها. وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره. والله أعلم. واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا، وهي للسفهاء، فقيل: أضافها إليهم لانها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا، كقوله تعالى: (فسلموا على أنفسكم (3)) وقوله (فاقتلوا أنفسكم (4)). وقيل: أضافها إليهم لانها من جنس أموالهم، فإن الاموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد، ومن ملك إلى ملك، أي هي لهم إذا أحتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم، وبها قوام أمركم. وقول ثان قاله أبو موسى الاشعري وابن عباس والحسن وقتادة: (أن المراد أموال المخاطبين حقيقة. قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم. فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته. وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء. (1) راجع مادة سفع في القاموس والتاج. (2) في ط: تبذيره. (3) راجع ج 12 ص 318 (4) راجع ج 1 ص 400 (*)
[ 30 ]
الثالثة - ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه، لامر الله عز وجل بذلك في قوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) وقال (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا (1)). فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف. وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ، لان السفه اسم ذم ولا يذم الانسان على ما لم يكتسبه (2)، والقلم مرفوع عن غير البالغ، فالذم والحرج منفيان عنه، قاله الخطابي. الرابعة - واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه، فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الامام على يده. وهو قول الشافعي وأبي يوسف. وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الامام. وقال أصبغ: إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة، وإكان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الامام. واحتج سحنون لقول مالك بأن قال: لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما أحتاج السلطان أن يحجر على أحد. وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه قبل ذلك. الخامسة - واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهور الفقهاء: يحجر عليه. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو غير مفسد، لانه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا [ وأبا (3) ]، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا. وقيل عنه: إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الاطلاق، وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا. وهذا كله ضعيف في النظر والاثر. وقد روى الدار قطني: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم - هو أبو يوسف القاضي - أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال: إني اشتريت (1) راجع ج 3 ص 385 (2) من ز. (3) من ز. (*)
[ 31 ]
بيع كذا وكذا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى على عثمان فقال: إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه. فقال الزبير: فأنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ؟ قال يعقوب: أنا آخذ بالحجر وأراه، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه. قال يعقوب بن إبراهيم: وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر. فقول عثمان: كيف أحجر على رجل، دليل على جواز الحجر على الكبير، فإن عبد الله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة، وهو أول مولود ولد في الاسلام بها، وقدم مع أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر فسمع منه وحفظ عنه. وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة. وهذا يرد على أبي حنيفة قوله. وستأتي حجته إن شاء الله تعالى. السادسة - قوله تعالى: (التى جعل الله لكم قياما) أي لمعاشكم وصلاح دينكم. وفي (التي) ثلاث لغات: التي واللت بكسر التاء واللت بإسكانها. وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات: اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون. وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى (1). والقيام والقوام: ما يقيمك بمعنى. يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي يصلحه. ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء. وقراءة أهل المدينة (قيما) بغير ألف. قال الكسائي والفراء قيما وقواما بمعنى قياما، وانتصب عندهما على المصدر. أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما. وقال الاخفش: المعنى قائمة بأموركم. يذهب إلى أنها جمع. وقال البصريون: قيما جمع قيمة، كديمة وديم، أي جعلها الله قيمة للاشياء. وخطأ أبو علي هذا القول وقال: هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد ونحوه. وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك. وقرأ الحسن والنخعي (اللاتي) [ جعل (2) ] على جمع التي، وقراءة العامه (التي) على لفظ الجماعة. قال الفراء: الاكثر في كلام العرب (النساء اللواتي، والاموال التي) وكذلك غير الاموال، ذكره النحاس. (1) راجع ص 82 من هذا الجزء. (2) من ب وج وه وى وط. (*)
[ 32 ]
السابعة - قوله تعالى: (وارزقوهم فيها واكسوهم) قيل: معناه اجعلوا لهم فيها أو أفرضوا لهم فيها. وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الاصاغر. فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني) ؟ فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، هذا من كيس (1) أبي هريرة !. قال المهلب: النفقة على الاهل والعيال واجبة بإجماع، وهذا الحديث حجة في ذلك. الثامنة - قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الابناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الاب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن. فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها. وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها. التاسعة - ولا نفقة لولد الولد على الجد، هذا قول مالك. وقالت طائفة: ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض. ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء في ذلك الذكور والاناث ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم، هذا قول الشافعي. وأوجبت طائفة النفقة لجميع الاطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، على ظاهر قوله عليه السلام لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). وفي حديث أبي هريرة (يقول الابن أطعمني إلى من تدعني ؟) يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف. ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك، لانه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها، بدليل قوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح) الآية. فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك. وفي قوله (2) (تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني) يرد على من قال: لا يفرق بالاعسار ويلزم المرأة الصبر، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء (1) في العسقلاني على البخاري: أي من حاصلة اشارة الى أنه من استنباطه مما فهم من الحديث المرفوع مع الواقع. ويروى: من كيسى. ج 9 ص 440 (2) في ز: وفى حديث أبى هريرة. (*)
[ 33 ]
والزهري. وإليه ذهب الكوفيون متمسكين بقوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (1)). قالوا: فوجب أن ينظر إلى أن يوسر. وقوله تعالى: (وأنكحوا الايامى منكم (2)) الآية. قالوا: فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح. ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها. والحديث نص في موضع الخلاف. وقيل: الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره، على ما تقدم من الخلاف في إضافة المال. فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله، فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة. وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم. وإن كان دون ذلك فبحسبه. وإن كان دون ذلك فخشن (3) الطعام واللباس قدر الحاجة. فإن (4) كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الامام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الامام وجب ذلك على المسلمين الاخص به فالاخص. وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به. ولا ترجع عليه ولا على أحد. وقد مضى في البقرة عند قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن (5)). العاشرة - قوله تعالى: (وقولوا لهم قولا معروفا) أراد تليين الخطاب والوعد الجميل. واختلف في القول المعروف، فقيل: معناه ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك. وقيل: معناه وعدوهم وعدا حسنا، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم. ويقول الاب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت (6) رشدك وعرفت تصرفك. قوله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان انستم منهم رشدا فادفعوا إليهم اموالهم ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (1) راجع ج 3 ص 371 (2) راجع 12 ص 239 (3) في ج: فحسن. (4) في ب: ولو. (5) راجع ج 3 ص 160 و 161 (6) في ط وج وب وز: إذا ملكتم رشدكم وعرفتم تصرفكم. (*)
[ 34 ]
فيه سبع عشرة مسألة. الاولى - قوله تعالى: (وابتلوا اليتامى) الابتلاء الاختبار، وقد تقدم (1). وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع اموالهم. وقيل: إنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه. وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. الثانية - واختلف العلماء في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله والاهمال (2) لذلك. فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم: لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه. وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده. وليس في العلماء من يقول: إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيدا ترتفع الولاية عنه، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاق يده في التصرف، لقوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح). وقال جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، أو أعطاه شيئا نزرا يتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، (3) فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي. فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله وأشهد عليه. وإن كان جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته. فإن رآها رشيدة سلم أيضا إليها مالها وأشهد عليها. وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما. وقال الحسن ومجاهد وغيرهما: اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم. الثالثة - قوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح) أي الحلم، لقوله تعالى: (وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم (4)) أي البلوغ وحال النكاح. والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة (1) راجع المسألة الثالثة عشرة ج 1 ص 387 (2) الواو بمنى أو. (3) في ى: ينفقه. (4) راجع ج 12 ص 308 (*)
[ 35 ]
يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحبل. فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ، وأن الفرائض والاحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاث، فأما الانبات والسن فقال الاوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم. وهو قول ابن وهب وأصبغ وعبد الملك بن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي. وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السن. قال أصبغ بن الفرج: والذي نقول به إن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة، وذلك أحب ما فيه إلي وأحسنه عندي، لانه الحد الذي يسهم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال. واحتج بحديث ابن عمر إذ عرض (1) يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يجز يوم أحد، لانه كان ابن أربع عشرة سنة. أخرجه مسلم. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا فيمن عرف مولده، وأما من جهل مولده وعدة (2) سنه أو جحده فالعمل فيه بما (3) روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الاجناد: ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي (4). وقال عثمان في غلام سرق: انظروا إن كان قد أخضر مئزره (5) فاقطعوه. وقال عطية القرظي: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ (6)، ومن لم ينبت منهم استحياه، فكنت فيمن لم ينبت فتركني. وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة سنة، فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يجب عليه الحد. وقال مالك مرة: بلوغه بأن يغلظ صوته وتنشق أرنبته. وعن أبي حنيفة رواية أخرى: تسع عشرة [ سنة (7) ]، وهي الاشهر. وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر. وروى اللؤلئي عنه ثمان عشرة سنة. وقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة. فأما الانبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، روي عن ابن القاسم وسالم، وقاله (1) أي عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرف حاله. (2) في ج وز وا: عدم. (3) في ج وب وط: على ماروى. (4) المواسى جمع موسى، أي نبت شعر عانته وهو الذى يجرى عليه الموسى، وهذا عند بنى اسرائيل كالمسلمين وكالختان. (5) مئزره كناية عن العورة أي اسودت بالشعرو العرب تسمى اللون الاسود أخضر. (6) كان حكمه فيهم أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذريتهم. وقد قال له صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات). راجع ترجمته في الاستيعاب. (7) في ز وى. (*)
[ 36 ]
مالك مرة، والشافعي في أحد قوليه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقيل: هو بلوغ، إلا أنه يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت ويجعل من لم ينبت في الذراري، قاله الشافعي في القول الاخر، لحديث عطية القرظي. ولا اعتبار بالخضرة والزغب، وإنما يترتب الحكم على الشعر. وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب: لو جرت عليه المواسي لحددته. قال أصبغ: قال لي ابن القاسم وأحب إلي ألا يقام عليه الحد إلا باجتماع الانبات والبلوغ. وقال أبو حنيفة: لا يثبت (1) بالانبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ. وقال الزهري وعطاء: لا حد على من لم يحتلم، وهو قول الشافعي، ومال إليه مالك مرة، وقال به بعض أصحابه. وظاهره عدم اعتبار الانبات والسن. قال ابن العربي: (إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلا في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فإنه دعوى، والسن التي أجازها (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع دليل عليها، وكذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الانبات في بني قريظة، فمن عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لفظا، ولا جعل الله له في الشريعة نظرا). قلت: هذا قوله هنا، وقال في سورة الانفال عكسه، إذ لم يعرج على حديث ابن عمر هناك، وتأوله كما تأوله علماؤنا، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة سنة، ومن لا يطيقه فلا يسهم له فيجعل في العيال. وهو الذي فهمه عمر ابن عبد العزيز من الحديث. والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: (فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) أي أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله تعالى: (آنس من جانب الطور نارا (3)) أي أبصر ورأى. قال الازهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا، معناه تبصر. قال النابغة: *... على مستأنس وحد (4) * (1) في ط وج وب وز: لا يتعلق. (2) في ط: اختارها. (3) راجع ج 13 ص 280 (4) تمام البيت: كأن رحلى وقد زال النهار بنا * يوم الجليل على مستأنس وحد الوحد: المنفرد. (*)
[ 37 ]
أراد ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره. وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا) أي علمتم. والاصل فيه أبصرتم. وقراءة العامة (رشدا) بضم الراء وسكون الشين. وقرأ السلمي وعيسى والثقفي وابن مسعود رضي الله عنهم (رشدا) بفتح الراء والشين، وهما لغتان. وقيل: رشدا مصدر رشد. ورشدا مصدر رشد، وكذلك الرشاد. والله أعلم. الخامسة - واختلف العلماء في تأويل (رشدا) فقال الحسن وقتادة وغيرهما: صلاحا في العقل والدين. وقال ابن عباس والسدي والثوري: صلاحا في العقل وحفظ المال. قال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله. وقال مجاهد: (رشدا) يعني في العقل خاصة. وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة عن أنس أن حبان (1) بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته (2) ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لاتبع). فقال: لا أصبر. فقال له: (فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا). قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه، لانه مخصوص بذلك على ما بيناه في البقرة (1)، فغيره بخلافه. وقال الشافعي: إن كان مفسدا لما له ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه (1) حبان: بفتح الحاء، وقد ذكر في ج 3 ص 386 وفيه: وفي عقله. وهى رواية أخرى. (2) كذا في جميع الاصول. وهى رواية، ففى النهاية: أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه. (*)
[ 38 ]
مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح. والثاني لا حجر عليه، وهو اختيار أبى إسحاق المروزي، والاظهر من مذهب الشافعي. قال الثعلبي: وهذا الذي ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله ابن جعفر رضوان الله عليهم، ومن التابعين شريح، وبه قال الفقهاء: مالك وأهل المدينة والاوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الاجماع في هذه المسألة. السادسة - إذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الاخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الاية. وهو رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الاية. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جدا. وهذا يدل على ضعف قوله، وضعف ما احتج به أبو بكر الرازي في أحكام القرآن له من استعمال الايتين حسب ما تقدم، فإن هذا من باب المطلق والمقيد، والمطلق يرد إلى المقيد باتفاق أهل الاصول. وماذا يغني كونه جدا (1) إذا كان غير جد، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي، ورأوا الاختبار في الذكر والانثى على ما تقدم. وفرق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الانثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الامور ولا تبرز لاجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فبه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحمل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب، فإن نفس الوطئ بإدخال الحشفة لا يزيدها في رشدها إذا كانت عارفة بجميع أمورها ومقاصدها، غير مبذرة لمالها. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد (1) كذا في الاصول. وفى أحكام القرآن لابن العربي: (قلنا هذا ضعيف، لانه إذا كان جدا ولم يكن ذا جد فماذا پنفعه جد النسب وجد الپخت فائت). (*)
[ 39 ]
دخول زوجها من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الاحوال. قال ابن العربي: وذكر علماؤها في تحديدها أقوالا عديدة، منها الخمسة الاعوام والستة والسبعة في ذات الاب. وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول، وجعلوا في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها. وليس في هذا كله دليل، وتحديد الاعوام في ذات الاب عسير، وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة. وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي عنه، أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشدا) فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركب عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه. السابعة - واختلفوا فيما فعلته ذات الاب في تلك المدة، فقيل: هو محمول على الرد لبقاء الحجر، وما عملته بعده فهو محمول على الجواز. وقال بعضهم: ما عملته في تلك المدة محمول على الرد إلا (1) أن يتبين فيه السداد، وما عملته بعد ذلك محمول على الامضاء حتى يتبين فيه السفه. الثامنة - واختلفوا في دفع المال إلى المحجور عليه هل يحتاج إلى السلطان أم لا ؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع إليه ما له. وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان. قال ابن عطية: والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الاوصياء على أن يرشد الصبي، ويبرأ المحجور عليه لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت. التاسعة - فإذا سلم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عندنا، وعند الشافعي في أحد قوليه. وقال أبو حنيفة: لا يعود، لانه بالغ عاقل، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليلنا قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وقال تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا (1) في ا وح وز: إلى. (*)
[ 40 ]
أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل (1)) ولم يفرق بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الاطلاق. العاشرة - ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للاب أن يصنعه من (2) تجارة وإبضاع وشراء وبيع. وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله: عين وحرث وماشية وفطرة. ويؤدي عنه أروش الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة. ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسررها، ويصالح له وعليه على وجه النظر له. وإذا قضى الوصي بعض الغرماء وبقي من المال بقية تفي ما عليه من الدين كان فعل الوصي جائزا. فإن تلف باقي المال فلا شئ لباقي الغرماء على الوصي ولا على الذين اقتضوا. وإن اقتضى الغرماء جميع المال ثم أتى غرماء آخرون فإن كان عالما بالدين الباقي أو كان الميت معروفا بالدين الباقي ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم في المحاصة، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك. وإن لم يكن عالما [ بذلك (3) ]، ولا كان الميت معروفا بالدين فلا شئ على الوصي. وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن. وأما إن أشهد وطال الزمان حتى مات الشهود فلا شئ عليه. وقد مضى في البقرة (4) عند قوله تعالى: (وإن تخالطوهم فإخوانكم) من أحكام الوصي في الانفاق وغيره ما فيه كفاية، والحمد لله. الحادية عشرة - قوله تعالى: (ولا تأكلوها اسرا فاو بدارا أن يكبروا) ليس يريد أن أكل مالهم من غير إسراف جائز، فيكون له دليل خطاب، بل المراد ولا تأكلوا أموالهم فإنه إسراف. فنهى الله سبحانه وتعالى الاوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، على ما يأتي بيانه. والاسراف في اللغة الافراط ومجاوزة الحد. وقد تقدم في آل عمران (5) والسرف الخطأ في الانفاق. ومنه قول الشاعر (6): أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية * ما في عطائهم من ولا سرف (1) راجع ج 3 ص 376 (2) في ج: في تجارة أو بضاعة. (3) من ج. (4) راجع ج 3 ص 65 (5) راجع ج 4 ص 231 (6) البيت لجرير يمدح بنى أمية، وهنيدة: اسم لكل مائة من الابل. (*)
[ 41 ]
أي ليس يخطئون مواضع العطاء. وقال آخر: وقال قائلهم والخيل تخبطهم * أسرفتم فأجبنا أننا سرف قال النضر بن شميل: السرف التبذير، والسرف الغفلة. وسيأتي لمعنى الاسراف زيادة بيان في (الانعام (1)) إن شاء الله تعالى. (وبدارا) معناه ومبادرة كبرهم، وهو حال البلوغ. والبدار والمبادرة كالقتال والمقاتلة. وهو معطوف على (إسرافا). و (ان يكبروا) في موضع نصب ب (بدارا)، أي لا تستغنم مال محجورك فتأكله وتقول أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله، عن ابن عباس وغيره. الثانية عشرة - قوله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف) الاية. بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم، فأمر الغني بالامساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف. يقال: عف الرجل عن الشئ واستعف إذا أمسك. والاستعفاف عن الشئ تركه. ومنه قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا (2)). والعفة: الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله. روى أبو داود من حديث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير ليس لي شئ ولي يتيم. قال: فقال: (كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل (3)). الثالثة عشرة - واختلف العلماء من المخاطب والمراد بهذه الاية ؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) قالت: نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا جاز أن يأكل منه. في رواية: بقدر ماله بالمعروف. وقال بعضهم: المراد اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وأعف عن ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره، قاله ربيعة ويحيى بن سعيد. والاول قول الجمهور وهو الصحيح، لان اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه. والله أعلم. الرابعة عشرة - واختلف الجمهور في الا كل بالمعروف ما هو ؟ فقال قوم: هو القرض إذا احتاج ويقضى إذا أيسر، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي (1) راجع ج 7 ص 110 (2) راجع ج 12 ص 243 (3) متأئل: جامع، يقال: مال مؤئل أي مجموع ذو أصل. (*)
[ 42 ]
ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الاوزاعي. ولا يستسلف أكثر من حاجته. قال عمر: ألا انى أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. روى عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) قال: قرضا - ثم تلا (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم). وقول ثان - روي عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة: لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف، لان ذلك حق النظر، وعليه الفقهاء. قال الحسن: هو طعمة من الله له، وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. والدليل على صحة هذا القول إجماع الامة على أن الامام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف، لان الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله. فلا حجة لهم في قول عمر: فإذا أيسرت قضيت - أن لو صح. وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن الاكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال، كما يهنأ (1) الجرباء، وينشد الضالة، ويلوط (2) الحوض، ويجذ التمر. فأما أعيان الاموال وأصولها فليس للوصي أخذها. وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء: إنه يأخذ بقدر أجر عمله، وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرمة. وفرق الحسن بن صالح بن حي - ويقال ابن حيان - بين وصي الاب والحاكم، فلوصي الاب أن يأكل بالمعروف، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وهو القول الثالث. وقول رابع روي عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وذهب إلى أن الاية منسوخة، نسخها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (3)) وهذا ليس بتجارة. وقال زيد بن أسلم: إن الرخصة في هذه الاية منسوخة بقوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) الاية. وحكى بشر بن الوليد عن أبى يوسف قال: لا أدري، لعل هذه الاية (1) هنأ الابل: طلاها بالهناء، وهو ضرب من القران. (2) لا ط الحوض: طلاه بالطيز وأصلحه. (3) راجع ص 149 من هذا الجزء. (*)
[ 43 ]
منسوخة بقوله عزوجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). وقول خامس - وهو الفرق بين الحضر والسفر، فيمنع إذا كان مقيما معه في المصر. فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئا، قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد. وقول سادس - قال أبو قلابة: فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة، فأما المال الناض (1) فليس له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره. وقول سابع - روى عكرمة عن ابن عباس (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) قال: إذا احتاج واضطر. وقال الشعبي: كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه، فإن وجد أو في. قال النحاس: وهذا لا معنى له لانه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد. وقال ابن عباس أيضا والنخعي: المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، فيستعفف الغنى بغناه، والفقير يقتر (2) على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. قال النحاس: وهذا من أحسن ماروي في تفسير الآية، لان أموال الناس محظورة لا يطلق شئ منها إلا بحجة قاطعة. قلت: وقد اختار هذا القول الكيا الطبري في أحكام القرآن له، فقال: (توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصي أن يأكل (3) من مال الصبي قدرا لا ينتهى إلى حد السرف، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به من قوله: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) ولا يتحقق ذلك في [ مال (4) ] اليتيم. فقوله: (ومن كان غنيا فليستعفف) يرجع إلى [ أكل (3) ] مال نفسه دون مال اليتيم. فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم. وقد دل عليه قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا). وبان بقوله تعالى: (ومن كان غثيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) الاقتصار على البلغة، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم، فهذا تمام معنى الآية. (1) الناض: الدرهم والدينار عند أهل الحجاز ويسمى ناضا إذا تحول نقدا بعد أن كان متاعا. (2) في ب وط وز: يقوت. ولا معنى له. وفى اللغه: أقات على الشى: اقتدر عليه. (3) في ب: ياخذ. (4) زيادة عن أحكام القران للكيا الطبري. (*)
[ 44 ]
فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم. وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين. فإن قال من ينصر مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لاجل عملهم للمسلمين، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم، ولم لا يأخذ الاجرة بقدر عمله ؟ قيل له: اعلم أن أحدا من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي، فذلك فارق بين المسألتين. وأيضا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الاسلام لا يتعين له مالك. وقد جعل الله ذلك المال الضائع لاصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه، وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق. قلت: وكان شيخنا الامام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله، وإن كان تافها لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن، غير مضر به ولا مستكثر له، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه. قال شيخنا: وما ذكرته من الاجرة، ونيل اليسير من التمر (1) واللبن كل واحد منهما معروف، فصلح حمل الآية على ذلك. والله أعلم. قلت: والاحتراز عنه أفضل، إن شاء الله. [ وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسما ونهب أتباعه فلا أدرى له وجها ولا حلا، وهم داخلون في عموم قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا (2)) ]. الخامسة عشرة - قوله تعالى: (فإذا دفعتم إليهم فاشهدوا عليهم) أمر الله تعالى بالاشهاد تنبيها على التحصين وزوالا للتهم. وهذا الاشهاد مستحب عند طائفة من العلماء، فإن القول قول الوصي، لانه أمين. وقالت طائفة: هو فرض، وهو ظاهر الآية، وليس (1) في ج: السن. (2) هذه الزيادة لا توجد الا في أ وح. (*)
[ 45 ]
بأمين فيقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع إليه أو المودع، وإنما هو أمين للاب، ومتى ائتمنه الاب لا يقبل قوله على غير. ألا ترى أن الوكيل لو (1) أدعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا ببينة، فكذلك الوصي. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الاشهاد إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره. قال عبيدة: هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل، المعنى: فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم. والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه. والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة، فإن كل مال قبض على وجه الامانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالاشهاد على دفعه، لقوله تعالى: (فأشهدوا) فإذ دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لاشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد. والله أعلم. السادسة عشرة - كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه. فالمال يحفظه بضبطه (2)، والبدن يحفظه بأدبه. وقد مضى هذا المعنى في (البقرة (3)). وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في حجري يتيما أآكل من ماله ؟ قال: (نعم غير متأثل (4) مالا ولا واق مالك بماله). قال: يارسول الله، أفأضربه ؟ قال: (ما كنت ضاربا منه ولدك). قال ابن العربي: وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا (5). السابعة عشرة - قوله تعالى: (وكفى بالله حسيبا) أي كفى الله حاسبا لا عمالكم ومجازيا بها. ففي هذا وعيد لكل جاحد حق. والباء زائدة، وهو في موضع رفع. قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الولدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (1) في ب وى وط وه: إذا أدعى أنه دفع إلى الخ. (2) في ب: فيما يضبطه. (3) راجع ج 3 ص 62 (4) متأثل: جامع. (5) ملتحدا: منصرفا. (*)
[ 46 ]
فيه خمس مسائل: الاولى - لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث. ونزلت الآية في أوس ابن ثابت الانصاري، توفي وترك امرأة يقال لها: أم كجة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الحيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة. فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما، فقالا: يارسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا. فقال عليه السلام: (انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن). فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم، فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم، وأخطئوا في آرائهم وتصرفاتهم. الثانية - قال علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث: احداها - بيان علة الميراث وهي القرابة. الثانية - عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد. الثالثة - إجمال النصيب المفروض. وذلك مبين في آية المواريث، فكان في هذه الاية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي. الثالثة - ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله - بئر حاء - وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اجعلها في فقراء أقاربك) فجعلها لحسان وأبي. قال أنس: وكانا أقرب إليه مني. قال أبو داود: بلغني عن محمد بن عبد الله الانصاري أنه قال: أبو طلحة الانصاري زيد بن سهل بن الاسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الاب الثالث وهو حرام. وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. قال الانصاري: بين أبى طلحة وأبي ستة آباء. قال: وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب
[ 47 ]
وأبا طلحة. قال أبو عمر: في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه، وما كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة. الرابعة - قوله تعالى: (مما قل مته أو كثر نصيبا مفروضا) أثبت الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا، فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا. فنزلت (يوصيكم الله في أولادكم) إلى قوله تعالى (الفوز العظيم) فأرسل إليهما (أن أعطيا أم كجة الثمن مما ترك أوس، ولبناته الثلثين، ولكما بقية المال). الخامسة - استدل علماؤنا بهذه الاية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله، كالحمام والبيت وبيدر (1) الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها. فقال مالك: يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به، لقوله تعالى: (مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا). وهو قول ابن كنانة، وبه قال الشافعي، ونحوه قول أبي حنيفة. قال أبو حنيفة: في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له. وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم. وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الاخر فإنه لا يقسم، وهو قول أبي ثور. قال ابن المنذر: وهو أصح القولين. ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي. قال ابن القاسم: وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم، أن يباع ولا شفعة فيه، لقوله عليه السلام: (الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة). فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. هذا دليل الحديث. قلت: ومن الحجة لهذا القول ما خرجه الدار قطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق ابن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعضية (1) كذا في ز. وهو الموضع الذى تداس فيه الحبوب، ويجمع فيه الطعام. وفى ح وى وا: بذ، لعله من قولهم: تمربذ: متفرق. وفى د وج وو وب وه وط: بد. وليس بظاهر المعنى (*)
[ 48 ]
على أهل الميراث الا ما حمل القسم). قال أبو عبيد: هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم. يقول: فلا يقسم، وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك. والتعضية التفريق، يقال: عضيت الشئ إذا فرقته. ومنه قوله تعالى: (الذين جعلوا القرآن عضين (1)). وقال تعالى: (غير مضار) فنفى المضارة. وكذلك قال عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار). وأيضا فإن الاية ليس فيها تعرض للقسمة، وإنما اقتضت الاية وجوب الحظ والنصيب للصغير والكبير قليلا كان أو كثيرا، ردا على الجاهلية فقال: (للرجال نصيب) (وللنساء نصيب) وهذا ظاهر جدا. فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر، وذلك بأن يقول الوارث: قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكنوني منه، فيقول له شريكه: أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن، لانه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال، وتغيير الهيئة، وتنقيص القيمة، فيقع الترجيح. والاظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدليل. والله الموفق. قال الفراء: (نصيبا مفروضا) هو كقولك: قسما واجبا، وحقا لازما، فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب. الزجاج: أنتصب على الحال. أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض. الاخفش: أي جعل الله ذلك لهم نصيبا. والمفروض: المقدر الواجب. قوله تعالى: وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8) فيه أربع مسائل: الاولى - بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الاقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال ثيرا، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ (2). وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم، (1) راجع ج 10 ص 58 (2) الرضخ هنا: العطاء القليل. (*)
[ 49 ]
درهم يسبق مائة (1) ألف. فالاية على هذا القول محكمة، قاله ابن عباس. وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الاشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين). وقال سعيد بن المسيب: نسخها آية الميراث والوصية. وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك. والاول أصح، فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير: ضيع الناس هذه الاية. قال الحسن: ولكن الناس شحوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين) قال: هي (2) محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال: إن ناسا يزعمون أن هذه الاية نسخت، لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها، هما واليان: وال يرث وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أملك لك أن أعطيك. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث. قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الاية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير، والشكر لله عزوجل. وقالت طائفة: هذا الرضخ (3) واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الاصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب، لانه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لاحد الجهتين معلوم وللاخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع. وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الاية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية، لا الورثة. وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد. فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه. وهذا - والله أعلم -. يتنزل حيث كانت الوصية واجبة، ولم تنزل آية الميراث. والصحيح الاول وعليه المعول. (1) في ج: درهم سبعماية ألف. (2) في ى: بين أنها. (3) الرضخ: العطية القليلة. (*)
[ 50 ]
الثانية - فإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله، فقالت طائفة يعطى ولى الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى. وقيل: لا يعطى بل يقول لمن حضر القسمة (1): ليس لي شئ من هذا المال إنما هو لليتيم، فإذا بلغ عرفته حقكم. فهذا هو القول المعروف. وهذا إذا لم يوص الميت له بشئ، فإن أوصى يصرف له ما أوصى. ورأى عبيدة ومحمد ابن سيرين أن الرزق في هذه الاية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه، وفعلا ذلك، ذبحا شاة من التركة، وقال عبيدة: لولا هذه الاية لكان هذا من مالي. وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث محكمات تركهن الناس: هذه الاية، وآية الاستئذان (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم (2))، وقوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى (3)). الثالثة - قوله تعالى: (منه) الضمير عائد على معنى القسمة، إذ هي بمعنى المال والميراث، لقوله تعالى: (ثم استخرجها من وعاء أخيه (4)) أي السقاية، لان الصواع مذكر ومنه قوله عليه السلام: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه (5) وبين والله حجاب) فأعاد مذكرا على معنى الدعاء. وكذلك قوله لسويد بن طارق الجعفي حين سألة عن الخمر (إنه ليس بدواء ولكنه داء) فأعاد الضمير على معنى الشراب. ومثله كثير. يقال: قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه، والاسم القسمة مؤنثة، والقسم مصدر قسمت الشئ فانقسم، والموضع مقسم مثل مجلس، وتقسمهم الدهر فتقسموا، أي فرقهم فتفرقوا. والتقسيم التفريق. والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: (وقولوا لهم قولا معروفا) قال سعيد بن جبير: يقال لهم خذوا بورك لكم. وقيل: قولوا مع الرزق وددت أن لو كان أكثر من هذا. وقيل: لا حاجة مع الرزق إلى عذر، نعم إن لم يصرف إليهم شئ فلا أقل من قول جميل ونوع اعتذار. قوله تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) (1) سقط من ب وج وز وط وى وه. (2) راجع ج 12 ص 302 (3) راجع ج 16 ص 340 (4) راجع ج 9 ص 235 (5) كذا في ب ود وز وط وه وى. والرواية يشبه أن تكون من حديث معاذ في الصحيحين وليس فيها تذكير الضمير. والله أعلم. وفي ا وج وح: بينها. (*)
[ 51 ]
فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (وليخش) حذفت الالف من (ليخش) للجزم بالامر، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الامر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر. وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم، وأنشد الجميع: محمد تفد نفسك كل نفس * إذا ما خفت من شئ تبالا (1) أراد لتفد، ومفعول (يخش) محذوف لدلالة الكلام عليه. و (خافوا) جواب (لو). التقدير لو تركوا لخافوا. ويجوز حذف اللام في جواب (لو). وهذه الاية قد اختلف العلماء في تأويلها، فقالت طائفة: هذا وعظ للاوصياء، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم، قاله ابن عباس. ولهذا قال الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما). وقالت طائفة: المراد جميع الناس، أمرهم باتقاء الله في الايتام وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجورهم. وأن يشددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده. ومن هذا ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبد الملك، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان. فقلت له: يا أبا بشر (2)، ودي ألا يكون لي ولد. فقال لي: ما عليك ! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت، أحب أو كره، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا الاية. وفي رواية: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك ؟ فقلت: بلى ! فتلا هذه الآية (وليخش الذين لو تركوا) إلى آخرها. قلت: ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من احسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف (3) الله في تركته). وقول ثالث قاله جمع من المفسرين: هذا في الرجل يحضره الموت (1) البيت قيل لحسان. وقيل لابي طالب. وتبالا: سوء العاقبة وأصله: وبال أبدلت الواو تاء. الخزانة ج 3 ش 680 (2) في ب وه وط: أبا بسر، وكلاهما وارد كما في التهذيب. والقصه في تفسير هذه الاية في الطبري باوضح. (3) في ى: أخلفه. (*)
[ 52 ]
فيقول له من بحضرته عند وصيته: إن الله سيرزق ولدك فأنظر لنفسك، وأوص بمالك في سبيل الله، وتصدق وأعتق. حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته، فنهوا عن ذلك. فكأن الآية تقول لهم: (كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله)، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك، فذلك قوله تعالى: (فليتقوا الله). وقال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره: أمسك على ورثتك، وأبق لولدك فليس أحد أحق بما لك من أولادك، وينهاه عن الوصية، فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له، فقيل لهم: كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم، فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم. وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث، روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب. قال ابن عطية: وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس، بل الناس صنفان، يصلح لاحدهما القول الواحد، ولآخر القول الثاني. وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه. وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين (1) حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه. قلت: وهذا التفصيل صحيح، لقوله عليه السلام لسعد: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). فإن لم يكن للانسان ولد، أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه، فالاولى بالانسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح، فيكون وزره عليه. الثانية - قوله تعالى: (وليقولوا قولا سديدا) السديد: العدل والصواب من القول، أي مروا المريض بأن يخرج من ما له ما عليه من الحقوق الواجبة، ثم يوصي لقرابته (1) في ط: مفلسين. (*)
[ 53 ]
بقدر [ ما (1) ] لا يضربو رثتة الصغار. وقيل: المعنى قولوا (2) للميت قولا عدلا، وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله، ولا يأمره بذلك، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن. هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) ولم يقل مروهم، لانه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد. وقيل: المراد اليتيم، أن لا ينهروه (3) ولا يستخفوا به. قوله تعالى: ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان، ولهذا قال الجمهور: إن المراد الاوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم. وقال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار. وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا، لما كان المقصود هو الاكل وبه أكثر إتلاف الاشياء. وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الاخلاق. وسمى المأكول نارا بما يئول إليه، كقوله تعالى: (إني أراني أعصر خمرا (4)) أي عنبا. وقيل: نارا أي حراما، لان الحرام يوجب النار، فسماه الله تعالى بأسمه. وروى أبو سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: (رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما). فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر. وقال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر فيها (وأكل مال اليتيم). الثانية - قوله تعالى: (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله، من أصلاه الله حر النار إصلاء. قال الله تعالى: (سأصليه سقر (5) قرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة (1) من ج. (2) في ى: قول الطيب. (3) في ط وى وز: أي لا تتهروه ولا تستخفوا به. (4) راجع ج 9 ص 188 (5) راجع ج 19 ص 75 (*)
[ 54 ]
الفعل مرة بعد أخرى. دليله قوله تعالى: (ثم الجحيم صلوه (1)). ومنه قولهم: صليته مرة بعد أخرى. وتصليت: استدفأت بالنار. قال: وقد تصليت حر حربهم * كما تصلى المقرور من قرس (2) وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاء. قال الله تعالى: (لا يصلاها إلا الاشقى (3)). والصلاء هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد: لم أكن من جناتها علم الله * وإني لحرها اليوم صال والسعير: الجمر المشتعل (4). الثالثة - وهذه آية من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب. والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت، بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون، فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم، لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك من يشاء (5)). وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجئ بهم ضبائر (6) ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة (7) في حميل (8) السيل). فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان [ يرعى (9) ] بالبادية. قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وان كانت واحدة فلها النصف ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له (1) راجع ج 18 ص 272 (2) القرص: شدة البرد، والمقرود: الذى أصيب أطرافه بشدة البرد حتى لا يستطيع عملا. (3) راجع ج 20 ص 86 (4) في ج: المستعر. (5) راجع ص 245 من هذا الجزء. (6) الضبائر: الجماعات في تفرقة. (7) الحبة (بالكسر): واحدة الحبو وهو بزر ما لا يقتات كيزر الرياحين. (8) حميل السيل: ما يحمل من الغئاء والطين. (9) في ب وج وه وط وزوى. (*)
[ 55 ]
ولد فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث فان كان له اخوة فلامه السدس من بعد وصيه يوصى بها أو دين ءاباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله ان الله كان عليما حكيما (11) ولكم نصف ما ترك أزواجكم ان لم يكن لهن ولد فان كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم ان لم يكن لكم ولد فان كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فان كانوا أكثر من ذالك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضآر وصية من الله والله عليم حليم (12) تلك حدود. الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذالك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14) فيه خمس وثلاثون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) بين تعالى هذه الآية ما أجمله في قوله: (للرجال نصيب) و (للنساء نصيب) فدل هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الاحكام، وأم من أمهات الآيات، فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم، وروي نصف العلم. وهو أول
[ 56 ]
علم ينزع من الناس وينسى. رواه الدار قطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا الفرائض وعلموه (1) الناس فإنه نصف العلم وهو أول شئ ينسى وهو أول شئ ينتزع من أمتي). وروي أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان (2) من يفصل بينهما). وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كان جل علم الصحابة، وعظيم مناظرتهم، ولكن الخلق ضيعوه. وقد روى مطرف عن مالك، قال عبد الله ابن مسعود: من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية ؟ وقال ابن وهب عن مالك: كنت أسمع ربيعة يقول: من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها. قال مالك: وصدق. الثانية - روى أبو داود والدار قطني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة). قال الخطابي أبو سليمان: الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى: واشترط فيها الاحكام، لان من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به، وإنما يعمل بناسخه. والسنة القائمة هي الثابتة مما جا عنه صلى الله عليه وسلم من السنن الثابتة. وقوله: (أو فريضة عادلة) يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما - أن يكون من العدل في القسمة، فتكون معدلة على الانصبا والسهام المذكورة في الكتاب والسنة. والوجه الآخر - أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما، فتكون هذه الفريضة تعدل ما اخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا. روى عكرمة قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها. قال: للزوج النصف، وللام ثلث ما بقي. فقال: تجده في كتاب الله أو تقول برأي ؟ قال: أقوله برأي، لا أفضل أما على أب. قال أبو سليمان: فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص، وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه، (1) كذا في الدار قطني. (2) في كشف الخفا: فلا يجدان، وفى ى لا يوجد. (*)
[ 57 ]
وهو قوله تعالى: (وورثه أبواه فلامه الثلث). فلما وجد نصيب الام الثلث، وكان باقي المال هو الثلثان للاب، قاس النصف الفمن المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذوسهم، فقسمه بينهما على ثلاثة، للام سهم وللاب سهمان وهو الباقي. وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الام من النصف الباقي ثلث جميع المال، وللاب ما بقي وهو السدس، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للاب وهو المقدم والمفضل في الاصل. وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الام، وبخس الاب حقه برده إلى السدس، فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد. قال أبو عمر: وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين: للزوج النصف، وللام ثلث جميع المال، وللاب ما بقي. وقال في امرأة وأبوين: للمرأة الربع، وللام ثلث جميع المال، والباقي للاب. وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سيرين وداود ابن علي، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبد الله الفرضي المصري المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا. وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة. وقال في موضع آخر: إنه قد روي ذلك عن علي أيضا. قال أبو عمر: المعروف المشهور عن علي وزيد وعبد الله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك. ومن الحجة لهم على ابن عباس: أن الابوين إذا اشتركا في الوراثة، ليس معهما غيرهما، كان للام الثلث وللاب الثلثان. وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين. وهذا صحيح في النظر والقياس. الثالثة - واختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث، فروى الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدار قطني عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادع لي أخاه) فجاء فقال [ له (1) ]: (ادفع إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي). لفظ أبي داود. في روا الترمذ وغيره: فنزلت آية المواريث. قال: هذا حديث صحيح. وروى جابر أيضا قال: عادني رسول الله صلى الله (1) من ز. (*)
[ 58 ]
عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي منه فأفقت. فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت (يوصيكم الله في أولادكم). أخرجاه في الصحيحين. وأخرجه الترمذي وفيه (فقلت يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي ؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) الآية. قال: (حديث حسن صحيح). وفي البخاري عن ابن عباس أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين، فنسخ ذلك بهذه الآيات. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كجة، وقد ذكرناها. السدي: نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان ابن ثابت. وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو، فنزلت الآية تبيينا (1) أن لكل صغير وكبير حظه. ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع، ولذلك تأخر نزولها. والله أعلم. قال الكيا الطبري: وقد ورد (2) في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الاسلام إلى أن نسخته هذه الآية) ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه، فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع. وقيل: نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس. والاول أصح عند أهل النقل. فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم، ولو كان ذلك ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه. ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم. قلت: وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال: ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة، وهو أن ما كانت [ عليه (3) ] الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الاسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه، لانه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما، لان الاحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت (4). قاله ابن العربي. (1) في ب: تنبيها. (2) في ب: روى. (3) من ب وج وى وط وز. (4) في ابن العربي: (وقعت)، وفي ى: طامة. (*)
[ 59 ]
الرابعة - (يوصيكم الله في أولادكم) قالت الشافعية: قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) حقيقة في أولاد الصلب، فأما يدخل فيه بطريق المجاز، فإذا حلف (1) أنلا ولد له وله ولد ابن لم يحنث، وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده. وأبو حنيفة يقول: انه يدخل فيه ان لم يكن له ولد صلب. ومعلوم أن الا لفاظ لا تتغير (2) بما قالوه. الخامسة - قال ابن المنذر: لما قال تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الاولاد، المؤمن منهم والكافر، فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يرث المسلم الكافر علم أن الله أراد بعض الاولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث (3). قلت: ولما قال تعالى: (في أولادكم) دخل فيهم (4) الاسير في أيدي الكفار، فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الاسلام. وبه قال كافة أهل العلم، إلا النخعي فإنه قال: لا يرث الاسير. فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود. ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (لا نورث ما تركنا صدقة). وسيأتي بيانه في (مريم (5)) ان شاء الله تعالى. وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لابيه أوجده أو أخيه أو عمه بالسنة وإجماع الامة، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا، على ما تقدم بيانه في البقرة (6). فإن قتله خط فلا ميراث له من الدية، ويرث من المال في قول مالك، ولا يرث في قول الشافعي وأحمد وسفيان وأصحاب الرأي، من المال ولا من الدية شيئا، حسبما تقدم بيانه في البقرة (6). وقول مالك أصح، وبه قال إسحاق وأبو ثور. وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهري والاوزاعي وابن المنذر، لان ميراث من ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع. وكل مختلف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث. (1) في ى: حلف له. (2) في ز: لا تعتبر. (3) هذا ما عليه الجمهور، وبعض يرى أن المسلم يرث الكافر وبه قضى معاذ ومعاوية حتى قال بعض: ما أحسن ما قضى به معاوية ترث أهل الكتاب ولا يرثونا كما تنكح منهم ولا ينكحون منا. راجع فتح الباري ج 12 ص 43 ط بولاق. (4) في ب وى: فيهم. وفي غيرهما: فيه. (5) راجع ج 11 ص 78 (6) راجع ج 1 ص 456 (*)
[ 60 ]
السادسة - أعلم أن الميراث كان يستحق في أول الاسلام بأسباب: منها الحلف والهجرة والمعاقدة، ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي (1)) ان شاء الله تعالى. وأجمع العلماء على أن الاولاد إذا كان معهم من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الانثيين، لقوله عليه السلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها) رواه الائمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى. وهي ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس. فالنصف فرض خمسة: ابنة الصلب، وابنة الابن، والاخت الشقيقة، والاخت للاب، والزوج. وكل ذلك إذا أنفردوا عمن يحجبهم (2) عنه. والربع فرض الزوج مع الحاجب، وفرض الزوجة والزوجات مع عدمه. والثمن فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب. والثلثان فرض أربع: الاثنتين (3) فصاعدا من بنات الصلب، وبنات الابن، والاخوات الاشقاء، أو للاب. وكل هؤلاء إذا أنفردن عمن يحجبهن عنه. والثلث فرض صنفين: الام مع عدم الولد، وولد الابن، وعدم الاثنين فصاعدا من الاخوة والاخوات، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الام. وهذا هو ثلث كل المال. فأما ثلث ما يبقى فذلك للام في مسألة زوج أو زوجة وأبوان، فللام فيها ثلث ما يبقى. وقد تقدم بيانه. وفي مسائل الجد مع الاخوة إذا كان معهم ذوسهم وكان ثلث ما يبقى أحظى له. والسدس فرض سبعة: الابوان والجد مع الولد وولد الابن، والجدة والجدات إذا اجتمعن، وبنات (4) الابن مع بنت الصلب، والاخوات للاب مع الاخت الشقيقة، والواحد من ولد الام ذكرا كان أو أنثى. وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجدة والجدات فإنه مأخوذ من السنة. والاسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء: نسب ثابت، ونكاح منعقد، وولاء عتاقة. وقد تجتمع الثلاثة الاشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها. وقد يجتمع فيه منها شيئان لا أكثر، مثل أن يكون زوجها ومولاها، أو زوجها وابن عمها، فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد: نصفه (1) ص 165 من هذا الجزء. (2) من ى، وباقى الاصول: يحجبهن. (3) في ب وج: لابنتين (4) أي واحدة فصاعدا. (*)
[ 61 ]
بالزوجية ونصفه بالولاء أو بالنسب. ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل ومولاته، فيكون لها أيضا جميع المال إذا أنفردت: نصفه بالنسب ونصفه بالولاء. السابعة - ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية، فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها، ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضا، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة. وجملتهم سبعة عشر. عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل، والاب وأب الاب وهو الجد وإن علا، والاخ وابن الاخ، والعم وابن العم، والزوج ومولى النعمة. ويرث من النساء سبع: البنت وبنت الابن وان سفلت، والام والجدة وإن علت، والاخت والزوجة، ومولاة النعمة وهي المعتقة. وقد نظمهم بعض الفضلاء فقال: والوارثون إن أردت جمعهم * مع الاناث الوارثات معهم عشرة من جملة الذكران * وسبع أشخاص من النسوان وهم، وقد حصرتهم في النظم * الابن وابن الابن وابن العم والاب منهم وهو في الترتيب * والجد من قبل الاخ القريب وابن الاخ الادنى أجل والعم * والزوج والسيد ثم الام وابنة الابن بعدها والبنت * وزوجة وجدة وأخت والمرأة المولاة أعني المعتقة * خذها إليك عدة محققه الثامنة - لما قال تعالى: (في أولادكم) يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه، دنيا (1) أو بعيدا، من الذكور أو الاناث ما عدا الكافر كما تقدم. قال بعضهم: ذلك حقيقة في الاذنين مجاز في الابعدين. وقال بعضهم: هو حقيقة في الجميع، لانه من التولد، غير أنهم يرثون على قدر القرب منه (2)، قال الله تعالى: (يا بني آدم (3)). وقال عليه السلام: (أنا سيد ولد آدم) قال: (يا بني إسماعيل آرموا فإن أباكم كان راميا) إلا أنه غلب عرف الاستعمال في إطلاق ذلك على الاعيان الادنين على تلك الحقيقة، فإن كان (1) كذا في ب وج وز، وفي ط وى: دنيا أو بعدا. (2) في أو ح: منهم. (3) راجع ج 7 ص 182 (*)
[ 62 ]
في ولد الصلب ذكر لم يكن لولد الولد شئ، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم. وإن لم يكن في ولد الصلب ذكر وكان في ولد الولد بدئ بالبنات للصلب، فأعطين إلى مبلغ الثلثين، ثم أعطي الثلث الباقي لولد الولد إذا استووا في القعدد، أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من البنات، للذكر مثل حظ الانثيين. هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وبه قال عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال: إن كان الذكر من ولد الولد بإزاء الولد الانثى رد عليها، وإن كان أسفل منها يرد عليها، مراعيا في ذلك قوله تعالى: (فإن كن نساء فوق أثنتين فلهن ثلثا ما ترك) فلم يجعل للبنات وإن كثرن إلا الثلثين. قلت: هكذا ذكر ابن العربي هذا التفصيل عن ابن مسعود، والذي ذكره ابن المنذر والباجي عنه: أن ما فضل عن بنات الصلب لبني الابن دون بنات الابن، ولم يفصلا. وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور. ونحوه حكى أبو عمر، قال أبو عمر: وخالف في ذلك ابن مسعود فقال: وإذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لبني الابن دون أخواتهم، ودون من فوقهم من بنات الابن، ومن تحتهم. وإلى هذا ذهب أبو ثور وداود بن علي. وروي مثله عن علقمة. وحجة من ذهب هذا المذهب حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت الفرائض فلاولى رجل ذكر) خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. ومن حجة الجمهور قول الله عزوجل: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) لان ولد الولد ولد. ومن جهة النظرو القياس أن كل من يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصبه في الفاضل من المال، كأولاد الصلب. فوجب بذلك أن يشرك ابن الابن أخته، كما يشرك الابن للصلب أخته. فإن احتج محتج لابي ثور وداود أن بنت الابن لما لم ترث شيئا من الفاضل بعد الثلثين منفردة لم يعصبها أخوها. فالجواب أنها إذا كان معها أخوها قويت به وصارت عصبة معه. وظاهر قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) وهي من الولد.
[ 63 ]
التاسعة - قوله تعالى: (فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) الآية. فرض الله تعالى للواحدة النصف، وفرض لما فوق الثنتين الثلثين، ولم يفرض للثنتين (1) فرضا منصوصا في كتابه، فتكلم العلماء في الذليل الذي يوجب لهما الثلثين ما هو ؟ فقيل: الاجماع وهو مردود، لان الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف، لان الله عزوجل قال: (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) وهذا شرط وجزاء. قال: فلا أعطي البنتين الثلثين. وقيل: أعطيتا الثلثين بالقياس على الاختين، فإن الله سبحانه لما قال في آخر السورة: (وله أخت فلها نصف ما ترك) وقال تعالى: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك (2)) فألحقت الابنتان بالاختين في الاشتراك في الثلثين، وألحقت الاخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين. واعترض هذا بأن ذلك منصوص عليه في الاخوات، والاجماع منعقد عليه فهو مسلم بذلك. وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت، علمنا أن للاثنتين (3) الثلثين. احتج بهذه الحجة، وقال هذه المقالة إسماعيل القاضي وأبو العباس المبرد. قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط، لان الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة. فيقول مخالفه: إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهم. وقيل: (فوق) زائدة أي إن كن نساء اثنتين. كقوله تعالى: (فاضربوا فوق الاعناق (4)) أي الاعناق. ورد هذا القول النحاس وابن عطية وقالا: هو خطأ، لان الظروف وجميع الاسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: ولان قوله تعالى: (فاضربوا فوق الاعناق) هو الفصيح، وليست فوق زائدة بل هي محكمة للمعنى، لان ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ. كما قال دريد بن الصمة: أخفض (5) عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعنان الابطال. وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول. ولغة أهل الحجاز وبني أسد الثلث والربع إلى العشر. (1) في ب ود وز وط وى: فوق ابنتين، للبنتين. (2) راجع ج 6 ص 28 (3) في ى: للابنتين. (4) راجع ج 7 ص 378 (5) الذى في سيرة ابن هشام ج 2 ص 852 ط أوربا: وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فانى كذلك كنت أضرب الرجال. (*)
[ 64 ]
ولغة بني تميم وربيعة الثلث بإسكان اللام إلى العشر. ويقال: ثلث القوم أثلثهم، وثلثت الدراهم أثلثها إذا تممتها ثلاثة، وأثلثت هي، إلا أنهم قالوا في المائة والالف: أمأيتها وآلفتها وأمأت وآلفت. العاشرة - قوله تعالى: (وان كانت واحدة فلها النصف) قرأ نافع وأهل المدينة (واحدة) بالرفع على معنى وقعت وحدثت، فهي كانت التامة، كما قال الشاعر: إذا كان الشتاء فأدفئوني * فإن الشيخ يهرمه الشتاء والباقون بالنصب. قال النحاس: وهذه قراءة حسنة. أي وإن كانت المتروكة أو المولودة (واحدة) مثل (فإن كن نساء). فإذا كان مع بنات الصلب بنات ابن، وكان بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن أن يرثن بالفرض، لانه لا مدخل لبنات الابن أن يرثن بالفرض في غير الثلثين. فإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن مع بنات الصلب تكملة الثلثين، لانه فرض يرثه البنتان فما زاد. وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن. وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين في الحجب والميراث. فلما عدم من يستحق منهن السدس كان ذلك لبنت الابن، وهي أولى بالسدس من الاخت الشقيقة للمتوفى. على هذا جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين، إلا ما يروى عن أبي موسى وسليمان بن أبي ربيعة أن للبنت النصف، والنصف الثاني للاخت، ولا حق في ذلك لبنت الابن. وقد صح عن أبي موسى ما يقتضي أنه رجع عن ذلك، رواه البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل (1) بن شرحبيل يقول: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت. فقال: للابنة النصف، وللاخت النصف، وأت ابن مسعود فإنه سيتابعني. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ! أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة اللثين، وما بقي فللاخت. فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم. فإن كان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن في درجتها أو أسفل منها عصبها، فكان النصف الثاني بينهما، للذكر مثل حظ الانثيين بالغا ما بلغ - خلافا لابن مسعود على (1) هكذا ضبطه في أسد الغابة وهامش التذيب، وفي ج وى وط: هذيل بالذال ولا يثبت. (*)
[ 65 ]
ما تقدم - إذا استوفى بنات الصلب، أو بنت الصلب وبنات الابن الثلثين. وكذلك يقول في الاخت لاب وأم، وأخوات وإخوة لاب: للاخت من الاب والام النصف، والباقي للاخوة والاخوات، ما لم يصبهن من المقاسمة أكثر من السدس، فإن أصابهن أكثر من السدس أعطاهن السدس تكملة الثلثين، ولم يزدهن على ذلك. وبه قال أبو ثور. الحادية عشرة - إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. وأجمع أهل العلم على أن الرجل إذا مات وزوجته حبلى أن الولد الذي في بطنها يرث ويورث إذا خرج حيا واستهل (1). وقالوا جميعا: إذا خرج ميتا لم يرث، فإن خرج حيا ولم يستهل فقالت طائفة: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. هذا قول مالك والقاسم ابن محمد وابن سيرين والشعبي والزهري وقتادة. وقالت طائفة: إذا عرفت حياة المولود بتحريك أو صياح أو رضاع أو نفس فأحكامه أحكام الحي. هذا قول الشافعي وسفيان الثوري والاوزاعي. قال ابن المنذر: الذي قاله الشافعي يحتمل النظر، غير أن الخبر يمنع منه وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه). وهذا خبر، ولا يقع على الخبر النسخ. الثانية - لما قال تعالى: (في أولادكم) تناول الخنثى وهو الذي له فرجان. وأجمع العلماء (2) على أنه يورث من حيث يبول، إن بال من حيث يبول الرجل ورث ميراث رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث ميراث المرأة. قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن مالك فيه شيئا، بل قد ذكر ابن القاسم أنه هاب أن يسأل مالكا عنه. فإن بال منهما معا فالمعتبر سبق البول، قاله سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق. وحكي ذلك عن أصحاب الرأي. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في الخنثى: يورثه (3) من حيث يبول، فإن بال منهما جميعا فمن أيهما سبق، فإن بال منهما معا فنصف ذكر ونصف أنثى. وقال يعقوب ومحمد: من أيهما خرج أكثر ورث، وحكي عن الاوزاعي. وقال النعمان: إذا خرج (1) استهل الصبى: رفع صوته باليكاء عند الولادة. (2) في ب: أهل العلم. (3) في د وى: نورثه. (*)
[ 66 ]
منهما معا فهو مشكل، ولا أنظر إلى أيهما أكثر. وروي عنه أنه وقف عنه إذا كان هكذا. وحكي عنه قال: إذا أشكل يعطى أقل النصيبين. وقال يحيى بن آدم: إذا بال من حيث يبول الرجل ويحيض كما تحيض المرأة ورث من حيث يبول، لان في الاثر: يورث من مباله. وفي قول الشافعي: إذا خرج منهما جميعا ولم يسبق أحدهما الآخر يكون مشكلا، ويعطى من الميراث ميراث أنثى، ويوقف الباقي بينه وبين سائر الورثة حتى يتبين أمره أو يصطلحوا، وبه قال أبو ثور. وقال الشعبي: يعطي نصف ميراث الذكر، ونصف ميراث الانثى، وبه قال الاوزاعي، وهو مذهب مالك. قال ابن شاس في جواهره الثمينة، على مذهب مالك عالم المدينة: الخنثى يعتبر إذا كان ذافرجين فرج المرأة وفرج الرجل بالمبال منهما، فيعطى الحكم لما بال منه فإن بال منهما اعتبرت الكثرة من أيهما، فإن تساوى الحال اعتبر السبق، فإن كان ذلك منهما معا اعتبر نبات اللحية أو كبر الثديين ومشابهتهما لثدي النساء، فإن اجتمع الامران اعتبر الحال عند البلوغ، فإن وجد الحيض حكم به، وإن وجد الاحتلام وحده حكم به، فإن أجتمعا فهو مشكل. وكذلك لو لم يكن فرج، لا المختص بالرجال ولا المختص بالنساء، بل كان له مكان يبول منه فقط انتظر به البلوغ، فإن ظهرت علامة مميزة وإلا فهو مشكل. ثم حيث حكمنا بالاشكال فميراثه نصف نصيبي ذكر وأنثى. قلت: هذا الذي ذكروه من العلامات في الخنثى المشكل. وقد أشرنا إلى علامة (1) في (البقرة (2)) وصدر هذه السورة تلحقه بأحد النوعين، وهي اعتبار الاضلاع، وهي مروية عن علي رضي الله عنه وبها حكم. وقد نظم بعض [ الفضلاء (3) ] العلماء حكم الخنثى في أبيات كثيرة أولها (4): وأنه معتبر الاحوال * بالثدي واللحية والمبال وفيها يقول: وان يكن قد استوت حالاته * ولم تبن وأشكلت آياته فحظه من مورث القريب * ستة أثمان من النصيب هذا الذي استحق للاشكال * فيه ما فيه من النكال (1) في ط: علامته. (2) راجع ج 1 ص 302 (3) من ج. (4) هكذا في جميع الاصول، والمتبادر أن البيت معطوف على سابق. (*)
[ 67 ]
وواجب في الحق ألا ينكحا * ما عاش في الدنيا وألا ينكحا إذ لم يكن من خالص العيال * ولا اغتدى من جملة الرجال وكل ما ذكرته في النظم * قد قاله سراة أهل العلم وقد أبى الكلام فيه قوم * منهم ولم يجنح إليه لوم لفرط ما يبدو من الشناعة * في ذكره وظاهر البشاعه وقد مضى في شأنه الخفي * حكم الامام المرتضى علي بأنه إن نقصت أضلاعه * فللرجال ينبغي إتباعه في الارث والنكاح والاحرام * في الحج والصلاة والاحكام وإن تزد ضلعا على الذكران * فانها من جملة النسوان لان للنسوان ضلعا زائده * على الرجال فاغتنمها فائده إذ نقصت من آدم فيما سبق * لخلق حواء وهذا القول حق عليه مما قاله الرسول * صلى عليه ربنا دليل قال أبو الوليد بن رشد: ولا يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة، ولا أبا ولا أما. وقد قيل: إنه قد وجد من له ولد من بطنه وولد من ظهره. قال ابن رشد: فإن صح ورث من ابنه لصلبه ميراث الاب كاملا، ومن ابنه لبطنه ميراث الام كاملا. وهذا بعيد، والله أعلم. وفي سنن الدارقطني عن أبي هانئ عمر بن بشير قال: سئل عامر الشعبي عن مولود ليس بذكر ولا أنثى، ليس له ما للذكر ولا ما للانثى، يخرج من سرته كهيئة البول والغائط، فسئل عامر عن ميراثه فقال عامر: نصف حظ الذكر ونصف حظ الانثى. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (ولابويه) أي لابوي الميت. وهذا كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، كقوله: (حتى توارت بالحجاب (1)) و (إنا أنزلناه في ليلة القدر) و (2) (السدس) رفع بالابتداء، وما قبله خبره: وكذلك (الثلث. والسدس). وكذلك (نصف ما ترك) وكذلك (فلكم الربع). وكذلك (ولهن الربع). و (فلهن الثمن) وكذلك (فلكل (1) راجع ج 15 ص 192 (2) راجع ج 20 ص 129. (*)
[ 68 ]
واحد منهما السدس). والابوان تثنية الاب والابة. واستغني بلفظ الام عن أن يقال لها أبة. ومن العرب من يجري المختلفين مجرى المتفقين، فيغلب أحدهما على الآخر لخفته أو شهرته. جاء ذلك مسموعا في أسماء صالحة، كقولهم للاب والام: أبوان. وللشمس والقمر: القمران. ولليل والنهار: الملوان. وكذلك العمران لابي بكر وعمر رضي الله عنهما. غلبوا القمر على الشمس لخفة التذكير، وغلبوا عمر على أبي بكلان أيام عمرامتدت فاشتهرت. ومن زعم أنه أراد بالعمرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فليس قوله بشئ، لانهم نطقوا بالعمرين قبل أن يروا عمربن عبد العزيز، قال ابن الشجري. ولم يدخل في قوله تعالى: (ولابويه) من علا من الآباء دخول من سفل من الابناء في قوله (أولادكم)، لان قوله: (ولابويه) لفظ مثنى لا يحتمل العموم والجمع أيضا، بخلاف قوله (أولادكم). والدليل (1) على صحة هذا قوله تعالى: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) والام العليا جدة ولا يفرض لها الثلث بإجماع، فخروج الجدة عن هذا اللفظ مقطوع به، وتناوله للجد مختلف فيه. فممن قال هو أب وحجب به الاخوة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك أيام حياته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته، فممن قال إنه أب ابن عباس و عبد الله ابن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة، كلهم يجعلون الجد عند عدم الاب كالاب سواء، يحجبون به الاخوة كلهم ولا يرثون معه شيئا. وقاله عطاء وطاوس والحسن وقتادة. وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق. والحجة لهم قوله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم (2)) (يا بني آدم (3))، وقوله عليه السلام: (يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا). وذهب علي بن أبي طالب وزيد وابن مسعود إلى توريث الجد مع الاخوة، ولا ينقص من الثلث مع الاخوة للاب والام أو للاب إلا مع ذوي الفروض، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول زيد. وهو قول مالك والاوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي وكان علي يشرك بين الاخوة والجد إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفرائض وغيرهم. وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة. وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث (1) في ى: يدل. (2) راجع ج 12 ص 99 (3) راجع ج 7 ص 182 (*)
[ 69 ]
مع الاب وأن الابن يحجب أباه. وأنزلوا الجد بمنزلة الاب في الحجب والميراث إذا لم يترك المتوفى أبا أقرب منه في جميع المواضع. وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الاخوة من الميراث، إلا ما روي عن الشعبي عن علي أنه أجرى بني الاخوة في المقاسمة مجرى الاخوة. والحجة لقول الجمهور أن هذا ذكر لا يعصب أخته فلا يقاسم الجد كالعم وابن العم. قال الشعبي: أول جد ورث في الاسلام عمربن الخطاب رضي الله عنه، مات ابن لعاصم بن عمر وترك أخوين فأراد عمر أن يستأثر بمال فاستشار عليا وزيدا في ذلك فمثلا له مثلا فقال: لولا أن رأيكما اجتمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أكون أباه. روى الدارقطني عن زيد ابن ثابت أن عمر بن الخطاب استأذن عليه يوما فأذن له، ورأسه في يد جارية له ترجله، فنزع رأسه، فقال له عمر: دعها ترجلك. فقال: يا أميرا لمؤمنين، لو أرسلت إلي جئتك. فقال عمر إنما الحاجة لي، إني جئتك لتنظر في أمر الجد. فقال زيد: لا والله (1) ! ما تقول فيه. فقال عمر: ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص، إنما هو شئ تراه (2)، فإن رأيته وافقني تبعته، وإلا لم يكن عليك فيه شئ. فأبى زيد، فخرج مغضبا وقال: قد جئتك وأنا أظن ستفرغ من حاجتي. ثم أتاه مرة أخرى في الساعة التي أتاه في المرة الاولى، فلم يزل به حتى قال: فسأكتب لك فيه. فكتبه في قطعة قتب (3) وضرب له مثلا. إنما مثله مثل شجرة تنبت على ساق واحدة، فخرج فيها غصن ثم خرج في غصن غصن آخر، فالساق يسقي الغصن، فإن قطعت الغصن الاول رجع الماء إلى الغصن، وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الاول. فأتى به فخطب الناس عمر ثم قرأ قطعة القتب عليهم ثم قال: إن زيد بن ثابت قد قال في الجد قولا وقد أمضيته. قال: وكان عمر أول جد كان، فأراد أن يأخذ المال كله، مال ابن ابنه دون إخوته، فقسمه بعد ذلك عمربن الخطاب رضي الله عنه. (1) قوله: لا والله. أي ليس القول في هذه المسألة الذى ينبغى في هذه الواقعة كما تقول. (2) قوله: ليس هو يوحى. أي ليس الذى جرى بينى وبينك فيه نص من القران حتى تحرم مخالفتة والزيادة فيه أو النقصان عنه. وقوله: انما هو شئ تراه. أي تقوله برأيك وأنا أقول برأيى. (عن شرح سنن الدارقطني). (3) القتب (بكسر القاف وسكون التاء وشجريكهما): الامعاء. (*)
[ 70 ]
الرابعة عشرة - وأما الجدة فأجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم. وأجمعوا على أن الام تحجب أمها وأم الاب. وأجمعوا على أن الاب لا يحجب أم الام. واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي، فقالت طائفة: لا ترث الجدة وابنهاحي. روي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي. وبه قال مالك والثوري والاوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: ترث الجدة مع ابنها. روي عن عمر وابن مسعود وعثمان وعلي وأبي موسى الاشعري، وقال به شريح وجابر بن زيد وعبيدالله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر. وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب كذلك الجدة لا يحجبها إلا الام. وروى الترمذي عن عبد الله قال في الجدة مع ابنها: إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا (1) مع ابنها وابنها حي. والله أعلم. الخامسة عشرة - واختلف العلماء في توريث الجدات، فقال مالك: لا يرث إلا جدتان، أم أم وأم أب وأمهاتهما. وكذلك روى أبو ثور عن الشافعي، وقال به جماعة من التابعين. فإن انفردت إحداهما فالسدس لها، وإن اجتمعتا وقرابتهما سواء فالسدس بينهما. وكذلك إن كثرن إذا تساوين في القعدد، وهذا كله مجمع عليه. فإن قربت التي من قبل الام كان لها السدس دون غيرها، وإن قربت التي من قبل الاب كان بينها وبين التي من قبل الام وإن بعدت. ولا ترث إلا جدة واحدة من قبل الام. ولا ترث الجدة أم أب الام على حال. هذا مذهب زيد بن ثابت، وهو أثبت ما روي عنه في ذلك. وهو قول مالك وأهل المدينة. وقيل: إن الجدات أمهات، فإذا أجتمعن فالسدس لاقربهن، كما أن الآباء إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم و، فكذلك البنون والاخوة، وبنو الاخوة وبنو العم إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم، فكذلك الامهات. قال ابن المنذر: وهذا أصح، وبه أقول. وكان الاوزاعي يورث ثلاث جدات: واحدة من قبل الام واثنتين من قبل الاب. وهو قول أحمد بن حنبل، رواه الدار قطني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وروي عن زيد بن ثابت عكس هذا، أنه كان يورث ثلاث جدات: ثنتين من جهة الام (1) في ب وى: سدسها. (*)
[ 71 ]
وواحدة من قبل الاب. وقول علي رضي الله عنه كقول زيد هذا. وكانا يجعلان السدس لاقربهما، من قبل الام كانت أو من قبل الاب. ولا يشركها فيه من ليس في قعددها، وبه يقول الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور. وأما عبد الله بن مسعود وابن عباس فكانا يورثان الجدات الاربع، وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد. قال ابن المنذر: وكل جدة إذا نسبت إلى المتوفى وقع في نسبها أب بين أمين فليست ترث، في قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم. السادسة عشرة - قوله تعالى: (لكل واحد منها السدس) فرض تعالى لكل واحد من الابوين مع الولد السدس، وأبهم الولد فكان الذكر والانثى فيه سواء. فإن مات رجل وترك ابنا وأبوين فلابويه لكل واحد منهما السدس، وما بقي فللابن. فإن ترك ابنة وأبوين فللا بنة النصف وللابوين السدسان، وما بقي فلا قرب عصبة وهو الاب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقت الفرائض فلاولى رجل ذكر). فأجتمع للاب الاستحقاق بجهتين: التعصيب والفرض. (فان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) فأخبرجل ذكره أن الابوين إذا ورثاه أن للام الثلث. ودل بقوله: (وورثه أبواه) وإخباره أن للام الثلث، أن الباقي وهو الثلثان للاب. وهذا كما تقول لرجلين: هذا المال بينكما، ثم تقول لاحدهما: أنت يا فلان لك منه ثلث، فإنك حددت للآخر منه الثلثين بنص كلامك، ولان قوة الكلام في قوله: (وورثه أبواه) يدل على أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره، وليس في هذا اختلاف. قلت: وعلى هذا يكون الثلثان فرضا للاب مسمى لا يكون عصبة، وذكر ابن العربي أن المعنى في تفضيل الاب بالثلث عند عدم الولد الذكورية والنصرة، ووجوب المؤنة عليه، وثبتت الام على سهم لاجل القرابة. قلت: وهذا منتقض، فإن ذلك موجود مع حياته فلم حرم السدس. والذي يظهر أنه أنما حرم السدس في حياته إرفاقا بالصبي وحياطة على ماله، إذ قد يكون إخراج جزء من ماله إجحافا به. أو أن ذلك تعبد، وهو أولى ما يقال. والله الموفق.
[ 72 ]
السابعة عشرة - إن قيل: ما فائدة زيادة الواو في قوله: (وورثه أبواه)، وكان ظاهر الكلام أن يقول: فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه. قيل له: أراد بزيادتها الاخبار ليبين أنه أمر مستقر ثابت فيخبر عن ثبوته واستقراره، فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الولدين، للذكر مثل حظ الانثيين. ويجتمع للاب بذلك فرضان السهم والتعصيب إذ يحجب الاخوة كالولد. وهذا عدل في الحكم، ظاهر في الحكمة. والله أعلم. الثامنة عشرة - قوله تعالى: (فلامه الثلث) قرأ أهل الكوفة (فلامه الثلث) وهى لغة حكاها سيبويه. قال الكسائي: هي لغة كثير من هوازن وهذيل، ولان اللام لما كانت مكسورة وكانت متصلة بالحرف كرهوا ضمة بعد كسرة، فأبدلوا من الضمة كسرة، لانه ليس في الكلام فعل. ومن ضم جاء به على الاصل، ولان اللام تنفصل لانها داخلة على الاسم. قال جميعه النحاس. التاسعة عشرة - قوله تعالى: (فان كان له اخوة فلامه السدس) الاخوة يحجبون الام عن الثلث إلى السدس، وهذا هو حجب النقصان، وسواء كان الاخوة أشقاء أو للاب أو للام، ولا سهم لهم. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: السدس الذي حجب الاخوة الام عنه هو للاخوة. وروي عنه مثل قول الناس انه للاب. قال قتادة: وإنما أخذه الاب دونهم، لانه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وأجمع أهل العلم على أن أخوين فصاعدا ذكرانا كانوا أو إناثا من أب وأم، أو من أب أو من أم يحجبون الام عن الثلث إلى السدس، إلا ما روي عن ابن عباس أن الاثنين من الاخوة في حكم الواحد، ولا يحجب الام أقل من ثلاث. وقد صار بعض الناس إلى أن الاخوات لا يحجبن الام من الثلث إلى السدس، لان كتاب الله في الاخوة وليست قوة ميراث الاناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الالحاق. قال الكيا الطبري: ومقتضى أقوالهم ألا يدخلن مع الاخوة، فإن لفظ الاخوة بمطلقه لا يتناول الاخوات، كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات. وذلك يقتضي ألا تحجب الام بالاخ الواحد والاخت من الثلث إلى السدس، وهو خلاف إجماع
[ 73 ]
المسلمين. وإذا كن مرادات بالآية مع الاخوة كن مرادات على الانفراد. واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان، لان التثنية جمع شئ إلى مثله، فالمعنى يقتضي أنها جمع. وقال عليه السلام: (الاثنان فما فوقهما جماعة). وحكي عن سيبويه أنه قال: سألت الحليل عن قوله (ما أحسن وجوههما) ؟ فقال: الاثنان جماعة. وقد صح قول الشاعر: ومهمهين قذفين مرتين * ظهرا هما مثل ظهور الترسين (1) وأنشد الاخفش: لما أتتنا المرأتان بالخبر * فقلن إن الامر فينا قد شهر وقال آخر: يحيى بالسلام غني قوم * ويبخل بالسلام على الفقير أليس الموت بينهما سواء * إذا ماتوا وصاروا في القبور ولما وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عباس قال له عثمان: إن قومك حجبوها - يعني قريشا - وهم أهل الفصاحة والبلاغة. وممن قال: إن أقل الجمع ثلاثة - وإن لم يقل به هنا - ابن مسعود والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم. والله أعلم. الموفية عشرين - قوله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم (2) (يوصى) بفتح الصاد. الباقون بالكسر، وكذلك الآخر. واختلفت الرواية فيهما عن عاصم. والكسر أختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لانه جرى ذكر الميت قبل هذا. قال الاخفش: وتصديق ذلك قوله تعالى (يوصين) و (توصون). الحادية والعشرون - إن قيل: ما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين، والدين مقدم عليها بإجماع. وقد روى الترمذي عن الحارث عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرون (3) الوصية قبل الدين. قال: والعمل على هذا عند عامة (1) هذا البيت من رجزا لخطام المجاشعى، وهو شاعر اسلامي. والمهمه.: القفر المخوف. والقذف (بفتحتين وبضمتين): البعيد من الارض. وفى ج: (فدفدين) وهى رواية. والفدفد: الارض المستوية. والمرت (بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثناة فوقية): الارض التى لا ماء فيهاو لا نبات. والظهر: ما ارتفع من الارض. (2) في رواية أبى بكر. (3) كذا في الترمذي وفى ب وى وز وط، وفي غيرها: تقرءون. ولا يصح. (*)
[ 74 ]
أهل العلم أنه يبدأ بالدين قبل الوصية. وروى الدار قطني من حديث عاصم بن ضمرة عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين قبل الوصية وليس لوارث وصية). رواه عنهما أبو إسحاق الهمداني. فالجواب من أوجه خمسة: الاول - إنما قصد تقديم هذين الفصلين على الميراث ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما، فلذلك تقدمت الوصية في اللفظ. جواب ثان - لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدمها اهتماما بها، كما قال تعالى: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة (1)). جواب ثالث - قدمها لكثرة وجودها ووقوعها، فصارت كاللازم لكل ميت مع نص الشرع عليها، وأخر الدين لشذوذه، فإنه قد يكون وقد لا يكون. فبدأ بذكر الذي لا بد منه، وعطف بالذي قد يقع أحيانا. ويقوى هذا: العطف بأو، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو. جواب رابع - إنما قدمت الوصية إذ هي حظ مساكين وضعفاء، وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وله فيه مقال. جواب خامس - لما كانت الوصية ينشئها (2) من قبل نفسه قدمها، والدين ثابت مؤدى ذكره أو لم يذكره. الثانية والعشرون - ولما ثبت هذا تعلق الشافعي بذلك في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث فقال: ان الرجل إذا فرط في زكاته وجب أخذ ذلك من رأس ماله. وهذا ظاهر ببادئ الرأي، لانه حق من الحقوق فيلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن أوصى بها أديت من ثلثه، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شئ. قالوا: لان ذلك موجب لترك الورثة فقراء، إلا أنه قد يتعمد ترك الكل حتى إذا مات استغرق ذلك جميع ماله فلا يبقى للورثة حق. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: (آبأؤكم وأبناؤكم) رفع بالابتداء والخبر مضمر، تقديره: هم المقسوم عليهم وهم المعطون. الرابعة والعشرون - قوله تعالى: (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا) قيل: في الدنيا بالدعاء والصدقة، كما جاء في الاثر (إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده). وفي الحديث الصحيح (1) راجع ج 10 ص 418 (2) كذا في الاصول الاد: يثبتها، وز: ثبتها. (*)
[ 75 ]
(إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث - فذكر - أو ولد صالح يدعو له (1)). وقيل: في الآخرة، فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه، عن ابن عباس والحسن. وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع من درجة أبيه في الآخرة سأل الله فرفع إليه أباه، وكذلك الاب إذا كان أرفع من ابنه، وسيأتي في (الطور (2)) بيانه. وقيل: في الدنيا والآخرة، قاله ابن زيد. واللفظ يقتضي ذلك. الخامسة - والعشرون - قوله تعالى: (فريضة) (فريضة) نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى (يوصيكم) يفرض عليكم. وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، والعامل (يوصيكم) وذلك ضعيف. والآية متعلقة بما تقدم، وذلك أنه عرف العباد أنهم كفوا مؤنة الاجتهاد في إيصاء القرابة مع اجتماعهم في القرابة، أي أن الآباء والابناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء والابناء تقرر ذلك في جميع الاقارب، فلو كان القسمة موكولة إلى الاجتهاد لوجوب النظر في غنى كل واحد منهم. وعند ذلك يخرج الامر عن الضبط إذ قد يختلف الامر، فبين الرب تبارك وتعالى أن الاصلح للعبد ألا يوكل إلى اجتهاده في مقادير المواريث، بل بين المقادير شرعا. ثم قال: (ان الله كان عليما) أي بقسمة المواريث (حكيما) حكم قسمتها وبينها لاهلها. وقال الزجاج: (عليما) أي بالاشياء قبل خلقها (حكيما) فيما يقدره ويمضيه منها. وقال بعضهم: إن الله سبحانه لم يزل ولا يزال، والخبر منه بالماضي كالخبر منه (3) بالاستقبال. ومذهب سيبويه أنهم رأوا حكمة وعلما فقيل لهم: إن الله عزوجل كان كذلك لم يزل على ما رأيتم. السادسة والعشرون - قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) الايتين. الخطاب للرجال. والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا، ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع. وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد، وله مع وجوده الربع. وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد، والثمن مع وجوده. وأجمعوا على أن (1) الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). (2) راجع ج 17 ص 66 (3) في ب: عنه. (*)
[ 76 ]
حكم الواحدة من الازواج والثنتين والثلاث والاربع في الربع إن لم يكن له ولد، وفي الثمن إن كان له ولد واحد، وأنهن شركاء في ذلك، لان الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن وبين حكم الجميع، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الاخوات وبين حكم الجميع منهن. السابعة والعشرون - قوله تعالى: (وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة) الكلالة مصدر، من تكلله النسب أي أحاط به. وبه سمي الاكليل، وهي منزلة من منازل القمر لاحاطتها بالقمر إذا احتل بها. ومنه الاكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس. فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة. هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم. وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الاحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال: ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد. وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الانباري. فالاب والابن طرفان للرجل، فإذا ذهبا تكلله النسب. ومنه قيل: روضة مكللة إذا حفت بالنور. وأنشدوا: مسكنه روضة مكللة * عم بها الايهقان والذرق (1) يعني نبتين. وقال امرؤ القيس: أصاح ترى برقا أريك وميضه * كلمع اليدين في حبى مكلل (2) فسموا القرابة كلالة، لانهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وإحاطتهم به أنهم ينتسبون (3) معه. كما قال أعرابي: مالى كثير ويرثتى كلالة متراخ نسبهم. وقال الفرزدق: ورثتم قناة المجد لا عن كلالة * عن انبى مناف عبد شمس وهاشم (1) الايهقان: الجرجير البرى. والذرق: بقلة وحشيشة كالقث الرطب. في اللسان: قال مرة: الذرق نبات مثل الكرات الجبلى الدقاق له في رأسه قماعل صغار فيها حب أغبر حلو يؤكل رطبا تحبه الرعاء ويأتون بها أهليهم وله نصال صغار لها قشرة سوداء تقشر عن بياض صادقة الحلاوة كثيرة الماء يأكلها الناس. قال المصحح: يسمى في المغرب اجيز يظهر في الخصب. (2) ومض البرق: لمع. وكلمع اليدين: كاشارة اليدين. والحبى: السحاب المعترض. والمكلل: الذى في جوانبه البرق مثل الا كليل. (3) من ج وب وى، وفى ا وح وط: ينسبون. (*)
[ 77 ]
وقال آخر: وإن أبا المرء أحمى له * ومولى الكلالة لا يغضب (1) وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الاعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء. قال الاعشى: فآليت لا أرثي لها من كلالة * ولا من وجى حتى تلاقي محمدا وذكر أبو حاتم والاثرم عن أبى عبيدة قال: الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة. قال أبو عمر: ذكر أبي عبيدة الاخ هنا مع الاب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره. وروي عن عمر بن الخطاب أن الكلالة من لا ولد له خاصة، وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه. وقال ابن زيد: الكلالة الحي والميت جميعا. وعن عطاء: الكلالة المال. قال ابن العربي: وهذا قول طريف لا وجه له. قلت: له وجه يتبين بالاعراب [ آنفا (3) ]. وروي عن ابن الاعرابي أن الكلالة بنو العم الاباعد. وعن السدي أن الكلالة الميت. وعنه مثل قول الجمهور. وهذه الاقوال تتبين وجوهها بالاعراب، فقرأ بعض الكوفيين (يورث كلالة) بكسرالراء وتشديدها. وقرأ الحسن وأيوب (يورث) بكسر الراء وتخفيفها، على اختلاف عنهما. وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال. كذلك حكى أصحاب المعاني، فالاول من ورث، والثاني من أورث. و (كلالة) مفعوله و (كان) بمعنى وقع. ومن قرأ (يورث) بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال، والتقدير: يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف. ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان، فالتقدير: ذا ورثة. ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع، و (يورث) نعت لرجل، و (رجل) رفع بكان، و (كلالة) نصب على التفسير أو الحال، على أن الكلالة هو الميت، التقدير: وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت. (1) أراد أن أبا أغضب له أذا ظلم. وموالى الكلاله وهم الاخوة والاعمام وبنو الاعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمر غضب الاب. (2) الوجى: الحفى. (3) في د وى وط وز، وفى ج وه أيضا. (*)
[ 78 ]
الثامنة والعشرون - ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين آخر السورة وهنا، ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الاخوة. فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الاخوة فيها عني بها الاخوة للام، لقوله تعالى: (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث). وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ (وله أخ أو أخت من أمه). ولا خلاف بين أهل العلم أن الاخوة للاب والام أو الاب ليس ميراثهم كهذا، فدل إجماعهم على أن الاخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لابيه وأمه أو لابيه، لقوله عزوجل (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين (1)). ولم يختلفوا أن ميراث الاخوة للام ليس هكذا، فدلت الآيتان أن الاخوة كلهم جميعا كلالة. وقال الشعبي: (الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة). كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس، وهو القول الاول الذي بدأنا به. قال الطبري: والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده، لصحة خبر جابر: فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله ؟ قال: (لا). التاسعة والعشرون - قال أهل اللغة: يقال رجل كلالة وامرأة كلالة. ولا يثنى ولا يجمع، لانه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة. وأعاد ضمير مفرد في قوله: (وله أخ) ولم يقل لهما. ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا، تقول: من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم، قال الله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة (2)). وقال تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما (3)) ويجوز أولى بهم، عن الفراء وغيره. ويقال في امرأة: مرأة، وهو الاصل. وأخ أصله أخو، يدل عليه أخوان، فحذف منه وغير على غير قياس. قال الفراء ضم أول أخت، لان المحذوف منها واو، وكسر أول بنت، لان المحذوف منها ياء. وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا. (1) راجع ج 6 ص 28 (2) راجع ج 1 ص 371 (3) راجع ص 410 من هذا الجزء. (*)
[ 79 ]
الموفية ثلاثين - قوله تعالى: (فان كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والانثى وإن كثروا. وإذا كانوا يأخذون بالام فلا يفضل الذكر على الانثى. وهذا إجماع من العلماء، وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والانثى سواء إلا في ميراث الاخوة للام. فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لامها فللزوج النصف وللام الثلث وللاخ من الام السدس. فإن تركت أخوين وأختين - والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللام السدس وللاخوين والاختين الثلث، وقد تمت الفريضة. وعلى هذا عامة الصحابة، لانهم حجبوا الام بالاخ والاخت من الثلث إلى السدس. وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للام الثلث لعالت المسألة، وهو لا يرى ذلك. والعول (1) مذكور في غير هذا الموضع، ليس هذا موضعه. فإن تركت زوجها وإخوة لام وأخا لاب وأم، فللزوج النصف، ولاخوتها لامها الثلث، وما بقي فلاخيها لامها وأبيها. وهكذا من له فرض مسمى أعطيه، والباقي للعصبة إن فضل. فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية (2)، وتسمى أيضا المشتركة. قال قوم: للاخوة للام الثلث، وللزوج النصف، وللام السدس، وسقط الاخ والاخت من الاب والام، والاخ والاخت من الاب. روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر، لان الزوج والام والاخوين للام أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شئ. وقال قوم: الام واحدة، وهب أن أباهم كان حمارا ! وأشركوا بينهم في الثلث، ولهذا سميت المشتركة والحمارية. روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق. ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا. فهذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية، والله الموفق للهداية. وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء، فأبطل الله عزوجل ذلك بقوله: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب) كما تقدم. وكانت الوراثة (1) عالت الفريضة: ارتفعت وزادت سهامها على أصل حسابها الموجب عن عدد وارثيها. (2) من قولهم: هب أن أبانا كان حمارا، كما سيجئ. (*)
[ 80 ]
أيضا في الجاهلية وبدء الاسلام بالمحالفة، قال الله عزوجل: (والذين عقدت أيمانكم) على ما يأتي بيانه (1). ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة، قال الله تعالى: [ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا (2) ] وسيأتي. وهناك يأتي القول في ذوي الارحام وميراثهم، إن شاء الله تعالى. وسيأتي في سورة (النور (3)) ميراث ابن (4) الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى. والجمهور من العلماء على أن الاسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت، لانه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الاسلام جارية عليهم. وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الاسير في يد العدو: لا يرث. وقد تقدم ميراث المرتد في سورة (البقرة (5)) والحمد لله. الحادية والثلاثون - قوله تعالى: (غير مضار) نصب على الحال والعامل (يوصي). أي يوصي بها غير مضار، أي غير مدخل الضرر على الورثة. أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة، ولا يقر بدين. فالاضرار راجع إلى الوصية والدين، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد، إلا أن يجيزه الورثة، لان المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا. وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز. وقد تقدم هذا في (البقرة (6)). وأما رجوعه إلى الدين فبالا قرار في حالة لا يجوز له فيها، كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف، فإن ذلك لا يجوز عندنا. وروي عن الحسن أنه قرأ (غير مضار وصية من الله) على الاضافة. قال النحاس: وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن، لان اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر. والقراءة حسنة على حذف، والمعنى: غير مضار ذي وصية، أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم. وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة. الثانية والثلاثون - فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لاجنبي بدين، فقالت طائفة: يبدأ بدين الصحة، هذا قول النخعي والكوفيين (7). قالوا: فإذا استوفاه صاحبه (1) راجع ص 165 من هذا الجزء. (2) راجع ج 8 ص 55 (3) راجع ج 12 ص 195 (4) في أو ج: ولد. وفى ى وط وز: ميراث الملاعنة. (5) راجع ج 3 ص 49 (6) راجع ج 2 ص 257 (7) في ط: والكوفيون. (*)
[ 81 ]
فأصحاب الاقرار في (1) المرض يتحاصون. وقالت طائفة: هما سواء إذا كان لغير وارث. هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد، وذكر أبو عبيد إنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن. الثالثة والثلاثون - قد مضى في (البقرة (2)) الوعيد في الاضرار في الوصية ووجوهها. وقد روى أبو داود من حديث شهر بن حوشب (وهو مطعون فيه) عن أبى هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنه ثم يحضرهما الموت فيضار ان في الوصية فتجب لهما النار). قال: وقرأ علي أبو هريرة من هاهنا (من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار) حتى بلغ (ذلك الفوز العظيم). وقال ابن عباس: الاضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه، لان ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء. وفي المذهب قوله: أن ذلك مضارة ترد. وبالله التوفيق. الرابعة والثلاثون - قوله تعالى: (وصية) (وصية) نصب على المصدر في موضع الحال والعامل (يوصيكم) ويصح أن يعمل فيها (مضار) والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا، قاله ابن عطية، وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ (غير مضار وصية) بالاضافة، كما تقول: شجاع حرب. وبضة (3) المتجرد، في قول طرفة بن العبد. والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى. ثم قال: (والله عليم حليم) يعني عليم بأهل (4) الميراث حليم على أهل الجهل منكم. وقرأ بعض المتقدمين (والله عليم حكيم (5)) يعنى حكيم بقسمة الميراث والوصية. الخامسة والثلاثون - قوله تعالى: (تلك حدود الله) و (تلك) بمعنى هذه، أي هذه أحكام الله بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها. (ومن يطع الله ورسوله) في قسمة (1) في ج: على. (2) راجع ج 2 ص 271 (3) البضة: البيضاء الرخصة. والمتجرد: جسدها المتجرد من ثيابها. والبيت: رحيب قطاب الجيب منها رفيقة * بحبس الندامى بضة المتجرد (4) في ب وط وج: عليما في أمر الميراث حليما. (5) لم تقف على هذا في القراءات الشواذ فلا عبرة به. (*)
[ 82 ]
المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى (يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار) جملة في موضع نصب على النعت لجنات. قوله: (ومن يعص الله ورسوله) يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها (ويتعد حدود) أي يخالف أمره (يدخله نارا خالدا فيها) والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما. كما تقول: خلد الله ملكه. وقال زهير: ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا (1) * وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. وقرأ نافع وابن عامر (ندخله) بالنون في الموضعين، على معنى الاضافة إلى نفسه سبحانه. الباقون بالياء كلاهما، لانه سبق ذكر اسم الله تعالى قوله تعالى: والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاسشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا فيه ثمان مسائل: الاولى - لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الاحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن، وأنجر الامر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف. الثانية - قوله تعالى: (واللاتي) (اللاتي) جمع التي، وهو اسم مبهم للمؤنث، وهي معرفة ولا يجوز نزع الالف واللام منه للتنكير، ولا يتم إلا بصلته، وفيه ثلاث لغات كما تقدم. ويجمع أيضا (اللات) بحذف الياء وإبقاء الكسرة، و (اللائي) بالهمزة وإثبات الياء، و (اللاء) بكسر الهمزة وحذف الياء، و (اللا) بحذف الهمزة. فإن (1) صدره: * ألا لا أرى على الحوادث باقيا * (*)
[ 83 ]
جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي، وفي اللاء: اللوائي. وقد روي عنهم (اللوات) بحذف الياء وإبقاء الكسرة، قاله ابن الشجري. قال الجوهري: أنشد أبو عبيد: من اللواتي والتي واللات * زعمن أن قد كبرت لدات واللوا بإسقاط التاء. وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد، قال الراجز: * بعد اللتيا واللتيا (1) والتى * وبعض الشعراء أدخل على (التي) حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الالف واللام إلا في قولنا: يا الله وحده، فكأنه شبهها به من حيث كانت اگلف واللام غير مفارقتين لها. وقال: من أجلك يالتي تيمت قلبى * وأنت بخيلة بالود عنى ويقال: وقع في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية. الثالثة - قوله تعالى: (يأتين الفاحشة) الفاحشة في هذا الموضع الزنا، والفاحشة الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعاقبة والعافية. وقرأ ابن مسعود (بالفاحشة) بباء الجر. الرابعة - قوله تعالى: (من نسائكم) إضافة في معنى الاسلام وبيان حال المؤمنات، كما قال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم (2)) لان الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم. الخامسة - قوله تعالى: (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) أي من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد. وتعديل الشهود بالاربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والانجيل والقرآن، قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة (3)) وقال هنا: (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم). وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم [ قد (4) ] زنيا فقال: [ النبئ صلى الله عليه وسلم (4) ] (ائتوني بأعلم رجلين منكم) فأتوه بابني صوريا فنشدهما: (كيف تجدان أمر هذين في التوراة) ؟ قالا: نجد في التوراة (1) هذا صدر بيت للعجاج، وعجزه: إذا علتها نفس تردت. (2) راجع ج 3 ص 389 (3) راجع ج 12 ص 171 (4) من أبى داود كما في ابن العربي. (*)
[ 84 ]
إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال: (فما يمنعكما أن ترجموهما)، قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما. وقال قوم: إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق، إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما، وهذا ضعيف، فإن اليمين تدخل في الاموال واللوث (1) في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا. السادسة - ولا بد أن يكون الشهود ذكورا، لقوله: (منكم) ولا خلاف فيه بين الامة. وأن يكونوا عدولا، لان الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة وهذا أعظم، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل، على ما هو مذكور في أصول الفقه. ولا يكونون ذمة (2)، وإن كان الحكم على ذمية، وسيأتي ذلك في (المائدة (3)) وتعلق أبو حنيفة بقوله: (أربعة منكم) في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن. وسيأتي بيانه في (النور (4)) إن شاء الله تعالى. السابعة - قوله تعالى: (فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت) هذه أول عقوبات (5) الزناة، وكان هذا في ابتداء الاسلام، قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالاذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بأية (النور) وبالرجم في الثيب. وقالت فرقة: بل كان الايذاء هو الاول ثم نسخ بالامساك، ولكن التلاوة أخرت وقدمت، ذكره ابن فورك، وهذا الامساك والحبس في البيوت كان في صدر الاسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذلهم سجن، قاله ابن العربي. (1) اللوث: هو أن يشهد شاهد واحد على اقرار المقتول قبل أن يموت: أن فلانا قتلني، أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما أو تهديد منه له، أو نحو ذلك. (النهاية). (2) في ج: ولا يكون ذمية، وفى ط وى وز: ذمة. والمراد المعاهدون. وفي البحر: ولا يكونوا. (3) راجع ج 6 ص 349 فما بعد. (4) راجع ج 12 ص 182 فما بعد. (5) كذا في ابن عطية، والعبارة له. وفي الاصول: عزمات. (*)
[ 85 ]
الثامنة - واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو توعدا بالحد على قولين: أحدهما - أنه توعد بالحد، والثاني - أنه حد، قاله ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه. وهذا يدل على أنه كان حدابل أشد، غير أن ذلك الحكم كان ممدودا (1) إلى غاية وهو الاذى في الآية الاخرى، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل، وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). وهذا نحو قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل (2)) فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه هذا قول المحققين المتأخرين من الاصوليين، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما، والجمع ممكن بين الحبس والتعيير (3) والجلد والرجم، وقد قال بعض العلماء: أن الاذى والتعيير (3) باق مع الجلد، لانهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز. والله أعلم. قوله تعالى: والذان يأتيانها منكم فاذوهما فان تابا وأصلحا فأعر ضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما (16) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (واللذان) (اللذان) تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان. قال سيبويه: حذفت اليا ء ليفرق بين الاسماء المتمكنة والاسماء المبهمات. وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا، إذ قد أمن اللبس في اللذان، لان النون لا تنحذف، ونون التثنية في الاسماء المتمكنة قد تنحذف مع الاضافة في رحياك ومصطفيا القوم، فلو حذفت الياء لا شتبه المفرد بالاثنين. وقرأ ابن كثير (اللذان) بتشديد (1) كذا في ابن العربي. والاصول: كان محدودا. كلاهما ممدود. (3) راجع ج 2 ص 321 (3) في ج: التعزير. (*)
[ 86 ]
النون، وهي لغة قريش، وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف (ذا) على ما يأتي بيانه في سورة (القصص) عند قوله تعالى: (فذانك برهانان (1)). وفيها لغه أخرى (اللذا) بحذف النون (2). هذا قول الكوفيين. وقال البصريون: إنما حذفت النون لطول الاسم بالصلة. وكذلك قرأ (هذان) و (فذانك برهانان) بالتشديد فيهما. والباقون بالتخفيف. وشدد أبو عمرو (فذانك برهانان) وحدها. و (اللذان) رفع بالابتداء. قال سيبويه: المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها، أي الفاحشة (منكم). ودخلت الفاء في (فاذوهما) لان في الكلام معنى الامر، لانه لما وصل الذي بالفعل تمكن فيه معنى الشرط، إذ لا يقع عليه شئ بعينه، فلما تمكن الشرط والابهام فيه جرى مجرى الشرط فدخلت الفاء، ولم يعمل فيه ما قبله من الاضمار كما لا يعمل في الشرط ما قبله، فلما لم يحسن إضمار الفعل قبلهما لينصبا رفعا بالابتداء، وهذا أختيار سيبويه. ويجوز النصب على تقدير إضمار فعل، وهو الاختيار إذا كان في الكلام معنى الامر والنهي نحو قولك: اللذين عندك فأكرمهما. الثانية - قوله تعالى: (فاذوهما) قال قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير. وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال. قال النحاس: وزعم قوم أنه منسوخ. قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (واللاتي يأتين الفاحشة) و (اللذان يأتيانها) كان في أول الامر فنسختهما الآية التي في (النور (3)). قاله النحاس: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عزوجل. الثالثة - واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: (واللاتي) وقوله: (واللذان) فقال مجاهد وغيره: الآية الاولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة. وبين لفظ (4) التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الاذى. وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة. ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الاولى: (من نسائكم) وفي الثانية (1) راجع ج 13 ص 285 (2) في ز: اللذا بحذف النون اللذان بفتح النون. كذا. (3) راجع ج 12 ص 195 (4) في ج وط وى: بلفظ. (*)
[ 87 ]
(منكم) واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس. وقال السدي وقتادة وغيرهما: الاولى في النساء المحصنات. يريد: ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين. قال ابن عطية: ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه. وقد رجحه الطبري، وأباه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد، لانه لا يخرج الشئ إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة. وقيل: كان الامساك للمرأة الزانية دون الرجل، فخصت المرأة بالذكر في الامساك ثم جمعا في الايذاء. قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا، وهذا لان الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب. الرابعة - واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لاحكام الزناة على ما بيناه، فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق. وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد. وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور، متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية (1) ولم يجلدهما، وبقوله عليه السلام لانيس: (اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد، فلو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم: إنما سكت عنه، لانه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن، لان قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) يعم جميع الزناة. والله أعلم. ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له: عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح. الخامسة - واختلفوا في نفي البكر مع الجلد، فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد، قاله الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو قول ابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، وبه قال عطاء وطاوس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. (1) الغامدية بالمعجمة: نسبة إلى غامد من جهينة. (*)
[ 88 ]
وقال بتركه حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. والحجة للجمهور حديث عبادة المذكور، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، حديث العسيف (1) وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك) وجلد ابنه مائة وغربه عاما. أخرجه الائمة. احتج من لم ير نفيه بحديث أبي هريرة في الامة، ذكر فيه الجلد دون النفي. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: غرب عمر ربيعة بن أبي أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب مسلما بعد هذا. قالوا: ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد. ثم إن النص الذي في الكتاب إنما هو الجلد، والزيادة على النص نسخ، فيلزم عليه نسخ القاطع بخبر الواحد. والجواب: أما حديث أبي هريرة فإنما هو في الاماء لا في الاحرار. وقد صح عن عبد الله بن عمر أنه ضرب أمته في الزنا ونفاها. وأما حديث عمرو قوله: لا أغرب بعده مسلما، فيعني في الخمر - والله أعلم - لما رواه نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. أخرجه الترمذي في جامعه، والنسائي في سننه عن أبي كريب محمد بن العلا الهمداني عن عبد الله ابن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن (2) نافع. قال الدار قطني: تفرد به عبد الله بن إدريس ولم يسنده عنه أحد من الثقات غير أبي كريب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النفي فلا كلام لاحد معه، ومن خالفته السنة خاصمته. وبالله التوفيق. وأما قولهم: الزيادة على النص نسخ، فليس بمسلم، بل زيادة حكم آخر مع الاصل. ثم هو قد زاد الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح على الماء، واشترط الفقر في القربى (3)، إلى غير ذلك مما ليس منصوصا عليه في القرآن. وقد مضى هذا المعنى في البقرة (4) ويأتي. السادسة - القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكر الحر، واختلفوا في تغريب العبد والامة، فممن رأى التغريب فيهما ابن عمر جلد مملوكة له في الزنا ونفاها إلى فدك (5) (1) العسيف (بالسين المهملة والفاء): الاجير. (2) هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، يروى عن نافع مولى ابن عمر. (3) راجع ج 8 ص 12 (4) راجع ج 2 ص 61 (5) فدك (بالتحريك): قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة. (عن معجم البلدان). (*)
[ 89 ]
وبه قال الشافعي وأبو ثور والثوري والطبري وداود. واختلف قول الشافعي في نفي العبد، فمرة قال: أستخير الله في نفي العبد، ومرة قال: ينفى نصف سنة، ومرة قال: ينفى سنة إلى غير بلده، وبه قال الطبري. واختلف أيضا قوله في نفي الامة على قولين. وقال مالك: ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد، ومن نفي حبس في الموضع الذي ينفى إليه. وينفى من مصر إلى الحجاز (1) وشغب وأسوان ونحوها، ومن المدينة إلى خيبر وفدك، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز. ونفى علي من الكوفة إلى البصرة. وقال الشافعي: أقل ذلك يوم وليلة. قال ابن العربي: كان أصل النفي أن نبي إسماعيل (2) أجمع رأيهم على أن من أحدث حدثا في الحرم غرب منه، فصارت سنة فيهم يدينون بها، فلاجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدثا غرب عن بلده، وتمادى ذلك في الجاهلية إلى أن جاء الاسلام فأقره في الزنا خاصة. احتج من لم ير النفي على العبد بحديث أبي هريرة في الامة، ولان تغريبه عقوبة لمالكه تمنعه من منافعه في مدة تغريبه، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع، فلا يعاقب غير الجاني. وأيضا فقد سقط عنه الجمعة والحج والجهاد الذي هو حق لله تعالى لاجل السيد، فكذلك التغريب. والله أعلم. والمرأة إذا غربت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت من سببه وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها، ولان الاصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل. وقال صلى الله عليه وسلم: (أعروا النساء يلزمن الحجال (3) فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار. وهو مختلف فيه عند الاصوليين والنظار. وشذت طائفة فقالت: يجمع الجلد والرجم على الشيخ، ويجلد الشاب، تمسكا بلفظ (الشيخ) في حديث زيد بن ثابت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) خرجه النسائي (4). وهذا فاسد، لانه قد سماه في الحديث الآخر (الثيب). (1) كذا في الاصول. وشغب (بفتح فسكون): منهل بين مصر والشام. (عن القاموس). (2) في الاصول بنى اسرائيل. والتصحيح من ابن العربي: وفيه أجمع رأى خيار بنى اسماعيل. (3) الحجال: جمع حجلة بالتحريك، والمراد البيت، أي جردوهن من ثباب الخروج يلزمن البيوت. (4) كذا في الاصول. وهذه رواية البخاري، وفى هامش ب: نسخة: البخاري. وهو الصواب. (*)
[ 90 ]
السابعة - قوله تعالى: (فان تابا) أي من الفاحشة. (وأصلحا) يعني العمل فيما بعد ذلك. (فأعرضوا عنهما) أي اتركوا أذا هما وتعييرهما. وإنما كان هذا قبل نزول الحدود. فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية. وليس المراد بالاعراض الهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الاخرى. والله تواب أي راجع بعباده عن المعاصي. قوله تعالى: انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة ثم يتوبون من قريب فأولك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال ابى تبت الن ولا الذين يموتون وهم كفار أو لك أعندنا لهم عذابا أليما (18) فيهما أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (انما التوبة على الله) قيل: هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا. وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. واتفقت الامة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا آيه المؤمنون (1)). وتصح من ذنب مع الاقامة على غيره من غير نوعه - خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب. ولا فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل السنة. وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف، لان من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم، والمكلف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شئ عليه، تعالى عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى: (وهو الذيى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات (2)). (1) راجع ج 12 ص 238 (2) راجع ج 16 ص 25 فما بعد. (*)
[ 91 ]
وقوله: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده (1)). وقوله: (وإني لغفار لمن تاب (2)) فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الاشياء. والعقيدة أنه لا يجب عليه شئ عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب. قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة. قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى. فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته. وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه عزوجل. قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) وقوله تعالى: (وإني لغفار). وإذا تقرر هذا فأعلم أن في قوله (على الله) حذفا وليس على ظاهره، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده. وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (أتدري ما حق العباد على الله) ؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: (أن يدخلهم الجنة). فهذا كله معناه: على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق. دليله قوله تعالى: (كتب على نفسه الرحمة (3)) أي وعد بها. وقيل: (على) ها هنا معناها (عند) والمعنى واحد، التقدير: عند الله، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها، وهي أربعة: الندم بالقلب، وترك المعصية في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثلها، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره، فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة. وقد قيل من شروطها: الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار، وقد تقدم في (آل عمران) كثير من معاني التوبة وأحكامها (4). ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا (5)، ولهذا قال علماؤنا: إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود. وقيل: (على) بمعنى (من) أي إنما التوبة من الله للذين، قاله أبو بكر بن عبدوس، والله أعلم. وسيأتي في (التحريم (6)) الكلام في التوبة النصوح والاشياء التي يتاب منها. (1) راجع ج 8 ص 250 (2) راجع ج 11 ص 231 (3) راجع ج 6 ص 395 (4) راجع ج 4 ص 130 (5) راجع ج 6 ص 174 ففيها الخلاف في المسألة. (6) راجع ج 18 ص 197 فما بعد. (*)
[ 92 ]
الثانية - قوله تعالى (للذين يعملون السوء بجهالة) السوء في هذه الاية، و (الانعام) (أنه من عمل منكم سوءا بجهالة (1)) يعم الكفر والمعاصي، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي. وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد. وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله. وهذا القول جار مع قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا (2) لعب ولهو). وقال الزجاج: يعني قوله (بجهالة) اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية. وقيل: (بجهالة) أي لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك. قال ابن عطية: وضعف قوله هذا ورد عليه. الثالثة - قوله تعالى: (ثم يتوبون من قريب) قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت. وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب. وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق (3)، وأن يغلب المرء على نفسه. ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال: قدم لنفسك توبة مرجوة * قبل الممات وقبل حبس الالسن بادر بها غلق (4) النفوس فإنها * ذخر وغنم للمنيب المحسن قال علماؤنا رحمهم الله: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت، لان الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل. وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى ما لم يغرغر: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشئ الذي يتغر غربه. قاله الهروي (1) راجع ج 6 ص 436 (2) راجع ج 16 ص 257 وج 6 ص 414 وج 17 ص 254 (3) السوق: النزع، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه. (4) يقال: غلق الرهن إذا لم يقدر على افتكا كه. يريد: بادر بالتوبة قبل ضياع الفرصة. (*)
[ 93 ]
وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. والمبادر في الصحة أفضل، وألحق لامله من العمل الصالح. والبعد كل البعد الموت، كما قال: * وأين مكان البعد إلا مكانيا (1) * وروى صالح المري عن الحسن قال: من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به. وقال الحسن أيضا: إن إبليس لما هبط قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى: (فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه). الرابعة - قوله تعالى: (وليست التوبة) نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الايمان، لان التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لانها حال زوال التكليف. وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين. وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة، وإليهم الاشارة بقوله تعالى: (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) وهو الخلود. وإن كانت الاشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه، وهذا على أن السيئات ما دون الكفر، أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة. وقد قيل: إن السيئات هنا الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين يموتون وهم كفار. وقال أبو العالية: نزل أول الآية في المؤمنين (إنما التوبة على الله). والثانية في المنافقين. (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم. (حتى إذا حضر أحدهم الموت) يعني الشرق (2) والنزع ومعاينة ملك الموت. (قال إني تبت الآن) فليس لهذا توبة. ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى: (ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما) أي وجيعا دائما. وقد تقدم (3). (1) هذا عجز بيت لمالك بن الريب المازنى. وصدره: * يقولون لا تبعدوهم يدفنونني * (2) كذا في أ وب وج وز وج وط وى. وفى د: السوق. والشرق بفتح الراء: من شرق الميت بريقة إذا غض به. (3) راجع ج 1 ص 198 (*)
[ 94 ]
قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن الا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعلى: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات. والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن، والخطاب للاولياء. و (أن) في موضع رفع ب (يحل)، أي لا يحل لكم وراثة النساء. و (كرها) مصدر في موضع الحال. واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها، فروى البخاري عن ابن عباس (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك. وأخرجه أبو داود بمعناه. وقال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وان شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها، فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها). فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن. وقيل: كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها، قال السدي. وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها. فنزلت هذه الآية. وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها، فذلك قوله
[ 95 ]
تعالى: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها). والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال. (وكرها) بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي، الباقون بالفتح، وهما لغتان. وقال القتبي: الكره (بالفتح) بمعنى الاكراه، والكره (بالضم) المشقة. يقال: لتفعل ذلك طوعا أو كرها، يعني طائعا أو مكرها. والخطاب للاولياء. وقيل: لازواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها، أو يفتدين ببعض مهورهن، وهذا أصح. واختاره ابن عطية قال: ودليل ذلك قوله تعالى: (إلا أن يأتين بفاحشة) وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الامة، وإنما ذلك للزوج، على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا. الثانية - قوله تعالى: (ولا تعضلوهن) قد تقدم معنى العضل وأنه المنع في (البقرة (1)). (الا أن يأتين بفاحشة مبينة) اختلف الناس في معنى الفاحشة، فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا، قال الله تعالى: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة). وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها، وهذا هو مذهب مالك. قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له لصا في الفاحشة في الآية. وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى النشوز. ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: (تذهبوا ببعض ما آتيتموهن). وقال مالك و جماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. قال ابن عطية: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والاذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال. قال أبو عمر: قول ابن سيرين وأبي قلابة (1) راجع ج 3 ص 159 (*)
[ 96 ]
عندي ليس بشئ، لان الفاحشة قد تكون البذاء والاذى، ومنه قيل للبذي: فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو أطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها، وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدا قال: له أن يضارها ويسئ إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة. والله أعلم. وقال الله عز وجل: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله) يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها (فلا جناح عليهما فيما افتدت به (1)). وقال الله عزوجل: (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (2)) فهذه الآيات أصل هذا الباب. وقال عطاء الخراساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقول رابع (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت، فيكون هذا قبل النسخ، وهذا في معنى قول عطاء، وهو ضعيف. الثالثة - وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الاوليا ففقهه أنه متى صح في ولى أنه عاضل نظر القاضى في أمر المرأة وزوجها، الا الاب في بتاته، فانه ان كان في عضله صلاح فلا يعترض، قولا واحد، وذلك بالخاطب والخاطبين وان صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أنه كسائر الاولياء، يزوج القاضى من شاء التزويج من بناته وطلبه. والقول الاخر - لا يعرض له: الرابعة - يجور أن يكون (تعضلوهن) جزما على النهى، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الاولى، ويجوز أن يكون نصبا عطفا على (أن ترثوا) فتكون الواو مشتركة: عطفت فعلا على فعل. وقرأ ابن مسعود (ولا أن تعضلوهن) فهذه القراءة تقوى احتمال النصب، وأن العضل مما لا يجوز بالنص. الخامسة - قوله تعالى: (مبينة) بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو، والباقون بفتح الياء. وقرأ ابن عباس (مبينة) بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشئ، يقال: أبان الامر بنفسه، وأبنته وبين وبينته، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة. (1) راجع ج 3 ص 125. (2) راجع ص 23 من هذا الجزء. (*)
[ 97 ]
السادسة - قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة. والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا، ولكن المراد بهذا الامر في الاغلب الازواج، وهو مثل قوله تعالى: (فإمساك (1) بمعروف) وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة: المخالطة والممازجة. ومنه قول طرفة: فلئن شطت نواها مرة * لعلى عهد حبيب معتشر جعل الحبيب. جمعا كالخليط والغريق. وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا. فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة (2) ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش. وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء. وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له. وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد ابن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية (3)، فقلت: ما هذا ؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين مناما نشتهيه منهن. وقال ابن عباس رضي الله عنه: إنى أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين [ المرأة (4) ] لي. وهذا داخل فيما ذكرناه. قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاستمتع بها وفيها عوج) أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها، فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق، وهو سبب الخلع. السابعة - استدل علماؤنا بقوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف. وقال الشافعي (1) راجع ج 3 ص 127 (2) الادمة: الخلطة. (3) الغالية: نوع من الطيب مركب من مسك وعنبر وعود ودهن. (4) من ج، ط، ز، ه (*)
[ 98 ]
وأبو حنيفة: لا يلزمه إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها، وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد، لانه لا يمكنه القتال إلا على فرس [ واحد (1) ]. قال علماؤنا: وهذا غلط، لان مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد، لانها تحتاج من غسل ثيابها وإصلاح مضجعها (2) وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بين. والله أعلم. الثامنة - قوله تعالى: (فإن كرهتموهن) أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يؤل الامر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين. و (أن) رفع ب (عسى) وأن والفعل مصدر. قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر) أو قال (غيره). المعنى: أي لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها. أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب. وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه عزوجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة. وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها، فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها، فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها. قال علماؤنا: في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الاباحة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والاكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلا). (1) من ز. (2) في ج، ه، ط، ى: مطبخها. (*)
[ 99 ]
قوله تعالى: وان أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم احدائهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا واثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم الى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21) فيه ست مسائل: الاولى - لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا. الثانية - واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة، فقال مالك رضي الله عنه: للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو. وقال جماعة من العلماء: لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك. الثالثة - قوله تعالى: (واتيتم احدهن قنطارا) الاية. دليل على جواز المغالاة في المهور، لان الله تعالى لا يمثل إلا بمباح. وخطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته (1) فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: (وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) ؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر !. وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الانكار. أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: خطب عمر الناس، فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر: (1) في ابن ماجه: ولا أصدقت أمرأة من بناته الخ. (*)
[ 100 ]
فقامت إليه امرأة. إلى آخره. وأخرجه ابن ماجة في سننه عن أبي العجفاء، وزاد بعد قوله: أوقية. وأن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه، ويقول: قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق القربة، وكنت رجلا عربيا مولدا (1) ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة. قال الجوهري: وعلق القربة لغة في عرق القربة. قال غيره: ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به. يقول كلفت إليك حتى عصام القربة. وعرق القربة ماؤها، يقول: جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة، وهو ماؤها في السفر. ويقال: بل عرق القربة أن يقول: نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة، وهو سيلانها. وقيل: إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على الابل يتناوبونه فيشق على الظهر، ففسر به اللفظان: العرق والعلق. وقال الاصمعي: عرق القربة كلمة معناها الشدة. قال: ولا أدري ما أصلها. قال الاصمعي: وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول: سمعت شيخاننا يقولون: لقيت من فولان عرق القربة، يعنون الشدة. وأنشدني لابن الاحمر: ليست بمشتمة تعد وعفوها * عرق السقاء على القعود اللاغب قال أبو عبيد: أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤاخذ صاحبها بها، وقد أبلغت إليه كعرق القربة، فقال: كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر، ثم قال: على القعود اللاغب، وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم. وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه، زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الابل يتناوبونه، فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر. وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام. وقال قوم: لا تعطى الآية جواز المغالاة بالمهور، لان التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجدا ولو كمفحص (2) قطاة بنى الله له بيتا في الجنة). ومعلوم أنه لا يكون مسجد (1) في ج وى: مولدا لابي عبيد. وليس في ابن ماجه ذلك ويبدو أن لفظ أبى عبيد مقحم من سرح أبى عبيد الفظة كما في التاج فايراجع في: عرق. (2) مفحص القطاة: موضعها الذى تجثم فيه وتبيض. (*)
[ 101 ]
كمفحص قطاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره، فسأله عنه فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة (1) أو جبل). فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور، وهذا لا يلزم، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لاجل المغالاة والاكثار في المهور، وإنما الانكار لانه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وهذا مكروه باتفاق. وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم. وروى أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (أترضى أن أزوجك فلانة) ؟ قال: نعم. وقال للمرأة: (أترضين أن أزوجك فلانا) ؟ قالت: نعم. فزوج أحدهما من صاحب، فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف. وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق، لقوله تعالى: (واتيتم إحداهن قنطارا) واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى: (أن تبتغوا بأموالكم). ومضى القول في تحديد القنطار في (آل عمران (2)). وقرأ ابن محيصن (وآتيتم آحداهن) بوصل ألف (إحداهن) وهي لغة، ومنه قول الشاعر: * وتسمع من تحت العجاج لها ازملا (3) * وقول الآخر: * إن لم أقاتل فألبسوني برقعا * الرابعة - قوله تعالى: (فلا تأخذوا منه شيئا) قال بكر بن عبد الله المزني: لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا، لقول الله تعالى: (فلا تأخذوا)، وجعلها ناسخة لآية (البقرة). وقال ابن زيد وغيره: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة (ولا يحل لكم أن تأخذوا (1) الحرة: أرض ذات حجارة نخرة سود. (2) راجع ج 4 ص 30 (3) الازمل: الصوت. (*)
[ 102 ]
مما آتيتموهن شيئا (1)). والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض. قال الطبري: هي محكمة، ولا معنى لقول بكر: إن أرادت هي العطاء، فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها. (بهتانا) مصدر في موضع الحال (وإثما) معطوف عليه (مبينا) من نعته. الخامسة - قوله تعالى: (وكيف تأخذونه) الاية. تعليل لمنع الاخذ مع الخلوة. وقال بعضهم: الافضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع، حكاه الهروي وهو قول الكلبي. وقال الفراء: الافضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الافضاء في هذه الآية الجماع. قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكنى. وأصل الافضاء في اللغة المخالطة، ويقال للشئ المختلط: فضا. قال الشاعر: فقلت لها يا عمتي لك ناقتي * وتمر فضا في عيبتي وزبيب (2) ويقال: القوم فوضى فضا، أي مختلطون لا أمير عليهم. وعلى أن معنى (أفضى) خلا وإن لم يكن جامع، هل يتقرر المهر بوجود الخلوة أم لا ؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: يستقر بمجرد الخلوة. لا يستقر إلا بالوطئ. يستقر بالخلوة في بيت الاهداء. التفرقة بين بيته وبيتها. والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها، لما رواه الدار قطني عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق). وقال عمر: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة ولها الميراث. وعن علي: إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق. وقال مالك: إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها، واتفقا على ألا مسيس وطلبت المهر كله كان لها. وقال الشافعي: لا عدة عليها ولها نصف المهر. وقد مضى في (البقرة (3)). (1) راجع ج 3 ص 136 (2) العيبة: زبيل من أدم ينقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين. وما يجعل فيه الثياب. (3) راجع ج 3 ص 205 (*)
[ 103 ]
السادسة - قوله تعالى: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) فيه ثلاثة أقوال. قيل: هو قوله عليه السلام: (فاتقو االله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله). قاله عكرمة والربيع. الثاني - قوله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي. الثالث - عقدة النكاح قول الرجل: نكحت وملكت [ عقدة (1) ] النكاح، قال مجاهد وابن زيد. وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد. والله أعلم. قوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح أآباؤكم من النساء الا ما قد سلف انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) يقال: كان الناس يتزوجون امرأة الاب برضاها بعد نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) حتى نزلت هذه الآية: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) فصار حراما في الاحوال كلها، لان النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الاب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الثانية - قوله تعالى: (ما نكح) قيل: المراد بها النساء. وقيل: العقد، أي نكاح آبائكم الفاسد المخالف لدين الله، إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه. وهو اختيار الطبري. ف (من) متعلقة ب (تنكحوا) و (ما نكح) مصدر. قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع (ما) (من). فالنهي على هذا إنما وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد. والاول أصح، وتكون (ما) بمعنى (الذي) و (من). والدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى، ومنه استدلت على منع نكاح الابناء حلائل الآباء. وقد كان في العرب قبائل قد أعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، (1) من ج وى وط وز وه. (*)
[ 104 ]
وكانت هذه السيرة في الانصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاخته بنت الاسود بن المطلب بن أسد، وكان أمية قتل عنها. ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار. ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن. والاسود بن خلف تزوج امرأة أبيه. وقال الاشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الانصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولدا، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره، فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية. وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة، ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب. فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة. الثالثة - قوله تعالى: (الا ما قد سلف) أي تقدم ومضى. والسلف، من تقدم من آبائك وذوي قرابتك. وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه. وقيل: (إلا) بمعنى بعد، أي بعد ما سلف، كما قال تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى) أي بعد الموتة (1) الاولى. وقيل: (إلا ما قد سلف) أي ولا ما سلف، كقوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ (2)) يعني ولا خطأ. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، معناه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف. وقيل: في الآية إضمار لقوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف. الرابعة - قوله تعالى: (انه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية. قال أبو العباس: سألت ابن الاعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات (1) راجع ج 16 ص 154 (2) راجع ص 311 من هذا الجزء. (*)
[ 105 ]
عنها، ويقال لهذا الرجل: الضيزن (1). وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد: المقتي. وأصل المقت البغض، من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت. فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه: مقيت، فسمى تعالى هذا النكاح (مقتا) إذ هو ذا مقت يلحق فاعله. وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن. وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى، قال ابن زيد. وعليه فيكون الاستثناء متصلا، ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه. والله أعلم. قوله تعالى: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالا تكم وبنات الاخ وبنات الاخت وأمهاتكم الاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم الاتى في حجوركم من نسائكم الاتى دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وان تجمعوا بين الاختين الا ما قد سلف ان الله كان غفورا رحيما (23) فيه احدى وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (حرمت عايكم أمهاتكم وبناتكم) الاية. أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم، فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم، كما ذكر تحريم حليلة الاب. فحرم الله سبعا من النسب وستا (2) من رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الاجماع. وثبتت الرواية عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية. وقال عمرو بن سالم مولى الانصار مثل ذلك، وقال: السابعة قوله تعالى: (والمحصنات). فالسبع المحرمات من النسب: الامهات والبنات والاخوات والعمات والخالات، وبنات الاخ وبنات الاخت. (1) الضيزن: الذى يزاحم أباه في امرأته. (2) في ج: من بين رضاع. (*)
[ 106 ]
والسبع المحرمات بالصهر والرضاع: الامهات من الرضاعة والاخوات من الرضاعة، وأمهات النساء والربائب وحلائل الابناء والجمع بين الاختين، والسابعة (ولا تنكحوا ما نكح آبائكم). قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الام تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالام، وبهذا قول جمعي أئمة الفتوى بالامصار. وقالت طائفة من السلف: الام والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالاخرى. قالوا: ومعنى قوله: (وأمهات نسائكم) أي اللاتي دخلتم بهن. (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن). وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الامهات والربائب جميعا، رواه خلاس (2) عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وجابر وزيد ابن ثابت، وهو قول ابن الزبير ومجاهد. قال مجاهد: الدخول مراد في النازلتين، وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا: لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح، والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي. وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة. قال ابن جريج: قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها ؟ قال: لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت له: أكان ابن عباس يقرأ: (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) ؟ قال: لا لا. وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وأمهات نسائكم) قال: هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة، وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت، وفيه: (فقال زيد لا، الام مبهمة [ ليس فيها شرط (3) ] وإنما الشرط في الربائب). قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح، لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى: (وأمهات نسائكم). ويؤيد هذا القول من جهة الاعراب (1) الربائب: واحدتها ربيبة، وربيبة الرجل: بنت امرأته من غيره. (2) خلاس (بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام). ابن عمرو الهجرى. (3) زيادة عن الموطأ. (*)
[ 107 ]
أن الخبرين إذا أختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون (الظريفات) نعتا لنسائك ونساء زيد، فكذلك الآية لا يجوز أن يكون (اللاتي) من نعتهما جميعا، لان الخبرين مختلفان، ولكنه يجوز على معنى أعني. وأنشد الخليل وسيبويه: ان بها أكتل أو رزاما * خويربين ينقفان الهاما (1) خويربين يعني لصين، بمعنى أعني. وينقفان: يكسران، نقفت رأسه كسرته. وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الام فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت) أخرجه (2) في الصحيحين الثانية - وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للاعيان، والاعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا، وإنما يتعلق التكليف بالامر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون، لكن الاعيان لما كانت موردا للافعال أضيف الامر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به. الثالثة - قوله تعالى: (أمهاتكم) تحريم الامهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته، وكذلك تحريم البنات والاخوات ومن ذكر من المحرمات. والامهات جمع أمهة، يقال: أم وأمهة بمعنى واحد، وجاء القرآن بهما. وقد تقدم في الفاتحة (3) بيانه. وقيل: إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين، فسقطت وعادت في الجمع. قال الشاعر: * أمهتي خندف والدوس (4) أبي * وقيل: أصل الام أمة، وأنشدوا: تقبلتها عن أمة لك طالما * تثوب إليها في النوائب أجمعا (1) أكل ورزام: رجلان وخويربان أي خاربان، وهما أكل ورزام. (2) في ى: أخرجه مسلم. (3) راجع ج 1 ص 112 (4) كذا في الاصول. في اللسان والسمين: والياس أبى. والبيت لقصى. وخندف أصل قريش. (*)
[ 108 ]
ويكون جمعها أمات. قال الراعي: كانت نجائب منذر ومحرق * أماتهن وطرقهن فحيلا فالام اسم لكل أنثى لها عليك ولادة، فيدخل في ذلك الام دنية (1)، وأمهاتها وجداتها وأم الاب وجداته وإن علون. والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، وإن شئت قلت: كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات، فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الابناء وإن نزلن. والاخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما. والبنات جمع بنت، والاصل بنية، والمستعمل ابنة وبنت. قال الفراء: كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء، وضمت الالف من أخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أخت أخوة، والجمع أخوات. والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما. وإن شئت قلت: كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الام، وهي أخت أب أمك. والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما. وإن شئت قلت: كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الاب وهي أخت أم أبيك. وبنت الاخ اسم لكل أنثى لاخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة، وكذلك بنت الاخت. فهذه السبع المحرمات من النسب. وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس - بتشديد الخاء من الاخ إذا كانت فيه الالف واللام مع نقل الحركة. الرابعة قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم) وهي في التحريم مثل من ذكرنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). وقرأ عبد الله (وأمهاتكم اللائي) بغير تاء، كقوله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض (2)). قال الشاعر: من اللاء لم يحججن يبغين حسبة (3) * ولكن ليقتلن البرئ المغفلا (1) يقال: هو ابن عمى دتية ودنيا، منون وغير منون، ودنيا بضم وقصر إذا كان ابن عمه لحا، أي لاصق النسب. (2) راجع ج 18 ص 162. (3) في ج: خشية. (*)
[ 109 ]
(أرضعنكم) فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لانها أمه، وبنتها لانها أخته، وأختها لانها خالته، وأمها لانها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن لانها أخته، وأخته لانها عمته، وأمه لانها جدته، وبنات بنيها وبناتها لانهن بنات إخوته وأخواته. الخامسة - قال أبو نعيم عبيد الله بن هشام الحلبي: سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة ؟ قال: نعم. قال أبو نعيم: وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها. ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما، قال: يفرق بينهما، وما أخذت من شئ له فهو لها، وما بقي عليه فلا شئ عليه. ثم قال مالك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك، فقالوا: يا رسول الله، إنها امرأة ضعيفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس يقال إفلانا تزوج أخته) ؟. السادسة - التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الارضاع في الحولين، كما تقدم في (البقرة (1)). ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الامعاء ولو مصة واحدة. واعتبر الشافعي في الارضاع شرطين: أحدهما خمس رضعات، لحديث عائشة قالت: كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما (2) يقرأ من القرآن. موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس، فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس. ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس، لانه لا ينسخ بهما. وفي حديث سهلة (3) (أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن). الشرط الثاني: أن يكون في الحولين، فإن كان خارجا عنهما لم يحرم، لقوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة (4)). وليس بعد التمام والكمال شئ. واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر. ومالك الشهر ونحوه. وقال زفر: ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين. وقال الاوزاعي: إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع. وانفرد الليث بن سعد (1) راجع ج 3 ص 161 (2) في ج وط: فيما. (3) هي سهلة بنت سهيل، أمراة أبى حذيفة بن عتبة. تبنى (سالما) مولى أبى حذيقة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يارسول الله، كنا نرى سالما ولدا، وكان يدخل على وأنا فضل (أي في ثوب واحد وبعض جسدها منكشف) وليس لنا الا بيت واحد. فقال لها الرسول صلوات الله عليه: (أرضعيه... الخ). راجع الموطأ. (4) راجع ج 3 ص 160. (*)
[ 110 ]
من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وروي عن أبي موسى الاشعري، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها، فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى فقال: بانت منك، وأت ابن مسعود فأخبره، ففعل، فأقبل بالاعرابي إلى أبي موسى الاشعري وقال: أرضيعا ترى هذا الاشمط (1) ! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم. فقال الاشعري: لا تسألوني عن شئ وهذا الحبر بين أظهركم. فقوله: (لا تسألوني) يدل على أنه رجع عن ذلك. واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل: (أرضعيه) خرجه الموطأ وغيره. وشذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات، تمسكا بأنه كان فيما أنزل: عشر رضعات. وكأنهم لم يبلغهم الناسخ. وقال داود: لا يحرم إلا بثلاث رضعات، واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحرم الاملاجة والاملاجتان (2)). خرجه مسلم. وهو مروى عن عائشة وابن الزبير، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد، وهو تمسك بدليل الخطاب، وهو مختلف فيه. وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا، متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر، بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر. وقال الليث بن سعد: وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم. قال أبو عمر. لم يقف الليث على الخلاف في ذلك. قلت: وأنص ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحرم المصة ولا المصتان) أخرجه مسلم في صحيحه. وهو يفسر معنى قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر، غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع، لقوله: (عشر رضعات معلومات. وخمس رضعات معلومات). فوصفها (1) الشمط: بياض شعر الرأس يخالط سواده. وقيل: اللحية. (2) الاملاجة: المرة من الارضاع. يعنى أن المصة والمصتان لا يحرمان ما يحرمه الرضاع الكامل. (*)
[ 111 ]
بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف. ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم. والله أعلم. وذكر الطحاوي أن حديث الاملاجة والاملاجتين لا يثبت، لانه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يرويه عن عائشة، ومرة يرويه عن أبيه، ومثل هذا الاضطراب يسقطه. وروي عن عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات. وروي عنها أنها أمرت أختها (أم كلثوم) أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات. وروي عن حفصة مثله، وروي عنها ثلاث، وروي عنها خمس، كما قال الشافعي رضي الله عنه، وحكي عن إسحاق. السابعة - قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) استدل به من نفى لبن الفحل، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل. وقال الجمهور: قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) يدل على أن الفحل أب، لان اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده. وهذا ضعيف، فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطئ هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما، ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها، فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يقتضي التحريم من الرضاع، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها. نعم، الاصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا القعيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب. قالت: فأبيت أن آذن له، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال: (ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك). وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها، وهذا أيضا خبر واحد. ويحتمل أن يكون (أفلح) مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال: (ليلج عليك فإنه عمك).
[ 112 ]
وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله، ولكن العمل عليه، والاحتياط في التحريم أولى، مع أن قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) يقوي قول المخالف. الثامنة - قوله تعالى: (وأخوانكم منا لرضاعة) وهي الاخت لاب وأم، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك. والاخت من الاب دون الام، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك. والاخت من الام دون الاب، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى: (وأمهات نسائكم) والصهر أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الاب وزوجة الابن. فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم التاسعة - قوله تعالى: (وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن) هذا مستقل بنفسه. ولا يرجع قوله: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) إلى الفريق الاول، بل هو راجع إلى الربائب، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم. والربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لانه يربيها في حجره فهي مربوبة، فعيلة بمعنى مفعولة. واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالام، وإن لم تكن الربيبة في حجره. وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها، فلو كانت في بلد آخر وفارق الام بعد الدخول فله أن يتزوج بها، واحتجوا بالآية فقالوا: حرم الله تعالى الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج بأمها. والثاني - الدخول بالام، فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واحتجوا بقوله عليه السلام: (لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) فشرط الحجر. ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك. قال ابن المنذر والطحاوي: أما الحديث عن علي فلا يثبت، لان راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا يعرف، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) فعم. ولم يقل: اللائي في حجري، ولكنه سوى بينهن في التحريم. قال الطحاوي: وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الاغلب مما يكون عليه الربائب، لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك.
[ 113 ]
العاشرة - قوله تعالى: (فان لم تكونوا دخلتم بهن) يعني بالامهات. (فلا جناح عليكم) يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في معنى الدخول بالامهات الذي يقع به تحريم الربائب، فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما. واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والاوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوه حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الاب والابن، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر، فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شئ من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة. وقال الثوري: [ يحرم (1) ] إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها، ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعي. والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح، إذ الاحكام تتعلق بالمعاني لا بالالفاظ. وقد يحتمل أن يقال: إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع، فإن النظر اجتماع ولقاء، وفيه بين المحبين استمتاع، وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا: أليس الليل يجمع أعمرو * إيانا فذاك بنا تدان نعم، وترى الهلال كما أراه * ويعلوها النهار كما علاني فكيف بالنظر والمجالسة [ والمحادثة (2) ] واللذة. الحادية عشرة - قوله تعالى: (وحلائل أبنائكم) الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة. سميت حليلة لانها تحل مع الزوج حيث حل،. فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: لان كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. الثانية عشرة - أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الابناء، وما عقد عليه الابناء على الآباء، كان مع العقد وطئ أو لم يكن، لقوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آبائكم (1) الزيادة عن البحر لابي حيان. (2) من د. (*)
[ 114 ]
من النساء) وقوله تعالى: (وحلائل أبتائكم الذين من أصلابكم)، فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح، لان النكاح الفاسد لا يخلو: إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه. فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه. وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح، لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ. والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم. والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علما (1)، الامصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده. وأجمع العلماء وهي المسألة: الثالثة عشرة - على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه، فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه، فوجب تحريم ذلك تسليما لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم. قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه. وقال يعقوب ومحمد: إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه، وتحرم عليه أمها وابنتها. وقال مالك: إذا وطئ الامة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه. وقال الشافعي: إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس، وهو قول الاوزاعي: الرابعة عشرة - واختلفوا في الوطئ بالزنى هل يحرم أم لا، فقال أكثر أهل العلم: لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، ثم يدخل (2) بامرأته. ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك. وقالت طائفة: تحرم عليه. روي هذا القول عن عمران بن حصين، وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي عن مالك، وأن الزنى يحرم الام والابنة وأنه بمنزلة الحلال، وهو قول (1) في ج: فقهاء. (2) قوله: يدخل بامرأتة. كذا في كل الاصول. الظاهر أنه عقد ولم يدخل. (*)
[ 115 ]
أهل العراق. والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز: أن الزنى لا حكم له، لان الله سبحانه وتعالى قال: (وأمهات نسائكم) وليست التي زنى بها من أمهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه. وهو قول الشافعي وأبي ثور. لانه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحقوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز. وروى الدار قطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: (لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح). ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج (1) وقوله: (يا غلام من أبوك) قال: فلان الراعي. فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطئ الحلال، فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لاولاده، وهي رواية ابن القاسم في المدونة. ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها، وهو المشهور. قال عليه السلام: (لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها) ولم يفصل بين الحلال والحرام. وقال عليه السلام: (لا ينظر الله إلى من كشف قناع أمرأة وابنتها). قال ابن خويز منداد: ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة. وقال عبد الملك الماجشون: إنها تحل، وهو الصحيح لقوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) يعني بالنكاح الصحيح، على ما يأتي في (الفرقان (2)) بيانه. ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فثبتت البنوة وأحكامها. فإن قيل: فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والابوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة ؟ (1) جريح أحد عباد بنى اسرائيل أتهموه بالزنى فيرأه الله بكلام ابن الزنى أنه ابن الراعى الذى زنى بأمه. راجع ج 2 من تاريخ ابن كثير ص 134 فما بعد. (2) راجع ج 13 ص 59 (*)
[ 116 ]
فالجواب - إن ذلك موجب ما ذكرناه. وما انعقد عليه الاجماع من الاحكام استثنيناه، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل، والله أعلم. الخامسة عشرة - واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا يحرم النكاح باللواط. وقال الثوري: إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه، وهو قول أحمد بن حنبل. قال: إذا تلوط بابن امرأته (1) أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته. وقال الاوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها، لانها بنت من قد دخل به. وهو قول أحمد بن حنبل. السادسة عشرة - قوله تعالى: (الذين من أصلابكم) تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب. ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد ابن حارثة قال المشركون: تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه، على ما يأتي بيانه في (الاحزاب (2)). وحرمت حليلة الابن من الرضاع - وإن لم يكن للصلب - بالاجماع المستند إلى قوله عليه السلام: (يحرم الرضاع ما يحرم من النسب). السابعة عشرة - قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الاختين) موضع (أن) رفع على العطف على (حرمت عليكم أمهاتكم). والاختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين. وأجمعت الامة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية، وقوله عليه السلام: (لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن). واختلفوا في الاختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطئ، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع، وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة. واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها (3)، فقال الاوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الاخت. قال أبو عمر: من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه، ومن جعله كالوطئ لم يجزه. وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت (1) في ب: بابن امرأة. (2) راجع ج 14 ص 188 (3) في ب: يطوها. (*)
[ 117 ]
الزوجة، لقول الله تعالى: (وأن تجمعوا بين الاختين) يعني الزوجتين بعقد النكاح. فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب [ إن شاء (1) الله ]. والله أعلم. الثامنة عشرة - شذ أهل الظاهر فقالوا: يجوز الجمع بين الاختين بملك اليمين في الوطئ، كما يجوز الجمع بينهما في الملك. واحتجوا بما روي عن عثمان في الاختين من ملك اليمين: (حرمتهما آية وأحلتهما آية). ذكره عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الاختين مما ملكت اليمين فقال: لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية. فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر: أحسبه قال علي - قال: وما سألت عنه عثمان ؟ فأخبره بما سأل وبما أفتاه، فقال له: لكني أنهاك، ولو كان لى عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا. وذكر الطحاوي والدار قطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان. والآية التي أحلتهما قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم). ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول، لانهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممن قال ذلك من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود [ وعثمان (2) ] وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير، وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطئ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه. ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الام وابنتها. قال ابن عطية: ويجئ من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطئ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الاخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما، فلم يلزمه حدا. قال أبو عمر: (أما قول علي لجعلته نكالا) ولم يقل لحددته حد الزاني، فلان من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس [ بزان (3) ] بإجماع وإن كان مخطئا، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله. وقول بعض السلف في الجمع بين الاختين بملك اليمين: (أحلتهما آية وحرمتهما (1) من ب وج وط وه. (2) من ط. (3) عن كتاب الاستذكار لابي عمر. (*)
[ 118 ]
آية) معلوم محفوظ، فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية ؟ وبالله التوفيق. التاسعة عشرة - واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الاخرى، فقال علي وابن عمر والحسن البصري والاوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطئ الثانية حتى يحرم فرج الاخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطئ الاخرى فإنه ينوي تحريم الاولى على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الاولى المحرمة، ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث: وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما. هكذا قال الحكم وحماد، وروي معنى ذلك عن النخعي. ومذهب مالك: إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الاخرى موكول إلى أمانته. فإن أراد وطئ الاخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الاولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك: إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل. فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الاخرى دون أن يحرم الاولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الاخرى، ولم يوكل ذلك إلى أمانته، لانه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة. ومذهب الكوفيين في هذا الباب: الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الاخرى، فإن باع الاولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الاخرى، وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة: فأما بعد انقضاء العدة فلا، حتى يملك فرج التي يطأ غيره، وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه. قالوا: لان الملك الذي منع وطئ الجارية (1) في الابتداء موجود، فلا فرق بين عودتها إليه وببن بقائها في ملكه. وقول مالك حسن، لانه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال، وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال. ولم يختلفوا في العتق، لانه لا يتصرف فيه بحال، وأما المكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه. فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح. الثالث - في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع (1) في ب وج وه وط وز: الزوجة. (*)
[ 119 ]
عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطئ. وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح، كما تقدم عن الشافعي. وفي الباب بعينه قول آخر: أن النكاح لا ينعقد، وهو معنى قول الاوزاعي. وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة. الموفية عشرين - وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها، فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق، وروي عن علي وزيد بن ثابت، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: له أن ينكح أختها وأربعا (1) سواها، وروي عن عطاء، وهي أثبت الروايتين عنه، وروي عن زيد بن ثابت أيضا، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول. الحادية وعشرون - قوله تعالى: (إلا ما قد سلف) يحتمل أن يكون معناه معنى قوله: (إلا ما قد سلف) في قوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف). ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الاسلام خير بين الاختين، على ما قاله مالك والشافعي، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الاسلام ومقتضى الشرع، وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين. وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد. وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين، إحداهما نكاح امرأة الاب، والثانية، الجمع بين الاختين، ألا ترى أنه قال: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف). (وان تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف) ولم يذكر في سائر المحرمات (إلا ما قد سلف). والله أعلم. (1) كذا في الاصول، والواو بمعنى أو كما تقدم. (*)
[ 120 ]
قوله تعالى: والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذالكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ان الله كان عليما حكيما (24) فيه أربع عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (والمحصنات) عطف على المحرمات والمذكورات قبل. والتحصن: التمنع، ومنه الحصن لانه يمتنع فيه، ومنه قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم (1)) أي لتمنعكم، ومنه الحصان للفرس (بكسر الحاء) لانه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان (بفتح الحاء): المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك. وحصنت المرأة تحصن فهي حصان، مثل جبنت فهي جبان. وقال حسان في عائشة رضي الله عنها: حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (2) والمصدر الحصانة (بفتح الحاء) والحصن كالعلم (3). فالمراد بالمحصنات ها هنا ذوات الازواج، يقال: امرأة محصنة أي متزوجة، ومحصنة أي حرة، ومنه (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب (4)). ومحصنة أي عفيفة، قال الله تعالى: (محصنات غير مسافحات) وقال: (محصنين غير مسافحين). ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة، أي ممتنعة من الفسق، والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد. قال الله تعالى: (والذين يرمون المحصنات (5)) أي الحرائر، وكان عرف الاماء في الجاهلية الزنى، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعته: (وهل تزني الحرة) ؟ والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره، فبناء (ح ص ن) معناه المنع كما بينا. وستعمل الاحصان في الاسلام، (1) راجع ج 11 ص 320 (2) تزن: تتهم. غرني: جائعة. والمراد أنها لا تغتاب غيرها. (3) في كتب اللغة أنه مثلث الحاء. (4) راجع ج 6 ص 75 (5) راجع ج 12 ص 209 (*)
[ 121 ]
لانه حافظ ومانع، ولم يرد في الكتاب وورد في السنة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الايمان قيد الفتك (1)). ومنه قول الهذلي: فليس كعهد الدار يا أم مالك * ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وقال الشاعر: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والاسلام ومنه قول سحيم: * كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا (2) * الثانية - إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الازواج خاصة، أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة، وقال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وقال به أشهب. يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس (3) فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عزوجل [ في ذلك (4) ] (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم). أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. وهذا نص [ صحيح (5) ] صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطئ المسبيات ذوات الازواج، فأنزل الله تعالى في جوابهم (إلا ما ملكت أيمانكم). وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. واختلفوا في استبرائها بماذا يكون، فقال (1) الفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل فيشد عليه فيقتله. النهاية. (2) صدره في الديوان: * عميرة ودع ان تجهزت غاديا * وسيأتى في ج 15 ص 52: عن أبى بكر: هريرة ودع. (3) أو طاس: واد بديار هوازن. (4) من ب ود وط وز. (5) من ب وى. (*)
[ 122 ]
الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبرئون المسبية بحيضة، وقد روي ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس (لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض). ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا حتى يقال أن المسبية مملوكة ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدة الاماء، على ما نقل عن الحسن بن صالح قال: عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب. وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن الجميع بحيضة واحدة. والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين. وروى عنه ابن بكير أنهما إن سبيا جميعا واستبقي الرجل أقرا علي نكاحهما، فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه، لانه قد صار له عهد وزوجته من جملة ما يملكه، فلا يحال بينه وبينها، وهو قول أبي حنيفة والثوري، وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك. والصحيح الاول، لما ذكرناه، ولان الله تعالى قال: (إلا ما ملكت أيمانكم) فأحال على ملك اليمين وجعله هو المؤثر فيتعلق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعا، إلا ما خصه الدليل. وفي الآية قول ثان قاله عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عكرمة: أن المراد بالآية ذوات الازواج، أي فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الامة ذات الزوج فإن بيعها طلاقها والصدقة بها طلاقها وأن تورث طلاقها وتطليق الزوج طلاقها. قال ابن مسعود: فإذا بيعت الامة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها وكذلك المسبية، كل ذلك موجب للفرقة بينها وبين زوجها. قالوا: وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون بيع الامة طلاقا لها، لان الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين. قلت: وهذا يرده حديث بريرة، لان عائشة رضى الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ذات زوج، وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل (1) على أن بيع الامة ليس طلاقها (2)، وعلى ذلك جماعة فقهاء الامصار من أهل الرأي والحديث، وألا طلاق لها إلا الطلاق. وقد (1) كذا في د. (2) كذا في ب. (*)
[ 123 ]
احتج بعضهم بعموم قوله: (ألاما ملكت أيمانكم) وقياسا على المسبيات. وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده، وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد، وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى. وفي الآية قول ثالث - روى الثوري (1) عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) قال: ذوات الازواج من المسلمين والمشركين. وقال علي بن أبي طالب: ذوات الازواج من المشركين. وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب (والمحصنات من النساء) هن ذوات الازواج، ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنى. وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف، أي كل النساء حرام. وألبسهن اسم الاحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك. (الا ما ملكت أيمانكم) قالوا: معناه بنكاح أو شراء. هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين، ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى: (إلا ما ملكت أيمانكم) يعني تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك فزنى، وهذا قول حسن. وقد قال ابن عباس: (المحصنات) العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب. قال ابن عطية: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا ؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها. وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الابل: قوله (والمحصنات) إلى قوله (حكيما). قال ابن عطية: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول ؟ الثالثة - قوله تعالى: (كتاب الله عليكم) نصب على المصدر المؤكد، أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم. ومعنى (حرمت عليكم) كتب الله عليكم. وقال الزجاج (1) كذا في اوى وح وز. وفى ب وج ود وط: الترمذي عن مجاهد الخ وكلاهما يجانب الصواب إذ مجاهد يروى عن عبد الله لاعن ابراهيم وليست في الترمذي في الاية رواية مجاهد. في الطبري وابن كثير: الاعمش عن ابراهيم عن عبد الله. وفى الطبري أيضا: حماد عن ابراهيم عن عبد الله. (*)
[ 124 ]
والكوفيون: هو نصب على الاغراء، أي الزموا كتاب الله، أو عليكم كتاب الله. وفيه نظر على ما ذكره أبو علي، فإن الاغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الاغراء، فلا يقال: زيدا عليك، أو زيدا دونك، بل يقال: عليك زيدا ودونك عمرا، وهذا الذي قاله صحيح على أن يكون منصوبا ب (عليكم)، وأما على تقدير حذف الفعل فيجوز. ويجوز الرفع على معنى هذا كتاب الله وفرضة: وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع (كتب الله يليكم) على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، والمعنى كتب الله عليكم ما قصه من التحريم. وقال عبيدة السلمانى وغيره: قوله (كتاب الله عليكم) إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع) وفي هذا بعد، والاظهر أن قوله: (كتاب الله عليكم) إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله. الرابعة - قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص (وأحل لكم) ردا على (حرمت عليكم). الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى: (كتاب الله عليكم). وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر، وليس كذلك، فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها، قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (1)). روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها). وقال ابن شهاب: فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة، وقد قيل: إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها، لان الله تعالى حرم الجمع بين الاختين، والجمع بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الاختين، أو لان الخالة في معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد. والصحيح الاول، لان الكتاب والسنة كالشئ الواحد، فكأنه قال: أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب، وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد عليه السلام. وقول ابن شهاب: (فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة) إنما صار إلى ذلك لانه حمل الخالة والعمة على العموم وتم له ذلك، لان العمة اسم لكل أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيناه. (1) راجع ج 18 ص 10 (*)
[ 125 ]
وفي مصنف أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى). وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين. الرواية (لا يجمع) برفع العين على الخبر على المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك، وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح. وأجاز الخوارج الجمع بين الاختين وبين المرأة وعمتها وخالتها (1)، ولا يعتد بخلافهم لانهم مرقوا من الدين وخرجوا منه، ولانهم مخالفون للسنة الثابتة. وقوله: (لا يجمع بين العمتين والخالتين) فقد أشكل على بعض أهل العلم وتحير في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز، فقال: معنى بين العمتين على المجاز، أي بين العمة وبنت أخيها، فقيل لهما: عمتان، كما قيل: سنة العمرين أبي بكر وعمر، قال: وبين الخالتين مثله. قال النحاس: وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله، وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا لغير فائدة، لانه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكرر الغير فائدة، وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة، وليس كذلك الحديث، لان الحديث (نهى أن يجمع بين العمة والخالة). فالواجب على لفظ الحديث ألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الاخرى والاخرى خالة الاخرى. قال النحاس: وهذا يخرج على معنى صحيح، يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها، تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الام فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين، فابنة الاب عمة ابنة الابن، وابنة الابن خالة ابنة الاب. وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كل واحدة منهما خالة الاخرى، وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنتة، فولد لكل واحد منهما ابنة، فابنة كل واحد منهما خالة الاخرى. وأما الجمع بين العمتين فيوجب ألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الاخرى، وذلك أن (1) لا يصح هذا عنهم لانه رد للمنصوص وهو كفر، ان عنى الاباضية على عادته في ادماجهم في الخوارج وهم برءاء. فالقاعدة عندهم سلفا وخلفا: كل امرأتين لو كانت احداهما ذكرا لا تحل له الاخرى يحرم الجمع بينهما في العصمة. كما في (كتاب النبل وشرحه)، والحديث الاصل في هذا صحيح وأصل عندهم والله يقول: (فتبينوا). راجع الجصاص ج 2 ص 134 ففيه خلاف هذا. (*)
[ 126 ]
يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر، فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة الاخرى، فهذا ما حرم الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن. الخامسة - وإذا تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا، فروى معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الاخرى فالجمع بينهما باطل. فقلت له: عمن هذا ؟ قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوري: تفسيره عندنا أن يكون من النسب، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء. قال أبو عمر: وهذا على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والاوزاعي وسائر فقهاء الامصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الاصل. وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الاخرى. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة، ثم ورد في بعض الاخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر، وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الارحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنآن والشرور بسبب الغيرة، فروى ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة، وقال: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ذكره أبو محمد الاصيلي في فوائده وابن عبد البر وغيرهما. ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة، وقد طرد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها، وسواء كانت بنت عم أو بنت عمة أو بنت خال أو بنت خالة، روي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء في رواية ابن أبي نجيح، وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح. وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي فجمع بين ابنتي عم، ذكره عبد الرزاق. زاد ابن عيينة: فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن، وقد كره مالك هذا، وليس بحرام عنده (1). (1) في ط: عندهم. (*)
[ 127 ]
وفي سماع ابن القاسم: سئل مالك عن ابنتي العم أيجمع بينهما ؟ فقال: ما أعلمه حراما. قيل له: أفتكرهه ؟ قال: إن ناسا ليتقونه، قال ابن القاسم: وهو حلال لا بأس به. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح. وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة. وقال السدي في قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم): يعني النكاح فيما دون الفرج. وقيل: المعنى وأحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم. قتادة: يعنى بذلك ملك اليمين خاصة. السادسة - قوله تعالى: (أن تبتغوا بأموالكم) لفظ يجمع (1) التزوج والشراء. و (أن) في موضع نصب بدل من (ما)، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل أن يكون المعنى لان، أو بأن، فتحذف اللام أو الباء فيكون في موضع نصب. و (محصنين) نصب على الحال، ومعناه متعففين عن الزنى. (غير مسافحين) أي غير زانين. والسفاح الزنى، وهو مأخوذ من سفح الماء، أي صبه وسيلانه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف (2) في عرس: (هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر). وقد قيل: إن قوله (محصنين غير مسافحين) يحتمل وجهين: أحدهما - ما ذكرناه وهو الاحصان بعقد النكاح، تقديره اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح لا على وجه السفاح، فيكون للآية (3) على هذا الوجه عموم. ويحتمل أن يقال: (محصنين) أي الاحصان صفة لهن، ومعناه لتزوجوهن على شرط الاحصان فيهن، والوجه الاول أولى، لانه متى أمكن جري الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى، ولان مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن، وذلك خلاف الاجماع. السابعة - قوله تعالى: (بأموالكم) أباح الله تعالى الفروج بالاموال ولم يفصل، فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الاباحة به، لانها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه. ويرد على أحمد قوله في أن العتق يكون صداقا، لانه (1) في ب: يعم. (2) كذا في الاصول الا ط: الزفاف. والدفاف صاحب الدف وجمع الدف الدفوف. في الحديث (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف). (3) في ج: للاية. وفى الاصول الاخرى: فتكون الاية على هذا الوجه عموم ! (*)
[ 128 ]
ليس فيه تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها، فإن الذي كان يملكه المولى من عنده لم ينتقل إليها وإنما سقط. فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا ولم تستحق عليه شيئا، وإنما أتلف به ملكه، لم يكن مهرا. وهذا بين مع قوله تعالى: (وآتوا النساء) وذلك أمر يقتضي الايجاب، وإعطاء العتق لا يصح. وقوله تعالى: (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه) وذلك محال في العتق، فلم يبق أن يكون الصداق إلا مالا، لقول تعالى: (بأموالكم) اختلف من قال بذلك في قدر ذلك، فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: (بأموالكم) في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح، ويعضده قوله عليه السلام في حديث الموهوبة (ولو خاتما من حديد). وقوله عليه السلام: (أنكحوا الايامى)، ثلاثا. قيل: ما العلائق بينهم يا رسول الله ؟ قال: (ما تراضى عليه الاهلون ولو قضيبا من أراك). وقال: أبو سعيد الخدري: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صداق النساء فقال: (هو ما اصطلح عليه أهلوهم). وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن رجلا أعطى امرأة مل ء يديه طعاما كانت به حلالا). أخرجهما الدار قطني في سننه. قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمنا لشئ، أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقا، وهذا قول جمهور أهل العلم. وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها، كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك، واختاره ابن المنذر وغيره. قال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت به، وأنكح ابنته من عبد الله بن وداعة بدرهمين. وقال ربيعة: يجوز النكاح بدرهم. وقال أبو الزناد: ما تراضى به الاهلون. وقال مالك: لا يكون الصداق أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا. قال بعض أصحابنا في تعليل له: وكان أشبه الاشياء بذلك قطع اليد، لان البضع عضو واليد عضو يستباح بمقدر من المال، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا، فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد. قال أبو عمر: قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة، فقاس الصداق على قطع اليد، واليد عنده لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا، ولا صداق عنده أقل من ذلك، وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق. وقد قال الدراوردي لمالك إذ قال لا صداق
[ 129 ]
أقل من ربع دينار: تعرقت فيها يا أبا عبد الله. أي سلكت فيها سبيل أهل العراق. وقد احتج أبو حنيفة بما رواه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صداق دون عشرة دراهم) أخرجه الدار قطني. وفي سنده مبشر بن عبيد متروك. وروي عن داود الاودي عن الشعبي عن علي عليه السلام: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم. قال أحمد بن حنبل: لقن غياث بن إبراهيم داود الاودي عن الشعبي عن علي: لا مهر أقل من عشرة دراهم. فصار حديثا. وقال النخعي: أقله أربعون درهما. سعيد بن جبير: خمسون درهما. ابن شبرمة: خمسة دراهم. ورواه الدار قطني عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه: لا مهر أقل من خمسة دراهم. الثامنة - قوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) الاستمتاع التلذذ. والاجور المهور، وسمي المهر أجرا لانه أجر الاستمتاع، وهذا نص على (1) أن المهر يسمى أجرا، و [ ذلك (1) ] دليل على أنه في مقابلة البضع، لان ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل (2)، ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي كل ذلك. والله أعلم. التاسعة - واختلف العلماء في معنى الآية، فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح (فآتوهن أجورهن) أي مهورهن، فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا إن كان مسمى، أو مهر مثلها إن لم يسم. فإن كان النكاح فاسدا فقد اختلفت الرواية عن مالك في النكاح الفاسد، هل تستحق به مهر المثل، أو المسمى إذا كان مهرا صحيحا ؟ فقال مرة: المهر المسمى، وهو ظاهر مذهبه، وذلك أن ما تراضوا عليه يقين، ومهر المثل اجتهاد، فيجب أن يرجع إلى ما تيقناه، لان الاموال لا تستحق بالشك. ووجه قوله: (مهر المثل) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها (3)). قال ابن خويز منداد: ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) من ج. (2) كذا في الاصول. وفى البحر: أو الكل. وهو الظاهر. (3) هكذا متن الحديث في كل الاصول. وهو عند أحمد وأبى داود وابن ما جه والترمذي وابن حبان والدار قطني والشافعي، ونصه عند الترمذي (أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل - ثلاثا - فان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها...) الحديث. وراجع الدار قطني وتعليقه ط الهند. (*)
[ 130 ]
نهى عن نكاح المتعة وحرمه، ولان الله تعالى قال: (فأنكحوهن بإذن أهلهن) ومعلوم أن النكاح بإذن الاهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك. وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الاسلام. وقرأ ابن عباس وأبي وابن جبير (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فأتوهن أجورهن) ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك في قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانكم فإنهم غير ملومين (1)) وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين. وروى الدار قطني عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وروى عن علي رضى الله عنه أنه قال: نسخ صوم رمضان كل صوم، ونسخت الزكاة كل صدقة، ونسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة، ونسخت الاضحية كل ذبح. وعن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدة والميراث. وروى عطاء عن ابن عباس قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي. العاشرة - واختلف العلماء كم مرة أبيحت ونسخت، ففي صحيح مسلم عن عبد الله قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل. قال أبو حاتم البستي في صحيحه: قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم (ألا نستخصي) دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظوره لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل ثم نهى عنها عام خيبر، ثم أذن فيها عام الفتح، ثم حرمها بعد ثلاث، فهي محرمة إلى يوم القيامة. وقال ابن العربي: وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة، لانها أبيحت في صدر الاسلام ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت في غزوة (1) راجع ج 12 ص 105 (*)
[ 131 ]
أو طاس، ثم حرمت بعد ذلك واستقر الامر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة، لان النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك. وقال غيره ممن جمع طرق الاحاديث فيها: إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات، فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الاسلام. وروى سلمة بن الا كوع أنها كانت عام أو طاس. ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر. ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح. قلت: وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم، وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك، رواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي، ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب، قاله أبو عمر رحمه الله. وفي مصنف أبي داود من حديث الربيع بن سبرة النهي عنها في حجة الوداع، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما روي في ذلك. وقال عمرو (1) عن الحسن ما حلت المتعة قط إلا ثلاثا في عمرة القضاء ما حلت قبلها ولا بعدها. وروي هذا عن سبرة أيضا، فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت. قال أبو جعفر الطحاوي: كل هؤلاء الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقها أخبروا أنها كانت في سفر، وأن النهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك، فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حضر، وكذلك روي عن ابن مسعود. فأما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها، وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فذكر أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكوا إليه العزبة (2) فرخص لهم فيها، ومحال أن يشكوا إليه العزبة في حجة الوداع، لانهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم، ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدمة. ويحتمل أنه لما كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم تكرير مثل هذا في مغازيه (1) المتبادر أنه عمرو بن ميمون عن الحسن البصري. (2) العزبة (بضم عين مهملة وزاى معجمة) التجرد عن النساء. ويحتمل أن يكون بغين معجمة وراء مهملة أي الفراق عن الاوطان لما فيه من فراق الاهل (عن ابن ماجه). (*)
[ 132 ]
وفي المواضع الجامعة، ذكر تحريمها في حجة الوداع، لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبه لاحد يدعي تحليلها، ولان أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا. الحادية عشرة - روى الليث بن سعد عن بكير بن الاشج عن عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح ؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت: فما هي ؟ قال: المتعة كما قال الله تعالى. قلت: هل عليها عدة ؟ قال: نعم حيضة. قلت: يتوارثان، قال: لا. قال أبو عمر: لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفرقة تقع عند انقضاء الاجل من غير طلاق. وقال ابن عطية: (وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رحمها: لان الولد لا حق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره. وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ وأن الولد لا يلحق في نكاح المتعة). قلت: هذا هو المفهوم من عبارة النحاس، فإنه قال: وإنما المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوما - أو ما أشبه ذلك - على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك، وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الاسلام، ولذلك قال عمر: لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة. الثانية عشرة - وقد اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد أو يدفع الحد للشبهة ويلحق به الولد على قولين، ولكن يعذر (1) ويعاقب. وإذا لحق اليوم الولد في نكاح المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه، فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي أبيح، فدل على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح ويفارقه في الاجل والميراث. وحكى المهدوي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود. وفيما حكاه ضعف، لما ذكرنا. قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه (1) في ب وج ود: (يعزر). (*)
[ 133 ]
عنها، فانعقد الاجماع على تحريمها، فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب. وفي رواية أخرى عن مالك: لا يرجم، لان نكاح المتعة ليس بحرام، ولكن لاصل آخر لعلمائنا غريب انفردوا به دون سائر العلماء، وهو أن ما حرم بالسنة هل هو مثل ما حرم بالقرآن أم لا ؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء، وهذا ضعيف. وقال أبو بكر الطرطوسي: ولم يرخص في نكاح المتعة إلا عمران بن حصين وابن عباس وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت. وفي قول ابن عباس يقول الشاعر: أقول للركب إذ طال الثواء بنا * يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس في بضة رخصة الاطراف ناعمة * تكون مثواك حتى مرجع الناس وسائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة، وأن المتعة حرام. وقال أبو عمر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلا لا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس. وقال معمر: قال الزهري: ازداد الناس لها مقتا حتى قال الشاعر: قال المحدث لما طال مجلسه * يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس كما تقدم. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (أجورهن) يعم المال وغيره، فيجوز أن يكون الصداق منافع أعيان. وقد اختلف في هذا العلماء، فمنعه مالك والمزني والليث وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز وهو في حكم من لم يسم لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة. وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد وأجازه أصبغ. قال ابن شاس: فإن وقع مضى في قول أكثر الاصحاب. وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم. وقال الشافعي: النكاح ثابت وعليه أن يعلمها ما شرط لها. فإن طلقها قبل الدخول ففيها للشافعي قولان: أحدهما أن لها نصف أجر تعليم تلك السورة، والآخر أن لها نصف مهر مثلها. وقال إسحاق: النكاح جائز. قال أبو الحسن اللخمي: والقول بجواز جميع ذلك أحسن. والاجارة والحج كغير هما من الاموال التي تتملك وتباع وتشترى. وإنما كره
[ 134 ]
ذلك مالك لانه يستحب أن يكون الصداق معجلا، والاجارة والحج في معنى المؤجل. احتج أهل القول الاول بأن الله تعالى قال: (بأموالكم) وتحقيق المال ما تتعلق به الاطماع، ويعد للانتفاع، ومنفعة الرقبة في الاجارة ومنفعة التعليم للعلم كله ليس بمال. قال الطحاوي: والاصل المجتمع عليه أن رجلا لو استأجر رجلا على أن يعلمه سورة القرآن سماها، بدرهم لم يجز، لان الاجارات لا تجوز إلا لاحد معنيين، إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه، وإما على وقت معلوم، وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلم، وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الاوقات وكثيرها. وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الاجارات. وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولا أعيان الاموال ثبت بالنظر أنه لا تملك به الابضاع. والله الموفق. احتج من أجاز ذلك بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة، وفيه فقال: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن). في رواية قال: (انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن). قالوا: فقي هذا دليل على انعقاد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم، وهذا على الظاهر من قوله: (بما معك من القرآن) فإن الباء للعوض، كما تقول: خذ هذا بهذا، أي عوضا منه. وقوله في الرواية الاخرى: (فعلمها) نص في الامر بالتعليم، والمساق يشهد بأن ذلك لاجل النكاح، ولا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن، أي لما حفظه، فتكون الباء بمعنى اللام، فإن الحديث الثاني يصرح بخلافه في قوله: (فعلمها من القرآن). ولا حجة فيما روي عن أبي طلحة أنه خطب أم سليم فقالت: إن أسلم تزوجته فأسلم فتزوجها، فلا يعلم مهر كان أكرم من مهرها، كان مهرها الاسلام فإن ذلك خاص به. وأيضا فإنه لا يصل إليها منه شئ بخلاف التعليم وغيره من المنافع. وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها، على ما يأتي بيانه في سورة (القصص (1)). وقد روي من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: (يا فلان هل (1) راجع ج 13 ص 271 فمن بعد. (*)
[ 135 ]
تزوجت) ؟ قال: لا، وليس معي ما أتزوج به. قال: أليس معك (قل هو الله أحد) ؟ قال: بلى ! قال: (ثلث القرآن، أليس معك آية الكرسي) ؟ قال: بلى ! قال: (ربع القرآن، أليس معك (إذا جاء نصر الله والفتح) ؟ قال: بلى ! قال: (ربع القرآن)، أليس معك (إذا زلزلت)) ؟ قال: بلى ! قال: (ربع القرآن. تزوج تزوج). قلت: وقد أخرج الدار قطني حديث سهل من حديث ابن مسعود، وفيه زيادة تبين، ما احتج به مالك وغيره، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ينكح هذه) ؟ فقام ذلك الرجل فقال: أنا يا رسول الله، فقال: (ألك مال) ؟ قال: لا، يا رسول الله، قال: (فهل تقرأ من القرآن شيئا) ؟. قال: نعم، سورة البقرة، وسورة المفصل (1). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها). فتزوجها الرجل على ذلك. وهذا نص - لو صح - في أن التعليم لا يكون صداقا. قال الدار قطني: تفرد به عتبة بن السكن وهو متروك الحديث. و (فريضة) نصب على المصدر في موضع الحال، أي مفروضة. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) أي من زيادة ونقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة. والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول. وقال القائلون بأن الآية في المتعة: هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة في أول الاسلام، فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار مثلا، فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول: زيديني في الاجل أزدك في المهر. فبين أن ذلك كان جائزا عند التراضي. قوله تعالى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن باذن واتوهن أجورهن (1) الاضافة في سورة المفضل بمعنى من. (*)
[ 136 ]
بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فان أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذالك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25) فيه احدى وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (ومن لم يستطيع منكم طولا) الاية. نبه تعالى على تخفيف في النكاح (1) وهو نكاح الامة لمن لم يجد الطول. واختلف العلماء. في معنى الطول على ثلاثة أقوال: الاول - السعة والغنى، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك في المدونة. يقال: طال يطول طولا في الافضال والقدرة. وفلان ذو طول أي ذو قدرة في مال (بفتح الطاء). وطولا (بضم الطاء) في ضد القصر. والمراد ههنا القدرة على المهر فقول أكثر أهل العلم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال أحمد بن المعذل: قال عبد الملك: الطول كل ما يقدر به على النكاح من نقد أو عرض أو دين على ملي. قال: وكل ما يمكن بيعه وإجارته فهو طول. قال: وليست الزوجة ولا الزوجتان ولا الثلاثة طولا. وقال: وقد سمعت ذلك من مالك رضي الله عنه. قال عبد الملك: لان الزوجة لا ينكح بها ولا يصل بها إلى غيرها إذ ليست بمال. وقد سئل مالك عن رجل يتزوج أمة وهو ممن يجد الطول، فقال: أرى أن يفرق بينهما. قيل له: إنه يخاف العنت. قال: السوط يضرب به. ثم خففه بعد ذلك. القول الثاني: الطول الحرة. وقد اختلف قول مالك في الحرة هل هي طول أم لا، فقال في المدونة: ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الامة، إذا لم يجد سعة لاخرى وخاف العنت. وقال في كتاب محمد ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول. قال اللخمي: وهو ظاهر القرآن. وروي نحو هذا عن ابن حبيب، وقاله أبو حنيفة. فيقتضي هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح الامة وأن عدم السعة وخاف العنت، لانه طالب شهوة وعنده امرأة، وقال به الطبري واحتج له. قال أبو يوسف: الطول هو وجود الحرة (1) في ب ود وط وز وى: المناكح. وهو جمع كمقعد ومقاعد. وفى ج وأ وج. النكاح. (*)
[ 137 ]
تحته، فإذا كانت تحته حرة فهو ذو طول، فلا يجوز له نكاح الامة. القول الثالث: الطول الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوج الامة إذا لم يملك هواها وخاف أن يبغي بها وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، هذا قول قتادة والنخعي وعطاء وسفيان الثوري. فيكون قوله تعالى: (لمن خشي العنت) على هذا التأويل في صفة عدم الجلد. وعلى التأويل الاول يكون تزويج الامة معلقا بشرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت، فلا يصح إلا باجتماعهما. وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد. قال مطرف وابن الماجشون: لا يحل للرجل أن ينكح أمة، ولا يقران إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى. وقال أصبغ. وروي هذا القول عن جابر بن عبد الله وابن عباس وعطاء وطاوس والزهري ومكحول، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق، واختاره ابن المنذر وغيره. فإن وجد المهر وعدم النفقة فقال مالك في كتاب محمد: لا يجوز له أن يتزوج أمة. وقال أصبغ: ذلك جائز، إذ نفقة الامة على أهلها إذا لم يضمها إليه. وفي الآية قول رابع: قال مجاهد: مما وسع الله على هذه الامة نكاح الامة والنصرانية، وإن كان موسرا. وقال بذلك أبو حنيفة أيضا، ولم يشترط خوف العنت، إذا لم تكن تحته حرة. قالوا: لان كل مال يمكن أن يتزوج به الامه يمكن أن يتزوج به الحرة، فالآية على هذا أصل في جواز نكاح الامة مطلقا. قال مجاهد: وبه يأخذ سفيان، وذلك أني سألته عن نكاح الامة فحدثني. عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عباد بن عبد الله عن علي رضي الله عنه قال: إذا نكحت الحرة على الامة كان للحرة يومان وللامة يوم. قال: ولم ير علي به بأسا. وحجة هذا القول عموم قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم). وقوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا) إلى قوله: (ذلك لمن خشي العنت منكم)، لقوله عزوجل: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). وقد اتفق الجميع على أن للحر أن يتزوج أربعا وإن خاف ألا يعدل. قالوا: وكذلك له تزوج الامة وإن كان واجدا للطول غير خائف للعنت. وقد
[ 138 ]
روي عن مالك في الذي يجد طولا لحرة أنه يتزوج أمة مع قدرته على طول الحرة، وذلك ضعيف من قول. وقد قال مرة أخرى: ما هو بالحرام البين، وأجوزه. والصحيح أنه لا يجوز للحر المسلم أن ينكح أمة غير مسلمة بحال، ولا له أن يتزوج بالامة المسلمة إلا بالشرطين المنصوص عليهما كما بينا. والعنت الزنى، فإن عدم الطول ولم يخش العنت لم يجز له نكاح الامة، وكذلك إن وجد الطول وخشى العنت. فإن قدر على طول حرة كتابية وهى المسألة: الثانية - فهل يتزوج الامة، اختلف علماؤنا في ذلك، فقيل: يتزوج الامة فإن الامة المسلمة لا تلحق بالكافرة، فأمة مؤمنة خير من حرة مشركة. واختاره ابن العربي. وقيل: يتزوج الكتابية، لان الامة وإن كانت تفضلها بالايمان فالكافرة تفضلها بالحرية وهي زوجة. وأيضا فإن ولدها يكون حرا لا يسترق، وولد الامة يكون رقيقا، وهذا هو الذي يتمشى على أصل المذهب. الثالثة - واختلف العلماء في الرجل يتزوج الحرة على الامة ولم تعلم بها، فقالت طائفة: النكاح ثابت. كذلك قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبرباح والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروي عن علي. وقيل: للحرة الخيار إذا علمت. ثم في أي شئ يكون لها الخيار، فقال الزهري وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد وإسحاق في أن تقيم معه أو تفارقه. وقال عبد الملك: في أن تقر نكاح الامة أو تفسخه. وقال النخعي: إذا تزوج الحرة على الامة فارق الامة إلا أن يكون له منها ولد، فإن كان لم يفرق بينهما. وقال مسروق: يفسخ نكاح الامة، لانه أمر أبيح للضرورة كالميتة، فإذا أرتفعت الضرورة ارتفعت الاباحة. الرابعة - فإن كانت تحته أمتان علمت الحرة بواحدة منهما ولم تعلم بالاخرى فإنه يكون لها الخيار. ألا ترى لو أن حرة تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أمة فرضيت، ثم تزوج عليها أخرى فأنكرت كان ذلك لها، فكذلك هذه إذا لم تعلم بالامتين وعلمت بواحدة. قال ابن القاسم: قال مالك: وإنما جعلنا الخيار للحرة في هذه المسائل لما قالت العلماء قبلي.
[ 139 ]
يريد سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهما. قال مالك: ولولا ما قالوه لرأيته حلالا، لانه في كتاب الله حلال. فإن لم تكفه الحرة واحتاج إلى أخرى ولم يقدر على صداقها جاز له أن يتزوج الامة حتى ينتهي إلى أربع بالتزويج بظاهر القرآن. رواه ابن وهب عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: يرد نكاحه. قال ابن العربي: والاول أصح في الدليل، وكذلك هو في القرآن، فإن من رضي بالسبب المحقق رضي بالمسبب المرتب عليه، وألا يكون لها خيار، لانها قد علمت أن له نكاح الاربع، وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرة تزوج أمة، وما شرط الله سبحانه عليها كما شرطت على نفسها، ولا يعتبر في شروط الله سبحانه وتعالى علمها. وهذا غاية التحقيق في الباب والانصاف فيه. الخامسة - قوله تعالى: (المحصنات) يريد الحرائر، يدل عليه التقسيم بينهن وبين الاماء في قوله: (من فتياتكم المؤمنات). وقالت فرقة: معناه العفائف. وهو ضعيف، لان الاماء يقعن تحته فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات. وهو قول ابن ميسرة والسدي. وقد اختلف العلماء فيما يجوز للحر الذي لا يجد الطول ويخشى العنت من نكاح الاماء، فقال مالك وأبو حنيفة وابن شهاب الزهري والحارث العكلي (1): له أن يتزوج أربعا. وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له أن ينكح من الاماء أكثر من اثنتين. وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق: ليس له أن ينكح من الاماء إلا واحدة. وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة، واحتجوا بقوله تعالى: (ذلك لمن خشي العنت منكم) وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة. السادسة - قوله تعالى: (فمن ما ملكت أيمانكم) أي فليتزوج بأمة الغير. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة نفسه، لتعارض الحقوق واختلافها. السابعة - قوله تعالى: (من فتياتكم) أي المملوكات، وهي جمع فتاة. والعرب تقول للمملوك: فتى، وللمملوكة فتاة. وفي الحديث الصحيح: لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي (1) العكلى: بالضم والسكون نسبة الى عكل بطن من تميم. (*)
[ 140 ]
ولكن ليقل فتاي وفتاتي) وسيأتي. ولفظ الفتى والفتاة يطلق أيضا على (1) الاحرار في ابتداء الشباب، فأما في المماليك فيطلق في الشباب وفي الكبر. الثامنة - قوله تعالى: (المؤمنات) بين بهذا أنه لا يجوز التزوج بالامة الكتابية، فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، والثوري والاوزاعي والحسن البصري والزهري ومكحول ومجاهد. وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي: نكاح الامة الكتابية جائز. قال أبو عمر: ولا أعلم لهم سلفا في قولهم، إلا أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل فإنه قال: إماء أهل الكتاب بمنزلة الحرائر منهن. قالوا: وقوله (المؤمنات) على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها، وهذا بمنزلة قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) فإن خاف ألا يعدل فتزوج أكثر من واحدة جاز، ولكن الافضل ألا يتزوج، فكذلك هنا الافضل ألا يتزوج إلا مؤمنة، ولو تزوج غير المؤمنة جاز. واحتجوا بالقياس على الحرائر، وذلك أنه لما لم يمنع قوله: (المؤمنات) في الحرائر من نكاح الكتابيات فكذلك لا يمنع قوله: (المؤمنات) في الاماء من نكاح اماء الكتابيات. وقال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية. فالمنع عده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز لمسلم نكاح مجوسية ولا وثنية، وإذا كان حراما بإجماع نكاحهما فكذلك وطؤهما بملك اليمين قياسا ونظرا. وقد روي عن طاوس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم قالوا: لا بأس بنكاح الامة المجوسية بملك اليمين. وهو قول شاذ مهجور لم يلتفت إليه أحد من فقهاء (2) الامصار. وقالوا: لا يحل أن يطأها حتى تسلم. وقد تقدم القول في هذه المسألة في (البقرة (3)) مستوفى. والحمد لله. التاسعة - قوله تعالى: (والله أعلم بأيمانكم) المعنى أن الله عليم ببواطن الامور ولكم ظواهرها، وكلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من التزوج بالاماء عند الضرورة، وإن كانت حديثة عهد بسباء أو كانت خرساء وما أشبه ذلك. ففي اللفظ تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر. (1) في ج وط وى: في الاحرار. (2) في ج وط: من الفقهاء في الامصار. (3) راجع ج 3 ص 69 (*)
[ 141 ]
العاشرة - قوله تعالى: (بعضكم من بعض) ابتداء وخبر، كقولك زيد في الدار. والمعنى أنتم بنو آدم. وقيل: أنتم مؤمنون. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، المعنى: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض: هذا فتاة هذا، وهذا فتاة هذا. فبعضكم على هذا التقدير مرفوع بفعله وهو فلينكح. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الامة وتعيره وتسميه الهجين (1)، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له، وإنما انحطت الامة فلم يجز للحر التزوج بها إلا عند الضرورة، لانه تسبب إلى إرقاق الولد، وأن الامة لا تفرغ للزوج على الدوام، لانها مشغولة بخدمة المولى. الحادية عشرة - قوله تعالى: (فانكحوهن باذن أهلهن) أي بولاية أربابهن المالكين وإذنهم. وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده، لان العبد مملوك لا أمر له، وبدنه كله مستغرق، لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجاز السيد جاز، هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبن رباح وسعيد ابن المسيب وشريح والشعبي. والامة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد، لان نقصان الانوثة في الامة يمنع من انعقاد النكاح البتة وقالت طائفة: إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه، هذا قول الشافعي والاوزاعي وداود بن علي، قالوا: لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره، لان العقد الفاسد لا تصح إجازته، فإن أراد النكاح استقبله على سنته. وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده. وقد كان ابن عمر يعد العبد بذلك زانيا ويحده، وهو قول أبي ثور. وذكر عبد الرزاق عن عبد الله (2) بن عمر عن نافع عن ابن عمر، وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبد اله نكح بغير إذنه فضربه الحد وفرق بينهما وأبطل صداقها. قال: وأخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة أنه أخبره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى، ويرى عليه الحد، (1) الهجين: الذى أبوه عربي وامه غير محصنة، المبرد: ولد العربي، من غير العربية. (2) هو: ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. (*)
[ 142 ]
ويعاقب الذين أنكحوهما. قال: وأخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد نكح بغير إذن سيده فهو عاهر). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو نكاح حرام، فإن نكح بإذن سيده فالطلاق بيد من يستحل الفرج. قال أبو عمر: على هذا مذهب جماعة فقهاء الامصار بالحجاز والعراق، ولم يختلف عن ابن عباس أن الطلاق بيد السيد، وتابعه على ذلك جابر بن زيد وفرقة. وهو عند العلماء شذوذ لا يعرج عليه، وأظن ابن عباس تأول في ذلك قول الله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ (1)). وأجمع أهل العلم على أن نكاح العبد جائز بإذن مولاه، فإن نكح نكاحا فاسدا فقال الشافعي: إن لم يكن دخل فلا شئ لها، أن كان دخل فعليه المهر إذا عتق، هذا هو الصحيح من مذهبه، وهو قول أبي يوسف ومحمد لا مهر عليه حتى يعتق. وقال أبو حنيفة: إن دخل عليها فلها المهر. وقال مالك والشافعي: إذا كان عبد بين رجلين فأذن له أحدهما في النكاح فنكح فالنكاح باطل، فأما الامة إذا آذنت أهلها في النكاح فأذنوا جاز، وإن لم تباشر العقد لكن تولي من يعقده عليها. الثانية عشرة - قوله تعالى: (وآتوهن أجورهن) دليل على وجوب المهر في النكاح، وأنه للامة. (بالمعروف) معناه بالشرع والسنة، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة، وهو مذهب مالك. قال في كتاب الرهون: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وقال الشافعي: الصداق للسيد، لانه عوض فلا يكون للامة. أصله إجازة المنفعة في الرقبة، وإنما ذكرت لان المهر وجب بسببها. وذكر القاضي إسماعيل في أحكامه: زعم بعض العراقيين إذا زوج أمته من عبده فلا مهر. وهذا خلاف الكتاب والسنة وأطنب فيه. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (محصنات) أي عفائف. وقرأ الكسائي (محصنات) بكسر الصاد في جميع القرآن، إلا في قوله تعالى: (والمحصنات من النساء). وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن. ثم قال: (غير مسافحات) أي غير زوان، أي معلنات بالزنى، لان أهل الجاهلية كان فيهم الزواني في العلانية، ولهن رايات منصوبات كراية البيطار. (1) راجع ج 10 ص 146 (*)
[ 143 ]
(ولا متخذات أخدان) أصدقاء على الفاحشة، واحدهم خدن وخدين، وهو الذي يخادنك، ورجل خدنة، إذا اتخذ أخذ انا أي أصحابا، عن أبي زيد. وقيل: المسافحة المجاهرة بالزنى، أي التي تكري نفسها لذلك. وذات الخدن هي التي تزني سرا. وقيل: المسافحة المبذولة، وذات الخدن التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الاعلان بالزنى، ولا تعيب اتخاذ الاخدان، ثم رفع الاسلام جميع ذلك، وفي ذلك نزل قوله تعالى: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن (1))، عن ابن عباس وغيره. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (فإذا أحصن) قراءة عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة. الباقون بضمها. فبالفتح معناه أسلمن، وبالضم زوجن. فإذا زنت الامة المسلمة جلدت نصف جلد الحرة، وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور: ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم. وعليه فلا تحد كافرة إذا زنت، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر. وقال آخرون: إحصانها التزوج بحر. فإذا زنت الامة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبه قال أبو عبيد. قال: وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن حد الامة فقال: إن الامة ألقت فروة رأسها من وراء الدار. قال الاصمعي: الفروة جلدة الرأس. قال أبو عبيد: وهو لم يرد الفروة بعينها، وكيف تلقى جلدة رأسها من وراء الدار، ولكن هذا مثل ! إنما أراد بالفروة القناع، يقول ليس عليها قناع ولا حجاب، وأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع من ذلك، فتصير حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور، مثل رعاية الغنم وأداء الضريبة ونحو ذلك، فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت، لهذا المعنى. وقالت فرقة: إحصانها التزوج، إلا أن الحد واجب على الامة المسلمة غير المتزوجة بالسنة، كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل: يا رسول الله، الامة إذا زنت ولم تحصن ؟ فأوجب عليها الحد. قال الزهري: فالمتزوجة محدوده بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. قال القاضي إسماعيل في قول من قال (إذا أحصن) أسلمن: بعد، لان ذكر (1) راجع ج 7 ص 133 وص 200 (*)
[ 144 ]
الايمان قد تقدم لهن في قوله تعالى: (من فتياتكم المؤمنات). وأما من قال: (إذا أحصن) تزوجن، وأنه لا حد عالى الامة حتى تتزوج، فإنهم ذهبوا إلى ظاهر القرآن وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث. والامر عندنا أن الامة إذا. زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا رجم عليها، لان الرجم لا يتنصف. قال أبو عمر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حد على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن، فكان ذلك زيادة بيان. قلت: ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف، لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد في ذلك. والله أعلم. وقال أبو ثور فيما ذكر ابن المنذر: وإن كانوا اختلفوا في رجمهما فإنهما يرجمان إذا كانا محصنين، وإن كان إجماع فالاجماع أولى. الخامسة عشرة - واختلف العلماء فيمن يقيم الحد عليهما، فقال ابن شهاب: مضت السنة أن يحد العبد والامة أهلوهم في الزنى، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لاحد أن يفتات عليه، وهو مقتضى قوله عليه السلام: (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد). وقال علي رضي الله عنه في خطبته: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنت). أخرجه مسلم موقوفا عن علي. وأسنده النسائي وقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن) وهذا نص في إقامة السادة الحدود على المماليك من أحصن منهم ومن لم يحصن. قال مالك رضي الله عنه: يحد المولى عبده في الزنى وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود بذلك، ولا يقطعه في السرقة، وإنما يقطعه الامام، وهو قول الليث. وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم، منهم ابن عمر وأنس، ولا مخالف لهم من الصحابة. وروي عن ابن أبي ليلى أنه قال: أدركت بقايا الانصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا
[ 145 ]
زنت، في مجالسهم. وقال أبو حنيفة: يقيم الحدود على العبيد والاماء السلطان دون المولى في الزنى وسائر الحدود، وهو قول الحسن بن حي. وقال الشافعي: يحده المولى في كل حد ويقطعه، واحتج بالا حاديث التي ذكرنا. وقال الثوري والاوزاعي: يحده في الزنى، وهو مقتضى الا حاديث، والله أعلم. وقد مضى القول في تغريب العبيد في هذه السورة. السادسة عشرة - فإن زنت الامة ثم عتقت قبل أن يحدها سيدها لم يكن له سبيل إلى حدها، والسلطان يجلدها إذا ثبت ذلك عنده، فإن زنت ثم تزوجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضا لحق الزوج، إذ قد يضره ذلك. وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد، فلو كان، جاز للسيد ذلك لان حقهما حقه. السابعة عشرة - فإن أقر العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لاقراره، ولا التفات لما أنكره المولى، وهذا مجمع عليه بين العلماء. وكذلك المدبر (1) وأم الولد والمكاتب والمعتق بعضه. وأجمعوا أيضا على أن الامة إذا زنت ثم أعتقت حدت حد الاماء، وإذا زنت وهي لا تعلم بالعتق ثم علمت وقد حدت أقيم عليها تمام حد الحرة، ذكره ابن المنذر. الثامنة عشرة - واختلفوا في عفو السيد عن عبده وأمته إذا زنيا، فكان الحسن البصري يقول: له أن يعفو. وقال غير الحسن: لا يسعه إلا إقامة الحد، كما لا يسع السلطان أن يعفو عن حد إذا علمه، لم يسع السيد كذلك أن يعفو عن أمته إذا وجب عليها الحد، وهذا [ على (2) ] مذهب أبي ثور. قال ابن المنذر: وبه نقول. التاسعة عشرة - قوله تعالى: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) أي الجلد ويعني بالمحصنات ها هنا الابكار الحرائر، لان الثيب عليها الرجم والرجم لا يتبعض، وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة، لان الاحصان يكون بها، كما يقال: أضحية قبل أن يضحي بها، وكما يقال للبقرة: مثيرة قبل أن تثير. وقيل: (المحصنات) المتزوجات، لان عليها الضرب والرجم في الحديث، والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف الضرب. والفائدة في نقصان حدهن أنهن أضعف من الحرائر. ويقال: إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر. وقيل (3): (1) في ج وط وز: المدبرة. (2) من ب وط. (3) في ب وج وط: ويقال. (*)
[ 146 ]
لان العقوبة تجب على قدر النعمة، ألا ترى أن الله تعالى قال لازواج النبي صلى الله عليه وسلم: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين (1)) فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد، وكذلك الاماء (2) لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل. وذكر (3) في الآية حد الاماء خاصة، ولم يذكر حد العبيد، ولكن حد العبيد والاماء سواء: خمسون جلدة في الزنى، وفي القذف وشرب الخمر أربعون، لان حد الامة إنما نقص (4) لنقصان الرق فدخل الذكور من العبيد في ذلك بعلة المملوكية، كما دخل الاماء تحت قوله عليه السلام: (من أعتق شركا (5) له في عبد). وهذا الذي يسميه العلماء القياس في معنى الاصل، ومنه قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات (6)) الآية. فدخل في ذلك المحصنين قطعا، على ما يأتي بيانه في سورة (النور (6)) إن شاء الله تعالى. الموفية عشرين - وأجمع العلماء على أن بيع الامة الزانية ليس [ بيعها (7) ] بواجب لازم على ربها، وإن اختاروا له ذلك، لقوله عليه السلام: (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب (8) عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر). أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة. منهم داود وغيره، لقوله: (فليبعها) وقوله: (ثم بيعوها ولو بضفير). قال ابن شهاب: فلا أدري بعد الثالثة أو الرابعة، والضفير الحبل. فإذا باعها عرف بزناها، لانه عيب فلا يحل أن يكتم. فإن يكتم. فإن قيل: إذا كان مقصود الحديث إبعاد الزانية ووجب على بائعها التعريف بزناها فلا ينبغي لاحد أن يشتريها، لانها مما قد أمرنا بإبعادها. فالجواب أنها مال ولا تضاع، للنهي عن إضاعة المال، ولا تسيب، لان ذلك إغراء لها بالزنى وتمكين منه، ولا تحبس دائما، فإن فيه تعطيل منفعتها على سيدها فلم يبق إلا بيعها. ولعل السيد الثاني يعفها بالوطئ أو يبالغ في التحرز فيمنعها من ذلك. وعلى الجملة فعند تبدل الملاك تختلف عليها الاحوال. والله أعلم. (1) راجع ج 14 ص 173 (2) في ب وط: الامة، نعمتها: فعقوبتها. (3) في ج: ولذلك ذكر. (4) في ب: تعين. (5) أي حصة ونصيبا. (6) راجع ج 12 ص 171. (7) من ب وج وط. (8) لا يثرب: لا يونجها ولا يقرعها بالزنى بعد الضرب. (*)
[ 147 ]
الحادية والعشرون - قوله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم) أي الصبر على العزبة خير من نكاح الامة، لانه يفضي إلى إرقاق الولد، والغض من النفس والصبر على مكارم الاخلاق أولى من البذالة (1). وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقا، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد. وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الامة من الزنى إلا قريب (2)، قال الله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم)، أي عن نكاح الاماء. وفي سنن ابن ماجة عن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر). ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس، وكان خادما لانس، وزاد: فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحرائر صلاح البيت والاماء هلاك البيت - أو قال - فساد البيت). قوله تعالى: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) أي ليبين لكم أمر دينكم ومصالح أمركم، وما يحل لكم وما يحرم عليكم. وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى، ومنه قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ (3)) على ما يأتي. وقال بعد هذا: (يريد الله أن يخفف عنكم) فجاء هذا (بأن) والاول باللام. فقال الفراء: العرب تعاقب بين لام كي وأن، فتأتي باللام التي على معنى (كي) في موضع (أن) في أردت وأمرت، فيقولون: أردت أن تفعل، وأردت لتفعل، لانهما يطلبان المستقبل. ولا يجوز ظننت لتفعل، لانك تقول ظننت أن قد قمت. وفي التنزيل (وأمرت لا عدل بينكم (4)). (وأمرنا لنسلم لرب العالمين (3)). (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم (5)). (يريدون أن يطفئوا نور الله (6)). قال الشاعر (7): (1) في ب ود: النذالة. (2) عبارة سعيد بن جبير كما في تفسير الطبري: (ما ازلحف نا كح الامة عن الزنى الا قليلا). أي ما تنحى وما تباعد. (3) راجع ج 6 ص 420 وج 7 ص 19 (4) راجع ج 16 ص 13 (5) راجع ج 18 ص 85 (6) راجع ج 8 ص 121. (7) هو كثير عزة. (*)
[ 148 ]
أريد لانسى ذكرها فكأنما * تمثل لي ليلى بكل سبيل يريد أن أنسى. قال النحاس: وخطأ الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى (أن) لدخلت عليها لام أخرى، كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول جئت لكي تكرمني. وأنشدنا: أردت لكيما يعلم الناس أنها * سراويل قيس والوفود شهود (1) قال: والتقدير إرادته ليبين لكم. قال النحاس: وزاد الامر على هذا حتى سماها بعض القراء لام أن، وقيل: المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. (ويهديكم سنن الذين من قبلكم) أي من أهل الحق. وقيل: معنى (يهديكم) يبين لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل. وقال بعض أهل النظر: في هذا دليل على أن كل ما حرم الله قبل هذه الآية علينا فقد حرم على من كان قبلنا. قال النحاس: وهذا غلط، لانه يكون المعنى ويبين لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه، وقد يكون ويبين لكم كما بين لمن كان قبلكم من الانبياء فلا يومى به إلى هذا بعينه. ويقال: إن قوله (يريد الله) ابتداء القصة، أي يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته. (ويهديكم) يعرفكم (سنن الذين من قبلكم) أنهم لما تركوا أمري كيف عاقبتهم، وأنتم إذا فعلتم ذلك لا (2) أعاقبكم ولكني أتوب عليكم. (والله عليم) بمن تاب (حكيم) بقبول التوبة. قوله تعالى: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا (28) قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم) ابتداء وخبر. و (أن) في موضع نصب ب (يريد) وكذلك (يريد الله أن يخفف عنكم)، ف (أن يخفف) في موضع نصب ب (يريد) (1) البيت لقيس بن عبادة، وبعده: وألا يقولوا غاب قيس وهذه * سراويل عادى نمته ثمود قال ابن سيده: بلغنا أن قيسا طاول روميا بين يدى معاوية أو غيره من الامراء فتجرد قيس من سراويله وألقاها إلى الرومي ففضلت عنه، فقال هذين البيتين يعتذر من القاء سراويله في المشهد المجموع. (عن اللسان مادة (سرل)). (2) في ج: إذ فعلتم ذلك أعاقبكم. وفى ى: لا أكافيكم. (*)
[ 149 ]
والمعنى: يريد توبتكم، أي يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم. قيل: هذا في جميع أحكام الشرع، وهو الصحيح. وقيل: المراد بالتخفيف نكاح الامة، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الاماء، قاله مجاهد وابن زيد وطاوس. قال طاوس: ليس يكون الانسان في شئ أضعف منه في أمر النساء. واختلف في تعيين المتبعين للشهوات، فقال مجاهد: هم الزناة. السدي: هم اليهود والنصارى. وقالت فرقة: هم اليهود خاصة، لانهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الاخوات من الاب. وقال ابن زيد: ذلك على العموم، وهو الاصح. والميل: العدول عن طريق الاستواء، فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها حتى لا تلحقه معرة (1). قوله تعالى: (وخلق الانسان ضعيفا) نصب على الحال، والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف فأحتاج إلى التخفيف. وقال طاوس: ذلك في أمر النساء خاصة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ (وخلق الانسان ضعيفا) أي وخلق الله الانسان ضعيفا، أي لا يصبر عن النساء. قال ابن المسيب: لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو (2) بالاخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء. ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال عبادة: ألا تروني لا أقوم إلا رفدا (3) ولا آكل إلا ما لوق لي - قال يحيى: يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي منذ زمان - قال يحيى: يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي، إنه لا سمع له ولا بصر !. قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكن رحيما (29) (1) في ط وى: وفى معناه قيل: ثم بياض في ى. ولم يأت بمقول القول، ولعله أراد أن يقول: (وخلق الانسان) الاية جملة حالية. (2) في البحر: وأنا أعشق. (3) أي الا أن أعان على القيام. (*)
[ 150 ]
فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (بالباطل) أي بغير حق. ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه، وقد قدمنا في البقرة (1). ومن أكل المال [ بالباطل (2) ] بيع العربان، وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهما فما فوقه، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة، وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك. فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الامصار من الحجازيين والعراقيين، لانه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع. وبيع العربان مفسوخ (3) إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده، وترد السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها. وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع ابن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا. وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح، وإنما ذكره عبد الرزاق عن الاسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا، وهذا ومثله ليس حجة. ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه، وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا أختار تمام البيع. وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره، وفي موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع العربان). قال أبو عمر: قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع، وأشبه ما قيل فيه: أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة، لان ابن لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه. حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره، وابن لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال: إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه غلط. وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح. ومنهم من يضعف حديثه كله.، وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث، إلا أن حال عندهم كما وصفنا. (1) راجع ج 2 ص 338 (2) من ب وط وج ود. (3) كذا في ى وفي غيرها: منسوخ. (*)
[ 151 ]
الثانية - قوله تعالى: (الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) هذا استثناء منقطع، أي ولكن تجارة عن تراض. والتجارة هي البيع والشراء، وهذا مثل قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) على ما تقدم (1). وقرئ (تجارة)، بالرفع أي إلا أن تقع تجارة، وعليه أنشد سيبويه: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي * إذا كان يوم يوم ذو كواكب أشهب وتسمى هذه كان التامة، لانها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول. وقرئ (تجارة) بالنصب، فتكون كان ناقصة، لانها لا تتم بالاسم دون الخبر، فاسمها مضمر فيها، وإن شدت قدرته، أي إلا أن تكون الاموال أموال تجارة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد تقدم هذا، ومنه قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة (1)). الثالثة - قوله تعالى: (تجارة) التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، ومنه الاجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن الاعمال الصالحة التي هي بعض من فعله، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (2)) وقال تعالى: (يرجون تجارة لن تبور (3)). وقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم (4)) الآية. فسمى ذلك كله بيعا وشراء على وجه المجاز، تشبيها بعقود الاشرية والبياعات التي تحصل بها الاغراض، وهي نوعان: تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولو الاقدار، وزهد فيه ذوو الاخطار. والثاني تقلب المال بالاسفار ونقله إلى الامصار، فهذا أليق بأهل المروءة، وأعم جدوى ومنفعة، غير أنه أكثر خطرا وأعظم غررا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المسافر وماله لعلى قلت (5) إلا ما وقى الله). يعني على خطر. وقيل: في التوراة يابن آدم، أحدث سفرا أحدث لك رزقا. الطبري: وهذه الآية أدل دليل على فساد قول... (6)... (1) راجع ج 3 ص 356 وص 371 (2) راجع ج 18 ص 86 (3) راجع ج 14 ص 345 (4) راجع ج 8 ص 266 (5) نسب صاحب اللسان هذه العبارة إلى أعرابي. راجع مادة (قلت). والقلت بالتحريك الهلاك. (6) بياض بالاصول. وفى الطبري: (ففى هذه الاية ابانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول المتصوفة المنكرين طلب الاقوات بالتجارات والصناعات والله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) اكتسابا أحل ذلك لها. راجع الطبري في تفسير الاية وسيأتى في ص 156 (*)
[ 152 ]
الرابعة - اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله (بالباطل) أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك. وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب. وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها. فهذان طرفان متفق عليهما. وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك إلى طعامه. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك بالآية الاخرى التي في (النور)، فقال: (ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) إلى قوله (أشتاتا (1))، فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعامه فيقول: إني لا جنح أن آكل منه - والتجنح الحرج - ويقول: المسكين أحق به مني. فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحل طعام أهل الكتاب. الخامسة - لو اشتريت من السوق شيئا، فقال لك صاحبه قبل الشراء: ذقه وأنت في حل، فلا تأكل منه، لان إذنه بالاكل لاجل الشراء، فربما لا يقع بينكما شراء (2) فيكون ذلك الا كل شبهو، ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار. السادسة - والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوى مائة فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب. واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرا بالغا. وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقال ابن وهب من أصحاب (1) راجع ج 12 ص 311 (2) في ط وج: بيع. (*)
[ 153 ]
مالك رحمه الله. والاول أصح، لقوله عليه السلام في حديث الامة الزانية. (فليبعها ولو بضفير) وقوله عليه السلام لعمر: (لا تبتعه - يعني الفرس - ولو أعطاكه بدرهم واحد) وقوله عليه السلام: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) وقوله عليه السلام: (لا يبغ حاضر لباد (1) وليس فيها تفصيل (2) بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره. السابعة - قوله تعالى: (عن تراض منكم) أي عن رضى، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين. واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الابدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر، فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا، قاله جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والاوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. قال الاوزاعي: هما بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيوعا ثلاثة: بيع السلطان المغانم، والشركة في الميراث، والشركة في التجارة، فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار. وقال: وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه، وهو قول أهل الشام. وقال الليث: التفرق أن يقوم أحدهما. وكان أحمد بن حنبل يقول: هما بالخيار أبدا ما لم يتفرقا بأبدانهما، وسواء قالا: اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما، وقال الشافعي أيضا. وهو الصحيح في هذا الباب للاحاديث الواردة في ذلك. وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء. وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالالسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار. قال محمد بن الحسن: معنى قوله في الحديث (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) أن البائع إذا قال: قد بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت. وهو قول أبي حنيفة، ونص مذهب مالك أيضا، حكاه ابن خويز منداد. وقيل: ليس له أن يرجع. وقد مضى في (البقرة (3)). واحتج (1) الحاضر: المقيم في المدن والقرى. والبادى: القيم بالبادية. والمنهى عنه أن يأتي البدوى البلدة ومعه قوت يبغى التسارع إلى بيعة رخيصا، فيقول له الحضرى: اتركه عندي لاغالى في بيعه. فهذا الصنيع محرم لما فيه من الاضرار بالغير. والبيع إذا جرى مع المغالاة منعقد. وسل ابن عباس عن معنى الحديث فقال: لا يكون له سمسارا. (عن ابن الاثير). (2) في ط وى وب: تفضيل. (3) راجع ج 3 ص 357 (*)
[ 154 ]
الاولون بما ثبت من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه أختر). رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر، فقوله عليه السلام في هذه الرواية: (أو يقول أحدهما لصاحبه اختر) هو معنى الرواية الاخرى (إلا بيع الخيار) وقوله: (إلا أن يكون بيعهما عن خيار) ونحوه. أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه: اختر إنفاذ البيع أو فسخه، فإن اختار إمضاء البيع تم البيع بينها وإن لم يتفرقا. وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحدا وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلا ثم رجع. وفي الاصول: إن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله، لا سيما الصحابة إذ هم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وروى أبو داود والدار قطني عن أبي الوضئ قال: كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا: أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام ؟ قال: نعم، فباعه ثم بات معنا، فلما أصبح قام إلى فرسه، فقال له صاحبنا: مالك والفرس ! أليس قد بعتنيها ؟ فقال: ما لي في هذا البيع من حاجة. فقال: مالك ذلك، لقد بعتني. فقال لهما القوم: هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه، فقال لهما: أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا: نعم. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) وإني لا أراكما افترقتما. فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه، بل هذا كان عمل الصحابة. قال سالم قال ابن عمر: كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يفرق المتبايعان. قال: فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر، قال: فلما بعته طفقت أنكص القهقرى، خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه. أخرجه الدار قطني ثم قال: إن أهل اللغة فرقوا بين فرقت مخففا وفرقت مثقلا، فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الابدان. قال أحمد ابن يحيى ثعلب: أخبرني ابن الاعرابي عن المفضل قال: يقال فرقت بين الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين مشدد افتفرقا، فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الابدان. (1) أبو الوضى. (بفتح الواو وكسر المعجمة المخففة مهموز): عبادين نسيب. (عن التهذيب). (*)
[ 155 ]
احتجت المالكية بما تقدم بيانه في آية الدين، وبقوله تعالى: (أوفوا بالعقود (1)) وهذان قد تعاقدا. وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقود. قالوا: وقد يكون التفرق بالقول كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقا، قال الله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته (2)) وقال تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا (3)) وقال عليه السلام: (تفترق أمتي) ولم يقل بأبدانها. وقد روى الدار قطني وغيره عن عمرو بن شعيب قال: سمعت شعيبا يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل لاحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله). قالوا: فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق، لان الاقالة لا تصح إلا فيما قد تم من البيوع. قالوا: ومعنى قوله (المتبايعان بالخيار) أي المتساومان بالخيار ما لم يعقدا فإذا عقدا بطل الخيار فيه. والجواب - أماما اعتلوا به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الاديان كما بيناه في (آل عمران)، وإن كان صحيحا في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح. وبيانه أن يقال: خبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع، أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره ؟ فإن قالوا: هو غيره فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل، لانه ليس ثم كلام غير ذلك. وإن قالوا: هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم: كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتم به بيعهما، به افترقا، هذا عين المحال والفاسد من القول. وأما قوله: (ولا يحل (4) له أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله) فمعناه - إن صح - على الندب، بدليل قوله عليه السلام. (من أقال مسلما أقاله الله عثرته) وبإجماع المسلمين على أن ذلك يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث، ولاجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا يقيله إلا أن يشاء. وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى (لا يحل) فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب، وإلا فهو باطل بالاجماع. وأما تأويل (المتبايعان) بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ، وإنما (1) راجع ج 6 ص 31 (2) راجع ص 408 من هذا الجزء. (3) راجع ج 4 ص 166 (4) كذا في كل الاصول. (*)
[ 156 ]
معناه المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما، إلا بيعا يقول أحدهما لصاحبه فيه: اختر فيختار، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا، فإن فرض خيار فالمعنى: إلا بيع الخيار فإنه يبقى الخيار بعد التفرق بالابدان. وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف. وفي قول عمرو ابن شعيب (سمعت أبي يقول) دليل على صحة حديثه، فسن الدار قطني قال حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن علي الوراق قال: قلت لاحمد بن حنبل: شعيب سمع من أبيه شيئا ؟ قال: يقول حدثني أبي. قال: فقلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو ؟ قال: نعم، أراه قد سمع منه. قال الدار قطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هو عمرو بن شعيب بن محمد ابن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. الثامنة - روى الدار قطني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الامين المسلم مع النبي والصديقين والشهداء يوم القيامة). ويكره للتاجر أن يحلف لاجل ترويج السلعة وتزيينها، أو يصلي على الني صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته، وهو أن يقول: صلى الله على محمد ! ما أجود هذا. ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض، فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) وسيأتي (1). التاسعة - وفي هذه الآية مع الاحاديث التي ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الاقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة، لان الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة، وهذا بين. قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن (تقتلوا) على التكثير. وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهى أن يقتل بعض الناس بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال (1) راجع ج 12 ص 264 (*)
[ 157 ]
بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: (ولا تقتلوا أنفسكم) في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناول النهي. وقد أحتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين أمتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفا على نفسه منه، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئا. خرجه أبو داود وغيره، وسيأتي. قوله تعالى: ومن يفعل ذالك عدوانا وظلما فسوف تصليه نارا وكان ذالك على الله يسيرا (30) (ذلك) إشارة إلى القتل، لانه أقرب مذكور، قاله عطاء. وقيل: هو عائد إلى أكل المال بالباطل وقتل النفس، لان النهي عنهما جاء متسقا مسرودا، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وقيل: هو عام على كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك). وقال الطبري: (ذلك) عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) لان كل ما نهى عنه من أول السورة قرن به وعيد، إلا من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم) فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: (ومن يفعل ذلك عدوانا). والعدوان تجاوز الحد. والظلم وضع الشئ في غير موضعه، وقد تقدم (1). وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط، وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما، وحسن ذلك في الكلام كما قال: * وألفى قولها كذبا ومينا (2) * وحسن العطف لاختلاف اللفظين، يقال: بعدا وسحقا، ومنه قول يعقوب: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله (3)). فحسن ذلك لاختلاف اللفظ. و (نصليه) معناه نمسه حرها. وقد بينا * (هامش) (1) راجع المسألة الثالثة عشرة ج 1 ص 309 (2) هذا عجز بيت لعدى بن زيد، وصدره: * فقددت الاديم لراهشيه * (3) راجع ج 9 ص 249 (*)
[ 158 ]
معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبى سعيد الخدري في العصاة وأهل الكبائر لمن أنفذ عليه الوعيد، فلا معنى لاعادة ذلك وقرأ الاعمش والنخعي (نصليه) بفتح النون، على أنه منقول من صلي نارا، أي أصليته، وفي الخبر (شاة مصلية). ومن ضم النون منقول بالهمزة، مثل طعمت وأطعمت. قوله تعالى: ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما فيه مسألتان. الاولى - لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر. وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك. ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى: (إنما التوبة على الله)، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر. وروى أبو حاتم البستي إلى صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال: (والذي نفسي بيده) ثلاث مرات، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفق) ثم تلا (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم). فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه. وبينت السنة أن المراد ب (تجتنبوا) ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر. والله أعلم. وأما الاصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة. ودل على ذلك أنه لو قطعنا
[ 159 ]
لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة. ولا صغيرة عندنا. قال القشيري عبد الرحيم: والصحيح أنها كبائر ولكن بعضمها أعظم وقعا من بعض، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي. قلت: وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم: - لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت - كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر، وعلى هذا النحو يخرج كلام القاضي أبي بكر بن الطيب والاستاذ أبى إسحاق الاسفراييني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم، قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالاضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) واحتجوا بقراءة من قرأ (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) على التوحيد، وكبير الاثم الشرك. قالوا: وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر. والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) فقال له رجل: يا رسول الله، وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال: (وإن كان قضيبا من أراك). فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير. وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب (1) أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، وتصديقه قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه). وقال طاوس: قيل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وروي عن ابن مسعود أنه قال: (1) في ط: أو غضبه أو لعنته. (*)
[ 160 ]
الكبائر أربعة: اليأس من روج الله، والقنوط من رحمة الله، والامن من مكر الله، والشرك بالله، دل عليها القرآن. وروي عن ابن عمر: هي تسع: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، والسحر، والالحاد في البيت الحرام. ومن الكبائر عند العلماء: القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الانسان أبويه - بأن يسب رجلا (1) فيسب ذلك الرجل أبويه - والسعي في الارض فسادا -، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن، وفي أحاديث خرجها الائمة، وقد ذكر مسلم في كتاب الايمان منها جملة وافرة. وقد أختلف الناس في تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها، والذي أقول: إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره، فالشرك أكبر ذلك كله، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك، وبعده اليأس من رحمة الله، لان فيه تكذيب القرآن، إذ يقول وقوله الحق: (ورحمتي وسعت كل شئ (2)) وهو يقول: لا يغفر له، فقد حجر واسعا. هذا إذا كان معتقدا لذلك، ولذلك قال الله تعالى: (إنه لا ييئاس من روح الله إلا القوم الكافرون (3)). وبعده القنوط، قال الله تعالى: [ ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (4) ]. وبعده الامن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل، قال الله تعالى: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (2)). وقال تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (5)). وبعده القتل، لان فيه إذهاب النفوس وإعدام الوجود، واللواط فيه قطع النسل، والزنى فيه اختلاط الانساب بالمياه والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف، وترك الصلاة والاذان فيه ترك إظهار شعائر الاسلام، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والاموال، إلى غير ذلك مما هو بين الضرر، فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه (1) كذا في الاصول. وتحقيقه: أن يسب أبوى رجل. كما في الحديث والبحر. (2) راجع ج 7 ص 296 وص 254 (3) راجع ج 9 ص 251 (4) راجع ج 10 ص 36. (5) راجع ج 15 ص 353 (*)
[ 161 ]
بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة. فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه، والله أعلم. الثانية - قوله تعالى: (ويدخلكم مدخلا كريما) قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين (مدخلا) بضم الميم، فيحتمل أن يكون مصدرا، أي إدخالا، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا. ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل، التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا، ودل الكلام عليه. ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول [ به (1) ]، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة. وقال أبو سعيد بن الاعرابي: سمعت أبا داود السجستاني يقول: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: المسلمون كلهم في الجنة، فقلت له: وكيف ؟ قال: يقول الله عزوجل: (إن تجتبوا كبائر ما تنهون، عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) يعني الجنة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادخرت شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي). فإذا كان الله عزوجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين. وقال علماؤنا: الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدم. وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) والمراد بذلك من مات على الذنوب، فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الاشراك وغيره معنى، إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له. وروي عن ابن مسعود أنه قال: خمس آيات من سورة النساء هي أحب الي من الدنيا جميعا، قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) وقوله (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر (2)) الآية، وقوله تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) الآية، وقوله تعالى: (وإن تك حسنة يضاعفها)، وقوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله (3)) وقال ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء، هن خير لهذه الامة مما طلعت عليه الشمس وغربت: (يريد الله ليبين لكم)، (والله يريد أن يتوب عليكم)، (يريد الله أن يخفف عنكم)، (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم (1) من ب وج وط ود. (2) راجع ص 245 من هذا الجزء وص 379 و 195 (3) راجع ج 6 ص 6 (*)
[ 162 ]
سيئاتكم)، الآية، (إن الله لا يغفر أن يشرك به)، (إن الله لا يظلم مثقال ذرة)، (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه)، (ما يفعل الله بعذابكم (1)) الآية. قوله تعالى: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله ان الله كان بكل شئ عليما (32) فيه أربع مسائل: الاولى - روى الترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض). قال مجاهد: وأنزل فيها (إن المسلمين والمسلمات (2)) وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة. قال أبو عيسى: هذا حديث مرسل، ورواه بضعهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، مرسل (3) أن أم سلمة قالت كذا (4). وقال قتادة: كان الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان، فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الانثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال. وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، فنزلت، (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض). الثانية - قوله تعالى: (ولا تتمنوا) التمني نوع من الارادة يتعلق بالمستقبل، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني، لان فيه تعلق البال ونسيان الاجل. وقد اختلف العلماء هل يدخل في هذا النهي الغبطة، وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه وإن لم يتمن زوال حاله. والجمهور على إجازة ذلك: مالك وغيره، وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه السلام (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء (1) راجع ص 426 من هذا الجزء. (2) راجع ج 14 ص 185 (3) كذا ورد بالرفع في جميع نسخ الاصل وصحيح الترمذي. (4) في الترمذي: قالت كذا وكذا. (*)
[ 163 ]
النهار). فمعنى قوله: (لا حسد) أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الامرين. وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث بوب على هذا الحديث (باب الاغتباط في العلم والحكمة) قال المهلب: بين الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها. قال ابن عطية: وأما التمني في الاعمال الصالحة فذلك هو الحسن، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشئ مما قدمنا ذكره فذلك جائز، وذلك موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وددت أن أحيا ثم أقتل). قلت: هذا الحديث هو الذي صدر به البخاري كتاب التمني في صحيحه، وهو يدل على تمني الخير وأفعال البر والرغبة فيها، وفيه فضل الشهادة على سائر أعمال البر، لانه عليه السلام تمناها دون غيرها، وذلك لرفيع منزلتها وكرامة أهلها، فرزقه الله إياها، لقوله: (ما زالت أكلة خيبر تعادني الآن أو ان قطعت أبهري (1)). وفي الصحيح: (إن الشهيد يقال له تمن فيقول أتمنى أن أرجع إلى الدنيا حتى أقتل في سبيلك مرة أخرى). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى إيمان أبي طالب و [ إيمان (2) ] أبي لهب وصناديد قريش مع علمه بأنه لا يكون، وكان يقول: (واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني). وهذا كله يدل على أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعية إلى الحسد والتباغض، والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل، فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر، وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أولا. وهذا هو الحسد بعينه، وهو الذي ذمه الله تعالى بقوله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله (3)) ويدخل فيه أيضا خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه، لانه داعية الحسد والمقت. وقد كره بعض العلماء الغبطة وأنها داخلة في النهي، والصحيح جوازها على ما بينا، وبالله توفيقنا. وقال الضحاك: لا يحل لاحد أن يتمنى مال أحد، ألم تسمع الذين قالوا: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون (4)) إلى أن (1) الا كلة (بالضم): اللقمة. وتعادنى: تراجعني ويعاودني ألم سمها في أوقات معلومة. والابهر: عرق مستبطن في الصلب والقلب متصل به، فإذا نقطع لم تكن معه حياة. وحديث الشاة المسمومة وأكله صلى الله عليه وسلم منها مذكور في غزوة خيبر، فليراجع. (2) من ج. (3) راجع ص 250 من هذا الجزء. (4) راجع ج 13 ص 316 (*)
[ 164 ]
قال: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالامس) حين خسف به وبداره وبأموالة (لولا أن من الله علينا لخسف بنا) وقال الكلبي: لا يتمن الرجل مال أخيه ولا أمرأته ولا خادمه ولا دابته، ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله. وهو كذلك في التوراة، وكذلك قوله في القرآن (واسألوا الله من فضله). وقال ابن عباس: نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأمر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله. ومن الحجة للجمهور قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لاربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء) الحديث... وقد تقدم. خرجه الترمذي وصححه. وقال الحسن: لا يتمن أحدكم المال وما يدريه لعل هلاكه فيه، وهذا إنما يصح إذا تمناه للدنيا، وأما إذا تمناه للخير فقد جوزه الشرع، فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب، ويفعل الله ما يشاء. الثالثة - قوله تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا) يريد من الثواب والعقاب (وللنساء) كذلك، قاله قتادة. فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال. وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث. والاكتساب على هذا القول بمعنى الاصابة، للذكر مثل حظ الانثيين، فنهى الله عزوجل عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد، ولان الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم، فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم. الرابعة - قوله تعالى: (واسألوا الله من فضله) روى الترمذي عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج) وخرج أيضا ابن ماجة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه). وهذا يدل على أن الامر بالسؤال لله تعالى واجب، وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه فقال: الله يغضب إن تركت سؤاله * وبني آدم حين يسأل يغضب
[ 165 ]
وقال أحمد بن المعذل أبو الفضل الفقيه المالكي فأحسن: التمس الارزاق عند الذى * ما دونه إن سيل من حاجب من يبغض التارك تسأله * جودا ومن يرضى عن الطالب ومن إذا قال جرى قوله * بغير توقيع إلى كاتب وقد أشبعنا القول في هذا المعنى في كتاب (قمع الحرص بالزهد والقناعة). وقال سعيد ابن جبير: (واسألوا الله من فضله) العبادة، ليس من أمر الدنيا. وقيل: سلوه التوفيق للعمل بما يرضيه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سلوا ربكم حتى الشبع، فإنه إن لم ييسره الله عزوجل لم يتيسر. وقال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي. وقرأ الكسائي وابن كثير: (وسلوا الله من فضله " بغير همز في جميع القرآن. الباقون بالهمز. (واسألوا الله). وأصله بالهمز إلا أنه حذفت الهمزة للتخفيف. والله أعلم. قوله تعالى: ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فاتوهم نصيبهم ان الله كان على كل شئ شهيدا (33) فيه خمس مسائل: الاولى - بين تعالى أن لكل إنسان ورثة وموالي، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث، ولا يتمن مال غيره. وروى البخاري في كتاب الفرائض من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون والذين عاقدت (1) أيمانكم) قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الانصاري المهاجري دون ذوي رحمه، للاخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت (ولكل جعلنا موالي) قال: نسختها (والذين عاقدت أيمانكم). قال أبو الحسن بن بطال: وقع في جميع النسخ (ولكل جعلنا موالي) قال: نسختها (والذين عاقدت أيمانكم). والصواب أن الآية الناسخة (ولكل جعلنا موالي) والمنسوخة (والذين عاقدت أيمانكم)، وكذا رواه الطبري في روايته. (1) (عاقدت) قراءة نافع كما هو رسم الاصول، وستأتى قراءة غيره. (*)
[ 166 ]
وروي عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله: (والذين عاقدت أيمانكم) قوله تعالى في (الانفال): (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض (1)) روي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري، وهو الذي أثبته أبو عبيد في كتاب (الناسخ والمنسوخ) له. وفيها قول آخر رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عزوجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الاسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة. وقالت طائفة: قوله تعالى (والذين عاقدت أيمانكم) محكم وليس بمنسوخ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك، ذكره الطبري عن ابن عباس. (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) من النصرة والنصيحة والرفادة (2) ويوصي لهم وقد ذهب الميراث، وهو قول مجاهد والسدي. قلت - واختاره النحاس، ورواه عن سعيد بن جبير، ولا يصح النسخ، فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري، ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير. وسيأتي ميراث (ذوي الارحام) في (الأنفال (1)) إن شاء الله تعالى. الثانية - (كل) في كلام العرب معناها الاحاطة والعموم. فإذا جاءت مفردة فلا بد أن يكون في الكلام حذف عند جميع النحويين، حتى أن بعضهم أجاز مررت بكل، مثل قبل وبعد. وتقدير الحذف: ولكل أحد جعلنا موالي، يعني ورثة. (والذين عاقدت أيمانكم) يعني بالحلف، عن قتادة. وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك (3)، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ. الثالثة - قوله تعالى: (موالي) أعلم أن المولى لفظ مشترك يطلق على وجوه، فيسمى المعتق مولى والمعتق مولى. ويقال (4): المولى الاسفل والاعلى أيضا. ويسمى (1) راجع ج 8 ص 58 (2) الرفد (بكسر الراء): العطاء والصلة. (3) قوله: هدمي هدمك، أي نحن شئ واحد في النصرة، تغضبون لنا ونغضب لكم. (4) في ووج وز: كمثل ويقال. وفى ط: كمثل المولى الاسفل. (*)
[ 167 ]
الناصر المولى، ومنه قوله تعالى: (وأن الكافرين لا مولى (1) لهم). ويسمى ابن العم مولى والجار مولى. فأما قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالى) يريد عصبة، لقوله عليه السلام: (ما أبقت السهام فلاولى عصبة ذكر). ومن العصبات المولى الاعلى لا الاسفل، على قول أكثر العلماء، لان المفهوم في حق المعتق أنه المنعم على المعتق، كالموجد له، فاستحق ميراثه لهذا المعنى. وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أن المولى الاسفل يرث من الاعلى، واحتج فيه بما روي أن رجلا أعتق عبد اله فمات المعتق ولم يترك الا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق. قال الطحاوي: ولا معارض لهذا الحديث، فوجب القول به، ولانه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق على تقدير أنه كان كالموجد له، فهو شبيه بالاب، والمولى الاسفل شبيه بالابن، وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث، والاصل أن الاتصال يعم. وفي الخبر (مولى القوم منهم). والذين خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا: الميراث يستدعي القرابة ولا قرابة، غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الانعام على المعتق، فيقتضي مقابلة الانعام بالمجازاة، وذلك لا ينعكس في المولى الاسفل. وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائما مقامه، وليس المعتق صالحا لان يقوم مقام معتقه، وإنما المعتق قد أنعم عليه فقابله الشرع بأن جعله أحق بمولاه المعتق، ولا يوجد هذا في المولى الاسفل، فظهر الفرق بينهما والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: (والذين عاقدت أيمانكم) روى علي بن كبشة (2) عن حمزة (عقدت) بتشديد القاف على التكثير. والمشهور عن حمزة (عقدت أيمانكم) مخففة القاف، وهي قراءة عاصم والكسائي، وهي قراءة بعيدة، لان المعاقدة لا تكون إلا من اثنين فصاعدا، فبابها فاعل. قال أبو جعفر النحاس: وقراءة حمزة تجوز على غموض في العربية، يكون التقدير فيها والذين عقدتهم أيمانكم الحلف، وتعدى إلى مفعولين، وتقديره: عقدت لهم أيمانكم الحلف، ثم حذفت اللام مثل قوله تعالى: (وإذا كالوهم (3)) أي كالوا لهم. وحذف المفعول الثاني، كما يقال: كلتك أي كلت لك برا. وحذف المفعول الاول لانه متصل في الصلة. (1) راجع ج 16 ص 234 (2) كذا في ابن عطية والبحر والاصول الا: د. فابن كيسة وهو على ابن يزيد بن كيسة. ولعله الصواب كما في طبقات القراء والتاج. (3) راجع ج 19 ص 250 (*)
[ 168 ]
الخامسة - قوله تعالى: (ان الله كان على كل شئ شهيدا) أي قد شهد معاقدتكم إياهم، وهو عز وجل يحب الوفاء. قوله تعالى: الرجل قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ان الله كان عليا كبيرا (34) فيه احدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (الرجل قوامون على النساء) ابتداء وخبر، أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن، وأيضا فإن فيهم الحكام والامراء ومن يغزو، وليس ذلك في النساء. يقال: قوام وقيم. والآية نزلت في سعد بن الربيع (1) نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد ابن خارجة بن أبي زهير فلطمها، فقال أبوها: يا رسول الله، أفرشته كريمتي فلطمها ! فقال عليه السلام: (لتقتص من زوجها). فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال عليه السلام: (ارجعوا هذا جبريل أتاني) فأنزل الله هذه الآية، فقال عليه السلام: (أردنا أمرا وأراد الله غيره). وفي رواية أخرى: (أردت شيئا وما أراد الله خير). ونقض الحكم الاول. وقد قيل: إن في هذا الحكم المردود نزل (ولا تعجل بالقرآن من قبل أيقضى إليك وحيه (2)). ذكر إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا حجاج بن المنهال وعارم بن الفضل - واللفظ. لحجاج - قال حدثنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول: إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي لطم وجهي. فقال: (بينكما القصاص)، فأنزل الله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه). وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل: (1) هو سعد بن الربيع بن عمرو بن أبى زهير بن مالك بن امرئ القيس الخزر جى عقبى يدرى وكان أحد فقهاء. الانصار وكان له زوجتان. (عن أسد الغاية). (2) راجع ج 11 ص 250 (*)
[ 169 ]
(الرجال قوامون على النساء). وقال أبو روق: نزلت في جميلة بنت (1) أبي وفي زوجها ثابت ابن قيس بن شماس. وقال الكلبي: نزلت في عميرة بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع. وقيل: سببها قول أم سلمة المتقدم. ووجه النظم أنهن تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الارث، فنزلت (ولا تتمنوا) الآية. ثم بين تعالى أن تفضيلهم عليهن في الارث لما على الرجال من المهر والانفاق، ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن. ويقال: إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك. وقيل: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لان طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك، وبقوله تعالى: (وبما أنفقوا من أموالهم). الثانية - ودلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسئ الرجل عشرتها. و (قوام) فعال للمبالغة، من القيام على الشئ والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد. فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل والقوة في أمر الجهاد والميراث والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد راعى بعضهم في التفضيل اللحية وليس بشئ، فإن اللحية قد تكون وليس معها شئ مما ذكرنا. وقد مضى الرد على هذا في (البقرة (2)). الثالثة - فهم العلماء من قوله تعالى: (وبما أنفقوا من أموالهم) أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد، لزوال المقصود الذي شرع لاجله النكاح. وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الاعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ، لقوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة (3)) وقد تقدم القول في هذا في هذه السورة. (1) في ب وج وز وط: جميلة بنت عبد الله بن أبى. قال في أسد الغابة: وقيل كانت ابنة عبد الله وهو وهم. (2) راجع ج 3 ص 124 (3) راجع ج 3 ص 371 (*)
[ 170 ]
الرابعة - قوله تعالى: (فالصالحات قانتات حافظات للغيب) هذا كله خبر، ومقصوده الامر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج. وفي مسند أبى داود الطيالسي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء التى إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك) قال: وتلا هذه الآية (الرجال قوامون على النساء) إلى آخر الآية. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر: (ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته) أخرجه أبو داود. وفي مصحف ابن مسعود (فالصوالح قوانت حوافظ (1)). وهذا بناء يختص بالمؤنث. قال ابن جني: والتكسير أشبه لفظا بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هاهنا. و (ما) في قوله: (بما حفظ الله) مصدرية، أي بحفظ الله لهن. ويصح أن تكون بمعنى الذى ويكون العائد في (حفظ) ضمير نصب. وفي قراءة أبي جعفر (بما حفظ الله) بالنصب. قال النحاس: الرفع أبين، أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله ومعونته وتسديده (2). وقيل: بما حفظهن الله في مهورهن (3) وعشرتهن. وقيل: بما استحفظهن الله إياه من أداء الامانات إلى أزواجهن. ومعنى قراءة النصب: بحفظهن الله، أي بحفظهن أمره أو دينه. وقيل في التقدير: بما حفظن الله، ثم وحد الفعل، كما قيل: * فإن الحوادث أودى (4) بها * وقيل: المعنى بحفظ الله، مثل حفظت الله. الخامسة - قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن) اللاتى جمع التي وقد تقدم. قال ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون. وقيل هو على بابه. والنشوز العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الارض. يقال: نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما، ومنه قوله عزوجل: (وإذا قيل انشزوا فانشزوا (5)) أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى. فالمعنى: أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب (1) وفى الشواذ لابن خلويه هي قراءة طلحة بن مصرف. (2) تسديده في ج وب وز ود. من السداد. (3) كذا في الاصول جميعها، وهو ما ذهب إليه الزجاج كما في الالوسى. وفى النحاس: في أمورهن. (4) يريد أو دين بها. البحر. (5) راجع ج 17 ص 299 (*)
[ 171 ]
الله عليهن من طاعة الازواج. وقال أبو منصور اللغوي: النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه، يقال: نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء. ونشصت تنشص، وهي السيئة للعشرة. وقال ابن فارس: ونشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها. قال ابن دريد: نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد. السادسة - قوله تعالى: (فعظوهن) أي بكتاب الله، أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أمرت أحد أن يسجد لاحد لامرت المرأة أن تسجد لزوجها). وقال: (لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب (1)). وقال: (أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) في رواية (حتى تراجع وتضع يدها في يده). وما كان مثل هذا. السابعة - قوله تعالى: (واهجروهن في المضاجع) وقرأ ابن مسعود والنخعي وغيرهما (في المضجع) على الافراد، كأنه اسم جنس يؤدي عن الجمع. والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها، عن ابن عباس وغيره. وقال مجاهد: جنبوا مضاجعهن، فيتقدر (2) على هذا الكلام حذف، ويعضده (اهجروهن) من الهجران، وهو البعد، يقال: هجره أي تباعد ونأى عنه. ولا يمكن بعدها إلا بترك مضاجعتها. وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك، واختاره ابن العربي وقال: حملوا الامر على الاكثر الموفي. ويكون هذا القول كما تقول: اهجره في الله. وهذا أصل مالك. قلت: هذا قول حسن، فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها، فيتبين أن النشوز من قبلها. وقيل: (اهجروهن) من الهجر وهو القبيح من الكلام، أي غلظوا (3) عليهن في القول (1) القتب (محركة) للبعير كالا كاف - برذعة - لغيره. ومعناه الحث لهن على مطاوعة أزواجهن، وأنه لا يسعهن الامتناع في الحال فكيف في غيرها. (2) في ج وز وى: فيتقرر. (3) كذا في الاصول. (*)
[ 172 ]
وضاجعوهن للجماع وغيره، قال معناه سفيان، وروي عن ابن عباس. وقيل: أي شدوهن وثاقا في بيوتهن، من قولهم: هجر البعير أي ربطه بالهجار، وهو حبل يشد به البعير، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الاقوال. وفي كلامه في هذا الموضع نظر. وقد رد عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه فقال: يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة ! والذي حمله على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك. قال: وعتب عليها وعلى ضرتها، فعقد شعر واحدة بالاخرى ثم ضربهما ضربا شديدا، وكانت الضرة أحسن اتقاء، وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها: أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة، ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة. فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير. وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته إلى عائشة، وتظاهرتا عليه. ولا يبلغ به الاربعة الاشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولي. الثامنة - قوله تعالى: (واضربوهن أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه. والضرب في هذه الآية هو ضرب الادب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير. فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والادب. وفي صحيح مسلم: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح) الحديث. أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج، أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الاقارب والنساء الاجانب (1). وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الاحوص أنه شهد حجة (1) في ا وح وز: والاجانب. (*)
[ 173 ]
الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان (1) عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن). قال: هذا حديث حسن صحيح. فقوله: (بفاحشة مبينة) يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم. وليس المراد بذلك الزنى، فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح). قال عطاء: قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه. وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله). التاسعة - قوله تعالى: (فان أطعنكم) أي تركوا النشوز. (فلا تبغوا عليهن سبيلا) أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل. وهذا نهى عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن. وقيل: المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فانه ليس اليهن. العاشرة - قوله تعالى: (ان الله كان عليا كبيرا) اشارة إلى الازواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي ان كنتم تقذرون عليهن فتذكروا قدرة الله، فيده بالقدرة فوق كل يد. فلا يستعلى أحد على امرأته فالله بالمرصاد، فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلو والكبر. الحادية عشرة - وإذا ثبت هذا فاعلم أن الله عزوجل لم يأمر في شئ من كتابه بالضرب صراحا إلا هنا وفي الحدود العظام، فساوى معصيتهن بأزواجهن (2) بمعصية الكبائر، وولى الازواج ذلك دون الائمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للازواج على النساء. قال المهلب: إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن (1) واحدة العوانى: الاسيرات. أي انما هن عندكم بمنزلة الاسرى. (2) كذا في الاصول: يصح أن تكون الباء سببية. (*)
[ 174 ]
في المباضعة. واختلف في وجوب ضربها في الخدمة، والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز [ ضربها (1) ] في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف. وقال ابن خويز منداد: والنشوز يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الادب غير المبرح، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها، فإذا رجعت عادت حقوقها، وكذلك كل ما اقتضى الادب فجائز للزوج تأديبها. ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة، فأدب الرفيعة العذل، وأدب الدنيئة السوط. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ علق سوطه وأدب أهله). وقال: (إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه). وقال بشار: * الحر يلحى والعصا للعبد * يلحى أي يلام، وقال ابن دريد: واللوم للحر مقيم رادع * والعبد لا يردعه إلا العصا قال ابن المنذر: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة. وقال أبو عمر: من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا. وخالف ابن القاسم جماعة الفقهاء في نفقة الناشز فأوجبها. وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها. ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشئ غير النشوز، لا من مرض ولا حيض ولا نفاس ولا صوم ولا حج ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا. والله أعلم. قوله تعالى: وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما ان الله كان عليما خبيرا (35) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وان خفتم شقاق بينهما) قد تقدم معنى الشقاق في (البقرة (2)). فكان كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه، أي ناحية غير ناحية صاحبه. (1) من ج. (2) راجع ج 1 ص 464 وج 2 ص 143 (*)
[ 175 ]
والمراد إن خفتم شقاقا بينهما، فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك: يعجبني سير الليلة المقمرة، وصوم يوم عرفة. وفي التنزيل: (بل مكر الليل والنهار (1)). وقيل: إن (بين) أجري مجرى الاسماء وأزيل عنه الظرفية، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما، أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبهما (فابعثوا). و (خفتم) على الخلاف المتقدم (2). قال سعيد بن جبير: الحكم أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع. وقد قيل: له أن يضرب قبل الوعظ. والاول أصح لترتيب ذلك في الآية. الثانية - والجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله: (وإن خفتم) الحكام والامراء. وأن قوله: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) يعني الحكمين، في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين. وقيل: المراد الزوجان، أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين (يوفق الله بينهما). وقيل: الخطاب للاولياء. يقول: (إن خفتم) أي علمتم خلافا بين الزوجين (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة، إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه (3). فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل (4) من غيرهما عدلين عالمين، وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن الاساءة منهما. فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ له الحق من صاحبه ويجبر على إزالة الضرر. ويقال: أن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له: أخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال: لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله النشوز. وإن قال: إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعلم أنه ليس بناشز. ويخلو [ الحكم من جهتها (5) ] بالمرأة ويقول لها: أتهوى زوجك أم لا، فإن قالت: فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد، فيعلم أن النشوز من قبلها. إن قالت: (1) راجع ج 14 ص 301 (2) في ص 11 من هذا الجزء. (3) في ط: والفقه. (4) كذا في الاصول فالضمير للحاكم، أو الولى. (5) زيادة من البحر لازمة. (*)
[ 176 ]
لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهى، فذلك قوله تعالى: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها). الثالثة - قال العلماء: قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا، لانهن إما طائعة وإما ناشز، والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا. فإن كان الاول تركا، لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول: يا بني هاشم، والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم، أين عتبة بن ربيعة، أين شيبة بن ربيعة، فيسكت عنها، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له: أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت، فنشرت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لا فرقن بينهما، وقال معاوية: ما كنت لا فرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجدا هما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما. فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الالفة جهدهما، وذكرا بالله وبالصحبة. فإن أنابا ورجعا تركاهما، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما. وتفريقهما جائز على الزوجين، وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما. والفراق في ذلك طلاق بائن. وقال قوم: ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك، وليعرفا الامام، وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان. ثم الامام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق. وهذا أحد قولي الشافعي، وبه قال الكوفيون، وهو قول عطاء وابن زيد والحسن، وبه قال أبو ثور. والصحيح الاول، وأن للحكمين التطليق دون توكيل، وهو قول مالك والاوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس، وعن الشعبي والنخعي، وهو قول الشافعي، لان الله تعالى قال: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة
[ 177 ]
ومعنى، فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر !. وقد روى الدار قطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) قال: جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام (1) من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة، قال أبو عمر. فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما ؟ وهذا بين. احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به. فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج، وبأن الاصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه. وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المولى والعنين. الرابعة - فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شئ إلا ما اجتمعا عليه. وكذلك كل حكمين حكما في أمر، فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشئ حتى يتفقا. وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال: تلزم (2) واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة، وهو قول ابن القاسم. وقال ابن القاسم أيضا: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها، وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ. وقال ابن المواز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة. وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشئ. الخامسة - ويجزئ إرسال الواحد، لان الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود، ثم قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له: (إن اعترفت فأرجمها) وكذلك قال عبد الملك في المدونة. (1) الفئام: الجماعة. (2) في ط وج وى: تكون. (*)
[ 178 ]
قلت: وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لاجزأ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك، وإنما خاطب الله بالارسال الحكام دون الزوجين. فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما، لان التحكيم عندنا جائز، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة. هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا، ولو كان غير عدل قال عبد الملك: حكمه منقوض، لانهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر. قال ابن العربي: والصحيح نفوذه، لانه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ، وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل، وباب القضاء مبني على الغرر كله، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يئول إليه الحكم. قال ابن العربي: مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين، واختلاف ما بينهما. وهي مسألة عظيمة اجتمعت الامة على أصلها في البعث، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه. وعجبا لاهل بلدنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا: يجعلان على يدي أمين، وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالاقيسة اجتزءوا. وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد، ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر، فلما ملكني الله الامر أجريت السنة كما ينبغي. ولا تعجب لاهل بلدنا لما غمرهم (1) من الجهالة، ولكن أعجب لابي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر، بل اعجب مرتين للشافعي فإنه قال: الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما. قال: وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة. وحظر أن يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الازواج، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك. وذلك يدل على أن (1) كذا في ابن العربي. وفى الاصول: لما عندهم. (*)
[ 179 ]
الحكمين وكيلان للزوجين. قال ابن العربي: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم، وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الاكثر. أما قوله: (الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين) فليس بصحيح بل هو نصه، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء، فإن الله تعالى قال: (الرجال قوامون على النساء). ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما. وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان. ودعه لا يكون نصا، يكون ظاهرا، فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي (1) أشبه الظاهر ؟. ثم قال: (وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه. ثم قال: (فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الازواج، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية. فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية. وأما قوله (برضى الزوجين وتوكيلهما) فخطأ صراح، فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين، وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه. هذا وجه الانصاف والتحقيق في الرد عليه. وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لاحد سوى الله تعالى. وهذه كلمة حق [ ولكن (2) ] يريدون بها الباطل. قوله تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتاما والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36) (1) في د: ما الذى ما أشبه الظاهر. (2) من ج وط، ز، د. يريدون ما حكم الافيه لاغير. (*)
[ 180 ]
فيه ثمان عشرة مسألة: الاولى أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شئ منسوخ. وكذلك هي في جميع الكتب. ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب. وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار، لمن له الحكم والاختيار، فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والاخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الاعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره، قال الله تعالى (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (1)) حتى لقد قال بعض علمائنا: إنه من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه، لانه مزج في نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص، كما قال تعالى: (ألا لله الدين الخالص (2)) وقال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (3)). وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره، لانه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). وروى الدار قطني عن أنس ابن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة القوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز وجل - وهو أعلم - إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي). وروي أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شئ ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شئ). (1) راجع ج 11 ص 64 (2) راجع ج 15 ص 232 (3) راجع ج 20 ص 144 (*)
[ 181 ]
مسألة - إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم. وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الاعظم وهو شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الامة، وقد تبرأ منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام. ويلي هذه الرتبة الاشراك في العبادة وهو الرياء، وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره. وهذا هو الذي سيقت الآيات والاحاديث لبيان تحريمه، وهو مبطل للاعمال وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي. ورضي الله عن المحاسبي فقد أوضحه في كتابه (الرعاية) وبين إفساده للاعمال. وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الانصاري وكان من الصحابة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جمع الله الاولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك). وفيه عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيخ الدجال فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ الدجال ؟) قال: فقلنا بلى يا رسول الله، فقال: (الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل). وفيه عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أتخوف على أمتي الاشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية) خرجه الترمذي الحكيم. وسيأتي في آخر الكهف (1)، وفيه بيان الشهوة الخفية. وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهوة الخفية فقال: (هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه). قال سهل ابن عبد الله التستري رضي الله عنه: الرياء على ثلاثة وجوه، أحدها - أن يعقد في أصل فعله لغير الله ويريد به أن يعرف أنه لله، فهذا صنف من النفاق وتشكك في الايمان. والآخر - (1) راجع ج 11 ص 69 (*)
[ 182 ]
يدخل في الشئ لله فإذا اطلع عليه غير الله نشط، فهذا إذا تاب يزيد أن يعيد جميع ما عمل. والثالث - دخل في العمل بالاخلاص وخرج به لله فعرف بذلك ومدح عليه وسكن إلى مدحهم، فهذا الرياء الذي نهى الله عنه. قال سهل قال لقمان لابنه: الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا، وإنما عمل القوم للآخرة. قيل له: فما دواء الرياء ؟ قال كتمان العمل، قيل له: فكيف يكتم العمل ؟ قال: ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالاخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا يطلع عليه إلا الله. قال: وكل عمل اطلع عليه الخلق فلا تعده من العمل. وقال أيوب السختياني: ما هو بعاقل من أحب أن يعرف مكانه من عمله. قلت: قول سهل (والثالث دخل في العمل بالاخلاص) إلى آخره، إن كان سكونه وسروره إليهم لتحصل منزلته في قلوبهم فيحمدوه ويجلوه ويبروه وينال ما يريده منهم من مال أو غيره فهذا مذموم، لان قلبه مغمور فرحا باطلاعهم عليه، وإن كانوا قد اطلعوا عليه بعد الفراغ. فأما من أطلع الله عليه خلقه وهو لا يحب اطلاعهم عليه فيسر بصنع الله وبفضله عليه فسروره بفضل الله طاعة، كما قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (1)). وبسط هذا وتتميمه في كتاب (الرعاية للمحاسبي)، فمن أراده فليقف عليه هناك. وقد سئل سهل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أني أسر العمل فيطلع عليه فيعجبني) قال: يعجبه من جهة الشكر لله الذي أظهره الله عليه أو نحو هذا. فهذه جملة كافية في الرياء وخلوص الاعمال. وقد مضى في (البقرة (2)). حقيقة الاخلاص. والحمد لله. الثانية - قوله تعالى: (وبالوالدين احسانا) قد تقدم في صدر هذه السورة أن من الاحسان إليهما عتقهما، ويأتي في (سبحان (3)) حكم برهما مستوفى. وقرأ ابن أبي عبلة (احسان) بالرفع أي واجب الاحسان إليهما. الباقون بالنصب، على معنى أحسنوا إليهما إحسانا. قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والاحسان والتزام البر والطاعة له (1) راجع ج 8 ص 353 (2) راجع ج 2 ص 146 (3) راجع ج 10 ص 236 (*)
[ 183 ]
والاذعان من قرن الله الاحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان، فقال تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك (1)). وروى شعبة وهشيم الواسطيان عن يعلي بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين). الثالثة - قوله تعالى: (وبذي القربى واليتامى والمساكين) وقد مضى الكلام فيه في (البقرة (2)). الرابعة - قوله تعالى: (والجارذى القربى والجار الجنب) أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعى ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه. الا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والاقربين فقال تعالى: (والجار ذى القربى) أي القريب. (والجار الجنب) أي الغريب، قاله ابن عباس، وكذلك هو في اللغة. ومنه فلان أجنبي، وكذلك الجنابة البعد. وأنشد أهل اللغة: فلا تحرمني نائلا عن جنابة * فإني امرؤ وسط القباب غريب (3) وقال الاعشى: أتيت حريثا زائرا عن جنابة * فكان حريث عن (4) عطائي جامدا وقرأ الاعمش والمفضل (والجار الجنب) بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان، يقال: جنب وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة، وجمعه أجانب. وقيل: على تقدير حذف المضاف، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية. وقال نوف الشامي: (الجار ذي القربى) المسلم (والجار الجنب) اليهودي والنصراني. (1) راجع ج 14 ص 63 (2) راجع ج 2 ص 14 (3) البيت لعلقمة بن عبدة يخاطب به الحارث بن جبلة يمدحه، وكان قد أسر أخاه شأسا. وأراد بالنائل اطلاق أخيه شأسا من سجنه فأطلقه ومن أسر معه من بنى تميم. (عن اللسان). (4) كذا في ز، وديوان الاعشى ط أو ربا ص 49، وفى تفسير الطبري: * فكان حريث في عطائي جاهدا * وفى باقى الاصول: عن عطائي حامدا. (*)
[ 184 ]
قلت: وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا، وهو الصحيح. والاحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الاذى والمحاماة دونه. روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وروي عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قيل: يا رسول الله ومن ؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) وهذا عام في كل جار. وقد أكد عليه السلام ترك إذ ايته بقسمه ثلاث مرات، وأنه لا يؤمن الايمان الكامل من آذى جاره. فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه حضا العباد عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الاسلام والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الاسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار). الخامسة - روى البخاري عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، قال: (إلى أقربهما منك بابا). فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى: (والجار ذي القربى) وأنه القريب المسكن منك. (والجار الجنب) هو البعيد المسكن منك. واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار، وعضدوه وبقوله عليه السلام: (الجار أحق بصقبه (1)). ولا حجة في ذلك، فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره. قال ابن المنذر: فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق. وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال: إن الجار اللصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له. وعوام العلماء (1) الصقب: الملاصقة والقرب، والمراد به الشفعة. (*)
[ 185 ]
يقولون: إن أوصى الرجل لجيرانه اعطي اللصيق وغيره، إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال: لا يعطى إلا اللصيق وحده. السادسة - واختلف الناس في حد الجيرة، فكان الاوزاعي يقول: أربعون دارا من كل ناحية، وقال ابن شهاب. وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أدى، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه (1). وقال علي بن أبي طالب: من سمع النداء فهو جار. وقالت فرقة: من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد. وقالت فرقة: من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار. قال الله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون) إلى قوله: (ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (2)) فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارا. والجيرة مراتب بعضها الصق من بعض، أدناها الزوجة، كما قال: * أيا جارتا بيني فإنك طالقة (3) * السابعة - ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك). فحض عليه السلام على مكارم الاخلاق، لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة، فإن الجار قد يتأذى بقتار (4) قدر جاره، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة، ويعظم على القائم عليهم الالم والكلفة، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الالم والحسرة. وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شئ من الطبيخ يدفع إليهم، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية، لانه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها، فإذا رأى ذلك أحب (1) بواثقه: أي غوائله وشروره، واحدها باثقة، وهى الداهية. (2) راجع ج 14 ص 245 (3) هذا صدر بيت للاعشى، وعجزه: * كذاك أمور الناس غاد وطارقة * (4) القتار (بضم القاف): ريح القدر والشواء ونحوهما. (*)
[ 186 ]
أن يشارك فيه، وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينويه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة، فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب. والله أعلم. الثامنة - قال العلماء: لما قال عليه السلام (فأكثر ماءها) نبه بذلك على تيسير الامر على البخيل تنبيها لطيفا، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء، ولذلك لم يقل: إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها، إذ لا يسهل ذلك على كل أحد. ولقد أحسن القائل: قدري وقدر الجار واحدة * وإليه قبلي ترفع القدر ولا يهدى النزر اليسير المحتقر، لقوله عليه السلام: (ثم أنظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف) أي بشئ يهدى عرفا، فإن القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقر، وعلى المهدى إليه قبوله، لقوله عليه السلام: (يا نساء المؤمنات لا تحتقرن إحدا كن لجارتها ولو كراع (1) شاة محرقا) أخرجه مالك في موطئه. وكذا قيدناه (يا نساء المؤمنات) بالرفع على غير الاضافة، والتقدير: يا أيها النساء المؤمنات، كما تقول يا رجال الكرام، فالمنادى محذوف وهو يا أيها، والنساء في التقدير النعت لايها، والمؤمنات نعت للنساء. قد قيل: فيه: يا نساء المؤمنات بالاضافة، والاول أكثر. التاسعة - من إكرام الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره). ثم يقول أبو هريره: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لارمين بها بين أكنافكم. روي (خشبه وخشبة) على الجمع والافراد. وروي (أكتافهم) بالتاء و (أكنافهم) بالنون. ومعنى (لارمين بها) أي بالكلمة والقصة. وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب ؟ فيه خلاف بين العلماء. فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والاحسان إليه، وليس ذلك على الوجوب، بدليل قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن (1) الكراع من البقر والغنم: بمنزلة الوظيف من الخيل والابل والحمر، وهو مستدق الساق العارى من اللحم، يذكر ويونث، والجمع أكرع ثم أكارع. (*)
[ 187 ]
طيب نفس منه). قالوا: ومعنى قوله (لا يمنع أحدكم جاره) هو مثل معنى قوله عليه السلام: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها). وهذ معناه عند الجميع الندب، على ما يراه الرجل من الصلاح والخير في ذلك. وقال (1) الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث: إلى أن ذلك على الوجوب. قالوا: ولولا أن أبا هريرة فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب. وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: لا والله. فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك رواه مالك في الموطأ. وزعم الشافعي في كتاب (الرد) أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب، وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده برأيه. قال أبو عمر: ليس كما زعم الشافعي، لان محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر، ورأي الانصار أيضا كان خلافا لرأي عمر، وعبد الرحمن بن عوف في قصة الربيع (2) وتحويله - والربيع الساقية - وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر، والنظر، يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس خاصة، فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين والله لارمينكم بها، هذا أو نحوه. أجاب الاولون فقالوا: القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) لان هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك، لان النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما في الحكم. فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب (3). واحتجوا من الاثر بحديث الاعمش عن أنس قال: (1) كذا في الاصول: قال. إلى. ضمنه معنى ذهب. (2) راجع الموطأ باب (القضاء في المرافق). (3) في الاصول: (يسمى المطلب) والتصويب عن شرح الموطأ. (*)
[ 188 ]
استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول: أبشر هنيئا لك الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره). والاعمش لا يصح له سماع من أنس، والله أعلم. قاله أبو عمر. العاشرة - ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار، وهو حديث معاذ بن جبل قال: قلنا يا رسول الله، ما محق الجار ؟ قال: (إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تعرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشئ منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله) أو كلمة نحوها. هذا حديث جامع وهو حديث حسن، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي. الحادية عشرة - قال العلماء: الا حاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا. وفي الخبر قالوا: يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال: (لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين). ونهيه صلى الله عليه وسلم. عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الاغنياء، فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الاغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الاضحية: (ابدئي بجارنا اليهودي). وروي أن شاة ذبحت في أهل عبد الله بن عمرو فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). الثانية عشرة - قوله تعالى: (والصاحب بالجنب) أي الرفيق في السفر. وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين،
[ 189 ]
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة (1)، فقطع قضيبين أحدهما معوج، فخرج وأعطى لصاحبه القويم، فقال: كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال: (كلا (2) يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار). وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: للسفر مروءة وللحضر مروءة، فأما المروءة في السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الاصحاب، وكثرة المزاج في غير مساخط الله. وأما المروءة في الحضر فالادمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الاخوان في الله عز وجل. ولبعض بني أسد - وقيل إنها لحاتم الطائي: إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي * له مركب فضلا فلا حملت رجلي ولم يك من زادي له شطر مزودي * فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل شريكان فيما نحن فيه وقد أرى * علي له فضلا بما نال من فضلي وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى: (الصاحب بالجنب) الزوجة. ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. والاول أصح، وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك. وقد تتناول الآية الجميع بالعموم. والله أعلم. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (وابن السبيل) قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارا. والسبيل الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه. ومن الاحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده. الرابعة عشرة - قوله تعالى: (وما ملكت أيمانكم) أمر الله تعالى بالاحسان إلى المماليك، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة (3) وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا ذر إنك امرؤ (1) الغيضة (بالفتح): الاجمة ومجتمع الشجر في مغيض ماء. (2) في الطبري (كلا) وسقطت من الاصول وابن عطية. (3) الربذة (بالتحريك). من قرى المدينة على ثلاثة أميال، بها مدفن أبى ذر الغفاري رضى الله عنه. (*)
[ 190 ]
فيك جاهلية) قلت: يا رسول الله، من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: (يا أبا ذر إنك آمرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم). وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه خلفه، فقال له قائل: لو أنزلته يسعى خلف دابتك، فقال أبو هريرة: لان يسعى معي ضغثان (1) من نار يحرقان مني ما أحرقا أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي. وخرج أبو داود عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله). لا يمكم وافقكم. والملايمة الموافقة. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق) وقال عليه السلام: (لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل ليقل فتاي وفتاتي) وسيأتي بيانه في سورة يوسف (2) عليه السلام. فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الاخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الاحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يرو الا نفسهم مزية على عبيدهم، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله، لكن سخر بعضهم لبعض، وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة، فإن أطعموهم أقل مما يأكلون، وألبسوهم أقل مما يلبسون صفه ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه. ولا خلاف في ذلك والله أعلم. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان (3) له فدخل فقال: أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال لا. قال: فأنطلق فأعطهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم). الخامسة عشرة - ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه (4)). ومعناه أن يضربه قدر الحد ولم يكن عليه حد. وجاء عن نفر من الصحابة أنهم أقتصوا للخادم من الولد في الضرب وأعتقوا الخادم لما لم يرد (1) ضغثان: خرمتان من حطب فاستعار هما للنار، يعنى أنهما قد اشتعلتا وصارتا نارا. (2) راجع ج 9 ص 176، 188، 222 (3) القهرمان (بفتح القاف وتضم) كالخازن والوكيل، والحافظ. لما تحت يده والقائم بأمور الرجل، بلغة الفرس. (4) الحديث في مسلم: (ضرب غلاما له - فان كفارته). (*)
[ 191 ]
القصاص. وقال عليه السلام: (من قذف مملوكه بالزنى أقام عليه الحد يوم القيامة ثمانين). وقال عليه السلام: (لا يدخل الجنة سئ الملكة (1)). وقال عليه السلام: (سوء الخلق شوم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء). السادسة عشرة - واختلف العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد، فروى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران) والذي نفس أبي هريرة بيد لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لاحببت أن أموت وأنا مملوك. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين). فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد، لانه مخاطب من جهتين: مطالب بعبادة الله، مطالب بخدمة سيده. وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ. استدل من فضل الحر بأن قال: الاستقلال بأمور الدين والدنيا وإنما يحصل بالاحرار والعبد كالمفقود لعدم استقلاله، وكالآلة المصرفة بالقهر، وكالبهيمة المسخرة بالجبر، ولذلك سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات، ونقصت حدوده عن حدود الاحرار إشعارا بخسة المقدار، والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر، وعناؤه أعظم فثوا به أكثر. وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله: لولا الجهاد والحج، أي لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الامور. والله أعلم. السابعة عشرة - روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلا قهن، وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا، وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي فمي - وروي حتى كاد - (1) أي الذى يسئ صحبة المماليك. (*)
[ 192 ]
وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا). ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره. الثامنة عشرة - قوله تعالى: (ان الله لا يحب) أي لا يرضى. (من كان مختالا فخورا) فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته، أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة. وفي هذا ضرب من التوعد. والمختال ذو الخيلاء أي الكبر. والفخور: الذي يعدد مناقبه كبرا. والفخر: البذخ (1) والتطاول. وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لانهما تحملان صاحبيهما على الانفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالاحسان إليهم. وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه (والجار الجنب) بفتح الجيم وسكون النون. قال المهدوى: هو على تقدير حذف المضاف، أي والجار ذى الجنب أي ذى الناحية. وأنشد الاخفش: * الناس جنب والامير جنب (2) * والجنب الناحية، أي المتنحى عن القرابة. والله أعلم. قوله تعالى: الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ماء اتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (27) قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (الذين يبخلون) (الذين) في موضع نصب على البدل من (من) في قوله: (من كان) ولا يكون صفة، لان (من) و (ما) لا يوصفان ولا يوصف بهما. ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور. ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه (3). ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف، أي الذين يبخلو ن، لهم كذا، أو يكون الخبر (إن الله لا يظلم مثقال ذرة). ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار (1) في ط: المدح. (2) كأنه عدل بجميع الناس. (3) أي فيعطف عليه قوله تعالى: (والذين ينفقون أمالهم رئاء الناس) كما في اعراب القرآن للنحاس. (*)
[ 193 ]
أعني، فتكون الآية في المؤمنين، فتجئ الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الاحسان. الثانية - قوله تعالى: (يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه. وهو مثل قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) الآية. وقد مضى في (آل عمران) القول في البخل وحقيقته، والفرق بينه وبين الشح مستوفى (1). والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود، فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد المنافقون الذين كان إنفاقهم وإيمانهم تقية، والمعنى إن الله لا يحب كل مختال فخور، ولا الذين يبخلون، على ما ذكرنا من إعرابه. قوله تعالى: (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الاول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا. قوله تعالى: والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (38) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس) الآية. عطف تعالى على (الذين يبخلون): (الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس). وقيل: هو عطف على الكافرين، فيكون في موضع خفض. ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبراللاول. قا الجمهور نزلت في المنافقين: لقوله تعالى: (رئاء الناس) والرئاء من النفاق. مجاهد: في اليهود. وضعفه الطبري، لانه تعالى نفى عن هذه الصنفة (2) الايمان بالله واليوم الآخر، واليهود (1) راجع ج 4 ص 290 (2) الصنفة (بكسر الصاد وسكون النون): طائفة من القبيلة. وقيل: طائفة من كل شئ. (*)
[ 194 ]
ليس كذلك. قال ابن عطية: وقول مجاهد متجه على المبالغة والالزام، إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل: نزلت في مطعمي يوم بدر، وهم رؤساء مكة، أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر. قال ابن العربي: ونفقة الرئاء تدخل في الاحكام من حيث إنها لا تجزئ. قلت: ويدل على ذلك من الكتاب قول تعالى: (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم) وسيأتي (1). الثانية - قوله تعالى: (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) في الكلام إضمار تقديره (ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) فقرينهم الشيطان (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا). والقرين: المقارن، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الاقران، قال عدي ابن زيد: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي (2) والمعنى: من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه. ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار (فساء قرينا) أي فبئس الشيطان قرينا، وهو نصب على التمييز. قوله تعالى: وماذا عليهم لو ءامنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما (39) (ما) في موضع رفع بالابتداء و (ذا) خبره، وذا بمعنى الذي. ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا. فعلى الاول تقديره وما الذي عليهم، وعلى الثاني تقديره وأي شئ عليهم (لو آمنوا بالله واليوم الآخر)، أي صدقوا بواجب الوجود، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة، (وأنفقوا مما رزقهم الله). (وكان الله بهم عليما) تقدم معناه في غير موضع. قوله تعالى: ان الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) (1) راجع ج 8 ص 161 (2) في ب وج وز وط: فان القرين. وفى د وط: وأبصر قرينه. وهى رواية. وروى هذا البيت لطرفة. (*)
[ 195 ]
قوله تعالى: (ان الله لا يظلم مثقال ذرة) أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها. والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا، كما قال تعالى: (إن الله لا يظلم الناس شيئا (1)). والذرة: النملة الحمراء، عن ابن عباس وغيره، وهي أصغر النمل. وعنه أيضا رأس النملة. وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا. قلت: والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا، كما أن للدينار ونصفه وزنا. والله أعلم. وقيل: الذرة الخردلة، كما قال تعالى: (فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها (2)). وقيل غير هذا، وهي في الجملة عبارة عن أقل الاشياء وأصغرها. وفي صحيح مسلم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها). قوله تعالى: (وان تك حسنة يضاعفها) أي يكثر ثوابها. وقرأ أهل الحجاز (حسنة) بالرفع، والعامة بالنصب، فعلى الاول (تك) بمعنى تحدث، فهي تامة. وعلى الثاني هي الناقصة، أي إن تك فعلته حسنة. وقرأ الحسن (نضاعفها) بنون العظمة. والباقون بالياء، وهي أصح، لقوله (ويؤت). وقرأ أبو رجاء (يضعفها)، والباقون (يضاعفها) وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيدة: (يضاعفها) معناه يجعله أضعافا كثيرة، (ويضعفها) بالتشديد يجعلها ضعفين. (من لدنه) من عنده. وفيه أربع لغات (3): لدن ولدن ولد ولدى، فإذا أضافوه إلى أنفسهم شددوا النون، ودخلت عليه (من) حيث كانت (من) الداخلة لابتداء الغاية و (لدن) كذلك، فلما تشاكلا حسن دخول (من) عليها، ولذلك قال سيبويه في لدن: إنه الموضع الذي هو أول الغاية. (أجرا عظيما) يعني الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث (1) راجع ج 8 ص 346 (2) راجع ج 11 ص 293 (3) في كتب اللغة أكثر من أربع، منها مع المذكور: لدن ولدن. (*)
[ 196 ]
أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه: (حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لاخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول عز وجل أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا). وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) وذكر الحديث. وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادي مناد على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطي لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها) - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار). فالآية على هذا التأويل في الخصوم، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له، فذلك قوله تعالى: (وإن تك حسنة يضاعفها). وروى أبو هريرة قال سمعت رسول
[ 197 ]
الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة) وتلا (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما). قال عبيدة قال أبو هريرة: وإذا قال الله (أجرا عظيما) فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود: أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس. قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) فتحت الفاء لا لتقاء الساكنين، و (إذ) ظرف زمان والعامل فيه (جئنا). ذكر أبو الليث السمرقندي: حدثنا الخليل بن أحمد (1) قال حدثنا ابن منيع قال: حدثنا أبو (2) كامل قال حدثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر (3) فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه، فقال: (يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من (4) لم أرهم). وروى البخاري عن عبد الله قال. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي) قلت: آقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال: (انى أحب أن أسمعه من غيرى) فقرأت عليه سورة (النساء) حتى بلغت (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) قال: (أمسك) فإذا عيناه تذرفان. وأخرجه مسلم وقال بدل قوله (أمسك): فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. قال علماؤنا: بكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الامر، إذ يؤتى بالانبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيدا. والاشارة بقوله (1) الخليل بن أحمد لعله الا صبهانى. (2) من ز وط وى. وفى غيرها: ابن كامل. (3) بنو ظفر (محركة) بطن في الانصار، وبطن في بنى سليم. (4) في ابن كثير: (هذا شهدت على من أنا بين ظهرانيهم فكيف بمن لم أرهم). (*)
[ 198 ]
(على هؤلاء) إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خص كفار قريش بالذكر لان وظيفة العذاب أشد عليهم منها على غيرهم، لعنادهم عند رؤية المعجزات، وما أظهره الله على يديه من خوارق العادات. والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة (إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) أمعذبين أم منعمين ؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ. وقيل: الاشارة إلى جميع أمته. ذكر ابن المبارك أخبرنا رجل من الانصار عن المنهال ابن عمرو حدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تبارك وتعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) يعني بنبيها (وجئنا بك على هؤلاء شهيدا). وموضع (كيف) نصب بفعل مضمر، التقدير فكيف يكون حالهم، كما ذكرنا. والفعل المضمر قد يسد مسد (إذا)، والعامل في (إذا) (جئنا). و (شهيدا) حال. وفي الحديث من الفقه جواز قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه، ويجوز عكسه. وسيأتي بيانه في حديث أبي في سورة (لم يكن (1))، إن شاء الله تعالى. [ و (شهيدا) نصب على الحال (2) ]. قوله تعالى: يؤمئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا (42) ضمت الواو في (عصوا) لالتقاء الساكنين، ويجوز كسرها. وقرأ نافع وابن عامر (تسوى) بفتح التاء والتشديد في السين. وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين. والباقون ضموا التاء وخففوا السين، مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى. والمعنى لو يسوي الله بهم الارض. أي يجعلهم والارض سواء. ومعنى آخر: تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الارض مستوية عليهم، لانهم من التراب نقلوا. وعلى القراءة الاولى والثانية فالارض فاعلة، والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الارض فساخوا فيها، قاله قتادة. وقيل: الباء بمعنى على، أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم، عن الحسن. فقراءة التشديد على الادغام، والتخفيف على (1) راجع ج 20 ص 142 ولم يأت بشئ. (2) هذه الزيادة من ج ود وى. (*)
[ 199 ]
حذف التاء. وقيل: إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار، وهذا معنى قوله تعالى: (ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (1). وقيل: إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الامة للانبياء على ما تقدم في (البقرة) عند قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا (2)) الآية. فتقول الامم الخالية: إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المشركون: (والله ربنا ما كنا مشركين (3)) فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون، فذلك قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض) يعني تخسف بهم. والله أعلم. قاله تعالى: (ولا يكتمون الله حديثا) قال الزجاج: قال بعضهم: (ولا يكتمون الله حديثا) مستأنف، لان ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه. وقال بعضهم: هو معطوف، والمعنى يود لو أن الارض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا، لانه ظهر كذبهم. وسئل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين) فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الاسلام قالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين) فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا. وقال الحسن وقتادة: الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها. ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا. وسيأتي لهذا مزيد بيان في (الانعام (3)) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا الا عابرى سبيل حتى تغيسلوا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ان الله كان عفوا غفورا (43) (1) راجع ج 19 ص 183 (2) راجع ج 2 ص 153 (3) راجع ج 6 ص 401 (*)
[ 200 ]
فيه أربع وأربعون مسألة: الأولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين، لانهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب، إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة (يسألونك عن الخمر والميسر (1)) قال: فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي: ألا لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا [ في الخمر (2) ] بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية: (فهل أنتم منتهون (3)) قال عمر: انتهينا. وقال سعيد بن جبير: كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا، فكانوا يشربونها أول الاسلام حتى نزلت: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس). قالوا: نشربها للمنفعة لا للاثم، فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، فنزلت: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى). فقالوا: في غير عين الصلاة. فقال عمر: اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: (إنما يريد الشيطان) الآية. فقال عمر: انتهينا، انتهينا. ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن (4) الخمر قد حرمت، على ما يأتي بيانه في (المائدة) إن شاء الله تعالى: وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) ونحن نعبد ما تعبدون. قال: فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى: (واعبدوا الله (1) راجع ج 3 ص 51 (2) من ج. (3) راجع ج 6 ص 275 (4) كذا في ج، وفي ط وز وى: الا انما. (*)
[ 201 ]
ولا تشركوا به شيئا). ثم ذكر بعد الايمان الصلاة التي هي رأس العبادات، ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها. الثانية - والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر، إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم، لقوله عليه السلام: (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه). وقال عبيدة السلماني: (وأنتم سكارى) يعني إذا كنت حاقنا (1)، لقوله عليه السلام: (لا يصلين أحدكم وهو حاقن) في رواية (وهو ضام بين فخذيه). قلت: وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى، فإن المطلوب من المصلي الاقبال على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع، وكل ما يشغل البال ويغير الحال. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة (2) فابدءوا بآلعشاء). فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه، فيخشع في صلاته. ويدخل في هذه الآية: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون (3)) على ما يأتي بيانه. وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) منسوخ بآية المائدة: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) الآية. فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى، ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال، وهذا قبل التحريم. وقال مجاهد: نسخت بتحريم الخمر. وكذلك قال عكرمة وقتادة، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران، ذكره النحاس. وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها. الثالثة - قوله تعالى: (لا تقربوا) إذا قيل: لا تقرب (4) بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه. والخطاب لجماعة الامة (1) الحاقن: المجتمع بوله كثيرا. (2) في ج وط وى: العشاء. وهو رواية. راجع كشف الخفاء. ج 1 ص 87. ففيه بسط. (3) راجع ج 12 ص 102 (4) في ج: تقربوا، تلبسوا، تنوا. (*)
[ 202 ]
الصاحين. وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله، وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الاحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر. الرابعة - قوله تعالى: (الصلاة) اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا، فقالت طائفة: هي العبادة المعروفة نفسها، وهو قول أبي حنيفة، ولذلك قال (حتى تعلموا ما تقولون). وقالت طائفة: المراد مواضع الصلاة، وهو قول الشافعي، فحذف المضاف. وقد قال تعالى (لهدمت صوامع وبيع وصلوات (1)) فسمى مواضع الصلاة صلاة. ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: (ولا جنبا إلا عابري سبيل) هذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه. وقال أبو حنيفة: المراد بقوله تعالى: (ولا جنبا إلا عابري سبيل) المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي، وسيأتي بيانه. وقالت طائفة: المراد الموضع والصلاة معا، لانهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين. الخامسة - قوله تعالى: (وأنتم سكارى) ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال من (تقربوا). و (سكارى) جمع سكران، مثل كسلان وكسالى. وقرأ النخعي (سكرى) بفتح السين على مثال فعلى، وهو تكسير سكران، وإنما كسر على سكرى لان السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه. وقرأ الاعمش (سكرى) كحبلى فهو صفة مفردة، وجاز الاخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الاخبار عن الجماعة بالواحد. والسكر: نقيض الصحو، يقال: سكر يسكر سكرا، من باب حمد يحمد. وسكرت عينه تسكر أي تحيرت، ومنه قوله تعالى: (إنما سكرت أبصارنا (2)). وسكرت الشق (3) سددته. فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل. السادسة - وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الاسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال قوم السكر محرم في العقل وما أبيح في شئ من (1) راجع ج 12 ص 68 (2) راجع ج 10 ص 8 (3) في الاصول: سكرت السد سددته، وفى ابن عطية: سكرت الماء سددته. (*)
[ 203 ]
الاديان، وحملوا السكر في هذه الآية على النوم. وقال القفال: يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية. قلت: وهذا المعنى موجود في أشعارهم، وقد قال حسان: * ونشر بها فتتركنا ملوكا * وقد أشبعنا هذا المعنى في (البقرة (1)). قال القفال: فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والاغماء فما أبيح قصده، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه. قلت: هذا صحيح، وسيأتي بيانه في (المائدة) إن شاء الله تعالى في قصة حمزة (2). وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في (المائدة) في قوله تعالى: (فهل أنتم منتهون (2)). السابعة - قوله تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون) أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط. والسكران لا يعلم ما يقول، ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن السكران لا يلزمه طلاقه. وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث ابن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزنى، واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس. ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب. وأجازت طائفة طلاقه، وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والاوزاعي، واختلف فيه قول الشافعي. والزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح والبيع. وقال أبو حنيفة: أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي، إلا الردة فإنه إذا ارتد [ فإنه (3) ] لا تبين منه امرأته إلا استحسانا. وقال أبو يوسف: يكون مرتدا في حال سكره، وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه. (1) راجع ج 3 ص 55 فما بعدها. (2) راجع ج 6 ص 287 (3) من ج وط وى. (*)
[ 204 ]
وقال الامام أبو عبد الله المازري: وقد رويت عندنا (1) رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. قال ابن شاس: ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الا ختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب. قال: فأما السكران الذي لا يعرف الارض من السماء ولا الرجل من المرأة، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعال وأحواله فيما بينه وبين الناس، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا، إلا فيما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون، من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها. وقال سفيان الثوري: حد السكر (2) اختلال العقل، فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد. وقال أحمد: إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران، وحكي عن مالك نحوه. قال ابن المنذر: إذا خلط في قراءته فهو سكران، استدلا لا بقول الله تعالى: (حتى تعلموا ما تقولون). فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب (3) المسجد مخافة التلويث، ولا تصح صلاته وإن صلى قضى. وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي. الثامنة - قوله تعالى: (ولا جنبا) عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله: (حتى تعلموا) أي لا تصلوا وقد أجنبتم. ويقال: تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى. ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع، لانه على وزن المصدر كالبعد والقرب. وربما خففوه فقالوا: جنب، وقد قرأه كذلك قوم. وقال الفراء: يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب، مثل عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ومن قال للواحد جانب قال في الجمع: جناب، كقولك: راكب وركاب. والاصل البعد، كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة، قال: فلا تحرمي نائلا عن جنابة * فإنى امرؤ وسط القباب غريب (4) ورجل جنب: غريب. والجنابة (5) مخالطة الرجل المرأة. (1) عندنا ساقط في ط. (2) في ط وى: السكران. (3) في ز: يجنب. في ى: يجتنب. (4) راجع ص 183 من هذا الجزء. (5) في ى: المجانبة. وهو المتبادر. (*)
[ 205 ]
التاسعة - والجمهور من الامة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال، لقوله عليه السلام: (إنما الماء من الماء) أخرجه مسلم. وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال: (يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي). قال أبو عبد الله (1): الغسل أحوط، وذلك الآخر (2) إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه، وقال في آخره: قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق: هذا منسوخ. وقال الترمذي: كان هذا الحكم في أول الاسلام ثم نسخ. قلت: على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الامصار، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الاربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل). أخرجه مسلم. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قعد بين شعبها الاربع ثم جهدها (3) فقد وجب عليه الغسل). زاد مسلم (وإن لم ينزل). قال ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الاخذ بحديث (إذا التقى الختانان) وإذا صح الاجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض: لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الاعمش ثم بعده داود الاصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الاخذ بحديث (الماء من الماء) لما اختلفوا. وتأوله ابن عباس على الاحتلام أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام. ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء. (1) أبو عبد الله: كنية البخاري. (2) قوله: (وذلك الاخر) أي ذلك الوجه الاخر، أو الحديث الاخر الدال على عدم الغسل. (3) جهدها: دفعها وحفزها. وقيل: الجهد من أسماء النكاح. (*)
[ 206 ]
العاشرة - قوله تعالى: (الاعابرى سبيل) يقال: عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب. وعبرت النهر عبورا، وهذا عبر النهر أي شطه، ويقال: [ عبر (1) بالضم ]. والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة. وهذا عابر السبيل أي مار الطريق. وناقة عبر أسفار: لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها. قال الشاعر: عيرانة سرح اليدين شملة * عبر الهواجر كالهزف الخاضب (2) وعبر القوم ماتوا. وأنشد: قضاء الله يغلب كل شئ * ويلعب بالجزوع وبالصبور فإن نعبر فإن لنا لمات * وإن نغبر فنحن على نذور يقول: إن متنا فلنا أقران، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت، حتى كأن علينا في إتيانه نذورا. الحادية عشرة - واختلف العلماء في قوله: (إلا عابري سبيل) فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم: عابر السبيل المسافر. ولا يصح لاحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم، وهذا قول أبي حنيفة، لان الغالب في الماء لا يعدم في الحضر، فالحاضر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمم إذا لم يجده. قال ابن المنذر: وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد. ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد. واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن ليس بنجس). قال ابن المنذر: وبه نقول. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي: عابر السبيل الخاطر المجتاز، وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي. وقالت طائفة: لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه، هكذا قال الثوري وإسحاق ابن راهويه. وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد، (1) من ج وط وى. وفى ز، وأ وح. عبر. (2) العيرانة من الابل: الناجية في نشاط والسرح: السريعة المشى. وشملة: خفيفة سريعة مشمرة. الهزف: الجافي من الظلمان. أو: الطويل الريش. والخاضب: الظليم إذا أكل الربيع فاحمرت ساقاه وقوادمه. (*)
[ 207 ]
حكاه ابن المنذر. وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الانصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، فإذا أصاب أحدهم الجنابة أضطر إلى المرور في المسجد. قلت: وهذا صحيح، يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد). ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم (1) رخصة فخرج إليهم فقال: (وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب). وفي صحيح مسلم: (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة (2) أبي بكر). فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الابواب لما كان يؤدي [ ذلك (3) ] إلى اتخاذا المسجد طريقا والعبور فيه. واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية، لانهما كانا لا يفترقان غالبا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لاحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي). قال علماؤنا وهذا يجوز أن يكون ذلك، لان بيت علي كان في المسجد، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال: (ما ينبغي لمسلم) الحديث. والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال: سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبد الله بن عمر: هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه، لم يكن في المسجد غيرهما، وذكر الحديث. فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه، فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما. ويجوز أن (1) في هامش أبى داود ط الهند: فيهم. إليهم بعد. (2) الخوخة (بفتح الخاء): الباب الصغير بين البيتين أو الدارين. (3) من ج وط وى. (*)
[ 208 ]
يكون ذلك تخصيصا لهما، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء، فيكون هذا مما خص به، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره. وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي. وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سدوا الابواب إلا باب علي) فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد. وأما قوله: (لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات، وأبواب البيوت خارجة من المسجد، فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له. والخوخات كالكوى والمشاكي، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج. وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله: ولم يكن في المسجد غيرهما. فإن قيل: فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال: كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه. وهذا يدل على أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ، وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا. فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة، ولا يصح له أن يتلبس بها. والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم. فإن قيل: يبطل بالمحدث. قلنا: ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه، وفي قوله تعالى: (ولا جنبا إلا عابري سبيل) ما يغني ويكفي. وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه، إذ هو أعظم حرمة. وسيأتي بيانه في (الواقعة (1)) إن شاء الله تعالى. الثانية عشرة - ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ. وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه (1) راجع ج 17 ص 223 (*)
[ 209 ]
وسلم: (لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن) أخرجه ابن ماجة. وأخرج الدار قطني من حديث سفيان عن مسعر، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شئ إلا أن يكون جنبا. قال سفيان: قال لي شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه. وأخرجه ابن ماجة قال: حدثنا محمد ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، فذكره بمعناه، وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عباس، عن عبد الله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، أخرجه الدار قطني. وروى عن عكرمة قال: كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها، وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت فخرجت فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم (1) ؟ قالت: مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت (2) بين كتفيك بهذه الشفرة. قال: وأين رأيتني ؟ قالت: رأيتك على الجارية، فقال: ما رأيتني، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت: فأقرأ، [ وكانت (2) لا تقرأ القرآن، ] فقال: أتانا رسول الله يتلوا كتابه * كما لاح مشهور من الفجر ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (حتى تغتسلوا) نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال، والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند العرب معلوم، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول، ولذلك فرقت العرب بين قولهم: غسلت الثوب، وبين قولهم: (1) مهيم: كلمة يمانية يستفهم بها، معناها: ما وراءك وما شأنك، وما هذا الذى أرى بك، ونحو هذا من الكلام. (2) الوجه: الضرب بالسكين ونحوه. (3) من ج. (*)
[ 210 ]
أفضت عليه الماء وغمسته في الماء. إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك، فالمشهور من مذهب مالك أنه لا بجزئه حتى يتدلك، لان الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه، [ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه (1). ] وهذا قول المزني واختياره. قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي: وهذا هو المعقول من لفظ الغسل، لان الاغتسال في اللغة هو الافتعال، ومن لم يمر يديه فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه. قال: وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وانقوا البشرة) قال: وإنقاؤه والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه، على حد ما ذكرنا. قلت: لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين: أحدهما - أنه قد خولف في تأويله، قال سفيان بن عيينة: المراد بقوله عليه السلام (وأنقوا البشرة) أراد غسل الفرج وتنظيفه، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج. قال ابن وهب: ما رأيت [ أحدا (2) ] أعلم بتفسير الاحاديث من ابن عيينة. الثاني: إن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه: وهذا الحديث ضعيف، كذا في رواية ابن داسة (3). وفي رواية اللؤلئي عنه: الحارث بن وجيه ضعيف، حديثه منكر، فسقط الاستدلال بالحديث، وبقي المعول على اللسان كما بينا. ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله، روته عائشة، ونحوه عن أم قيس بنت محصن، أخرجهما مسلم. وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء: يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك، على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم. رواهما الائمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده، وبه قال محمد بن عبد الحكم، (1) الزيادة من ط وج وى. (2) من ى. (3) ابن داسة: هو أبو بكر محمد بن بكر البصري الداسى راوي سنن أبى داود. (*)
[ 211 ]
واليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك، قال: وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لانه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده. وقال ابن العربي: وأعجب لابي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا، وإنما هي من أوهامه. قلت: قد روي هذا عن مالك نصا، قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين: سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ، قال: مضت صلاته. قال أبو عمر: فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ، وقد أجزأه عند مالك. والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك، قياسا على غسل الوجه واليدين. وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل. والعرب تقول: غسلتني السماء. وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا، ولو كان واجبا ما تركه، لانه المبين عن الله مراده، ولو فعله لنقل عنه، كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام. قال أبو عمر: وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك (1) ومرة بالصب والافاضة، وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله عز وجل تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة ويكون كل واحد من الامرين أصلا في نفسه، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه، لان الاصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الامة. وإنما ترد الفروع قياسا على الاصول. وبالله التوفيق. الرابعة عشرة - حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا. وقد روي عن ابن عمر قال: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل البول من الثوب سبع مرار، (1) العرك: الدلك. (*)
[ 212 ]
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة (1)، والغسل من البول مرة. قال ابن عبد البر، وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس، وشعبة هذا ليس بالقوي، ويرد هما حديث عائشة وميمونة. الخامسة عشرة - ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون: يجعل من يلي ذلك منه، أو يعالجه بخرقه. وفي الواضحة: يمر يديه على ما يدركه من جسده، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه. السادسة - واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته، فروى ابن القاسم عنه أنه قال: ليس عليه ذلك. وروى أشهب عنه أن عليه ذلك. قال ابن عبد الحكم: ذلك هو أحب إلينا، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة، وذلك عام وإن كان الاظهر فيه شعر رأسه، وعلى هذين القولين العلماء. ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب، والبشرة التي تحت اللحية من جملته، فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد. وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لانها مبنية على التخفيف، ونيابة (2) الابدال فيها من غير ضرورة، ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل. قلت: ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (تحت كل شعرة جنابة). السابعة عشرة - وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق، لقوله تعالى: (حتى تغتسلوا) منهم أبو حنيفة، ولانهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما وصلى الله عليه وسلم أعاد كمن ترك لمعة (3)، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وقال مالك: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء، لانهما باطنان [ فلا يجب (4) ] كداخل الجسد. وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والاوزاعي وجماعة من التابعين. وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان: هما فرض في الوضوء والغسل جميعا، وهو قول إسحاق (1) في ج: ثلاث مرات. (2) في ا وج وح و و: وبيانه ألا يدلك، وفى ط وز: وبيانه الا بدال. (3) اللمعة: الموضع لا يصيبه الماء في الوضوء أو الغسل. (4) من ج. (*)
[ 213 ]
وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود. وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول. وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض، وقال به بعض أصحاب داود. وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه، ولا أوجبهما رسوله، ولا اتفق الجميع عليه، والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه. احتج من أوجبهما بالآية، وقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة، وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا. احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل، وفعل الاستنشاق وأمر به، وأمره على الوجوب أبدا. الثامنة عشرة - قال علماؤنا: ولا بد في غسل الجنابة من النية، لقوله تعالى: (حتى تغتسلوا) وذلك يقتضي النية، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور، وكذلك الوضوء والتيمم. وعضدوا هذا وبقوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له (1) الدين) والاخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين، وقال عليه السلام: (إنما الاعمال بالنيات) وهذا عمل. وقال الاوزاعي والحسن: يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية، ولا يجزئ التيمم إلا بنية، قياسا على إزالة النجاسة بالاجماع من الابدان والثياب بغير نية. ورواه الوليد بن مسلم عن مالك. التاسعة عشرة - وأما قدر الماء الذي يغتسل به، فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عائشة [ أم المؤمنين (2) ] رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. (الفرق) تحرك راؤه وتسكن. قال ابن وهب: (الفرق) مكيال من الخشب، كان ابن شهاب يقول: إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية. وقد فسر محمد بن عيسى الاعشى (الفرق) فقال: ثلاثة آصع، قال: وهي خمسة أقساط، قال: (1) راجع ج 20 ص 144 (2) من ج وط. (*)
[ 214 ]
وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم قال سفيان: (الفرق) ثلاثة آصع. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد. وفي رواية: يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك (1). وهذه الاحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الانسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه، فإن الاكثار منه سرف والسرف مذموم. ومذهب الاباضية الاكثار من الماء (2)، وذلك من الشيطان. الموفية عشرين - قوله تعالى: (وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) هذه آية التيمم، نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح، فرخص له في أن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس. وقيل: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة (المريسيع (3)) حين انقطع العقد لعائشة. أخرج الحديث مالك من رواية عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه عن عائشة. وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير: حدثنا محمد قال: أخبرنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: هلكت قلادة لاسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء، فأنزل الله تعالى آية التيمم. قلت: وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع، وفيها أن القلادة كانت لاسماء، خلاف حديث مالك. وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل (4)، وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن (1) المكوك (كننوز): مكيال معروف لاهل العراق، والجمع مكاكيك ومكاكى، وأراد به المد. وقيل: الصاع. والاول أشبه لانه جاء في حديث آخر مفسرا بالمد. (2) الاسراف عندهم من مكروهات الوضوء كما هو مذون. (3) المريسع (مصغر مرسوع): بئر أو ماء لخزاعة على يوم من الفرع، واليه تضاف غزوة بنى المصطلق. (4) الصلصل (بضم أو له ويفتح): موضع على بعد سبعة أميالمن المدينة. (عن معجم البلدان). (*)
[ 215 ]
هشام أن القلادة كانت لاسماء، وأن عائشة استعارتها من أسماء. وهذا بيان لحديث مالك إذا قال: انقطع عقد لعائشة، ولحديث البخاري إذ قال: هلكت قلادة لاسماء. وفيه أن المكان يقال له الصلصل. وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا هشام ابن عروة عن أبيه، عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الابواء (1)، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها، وذكر الحديث. ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي. وقال في المكان: (الابواء) كما قال مالك، إلا أنه من غير شك. وفي حديث مالك قال: وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. وجاء في البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده. وهذا كله صحيح المعنى، وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه، لان المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم، وقد ثبتت (2) الروايات في أمر القلادة. وأما قوله في حديث الترمذي: فأرسل رجلين قيل: أحدهما أسيد بن حضير. ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع، إذ أقل الجمع اثنان، أو أردف في أثرهما غير هما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم. فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه (3) تحته. وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا، فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا، وضاع العقد ونزلت الآية. وقد قيل: إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق. وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع، إذ هي غزاة واحدة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبد البر، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري. وقيل: بل نميلة بن عبد الله (1) الا بواء بفتح الهمزة: منزل بين مكة والمدينة قريب من الحجفة من جهة الشمال على مرحلة. (2) في ز وط: بينت الروايات أمر الخ. (3) الضمير أولا للقلادة، وثانيا للعقد. (*)
[ 216 ]
الليثي. وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد (1) مما يلي الساحل، فقتل من قتل وسبى [ من سبى (2) ] النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ: أمت أمت. وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء. فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه. وقد قيل: إن آية المائدة آية التيمم، على ما يأتي بيانه هناك. قال أبو عمر: فأنزل الله تعالى آية التيمم، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة (المائدة (2))، أو الآية التي في سورة (النساء). ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الايتين وهما مدنيتان. الحادية والعشرون - قوله تعالى: (مرضى) المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد، إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين: كثير ويسير، فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء، أو للعلة التي به، أو يخاف فوت بعض الاعضاء، فهذا يتيمم بإجماع، إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات. وهذا مردود بقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج (3)) وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم). وروى الدار قطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عزوجل: (وإن كنتم مرضى أو على سفر) قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم. وعن سعيد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال: رخص للمريض في التيمم بالصعيد. وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة. فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب. قال ابن عطية: فيما حفظت. قلت: قد ذكر الباجي فيه خلافا، قال القاضي أبو الحسن: مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض، وبنحو ذلك قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف، ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك. قال ابن العربي: (قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف، (1) قديد: موضع بين مكة والمدينة، أو ماء. (2) في ج. راجع ج 6 ص 80 (3) راجع ج 12 ص 99 (*)
[ 217 ]
لان زيادة المرض غير متحققة، لانها قد تكون وقد لا تكون، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك. قلنا: قد ناقضت، فإنك قلت إذا خاف التلف من البر تيمم، فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك، يبيحه خوف المرض، لان المرض محذور كما أن التلف محذور. قال: وعجبا للشافعي يقول: لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم، وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم [ عليه (1) ] كلام يساوي سماعه). قلت: الصحيح من قول (2) الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره: والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الاعضاء لو استعمل الماء. فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي: جواز التيمم. روى أبو داود والدار قطني، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن ابن جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو: (صليت بأصحابك وأنت جنب) ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين، وهذا أحد القولين عندنا، وهو الصحيح [ وهو (3) ] الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات. والقول الثاني - أنه لا يصلى، لانه أنقص فضيلة من المتوضئ، وحكم الامام أن يكون أعلى رتبة، وقد روى الدار قطني من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤم المتيمم المتوضئين) إسناده ضعيف. وروى أبو داود والدار قطني عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: (1) زيادة عن ابن العربي. (2) في ج: الصحيح من مذهب الشافعي كمذ هبنا، قال. (3) من ج. و. (*)
[ 218 ]
(قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي (1) السؤال وإنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده). قال الدار قطني: (قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق، وليس بالقوي، وخالفه الاوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس [ وهو الصواب (2) ]. واختلف عن الاوزاعي فقيل عنه عن عطاء، وقيل عنه: بلغني عن عطاء، وأرسل الاوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا: رواه ابن أبي العشرين، عن الاوزاعي عن إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن ابن عباس، وأسند الحديث). وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم، لقوله تعالى: (وإن كنتم مرضى). قال ابن عطية: وهذا قول خلف، وإنما هو عند علماء الامة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب، والعلل المخوف عليها من الماء، كما تقدم عن ابن عباس. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (أو على سفر) يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة، هذا مذهب مالك وجمهور العلماء (3). وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة. وهذا كله ضعيف. والله أعلم. الثالثة والعشرون - أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا، واختلفوا فيه في الحضر، فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز، وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف، وهو قول الطبري. وقال الشافعي أيضا والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى ثم أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، لا غير (1) العى (بالكسر): الجهل. (2) من ج وط. (3) في ج: الفقهاء. (*)
[ 219 ]
المريض. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية، فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الاغلب فيمن لا يجد الماء، والحاضرون الاغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم. فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة، تيمم المسافر بالنص، والحاضر بالمعنى. وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى. وأما من منعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، كالفطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين، وهما المرض والسفر، فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى. وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال: إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء، لقوله تعالى: (فلم يجدوا ماء فتيمموا (فلم يبح التيمم لاحد إلا عند فقد الماء. وقال أبو عمر: ولولا قول الجمهور وما روي من الاثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا، والله أعلم. وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء، فالمريض أحرى بذلك. قلت: ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله سبحانه: (أو جاء أحد منكم من الغائط) يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم. نص عليه القشيري عبد الرحيم قال: ثم يقطع النظر في وجوب القضاء، لان عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان: قلت: وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا، المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح. وقال ابن حبيب ومحمد بن عبد الحكم. يعيد أبدا، ورواه ابن المنذر عن مالك. وقال الوليد عنه: يغتسل وإن طلعت الشمس. وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الانصاري قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو (بئر جمل (1)) فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي (1) بئر جمل: موضع بقرب المدينة. (*)
[ 220 ]
صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ (بئر (1)). وأخرجه الدار قطني من حديث ابن عمر وفيه (ثم رد على الرجل السلام وقال: (إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر)). الرابعة والعشرون - قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) الغائط أصله ما انخفض من الارض، والجمع الغيطان أو الاغواط، وبه سمي غوطة دمشق. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الانسان غائطا للمقارنة (2). وغاط في الارض يغوط إذا غاب. وقرأ الزهري: (من الغيط) فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف، كهين وميت وشبهه. ويحتمل أن يكون من الغوط، بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط، فقلبت واو الغوط ياء، كما قالوا في لا حول لا حيل. و (أو) بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر، فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه. والصحيح في (أو) أنها على بابها عند أهل النظر. فلاو معناها، وللواو معناها. وهذا عندهم على الحذف، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء. والله أعلم. الخامسة والعشرون - لفظ (الغائط) يجمع بالمعنى جميع الاحداث الناقضة للطهارة الصغرى. وقد اختلف الناس في حصرها، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع، لا خلاف فيها في مذهبنا: زوال العقل، خارج معتاد، ملامسة. وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس. وعلى مذهب الشافعي ومحمد ابن عبد الحكم ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، ويعد اللمس. وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء، واختلفوا (1) الذى في مسلم: (... من نحو بئرجمل) كرواية البخاري. (2) في ط وز: للمقاربة. (*)
[ 221 ]
في النوم هل حدث كسائر الا حداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث، ثلاثة أقوال: طرفان وواسطة. الطرف الاول - ذهب المزني أبو ابراهيم اسماعيل إلى أنه حدث، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر حداث، و هو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله: ولا يتوضأ الا من حدث يخرج من ذكر دبر أو نوم. ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدار قطني والترمذي وصححه. رووه جميعا من حديث عاصم بن أبى النجود عن زر ابن حبيش فقال: أتيت صفوان بن عسال المرادى فقلت: جئتك أسألك عن المسح على الخفين، قال: [ نعم (1) ] كنت في الجيش الذى بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلنا هما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم [ ولا نخلعهما (1) ] الا من جنابة. ففى هذا الحديث وقول مالك التسو ية بين الغائط والبول والنوم. قالوا: والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك. وقد روى عن على بن أبى طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكاء السه العينان فمن نام فليتوضأ) وهذا عام. أخرجه أبو داود، وأخرجه الدار قطني من حديث معاوية بن أبى سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الطرف الاخر فروى عن أبى موسى الاشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم، لانه كان يوكل من يحرسه إذا نام. فان لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى، وروى عن عبيدة وسعيد بن المسيب والا وزاعى في رواية محمود بن خالد. والجمهور على خلاف هذين الطرفين. فأما جملة مذهب مالك فان كل نائم استثقل نوما، وطال نومه على أي حال كان، فقد وجب عليه الوضوء، وهو قول الزهري وربيعة والاوزاعي في رواية الوليد بن مسلم. قال أحمد بن حنبل: فان كان النوم (1) الزيادة عن سنن الدار قطني. (2) السه: الاست، وأصله السته بالتحريك فحذفت عين الفعل، ويروى (الست) بحذف لام الفعل. (*)
[ 222 ]
خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا. وقال الشافعي: من نام جالسا فلا وضوء عليه، ورواه ابن وهب عن مالك. والصحيح من هذه الاقوال مشهور مذهب مالك، لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة [ يعني العشاء (1) ] فأخرها حتى رقدنا [ في المسجد (1) ] ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: (ليس أحد من أهل الارض ينتظر الصلاة غيركم) رواه الائمة واللفظ للبخاري، وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الاسناد والعمل. وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه: ونوم ثقيل غالب على النفس، بدليل هذا الحديث وما كان في معناه. وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال: (أو ريح) بدل (أو نوم)، فقال الدار قطني: لم يقل في هذا الحديث (أو ريح) غير وكيع عن مسعر. قلت: وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما من الائمة، فسقط الاستدلال بحديث صفوان لمن تمسك به في أن النوم حدث. وأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فضعيف، رواه الدار قطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى. غط أو نفخ ثم قام فصلى، فقلت: يا رسول الله إنك قد نمت ! فقال: (إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله). تفرد به أبو خالد عن قتادة ولا يصح، قاله الدار قطني. وأخرجه أبو داود وقال: قوله: (الوضوء على من نام مضطجعا) هو حديث منكر لم يروه إلا أبو خالد يزيد الدالاني عن قتادة، وروى أو له جماعة عن ابن عباس لم يذكروا شيئا من هذا. وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث منكر لم يروه أحد من أصحاب قتادة الثقات، وإنما انفرد به أبو خالد الدلاني، وأنكروه وليس بحجة فيما نقل (2). وأما قول الشافعي: على كل نائم الوضوء إلا على الجالس وحده، وإن كل من زال عن حد الاستواء ونام فعليه الوضوء، فهو قول الطبري وداود، وروي عن علي وابن مسعود وابن (1) الزيادة عن البخاري. (2) في ج: فيما يقال. (*)
[ 223 ]
عمر، لان الجالس لا يكاد يستثقل، فهو في معنى النوم الخفيف. وقد روى الدار قطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نام جالسا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء). وأما الخارج، فلنا ما رواه البخاري قال: حدثنا قتيبة قال (1) حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن عكرمة، عن عائشة قالت: أعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي. فهذا خارج على غير المعتاد، وإنما هو عرق انقطع فهو مرض، وما كان هذا سبيله مما يخرج من السبيلين فلا وضوء فيه عندنا إيجابا، خلافا للشافعي كما ذكرنا. وبالله توفيقنا. ويرد على الحنفي حيث راعى الخارج النجس. فصح ووضح مذهب مالك ابن أنس رضي الله عنه ما تردد نفس، وعنهم أجمعين. السادسة والعشرون - قوله تعالى: (أو لا مستم النساء) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر (لامستم). وقرأ حمزة والكسائي: (لمستم) وفي معناه ثلاثة أقوال: الاول - أن يكون لمستم جامعتم. الثاني - لمستم باشرتم. الثالث - يجمع الامرين جميعا. و (لامستم) بمعناه عند أكثر الناس، إلا أنه حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: الاولى في اللغة أن يكون (لامستم) بمعنى قبلتم أو نظيره، لان لكل واحد منهما فعلا. قال: و (لمستم) بمعنى غشيتم ومسستم، وليس للمرأة في هذا فعل. واختلف العلماء في حكم الآية على مذاهب خمسة، فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء، فلم يدخل في المعنى المراد بقوله: (وإن كنتم مرضى) الآية، فلا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، روي هذا القول عن عمر وابن مسعود. قال أبو عمر: ولم يقل بقول عمرو عبد الله في هذه المسألة أحد من فقهاء الامصار من أهل الرأي وحملة الآثار، وذلك والله أعلم لحديث عمار وعمر ان ابن حصين وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب. وقال أبو حنيفة عكس هذا القول، فقال: الملامسة هنا مختصة باللمس الذي هو الجماع. فالجنب يتيمم واللامس (1) من ج. (*)
[ 224 ]
بيده لم يجر له ذكر، فليس بحدث ولا هو ناقص لوضوئه. فإذا قبل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه، وعضدوا هذا بما رواه الدار قطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال عروة: فقلت لها من هي إلا أنت ؟ فضحكت. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذ. فإذا لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو مقتضى الآية. وقال علي ابن زياد: وإن كان عليها ثوب كثيف فلا شئ عليه، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء. وقال عبد الملك بن الماجشون: من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة فليتوضأ التذ أو لم يلتذ. قال القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى: والذي تحقق من مذهب مالك وأصحابه أن الوضوء إنما يجب لقصده اللذة دون وجودها، فمن قصد اللذة بلمسه فقد وجب عليه الوضوء، التذ بذلك أو لم يلتذ، وهذا معنى ما في العتبية من رواية عيسى عن ابن القاسم. وأما الانعاظ بمجرده فقد روى ابن نافع عن مالك أنه لا يوجب وضوءا ولا غسل ذكر حتى يكون معه لمس أو مذي. وقال الشيخ أبو إسحاق: من انعظ إنعاظا أنتقض وضوءه، وهذا قول مالك في المدونة. وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشئ من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلق نقض الطهر به، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الاوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه، لقوله تعالى: (فلمسوه بأيديهم (1)). فهذه خمسة مذاهب أسدها (2) مذهب مالك، وهو مروي عن عمر وابنه عبد الله، وهو قول عبد الله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع، وأن الوضوء يجب بذلك، وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء. قال ابن العربي: وهو الظاهر من معنى الآية، فإن قوله في أولها: (ولا جنبا) أفاد الجماع، وإن قوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط) أفاد الحدث، وإن قوله: (أو لامستم) أفاد اللمس والقبل. فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام، وهذه غاية في العلم والاعلام. ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام. (1) راجع ج 6 ص 392 (2) في ج وط: أشدها بالمعجمة. (*)
[ 225 ]
قلت: وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مرسل، رواه وكيع عن الاعمش عن حبيب بن أبي ثابث عن عروة، عن عائشة. قال يحيى بن سعيد: وذكر حديث الاعمش عن حبيب عن عمروة فقال: أما إن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيبا لم يسمع من عروة شيئا، قال الدار قطني. فإن قيل: فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به. قلنا: تركناه لظاهر الآيو عمل الصحابة. فإن قيل: إن الملامسة هي الجماع وقد روي ذلك عن ابن عباس. قلنا: قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبد الله بن مسعود وهو كوفي، فما لكم خالفتموه ؟ ! فإن قيل: الملامسة من باب المفاعلة، ولا تكون إلا من اثنين، واللمس باليد إنما يكون من واحد، فثبت أن الملامسة هي الجماع. قلنا: الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين، لان كل واحد منهما يوصف لامس وملموس. جواب آخر - وهو أن الملامسة قد تكون من واحد، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، والثوب ملموس وليس بلامس، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه (وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام). وتقول العرب: عاقبت اللص وطارقت النعل، وهو كثير. فإن قيل: لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث، وهو المجئ من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة، فبين حكم الحدث والجنابة عند عدم الماء، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء. قلنا: لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس، ويفيد الحكمين كما بينا. وقد قرئ (لمستم) كما ذكرنا. وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا، وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء، إلا الشعر، فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة، وكذلك السن والظفر، فإن ذلك مخالف للبشرة. ولو احتاط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنا. ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك
[ 226 ]
أو لم يلتذ لم يكن عليهما شئ حتى يفضي إلى البشرة، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية. و اختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها، فمرة قال: ينتقض الوضوء، لقوله تعالى: (أو لامستم النساء) فلم يفرق. والثاني لا ينقض، لانه لا مدخل للشهوة فيهن. قال المروزي: قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب، لان الله عزوجل قال: (أو لامستم النساء) ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة، وكذلك الذين أوجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة. قال: وكذلك عامة التابعين. قال المروزي: فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد، ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما. قال: ولا يصح ذلك في النظر، لان من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته، وغير مماس لها في الحقيقة، إنما هو لامس لثوبها. وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمس لم يجب عليه وضوء، فكذلك من لمس فوق الثوب لانه غير مماس للمرأة. قلت: أما ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قوله إلا الليث بن سعد، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر أن ذلك قول إسحاق وأحمد، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا: إذا لمس فألتذ وجب الوضوء، وإن لم يلتذ فلا وضوء. وأما قوله: (ولا يصح ذلك في النظر) فليس بصحيح، وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما ثانيا، [ قالت (1) ] والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس، وأنه غمز رجلى عائشة، كما في رواية القاسم عن عائشة (فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما) أخرجه البخاري. فهذا يخص عموم قوله: (أو لامستم) فكان واجبا لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف (2) لامس. ودلت السنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض، وهو من لم يلتذ ولم يقصد. (1) من ز، ط، ح، ج. (2) في ا وح: حيث. (*)
[ 227 ]
ولا يقال: فلعله كان على قدمي عائشة ثوب، أو كان يضرب رجليها بكمه، فإنا نقول: حقيقة الغمز إنما هو باليد، ومنه غمزك الكبش أي تجسه لتنظر أهو سمين أم لا ؟ فأما أن يكون الغمز الضرب بالكم فلا. والرجل [ من النائم (1) ] الغالب عليها ظهورها من النائم، لاسيما مع امتداده وضيق حاله. فهذه كانت الحال في ذلك الوقت، ألا ترى إلى قولها: (وإذا قام بسطتهما) وقولها: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح). وقد جاء صريحا عنها قالت: (كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتهما، فإذا قام مددتهما) أخرجه البخاري. فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة. ودليل آخر - وهو ما روته عائشة أيضا رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان، الحديث. فلما وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض. فإن قيل: كان على قدمه حائل كما قاله المزني. قيل له: القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل، والاصل الوقوف مع الظاهر، بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنص. فإن قيل: فقد أجمعت الامة على أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها وهي لا تلتذ لذلك، أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسل واجب عليها، فكذلك حكم من قبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء، لان المعنى في الجسة واللمس والقبلة الفعل لا اللذة. قلنا: قد ذكرنا أن الاعمش وغيره قد خالف فيما أدعيتموه من الاجماع. سلمناه، لكن هذا استدلال بالاجماع في محل النزاع فلا يلزم، وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة. وقد قال الشافعي - فيما زعمتم - إنه لم يسبق إليه، وقد سبقه إليه شيخه مالك، كما هو مشهور عندنا (إذا صح الحديث فخذوا به ودعوا قولي) وقد ثبت الحديث بذلك فلم لا تقولون به ؟ ! ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه، إذ المقصود وجود (1) في ج وط وز. (*)
[ 228 ]
الفعل، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، والله أعلم. وروى الائمة مالك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها. وهذا يرد ما قاله الشافعي في أحد قوليه: لو لمس صغيرة لا نتقض طهره تمسكا بلفظ النساء، وهذا ضعيف، فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط. واختلف قوله في ذوات المحارم لاجل أنه لا يعتبر اللذة، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم، وهو وجوب الوضوء. وأما قول الاوزاعي في اعتباره اليد خاصة، فلان اللمس أكثر ما يستعمل باليد، فقصره عليه دون غيره من الاعضاء، حتى أنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها لا ينتقض بذلك وضوءه. وقال في الرجل يقبل امرأته: إن جاء يسألني قلت يتوضأ، وإن لم يتوضأ لم أعبه. وقال أبو ثور: لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها. وهذا يخرج على مذهب أبي حنيفة، والله أعلم. السابعة والعشرون - قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) الاسباب التي لا يجد المسافر معها الماء هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أو على (1) الرحل بسبب طلبه، أو يخاف لصوصا أو سباعا، أو فوات الوقت، أو عطشا على نفسه أو على غيره، وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه، فإذا كان أحد هذه الاشياء تيمم وصلى. ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله، أو يخاف من ضرره. ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الاصناف، أو بأن يسجن أو يربط. وقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا ضعيف، لان دين الله يسر. وقالت طائفة: يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا. وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاث ونحو هذا، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله. وقيل لاشهب: أتشترى القربة بعشرة دراهم ؟ فقال: ما أرى ذلك على الناس. وقال الشافعي بعدم الزيادة. (1) في ج: أو الرحل. (*)
[ 229 ]
الثامنة والعشرون - واختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا ؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط، وهو قول الشافعي. وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم، وهو قول أبي حنيفة. وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين (1) من طريقه فلا يعدل إليه. قال إسحاق: لا يلزمه الطلب إلا في موضعه، وذكر حديث ابن عمر، والاول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء. وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله، كالصوم مع العتق في الكفارة. التاسعة والعشرون - وإذا ثبت هذا وعدم الماء، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له، أو يتساوى عنده الامران، فهذه ثلاثة أحوال: فالاول - يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت: لانه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت. الثاني - يتيمم وسط الوقت، حكاه أصحاب مالك عنه، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه. الثالث - يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت، لان فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت، لان فضيلة أول الوقت مختلف فيها، وفضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار، قاله ابن حبيب. ولو علم وجود الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم: يجزئه، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة. وقال عبد الملك بن الماجشون: إن وجد الماء بعد (2) أعاد أبدا. (1) الغلوة (بفتح فسكون بعدها واو مفتوحة): قدر رمية بسهم، ويقال: هي قدر ثلا ثماثة ذراع إلى أربعمائة. (2) في ج وز وط: ان وجد الماء فلم يعد أعاد أبدا. (*)
[ 230 ]
الموفية ثلاثين - والذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه. وهذا قول مالك وأصحابه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وهو قول أكثر العلماء، لان الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين، إما الماء وإما التراب. فإن لم يكن (1) الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا، لان المطلوب من وجوده الكفاية. وقال الشافعي في القول الآخر: يستعمل ما معه من الماء ويتيمم، لانه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم، فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد. واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم، والصحيح أنه يعيد، لانه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط. والقول الآخر لا يعيد، وهو قول مالك، لانه إذا لم يعلمه فلم يجده. الحادية والثلاثون - وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير، لقوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) فقال: هذا نفي في نكرة، وهو يعم لغة، فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير، لا نطلاق اسم الماء عليه. قلنا: النفي في النكرة يعم كما قلتم، ولكن في الجنس، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح. فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه، كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد، وسيأتي حكم المياه في (الفرقان (2))، إن شاء الله تعالى. الثانية والثلاثون - وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشئ من الاشربة سوى النبيذ عند عدم الماء، وقوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) يرده. والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود، وليس بثابت، لان الذي رواه أبو زيد، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله، قاله ابن المنذر وغيره. وسيأتي في (الفرقان (2)) بيانه إن شاء الله تعالى. الثالثة والثلاثون - الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أو صاف خلقته. وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) (1) كذا في ج وط وز. وفى غيرها: يجد. (2) راجع ج 13 ص 39 (*)
[ 231 ]
فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء، لانه لفظ منكر يتناول كل جزء منه، سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه. ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء، فلما (1) كان كذلك لم يجز التيمم مع وجوده. وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه، واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة (الفرقان)، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى. الرابعة والثلاثون - قوله تعالى: (فتيمموا) التيمم مما خصت به هذه الامة توسعة عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الارض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا) وذكر الحديث، وقد تقدم ذكر نزوله، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه. وقد تقدم ذكر الاسباب التي تبيحه، والكلام ها هنا في معناه لغة وشرعا، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله، ومن يجوز له التيمم، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه. فالتيمم لغة هو القصد. تيممت الشئ قصدته، وتيممت الصعيد تعمدته، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه. وأنشد الخليل (2): يممته الرمح شزرا (3) ثم قلت له * هذي البسالة (4) لا لعب الزحاليق (5) قال الخليل: من قال [ في هذا البيت (6) ] أممته فقد أخطأ، لانه قال: (شزرا) ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه. وقال امرؤ القيس: تيممتها (7) من أذرعات وأهلها * بيثرب أدنى دارها نظر عال (1) في ج: فلو. (2) القائل هو عامر بن مالك ملاعب الاسنة، يعنى به ضرار بن عمرو الضبى. (3) الشزر (بمعجمة وزاى ساكنة): النظر عن اليمين والشمال، وليس بمستقيم الطريقة. وقيل: هو النظر بمؤخر العين كالمعرض المتغضب. (4) كذا في الاصول. وفى اللسان: (المروءة). (5) الزحاليق ؟: جمع زحلوقة، وهى آثار تزلج الصبيان من فوق إلى أسفل. (6) من ج وط. (7) كذا في الاصول وهى رواية. والمشهور كما في ديوانه وشرح الشواهد لسيبويه: (تنورتها): أي نظرت إلى نارها من أذرعات. و (أذرعات) بلد في أطراف الشام، يجاور أرض البلقاء وعمان، ينسب إليه الخمر. ويثرب: مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله. (*)
[ 232 ]
وقال أيضا: تيممت العين التي عند ضارج * يفئ عليها الظل عرمضها طامى (1) آخر: إني كذاك إذا ما ساءني بلد * يممت (2) بعيري غيره بلدا وقال أعشى بأهلة: تيممت قيسا وكم دونه * من الارض من مهمه ذي شزن (3) وقال حميد بن ثور: سل الربع أنى يممت أم طارق * وهل عادة للربع أن يتكلما وللشافعي رضى الله عنه: علمي معي حيثما يممت أحمله * بطني وعاء له لا بطن صندوق قال ابن السكيت: قوله تعالى: (فتيمموا صعيدا طيبا) أي اقصدوا، ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الانباري في قولهم: (قد تيمم الرجل) معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه. قلت: وهذا هو التيمم الشرعي، إذا كان المقصود به القربة. ويممت المريض فتيمم للصلاة. ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب، عن الشيباني. وأنشد: إنا وجدنا أعصر بن سعد * ميمم البيت رفيع المجد وقال آخر: أزهر لم يولد بنجم الشح * ميمم البيت كريم السنح (4) (1) ضارج: اسم موضع في بلاد بنى عبس. والعرمض: الطحلب. وقيل: الخضرة على الماء، والطحلب: الذى يكون كأنه نسخ العنكبوت. وطامى: مرتفع. (2) هكذا ورد البيت في جميع نسخ الاصل. ولعل الرواية: انى كذاك إذا ما ساءنى بلد * يممت وجه بعيرى غيره بلدا (3) المهمه: المفازة البعيدة. والشزن (بالتحريك): الغليظ من الارض. (4) البيت لرؤبة. وقد أراد بالسنخ النسخ (بالخاء المعجمة) فأبدل من الخاء حاء لمكان الشح، وبعضهم يرويه بالخاء، وجمع بينها وبين الحاء لانهما جميعا حرفا حلق. والسنخ (بكسر السين): الاصل من كل شئ. (عن السان). (*)
[ 233 ]
الخامسة والثلاثون - لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في (البقرة (1)) وفي هذه السورة و (المائدة (2)) والتي في هذه السورة هي آية التيمم. والله أعلم. وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحد، هما آيتان فيهما ذكر التيمم [ إحداهما (3) ] في (النساء) والاخرى في (المائدة). فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها: (فأنزل الله آية التيمم). ثم قال: وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم. قلت: أما قوله: (فلا نعلم أية آية عنت عائشة) فهي هذه الآية على ما ذكرنا. والله أعلم. وقوله: (وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم) فصحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير، لانه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل. وفي قوله: (فنزلت آية التيمم) ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء، وهذا بين لا إشكال فيه. السادسة والثلاثون - التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل، وقت الصلاة. وقال أبو حنيفة وصاحبا والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله، لان طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة، فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة. واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لابي ذر: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج). فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء، فحكمه إذا حكم (4) الماء. والله أعلم. ودليلنا قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد. وقد تقدم هذا المعنى، ولانها طهارة ضرورة كالمستحاضة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت). وهو قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس. (1) راجع ج 2 ص 325 (2) ج 6 ص 106 (3) الزيادة عن ابن العربي. (4) في ج: (كحكم). (*)
[ 234 ]
السابعة والثلاثون - وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا، لقوله عليه السلام لابي ذر: (إذا وجدت الماء فأمسه جلدك) إلا شئ روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، رواه ابن جريج وعبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه، ورواه ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث. وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة. قال ابن عبد البر: وهذا تناقض وقلة روية. ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة. الثامنة والثلاثون - وأجمعوا على أن من تيمم على ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة، لانه أدى فرضه كما أمر. فغير جائز أن توجب عليه الاعادة بغير حجة. ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل. وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول: يعيد الصلاة. واستحب الاوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب، لما رواه أبو سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الاجر مرتين). أخرجه أبو داود وقال: وغير [ ابن (1) ] نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبي سعيد في هذا الاسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدار قطني وقال فيه: ثم وجد الماء بعد [ في (2) ] الوقت. (1) زيادة عن أبى داود، لان عبد الله بن نافع هو راوي الحديث. (2) الزيادة عن الدار قطني. (*)
[ 235 ]
التاسعة والثلاثون - واختلف العلماء إذا وجد الماء بعد دخول في الصلاة، فقال مالك: ليس عليه قطع الصلاة واستعمال الماء وليتم صلاته وليتوضأ لما يستقبل، وبهذا قال الشافعي واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة وجماعة منهم أحمد بن حنبل والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها، لاجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض. قالوا: والذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة كذلك قياسا ونظرا. ودليلنا قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم (1)). وقد اتفق الجميع على جواز الدخول في. الصلاة بالتيمم عند عدم الماء، واختلفوا في قطعها إذا روي الماء، ولم تثبت سنة بقطعها ولا إجماع. ومن حجتهم أيضا أن من وجب عليه الصوم في ظهار أو قتل فصام منه أكثره ثم وجد رقبة لا يلغى صومه ولا يعود إلى الرقبة. وكذلك من دخل في الصلاة بالتيمم لا يقطعها ولا يعود إلى الوضوء بالماء. الموفية أربعين - واختلفوا هل يصلى به صلوات أم يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل، فقال شريك بن عبد الله القاضي: يتيمم لكل صلاة نافلة وفريضة. وقال مالك لكل فريضة، لان عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والحسن بن حي وداود: يصلي ما شاء بتيمو احد ما لم يحدث، لانه طاهر ما لم يجد الماء، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه. وما قلناه أصح، لان الله عزوجل أوجب على كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، وأوجب عند عدمه التيمم لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت، فهي طهارة ضرورة ناقصة بدليل إجماع المسلمين على بطلانها بوجود الماء وإن لم يحدث، وليس كذلك الطهارة بالماء. وقد ينبني هذا الخلاف أيضا في جواز التيمم قبل دخول الوقت، فالشافعي وأهل المقالة الاولى لا يجوزونه، لانه لما قال الله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت. وعلى هذا لا يصلى فرضين بتيمم واحد، وهذا بين. واختلف علماؤنا فيمن صلى صلاتي فرض (1) راجع ج 16 ص 254 (*)
[ 236 ]
بتيمم واحد، فروى يحيى بن يحيى عن ابن القاسم: يعيد الثانية ما دام في الوقت. وروى أبو زيد بن أبي الغمر عنه: يعيد أبدا. وكذلك روي عن مطرف وابن الماجشون يعيد الثانية أبدا. وهذا الذي يناظر عليه أصحابنا، لان طلب الماء شرط. وذكر ابن عبدوس أن ابن نافع روى عن مالك في الذي يجمع بين الصلاتين أنه يتيمم لكل صلاة. وقال أبو الفرج فيمن ذكر صلوات: إن قضاهن بتيمم واحد فلا شئ عليه وذلك جائز له. وهذا على أن طلب الماء ليس بشرط. والاول أصح. والله أعلم. الحادية والاربعون - قوله تعالى: (صعيدا طيبا) الصعيد: وجه الارض كان عليه تراب أو لم يكن، قاله الخليل وابن الاعرابي والزجاج. قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة، قال الله تعالى: (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جزرا (1)) أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا. وقال تعالى (فتصبح صعيدا زلقا (1)). ومنه قول ذي الرمة: كأنه بالضحى ترمي الصعيد به * دبابة في عظام الرأس خرطوم (2) وإنما سمي صعيدا لانه نهاية ما يصعد إليه من الارض. وجمع الصعيد صعدات، ومنه الحديث (إياكم والجلوس في الصعدات (3)). واختلف العلماء (4) فيه من أجل تقييده بالطيب، فقالت طائفة: يتيمم بوجه الارض كله ترابا كان أو رملا أو حجاره أو معدنا أو سبخة. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري. و (طيبا) معناه طاهرا. وقالت فرقة: (طيبا) حلالا، وهذا قلق. وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد التراب المنبت وهو الطيب، قال الله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه (5)) فلا يجوز التيمم عندهم على غيره. وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلا على تراب ذي غبار. وذكر عبد الرزاق عن ابن عباس أنه سئل أي الصعيد أطيب ؟ فقال: الحرث. قال أبو عمر: وفي قول ابن عباس هذا ما يدل على أن الصعيد يكون غير أرض الحرث. وقال علي رضي الله عنه: هو التراب (1) راجع ج 10 ص 355 وص 406 (2) الصعيد: التراب. والدبابة يعنى الخمر. والخرطوم: الخمر وصفوتها. يقول: ولد الظبية لا يرفع رأسه، وكأنه رجل سكران من ثقل نومه في وقت الضحى. (3) الصعدات: الطرق. (4) في ج وز وط: الفقهاء. (5) راجع ج 7 ص 312 (*)
[ 237 ]
خاصة. وفي كتاب الخليل: تيمم بالصعيد، أي خذ من غباره، حكاه ابن فارس. وهو يقتضي التيمم بالتراب فإن الحجر الصلد لا غبار عليه. وقال الكيا الطبري واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء. قال الكيا: ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصا فيما قال الشافعي، إلا أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الارض مسجدا وترابها طهورا) بين ذلك. قلت: فاستدل أصحاب هذه المقالة بقوله عليه السلام: (وجعلت تربتها لنا طهورا) وقالوا: هذا من باب المطلق والمقيد وليس كذلك، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كما قال تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان (1)) وقد ذكرناه في (البقرة) عند قوله (وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل (2)). وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الارض كما ذكرنا، وهو نص القرآن كما بينا، وليس بعد بيان الله بيان. وقال صلى الله عليه وسلم للجنب: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) وسيأتي. ف (صعيدا) على هذا ظرف مكان. ومن جعله للتراب فهو مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد. و (طيبا) نعت له. ومن جعل (طيبا) بمعنى حلالا نصبه على الحال أو المصدر. الثانية والاربعون - وإذا تقرر هذا فأعلم أن مكان الاجماع مما (3) ذكرناه أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومكان الاجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف والفضة والياقوت والزمرد والاطعمة كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره. ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره. وقال ابن خويز منداد: ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الارض، واختلف عنه في التيمم على الثلج ففي المدونة والمبسوط جوازه، وفي غيرهما منعه. واختلف المذهب في التيمم على العود، فالجمهور على المنع. وفي مختصر الوقار (4) أنه جائز. (1) راجع ج 17 ص 185. (2) راجع ج 2 ص 36 (3) في ط: فيما. (4) الوقار (كسحاب): لقب زكريا بن يحيى بن ابراهيم المصرى الفقيه. (*)
[ 238 ]
وقيل: بالفرق بين أن يكون منفصلا أو متصلا فأجيز على المتصل ومنع في المنفصل. وذكر الثعلبي أن مالكا قال: لو ضرب بيده على شجرة ثم مسح بها أجزأه. قال: وقال الاوزاعي والثوري: يجوز بالارض وكل ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها، حتى قالا: لو ضرب بيده على الجمد والثلج (1) أجزأه. قال ابن عطية: وأما التراب المنقول من طين أو غيره فجمهور المذهب على جواز التيمم به، وفي المذهب المنع وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالجص والآجر ففيه في المذهب قولان: الاجازة والمنع، وفي التيمم على الجدار خلاف. قلت: والصحيح الجواز لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الانصاري قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. أخرجه البخاري. وهو دليل على صحة التيمم بغبر التراب كما يقول مالك ومن وافقه. ويرد على الشافعي ومن تابعه في أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار يعلق باليد. وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران. قال ابن عطية: وهذا خطأ بحت من جهات. قال أبو عمر: وجماعة العلماء على إجازة التيمم بالسباخ إلا إسحاق ابن راهويه. وروي عن ابن عباس فيمن أدركه التيمم وهو في طين قال يأخذ من الطين فيطلي به بعض جسده، فإذا جف تيمم به. وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللبد. قال الثعلبي: وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزرنيخ والنورة والجص والجوهر المسحوق. قال: فإذا تيمم بسحالة (2) الذهب والفضة والصفر (3) والنحاس والرصاص لم يجزه، لانه ليس من جنس الارض. الثالثة والاربعون - قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) المسح لفظ مشترك يكون بمعنى الجماع، يقال: مسح الرجل المرأة إذا جامعها. والمسح: مسح الشئ بالسيف (1) الجمد (بالتحرك): الماء الجامد. (2) السحالة: برادة الذهب الخ. (3) الصفر (بالضم): الذى تعمل منه الاواني. (*)
[ 239 ]
وقطعه به. ومسحت الابل يومها إذا سارت. والمسحاء المرأة الرسحاء التي لا است لها. وبفلان مسحة من جمال. والمراد هنا بالمسح عبارة عن جراليد على الممسوح خاصة، فإن كان بآلة فهو عبارة عن نقل الآلة إلى اليد وجرها على الممسوح، وهو مقتضى قوله تعالى في آية المائدة: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه (1)). فقوله (منه) يدل على أنه لا بد من نقل التراب إلى محل التيمم. وهو مذهب الشافعي ولا نشترطه نحن، لان النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع يديه على الارض ورفعهما نفخ فيهما، وفي رواية: نفض. وذلك يدل على عدم اشتراط الآلة، يوضحه تيممه على الجدار. قال الشافعي: لما لم يكن بد في مسح الرأس بالماء من بلل ينقل إلى الرأس، فكذلك المسح بالتراب لا بد من النقل. ولا خلاف في أن حكم الوجه في التيمم والوضوء الاستيعاب وتتبع مواضعه، وأجاز بعضهم ألا يتتبع كالغضون في الخفين وما بين الاصابع في الرأس، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة، حكاه ابن عطية. وقال الله عز وجل: (بوجوهكم وأيديكم) فبدأ بالوجه قبل اليدين وبه قال الجمهور. ووقع في البخاري من حديث عمار في (باب التيمم ضربة) ذكر اليدين قبل الوجه. وقاله بعض أهل العلم قياسا على تنكيس الوضوء. الرابعة والاربعون - واختلف العلماء أين يبلغ بالتيمم في اليدين، فقال ابن شهاب: إلى المناكب. وروي عن أبي بكر الصديق. وفي مصنف أبي داود عن الاعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه. قال ابن عطية: ولم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت. وقيل: يبلغ به إلى المرفقين قياسا على الوضوء. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث كلهم يرون بلوغ المرفقين بالتيمم فرضا واجبا. وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وابن نافع، وإليه ذهب إسماعيل القاضي. قال ابن نافع: من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا. وقال مالك في المدونة: يعيد في الوقت. وروى التيمم إلى المرفقين عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر بن عبد الله وابن عمر (1) راجع ج 6 ص 106 (*)
[ 240 ]
وبه كان يقول. قال الدار قطني: سئل قتادة عن التيمم في السفر فقال: كان ابن عمر يقول إلى المرفقين. وكان الحسن وإبراهيم النخعي يقولان إلى المرفقين. قال: وحدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إلى المرفقين). قال أبو إسحاق: فذكرته لاحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه !. وقالت طائفة: يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان. روي عن علي بن أبي طالب والاوزاعي وعطاء والشعبي في رواية، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والطبري. وروي عن مالك وهو قول الشافعي في القديم. وقال مكحول: اجتمعت أنا والزهري فتذاكرنا التيمم فقال الزهري: المسح إلى الآباط. فقلت: عمن أخذت هذا ؟ فقال: عن كتاب الله عز وجل، إن الله تعالى يقول: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) فهي يد كلها. قلت له: فإن الله تعالى يقول: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (1)) فمن أين تقطع اليد ؟ قال: فخصمته. وحكي عن الدراوردي (2) أن الكوعين فرض والآباط فضيلة. قال ابن عطية: هذا قول لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظ اليد فأوجبوه من المنكب: وقاس قوم علي الوضوء فأوجبوه من المرافق وههنا جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضا على القطع إذ هو حكم شرعي وتطهير كما هذا تطهير، ووقف قوم مع حديث عمار في الكفين. وهو قول الشعبي. الخامسة والاربعون - واختلف العلماء أيضا هل يكفي في التيمم ضربة واحدة أم لا ؟ فذهب مالك في المدونة أن التيمم بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين، وهو قول الاوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم، والثوري والليث وابن أبي سلمة. ورواه جابر بن عبد الله وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الجهم: التيمم بضربة واحدة. وروي عن الاوزاعي في الاشهر عنه، وهو قول عطاء والشعبي في رواية. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وداود والطبري. وهو أثبت ما روي في ذلك من حديث عمار. قال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة واحدة أجزأه. وقال ابن نافع: يعيد أبدا. قال أبو عمر وقال ابن (1) راجع ج 6 ص 159 (2) كذا في الاصول. وفى ابن عطية: (الداودى). (*)
[ 241 ]
أبي ليلى والحسن بن حي: ضربتان، يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه. ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. قال أبو عمر: لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه، ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر، فإنه من لا يدفع علمه بكتاب الله. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شئ وجب الوقوف عنده. وبالله التوفيق. قوله تعالى: (ان الله كان عفوا غفورا) أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا (1) يعاقب. قوله تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدآئكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) من الذين هاذوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولاكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قيلا (46) يا أيها الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنآ أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذالك لمن يشآء ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما (48) ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) (1) في ج، ط: فلم يعاقب. (*)
[ 242 ]
انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به اثما مبينا (50) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هاولاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا (51) أولائك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52) أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) إلى قوله تعالى: (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه) الاية (1). نزلت في يهود المدينة وما والاها. قال ابن إسحاق: وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال: أرعنا سمعك (2) يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الاسلام وعابه فأنزل الله عز وجل (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) إلى قوله (قليلا). ومعنى (يشترون) يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى، كما قال تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى (3)) قاله القتبي وغيره. (ويريدون أن تضلوا السبيل) عطف عليه، والمعنى تضلوا طريق الحق. وقرأ الحسن: (تضلوا) بفتح الضاد أي عن السبيل. قوله تعالى: (والله أعلم بأعد ائكم) يريد منكم، فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم. ويجوز أن يكون (أعلم) بمعنى عليم، كقوله تعالى (وهو أهون عليه (4)) أي هين. (وكفى بالله وليا) الباء زائدة، زيدت لان المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم. و (وليا) و (نصيرا) نصب على البيان، وإن شئت على الحال. قوله تعالى: (من الذين هادوا) قال الزجاج: إن جعلت (من) متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله (نصيرا)، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على (نصيرا) والتقدير (1) في ج، ط. (2) في ج، ط: سمعا. (3) راجع ج 1 ص 210 (4) راجع ج 14 ص 20 (*)
[ 243 ]
من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، ثم حذف. وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون: لو قلت ما في قومها لم تيثم (1) * يفضلها في حسب ومبسم قالوا: المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف. وقال الفراء المحذوف (من) المعنى: من الذين هادوا من يحرفون. وهذا كقوله تعالى: (وما منا إلاله مقام معلوم (2)) أي من له. وقال ذو الرمة: فظلوا ومنهم دمعه سابق (3) له * وآخر يذري (3) عبرة العين بالهمل يريد ومنهم من دمعه، فحذف الموصول. وأنكره المبرد والزجاج، لان حذف الموصول كحذف بعض الكلمة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي (الكلام). قال النحاس: و (الكلم) في هذا أولى، لانهم إنما يحرفون كلم النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام، ومعنى (يخرفون) يتأولونه على غير تأويله. وذمهم الله تعالى بذلك لانهم يفعلونه متعمدين. وقيل: (عن مواضعه) يعنى صفة النبي صلى الله عليه وسلم. (ويقولون سمعنا وعصينا) أي سمعنا قولك وعصينا أمرك. (واسمع غير مسمع) قال ابن عباس: كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم: اسمع لاسمعت، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى. وقال الحسن ومجاهد: معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول. قال النحاس: ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك. وتقدم القول في (راعنا (4)). ومعنى (ليا بألسنتهم) أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم. وأصل اللى القتل، وهو نصب على المصدر، وان شئت كان مفعولا من أجله. وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء. (وطعنا) معطوف عليه أي يطعنون في الذين، أي يقولون لاصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول. ومعنى (أقوم) أصوب لهم (1) تيئم (بكسر التاء): وهى لغة لبعض العرب، وذلك أنهم يكسرون حرف المضارعة في نحو تعلم وتعلم، فلما كسروا التاء. انقلبت الهمزة ياء. والميم (بوزن المجلس): الثغر. (2) راجع ج 15 ص 137 (3) في ديوان ذى الرمة: (غالب) و (يثنى). وهملان العين فيضانها بالدمع. ويذرى: يصيب. (4) راجع ج 2 ص 57 (*)
[ 244 ]
في الرأى (فلا يؤمنون إلا قليلا) أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الايمان. وقيل: معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم، وهذا بعيد لانه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم. قوله تعالى: (يا أيها الذين أتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا) قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الاعور وكعب بن أسد فقال لهم: (يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق) قالوا: ما نعرف ذلك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر، فأنزل الله عز وجل فيهم (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها) إلى آخر الاية. (مصدقا لما معكم) نصب على الحال. (من قبل أن نطمس وجوها) الطمس استئصال أثر الشئ، ومنه قوله تعالى: (فإذا النجوم طمست (1)). ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان. ويقال في الكلام: طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس، يقال: طمس الاثر وطسم أي امحى، كله لغات، ومنه قوله تعالى: (ربنا اطمس على أموالهم (2)) أي أهلكها، عن ابن عرفة. ويقال: طمسته فطمس لازم ومتعد. وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين، ومنه قوله تعالى: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم (3)) يقول أعميناهم. واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية، هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالانف والفم والحاجب والعين. أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان. روي عن أبي بن كعب أنه قال: (من قبل أن نطمس) من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة. وقال قتادة: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء. أي يذهب بالانف والشفاه والاعين والحواجب، هذا معناه عند أهل اللغة. وروي عن ابن عباس وعطية العوفي: أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا، فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وقال مالك (1) راجع ج 19 ص 152 (2) راجع ج 8 ص 373 (3) راجع ج 15 ص 48 (*)
[ 245 ]
رحمه الله: كان أول إسلام كعب الاحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا) فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وكذلك فعل عبد الله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. فإن قيل: كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا [ ثم لم يؤمنوا (1) ] ولم يفعل ذلك بهم، فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد: الوعيد باق منتظر. وقال: لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة. قوله تعالى: (أو نلعنهم) أي أصحاب الوجوه (كما لعنا أصحاب السبت) أي نمسخهم قردة وخنازير، عن الحسن وقتادة. وقيل: هو خروج من الخطاب إلى الغيبة. (وكان أمر الله مفعولا) أي كائنا موجودا. ويراد بالامر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول، فالمعنى أنه متى أراده أوجده. وقيل: معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به. قوله تعالى: (ان الله لا يغفر أن يشرك به) روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا (إن الله يغفر الذنوب جميعا (2)) فقال له رجل: يا رسول الله والشرك ! فنزل (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الامة. (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه. فقال محمد بن جرير الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بين الله تعالى ذلك بقوله: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم (3)) فأعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر (الفرقان (3)). قال زيد بن ثابت: نزلت سورة (النساء) بعد (الفرقان) بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ، لان النسخ في الاخبار (1) في ج. (2) راجع ج 15 ص 267 (3) راجع ص 158 من هذا الجزء. (*)
[ 246 ]
يستحيل. وسيأتي [ بيان (1) ] الجمع بين الآي في هذه السورة وفي (الفرقان (2)) إن شاء الله تعالى. وفى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قال: هذا حديث حسن غريب. قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه)، وقولهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وقال الضحاك والسدي: قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالاطفال في عدم الذنوب. وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم الصغار للصلاة، لانهم لا ذنوب عليهم. وهذا يبعد من مقصد الآية. وقال ابن عباس: ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا. وقال عبد الله ابن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض. وهذا أحسن ما قيل، فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية: التطهير والتبرية (3) من الذنوب. الثانية: هذه الآية وقوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم (4)) يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والاعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عزوجل فلا عبرة بتزكية الانسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له. وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البرمنكم) فقالوا: بم نسميها ؟ فقال: (سموها زينب). فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الانسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية، كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الاسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها (5) فصارت لا تفيد شيئا. (1) من ج وط (2) راجع ج 13 ص 77 (3) في ز: التنزيه. (4) راجع ج 17 ص 105 (5) في ج: أهلها. (*)
[ 247 ]
الثالثة - فأما تزكية الغير ومدحه له، ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا) فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الاعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله، ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق صاحبك). وفي الحديث الآخر (قطعتم ظهر الرجل) حين وصفوه بما ليس فيه. وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: (آحثوا التراب في وجوه المداحين) إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والامر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النيات (والله يعلم المفسد من المصلح). وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك. كقول أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للارامل وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال: (إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع). وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله) فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا. وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم، لان ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ 248 ]
قوله تعالى: (ولا يظلمون فتيلا) الضمير في (يظلمون) عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عزوجل. وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية. والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما، فهو فعيل بمعنى مفعول. وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشئ وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئا. ومثل هذا في التحقير قوله تعالى: (ولا يظلمون نقيرا (1)) وهو النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي. قال الشاعر يذم بعض الملوك: تجمع الجيش ذا الالوف وتغزو * ثم لا ترزأ العدو فتيلا ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: (أنظر كيف يفترون على الله الكذب) في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل: تزكيتهم لانفسهم، عن ابن جريج. وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد. والافتراء الاختلاق، ومنه أفترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه. وفريت الشئ قطعته. (وكفى به اثما مبينا) نصب على البيان. والمعنى تعظيم الذنب وذمه. العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم. قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) يعني اليهود (يؤمنون بالجبت والطاغوت) اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت، فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن. وقال الفاروق عمر رضي الله عنه: الجبت السحر والطاغوت الشيطان. ابن مسعود: الجبت والطاغوت هاهنا كعب ابن الاشرف وحيي بن أخطب. عكرمة: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب ابن الاشرف، دليله قوله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت). قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. قال: وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان، ذكره النحاس. وقيل: هما (2) كل (1) راجع ص 399 من هذا الجزء. (2) في ج: هو. (*)
[ 249 ]
معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله، وهذا حسن. وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين، قاله قطرب. وقيل: الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه. وقول مالك في هذا الباب حسن، يدل عليه قوله تعالى: (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (1)) وقال تعالى: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها (2)). وروى قطن (3) بن المخارق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطرق والطيرة والعيافة من الجبت). الطرق الزجر، والعيافة الخط (4)، خرجه أبو داود في سننه. وقيل: الجبت كل ما حرم الله، والطاغوت كل ما يطغي الانسان. والله أعلم. قوله تعالى: (ويقولون للذين كفروا) أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد. وذلك أن كعب بن الاشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد، فقال أبو سفيان: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد ؟ فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد. قوله تعالى: (أم لهم نصيب من الملك) أي ألهم ؟ والميم صلة. (نصيب) حظ (من الملك) وهذا على وجه الانكار، يعني ليس لهم من الملك شئ، ولو كان لهم منه شئ لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم. وقيل: المعنى بل ألهم نصيب، فتكون أم منقطعة ومعناها الاضراب عن الاول والاستئناف للثاني. وقيل: هي عاطفة على محذوف، لانهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟. (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) أي يمنعون الحقوق. خبر الله عزوجل عنهم بما يعلمه منهم. والنقير: النكتة في ظهر النواة، عن ابن عباس وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس أيضا: (1) راجع ج 10 ص 103 (2) راجع ج 15 ص 243 (3) قطن بن قبيصة الخ - التهذيب. (4) في سنن أبى داود: (قال عوف: العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط في الارض). والذى في اللسان: (الطرق الضرب بالحصى: وقيل: هو الخط في الرمل. والطيرة: بوزن العنبة وقد تسكن الياء، وهو ما يتشاهم به من الفأل الردئ. والعيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من عادة العرب كثيرا).
[ 250 ]
النقير: ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الارض. وقال أبو العالية: سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الابهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال: هذا النقير. والنقير: أصل خشبة ينقر وينبذ فيه، وفيه جاء النهي ثم نسخ. وفلان كريم النقير أي الاصل. و (إذا) هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: (إذا) في عوامل الافعال بمنزلة (أظن) في عوامل الاسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت، كقولك: [ أنا (1) ] أزورك، فيقول مجيبا لك: إذا أكرمك. قال عبد الله بن عنمة الضبي: اردد حمارك لا يرتع بروضتنا * إذن يرد وقيد العير مكروب (2) نصب لان الذي قبل (إذن) تام فوقعت ابتداء كلام. فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك: زيد إذا يزورك ألغيت، فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجوز فيها الاعمال والالغاء، أما الاعمال فلان ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا. وفي التنزيل (وإذا لا يلبثون (3)) وفي مصحف أبى (وإذا لا يلبثوا). وأما الالغاء فلان ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه (إذا) لمضارعتها (أن)، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا (4). وزعم الفراء أن إذا تكتب بالالف وأنها منونة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذا بالالف، إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف. قوله تعالى: أم يحسدون الناس على ما ءاتائهم الله من فضله فقد ءاتينآ ءال ابراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه وكفاى بجهنم سعيرا (55) (1) من ز وط. (2) كربت القيد إذا ضيقته على المقيد. والمعنى: لا تعرضن لستمنا فانا قادرون على تقييد هذا العير ومنعه من التصرف. (اللسان). (3) راجع ج 10 ص 301 (4) في ج: اذن. (*)
[ 251 ]
فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أم يحسدون) يعنى اليهود. (الناس) يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. حسدوه على النبوة وأصحابه على الايمان به. وقال قتادة: (الناس) العرب، حسدتهم اليهود على النبوة. الضحاك: حسدت اليهود قريشا، لان النبوة فيهم. والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد. وقال عبد الله ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله. قيل له: ومن يعادي نعم الله ؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب: الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي. ولمنصور الفقيه: ألا قل لمن ظل لي حاسدا * أتدري على من أسأت الادب أسأت على الله في حكمه * إذا أنت لم ترض لي ما وهب ويقال: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الارض، فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الارض فحسد قابيل لهابيل. ولابي العتاهية في الناس: فيا رب إن الناس لا ينصفونني * فكيف ولو أنصفتهم ظلموني وإن كان لي شئ تصدوا لاخذه * وإن شئت أبغي شيئهم منعوني وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم * وإن أنا لم أبذل لهم شتموني وإن طرقتني نكبة فكهوا بها * وإن صحبتني نعمة حسدوني سأمنع قلبي أن يحن إليهمو * وأحجب عنهم ناظري وجفوني وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك. ولرجل من قريش: حسدوا النعمة لما ظهرت * فرموها بأباطيل الكلم وإذا ما الله أسدى نعمة * لم يضرها قول أعداء النعم
[ 252 ]
ولقد أحسن من قال: أصبر على حسد الحسو * د فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها * إن لم تجد ما تأكله وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى: (ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين (1)). إنه إنما أراد بالذي (2) من الجن إبليس والذي من الانس قابيل، وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد. وقال الشاعر: إن الغراب وكان يمشي مشية * فيما مضى من سالف الاحوال حسد القطاة فرام يمشي مشيها * فأصابه ضرب من التعقال الثانية - قوله تعالى: (فقد آتينا) ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث: أيدوا بالملائكة. وقيل: يعني ملك سليمان، عن ابن عباس. وعنه أيضا: المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك. واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء. والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم: لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك، فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ألف امرأة) ؟ ! قالوا: نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة) ؟ فسكتوا. وكان له يومئذ تسع نسوة. الثالثة - يقال: إن سليمان عليه السلام كان أكثر الانبياء نساء. والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا. ويقال: إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة، لان لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الاب وقبيلة من جهة الام، (1) راجع ج 15 ص 357 (2) في ج: اللذين. (*)
[ 253 ]
فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه. ويقال: إن كل من كان أتقى فشهوته أشد، لان الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس، ألا ترى ما روى في الخبر: (العينان تزنيان واليد ان تزنيان). فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا. وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب، ولهذا كان الانبياء يفعلون ذلك. الرابعة - قوله تعالى: (فمنهم من آمن به) يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لانه تقدم ذكره وهو المحسود. (ومنهم من صد عنه) أعرض فلم يؤمن به. وقيل: الضمير في (به) راجع إلى إبراهيم. والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه. وقيل: يرجع إلى الكتاب. والله أعلم. قوله تعالى: ان الذين كفروا باياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ان الله كان عزيزا حكيما (56) والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سند خلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) قد تقدم معنى الاصلاء أول السورة (1). وقرأ حميد بن قيس (نصليهم) بفتح النون أي نشويهم. يقال: شاة مصلية. ونصب (نارا) على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار. (كلما نضجت جلودهم) يقال: نضج الشئ نضجا (2) ونضجا، وفلان نضيج الرأي محكمه. والمعنى في الآية: تبدل الجلود جلودا أخر. فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له: ليس الجلد بمعذب ولا معاقب، (1) راجع المسألة الثانية ص 53 من هذا الجزء. (2) في ج وط وز: لضاجا. ولم نقف عليه. (*)
[ 254 ]
وإنما الالم واقع على النفوس، لانها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. يدل عليه قوله تعالى: (ليذوقوا العذاب) وقوله تعالى: (كلما خبت زدناهم سعيرا (1)). فالمقصود تعذيب الابدان وإيلام الارواح. ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب. مقاتل: تأكله النار كل يوم سبع مرات. الحسن: سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا فعادوا كما كانوا. ابن عمر: إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس. وقيل: عنى (2) بالجلود السرابيل، كما قال تعالى: (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد سرابيلهم من قطران (3)) سميت جلود اللزومها جلودهم على المجاورة، كما يقال للشئ الخاص بالانسان: هو جلدة ما بين عينيه. وأنشد ابن عمر رضي الله عنه: يلومونني في سالم وألومهم * وجلدة بين العين والانف سالم فكلما احترقت السرابيل أعيدت. قال الشاعر: كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها * فويل لتيم من سرابيلها الخضر فكنى عن الجلود بالسرابيل. وقيل: المعنى أعدنا الجلد الاول جديدا، كما تقول للصائغ: صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره، فيكسره ويصوغ لك منه خاتما. فالخاتم المصوغ هو الاول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة. وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شئ ثم أحياها الله تعالى. وكعهدك بأخ لك صحيح (4) ثم تراه [ بعد ذلك (5) ] سقيما مدنفا فتقول له: كيف أنت ؟ فيقول: أنا غير الذي عهدت. فهو هو، ولكن حاله تغيرت. فقول القائل: أنا غير الذي عهدت، وقوله تعالى: (غيرها) مجاز. ونظيره قوله تعالى: (يوم تبدل الارض غير الارض (3)) وهي تلك الارض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها، على ما يأتي بيانه في سورة (إبراهيم (3)) عليه السلام. ومن هذا المعنى قول الشاعر: فما الناس بالناس الذين عهدتهم * ولا الدار بالدار التي كنت أعرف (1) راجع ج 10 ص 333 (2) في ج: المراد. (3) راجع ج 9 ص 382، 385 (4) في ا وح: صحيحا. (5) من ج وط. (*)
[ 255 ]
وقال الشعبي: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة ! ذمت دهرها، وأنشدت بيتي لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خلف (1) كجلد الاجرب يتلذذون مجانة ومذلة * ويعاب قائلهم وإن لم يشغب فقالت: رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت (عاد) دهرها، لانه وجد في خزانة (عاد) بعدما هلكوا بزمن طويل سهم كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب: بلاد بها كنا ونحن بأهلها (2) * إذ الناس ناس والبلاد بلاد البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت. (ان الله كان عزيزا) أي لا يعجزه شئ ولا يفوته. (حكيما) في إيعاده عباده. وقوله في صفة أهل الجنة: (وندخلهم ظلا ظليلا) يعني كثيفا لا شمس فيه. الحسن: وصف بأنه ظليل، لانه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك. وقال الضحاك: يعني ظلال الاشجار وظلال قصورها. الكلبي: (ظلا ظليلا) يعني دائما. قوله تعالى: ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعا بصيرا (58) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: (ان الله يأمركم أن نؤدوا الامانات) هذه الآية من أمهات الاحكام تضمنت جميع الدين والشرع. وقد اختلف من المخاطب بها، فقال علي بن أبى طالب (1) الخلف (بسكون اللام): الاردياء الاخساء. والمجانة: الا يبالى الانسان بما صنع وما قيل له. ويروى: يتحدثون مخانة وملاذة. والمخانة مصدر من الخيانة والميم زائدة. ويشغب: يمبل عن الطريق والقصد. (2) في ج وط وز: من اهلها. (*)
[ 256 ]
وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهى للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه، ثم تتناول من بعدهم. وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبد الدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الاوثان، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا عثمان وشيبة فقال: (خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم). وحكى مكي: أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح، ثم دفعه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: خذه بأمانة الله. وقال ابن عباس: الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الازواج. والاظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الامانات في قسمة الاموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات. وهذا اختيار الطبري. وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها) أو قال: (كل شئ إلا الامانة (1) - والامانة في الصلاة والامانة في الصوم والامانة في الحديث وأشد ذلك الودائع). ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية. وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي ابن كعب قالوا: الامانة في كل شئ في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الامانة. قلت: وهذا إجماع. وأجمعوا على أن الامانات مردودة إلى أربابها الابرار منهم والفجار، قاله ابن المنذر. والامانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع. ووجه النظم بما (1) تقدم الحديث (القتل في سبيل الله يكفر كل شئ الا الدين) راجع ص 272 ج 4 فما بعد. (*)
[ 257 ]
تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الامانات، فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا. وأمهاتها في الاحكام: الوديعة واللقطة والرهن والعارية. وروى أبي بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). أخرجه الدار قطني. ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في (البقرة (1)) معناه. وروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: (العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضى والزعيم غارم). صحيح أخرجه الترمذي وغيره. وزاد الدار قطني: فقال رجل: فعهد الله ؟ قال: (عهد الله أحق ما أدي). وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة - على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدي فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب. وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي. وهذا قول الحسن البصري والنخعي، وهو قول الكوفيين والاوزاعي قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: (العارية مؤداة) هو كمعنى قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها). فإذا تلفت الامانة لم يلزم المؤتمن غرمها لانه مصدق، فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد، لانه لم يأخذها على الضمان، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها. وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية. وروى الدار قطني عن، عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضمان على مؤتمن). واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الادراع: أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال: (بل عارية مؤداة). (1) راجع ج 3 ص 406 فما بعدها.. (*)
[ 258 ]
الثانية - قوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) قال الضحاك: بالبينة على المدعى واليمين على من أنكر. وهذا خطاب للولاة والامراء والحكام، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الامانات. قال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). وقال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالامام راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). فجعل في هذه الاحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة وحكاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم، لانه إذا أفتى (1) حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يقضى. وقد تقدم في (البقرة (2)) القول في (نعما). (ان الله كان سميعا بصيرا) وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى، كما قال تعالى: (إننى معكما أسمع وأرى (3)) فهذا طريق السمع. والعقل يدل على ذلك، فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضيهما من العمى والصمم، إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الافعال الكاملة من المتصف بالنقائص، كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر. وأجمعت الامة على تنزيهه تعالى عن النقائص. وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الاسلام. جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون (سبحان ربك رب العزة عما يصفون (4)). قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذالك خير وأحسن تأويلا (59) (1) في ج وط وز: إذا حكم أفتى. (2) راجع ج 3 ص 332 (3) راجع ج 11 ص 201 (4) راجع ج 15 ص 140 (*)
[ 259 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الامانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته عزوجل أولا، وهي امتثال أو امره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الامراء ثالثا، على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. قال سهل بن عبد الله التستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والاوزان، والاحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد. قال سهل: وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا. وقال ابن خويز منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية، ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم، وتولية الامامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة. وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلي معهم تقية وتعاد الصلاة. قلت: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الامام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الامانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه، لان الله تعالى أمرنا بأداء الامانة والعدل، ثم أمر بطاعته. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: (أولو الامر) أهل القرآن والعلم، وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين. وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة. وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الاولاد فقال: هن حرائر. فقلت بأي شئ ؟ قال بالقرآن. قلت: بأي شئ في القرآن ؟ قال قال الله تعالى: (أطيعو الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) وكان عمر من أولي الام، قال: عتقت ولو بسقط. وسيأتي هذا المعنى مبينا
[ 260 ]
في سورة (الحشر) عند قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (1)). وقال ابن كيسان: هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس. قلت: وأصح هذه الاقوال الاول والثاني، أما الاول فلان أصل الام منهم والحكم إليهم. وروى الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. قال أبو عمر: وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة، ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا، فلما أو قدوها أمرهم بالتقحم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ؟ ! وقال: (من أطاع أميري فقد أطاعني). فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجوا من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم (2)). وهو حديث صحيح الاسناد مشهور. وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم (3) بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال: كان عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة. وذكر الزبير قال: حدثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب عن الليث بن سعد قال: بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع. قال ابن وهب: فقلت لليث ليضحكه ؟ قال: نعم كانت فيه دعابة. قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي: (أولوا الامر) أصحاب السرايا. وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول). فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة، ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما. قال سهل بن عبد الله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم (1) راجع ج 18 ص 10 فما بعدها. (2) تقدم في ص 149. (3) عمر بن الحكم بن ثوبان أبو حفص المدنى. (*)
[ 261 ]
وأخراهم. وأما القول الثالث فخاص، وأخص منه القول الرابع. وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا، فإن العقل لكل فضيلة أس، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الله التكليف بكماله، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه، والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل. وروى هذا المعنى عن ابن عباس. وزعم قوم أن المراد بأولي الامر علي والائمة المعصومون. ولو كان كذلك ما كان لقوله: (فردوه إلى الله والرسول) معنى، بل كان يقول فردوه إلى الامام وأولي الامر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة. وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور. وحقيقة الطاعة امتثال الامر، كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الامر. والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد. و (أولو) واحدهم (ذو) على غير قياس كالنساء والابل والخيل، كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه. وقد قيل في واحد الخيل: خائل وقد تقدم (1). الثانية - قوله تعالى: (فان تنازعتم في شئ) أي تجادلتم واختلفتم، فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها. والنزع الجذب. والمنازعة مجاذبة الحجج، ومنه الحديث (وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن (2)). وقال الاعشى: نازعتم قضب الريحان متكئا * وقهوة مزة راووقها (3) خضل [ الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة (4) ] (في شى) أي من أمر دينكم. (فردوه إلى الله ولرسول) أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، هذا قول مجاهد والاعمش وقتادة، وهو الصحيح. ومن لم ير هذا أختل إيمانه، لقوله تعالى (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر). وقيل: المعنى قولوا الله ورسوله أعلم، فهذا هو الرد. وهذا (1) راجع ج 4 ص 22. (2) في نهاية ابن الاثير ولسان العرب: (مالى أنازع القرآن). وينازعنى: يجاذبني في القراءة، ذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءته فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة في الصلاة خلفه. (3) الراووق: المصفاة. (4) الزيادة في ج. (*)
[ 262 ]
كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. والقول الاول أصح، لقول علي رضي الله عنه: ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، أو فهم أعطيه رجل مسلم. ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الامة والاستنباط الذي أعطيها، ولكن تضرب الامثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب. قال أبو العالية: وذلك قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم). نعم، ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه: الله أعلم. وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا (1)) وقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين (2)) فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر، ومثله كثير. وفي قوله تعالى: (وإلى الرسول) دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأفعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) أخرجه مسلم. وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الامر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه). وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله وسلم يخطب الناس وهو يقول: (أيحسب أحدكم متكئا (3) على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر). وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدى كرب بمعناه وقال: حديث حسن غريب. والقاطع قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم) فتنة (4)) الآية. وسيأتي. (1) راجع ج 16 ص 192 (2) راجع ج 3 ص 160 (3) قوله: (متكئا على أريكته): جالسا على سريره المزين، وهذا بيان لحماقته وسوء أديه كما هو دأب المتنعمين المغرورين بالمال. وقال الخطابى: أراد به أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا بالاسفار الحديث من أهله فيرده حيث لا يوافق هواه (عن ابن ماجه). (4) راجع ج 12 ص 322 (*)
[ 263 ]
الثالثة - قوله تعالى: (ذلك خير) أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع. (وأحسن تأويلا) أي مرجعا، من آل يئول إلى كذا أي صار. وقيل: من ألت الشئ إذا جمعته وأصلحته. فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه، يقال: أول الله عليك أمرك أي جمعه. ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم. قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضللا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61) روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لانه علم أنه لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم، لانه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم، فلما اختلفا أجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة، فأنزل الله تعالى في ذلك: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم امنوا بما أنزل إليك) يعني المنافق. (وما أنزل من قبلك) يعني اليهودي. (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) إلى قوله: (ويسلموا تسليما) وقال الضحاك: دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الاشرف وهو (الطاغوت). ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: كان بين رجل من المنافقين - يقال له بشر - وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الاشرف - وهو الذي سماه الله (الطاغوت) أي ذو الطغيان - فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي.
[ 264 ]
فلما خرجا قال المنافق: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر، فحكم لليهودي فلم يرض - ذكره الزجاج - وقال: أنطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي: إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض، فقال عمر للمنافق: أكذلك هو ؟ قال: نعم. قال: رويد كما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد (1)، وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي، ونزلت الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت الفاروق). ونزل جبريل وقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق. وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى قوله: (ويسلموا تسليما) النساء: وانتصب: (ضلالا) على المعنى، أي فيضلون ضلالا، ومثله قوله تعالى: (والله أنبتكم الارض نباتا (2)). وقد تقدم هذا المعنى مسوفى (3). و (صدودا) اسم للمصدر عند الخليل، والمصدر الصد. والكوفيون يقولون: هما مصدران. قوله تعالى: فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله ان أردنا الا احسانا وتوفيقا (62) أولائك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا (63) أي (فكيف) يكون حالهم، أو (فكيف) يصنعون (إذا أصابتهم مصيبة) أي من ترك بهم، وما يلحقهم من الذل في قوله: (فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا (4)). وقيل: يريد قتل صاحبهم (بما قدمت أيديهم) وتم الكلام. ثم ابتد يخبر عن فعلهم، وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الاحسان وموافقة الحق. وقيل: المعنى ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم، والاحسان بالتقريب في الحكم. ابن كيسان: عدلا (1) برد (بفتح الموحدة والراء): أي مات. (2) راجع ج 18 ص 305 (3) راجع ج 4 ص 69 (4) راجع ج 8 ص 217. (*)
[ 265 ]
وحقا، نظيرها (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى (1)) فقال الله تعالى مكذبا لهم: (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) قال الزجاج: معناه قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا: اعلموا أنهم منافقون. (فأعرض عنهم) قيل: عقابهم. وقيل: عن قبول أعتذارهم (عظهم) أي خوفهم. قيل في الملا. (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء. الحسن: قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم. وقد بلغ القول بلاغة، ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه. والعرب تقول: أحمق بلغ وبلغ، أي نهاية في الحماقة. وقيل: معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق. ويقال: إن قوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم) نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار (2)، فلما أظهر الله نفاقهم، وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم: ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب. قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفرلهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64) قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول) (من) زائدة للتوكيد. (الا ليطاع) فيما أمر به ونهى عنه. (باذن الله) يعلم الله. وقيل: بتوفيق الله. (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك) روى أبو صادق (3) عن علي قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه، فقال: قلت يارسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية، وقد ظلمت نفسي وجئتك (1) راجع ج 8 ص 252 فما بعدها. (2) هو مسجد بقياء، وهى قرية على بعد ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، وهذا المسجد يتطوع العوام بهدمه. (معجم البلدان). (3) الازدي الكوفى أرسل عن على. (*)
[ 266 ]
تستغفر لي. فنودي من القبر أنه قد غفر لك. ومعنى (لوجدوا الله توابا رحيما) أي قابلا لتوبتهم، وهما مفعولان لا غير. قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) فيه خمس مسائل: الاولى - قال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت. وقال الطبري: قوله (فلا) رد على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الامر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: (وربك لا يؤمنون). وقال غيره: إنما قدم (لا) على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط (لا) الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الاولى، وكان يصح إسقاط الاولى ويبقى معنى النفى ويذهب معنى الاهتمام. و (شجر) معناه اختلف واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه. ويقال لعصي الهودج: شجار، لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر: نفسي فداؤك والرماح شواجر * والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة: وهم الحكام أرباب الهدى * وسعاة الناس في الامر الشجر وقالت طائفة: نزلت في الزبير مع الانصاري، وكانت الخصومة في سقي بستان، فقال عليه السلام للزبير: (اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك). فقال الخصم: أراك تحابي ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير: (اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر (1)) ونزل: (فلا وربك لا يؤمنون). الحديث ثابت صحيح رواه البخاري (1) الجدر: وهو ما رفع حول المزرعة كالجدار. (*)
[ 267 ]
عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري. واختلف أهل هذا القول في الرجل الانصاري، فقال بعضهم: هو رجل من الانصار من أهل بدر. وقال مكي والنحاس: هو حاطب بن أبي بلتعة. وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي: هو حاطب. وقيل: ثعلبة بن حاطب. وقيل غيره: والصحيح القول الاول، لانه غير معين ولا مسمى، وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الانصار. واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي. كما قال مجاهد، ثم تتناول بعمومها قصة الزبير. قال ابن العربي: وهو الصحيح، فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر، لكن الانصاري زل زله فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة وليست لاحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة (1) يستتاب. وأما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه. وسيأتي بيان هذا في آخر سورة (الاعراف (2)) إن شاء الله تعالى. الثانية - وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: (اسق يا زبير) لقربه من الماء (ثم أرسل الماء إلى جارك). أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك. فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الانصاري هذا لم يرض بذلك وغضب، لانه كان يربد ألا يمسك الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: آن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة (أن) المفتوحة على جهة الانكار، أي أتحكم له علي لاجل أنه قرابتك ؟. فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له. وعليه لا يقال: كيف حكم في حال غضبه وقد قال: (لا يقضى القاضي وهو غضبان) ؟ فإنا نقول: لانه معصوم من الخطأ في التبليغ والاحكام، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام. وفي هذا الحديث (1) عبارة ابن العربي: وكل من لم يرض بحكم الحاكم بعده فهو عاص آثم (2) راجع ج 7 ص 344 فما بعدها. (*)
[ 268 ]
إرشاد الحاكم إلى الاصلاح بين الخصوم وان ظهر الحق. ومنعه مالك، واختلف فيه قول الشافعي. وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز، فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم. الثالثة - واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الاعلى إلى الاسفل، فقال ابن حبيب: يدخل صاحب الاعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط. وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون. وقاله ابن وهب. وقال ابن القاسم: إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه. قال ابن حبيب: وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك، لان المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل. الرابعة - روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب (1): (يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الاعلى على الاسفل). قال أبو عمر: (لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم [ أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الاعلى. وذكر عبد الرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ] قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل. وغيره من السيول كذلك. وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال: لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت. قال أبو عمر: في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ - حديث ثابت مجتمع على صحته. رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب (1) مهزور ومذينب: واديان بالمدينة يسيلان بماء المطر خاصة. (2) الزيادة عن كتاب (التمهيد) لابي عمر بن عبد البر. (*)
[ 269 ]
أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الانصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج (1) الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل، فقال الانصاري: سرح الماء، فأبى عليه، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وذكر الحديث. قال أبو عمر: وقوله في الحديث: (يرسل) وفي الحديث الآخر (إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الاعلى) يشهد لقول ابن القاسم. ومن جهة النظر أن الاعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الاعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء، فقول ابن القاسم أولى على كل حال. هذا إذا (2) لم يكن أصله ملكا للاسفل مختصا به، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك، فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته. وبالله التوفيق. الخامسة - قوله تعالى: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) أي ضيقا وشكا، ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج. وقال الضحاك: أي إثما بإنكارهم ما قضيت. (ويسلموا تسليما) أي ينقادوا لامرك في القضاء. وقال الزجاج: (تسليما) مصدر مؤكدو، فإذا قلت: ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه، وكذلك (ويسلموا تسليما) أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا. قوله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لا تيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68) (1) شراج: بشين معجمة مكسورة آخرد جيم جمع شرجة بفتح فسكون، وهى مسايل الماء بالحرة (بفتح فتشديد) وهى أرض ذات حجارة سود. (2) في ج وط: هذا ما لم يكن. (*)
[ 270 ]
سبب نزولها ما روى أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي، فقال اليهودي: والله لقد كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا، وبلغت القتلى سبعين ألفا، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا. وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت (ولو أنا كتبنا عليهم) الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي). قال ابن وهب قال مالك: القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر. وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي. وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الايمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي). و (لو) حرف يدل على امتناع الشئ لامتناع غيره، فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا. فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الامر مع ثقله ! لكن أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية. (ما فعلوه) أي القتل والخروج (الا قليل منهم) (قليل) بدل من الواو، والتقدير ما فعله أحد إلا قليل. وأهل الكوفة يقولون: هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم. وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر (إلا قليلا) على الاستثناء. وكذلك هو في مصاحف أهل الشام. الباقون بالرفع، والرفع أجود عند جميع النحويين. وقيل: انتصب على إضمار فعل، تقديره إلا أن يكون قليلا منهم. وإنما صار الرفع أجود لان اللفظ أولى من المعنى، وهو أيضا يشتمل على المعنى. وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا. وزاد الحسن ومقاتل وعمارا وابن مسعود وقد ذكرناهما. (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم) أفي الدنيا والآخرة. (وأشد تثبيتا) أي على الحق. (وادا لا تيناهم من لدنا أجرا عظيما) أي ثوابا في الآخرة. وقيل: اللام لام الجواب، و (إذا) دالة على الجزاء، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لاتيناهم.
[ 271 ]
قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصدبقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا (69) ذالك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول) لما ذكر تعالى الامر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لانعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله. وهذه الآية تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم (1)) وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته (اللهم الرفيق الاعلى). وفي البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة) كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة (2) شديده فسمعته يقول: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) فعلمت أنه خير. وقالت طائفة: إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الانصاري - الذي أري الاذان -: يا رسول الله، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية. وذكر مكي عن عبد الله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعمني حتى لاري شيئا بعده، فعمي [ مكانه (3) ]. وحكاه القشرى فقال: اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي، فعمي مكانه. وحكى الثعلبي: أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له: (يا ثوبان ما غير لونك) فقال: يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك، لاني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا، فأنزل الله (1) راجع ج 1 ص 146. (2) البحة (بالضم): غلظ في الصوت وخشونة. (3) من ج. (*)
[ 272 ]
تعالى هذه الآية. ذكره الواحدي عن الكلبي. وأسند عن مسروق قال قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا، فأنزل الله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين). وفى طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله. (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدرجة، فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء. وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول. قال الله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل (1)). والصديق فعيل، المبالغ في الصدق أو في التصديق، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه. وقيل: هم فضلاء أتباع الانبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق. وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق (2) ومعنى الشهيد. والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وقيل: (الشهداء) القتلى في سبيل الله. (الصالحين) صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: واللفظ يعم كل صالح وشهيد، والله أعلم. والرفق لين الجانب. وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض. ويجوز (وحسن أولئك رفقاء). قال الاخفش: (رفيقا) منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء، وقال: انتصب على التمييز فوحد لذلك، فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا. كما قال تعالى: (ثم نخرجكم طفلا (3)) أي نخرج كل واحد منكم طفلا. وقال تعالى: (ينظرون من طرف خفى) وينظر (4) معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الرفقاء أربعة) ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله. (1) راجع ج 7 ص 208 وج 10 ص 33 (2) راجع ج 1 ص 233. وج 2 ص 173. وج 4 ص 268. (3) راجع ج 12 ص 11 (4) راجع ج 16 ص 45 ينظر: يقابل، تقول العرب: دور ال فلان تنظر إلى دورآل فلان، أي هي بازائها ومقابلة لها. (*)
[ 273 ]
الثانية - في الاية دليل على خلافة أبى بكر رضى الله عنه، وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالاعلى منهم وهم النبيون، ثم اثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبى بكر الصديق رضى الله عنه صديقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد. والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله) أخبر تعالى أنهم لم ينالوا [ الدرجة (1) ] بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه. خلافا لما قالت المعتزلة: انما ينال العبد ذلك بفعله. فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لا حد أن يثنى على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم. والله أعلم. قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) هذا خطاب للمؤ منين المحلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع. ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله، أمر أهل الطاعة بالقيام باحياء دينه واعلاء دعوته، وأمر هم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا ألى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم فقال: (خذوا حذركم) فعلمهم مباشرة الحروب. ولا ينافى هذا التوكل بل هو [ مقام (2) ] عين التوكل كما تقدم في (آل عمران (3)) ويأتى. والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل. قال الفراء: أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضا، يقال: خذ حذرك، أي احذر. وقيل: خذوا السلاح حذرا، لان به الحذر والحذر لا يدفع القدر. وهى: (1) من ج وط وز، أي الدرجة التى هي المعية مع اللين الخ بدليل قوله: تالوهما. وفى ان ح و و: لا ينالوا الفضل. ولا يصح. (2) في ج وط وز. (3) راجع ج 4 ص 189 (*)
[ 274 ]
الثانية - خلافا للقدرية في قولهم: إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الاعداء، ولو لم يكن كذلك ما كان لامرهم بالحذر معنى. فيقال لهم: ليس في الآية دليل على أن الحذر ينفع من القدر شيئا، ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، ومنه الحديث (اعقلها وتوكل). وإن كان القدر جاريا على ما قضى، ويفعل الله ما يشاء، فالمراد منه طمأنينة النفس، لا أن ذلك ينفع من القدر وكذلك أخذ الحذر. الدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا (1)) فلو كان يصيبهم غير ما قضى عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى. الثالثة - قوله تعالى: (فانفروا ثبات) يقال: نفر ينفر (بكسر الفاء) نفيرا. ونفرت الدابة تنفر (بضم الفاء) نفورا، المعنى: انهضوا لقتال العدو. واستنفر الامام الناس دعاهم إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو. والنفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار والنفور وهو الفزع، ومنه قوله تعالى: (ولوا على أدبارهم نفورا (2) أي نافرين. ومنه نفر الجلد أي ورم. وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم. قال أبو عبيد: إنما هو من نفار الشئ من الشئ وهو تجافيه عنه وتباعده منه. قال ابن فارس: النفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة. والنفير النفر أيضا، وكذلك النفر والنفرة، حكاها الفراء بالهاء. ويوم النفر: يوم ينفر الناس عن منى. (ثبات) معناه جماعات متفرقات. ويقال: ثبين يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير. قال عمرو بن كلثوم: فأما يوم خشينا عليهم * فتصبح خيلنا عصبا (3) ثبينا فقوله تعالى: (ثبات) كناية عن السرايا، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس. وكانت في الاصل الثبية. وقد ثبيت الجيش جعلتهم ثبة ثبة. والثبة: وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال النحاس: وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد، وأن أحدهما من الآخر، وبينهما فرق، فثبة الحوض يقال في تصغيرها: ثويبة، لانها من ثاب يثوب. ويقال في [ ثبة (4) ] الجماعة: ثيبة. قال غير: فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل، وثبة الجماعة (1) راجع ج 8 ص 159 (2) راجع ج 10 ص 271 (3) العصب (جمع عصبة): الجماعات. (4) من النحاس. (*)
[ 275 ]
معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو. ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض، لان الماء إذا ثاب اجتمع فعلى هذا تصغر به الجماعة ثوبية فتدخل إحدى الياءين في الاخرى. وقد قيل: إن ثبة الجماعة إنما أشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع. الرابعة - قوله تعالى: (أو انفروا جميعا) معناه الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام، قاله ابن عباس وغيره. ولا تخرج السرايا إلا بإذن الامام ليكون متجسسا لهم، عضدا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه. وسيأتي حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في (الانفال) و (براءة) ان شاء الله تعالى. الخامسة - ذكر ابن خويز منداد: وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا) وبقوله: (إلا تنفروا يعذبكم)، ولان يكون (انفروا خفافا وثقالا) منسوخا بقوله: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) وبقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) أولى، لان فرض الجهاد تقرر على الكفاية، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين. والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع، والاخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها. قوله تعالى: وان منكم لمن ليبطئن فان أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كان لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73) قوله تعالى: (وان منكم لمن ليبطئن) يعني المنافقين. والتبطئة والابطاء التأخر، تقول: ما أبطأك عنا، فهو لازم. ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته، فهو متعد. (1) راجع ج 7 ص 380 وص 40 فما بعد ج 8. (2) راجع ج 8 ص 140 فما بعد، وص 266 فما بعد، وص 293 فما بعد. (*)
[ 276 ]
والمعنيان مراد في الآية، فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم. والمعنى إن من دخلائكم وجنسكم (1) وممن أظهر إيمانه لكم. فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم. واللام في قوله (لمن) لام توكيد، والثانية لام قسم، و (من) في موضع نصب، وصلتها (ليبطئن) لان فيه معنى اليمين، والخبر (منكم). وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي (وإن منكم لمن ليبطئن) بالتخفيف، والمعنى واحد. وقيل: المراد بقوله (وإن منكم لمن ليبطئن) بعض المؤمنين، لان الله خاطبهم بقوله: (وإن منكم) وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله (وماهم منكم (2)) وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره. وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهة الايمان. هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، والله أعلم. يدل عليه قوله: (فان أصابتكم مصيبة) أي قتل وهزيمة (قال قد أنعم الله على) يعني بالقعود، وهذا لا يصدر إلا من منافق، لا سيما في ذلك الزمان الكريم، بعيد أن يقول مؤمن. وينظر إلى هذه الآية ما رواه الائمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن المنافقين (إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لا توهما ولو حبوا) الحديث. في رواية (ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها) يعني صلاة العشاء. يقول: لو لاح شئ من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه. وهو معنى قوله: (ولئن أصابكم فضل من الله) أي غنيمة وفتح (ليقولن) هذا المنافق قول نادم حاسد (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) (كأن لم يكن (3) بينكم وبينه مودة) فالكلام فيه تقديم وتأخير. وقيل: المعنى (ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة) أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد. وقيل: هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن (ليقولن) بضم اللام على معنى (من)، لان معنى قوله (لمن ليبطئن) ليس يعني رجلا بعينه. ومن فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ (من). وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم (كأن لم تكن) بالتاء على لفظ المودة. ومن قرأ بالياء (3) جعل مودة بمعنى الود. وقول المنافق (يا ليتني كنت معهم) على وجه الحسد أو الاسف (1) في ج: جيشكم. (2) راجع ج 8 ص 164 (3) قرأ نافع بالياء وهى ما في الاصول. (*)
[ 277 ]
على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء من الله. (فأفوز) جواب التمني ولذلك نصب. وقرأ الحسن (فأفوز) بالرفع على أنه تمنى الفوز، فكأنه قال: يا ليتني أفوز فوزا عظيما. والنصب على الجواب، والمعنى إن أكن معهم أفز. والنصب فيه بإضمار (أن) لانه محمول على تأويل المصدر، التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز. قوله تعالى: فليقاتل في سبيل الله يشرون الحياة الدنيا بالاخرة ومن سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤ تيه أجرا عظيما (74) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فليقاتل في سبيل الله) الخطاب للمؤمنين، أي فليقاتل في سبيل الله [ الكفار (1) ] (الذين يشرون) أي يبيعون، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عزوجل (بالآخرة) أي بثواب الآخرة. الثانية - قوله تعالى: (ومن يقاتل في سبيل الله) شرط. (فيقتل أو يغلب) عطف عليه، والمجازاة (فسوف نؤتيه أجرا عظيما). ومعنى (فيقتل) فيستشهد. (أو يغلب) يظفر فيغنم. وقرأت طائفة (ومن يقاتل) (فليقاتل) بسكون لام الامر. وقرأت فرقة (فليقاتل) بكسر لام الامر. فذكر تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما، ذكره ابن عطية. الثالثة - ظاهر الآية (2) يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو أنقلب غانما. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد (3) في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي (4) فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) وذكر الحديث. وفيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من غازية تغزو في سبيل (1) في ج وز. (2) في ج وط: القرآن. (3) في مسلم: جهادا. ايمانا. تصديقا. قال النووي: مفعول له. (4) في ج: رسولي. (*)
[ 278 ]
الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم). فقوله: (نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) يقتضي أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الامرين، إما الاجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر، بخلاف حديث عبد الله ابن عمرو، ولما كان هذا قال قوم: حديث عبد الله بن عمرو ليس بشئ، لان في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور، ورجحوا الحديث الاول عليه لشهرته. وقال آخرون: ليس بينهما تعارض ولا اختلاف. و (أو) في حديث أبي هريرة بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه: (من أجر وغنيمة) بالوا والجامعة. وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا. وحميد بن هانئ مصري سمع أبا عبد الرحمن الحبلى وعمرو ابن مالك، وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب، فالحديث الاول محمول على مجرد النية والاخلاص في الجهاد، فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة، وإمارده إلى أهله مأجورا غانما، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فلما أنقسمت نيته أنحط أجره، فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض. ثم قيل: إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه، ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته، فبقي أجره موفرا بخلاف الاول. ومثله قوله في الحديث الآخر: (فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب ابن عمير - ومنا من أينعت له تمرته فهو يهد بها (1)). قوله تعالى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجل والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) (1) هدب التمرة تهديبا واهتدبها: جناها. الظاهر أن منهم مصعب الخ من الراوى كما في أسد الغابة. (*)
[ 279 ]
فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) حض على الجهاد. وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لاعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الاسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالاموال، وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الاسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه، لقوله عليه السلام (فكوا العاني) وقد مضى في (البقرة (1)). وكذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة. فإن كان الاسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا، قولان للعلماء، أصحهما الرجوع. الثانية - قوله تعالى: (والمستضعفين) عطف على اسم الله عزوجل، أي وفي سبيل المستضعفين، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله. وهذا اختيار الزجاج وقاله الزهري. وقال محمد بن يزيد: أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل، أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم، فالسبيلان مختلفان. ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام: (اللهم أنج الوليد ابن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعه والمستضعفين من المؤمنين). وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين. في البخاري عنه (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) فقال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله، أنا من الولدان وأمي من النساء. الثالثة - قوله تعالى: (من هذه القرية الظالم أهلها) القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين. ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للاهل لعلقة الضمير. وهذا كما تقول: مررت بالرجل الواسعة داره، والكريم أبوه، والحسنة جاريته. وأنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية (1) راجع ج 2 ص 21. (*)
[ 280 ]
بينهما وهو الضمير، فلو قلت: مررت بالرجل الكريم عمر ولم تجز المسألة، لان الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء. ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع، لانها تقوم مقام الفعل، فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين. وتقول: مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما، وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم. (واجعل لنا من لدنك) أي من عندك (وليا) أي من يستنقذنا (واجعل لنا من لدنك نصيرا) أي ينصرنا عليهم. قوله تعالى: الذين ءامنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان ان كيد الشيطان كان ضعيفا (76) قوله تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله) أي في طاعته. (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) قال أبو عبيدة والكسائي: الطاغوت يذكر ويؤنث. قال أبو عبيد: وإنما ذكر وأنث لانهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا. قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال: كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة. قال أبو إسحاق: الدليل على أنه الشيطان قوله عزوجل: (فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا) أي مكره ومكر من اتبعه. ويقال: أراد به يوم بدر حين قال للمشركين (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم) على ما يأتي (1) قوله تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس (1) راجع ج 8 ص 26 (*)
[ 281 ]
كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والا خرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال: (إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم). فلما حول الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فنزلت الآية. أخرجه النسائي في سننه، وقاله الكلبي. وقال مجاهد: هم يهود. قال الحسن: هي في المؤمنين، لقوله: (يخشون الناس) أي مشركي مكة (كخشية الله) فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. قال السدي: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين، والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله. (أو أشد خشية) أي عندهم وفي اعتقادهم. قلت: وهذا أشبه بسياق الآية، لقوله: (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) أي هلا، ولا يليها إلا الفعل. ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والارزاق مقسومة، بل كانوا لاوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم. اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الايمان قدمه، ولا انشرح بالاسلام جنانه، فإن أهل الايمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة. والله أعلم. قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) ابتداء وخبر. وكذا (والاخرة خير لمن اتقى) أي المعاصي، وقد مضى القول في هذا في (البقرة (1)) ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها (1) راجع ج 1 ص 161 (*)
[ 282 ]
وسماه قليلا لانه لا بقاء له. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة (1) تحت شجرة ثم راح وتركها) وقد تقدم هذا المعنى في (البقرة) مستوفى. قوله تعالى: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هاؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت) شرط ومجازاة، و (ما) زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا: (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) أي إلى أن نموت بآجالنا، وهو أشبه بالمنافقين كما ذكرنا، لقولهم لما أصيب أهل أحد، قالوا: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا (2)) فرد الله عليهم (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. وواحد البروج برج، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم. قال طرفة يصف ناقة: كأنها برج رومي تكففها * بان بشيد (3) وآجر وأحجار وقرأ طلحة بن سليمان (يدرككم) برفع الكاف على إضمار الفاء، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله: * من يفعل الحسنات الله يشكرها * أراد فالله يشكرها. واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الاكثر وهو الاصح: إنه أراد البروج في الحصون التي في الارض المبنية، لانها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله (1) القيلولة: النوم في الظهيرة. وقيل: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحرو ان لم يكن مع ذلك نوم. (2) راجع ج 4 ص 462 (3) الشيد (بالكسر): كل ما طلى به الحائط من جص أو بلاط. (*)
[ 283 ]
لهم بها. وقال قتادة: في قصور محصنة. وقاله ابن جريج والجمهور، ومنه قول عامر ابن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد: البروج القصور. ابن عباس: البروج الحصون والآطام والقلاع. ومعنى (مشيدة) مطولة، قاله الزجاج والقتبي. عكرمة: المزينة (1) بالشيد وهو الجص. قال قتادة: محصنة. والمشيد والمشيد سواء، ومنه (وقصر مشيد (2)) والتشديد للتكثير. وقيل: المشيد المطول، والمشيد المطلي بالشيد. يقال: شاد البنيان وأشاد بذكره. وقال السدي: المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية. وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال: ألا ترى إلى قوله تعالى: (والسماء ذات البروج (3)) و (جعل في السماء بروجا (4)) (ولقد جعلنا في السماء بروجا (5)). وحكاه ابن العربي أيضا عن ابن القاسم عن مالك. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: (في بروج مشيدة) معناه في قصور من حديد. قال ابن عطية: وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ. الثانية - هذه الآية ترد على القدرية في الآجال، لقوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به. وقالت المعتزلة: إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش. وقد تقدم الرد عليهم في (آل عمران (6)) ويأتي، فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين. الثالثة - اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ الاموال والنفوس، وهي سنة الله في عباده. وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول: التوكل ترك الاسباب، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الاسباب و أعظمها وقد أمرنا بها، واتخذها الانبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع. وقد قيل للاحنف: ما حكمة السور ؟ فقال: ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم (7) فيحميه. (1) في ج: المبنية. (2) راجع ج 12 ص 74 (3) راجع ج 19 ص 281 (4) راجع ج 13 ص 65 (5) راجع ج 10 ص 9 (6) راجع ج 4 ص 226 (7) في ج وز وط: الحليم. (*)
[ 284 ]
الرابعة - وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء، فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع، وهي الكواكب العظام. وقيل للكواكب بروج لظهورها، من برج يبرج إذا ظهر وأرتفع، ومنه قوله: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى (1)). وخلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره (2) فيها، ورتب الازمنة عليها، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلمنا على القبلة، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد غير ذلك من أحوال المعاش. قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) أي إن يصب المنافقين خصب قالوا: هذا من عند الله. (وإن تصبهم سيئة) أي جدب ومحل قالوا: هذا من عندك، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك. وقيل: الحسنة السلامة والامن، والسيئة الامراض والخوف. وقيل: الحسنة الغنى، والسيئة الفقر. وقيل: الحسنة النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد. وقيل: الحسنة السراء، والسيئة الضراء. هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية. وأنها نزلت في اليهود والمنافقين، و ذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزار عنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه. قال ابن عباس: ومعنى (من عندك) أي بسوء تدبيرك. وقيل: (من عندك) بشؤمك، كما ذكرنا، أي بشؤمك الذي لحقنا، قالوه على جهة التطير. قال الله تعالى: (قل كل من عند الله) أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره. (فمال هؤلاء القوم) يعني المنافقين (لا يكادون يفقهون حديثا) أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله. قوله تعالى: مآ أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79) (1) راجع ج 14 ص 178. (2) في ج وط وز: قدره. أي القمر. كقوله تعالى: قدرناه منازل. (*)
[ 285 ]
قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع زرق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم، أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم. قاله الحسن والسدي وغيرهما، كما قال تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء (1)). وقد قيل: الخطاب للانسان والمراد به الجنس، كما قال تعالى: (والعصر إن الانسان لفي خسر (2)) أي إن الناس لفي خسر، ألا تراه استثنى منهم فقال (إلا الذين آمنوا) ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة. وعلى هذا التأويل يكون قوله (ما أصابك) استئنافا. وقيل: في الكلام حذف تقديره يقولون، وعليه يكون الكلام متصلا، والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله. وفيل: إن ألف الاستفهام مضمرة، والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله وتعالى: (وتلك نعمة تمنها على (3)) والمعنى أو تلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى: (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي (4)) أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي: رموني وقالوا (5) يا خويلد لم ترع * فقلت وأنكرت الوجوه هم هم أراد (أهم) فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي. قال الاخفش (ما) بمعنى الذي. وقيل: هو شرط. قال النحاس: والصواب قول الاخفش، لانه نزل في شئ بعينه من الجدب، وليس هذا من المعاصي في شئ ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة. وروى عبد الوهاب ابن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود (ما أصابك من حسنة فمن الله وما (1) راجع ج 18 ص 14 7 فما بعدها. (2) راجع ج 20 ص 178 (3) راجع ج 13 ص 93 (4) راجع ج 7 ص 27 (5) في اللسان مادة (رفأ): * رفونى وقالوا يا خويلد لا ترع * ورفوت الرجل: سكنته، يقول: سكنوني. وقال ابن هانئ: يريد رفئونى فألقى الهمزة، قال: والهمزة لاتلقى الا في الشعر، وقد ألقاها في هذا البيت، ومعناه: أنى فزعت فطار قلبى فضموا بعضى إلى بعض. (*)
[ 286 ]
أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) فهذه قراءة على التفسير، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع، لان مجاهدا لم ير عبد الله ولا أبيا. وعلى قول من قال: الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر، والسيئة ما أصابهم يوم أحد، أنهم (1) عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم، فنظر خالد بن الوليد وكان مع الكفار يومئذ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرما فأخذ سرية [ من الخيل (2) ] ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه، على ما تقدم في (آل عمران (3)) بيانه. فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة) يعني يوم أحد (قد أصبتم مثليها) يعنى يوم بدر (قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم). ولا يجوز أن تكون الحسنة ها هنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية، إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها (4)) وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية (الاعراف) وهي قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون). (بالسنين) بالجدب سنة بعد سنة، حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم. (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل أتباعنا لك وطاعتنا إياك، فرد الله عليهم بقوله: (ألا إنما طائرهم عند الله) يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق، فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله (1) في ج، ط، ز: وكأنهم. (2) من ج، ط، ز. (3) راجع ج 4 ص 237 فما بعد. (4) راجع ج 7 ص 150 - 151. (*)
[ 287 ]
عليه وسلم حيث قال: (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله) كما قال: (ألا إنما طائرهم عند الله) وكما قال تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) أي بقضاء الله وقدره وعلمه، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض. قال علماؤنا: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شئ بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، كما قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة (1)) وقال تعالى: (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (2)). مسألة - وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها، كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون: إن الحسنة ها هنا الطاعة، والسيئة المعصية، قالوا: وقد نسب المعصية في قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) إلى الانسان دون الله تعالى، فهذا وجه تعلقهم بها. ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى: (قل كل من عند الله) قالوا: فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه. وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا، لانهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية، وليست كذلك لما بيناه. والله أعلم. والقدرية إن قالوا (ما أصابك من حسنة) أي من طاعة (فمن الله) فليس هذا اعتقادهم، لان اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسئ. وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة، لانه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره. نص على هذه المقالة الامام أبو الحسن (3) شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم. قوله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولا) مصدر مؤكد، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة (وكفى بالله شهيدا) نصب على البيان والباء زائدة، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق. (1) راجع ج 11 ص 287 (2) راجع ج 9 ص 294 (3) في ا، ح: أبو الحسين، وفى ج، ط، ز: أبو الحسن شبيب. والذى في البحر: (أبو الحسن شيب). (*)
[ 288 ]
قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80) قوله تعالى: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الامير فقد أطاعني ومن يعص الامير فقد عصاني) في رواية. (ومن أطاع أميري، ومن عصى أميري). قوله تعالى: (ومن تولى) أي أعرض. (فما أرسلناك عليهم حفيظا) أي حافظا ورقيبا لاعمالهم، إنما عليك البلاغ. وقال القتبي: محاسبا، فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله. قوله تعالى: ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81) أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) قوله تعالى: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون) أي أمرنا طاعة، ويجوز (طاعة) بالنصب، أي نطيع طاعة، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري. وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين، أي يقولون إذا كانوا عندك: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، وقولهم هذا ليس بنافع، لان من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، لان الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم، فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها. (فإذا برزوا) أي خرجوا (من عندك بيت طائفة منهم) فذكر الطائفة لانها في معنى
[ 289 ]
رجال. وأدغم الكوفيون التاء في الطاء، لانهما من مخرج واحد، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير قبيح. ومعنى (بيت) زور وموه. وقيل: غير وبدل وحرف، أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به. والتبييت التبديل، ومنه قول الشاعر (1): أتوني فلم أرض ما بيتوا * وكانوا أتوني بأمر نكر لانكح أيمهم منذرا * وهل ينكح العبد حر لحر آخر (2): بيت قولي عبد الملي * ك قاتله الله عبدا كفورا وبيت الرجل الامر إذا دبره ليلا، قال الله تعالى: (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (3)). والعرب تقول: أمر بيت بليل إذا أحكم. وإنما خص الليل بذلك لانه وقت يتفرغ فيه. قال الشاعر: أجمعوا أمرهم بليل فلما * أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ومن هذا بيت الصيام. والبيوت: الماء يبيت ليلا. والبيوت: الامر يبيت عليه صاحبه مهتما به، قال الهذلي (4): وأجعل فقرتها عدة * إذا خفت بيوت أمر عضال والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا. وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا، كما يقال: ظل بالنهار. وبيت الشئ قدر. فإن قيل: فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال: (بيت طائفة منهم) ؟ قيل: إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك. وقيل: إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره، وأما من سمع وسكت فلم يذكره. والله أعلم. (والله يكتب ما يبيتون) أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال الزجاج: المعنى ينزله عليك في الكتاب. وفي هذه الآية دليل على أن (1) هو الاسود بن يعفر، كما في اللسان مادة (نكر). (2) هو الاسود بن عامر الطائى، يعاتب رجلا كما في الطبري ج 5 ص 174 طبع بولاق، في البحر: وتبيبت قولى. قاتلك الخ. (3) راجع ص 379 من هذا الجزء. (4) راجع ديوان الهذليين ج 2 ص 190 طبع دار الكتب. (*)
[ 290 ]
مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا، فإنهم قالوا: طاعة، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها، لانهم لم يعتقدوها. فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها. قوله تعالى: (فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا. أفلا يتدبرون القرآن) قوله تعالى: (فأعرض عنهم) أي لا تخبر بأسمائهم، عن الضحاك، يعني المنافقين. وقيل: لا تعاقبهم. ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه. ويقال: إن هذا منسوخ بقوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين (1)) ثم عاب المنافقين بالاعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه. تدبرت الشئ فكرت في عاقبته. وفي الحديث (لا تدابروا) أي لا يولي بعضكم بعضا دبره. وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره. والتدبير أن يدبر الانسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلت هذه الآية وقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (2)) على وجوب التدبر في القرآن (3) ليعرف معناه. فكان في هذا رد على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب. وفيه دليل على الامر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد، وفيه دليل على إثبات القياس. قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) أي تفاوتا وتناقضا، عن ابن عباس وقتادة وابن زيد. ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الامثال والدلالات ومقادير السور والآيات. وإنما أراد اختلاف (4) التناقض والتفاوت. وقيل: المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف. وقيل: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير، إما في الوصف (5) واللفظ، وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب. فأنزل الله عزوجل القرآن وأمرهم بتدبره، لانهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف (5) ولا ردا له في معنى، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون. (1) راجع ج 8 ص 204. (2) راجع ج 16 ص 245. (3) في ط وج: للقرآن. (4) كذا في الاصول، والاضافة للبيان وفى ابن عطية:... وظهر فيه التناقض والتنافى. (5) في ج: الرصف. هو الكلام الثابت المحكم. (*)
[ 291 ]
قوله تعالى: وإذا جاء هم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان الا قليلا (83) قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الامن) في (إذا) معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها (ما) وهي قليلة الاستعمال. قال سيبويه. والجيد ما قال كعب بن زهير: وإذا ما تشاء تبعث منها * مغرب الشمس ناشطا مذعورا (1) يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت، وقد تقدم في أول (البقرة (2)). والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الامور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم (أو الخوف) وهو ضد هذا (أذاعوا به) أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته. فقيل: كان هذا من ضعفة المسلمين، عن الحسن، لانهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شئ عليهم في ذلك. وقال الضحاك وابن زيد: هو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الارجاف. قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم) أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولوا الامر وهم أهل العلم والفقه، عن الحسن وقتادة وغيرهما. السدي وابن زيد: الولاة. وقيل: أمراء السرايا. (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته. والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا لانهم (1) وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كله، فشبهها في انبعاثها مسرعة بناشط قد ذعر من صائد أو سبع. والناشط: الثور يخرج من بلد إلى بلد، فذلك أوحش له وأذعر. (عن شرح الشواهد). (2) راجع ج 1 ص 1: 2. (*)
[ 292 ]
يستخرجون ما في الارض. والاستنباط في اللغة الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والاجماع كما تقدم. قوله تعالى: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته) رفع بالابتداء عند سيبويه، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده. والكوفيون يقولون: رفع بلولا. (لا تبعتم الشيطان الا قليلا) في هذه الآية ثلاثة أقوال، قال ابن عباس وغيره: المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش. وقاله جماعة من النحويين: الكسائي والاخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري. وقيل: المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم، عن الحسن وغيره، واختاره الزجاج قال: لان هذا الاستنباط الاكثر يعرفه، لانه استعلام خبر. واختار الاول الفراء قال: لان علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والاذاعة تكون في بعض دون بعض. قال الكلبي عنه: فلذلك استحسنت الاستثناء من الاذاعة. قال النحاس: فهذان قولان على المجاز، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا. وقول ثالث بغير مجاز: يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد. وفيه قول رابع - قال الضحاك: المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا، يعنى الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. وعلى هذا القول يكون قوله (إلا قليلا) مستثنى من قوله (لاتبعتم الشيطان). قال المهدوي: وأنكر هذا القول أكثر العلماء، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان. قوله تعالى: فقاتل في سبيل الله لا تكلف الا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس اذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (84) قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله) هذه الفاء متعلقة بقوله (ومن يقاتل في سبيل الله) فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما. فقاتل في سبيل الله) أي من أجل هذا فقاتل.
[ 293 ]
وقيل: هي متعلقة بقوله: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله. فقاتل). كأن هذا (1) المعنى: لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك، لانه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده، لانه قد ضمن له النصرة. قال ابن عطية: (هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الامة مدة ما، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له، (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك). ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا قاتلنهم حتى تنفرد (2) سالفتي). وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي. وقيل: إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى، فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى، فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال. وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في (آل عمران (3)). ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الاراجيف، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك. قوله تعالى: (لا تكلف الا نفسك) (تكلف) مرفوع لانه مستقبل، ولم يجزم لانه ليس علة للاول. وزعم الاخفش أنه يجوز جزمه. (إلا نفسك) خبر ما لم يسم فاعله، والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به. قوله تعالى: (وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وحرض المؤمنين) أي حضهم على الجهاد والقتال. يقال: حرضت فلانا على كذا إذا أمرته (4) به. وحارض فلان على الامر وأكب وواظب بمعنى واحد (1) في ج وط وز: كأن المعنى. (2) أي حتى أموت. والسالفة: صفحة العنق، وكنى بانفرادها عن الموت، لانها لا تنفرد عما يليها الا به. (3) راجع ج 4 ص 277. (4) كذا في الاصول. وفى البحر: أمره تعالى بحث المؤمنين على القتال وتحريك هممهم إلى الشهادة. (*)
[ 294 ]
الثانية - قوله تعالى: (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا) إطماع، والاطماع من الله عزوجل واجب. على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب، ومنه قوله تعالى: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (1). وقال ابن مقبل: ظني بهم كعسى وهم بتنوفة (2) * يتنازعون جوائز (3) الامثال قوله تعالى: (والله أشد بأسا) أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده. (وأشد تنكيلا) أي عقوبة، عن الحسن وغيره. قال ابن دريد: رماه الله بنكلة، أي رماه بما ينكلة. قال: ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال. والمنكل الشئ الذى ينكل بالا نسان. قال: * وارم على أقفائهم بمنكل (4) * الثالثة - إن قال قائل: نحن نرى الكفار في بأس وشدة، وقلتم: إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد، فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال (وكفى الله المؤمنين القتال (5) وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم (6)) على ما يأتي. وقد ألقى الله في قلوب الاحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال، كما قال تعالى (وكفى الله المؤمنين القتال). وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين (7)، فكف الله بأسهم عن المؤمنين. والحمد لله رب العالمين. (1) راجع ج 13 ص 111. (2) التنوفة: القفر من الارض. (3) كذا في ز، واللسان مادة عسا، وفى الاصول الاخرى: (خزائن الاموال). (4) هذا صدر بيت، وعجزه: * بصخرة أو عرض جيش حجفل * (5) راجع ج 14 ص 160. (6) راجع ج 16 ص 280. (7) الداخر: الذليل المهين. (*)
[ 295 ]
قوله تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ مقيتا (85) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (من يشفع) أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد، ومنه الشفيع، لانه يصير مع صاحب الحاجة شفعا. ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة. وناقة شفيع (1) إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع ضم واحد إلى واحد. والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له. الثانية - واختلف المتأولون في هذه الآية، فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كفل. وقيل: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي. فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الاجر، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم، وهذا قريب من الاول. وقيل: يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين، والسيئة الدعاء عليهم. وفي صحيح الخبر: (من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل (2)). هذا هو النصيب، وكذلك في الشر، بل يرجع شؤم دعائه عليه. وكانت اليهود تدعو على المسلمين. وقيل: المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الاجر، ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر. وعن الحسن أيضا: الحسنة ما يجوز في الدين، والسيئة ما لا يجوز فيه. وكأن هذا القول جامع. والكفل الوزر والاثم، عن الحسن وقتادة. السدى وابن زيد هو النصيب. واشتقاقه من الكساء (3) الذي يحويه راكب البعير على سنامه (1) كذا في الاصول والذى في كتب اللغة: وناقة شافع الخ وشاة شفوع وشافع شفعها ولدها. (2) كذا في الاصول، والحديث (من دعا لا خيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل) رواية مسلم، وفي رواية: (استجيب له). (3) وفى البحر: مستعار من كفل البعير وهو كساء. الخ. (*)
[ 296 ]
لئلا يسقط. يقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه. ويقال له: اكتفل لانه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر. ويستعمل في النصيب من الخير والشر، وفي كتاب الله تعالى (يؤتكم كفلين من رحمته (1)). والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع، لانه تعالى قال (من يشفع) ولم يقل يشفع. وفي صحيح مسلم (اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب). الثالثة - قوله تعالى: (وكان الله على كل شئ مقيتا) (مقيتا) معناه مقتدرا، ومنه قول الزبير بن عبد المطلب: وذي ضغن كففت النفس عنه * وكنت على مساءته مقيتا أي قديرا. فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته، ومنه قوله عليه السلام: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت). على من رواه هكذا، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره، ذكره ابن عطية. يقول منه: قته أقوته قوتا، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت. وحكى الكسائي: أقات يقيت. وأما قول الشاعر (2): *... إني على الحساب مقيت * فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى الموقوف. وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ. وقال الكسائي: المقيت المقتدر. وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لانه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الانسان. وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) و (يقيت) ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. والله أعلم. (1) راجع ج 17 ص 266. (2) هو السموءل بن عادياء، والبيت بتمامه: ألى الفضل أم على إذا حو * سبت انى على الحساب مقيت (*)
[ 297 ]
قوله تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ان الله كان على كل شئ حسيبا (86) فيه اثنتا عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية) التحية تفعلة من حييت، الاصل تحيية مثل ترضية وتسمية، فأدغموا الياء في الياء. والتحية السلام. وأصل التحية الدعاء بالحياة. والتحيات لله، أي السلام من الآفات. وقيل: الملك. قال عبد الله بن صالح العجلي: سألت الكسائي عن قوله (التحيات لله) ما معناه ؟ فقال: التحيات مثل البركات، فقلت: ما معنى البركات ؟ فقال: ما سمعت فيها شيئا. وسألت عنها محمد بن الحسن فقال: هو شئ تعبد الله به عباده. فقدمت الكوفة فلقيت عبد الله بن إدريس فقلت: إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول (التحيات لله) فأجاباني بكذا وكذا، فقال عبد الله بن إدريس: إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه الاشياء ؟ ! التحية الملك، وأنشد (1): أؤم بها أبا قابوس حتى * وأنيخ على تحيتة بجندي وأنشد ابن خويز منداد: أسير به إلى النعمان حتى * أنيخ على تحيته بجندي يريد على ملكه. وقال آخر (2): ولكل ما نال الفتى * قد نلته إلا التحيه وقال القتبي: إنما قال (التحيات لله) على الجمع، لانه كان في الارض ملوك يحيون بتحيات مختلفات، فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: اسلم وانعم، ولبعضهم: عش ألف سنة. فقيل لنا: قولوا التحيات لله، أي الالفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى. (1) البيت لعمروين معدى كرب، وقبله: وكل مفاضة بيضاء زعف * وكل معاود الغارات جلد (2) هو زهير بن جناب الكلبى. (*)
[ 298 ]
ووجه النظم بما قبل أنه قال: إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الامر فحييتم في سفركم بتحية الاسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام، فإن أحكام الاسلام تجري عليهم. الثانية - واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها، فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والرد على المشمت. وهذا ضعيف، إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك، أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب، فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها. قلت: ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية، لقوله تعالى: (أو ردوها) ولا يمكن رد الاسلام بعينه. وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد بعينه، وهذا لا يمكن في السلام. وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة (الروم) عند قوله: (وما آتيتم من ربا (1)) إن شاء الله تعالى. والصحيح أن التحية ههنا السلام، لقوله تعالى: (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله (2)). وقال النابغة الذبياني: تحييهم بيض الولائد بينهم * وأكسية الاضريج فوق المشاجب (3) أراد: ويسلم عليهم. وعلى هذا جماعة المفسرين. وإذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة، لقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها). واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا، فذهب مالك والشافعي إلى الاجزاء، وأن المسلم قد رد عليه مثل قوله. وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام (1) راجع ج 14 ص 36. (2) راجع ج 17 ص 292. (3) الولائد: الا ماء. والا ضريج: الخز الاحمر، وقيل: هو الخز الاصفر. والمشاجب (جمع مشجب بكسر الميم): عيدان يضم رموسها ويفرج بين قوائمها وتوضع عليها الثياب. (*)
[ 299 ]
من الفروض المتعينة، قالوا: والسلام خلاف الرد، لان الابتداء به تطوع ورده فريضة. ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه، حتى قال قتادة والحسن: إن المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته، لانه فعل ما أمر به. والناس على خلافه. احتج الاولون بما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم). وهذا نص في موضع الخلاف. قال أبو عمر: وهو حديث حسن لا معارض له، وفي إسناده سعيد بن خالد، وهو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم، وقد ضعفه بعضهم منهم أبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرا، لانه انفرد فيه بهذا الاسناد، على أن عبد الله ابن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع، بينهما الاعرج في غير ما حديث. والله أعلم. واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام: (يسلم القليل على الكثير). ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج إلى تكريره على عداد الجماعة، كذلك يرد الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية. وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم). قال علماؤنا: وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد، لانه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب. والله أعلم قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد، وفيه قلق. الثالثة - قوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها أو ردوها) رد الاحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله، لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة الله، زدت في ردك: وبركاته. وهذا النهاية فلا مزيد. قال الله تعالى مخبرا عن البيت الكريم (رحمة الله وبركاته) على مأتي بيانه (1) إن شاء الله تعالى. فإن انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك: عليك السلام، إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة، وإن كان (1) راجع ج 9 ص 70. (*)
[ 300 ]
المسلم عليه واحدا. روى الاعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلمت على الواحد فقل: السلام عليكم، فإن معه الملائكة. وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع، قال ابن أبي زيد: يقول المسلم السلام عليكم، ويقول الراد وعليكم السلام، أو يقول السلام عليكم كما قيل له، وهو معنى قوله (أو ردوها) ولا تقل في ردك: سلام عليك. الرابعة - والاختيار في التسليم والادب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق، قال الله تعالى: (سلام على آل ياسين). وقال في قصة إبراهيم عليه السلام: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) وقال مخبرا عن إبراهيم: (سلام عليك). وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله عزوجل آدم على صورته (1) طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك - قال - فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله - قال - فزادوه ورحمة الله - قال - فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن). قلت: فقد جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبع: الاولى - الاخبار عن صفة خلق آدم. الثانية - أنا ندخل الجنة عليها بفضله. الثالثة - تسليم القليل على الكثير. الرابعة - تقديم اسم الله تعالى. الخامسة - الرد بالمثل لقولهم: السلام عليكم. السادسة - الزيادة في الرد. السابعة - إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون. والله أعلم. الخامسة - فإن رد فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها، لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي لم يحسن الصلاة وقد سلم عليه: (وعليك السلام أرجع فصل فإنك لم تصل). وقالت عائشة: وعليه السلام ورحمة الله، حين أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يقرأ عليها السلام. أخرجه البخاري. وفي حديث عائشة (1) قال النووي: (هذه الرواية ظاهرة في أن الضمير في صورته عائد إلى آدم، وأن المراد أنه خلق في أول نشأته على صورته التى كان عليها في الارض وتوفى عليها). (*)
[ 301 ]
من الفقه أن الرجل إذا أرسل إلى رجل بسلامه فعليه أن يرد كما يرد عليه إذا شافهه. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يقرئك السلام، فقال: (عليك وعلى أبيك السلام). وقد روى النسائي وأبو داود من حديث جابر بن سليم قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، فقال: (لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ولكن قل السلام عليك). وهذا الحديث لا يثبت، إلا أنه لما جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم: عليه لعنة الله وغضب الله. قال الله تعالى: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (1)). وكان ذلك أيضا دأب الشعراء وعادتهم في تحية الموتى، كقولهم: عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما وقال آخر وهو الشماخ: عليك سلام من أمير وباركت * يد الله في ذاك الاديم الممزق نهاه عن ذلك، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى، لانه عليه السلام ثبت عنه أنه سلم على الموتى كما سلم على الاحياء فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). فقالت عائشة: قلت يا رسول الله، كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال: (قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) الحديث، وسيأتي في سورة (ألهاكم (2)) إن شاء الله تعالى. قلت: وقد يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف عليها، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة. والله أعلم. السادسة - من السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير، هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسلم الراكب) فذكره فبدأ بالراكب لعلو مرتبته، ولان ذلك أبعد له من الزهو، (1) راجع ج 15 ص 228 (2) راجع ج 20 ص 168 (*)
[ 302 ]
وكذلك قيل في الماشي مثله. وقيل: لما كان القاعد على حال وقار وثبوت وسكون فله مزية بذلك على الماشي، لان حاله على العكس من ذلك. وأما تسليم القليل على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم. وقد زاد البخاري في هذا الحديث (ويسلم الصغير على الكبير). وأما تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان، قال: لان الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم. وروي عن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم. وقال أكثر العلماء: التسليم عليهم أفضل من تركه. وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت فمر بصبيان فسلم عليهم، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم. لفظ مسلم. وهذا من خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم، وفيه تدريب للصغير وحض على تعليم السنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه، فلتقتد. وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين. وأما المتجالات (1) والعجز فحسن للامن فيما ذكرناه، هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء. ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الاذان والاقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن. والصحيح الاول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال: كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت (2) ولم ؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة - قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق (3) فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله: وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة تكركر أي تطحن، قاله القتبي. (1) المتجالة: الهرمة المسنة. (2) في ز: قيل. (3) السلق (بكسر السين): نبت له ورق طوال وأصل ذاهب في الارض وورقه رخص يطبخ. (*)
[ 303 ]
الثامنة - والسنة في السلام والجواب الجهر، ولا تكفي الاشارة بالاصبع والكف عند الشافعي، وعندنا تكفي إذا كان على بعد، روى ابن وهب عن ابن مسعود قال: السلام اسم من أسماء الله عزوجل وضعه الله في الارض فأفشوه بينكم، فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لانه ذكرهم، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب. وروى الاعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث قال: إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم. فإذا رد المسلم عليه أسمع جوابه، لانه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له، ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما، فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع منه فليس بجواب. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سلمتم فأسمعوا وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فأقعدوا بالامانة ولا يرفعن بعضكم حديث بعض). قال ابن وهب: وأخبرني أسامة بن زيد عن نافع قال: كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبد الله بن زكريا فحبستني دابتي تبول، ثم أدركته ولم أسلم عليه، فقال: ألا تسلم ؟ فقلت: إنما كنت معك آنفا، فقال: وإن (1) صح، لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسايرون فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض. التاسعة - وأما الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له: وعليكم. قال ابن عباس وغيره: المراد بالآية: (وإذا حييتم بتحية) فإذا كانت من مؤمن (فحيوا بأحسن منها) وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: (وعليكم). وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك، كما جاء في الحديث. قلت: فقد جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم (عليك) بغير واو وهي الرواية الواضحة المعنى، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال، لان الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سامة ديننا، فاختلف المتأولون (1) سقط من ج: ان صح، وثبت في ط. وفى أو ز وى: وان. وسقط: صح. (*)
[ 304 ]
لذلك على أقوال: أولاها أن يقال: إن الواو على بابها من العطف، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا، كما قال صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي زائدة. وقيل: للاستئناف. والاولى أولى. ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء الاكثر. العاشرة - واختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالامر بالرد عليهم في صحيح السنة. وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب، فإن رددت فقل: عليك. واختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام، أي أرتفع عنك. واختار بعض علمائنا السلام (بكسر السين) يعني به الحجارة. وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث، وسيأتي في سورة (مريم) القول في ابتدائهم بالسلام عند قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لابيه (سلام (1) عليك). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم). وهذا يقتضي إفشاءه بين المسلمين دون المشركين (2). والله أعلم. الحادية عشرة - ولا يسلم على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالاشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد. ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه. دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال فقال له: (إذا وجدتني أو رأيتني على هذه الحال فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك). ولا يسلم على من يقرأ القرآن فيقطع عليه قراءته، وهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ ثم يرد، ولا يسلم على من دخل الحمام وهو كاشف العورة، أو كان مشغولا بما له دخل بالحمام، ومن كان بخلاف ذلك سلم عليه. (1) راجع ج 11 ص 110. (2) ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم (السلام تحية لملتنا وأمان لذمتنا). رواه القضاعى عن أنس. (*)
[ 305 ]
الثانية عشرة - قوله تعالى: (ان الله كان على كل شئ حسيبا) معناه حفيظا. وقيل: كافيا، من قولهم: أحسبني كذا أي كفاني، ومثله حسبك الله. وقال قتادة: محاسبا كما يقال: أكيل بمعنى مواكل. وقيل: هو فعيل من الحساب، وحسنت هذه الصفة هنا، لان معنى الآية في أن يزيد الانسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجئ به. روى النسائي عن عمران بن حصين قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فسلم، فقال: السلام عليكم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (عشر) ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (عشرون) ثم جلس وجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ثلاثون). وقد جاء هذا الخبر مفسرا وهو أن من قال لاخيه المسلم: سلام عليكم كتب له عشر حسنات، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة. فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة، وكذلك لمن رد من الاجر. والله أعلم. قوله تعالى: الله لا اله الا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لاريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87) قوله تعالى: (الله لا اله الا هو) ابتداء وخبر. واللام في قوله (ليجمعنكم) لام القسم، نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه. وكل لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم. ومعناه في الموت وتحت الارض (إلى يوم القيامة). وقال بعضهم: (إلى) صلة في الكلام، معناه ليجمعنكم يوم القيامة. وسميت القيامة قيامة لان الناس يقومون فيه لرب العالمين عزوجل، قال الله تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين (1)). وقيل: سمي يوم القيامة لان الناس يقومون من قبورهم إليها، قال الله تعالى: (يوم يخرجون من الاجداث سراعا (2)) وأصل القيامة الواو. (ومن أصدق من الله حديثا) نصب على البيان، والمعنى لا أحد أصدق من الله. وقرأ حمزة (1) راجع ج 19 ص 252. (2) راجع ج 18 ص 296، (*)
[ 306 ]
والكسائي (ومن أزدق) بالزاي. الباقون: بالصاد، وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي. قوله تعالى: فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88) قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين) (فئتين) أي فرقتين مختلفتين. روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فقال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا، فنزلت (فما لكم في المنافقين فئتين). وأخرجه الترمذي فزاد: وقال: (إنها طيبة) وقال: (إنها (1) تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد) قال: حديث حسن صحيح). وقال البخاري: (إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة). والمعني بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا، كما تقدم في (آل عمران (2)). وقال ابن عباس: هم فوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة، قال الضحاك: وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا. فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرءون منهم، فقال الله عزوجل (فما لكم في المنافقين فئتين). وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الاسلام، فأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لكم رجعتم ؟ فقالوا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها (3)، فقالوا: ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون، فأنزل الله عزوجل (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) الآية. حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) في ج، ط، ى: والترمذي. (2) راجع ج 4 ص 239 فيما بعد. (3) أجتويت البلد: إذا كرهت المقام فيها وان كنت في نعمة. (*)
[ 307 ]
إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم. قلت: وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى: (حتى يهاجروا)، والاول أصح نقلا، وهو اختيار البحاري ومسلم والترمذي. و (فئتين) نصب على الحال، كما يقال: مالك قائما ؟ عن الاخفش. وقال الكوفيون: هو خبر (ما لكم) كخبر كان وظننت، وأجازوا إدخال الالف واللام فيه وحكى الفراء: (أركسهم، وركسهم) أي ردهم إلى الكفر ونكسهم، وقاله (1) النضر بن شميل والكسائي: والركس والنكس قلب الشئ على رأسه، أو رد أوله على آخره، والمركوس المنكوس. وفي قراءة عبد الله وأبي رضي الله عنهما (والله ركسهم). وقال أبن رواحة: أركسوا في فتنة مظلمة * كسواد الليل يتلوها فتن أي نكسوا. وارتكس فلان في أمر كان نجا منه. والركوسية (2) قوم بين النصارى والصابئين. والراكس الثور وسط البيدر (3) والثيران حواليه حين الدياس. (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين. (فلن تجد له سبيلا) أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة. وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم (4). قوله تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فان تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا مهنم وليا ولا نصيرا (89) الا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) (1) كذا في ط وز: وفيها: فالركس الخ. (2) وفى اللسان: الركوسية قوم لهم دين. الخ. (3) البيدر (بوزن حميبر): الموضع الذى يداس فيه الطعام. (4) راجع ج 1 ص 149 (*)
[ 308 ]
فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون) أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء، فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال: (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا)، كما قال تعالى: (ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا (1)) والهجرة أنواع: منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه واجبة أول الاسلام حتى قال: (لا هجرة بعد الفتح). وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة. وهجرة المسلم ما حرم الله عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه). وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن. وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه (2). (فان تولوا فخذوهم واقتلوهم) يقول: إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم. (حيث وجتموهم) عام في الاماكن من حل وحرم. والله أعلم. ثم استثنى وهى: الثانية - فقال: (الا الذين يصلون) أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف، المعنى: فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا. هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم، وهو أصح ما قيل في معنى الآية. قال أبو عبيد: يصلون ينتسبون، ومنه قول الاعشى: إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل * وبكر سبتها والانوف رواغم يريد إذا انتسبت. قال المهدوي: وأنكره العلماء، لان النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم. وقال النحاس: وهذا غلط عظيم، لانه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الاولين أنساب، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ، لان أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له (براءة) وإنما نزلت (براءة) بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب. وقال معناه الطبري. (1) راجع ج 8 ص 55 وص 282. (2) راجع ج 8 ص 282. (*)
[ 309 ]
قلت: حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الامان، أي إن المنتسب إلى أهل الامان آمن إذا أمن الكل منهم، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة. واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فقيل: بنو مدلج. عن الحسن: كان بينهم وبين قريش عقد، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد. وقال عكرمة: نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد. وقيل: خزاعة. وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة، كانوا في الصلح والهدنة الثالثة - في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الاسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين، على ما يأتي بيانه في (الانفال (1) وبراءة (2)) إن شاء الله تعالى. الرابعة - قوله تعالى: (أو جاءوكم حصرت صدورهم) أي ضاقت. وقال لبيد أسهلت وانتصبت كجذع منيفة * جرداء يحصر دونها جرامها (3) أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة، ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم. والحصر الكتوم للسر، قال جرير: ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا * حصرا بسرك يا أميم ضنينا ومعنى (حصرت) قد حصرت فأضمرت قد، قال الفراء: وهو حال من المضمر المرفوع في (جاءوكم) كما تقول: جاء فلان ذهب عقله، أي قد ذهب عقله. وقيل: هو خبر بعد خبر قال الزجاج. أي جاءوكم ثم أخبر فقال: (حصرت صدورهم) فعلى هذا يكون (حصرت) بدلا من (جاءوكم) وقيل: (حصرت) في موضع خفض على النعت لقوم. وفي حرف أبي (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم) ليس فيه (أو جاءوكم (4)). وقيل: تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم، فهي صفة موصوف منصوب على الحال. وقرأ الحسن (أو جاءوكم حصرة صدورهم) نصب على (1) راجع ج 8 ص 55 (2) راجع ج 8 ص 71 فما بعدها. (3) جرام (جمع جارم) وهو الذى يصرم التمر ويجذه. (4) كذا في الاصول وابن عطية. والذى في البحر والدر المصون والكشاف والالوسى: (جاءوكم بغير أو). (*)
[ 310 ]
الحال، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر. وحكى (أو جاءوكم حصرات صدورهم)، ويجوز الرفع. وقال محمد بن يزيد: (حصرت صدورهم) هو دعاء عليهم، كما تقول: لعن الله الكافر، وقاله المبرد (1). وضعفه بعض المفسرين وقال: هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم، وذلك فاسد، لانهم كفار وقومهم كفار. وأجيب بأن معناه صحيح، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزالهم، وفي حق قومهم تحقيرا لهم. وقيل: (أو) بمعنى الواو، كأنه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين. ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد، أو قالوا نسلم ولا نقاتل، فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الاسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للاسلام. والاول أظهر. والله أعلم. (أو يقاتلوا) في موضع نصب، أي عن (2) أن يقاتلوكم. الخامسة - قوله تعالى: (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (3))، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا (4)). ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء. ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا (5) أن يهاجروا، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم. قوله تعالى: ستجدون اخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فان لم يعتزلو كم ويلقوا اليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91) (1) كذا في الاصول ومحمد بن يزيد هو المبرد، كما في البحروا بن عطية وغيرهما. ولا يبعد أن يكون ابن يزيد هو العجلى الكوفى إذ هو أسبق من المبرد بكثير. (2) في ط وز: من أن. (3) راجع ج 16 ص 253. (4) راجع ج 4 ص 219. (5) في ج وط: ان لم. (*)
[ 311 ]
قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) معناها معنى الآية الاولى. قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الامان من النبي صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم. مجاهد: هي في قوم من أهل مكة. وقال السدي: نزلت في نعيم ابن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين. وقال الحسن: هذا في قوم من المنافقين. وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة فأسلموا ثم رجعوا إلى ديارهم فأظهروا الكفر. قوله تعالى: (كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) قرأ يحيى بن وثاب والاعمش (ردوا) بكسر الراء، لان الاصل (رددوا) فأدغم وقلبت الكسرة على الراء. (إلى الفتنة) أي الكفر (أركسوا فيها). وقيل: أي ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنوكم، وإذا سنحت لهم فتنة كان مع أهلها عليكم. ومعنى (أركسوا فيها) أي انتكسوا عن عهدهم الذين عاهدوا (1). وقيل: أي إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه. قوله تعالى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله الا أن يصدقوا فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فنحرير رقبة مؤمنة وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92) فيه عشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطا) هذه آية من أمهات الاحكام. والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، فقوله: (وما كان) ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي، كقوله: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (2)) ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط، لان ما نفاه الله فلا (3) يجوز وجوده، كقوله (1) كذا في الاصول. ولعل صحة العبارة: عهدهم الذى. وفى ج: الذين عاهدوكم. الا أن يكون على لغة البدل من الواو. (2) راجع ج 14 ص 223. (3) من ج وز وط. (*)
[ 312 ]
تعالى: (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها (1)). فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا. وقال قتادة: المعنى ما كان له ذلك في عهد الله. وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس له الآن ذلك بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الاول وهو الذي يكون فيه (إلا) بمعنى (لكن) والتقدير ما كان له أن يقتله البتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله. ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن (2)). وقال النابغة: وقفت فيها أصيلانا (3) أسائلها * عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الاواري لايا ما أبينها * والنوي كالحوض بالمظلومة الجلد (4) فلما لم تكن (الاواري) من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه. ومثله قول الآخر: أمسى سقام خلاء لا أنيس به * إلا السباع ومر الريح بالغرف (5) وقال آخر: وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس (6) وقال آخر: وبعض الرجال نخلة لا جنى لها * ولا ظل إلا أن تعد من النخل أنشده سيبويه، ومثله كثير، ومن أبدعه قول جرير: من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ * على الارض إلا ذيل مرط مرحل (7) (1) راجع ج 13 ص 219. (2) راجع ج 6 ص 9. (3) أصيلان: مصغرا أصلان جمع الاصيل وهو ما بعد العصر إلى المغرب. (4) الاوارى، جمع آرى، وهو حيل تشد به الدابة في محبسها. اللاى: الشدة. والنؤى: حفرة تجعل حول البيت والخليمة لئلا يصل إليها الماء. والمظلومة: الارض التى حفر فيها حوض لم تستحق ذلك، يعنى أرضا مروا بها في برية فتحوضوا حوضا سقوا فيه ابلهم وليست بموضع تحو يض. والجلد: الارض التى يصعب حفرها. (5) البيت لابي خراش الهذلى. وسقام: واد بالحجاز. الغرف (بالتحريك وبا لفتح والسكون): شجر يدبغ به. (6) اليعافير: الظباء، واحدها يعفور. والعيس: بقر الوحش لبياضها، والعيس البياض وأصله في الابل فا ستعاره للبقر. (7) المرحل: ضرب من برود اليمن، سمى مرحلا لان عليه تصاو ير رحل. في ز، ج، ط: برد مرجل وليس بصحيح. (*)
[ 313 ]
كأنه قال: لم تطأ على الارض إلا أن تطأ ذيل البرد. ونزلت الآية بسبب قتل عياش ابن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة (1) العامري لحة (2) كانت بينهما، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية. وقيل: هو استثناء متصل، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ، فلا يقتص منه، ولكن فيه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد، كأنه قال: وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا، فيجئ الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع. وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به البتة. وقيل: المعنى ولا خطأ. قال النحاس: ولا يجوز أن تكون (إلا) بمعنى الواو، ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى، لان الخطأ لا يحظر. ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم، وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته. وقرأ الاعمش (خطاء) ممدودا في المواضع الثلاث. ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد، مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما. أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ. أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه، وهذا مما لا خلاف فيه. والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد، فالخطأ الاسم يقوم مقام الاخطاء. ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره: أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ. قال ابن المنذر: قال الله تبارك وتعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) إلى قوله تعالى (ودية مسلمة إلى أهله) فحكم الله جل ثناؤه (1) يقال فيه: الحارث بن زيد، كما يقال: ابن أنيسة راجع ترجمته في كتاب (الاصابة). (2) الحنة والا حنة: الحقد. في ط: لحقد. (*)
[ 314 ]
في المؤمن يقتل خطا بالدية، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به. الثانية - ذهب داود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الاعضاء، تمسكا بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس (1)) إلى قوله تعالى: (والجروح قصاص)، وقوله عليه السلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم يفرق بين حر وعبد، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قصاص بين الاحرار والعبيد إلا في النفس فيقتل الحر بالعبد، كما يقتل العبد بالحر، ولا قصاص بينهما في شئ من الجراح والاعضاء. وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما أريد به الاحرار دون العبيد، فكذلك قوله عليه السلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) أريد به الاحرار خاصة. والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والاحرار فيما دون النفس فالنفس أحرى بذلك، وقد مضى هذا في (البقرة (2)). الثالثة - قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) أي فعليه تحرير رقبة، هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي (3). واختلف العلماء فيما يجزئ منها، فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم: الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الايمان، لا تجزئ في ذلك الصغيرة، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح: يجزئ الصغير المولود بين مسلمين. وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه. وقال مالك: ومن صلى وصام أحب إلي. ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما، ويجزئ عند أكثرهم الاعرج والاعور. قال مالك: إلا أن يكون عرجا شديدا. ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه. ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ (1) راجع ج 6 ص 191. (2) راجع ج 2 ص 246. (3) راجع ج 17 ص 272. (*)
[ 315 ]
عند مالك الذي يجن ويفيق، ويجزئ عند الشافعي. ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين، ويجزئ عند الشافعي. ولا يجزئ المدبر عند مالك والاوزاعي وأصحاب الرأي، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: لا يصح من أعتق بعضه، لقوله تعالى: (فتحرير رقبة). ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها. واختلفوا أيضا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل، وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم. وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الاحياء. وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة. وأي واحد من هذين المعنيين كان، ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه، على ما يأتي بيانه، والله أعلم. الرابعة - قوله تعالى: (ودية مسلمة) الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. (مسلمة) مدفوعة مؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الاصول في الغرامات وضمان المتلفات، والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة. واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه (1). وثبتت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الابل، ووداها صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل (1) الديوان يطلق على سجل الجندية والعطية وكل مجلس مجتمع فيه لا قامة المصالح والنظر فيها: قال الجصاص في أحكامه: ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان، راجع ج 2 ص 225 من الاحكام. ففيه توضيح. وسيأتى ص 321 أنهم أهل الناحية الذين هم يد. (*)
[ 316 ]
المقتول بخيبر لحو يصة (1) ومحيصة و عبد الرحمن، فكان ذلك بيانا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه. وأجمع أهل العلم عل أن على أهل الابل مائة من الابل. واختلفوا فيما يجب على غير أهل الابل، فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف دينار، وهم أهل الشام ومصر والمغرب، هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، في القديم. وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة. وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم، وهم أهل العراق وفارس وخراسان، هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقال المزني: قال الشافعي الدية الابل، فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر، ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: الدية من الورق عشرة آلاف درهم. رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الابل مائة من الابل، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال أبو عمر: في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة، وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس. وخالف أبو حنيفة ما رواه [ عن (2) ] عمر في البقر والشاء والحلل. وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين. قال ابن المنذر: وقالت طائفة دية الحر المسلم مائة من الابل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا قول الشافعي وبه قال طاوس. قال ابن المنذر: دية الحر المسلم مائة من الابل في كل زمان، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفت الروايات (3) عن عمر [ رضي الله (4) عنه ] في أعداد الدراهم وما منها شئ يصح عنه لانها مراسيل، وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه ونقول. (1) حويصة ومحيصة (بضم ففتح ثم ياء مشددة مكسورة، ومخففة ساكنة والاشهر التشديد). (2) في ج وط وى. (3) في ط: الاخبار. (4) في ط. (*)
[ 317 ]
الخامسة - واختلف الفقهاء في أسنان دية الابل، فروى أبو داود من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الابل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون (1). قال الخطابي: هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء: دية الخطأ أخماس. كذا قال أصحاب الرأي والثوري، وكذلك مالك وابن سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا في الاصناف، قال أصحاب الرأي وأحمد: خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع. وروي هذا القول عن ابن مسعود. وقال مالك والشافعي: خمس حقاق، وخمس جذاع، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنولبون. وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد. قال الخطابي: ولاصحاب الرأي فيه أثر، إلا أن راويه (2) عبد الله بن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث. وعدل الشافعي عن القول به، لما ذكرنا من العلة في راويه، ولان فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شئ من أسنان الصدقات. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. قال أبو عمر: وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا، إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول، لانه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي [ الجشمي (3) ] من بني جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين. قلت: قد ذكر الدارقطني في سننه حديث خشف بن مالك من رواية حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود قال: قضى رسول الله صلى (1) في شرح الموطأ للباجى: (قال محمد بن عيسى الا عشى في المزنية: بنت مخاض وهى التى تتبع أمها وقد حملت أمها وقد حملت أمها. وبنت اللبون وهى التى تتبع أمها أيضا وهى ترضع. والحقة وهى التى تستحق الحمل. وأما الجذعة من الابل فهى ما كان من فوق أربعة وعشرين شهرا). (2) كذا في الاصل، والراوي خشف كما هو في الدار قطني، فعبد الله مقحم، كما يأتي. (3) من ط وى. (*)
[ 318 ]
الله عليه وسلم في دية الخطأ مائة من الابل، منها عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو مخاض. قال الدار قطني: (هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة، أحدها أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه (1)، الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه [ وفتياه (2) ] من خشف بن مالك ونظرائه، وعبد الله بن مسعود أتقى لربه وأشح على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه، هذا لا يتوهم مثله على عبد الله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول: أقول فيها برأيى فإن يكن صوابا فمن الله ورسوله، وإن يكن خطأ فمني، ثم بلغه بعد [ ذلك (2) ] أن فتياه فيها وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها، فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا [ شديدا (3) ] لم يروه فرح مثله، لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن كانت هذه صفته وهذا حال فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ شيئا (2) ] ويخالفه. ووجه آخر - وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي، وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا، فإذا كانت هذه صفته ارتفع عنه حينئذ اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفا. فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد وانفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره. والله أعلم. ووجه آخر - وهو أن [ حديث ] خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطأة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه، وترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد (1) في ج: عن الذى الخ. (2) الزيادة عن الدار قطني. (3) من ط وى. (*)
[ 319 ]
القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه، وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا. وقال يحيى بن معين: حجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه. وقال عبد الله بن إدريس: سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في الجماعة. وقال عيسى بن يونس: سمعت الحجاج يقول: أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون. وقال جرير: سمعت الحجاج يقول: أهلكني حب المال والشرف. وذكر (1) أوجها أخر، منها أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه. إلى غير ذلك مما يطول ذكره، وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب إليه الكوفيون في الدية، وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي. وروى حماد بن سلمة حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال: دية الخطأ خمسة أخماس عشرون حقة، وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون وعشرون بني لبون ذكور. قال الدار قطني: هذا إسناد حسن ورواته ثقات، وقد روي عن علقمة عن عبد الله نحو هذا. قلت: وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية [ تكون (2) ] مخمسة. قال الخطابي: [ وقد (2) ] روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع، وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه، إلا أنهم قالوا: خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب. قال أبو عمر: أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن يسار وليس فيه عن صحابي شئ، ولكن عليه عمل أهل المدينة. وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب. قلت: قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي. قال أبو عمر: وأسنان الابل في الديات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا، وإنما أخذت اتباعا وتسليما، وما أخذ من جهة الاثر فلا مدخل فيه للنظر، فكل يقول بما قد صح عنده من سلفه، رضي الله عنهم [ أجمعين (3) ]. (1) أي الدار قطني. (2) من ط وى. (3) من ط وى وج. (*)
[ 320 ]
قلت: وأما ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد، إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة. قال ابن المنذر: وبالقول الاول أقول. يريد قول عبد الله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدار قطني والخطابي، وابن عبد البر قال: لانه الاقل مما قيل، وبحديث (1) مرفوع رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول. قلت - وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته ! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الانسان، وإنما الكمال لعزة ذي الجلال. السادسة - ثبتت الاخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به. وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لابي رمثة حيث دخل عليه ومعه ابنه: (إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه) العمد دون الخطأ. وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة. واختلفوا في الثلث، والذى عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا، ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث، وما دون الثلث في مال الجاني. وقالت طائفة: عقل الخطأ على عاقلة الجاني، قلت الجناية أو كثرت، لان من غرم الاكثر غرم الاقل. كما عقل العمد في مال الجاني قل أو كثر، هذا قول الشافعي. السابعة - وحكمها أن تكون منجمة على العاقلة، والعاقلة العصبة. وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة، ولا الاخوة من الام بعصبة لاخوتهم من الاب والام، فلا يعقلون عنهم شيئا. وكذلك الديوان لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز. وقال الكوفيون: يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان، فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثه أعوام على ما قضاه عمر وعلي، لان الابل قد تكون حوامل فتضر به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لاغراض، منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا. ومنها أنه كان يعجلها تأليفا. فلما تمهد الاسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام، قاله ابن العربي. وقال أبو عمر: (1) في ج: والحديث مرفوع الخ. (*)
[ 321 ]
أجمع العلماء قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها. وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال. وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة، ثم جاء الاسلام فجرى الامر على ذلك حتى جعل عمر الديوان. واتفق الفقهاء عل رواية ذلك والقول به. وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدا، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو. الثامنة - قلت: ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه، وهو أن يضرب بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت، فقال كافة العلماء: فيه الدية كاملة في الخطأ وفي العمد بعد القسامة. وقيل: بغير قسامة. واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي، فيه الدية كاملة، فإن تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة: الحركة تدل على حياته. وقال مالك: لا، إلا أن يقارنها طول إقامة. والذكر والانثى عند كافة العلماء في الحكم سواء. فإن ألقته ميتا ففيه غرة (1): عبد أو وليدة. فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شئ فيه. وهذا كله إجماع لا خلاف فيه. وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها: ففيه الغرة، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها، المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير. وقال سائر الفقهاء: لا شئ فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها. قال الطحاوي محتجا لجماعة الفقهاء بأن قال: قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شئ فيه، فكذلك إذا سقط بعد موتها. التاسعة - ولا تكون الغرة إلا بيضاء. قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الجنين غرة عبد أو أمة) - لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد (1) الغرة: العبد نفسه أو الامة، وسيأتى الكلام فيها في المسألة التاسعة. (*)
[ 322 ]
بالغرة معنى لقال: في الجنين عبد أو أمة، ولكنه عنى البياض، فلا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء،، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء. واختلف العلماء في قيمتها، فقال مالك: تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم، نصف عشر دية الحر المسلم، وعشر دية أمه الحرة، وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة. وقال أصحاب الرأي: قيمتها خمسمائة درهم. وقال الشافعي: سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين، وليس عليه أن يقبلها معيبة. ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الام، من الذهب عشرون دينارا إن كانوا أهل ذهب، ومن الورق - إن كانوا أهل ورق - ستمائة درهم، أو خمس فرائض (1) من الابل. قال مالك وأصحابه: هي في مال الجاني، وهو قول الحسن بن حي. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: هي على العاقلة. وهو أصح، لحديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الانصار - في رواية فتغايرتا - فضربت إحداهما الاخرى بعمود فقتلتها، فاختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلان فقالا (2): ندي من لا صاح ولا أكل، ولا شرب [ ولا استهل، فمثل ذلك يطل (3) ! ]، فقال: (أسجع كسجع (4) الاعراب) ؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة. وهو حديث ثابت صحيح، نص في موضع الخلاف يوجب الحكم. ولما كانت دية المرأة المضروبة على العاقلة كان الجنين كذلك في القياس والنظر. واحتج علماؤنا بقول الذي قضي عليه: كيف أغرم ؟ قالوا: وهذا يدل على أن الذي قضي عليه معين وهو الجاني. ولو أن دية الجنين قضى بها على العاقلة لقال: فقال الذي (5) قضى عليهم. وفى القياس أن كل جان جنايته عليه، إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له، مثل إجماع لا يجوز خلافه، أو نص سنة من جهة نقل الآحاد العدول لا معارض لها، فيجب الحكم بها، وقد قال الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى (6)). (1) الفرائض: جمع فريضة، وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمى فريضة لانه فرض واجب على رب المال، اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة في غير الزكاة. (2) في سنن أبى داود: (فقال أحد الرجلين). (3) زيادة عن كتب الحديث لا يستقيم الكلام بدونها. ويطل: يهدر دمه. (4) قال الخطابى: لم يعبه بممجرد السجع بل بما تضمنه سجعه من الباطل. (5) كذا في الاصول. (6) راجع ج 7 ص 156 (*)
[ 323 ]
العاشرة - ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية. واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا، فقال مالك: فيه الغرة والكفارة. وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرة ولا كفارة. واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: الغرة في الجنين موروثه عن الجنين على كتاب الله تعالى، لانها دية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغرة للام وحدها، لانها جناية جنى عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية. ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والانثى كما يلزم في الديات، فدل على أن ذلك كالعضو. وكان ابن هرمز يقول: ديته لابويه خاصة، لابيه ثلثاها ولامه ثلثها، من كان منهما حيا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما، ولا يرث الاخوة شيئا. الحادية عشرة - قوله تعالى: (الا أن يصدقو) أصله (أن يتصدقوا) فأدغمت التاء في الصاد. والتصدق الاعطاء، يعني إلا أن يبرئ الاولياء ورثة المقتول [ القاتلين ] مما أوجب الله لهم من الدية عليهم. فهو استثناء ليس من الاول. وقرأ أبو عبد الرحمن ونبيح (1) (إلا أن تصدقوا) بتخفيف الصاد والتاء. وكذلك قرأ أبو عمرو، إلا أنه شدد الصاد. القراءة حذف التاء الثانية، ولا يجوز حذفها على قراءة الياء. وفي حر أبي وابن مسعود (إلا أن يتصدقوا). وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم، لانه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل. الثانية عشرة - قوله تعالى: (فان كان من قوم عدولكم وهو مؤمن) هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار. والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي: فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقي (1) كذا في الاصول وابن عطية. والمتبادر: أبو نجيح وهو عصمة بن عروة البصري روى عن أبى عمرو وعاصم. وأما نبيح فلم نقف عليه في القراء، وفى التهذيب: نبيح - مصغرا - بن عبد الله العنزي أبو عمرو الكوفى، وفى التاج: تابعي. فهذا لم تذكر عنه قراءة. والله أعلم. (*)
[ 324 ]
في قومه وهم كفرة (عدو لكم) فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير الرقبة. وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة. وسقطت الدية لوجهين: أحدهما - أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا (1) بها. والثاني - أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية، لقوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا (2)). وقالت طائفة: بل الوجه في سقوط الدية أن الاولياء كفار فقط، فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار، ولو وجبت الدية لو جبت لبيت المال على بيت المال، فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد (3) الاسلام. هذا قول الشافعي وبه قال الاوزاعي والثوري وأبو ثور. وعلى القول الاول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة. قلت: ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات (4) من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذ كرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقال لا إله إلا الله وقتلته) ! قال: قلت يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟). فلم يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية. وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: (أعتق رقبة) ولم يحكم بقصاص ولا دية. فقال علماؤنا: أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا، وأما سقوط الدية فلاوجه ثلاثة: الاول - لانه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطا كالخاتن والطبيب. الثاني - لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين تكون له ديته، لقوله تعالى: (فإم كان من قوم عدو لكم) كما ذكرنا. الثالث - أن أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافا، ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية. والله أعلم. (1) في ج، ط: يتقوون بها. (2) ج 8 ص 55. (3) في ج، ط: دار. (4) الحرقات (بضم الحاء وفتح الراء وضمها): موضع ببلاد جهينة. (*)
[ 325 ]
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة، قاله ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي. واختاره الطبري قال: إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب. وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه. وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا: المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء الدية. وقرأها الحسن: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن). قال الحسن: إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه. قال أبو عمر: وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) ثم قال تعالى: (وإن كان من قوم) يريد ذلك المؤمن. والله أعلم. قال ابن العربي: والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد. قلت: وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز. وقوله: (فدية مسلمة) على لفظ النكرة ليس يقتضي دية بعينها. وقيل: هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم: فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1)). الرابعة عشرة - وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، قال أبو عمر: إنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل. وهذا إنما هو في دية الخطأ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل: (النفس بالنفس (2)). و (الحر بالحر) كما تقدم في (البقرة (3)). (1) راجع ج 8 ص 61 (2) راجع ج 6 ص 191 (3) راجع ج 2 ص 246 فما بعد. (*)
[ 326 ]
الخامسة عشرة - روى الدار قطني من حديث موسى بن على بن رباح اللخمصى قال: سمعت أبى يقول ان أعمى كان ينشد [ في الموسم (1) ] في خلافة عمر [ بن الخطاب (2) ] رضي الله عنه وهو يقول: [ يا ] أيها الناس ليقت منكرا * هل يعقل الاعمى الصحيح المبصرا * خرامعا كلاهما تكسرا * وذلك أن الاعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر، فوقع الاعمى على البصير فمات البصير، فقضى عمر بعقل البصير على الاعمى. وقد اختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما، فروي عن أبن الزبير: يضمن الاعلى الاسفل، ولا يضمن الاسفل الاعلى. وهذا قول شريح والنخعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك في رجلين جر أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا: على عاقلة الذي جبذه الدية. قال أبو عمر: ما أظن في هذا خلافا - والله أعلم - إلا ما قال بعض المتأخرين من أصحابنا وأصحاب الشافعي: يضمن نصف الدية، لانه مات من فعله، ومن سقوط الساقط عليه. وقال الحكم وابن شبرمة: إن سقط رجل على رجل من فوق بيت فمات أحدهما، قالا: يضمن الحي منهما. وقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا، قال: دية المصدوم على عاقلة الصادم، ودية الصادم هدر. وقال في الفارسين إذا اصطدما فماتا: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لان كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل (3) صاحبه، وقاله عثمان البتي وزفر. وقال مالك والاوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه في الفارسين يصطدمان فيموتان: على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته. قال ابن خويز منداد: وكذلك عندنا السفينتان تصطدمان إذا لم يكن النوتي صرف السفينة ولا الفارس صرف الفرس. وروي عن مالك في السفينتين والفارسين على كل واحد منهما الضمان لقيمة ما أتلف لصاحبه كاملا. السادسة عشرة - واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب، فقال مالك وأصحابه: هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم (1) الزيادة عن الدار قطني. (2) من ج، ز. (3) في ج: ثقل (*)
[ 327 ]
على النصف من ذلك. روي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الز بير وعمرو ابن شعيب وقال به أحمد بن حنبل. وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن ابن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم. وعبد الرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا. وقال ابن عباس والشعبي والنخعي: المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم، وهو قول أبي حنيفة والثوي وعثمان البتي والحسن بن حي، جعلوا الديات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب. وحجتهم قوله تعالى: (فدية) وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم. وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة. قال أبو عمر: هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة. وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، وحجته أن ذلك أقل ما قيل في ذلك، والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة. وروي هذا القول عن عمر وعثمان، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق. السابعة عشرة - قوله تعالى: (فمن لم يجد) أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها. (فصيام شهر ين) أي فعليه صيام شهرين. (متتابعين) حتى لو أفطر يوما استأنف، هذا قول الجمهور. وقال مكي عن الشعبي: إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد. قال ابن عطية: وهذا القول وهم، لان الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل. والطبري حكى هذا القول عن مسروق. الثامنة عشرة - والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف، وإنها إذا طهرت ولم تؤخر وصلت باقي صيامها بما سلف منه، لا شئ عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر
[ 328 ]
فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها، فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء، قاله أبو عمر. واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين، فقال مالك: وليس لاحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض، وليس له أن يسافر فيفطر. وممن قال يبني في المرض سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس. وقال سعيد بن جبير والنخعي والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني: يستأنف في المرض، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي، وأحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه يبني كما قال مالك. وقال ابن شبرمة: يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان. قال أبو عمر: حجة من قال يبني لانه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد، وقد تجاوز الله عن غير المتعمد. وحجة من قال يستأنف لان التتابع فرض لا يسقط لعذر، وإنما يسقط المأثم، قياسا على الصلاة، لانها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذرا ستأنف ولم يبن. التاسعة عشرة - قوله تعالى: (توبة من الله) نصب على المصدر، ومعناه رجوعا. وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لانه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ. وقيل: أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة، ومنه قوله تعالى: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم (1)). أي خفف، وقوله تعالى: (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم (2)). الموفية عشرين - (وكان الله) أي في أزله وأبده. (عليما) بجميع المعلومات. (حكيما) فيما حكم وأبرم. قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93) (1) راجع ج 2 ص 314 (2) راجع ج 19 ص 50 (*)
[ 329 ]
فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ومن يقتل) (من) شرط، وجوابه (فجزاؤه) وسيأتي. واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل، فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ (1) [ المعد للقطع (2) ] أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها. وقالت فرقة: المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وهذا قول الجمهور. الثانية - ذكر الله عزوجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به، فقال ابن المنذر: أنكر ذلك مالك، وقال: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ. وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد: وأما شبه العمد فلا نعرفه. قال أبو عمر: أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد، فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود. قال أبو عمر: وقال بقو لهما جماعة من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الامصار إلى أن هذا كله شبه العمد. وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين. قال ابن المنذر: وشبه العمد يعمل به عندنا. وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثري وأهل العراق والشافعي، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قلت: وهو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الاصل صيانتها في أهبها (3)، فلا تستباح إلا بأمر بين لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، لانه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد، فالضرب مقصود والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية. وبمثل هذا جاءت السنة، روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الابل منها أربعون في بطونها أولادها). وروى الدار قطني عن ابن عباس قال قال رسول (1) في ط: المحدد. (2) زيادة عن ابن عطية. (3) الاهب (ضمشين جمع الاهاب): الجلد. (*)
[ 330 ]
الله صلى الله عليه وسلم: (العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية (1) بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الابل). وروي أيضا من حديث سليما بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه). وهذا نص. وقال طاوس في الرجل يصاب في الرميا (2) في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة. يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرى من قاتله. وقال أحمد بن حنبل: العميا هو الامر الاعمى (3) للعصبية لا تستبين ما وجهه. وقال إسحاق: هذا في تحارج (4) القوم وقتل بعضهم بعضا. فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس، ذكره الدار قطني. مسألة - واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة، فقال عطاء والشافعي: هي ثلاثون حقة (5) وثلاثون جذعة وأربعون خلفة. وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الاشعري، وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه با لسيف. وقيل: هي مربعة ربع بنات لبون، وربع حقاق، وربع جذاع، وربع بنات مخاض. هذا قول النعمان ويعقوب، وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي. وقيل: هي مخمسة: عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة، هذا قول أبي ثور. وقيل: أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة، (1) العمية (بكسر العين والميم وتشديد الياء) أي في حال يعمى أمره ولا يتبين قاتله ولا حال قتله. (2) الرميا: بكسر وتشديد وقصر، بوزن الهجيرى من الرمى، مصدر يراد به المبالغة. (3) في ج: العمى. (4) كذا في ج، ط: أي وقعوا في حرج. وفى ى: تخارج. (5) قال أبو داود في صحيحه: (قال أبو عبيد وغير واحد: إذا دخلت الناقة في السنة الرابعة فهو حق والانثى حقه، لانه يستحق أن يحمل عليه ويركب، فإذا دخل في الخامسة فهو جذع وجذعة، فإذا دخل في السادسة وألقى ثنيته فهو ثنى، فإذا دخل في السابعة فهو رباع ورباعية، فإذا دخل في الثامتة وألقى السن الذى بعد الرباعية فهو سد يس وسدس، فإذا دخل في التاسعة فطرنا به وطلع فهو بازل، فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف، ثم ليس له اسم ولكن يقال: بازل عام وبازل عامين، ومخلف عام ومخلف عامين إلى ما زاد. وقال النضر بن تحميل: ابنة مخاض لسنة وابنة لبون لسنتين، وحقة لثلاث وجذعة لا ربع والثنى لخمس ورباع لست وسديس لسبع وبازل لثمان. (*)
[ 331 ]
وثلاثون بنات لبون. وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهرى. وقيل: أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها، وثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وبه قال الشعبي والنخعي، وذكره أبو داود عن أبي الاحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي. الثالثة - واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد، فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور: هو عليه في ماله. وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: هو على العاقلة. قال ابن المنذر: قول الشعبي أصح، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة. الرابعة - أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني، وقد تقدم ذكرها في (البقرة (1)). وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة، واختلفوا فيها في قتل العمد، فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ. قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلان تجب في العمد أولى. وقال: إذا شرع السجود في السهو فلان يشرع في العمد أولى، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ. وقد قيل: إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل، فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله. وقيل تجب. ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله. وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى. قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لان الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل. وليس يجوز لاحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت. الخامسة - واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ، فقالت طائفة: على كل واحد منهم الكفارة، كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي (1) راجع ج 2 ص 252. (*)
[ 332 ]
وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: عليهم كلهم كفارة واحدة، هكذا قال أبو ثور، وحكي ذلك عن الاوزاعي. وفرق الزهري بين العتق والصوم، فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا: عليهم كلهم عتق رقبة، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين. السادسة - روى النسائي: أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال حدثنى خالد بن خداش قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا). وروي عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء). وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير ابن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس، هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا. ثم قال ابن عباس: ويحك ! أنى (1) له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الاخرى تشخب أو داجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار). وعن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نازلت ربي في شئ ما نازلته (2) في قتل المؤمن فلم يجبني). السابعة - واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن سعيد ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) هي آخر ما نزل وما نسخها شئ. وروى النسائي عنه قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة ؟ قال: لا. وقرأت عليه الآية التي في الفرقان: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر (3) قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه). وروي (1) في ز: أله توبة ؟. (2) نازلت ربى: راجعته وسألته مرة بعد أخرى. (3) راجع ج 13 ص 75. (*)
[ 333 ]
عن زيد بن ثابت نحوه، وإن آية النساء نزلت بعد أية الفرقان بستة أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر، ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت. وإلى عموم هذه الآية مع هذه الاخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا: هذا مخصص عموم قوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل، فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا. وذهب جماعة من العلماء منهم عبد الله بن عمر - وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس - إلى أن له توبة. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الاشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال المن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال: لا، إلا النار، قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لا حسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. قال: فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك. وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح، وإن هذه الآية مخصوصة، ودليل التخصيص آيات وأخبار. وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن ضبابة (1)، وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن ضبابة، فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر، فقال بنو النجار: والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية، فأعطوه مائة من الابل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الابل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا، وجعل ينشد: قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع (2) حللت به وتري وأدركت ثورتي * وكنت إلى الاوثان أول راجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أؤمنه في حل ولا حرم). وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة. وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين، ثم ليس الاخذ بظاهر الآية بأولى من الاخذ بظاهر قوله: (إن الحسنات يذهبن (1) كذا في ج والطبري والعسقلاني. وفى ا، ط، ز، ى وابن عطية: صبابة. وفى القاموس وشرحه: حبابة. با لحاء. (2) فارع: حصن بالمدينة. (*)
[ 334 ]
السيئات (1)) وقوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده (2)) وقوله: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). والاخذ بالظاهرين تناقض فلابد من التخصيص. ثم إن الجمع بين آية (الفرقان) وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض، وذلك أن يحمل مطلق آية (النساء) على مقيد آية (الفرقان) فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب. وأما الاخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: (تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه (3)). رواه الائمة أخرجه الصحيحان. وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس. أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجة في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الاخبار الثابتة. ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويقر بأنه قتل عمدا، ويأتي السلطان الاولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا، فهذا غير متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة، فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) ودخله التخصيص بما ذكرنا، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا، أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال: متعمدا [ معناه (4) ] مستحلا لقتله، فهذا أيضا يئول إلى الكفر إجماعا. وقالت جماعة: إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب، قاله أبو حنيفة وأصحابه. فإن قيل: إن قوله تعالى: (فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه) دليل على كفره، لان الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الايمان. قلنا: هذا وعيد، والخلف في الوعيد كرم، كما قال: وإني متى أو عدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقد تقدم. جواب ثان - إن جازاه بذلك، أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه. نص على هذا أبو مجلز لا حق بن حميد وأبو صالح وغيرهما. وروى أنس بن مالك عن رسول الله (1) راجع ج 9 ص 108 (2) راجع ج 16 ص 25 وج 8 ص 250 (3) الحديث أثبتناه كما في صحيح مسلم. (4) من ج، ط، ى، ز. (*)
[ 335 ]
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أو عدله العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه). وفي هذين التأويلين دخل، أما الاول - فقال القشيري: وفي هذا نظر، لان كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام، فهو إذا جائز في الكلام. وأما الثاني - وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس: وهذا الوجه الغلط فيه بين، وقد قال الله عز ح وجل: (ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا (1)) ولم يقل أحد: إن جازاهم، وهو خطأ في العربية لان بعده (وغضب الله عليه) وهو محمول على معنى جازاه. وجواب ثالث - فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي. وذكر هبة الله في كتاب (الناسخ والمنسوخ) أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وقال: هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة. وفي هذا الذي قال نظر، لانه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ، قاله ابن عطية. قلت: هذا حسن، لان النسخ لا يدخل الاخبار إنما المعنى فهو يجزيه. وقال النحاس في (معاني القرآن) له: القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب، فإن تاب فقد بين أمره بقوله: (وإني لغفار لمن (1) تاب) فهذا لا يخرج عنه، والخلود لا يقتضي الدوام، قال الله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد (1)) الآية. وقال تعالى: (يحسب أن ماله أخلده (2)). وقال زهير: * ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا (3) * وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد، فإن هذا يزول بزوال الدنيا. وكذلك العرب تقول: لاخلدن فلانا في السجن، والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون. ومثله قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه وأبد أيامه. وقد تقدم (4) هذا كله لفظا ومعنى. والحمد لله. (1) راجع ج 11 ص 64، وص 229، وص 287 (2) راجع ج 20 ص 184 (3) هذا عجز بيت. وصدره: * ألا لا أرى على الحوادث باقيا * (4) راجع ج 1 ص 241 (*)
[ 336 ]
قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذاك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ان الله كان بما تعملون خبيرا (94) فيه احدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) هذا متصل بذكر القتل والجهاد. والضرب: السير في الارض، تقول العرب: ضربت في الارض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره، مقترنة بفي. وتقول: ضربت الارض، دون (في) إذا قصدت قضاء حاجة الانسان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك). وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم (1) برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله. فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية. وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله: (عرض الحياة الدنيا) تلك الغنيمة. قال: قرأ ابن عباس (السلام). في غير البخاري: وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته. واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الاكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والا ستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الاضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الارض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله، فلما رأوا أن الارض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب، وقال عليه السلام: (إن الارض لتقبل من هو شر منه). قال الحسن: أما إنها تحبس من هو (1) من ج، ط، ز. (*)
[ 337 ]
شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا. وفي سنن ابن ماجه عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ جيشا (1) ] من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت ! قال: (وما الذي صنعت) ؟ مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه) فقال: يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال: (لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه). فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه، فأصبح على وجه الارض. فقلنا: لعل عدوا نبشه، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الارض. فقلنا: لعل الغلمان نعسوا، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الارض، فألقيناه في بعض تلك الشعاب. وقيل: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس ابن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك. وقاله ابن القاسم عن مالك. وقيل: كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله، ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الامر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول: لا إله إلا الله. وقد تقدم القول فيه. وقيل: القاتل أبو قتادة. وقيل: أبو الدرداء. ولا خلاف أن الذي لفظته الارض حين مات هو محلم الذي ذكرناه. ولعل هذه الاحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف. والله أعلم. وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال: له غالب بن فضالة الليثي. وقيل: المقداد. حكاه السهيلي. الثانية - قوله تعالى: (فتبينوا) أي تأملوا. و (تبينوا) قراءة الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وقالا: من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، يقال: تبينت الامر وتبين الامر بنفسه، فهو متعد ولازم. وقرأ حمزة (فتثبتوا) من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة. (1) من ج وط وز. (2) في ج: قال. (*)
[ 338 ]
(وتبينوا) في هذا أوكد، لان الانسان قد يتثبت ولا يتبين. وفي (إذا) معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في قوله (فتبينوا). وقد يجازى بها كما قال: * وإذا تصبك خصاصة فتجمل (1) * والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر: والنفس راغبة إذا رغبتها * وإذا ترد إلى قليل تقنع والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه، وإنما خص السفر بالذكر لان الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر. الثالثة - قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا) السلم والسلم، والسلام واحد، قاله البخاري. وقرئ بها كلها. واختار أبو عبيد القاسم بن سلام (السلام). وخالفه أهل النظر فقالوا: (السلم) ههنا أشبه، لانه بمعنى الانقياد والتسليم (2)، كما قال عزوجل: (فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء (3)) فالسلم الاستسلام والانقياد. أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم (4) لست مؤمنا. وقيل: السلام قوله السلام عليكم، وهو راجع إلى الاول، لان سلامه بتحية الاسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك. قال الاخفش: يقال [ فلان (5) ] سلام إذا كان لا يخالط أحدا. والسلم (بشد السين وكسرها وسكون اللام) الصلح (6). الرابعة - وروي عن أبي جعفر أنه قرأ (لست مؤمنا) بفتح الميم الثانية، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن. الخامسة - والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله، فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله، لانه قد اعتصم بعصام الاسلام المانع من دمه وماله وأهله: فإن قتله بعد ذلك قتل به. وإنما سقط القتل عن هؤلاء لاجل أنهم كانوا في صدر الاسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح، وأن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم (1) هذا عجز بيت وصدره: * واستغن ما أغناك ربك بالغنى * في ط وزوى: فتحمل بالمهملة وهى رواية. (2) من ى. (3) راجع ج 10 ص 99 (4) في ا وج دعوته. (5) من ابن عطية. (6) من ابن عطية وج وط وز وى. وفى ا وح: الصفح. فهو تصحيف. (*)
[ 339 ]
كيفما قالها، ولذلك قال لاسامة: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا) أخرجه مسلم. أي تنظر (1) أصادق هو في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الاحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر. السادسة - فإن قال: سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا، لانه موضع إشكال. وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا أطلب الامان: هذه أمور مشكلة، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الاسلام، لان الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). السابعة - فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الاسلام فقد اختلف فيه علماؤنا، فقال ابن العربي: نرى أنه لا يكون بذلك مسلما، أما أنه يقال له: ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال: صلاة مسلم، قيل له: قل لا إله إلا الله (2)، فإن قالها تبين صدقه، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب، وكانت عند من يرى إسلامه ردة، والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة. وكذلك هذا الذي قال: سلام عليكم، يكلف (3) الكلمة، فإن قالها تحقق رشاده، وإن أبى تبين عناده وقتل. وهذا معنى قوله (فتبينوا) أي الامر المشكل، أو (تثبتوا) ولا تعجلوا المعنيان سواء. فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه. فإن قيل: فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم، ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا: لانه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لاجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية. الثامنة - قوله تعالى: (تبتغون عرض الحياة الدنيا) أي تبتغون أخذ ماله: ويسمى متاع الدنيا عرضا لانه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع [ الحياة (4) ] الدنيا عرض بفتح الراء، ومنه (5): (الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر). (1) في ج وط وى: انتظر. (2) في ابن العربي: لا اله الا الله محمد رسول الله. (3) في ا وح: تكلف. تكلف الشئ: تجشمه على مشقة وعلى خلاف عادته. (4) من ج. (5) أي الحديث. (*)
[ 340 ]
والعرض (بسكون الراء) ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض عرض، وليس كل عرض عرضا. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس). وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه: تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا * فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي فليس الغنى عن كثرة المال إنما * يكون الغنى والفقر من قبل النفس وهذا يصحح قول أبي عبيدة: فإن المال يشمل كل ما يتمول. وفي كتاب العين: العرض مانيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى: (تريدون عرض الدنيا (1)) وجمعه عروض. وفي المجمل لابن فارس: والعرض من يعترض الانسان من مرض [ أو نحوه (2) ] وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر. والعرض من الاثاث ما كان غير نقد. وأعرض الشئ إذا ظهر وأمكن. والعرض خلاف الطول. التاسعة - قوله تعالى: (فعند الله مغانم كثيرة) عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور، أي فلا تتهافتوا. (كذلك كنتم من قبل) أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره. وقال ابن زيد: المعنى كذلك كنتم كفرة (فمن الله عليكم) بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره. العاشرة - استدل بهذه الاية من قال: ان الايمان هو القول، لقوله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا). قالوا: ولما منع أن يقال لمن قال لا اله الا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول. ولو لا الايمان الذى هو هذا (3) القول لم يعب قولهم. قلنا: انما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه، والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله) (1) راجع ج 8 ص 45 (2) من الاصول. (3) في ج: ولو لا الايمان الذى ظهر لم يعب. (*)
[ 341 ]
وليس في ذلك أن الايمان هو الاقرار فقط، الا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في (البقرة (1)) وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام: (أفلا شققت عن قلبه) ؟ فثبت أن الايمان هو الاقرار وغيره، وأن حقيقته التصديق بالقلب، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط. واستدل بهذا أيضا من قال: ان الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الاسلام، قال: لان الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الاسلام. وقد مضى القول في هذا في أول البقرة. وفيها رد على القدرية، فان الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق، والقدرية تقول: خلقهم كلهم للايمان. ولو كان كما زعموا لما كان لا ختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى. الحادية عشرة - قوله تعالى: (فتبينوا) أعاد الامر بالتبيين للتأكيد. (ان الله كان بما تعملون خبيرا) تحذير عن مخالفة أمر الله، أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم. قوله تعالى: لا يستوى القعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجهدين بأمولهم وأنفسهم على القعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجهدين على القعدين أجرا عظيما (95) درجت منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) قال ابن عباس: لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. ثم قال: (غير أولي الضرر) والضرر الزمانة. روى الائمة واللفظ لابي داود عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شئ (1) راجع ج 1 ص 193. (2) راجع ج 1 ص 198. (*)
[ 342 ]
أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سري عنه فقال: (أكتب) فكتبت في كتف (1) (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يارسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الاولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اقرأ يا زيد) فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غير أولي الضرر) الآية كلها. قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف. وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) عن بدر والخارجون إلى بدر. قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الاعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض غزواته: (إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر). فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي، فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة مالا يثيب على الفعل. وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. والله أعلم. قلت: والقول الاول أصح - إن شاء الله - للحديث الصحيح في ذلك (إن بالمدينة رجالا) ولحديث أبي كبشة الانماري قوله عليه السلام (إنما الدنيا لاربعة نفر) الحديث وقد تقدم في سورة (آل عمران (2)). ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر (إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي). (1) الكتف: عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. (2) راجع ج 4 ص 215. وراجع ج 8 ص 292. (*)
[ 343 ]
الثانية - وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع، لان أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرفون في الشدائد، وتروعهم (1) البعوث والاوامر، كانوا أعظم من المتطوع، لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف (2) الكبار ونحوها. قال ابن محيريز: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون. قال مكحول: روعات البعوث تنفي روعات القيامة. الثالثة - وتعلق بها أيضا من قال: إن الغنى أفضل من الفقر، لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الاعمال. وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، فذهب قوم إلى تفضيل الغني، لان الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة. وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لان الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها. قال الماوردي: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة. وذهب أخرون إلى تفضيل التوسط بين الامرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الامرين، وليسلم من مذمة الحالين. قال الماوردي: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن (خير الامور أوسطها). ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال: ألا عائذا بالله من عدم الغنى * ومن رغبة يوما إلى غير مرغب الرابعة - قوله تعالى: (غير أولي الضرر) قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو (غير) بالرفع، قال الاخفش: هو نعت للقاعدين، لانهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير، والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر، أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر. والمعنى لا يستوي القاعدون الاصحاء، قاله الزجاج. وقرأ أبو حيوة (غير) جعله نعتا للمؤمنين، أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الاصحاء. (1) في نسخ الاصل اختلاف في هذه العبارة والذى اثبتناه هو ما في ابن عطية، وهو الواضح. (2) الصائفة: الغزوة في الصيف. (*)
[ 344 ]
وقرأ أهل الحرمين (غير) بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين، أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين. وإن شئت على الحال من القاعدين، أي لا يستوي القاعدون من الاصحاء أي في حال صحتهم، وجازت الحال منهم، لان لفظهم لفظ المعرفة، وهو كما تقول: جاءني زيد غير مريض. وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب، والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) وقد قال بعد هذا: (درجات منه ومغفرة ورحمة) فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما. وقيل: إن معنى درجة علو، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. فهذا معنى درجة، ودرجات يعني في الجنة. قال ابن محيريز: سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة. و (درجات) بدل من أجر وتفسير له، ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف، أي فضلهم بدرجات، ويجوز أن يكون توكيدا لقوله (أجرا عظيما) لان الاجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة، ويجوز الرفع، أي ذلك درجات. و (أجرا) نصب ب (فضل) وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن، ولا ينتصب ب (فضل) لانه قد استوفى مفعوليه وهما قوله (المجاهدين) و (على القاعدين)، وكذا (درجة). فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والارض). (وكلا وعد الله الحسنى) (كلا) منصوب ب (وعد) و (الحسنى) الجنة، أي وعد الله كلا الحسنى. ثم قيل: المراد (بكل) المجاهدون خاصة. وقيل: المجاهدون وأو لو الضرر. والله أعلم. (1) الحضر (كقفل): ارتفاع الفرس في عدوه. (*)
[ 345 ]
قوله تعالى: ان الذين توفائهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتها جروا فيها فأولائك مأوائهم جهنم وساءت مصيرا (97) الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأوللائك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99) المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الايمان به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة فآفتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الآية. وقيل: إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم، فنزلت الآية. والاول أصح. روى البخاري عن محمد ابن عبد الرحمن قال: قطع على أهل المدينة بعث (1) فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم). قوله تعالى: (توفاهم الملائكة) يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين. وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار. وقيل: تقبض أرواحهم، وهو أظهر. وقيل: المراد بالملائكة ملك الموت، لقوله تعالى: (قل يتوفاكم (1) أي ألزموا باخراج جيش لقتال أهل الشام في خلافة عبد الله بن الزبير على مكة (عن شرح القسطلانى). (2) كذا في كل الاصول. والذى في البخاري على العسقلاني: يكثرون سواد المشركين على رسول الله. (*)
[ 346 ]
ملك الموت الذي وكل بكم (1)). و (ظالمي أنفسهم) نصب على الحال، أي في حال ظلمهم أنفسهم، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافا وأضاف (2)، كما قال تعالى: (هديا بالغ الكعبة (3)). وقول الملائكة: (فيم كنتم) سؤال تقريع وتوبيخ، أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين ! وقول هؤلاء: (كنا مستضعفين في الارض) يعني مكة، اعتذار غير صحيح، إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم (ألم تكن أرض الله واسعة). ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لانفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شئ من هذا، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحدهم بالايمان، واحتمال ردته. والله أعلم. ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في (مأواهم) من كان مستضعفا حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة وسلمة ابن هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: كنت أنا وأمي ممن عنى الله بهذه الآية، وذلك أنه كان من الولدان إذ ذاك، وأمه هي أم الفضل بنت الحارث واسمها لبابة، وهي أخت ميمونة، وأختها الاخرى لبابة الصغرى، وهن تسع أخوات قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن: (الاخوات (4) مؤمنات) ومنهن سلمى والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة: أم حفيد، واسمها هزيلة. هن ست شقائق وثلاث لام، وهن سلمى، وسلامة، وأسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، ثم امرأة أبي بكر الصديق، ثم امرأة علي رضى الله عنهم أجمعين. قوله تعالى: (فيم كنتم) سؤال توبيخ، وقد تقدم. والاصل (فيما) ثم حذفت الالف فرقا بين الاستفهام والخبر، والوقف عليها (لئلا تحذف الالف والحركة. والمراد بقوله: (ألم تكن أرض الله واسعة) المدينة، أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم ! وفي هذه الآية دليل على هجران الارض التي يعمل فيها بالمعاصي. (1) راجع ج 14 ص 92 (2) الاولى: فحذفت، وأضيف. تأدبا مع الله سبحانه. (3) راجع ج 6 ص 314. (4) في تهذيب التهذيب حرف اللام: (الاخوات الاربع مؤمنات). وفى ط: الاخوات المؤمنات. (*)
[ 347 ]
وقال سعيد بن جبير: إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها، وتلا (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام). (فأولئك مأواهم جهنم) أي مثواهم النار. وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم. (وساءت مصيرا) نصب على التفسير. وقوله تعالى: (لا يستطيعون حيلة) الحيلة لفظ عام لانواع أسباب التخلص. والسبيل سبيل المدينة، فيما ذكر مجاهد والسدى وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل. وقوله تعالى: (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه، ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة، حتى أن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم، إذ لا يجب تحمل غاية المشقة، بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة. فمعنى الآية: فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة، ولهذا قال: (وكان الله عفوا غفورا) والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد، وقد تقدم. قوله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مرا غما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا تاى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد) شرط وجوابه. (في الارض مراغما) اختلف في تأويل المراغم، فقال مجاهد: المراغم المتزحزح. وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: المراغم المتحول والمذهب. وقال ابن زيد: والمراغم المهاجر، وقاله أبو عبيدة. قال النحاس: فهذه الاقوال متفقة المعاني. فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة، وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرغام. ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب. (1) في ابن عطية: المتزحزح عما يكره. (*)
[ 348 ]
وراغمت فلانا هجرته وعاديته، ولم أبال إن رغم أنفه. وقيل: إنما سمي مهاجرا ومراغما لان الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمى خروجه مراغما، وسمى مصيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة. وقال السدي: المراغم المبتغي للمعيشة. وقال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: المراغم الذهاب في الارض. وهذا كله تفسير بالمعنى، وكله قريب بعضه من بعض، فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر لارغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. ومنه قول النابغة: كطرد يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمهرب الثانية - قوله تعالى: (وسعة) أي في الرزق، قاله ابن عباس والربيع والضحاك. وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى. وقال مالك: السعة سعة البلاد. وهذا أشبه بفصاحة العرب، فإن بسعة الارض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق، واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرج. ونحو هذا المعنى قول الشاعر: وكنت إذا خليل رام قطعي * وجدت وراي منفسحا عريضا آخر: لكان لي مضطرب واسع * في الارض ذات الطول والعرض الثالثة - قال مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لاحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق. وقال: والمراغم الذهاب في الارض، والسعة سعة البلاد على ما تقدم. واستدل أيضا بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الغزو ثم مات قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب، رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل المدينة. وروي ذلك عن ابن المبارك أيضا. الرابعة - قوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) الاية. قال عكرمة مولى ابن عباس: طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. وفى قول
[ 349 ]
عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما، وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل، ونحو منه قول ابن عباس: مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلا مهابته. والذي ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص ابن ضمرة بن زنباع، حكاه الطبري عن سعيد بن جبير. ويقال فيه: ضميرة أيضا. ويقال: جندع بن ضمرة من بني ليث، وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني، فهيئ له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم (1)، فأنزل الله فيه (ومن يخرج من بيته مهاجرا) الآية. وذكر أبو عمر أنه قد قيل فيه: خالد ابن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة، وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة، فنزلت فيه الآية، والله أعلم. وحكى أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن ضمرة. وقيل: ضمرة بن جندب الضمري، عن السدي. وحكي عن عكرمة أنه جندب بن ضمرة الجندعي. وحكي عن ابن (2) جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث. وحكى المهدوي أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم. وقيل: ضمرة بن خزاعة، والله أعلم. وروى معمر عن قتادة قال: لما نزلت (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) الآية، قال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر، فأحملوني. فحملوه فأدركه الموت في الطريق، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو بلغ إلينا لتم أجره، وقد مات بالتنعيم. وجاء بنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة، فنزلت هذه الآية (ومن يخرج من بيته مهاجرا) الآية. وكان اسمه ضمرة بن جندب، ويقال: جندب ابن ضمرة على ما تقدم. (وكان الله غفورا) لما كان منه من الشرك. (رحيما) حين قبل توبته. الخامسة - قال ابن العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الارض قسمين: هربا وطلبا، فالاول ينقسم إلى ستة أقسام: الاول - الهجرة وهي الخروج من (1) التنعيم: موضع قرب مكة في الحل، يعرف بمسجد عائشة. منه يحرم با لعمرة المعتمر. (2) كذا في ابن عطية والاصول الا ج ف: جابر. ولعل ابن جابر هو عبد الرحمن بن جابر بن عتيك الا نصارى أو أخوه محمد. (*)
[ 350 ]
دار الحرب إلى دار الاسلام، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان (1)، فإن بقي في دار الحرب عصى، ويختلف في حاله. الثاني - الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول لا يحل لاحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح، فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، قال الله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) إلى قوله (الظالمين (2)). الثالث - الخروج من أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم. الرابع - الفرار من الاذية في البدن، وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور. وأول من فعله إبراهيم عليه السلام، فإنه لما خاف من قومه قال: (إني مهاجر إلى ربي (3)، وقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين (4)). وقال مخبرا عن موسى: (فخرج منها خائفا يترقب (3)). الخامس - خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الارض النزهة. وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا. وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بيانه في (البقرة (5)). بيد أن علماءنا قالوا: هو مكروه. السادس - الفرار خوف الاذية في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والاهل مثله وأوكد. وأما قسم الطلب فينقسم قسمين: طلب دين وطلب دنيا، فأماطلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام: الاول - سفر العبرة، قال الله تعالى: (أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم (6)) وهو كثير. ويقال: إن ذا القرنين إنما طاف [ الارض (7) ] ليرى عجائبها. وقيل: لينفذ الحق فيها. الثاني - سفر الحج. والاول وإن كان (1) كذا في الاصول. والذى في ابن العربي: (حيث كان أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الاسلام). (2) راجع ج 7 ص 12 (3) راجع ج 13 ص 339، وص 265 (4) راجع ج 15 ص 97 (5) راجع ج 3 ص 230 (6) راجع ج 14 ص 9. (7) الزيادة عن ابن العربي. (*)
[ 351 ]
ندبا فهذا فرض. الثالث - سفر الجهاد وله أحكامه. الرابع - سفر المعاش، فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الاقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه، من صيد أو احتطاب أو احتشاش، فهو فرض عليه. الخامس - سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم (1)) يعني التجارة، وهي نعمة من الله بها في سفر الحج، فكيف إذا انفردت. السادس - في طلب العلم وهو مشهور. السابع - قصد البقاع، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). الثامن - الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها. التاسع - زيارة الاخوان في الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زار رجل أخاله في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته (2) فقال أين تريد فقال أريد أخا لي في هذه القرية قال هل لك من نعمة تربها (3) عليه قال لا غير أني أحببته في الله عز وجل قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه). رواه مسلم وغيره. قوله تعالى: وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ان الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ضربتم) سافرتم، وقد تقدم. واختلف العلماء في حكم القصر في السفر، فروي عن جماعة أنه فرض. وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين) الحديث، ولا حجة فيه لمخالفتها له، فإنه كانت تتم في السفر وذلك يوهنه. وإجماع فقهاء الامصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم، وقد قال غيرها من (1) راجع ج 2 ص 413 (2) أرصده ير قبه. والمدرجة (بفتح الميم والراء): الطريق. (3) رببت الامر: أصلحته ومتنته. (*)
[ 352 ]
الصحابة كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم: (إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة) رواه مسلم عن ابن عباس. ثم إن حديث عائشة قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين. وقال فيه الاوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، الحديث، وهذا اضطراب. ثم إن قولها: (فرضت الصلاة) ليس على ظاهره، فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح، فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها، وكذلك الصبح، وهذا كله يضعف متنه لا سنده. وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض، ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة، وهو قول الشافعي، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله. ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير، وهو قول أصحاب الشافعي. ثم اختلفوا في أيهما أفضل، فقال بعضهم: القصر أفضل، وهو قول الابهري وغيره. وقيل: إن الاتمام أفضل، وحكي عن الشافعي. وحكى أبو سعيد الفروي المالكي أن الصحيح في مذهب مالك التخيير للمسافر في الاتمام والقصر. قلت - وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) إلا أن مالكا رحمه الله يستحب له القصر، وكذلك يرى عليه الاعادة في الوقت إن أتم. وحكى أبو مصعب في (مختصره) عن مالك وأهل المدينة قال: القصر في السفر للرجال والنساء سنة. قال أبو عمر: وحسبك بهذا في مذهب مالك، مع أنه لم يختلف قوله: أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت، وذلك استحباب عند من فهم، لا إيجاب. وقال الشافعي: القصر في غير الخوف بالسنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة، ومن صلى أربعا فلا شئ عليه، ولا أحب لاحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة. وقال أبو بكر الاثرم: قلت لاحمد بن حنبل للرجل أن يصلي في السفر أربعا ؟ قال: لا، ما يعجبني، السنة ركعتان. وفي موطأ مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد، أنه سأل عبد الله بن عمر
[ 353 ]
فقال: يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال عبد الله بن عمر: يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل. ففي هذا الخبر (1) قصر الصلاة في السفر من غير خوف ستة لا فريضة، لانها لا ذكر لها في القرآن، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرا وخوفا واجتمعا، فلم يبح القصر في كتابه إلا مع هذين الشرطين. ومثله في القرآن: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح (2)) الآية، وقد تقدم. ثم قال تعالى: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) أي فأتموها، وقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف إلا الله تعالى، فكان ذلك سنة مسنونة منه صلى الله عليه وسلم، زيادة في أحكام الله تعالى كسائر ما سنة وبينه، مما ليس له في القرآن ذكر. وقوله: (كما رأيناه يفعل) مع حديث عمر حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف، فقال: (تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته (3)) يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشئ في كتابه بشرط ثم يبيح ذلك الشئ على لسان نبيه من غير ذلك الشرط. وسأل حنظلة ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان. قلت: فأين قوله تعالى: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) ونحن آمنون ؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سنة، وكذلك قال ابن عباس. فأين المذهب عنهما ؟. قال أبو عمر: ولم يقم مالك إسناد هذا الحديث، لانه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر، وأسقط من الاسناد رجلا، والرجل الذي لم يسمه هو أمية بن عبد الله ابن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، والله أعلم. الثانية - واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال داود: تقصر في كل سفر طويل أو قصير، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة، متمسكا بما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: (1) في ج وط: الحديث. (2) راجع ص 135 من هذا الجزء. (3) نص الحديث (صدقة تصدق الله بها عليكم...) الحديث كما في الصحاح والطبري والجصاص، وغيرها. وسيأتى. وفى الاصول: (تلك صدقة...) وفى ج: (تصدق الله بها على عباده). (*)
[ 354 ]
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك (1) - صلى ركعتين. وهذا لا حجة فيه، لانه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك، والله أعلم. قال ابن العربي: وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني، ولا أفكر فيه بفضول قلبي. ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر (2) لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك لانها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن، فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الامور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا (3)، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا. كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها) وهذا هو الصحيح، لانه وسط بين الحالين وعليه عول مالك، ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه، وروي مرة (يوما وليلة) ومرة (ثلاثة أيام) فجاء إلى عبد الله بن عمر فعول على فعله، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم (4)، وهي أربعة برد، لان ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال غيره: وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفا، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا، فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والاوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يوما تاما. وقول مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام، لانه لم يرد بقوله: مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه [ بعيدا ] عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم. وفى البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخا، وهذا مذهب مالك. وقال الشافعي والطبري: ستة وأربعون ميلا. وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة وأربعين ميلا (1) أحد رواة سند هذا الحديث. (2) في ج، ز: يقع به الفرق. (3) في ط: شرعا فيه. (4) رئم (بكسر أوله وهمز ثانيه و سكوفه وقيل بالياء من غير همز): واد بالمدينة. (*)
[ 355 ]
قال: يقصر، وهو أمر متقارب. وعن مالك في الكتب المنثورة: أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلا، وهي تقرب من يوم وليلة. وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدا !. ابن عبد الحكم: في الوقت (1) !. وقال الكوفيون: لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم). قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها بسير الابل ومشي الاقدام. وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة يومين، وروي هذا القول عن مالك، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم). وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا، وأنس في خمسة عشر ميلا. وقال الاوزاعي: عامة العلماء في القصر على اليوم التام، وبه نأخذ. قال أبو عمر: اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها، ومجملها عندي - والله أعلم - أنها خرجت على أجوبة السائلين، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع، كأنه قيل له صلى الله عليه وسلم في وقت ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم ؟ فقال: لا. وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة يومين بغير محرم ؟ فقال: لا. وقال له آخر: هل تسافر المرأة [ مسيرة (2) ] ثلاثة أيام بغير محرم ؟ فقال: لا. وكذلك معنى الليلة والبريد على ما روي، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم. ويجمع معاني الآثار في هذا الباب - وإن اختلفت ظواهرها - الحظر على المرأة أن تسافر سفرا يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم، قصيرا كان أو طويلا. والله أعلم. الثالثة - واختلفوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس. واختلفوا فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها. وروي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد. وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير. وروي عنه أيضا: تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور. وقال مالك: إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزها ومتلذذا (1) كذا في كل الاصول. (2) من ج وط. (*)
[ 356 ]
لم يقصر. والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما. وروي عن أبي حنيفة والاوزاعي إباحة القصر في جميع ذلك، وروي عن مالك. وقد تقدم في (البقرة (1)) واختلف عن أحمد، فمرة قال بقول الجمهور، ومرة قال: لا يقصر إلا في حج أو عمرة. والصحيح ما قاله الجمهور، لان القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز، وكل الاسفار في ذلك سواء، لقوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح) أي إثم (أن تقصروا من الصلاة) فعم. وقال عليه السلام (خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا). وقال الشعبي (2): إن الله يحب أن يعمل برخصه كما يحب أن يعمل بعزائمه. وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه، لان ذلك يكون عونا له على معصية الله، والله تعالى يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان (3)). الرابعة - واختلفوا متى يقصر، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الارض، وهو قول مالك في المدونة. ولم يحد مالك في القرب حدا. وروي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال، وإلى ذلك في الرجوع. وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها. وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الاسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى. قلت: ويكون معنى الآية على هذا: (وإذا ضربتم في الارض) أي إذا عزمتم على الضرب في الارض. والله أعلم. وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الاول حتى الليل. وهذا شاذ، وقد ثبت من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. أخرجه الائمة، وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال أو سبعة (4). (1) راجع ج 2 ص 277 (2) هذا حديث رواه أحمد والبيهق بلفظ (ان الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه). (3) راجع ج 6 ص 37 (4) في ج وط: وقيل سبعة. (*)
[ 357 ]
الخامسة - وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الاحرام، فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المقام في أثناء (1) صلاته جعلها نافلة، وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، ثم صلى صلاة مقيم. قال الابهزي وابن الجلاب: هذا - والله أعلم - استحباب، ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته. قال أبو عمر: هو عندي كما قالا، لانها ظهر، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس. السادسة - واختلف العلماء من هذا الباب في مدة الاقامة التي إذا نواها المسافر أتم، فقال مالك والشافعي والليث بن سعد والطبري وأبو ثور: إذا نوى الاقامة أربعة أيام أتم، وروي عن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم، وإن كان أقل قصر. وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر الطحاوي، وروي عن سعيد أيضا. وقال أحمد: إذا جمع (2) المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم، وبه قال داود. والصحيح ما قاله مالك، لحديث ابن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر. أخرجه الطحاوي وابن ماجه وغيرهما. ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الاقامة، وأبقى عليه فيها حكم المسافر، ومنعه من مقام الرابع، فحكم له بحكم الحاضر القاطن، فكان ذلك أصلا معتمدا عليه. ومثله ما فعله عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)، فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أمورهم. قال ابن العربي: وسمعت بعض أحبار المالكية يقول: إنما كانت الثلاثة الايام (4) خارجة عن حكم الاقامة، لان الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا، فقال تعالى: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (5)). وفي المسألة قول غير هذه الاقوال، وهو أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطنا له. روي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة. وقال أبو مجلز: (1) في ج وط وز: أضعاف. (2) جمع: عزم. (3) يريد قوله صلى الله عليه وسلم: (اخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب). (4) في ج وط. (5) راجع ج 9 ص 59 (*)
[ 358 ]
قلت لابن عمر: [ إني (1) ] آتي المدينة فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبا حاجة، فقال: صل ركعتين. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين. وأقام ابن عمر بأذربيجان (2) يصلي ركعتين ركعتين، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول: قال أبو عمر: محمل هذه الاحاديث عندنا على أن لا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدة، وإنما مثل ذلك أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا، وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الاقامة. السابعة - روى مسلم عن عروة عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الاولى. قال الزهري: فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر ؟ قال: إنها تأولت ما تأول عثمان. وهذا جواب ليس بموعب. وقد اختلف الناس في تأويل إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما على أقوال: فقال معمر عن الزهري: إن عثمان رضي الله عنه إنما صلى بمنى أربعا لانه أجمع على الاقامة بعد الحج. وروى مغيرة عن إبراهيم أن عثمان صلى أربعا لانه اتخذها وطنا (3). وقال يونس عن الزهري قال: لما اتخذ عثمان الاموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلى أربعا. قال: ثم أخذ به الائمة بعده. وقال أيوب عن الزهري، إن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الاعراب، لانهم كثروا عامئذ (4) فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع. ذكر هذه الاقوال كلها أبو داود في مصنفه في كتاب المناسك في باب الصلاة بمنى. وذكر أبو عمر في (التمهيد) قال ابن جريج: وبلغني إنما أوفاها عثمان أربعا بمنى من أجل أن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى فقال: يا أمير المؤمنين، مازلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الاول، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان. قال ابن جريج: وإنما أوفاها بمنى فقط (3). قال أبو عمر: وأما التأويلات في إتمام عائشة فليس منها شئ يروى عنها، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يصحبها دليل. وأضعف ما قيل في ذلك: إنها أم المؤمنين، وإن الناس حيث كانوا هم بنوها، وكان منازلهم منازلها، وهل كانت أم المؤمنين إلا أنها زوج النبي أبي المؤمنين صلى الله (1) في ز. (2) قيل: ستة أشهر. (3) الذى ثبت أن عثمان رضى الله عنه أتم بمنى لانه تزوج بمكة ومنى من أحوازها فقد قال حين أنكر عليه الصحابة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من تزوج من بلد فهو من أهلها) وأنا متزوج من أهل مكة. راجع الجصاص ج 2 ص 254 (4) في ز وط: غليه. (*)
[ 359 ]
عليه وسلم، وهو الذي سن القصر في أسفاره وفي غزواته وحجه وعمره (1). وفي قراءة أبي بن كعب ومصحفه (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم (2). وقال مجاهد في قوله تعالى: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم (3)) قال: لم يكن بناته ولكن كن نساء أمته، وكل نبي فهو أبو أمته. قلت: وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعا، وليست هي كذلك فانفصلا. وأضعف من هذا قول من قال: إنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز، وهذا باطل قطعا، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه. وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم، سبحانك هذا بهتان عظيم ! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت الامور عن الضبط. وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى. وقيل: إنها أتمت لانها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة. وهذا باطل، لان ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبها، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى علي. وأحسن ما [ قيل (4) ] في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله، لتري الناس أن الاتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره أفضل. وقد قال عطاء: القصر سنة ورخصة، وهو الراوي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر، رواه طلحة بن عمر. وعنه قال (5): كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم. وروى النسائي بإسناد صحيح أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة [ حتى إذا قدمت مكة (6) ] قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ! قصرت وأتممت وأفطرت وصمت ؟ فقال: (أحسنت يا عائشة) وما عاب علي. كذا هو مقيد بفتح التاء الاولى وضم الثانية في الكلمتين. وروى الدار قطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم، قال إسناده صحيح. (1) من ط وى. (2) راجع ج 14 ص 121 (3) راجع ج 9 ص 73 (4) في ج، ز، ط. (5) في ج وط وى: قالت. (6) زيادة عن سنن النسائي. (*)
[ 360 ]
الثامنة - قوله تعالى: (أن تقصروا من الصلاة) (أن) في موضع نصب، أي في أن تقصروا. قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات: قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها. واختلف العلماء في تأويله، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره، لحديث يعلي بن أمية على ما يأتي. وقال آخرون: إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، كما قال عمر رضي الله عنه: تمام غير قصر، وقصرها أن تصير ركعة. قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن تخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفه ركعة لا تزيد عليها شيئا، ويكون للامام ركعتان. وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الامير سعيد ابن العاص عن ذلك. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد (1) ركعة لكل طائفة ولم يقضوا. وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم محارب (2) خصفة وبني ثعلبة. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان (3) وعسفان (4). قلت: وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. وهذا يؤيد هذا القول ويعضده، إلا أن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى (بالقبس): قال علماؤنا [ رحمة الله عليهم (5) ] هذا الحديث مردود بالاجماع. قلت: وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الاجماع وبالله التوفيق. وحكى أبو بكر الرازي الحنفي في (أحكام القرآن) أن المراد بالقصر ههنا القصر (1) ذو قرد (بفتح القاف والراء والدال المهملة): موضع على نحو يوم من المدينة. (2) في ج، ز، ط، ى: يوم حارب حيصة. وفى البخاري: غزوة محارب خصفة من ثعلبة. كذا في ابن عطية: وهى غزوة ذات الرقاع، وبنى ثعلبة، وبنى أنمار، ومحارب واضافتها تمييز لو جود محارب أخر. (3) ضجنان (بالتحريك أو بسكون الجيم): جبل بتهامة: وقيل: جبيل على بريد من مكة. الواقدي: بين ضجنان ومكة خمسة وعشرون ميلا. (4) عسفان (بضم أوله وسكون ثانيه): منهلة بالطريق بين الحجفة ومكة. أو قرية جامعة بها منبر ونخيل ومزارع على ستة وثلاثين ميلا من مكة، وهى حد تهامة. (معجم البلدان). (5) في ج وط وى. (*)
[ 361 ]
في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الايماء، وبترك القيام إلى الركوع. وقال آخرون: هذه الآية مبيخة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه، إلى تكبيرة (1)، على ما تقدم في (البقرة (2)). ورجح الطبري هذا القول وقال: إنه يعادله قوله تعالى: (فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة) أي بحدودها وهيئتها الكاملة. قلت: هذه الاقوال الثلاثة في المعنى متقاربة، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر، وإن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين، فلا قصر. ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك. وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف، هذا ما ذكره أبو بكر الرازي في (أحكام القرآن) واحتج به، ورد عليه بحديث يعلى بن أمية على ما يأتي [ آنفا (3) ] إن شاء الله تعالى. التاسعة - قوله تعالى: (ان خفتم) خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الاسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية [ قلت (4) ] لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا. قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته). قلت: وقد استدل أصحاب الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث يعلى بن أمية هذا فقالوا: إن قوله: (ما لنا نقصر وقد أمنا) دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات. قال الكيا الطبري: ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر، ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان، فإنه لو لم يضرب في الارض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله (5). وفي قراءة أبي (أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا) بسقوط (إن خفتم). والمعنى على قراءته: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا. وثبت في مصحف عثمان [ رضي الله عنه (6) (إن (1) كذا في بعض الاصول، وهو الصواب. كما في ابن عطية قال: ويصلى ركعة واحدة حيث توجه إلى تكبير تين إلى تكبيرة. في ج وط: تكبيره. والتصويب من ى. (2) راجع ج 3 ص 223 (3) من ج، ط، ز. (4) من ز. (5) كذا في الاصول. ولعله: قالوه. (6) من ج، ط، ى. (*)
[ 362 ]
خفتم). وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له. روي عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون ؟. وقال عطاء: كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها. وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين: السفر والخوف، وفي غير الخوف بالسنة، منهم الشافعي وقد تقدم. وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى: (إن خفتم) ليس متصلا بما قبل، وإن الكلام تم عند قوله: (من الصلاة) ثم افتتح فقال: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف. وقوله: (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) كلام معترض، قاله الجرجاني وذكره المهدوي وغيرهما. ورد هذا القول القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي. قال القشيري أبو نصر: وفي الحمل على هذا تكلف شديد، وإن أطنب الرجل - يريد الجرجاني - في التقدير وضرب الامثلة. وقال ابن العربي: وهذا كله لم يفتقر إليه عمر ولا ابنه ولا يعلي بن أمية معهما. قلت: قد جاء حديث بما قاله الجرجاني ذكره القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته، وابن عطية أيضا في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نضرب في الارض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليم جناح أن تقصروا من الصلاة) ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) إلى آخر صلاة الخوف. فإن صح هذا الخبر فليس لاحد معه مقال، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن. وقد روى عن ابن عباس أيضا مثله، قال: إن قوله تعالى: (وإذا ضربتم
[ 363 ]
في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) نزلت في الصلاة في السفر، ثم نزل (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) في الخوف بعدها بعام. فالآية على هذا تضمنت قضيتين (1) وحكمين. فقوله (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) يعني به في السفر، وتم الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى فقدم الشرط، والتقدير: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. والواو زائدة، والجواب (فلتقم طائفة منهم معك). وقوله: (إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) اعتراض. وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهو حديث عمر إذ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته). قال النحاس: من جعل قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخا للآية فقد غلط، لانه ليس في الآية منع للقصر في الامن، وإنما فيها إباحة القصر في الخوف فقط. العاشرة - قوله تعالى: (أن يفتنكم الذين كفروا) قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل. وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل. وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته، وافتنته جعلته مفتتنا. وزعم الاصمعي أنه لا يعرف أفتنته. (ان الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) (عدوا) ههنا بمعنى أعداء. والله أعلم. قوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلواة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم ان كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذر كم ان الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102) (1) في ج وط: (قصمتين). (*)
[ 364 ]
فيه احدى عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) روى الدار قطني عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، قال: ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة). وذكر الحديث. وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى. وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه. وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد. وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو، ولكن فيها رخص على ما تقدم في (البقرة (1)) وهذه السورة، بيانه من اختلاف العلماء. وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الامراء بعده إلى يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة (2)) هذا قول كافة العلماء. وشذ أبو يوسف وإسماعيل بن علية فقالا: لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم) وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم، لان النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في ذلك، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب، فلذلك يصلي الامام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا. وقال الجمهور: إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث، فقال تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة (3)...) وقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص، ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذ [ كان (4) ] يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم (1) راجع ج 3 ص 223 (2) راجع ج 8 ص 244 (3) راجع ج 12 ص 322 (4) من ج وط وز. (*)
[ 365 ]
الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد قال تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره (1)) وهذا خطاب له، وأمته داخلة فيه، ومثله كثير. وقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه، فكذلك في قوله: (وإذا كنت فيهم). ألا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة الخوف. قال أبو عمر: ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف غيره (2)، لان أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين، وليس فيها فضل للمعطى كما في الصلاة فضل للمصلي خلفه. الثانية - قوله تعالى: (فلتقم طائفة منهم معك) يعني جماعة منهم تقف معك في الصلاة. (ليأخذوا أسلحتهم) يعني الذين يصلون معك. ويقال: (وليأخذوا أسلحتهم) الذين هم بإزاء العدو، على ما يأتي بيانه. ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة، ولكن روى في الاحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى، على ما يأتي. وحذفت الكسرة من قوله: (فلتقم) و (فليكونوا) لثقلها. وحكى الاخفش والقراء والكسائي أن لام الامر ولام كي ولام الجحود يفتحن. وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة، وهى الفرق بين لام الجر ولام التأكيد. والمراد من هذا الامر الانقسام، أي وسائرهم وجاه (3) العدو حذرا من توقع حملته. وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها، فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع. قال ابن العربي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة. وقال الامام أحمد ابن حنبل، وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه: لا أعلم أنه روى في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة (1) راجع ج 7 ص 12. (2) كذا في ج. والذى في ا وح وط وز وى: وصلى غيره خلف غيره. (3) وجاء (مثلث الواو) أي مقابلتهم وحذاءهم. (*)
[ 366 ]
الحوف أجزأه إن شاء الله. وكذلك قال أبو جعفر الطبري. وأما مالك وسائر أصحابه الا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو ما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الانصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الامام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو، فيركع الامام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم، فإذا استوى قائما ثبت، وأتموا لانفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والامام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الامام فيركع بهم [ الركعة ] ويسجد ثم يسلم، فيقومون ويركعون لانفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون. قال ابن القاسم صاحب مالك: والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات. قال ابن القاسم: وقد كان يأخذ بحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا. قال أبو عمر: حديث القاسم وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح ابن خوات: إلا أن بينهما فصلا في السلام، ففي حديث القاسم أن الامام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لانفسهم الركعة، وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم وبه قال الشافعي وإليه ذهب، قال الشافعي: حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الاحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله، وبه أقول. ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر الصلوات، في أن الامام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشئ منها، وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الامام. وقول أبي ثور في هذا الباب كقول مالك، وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده، وكان لا يعيب من فعل شيئا من الاوجه المروية في صلاة الخوف. وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الاخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة. وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى
[ 367 ]
راكبا أو قائما (1) يومئ إيماء، أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم. وإلى هذه الصفة ذهب الاوزاعي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر، قال: لانه أصحها إسنادا، وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم، ولانه أشبه بالاصول، لان الطائفة الاولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات. وأما الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبد الله بن مسعود، أخرجه أبو داود والدار قطني قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين، صفا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مستقبل العدو، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، وجاء الاخرون فقاموا مقامهم، واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم، فقام هؤلاء فصلوا لانفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لانفسهم ركعه ثم سلموا. وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا، وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الامام كالحارس وحده، وها هنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم. وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود. وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات الثلاث عنه - وأشهب بن عبد العزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه، والاول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه. وروى أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا، وهو مقتضى حديث ابن عباس (وفي الخوف ركعة). وهذا قول إسحاق. وقد تقدم في (البقرة (2)) الاشارة إلى هذا، وأن الصلاة أولى بما (3) احتيط لها، وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة، وقوله في حديث حذيفة وغيره: (ولم يقضوا) أي في علم من روى ذلك، لانه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها، وشهادة من زاد أولى. ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا، أي لم يقضوا إذا أمنوا، وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة (1) في ى: فصل راكبا أو قائما تومى ايماء. (2) راجع ج 3 ص 123. (3) من ى. (*)
[ 368 ]
من الصلوات في الخوف، قال جميعه أبو عمر. وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه والسلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الاخرى ركعتين. قال: فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان. وأخرجه أبو داود والدار قطني من حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين. وأخرجه الدار قطني أيضا عن الحسن عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم. قال أبو داود: وبذلك كان الحسن يفتي، وروي عن الشافعي. وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية الامام والمأموم في الصلاة، وهو مذهب الشافعي والاوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل وداود. وعضدوا هذا بحديث جابر: أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي فيؤم قومه، الحديث. وقال الطحاوي: إنما كان هذا في أول الاسلام إذ كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك، والله أعلم. فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف. الثالثة - وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع، فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة. وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين، فإن في الحديث بعد قوله (فأقمت لهم الصلاة) قال: فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعا، قال: ثم رفع فرفعنا جميعا، قال: ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه قال: والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، قال: ثم تقدم هؤلاء في مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، قال: ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والاخرون قيام، يحرسونهم فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم. قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم. وأخرجه أبو داود من حديث أبي عياش
[ 369 ]
الزرقي وقال: وهو قول الثوري وهو أحوطها. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، الحديث. و فيه أنه عليه السلام صدعهم صدعين وصلى بكل طائفة ركعة، فكانت للقوم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، قال: حديث حسن صحيح غريب. وفي الباب عن عبد الله ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت، وابن عمر وحذيفة وأبي بكر وسهل بن أبي حثمة. قلت: ولا تعارض بين هذه الروايات، فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين، وصلى بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة، و يكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعه. قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة. الرابعة - واختلفوا في كيفية صلاة المغرب، فروى الدار قطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا، وبه قال الحسن. والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا، وهو أنه يصلي بالاولى ركعتين وبالثانية ركعة، وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ [ هل (1) ] قبل سلام الامام أو بعده. هذا قول مالك وأبي حنيفة، لانه أحفظ لهيئة الصلاة. وقال الشافعي: يصلي بالاولى ركعة، لان عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير (2)، والله تعالى أعلم. الخامسة - واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف (3) خروج الوقت، فقال مالك والثوري والاوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي كيفما أمكن، لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء. قال في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، وقد تقدم في (البقرة (4)) قول الضحاك وإسحاق. وقال الاوزاعي: (1) من ج، ط، ز. (2) ليلة الهرير كأمير من ليالى (صفين). (3) الخيف (بفتح الخاء): مصدر من مصادر (خاف) يقال: خاف يخاف خوفا و خيفة ومخافة وخيفة (بالكسر). (4) راجع ج 3 ص 223 (*)
[ 370 ]
إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الايماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا، وبه قال مكحول. قلت: وحكاه الكيا الطبري في (أحكام القرآن) له عن أبي حنيفة وأصحابه، قال الكيا: وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها، وأبو حنيفه وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة. وإن قاتلوا في الصلاة قالوا: فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته. قلت: وهذا القول يدل على صحة قول أنس: حضرت مناهضة حصن تستر (1) عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها، ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الاستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة، وهو اختيار البخاري فيما يظهر، لانه أردفه بحديث جابر، قال: جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا والله ما صليتها) قال: فنزل إلى بطحان (2) فتوضأ وصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها. السادسة - واختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب، فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء، كل واحد منهما يصلي على دابته. وقال الاوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلا بالارض وهو الصحيح، لان الطلب تطوع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلي بالارض حيثما أمكن ذلك، ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب. والله أعلم. (1) بلد بالاهواز منها عبد الله بن سهل الزاهد. (2) بطحان: واد بالمدينة. (*)
[ 371 ]
السابعة - واختلفوا أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شئ، فلعلمائنا فيه روايتان: إحداهما يعيدون، وبه قال أبو حنيفة. والثانية لا إعادة عليهم، وهو أظهر قولي الشافعي. ووجه الاولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطئوا القبلة، وهذا أولى لانهم فعلوا ما أمروا به. وقد يقال: يعيدون في الوقت، فأما بعد خروجه فلا. والله أعلم. الثامنة - قوله تعالى: (وليأخذوا أسلحتهم) وقال: (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته. والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، قال عنترة: كسوت الجعد جعد بني أبان * سلاحي بعد عري وافتضاح يقول: أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح. قال ابن عباس: (وليأخذوا أسلحتهم) يعني الطائفة التي وجاه العدو، لان المصلية لا تحارب. وقال غيره: هي المصلية، أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم، ذكره الزجاج. قال: ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح، أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو. النحاس: يجوز أن يكون للجميع، لانه أهيب للعدو. ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة. قال أبو عمر: أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف، ويحملون قوله (وليأخذوا أسلحتهم) على الندب، لانه شئ لولا الخوف لم يجب أخذه، فكان الامر به ندبا. وقال أهل الظاهر: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لامر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. قال ابن العربي إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف، وبه قال الشافعي وهو نص القرآن. وقال أبو حنيفة: لا يحملونها، لانه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. قلنا: لم يجب حملها لاجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا.
[ 372 ]
التاسعة - قوله تعالى: (فإذا سجدوا) الضمير في (سجدوا) للطائفة المصلية فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية. وقيل: المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء، وهذا على هيئة سهل بن أبى حثمة. ودلت هذه الاية على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة، وهو كقوله عليه السلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين). أي فليل ركعتين وهو في السنة. والضمير في قوله: (فليكونوا) يحتمل أن يكون للذين سجدوا، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بازاء العدؤ. العاشرة - قوله تعالى: (ود الذين كفروا) أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم، فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الامر بأخذ السلاح، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الاولى، لانها أولى بأخذ الحذر، لان العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لانه آخر الصلاة، وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا. وفي هذه الآبة أدل دليل على تعاطي الاسباب، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الالباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة. ومعنى (ميلة واحدة) مبالغه، أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية. الحادية عشرة - قوله تعالى: (ولا جناح عليكم ان كان بكم أدى من مطر) الاية. للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه، فإن لم يجب فيستحب للاحتياط. ثم رخص في المطر وضعه، لانه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد. وقيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة (1) لما انهزم المشركون وغنم المسلمون، وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه، فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه، فقال: من يمنعك مني اليوم ؟ فقال: (الله) ثم قال: (اللهم اكفني الغورث بما شئت). فأهوى بالسيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فانكب لوجهه (2) لزلقة زلقها. وذكر الواقدي أن جبريل عليه (1) قرية قريبة من المدينة. (2) في ز: على وجهه. (*)
[ 373 ]
السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة (1)، وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من يمنعك مني يا غورث) ؟ فقال: لا أحد. فقال (تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك) ؟ قال: لا، ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا، فدفع إليه السيف ونزلت الآية رخصة في وضع السلاح في المطر. ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري، فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر، ثم أمرهم فقال: (خذوا حذركم) أي كونوا متيقظين، وضعتم السلاح أو لم تضعوه. وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو في كل الاحوال وترك الاستسلام، فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر. وقال الضحاك في قوله تعالى: (وخذوا حذركم) يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة. قوله تعالى: فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلواة ان الصلواة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا (103) ولا تهنوا في ابتغآء القوم ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما (104) فيه خمس مسائل: الاولى - (قضيتم) معناه فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل قي وقته، ومنه قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم) وقد تقدم (2). الثانية - قوله تعالى: (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) ذهب الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف، أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان، على أي حال كنتم (قياما وقعودا وعلى جنوبكم) وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال. ونظيره (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله (1) راحع ج 2 ص 431 (2) راجع ج 6 ص 243 (*)
[ 374 ]
كثيرا لعلكم تفلحون (1)). ويقال: (فإذا قضيتم الصلاة) بمعنى إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدواب، أو قياما أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام، إذا كان خوفا أو مرضا، كما قال تعالى في آية أخرى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا (2)) وقال قوم: هذه الآية نظيرة التي في (آل عمران (3))، فروي أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يضجون في المسجد فقال: ما هذه الضجة ؟ قالوا: أليس الله تعالى يقول (فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) ؟ قال: إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا، وإن لم [ تستطع (4) ] فصل على جنبك. فالمراد نفس الصلاة، لان الصلاة ذكر الله تعالى، وقد اشتملت على الاذكار المفروضة والمسنونة، والقول الاول أظهر. والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: (فإذا اطمأننتم) أي أمنتم. والطمأنينة سكون النفس من الخوف. (فاقيموا الصلاة) أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر، وبكمال عددها في الحضر. (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) أي مؤقتة مفروضة. وقال زيد ابن أسلم: (موقوتا) منجما، أي تؤدونها في أنجمها، والمعنى عند أهل اللغة: مفروض لوقت بعينه، يقال: وقته فهو موقوت. ووقته فهو مؤقت. وهذا قول زيد بن أسلم بعينه. وقال: (كتابا) والمصدر مذكر، فلهذا قال: (موقوتا). الرابعة - قوله تعالى: (ولا تهنوا) أي لا تضعفوا، وقد تقدم في (آل عمران (3)). (في ابتغاء القوم) طلبهم. قيل: نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة، كما تقدم في (آل عمران) وقيل: هذا في كل جهاد. الخامسة - قوله تعالى: (إن تكونوا تألمون) أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه، وذلك أن من لا يؤمن بالله لا يرجون من الله شيئا. ونظير هذه الآية (إن يمسسكم قرح فقد مس (1) راجع ج 8 ص 23. (2) راجع ج 3 ص 223. (3) راجع ج 4 ص 216 (4) زيادة لازمة. (*)
[ 375 ]
القوم قرح مثله) وقد تقدم (1). وقرأ عبد الرحمن الاعرج (أن تكونوا) بفتح الهمزة، أي لان وقرأ منصور بن المعتمر (ان تكونوا تألمون) بكسر التاء. ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها. ثم قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، لان من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من [ خوف (2) ] فوت ما يرجو. وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي، كقوله تعالى: (ما لكم لا ترجون لله وقارا (3)) أي لا تخافون لله عظمة. وقوله تعالى: (للذين لا يرجون أيام الله (4)) أي لا يخافون. قال القشيري: ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي، ولكنها ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي. والله أعلم. قوله تعالى: انآ أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) فيه أربع مسائل: الاولى - في هذه الاية تشريف للنبى صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق، وكانوا ثلاثة إخوة: بشر وبشير ومبشر، وأسير بن عروة ابن عم لهم، نقبوا مشربة (5) لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما، فعثر على ذلك. وقيل إن السارق بشير وحده، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا، قيل: كان الدرع في جراب فيه دقيق، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره، فجاء ابن أخي رفاعة وأسمه قتادة بن النعمان يشكوهم (6) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة، وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة، فأنزل الله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم) الآية. وأنزل الله تعالى (ومن يكسب خطيئة (1) راجع ج 4 ص 217 (2) من ج. (3) راجع ج 18 ص 303 (4) راجع ج 16 ص 160 (5) المشربة (بفتح الراء وضمها). (6) في ج وى وط. وفى ا وح وز: يشكوه. (*)
[ 376 ]
أو إثما ثم يرم به بريئا) وكان البرئ الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل. وقيل: زيد بن السمين وقيل: رجل من الانصار. فلما أنزل الله ما أنزل، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد، فقال [ فيها (1) ] حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها، وهو: وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت * ينازعها جلد آستها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمو * وفينا نبي عنده الوحي واضعه فلما بلغها قالت: إنما أهديت لي شعر حسان، وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل، فهرب إلى خيبر وأرتد. ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا. ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة. وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره، والقشري كذلك وزاد ذكر الردة، ثم قيل: كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين. وقيل: كان لبيد مسلما. وذكره المهدوي، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له، فدل ذلك على إسلامه عنده. وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره، وكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث. فقال شعرا يتنصل فيه، فمنه قوله: أو كلما قال الرجال قصيدة * نحلت وقالوا ابن الابيرق قالها وقال الضحاك: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به، فنزل (هأنتم هؤلاء) يعني اليهود. والله أعلم. الثانية - قوله تعالى: (بما أراك الله) معناه على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب، لان الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لانبيائه العصمة، فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه، ولم يرد رؤية العين هنا، لان الحكم لا يرى (1) من ج وى وط. (*)
[ 377 ]
بالعين. وفي الكلام إضمار، أي بما أراكه الله، وفيه إضمار آخر، وامض الاحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم (1). الثالثة - قوله تعالى: (ولا تكن للخائنين خصيما) اسم فاعل، كقولك: جالسته فأنا جليسه، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول، يدل على ذلك (ولا تجادل) فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء. وقيل: خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا. فنهى الله عزوجل رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة. وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز. فلا يجوز لاحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق. ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس، فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى. المسألة الرابعة - قال العلماء: ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم، فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى: (ولا تكن للخائنين خصيما) وقوله: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم). والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين: أحدهما - أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله: (هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا). والآخر - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره. قوله تعالى: واستغفر الله ان الله كان غفورا رحيما (106) فيه مسألة واحدة: ذهب الطبري إلى أن المعنى: استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، فأمره بالاستغفار لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوز الصغائر على الانبياء، صلوات الله عليهم. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب، لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع على (1) كذا في ز. وفى ج وى وط: استزلالهم. (*)
[ 378 ]
الظاهر وهو يعتقد برأتهم. والمعنى: واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب. وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: استغفر الله، على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله (1))، (فإن كنت في شك (2)). قوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ان الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، نزلت في أسير بن عروة كما تقدم. والمجادلة المخاصمة، من الجدل وهو الفتل، ومنه رجل مجدول (3) الخلق، ومنه الاجدل للصقر. وقيل: هو من الجدالة وهي وجه الارض، فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، قال العجاج: قد أركب الحالة بعد الحالة * وأترك العاجز بالجدالة * منعفرا ليست له محاله * الجدالة الارض، من ذلك قولهم: تركته مجدلا، أي مطروحا على الجدالة. قوله تعالى: (ان الله لا يحب) أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر. (من كان خوانا) خائنا. (وخوانا) أبلغ، لانه من أبنية المبالغة، وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة (4). والله أعلم. قوله تعالى: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) ها أنتم هاولاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109) (1) راجع ج 14 ص 113 (2) راجع ج 8 ص 382 (3) مجدول الخلق: لطيف القصب محكم الفتل: (4) كذا في ج، ط. وفى ا وح، ز وى: الجناية. (*)
[ 379 ]
قال الضحاك: لما سرق الدرع أتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب، فنزلت (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) يقول: لا يخفى مكان الدرع على الله (وهو معهم) أي رقيب حفيظ عليهم. وقيل: (يستخفون من الناس) أي يستترون، كما قال تعالى: (ومن هو مستخف بالليل (1)) أي مستتر. وقيل: يستحيون من الناس، وهذا لان الاستحياء سبب الاستتار. ومعنى (وهو معهم) أي بالعلم والرؤية والسمع، هذا قول أهل السنة. وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة: هو بكل مكان، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها، قالوا: لما قال (وهو معهم) ثبت أنه بكل مكان، لانه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم، فإن هذه صفة الاجسام والله تعالى متعال عن ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عزوجل: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم (2)) حين قال: هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه: هو في قلنسوتك وفي حشوك (3) وفي جوف حمارك. تعالى الله عما يقولون ! حكى ذلك وكيع رضي الله عنه. ومعنى (يبيتون) يقولون. قال الكلبي عن أبي صالح عن أبن عباس. (ما لا يرضى) أي ما لا يرضاه الله لاهل طاعته. (من القول) أي من الرأي والاعتقاد، كقولك: مذهب مالك الشافعي. وقيل: (القول) بمعنى المقول، لان نفس القول لا يبيت. قوله تعالى: (هأنتم هؤلاء) يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه. قال الزجاج: (هؤلاء) بمعنى الذين. (جادلتم) حاججتم. (في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) استفهام معناه الانكار والتوبيخ. (أم من يكون عليهم وكيلا) الوكيل: القائم بتدبير الامور، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه. والمعنى: لا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار. قوله تعالى: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم بستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110) (1) راجع 9 ص 290 (2) راجع ج 17 ص 289 (3) في ط وز وى: حشك. وفى ج، جيبك. (*)
[ 380 ]
قال ابن عباس: عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية، أي (ومن يعمل سوءا) بأن يسرق (أو يظلم نفسه) بأن يشرك (ثم يستغفر الله) يعنى بالتوبة، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع، وقد بيناه في (آل عمران). وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) الآية. وقيل: المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الاسود وعلقمة قالا: قال عبد الله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة (النساء) ثم استغفر غفر له: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما). (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما). وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته (2)، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر: قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له، ثم تلا هذه الآية (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما). قوله تعالى: ومن يكسب اثما فانما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو اثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا واثما مبينا (112) قوله تعالى: (ومن يكسب اثما) أي ذنبا (فانما يكسبه على نفسه) أي عاقبته عائدة عليه. والكسب ما يجربه الانسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا، ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا. قوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو اثما) قيل: هما بمعنى واحد كرر لاختلاف اللفظ تأكيدا. وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والاثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير (1) راجع ج 4 ص 38. (2) كذا في ا وج، ز، ط، ى. وفى ج: خلفته. (*)
[ 381 ]
عمد، والاثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل: الخطيئة ما لم تتعمده [ خاصة (1) ] كالقتل بالخطأ. وقيل: الخطيئة الصغيرة، والاثم الكبيرة، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم. قوله تعالى: (ثم يرم به بريئا) قد تقدم اسم البرئ [ في البقرة (2) ]. والهاء في (به) للاثم أو للخطيئة. لان معناها الاثم، أو لهما جميعا. وقيل: ترجع إلى الكسب. (فقد احتمل بهتانا واثما مبينا) تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم (3)). والبهتان من البهت (4)، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه برئ. وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره). قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته). وهذا نص، فرمي البرئ بهت له. يقال: بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله. وهو بهات والمقول له مبهوت. ويقال: بهت الرجل (بالكسر) إذا دهش وتحير. وبهت (بالضم) مثله، وأفصح منهما بهت، كما قال الله تعالى: (فبهت الذي كفر (5)) لانه يقال: رجل مبهوت (6) ولا يقال: باهت ولا بهيت، قاله الكسائي. قوله تعالى: ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون الا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113) قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته) ما بعد (لولا) مرفوع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا يظهر، والمعنى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته) بأن نبهك على الحق، وقيل: بالنبوءة والعصمة. (لهمت طائفة منهم أن يضلوك) عن الحق، لانهم (1) كذا في اوفى ج وز وط وى: ما لم يتعمد خاصة. وفى ح: ما لم تتعمد. (2) من ج. راجع ج 1 ص 402 (3) راجع ج 13 ص 330. (4) البهت الدهش والتحير من فظاعة ما رمى به من كذب. (5) راجع ج 3 ص 286. (6) في ج: بهوت. (*)
[ 382 ]
سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي، فتفضل الله عزوجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه. (وما يضلون الا أنفسهم) لانهم يعملون عمل الضالين، فوباله [ لهم (1) ] راجع عليهم. (وما يضرونك من شئ) لانك معصوم. (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) هذا ابتداء كلام. وقيل: الواو للحال، كقولك: جئتك والشمس طالعة، ومنه قول أمرئ القيس: * وقد أغتدي والطير في وكناتها * فالكلام متصل، أي ما يضرونك من شئ مع إنزال الله عليك القرآن. (والحكمة) القضاء بالوحي. (وعلمك ما لم تكن تعلم) يعني من الشرائع والاحكام. و (تعلم) في موضع نصب، لانه خبر كان. وحذفت الضمة من النون للجزم، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. قوله تعالى: لا خير في كثير من نجوائهم الا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس ومن يفعل ذالك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114) أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير، وذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم. والنجوى: السربين الاثنين، تقول: ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون. ونجوت فلانا أنجوه نجوا، أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشئ أنجوه، أي خلصته وأفردته، والنجوة من الارض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، قال الشاعر: فمن بنجوته كمن بعقوته * والمستكن كمن يمشي بقرواح (2) فالنجوى المسارة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا. قال الله تعالى: (وإذ هم نجوى (3))، فعلى الاول يكون الامر أمر استثناء من غير الجنس، وهو (1) من ج. (2) البيت لاوس بن حجر. ويروى لعيبد. والعقوة: الساحة وما حول الدار والمحلة. والقرواح: البارز الذى ليس يستره من السماء شئ. في ى حاشية: الناقة الطويلة وكذلك النخلة الطويلة، يقال لها قرواح. (3) راجع ج 10 ص 272. (*)
[ 383 ]
الاستثناء المنقطع. وقد تقدم، وتكون (من) في موضع رفع، أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير. ويجوز أن تكون (من) في موضع خفض ويكون التقدير: لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف. وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين، فتكون (من) في موضع خفض على البدل، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. أو تكون في موضع نصب على قول من قال: ما مررت بأحد إلا زيدا. وقال بعض المفسرين منهم الزجاج: النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا، وفيه بعد. والله أعلم. والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها. وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والاول أصح. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق). وقال صلى الله عليه وسلم: (المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر. وقال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه (1) * لا يذهب العرف بين الله والناس وأنشد الرياشي: يد المعروف غنم حيث كانت * تحملها كفور أو شكور ففي شكر الشكور لها جزاء * وعند الله ما كفر الكفور وقال الماوردي: (فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا، كما قال الشاعر: ما زلت أسمع كم من واثق خجل * حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فتح عليه باب من الخير (1) في كل الاصول: جوائزه. (1)
[ 384 ]
فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل شئ ثمرة وثمرة المعروف السراح (1)). وقيل لانوشروان: ما أعظم المصائب عندكم ؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت. وقال عبد الحميد: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها. وقال بعض الشعراء: إذا هبت رياحك فأغتنمها * فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل عن الاحسان فيها * فما تدري السكون متى يكون وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته: أعلى الصراط تريد رعية حرمتي * أم في الحساب تمن بالانعام للنفع في الدنيا أريدك، فأنتبه * لحوائجي من رقدة النوام وقال العباس رضي الله عنه: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته هنأته، وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته. وقال بعض الشعراء: زاد معروفك عندي عظما * أنه عندك مستور حقير تتناساه كأن لم تأته * وهو عند الناس مشهور خطير ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الاعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الاجر. وقد تقدم في (البقرة (2)) بيانه. قوله تعالى: (أو اصلاح بين الناس) عام في الدماء والاموال والاعراض، وفي كل شئ يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. وفي الخبر: (كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله تعالى). فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب. وكتب عمر إلى أبي موسى الاشعري رضي الله عنه: رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن [ فصل (3) ] القضاء يورث بينهم الضغائن. وسيأتي في المجادلة (4)) ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى. وعن أنس بن مالك (1) السراح: التعجيل. (2) راجع ج 3 ص 311 (3) من ج، ط، ى، ز. (4) راجع ج 17 ص 294 فما بعد. (*)
[ 385 ]
رضي الله عنه أنه قال: من أصلح بين أثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابي أيوب: (ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا). وقال الاوزاعي: ما خطوة أحب إلى الله عزوجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار. وقال محمد بن المنكدر: تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما، فلم أزل بهما حتى اصطلحا، فقال أبو هريرة وهو يراني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصلح بين أثنين استوجب ثواب شهيد). ذكر هذه الاخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه. و (ابتغاء) نصب على المفعول من أجله. قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115) ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذالك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا (116) فيه مسألتان: الاولى - قال العلماء: هاتان الآيتان نزلنا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم [ عليه ] بالقطع وهرب إلى مكة وارتد، قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه، فأنزل الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) إلى قوله: (فقد ضل ضلالا بعيدا). وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم أنقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية (ومن يشاقق الرسول). والمشاقة المعاداة. والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين. و (الهدى):
[ 386 ]
الرشد والبيان، وقد تقدم (1). وقوله تعالى: (نوله ما تولى) يقال: إنه نزل فيمن ارتد، والمعنى: نتركه وما يعبد، عن مجاهد. أي نكله إلى الاصنام التي لا تنفع ولا تضر، وقاله مقاتل. وقال الكلبي، نزل قوله تعالى: (نوله ما تولى) في ابن أبيرق، لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له: حجاج بن علاط، فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله، وأخرجوه من مكة، فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه، فنزلت: (نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو (نوله) (ونصله) بجزم الهاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان. الثانية - قال العلماء في قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول) دليل على صحة القول بالاجماع، في قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) رد على الخوارج، حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر. وقد تقدم القول في هذا المعنى. وروى الترمذي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [ قال ]: هذا حديث غريب. قال ابن فورك: وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول، أو بابتداء رحمة من الله تعالى. وقال الضحاك: إن شيخا من الاعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته و آمنت به، فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) الآية. قوله تعالى: ان يدعون من دونه الا اناثا وان يدعون الا شيطانا مريدا (117) (1) راجع ج 1 ص 160 (*)
[ 387 ]
قوله تعالى: (إن يدعون من دونه) أي من دون الله (إلا إناثا)، نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الاصنام. و (إن) نافية بمعنى (ما). و (إناثا) أصناما، يعني اللات والعزى ومناة. وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، قاله الحسن وابن عباس، وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى (1) للسدنة والكهنة ويكلمهم، فخرج الكلام مخرج التعجب، لان الانثى من كل جنس أخسه، فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى. وقيل: (إلا إناثا) مواتا، لان الموات لا روح له، كالخشبة والحجر. والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا تضاع المنزلة، تقول: الاحجار تجبني، كما تقول: المرأة تعجبني. وقيل: (إلا إناثا) ملائكة، لقولهم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله، عن الضحاك. وقراءة ابن عباس (إلا وثنا) بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس، وقرأ أيضا (وثنا) بضم الثاء والواو، جمع وثن. وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد. النحاس: ولم يقرأ به فيما علمت. قلت: قد ذكر أبو بكر الانباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقرأ: (إن يدعون من دونه إلا أوثانا). وقرأ ابن عباس أيضا (إلا أثنا) كأنه جمع وثنا على وثان، كما تقول: جمل وجمال، ثم جمع أوثانا على وثن، كما (2) تقول: مثال ومثل، ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت، كما قال عزوجل: (وإذا الرسل أقتت (3)) من الوقت، فأثن جمع الجمع. وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم (إلا أثنا) جمع أنيث، كغدير وغدر. وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر. حكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني، قال: وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة. قوله تعالى: (وان يدعون الا شيطانا مريدا) يريد إبليس، لانهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه، ونظيره في المعنى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (4)) أي أطاعوهم فيما أمروهم به، لا أنهم عبدوهم. وسيأتي. وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان. (5) والمريد: (1) في ج: وأتى مع كل منهم شيطان يتزايا الخ. وفى ط: شيطانة تتزايا. وفى ز: (شيطانة تغر) أي السدنة الخ. (2) من ج وط. (3) راجع ج 19 ص 155 (4) راجع ج 8 ص 119 (5) راجع ج 1 ص 90 (*)
[ 388 ]
العاتي المتمرد، فعيل من مرد إذا عتا. قال الازهري: المريد الخارج عن الطاعة، وقد مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد ومتمرد. ابن عرفة: هو الذي ظهر شره، ومن هذا يقال: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيد انها، ومنه قيل للرجل: أمرد، أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه. قوله تعالى: (لعنه الله وقال لا تخذن من عبادك نصيبا مفروضا (118) قوله تعالى: (لعنه الله) أصل اللعن الابعاد، وقد تقدم (1). وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب، فلعنة [ الله على (2) ] إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة، وكذلك [ سائر (3) ] الكفرة الموتى كفر عون وهامان وأبي جهل، فأما الاحياء فقد مضى الكلام فيه في (البقرة (4)). قوله تعالى: (وقال لا تخذن من عبادك نصيبا مفروضا) أي وقال الشيطان، والمعنى: لاستخلصنهم بغوايتي وأضلنهم بإضلالي، وهم الكفرة والعصاة. وفي الخبر (من كل ألف واحد لله والباقي للشيطان). قلت: وهذا صحيح معنى، يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة: (ابعث بعث النار) فيقول: وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين). أخرجه مسلم. وبعث النار هو نصيب الشيطان. والله أعلم. وقيل: من النصيب طاعتهم اياه في أشياء، منها أنهم كانوا يضربون للمولود مسمارا عند ولادته، ودورانهم به يوم أسبوعه، يقولون: ليعرفه العمار (5). قوله تعالى: ولاضلنهم ولامنينهم ولامرنهم فليبتكن ءاذان الانعام ولامرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (119) (1) راجع ج 2 ص 25 (2) من ط. (3) من ج وط (4) راجع ج 2 ص 188 (5) عمار البيوت: سكانها من الجن. وفى ابن عطية: المفروض معناه في هذا الموضع: المنحاز، من الفرض وهو الحز في العود وغيره. (*)
[ 389 ]
فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولاضلنهم) أي لاصرفنهم عن طريق الهدى. (ولا منينهم) أي لاسولن لهم، من التمني، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الامنية، لان كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله. وقيل: لامنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الاصرار. (ولا مرنهم فليبتكن آذان الانعام) البتك القطع، ومنه سيف باتك. أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه. يقال: بتكه وبتكه، (مخففا ومشددا) وفي يده بتكة أي قطعة، والجمع بتك، قال زهير (1): * طارت وفي كفه من ريشها بتك * الثانية - قوله تعالى: (ولامرنهم فليغيرن خلق الله) اللامات كلها للقسم. واختلف العلماء في هذا التغيير (2) إلى ماذا يرجع، فقالت طائفة: هو الخصاء وفق ء الاعين وقطع الآذان، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح. وذلك كله تعذيب للحيوان، وتحريم وتحليل بالطغيان، وقول بغير حجة ولا برهان. والآذان في الانعام جمال ومنفعة، وكذلك غيرها من الاعضاء، فلذلك رأى الشيطان أن يغير [ بها (2) ] خلق الله تعالى. وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم (3) عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي). الحديث، أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا. وروى إسماعيل قال حدثنا أبو الوليد وسليمان ابن حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة، قال: (هل لك من مال) ؟ [ قال (2) ] قلت: نعم. قال (من أي المال) ؟ قلت: من كل المال، من الخيل والابل والرقيق - قال أبو الوليد: والغنم - قال: (فإذا آتاك الله مالا فلير عليك أثره) ثم قال: (هل تنتج إبل (4) قومك صحاحا (1) هذا عجز بيت، وصدره * حتى إذا ماهوت كف الغلام لها * (2) في ا وح: التفسير. وهو تصحيف وصوابه ما أثبتناه من ج وط وابن عطية، والزيادة منها أيضا. (3) اجتالتهم: استخفتهم فجالوا معهم في الضلال. (4) نتجت الناقة (من باب ضرب): إذا ولدتها ووليت نتاجها. وفى النهاية: هل تنتج ابلك. أي تولدها وتلى نتاجها. (*)
[ 390 ]
آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بمر وتشق جلودها وتقول هذه صرم (1) لتحرمها عليك وعلى أهلك) ؟ قال: قلت أجل. قال: (وكل ما آتاك الله حل وموسى الله أحد من موسك، وساعد الله أشد من ساعدك). قال قلت: يا رسول الله، أرأيت رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ؟ فقال: (بل أقره). الثانية - ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن نستشرف (2) العين والاذن ولانضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء) أخرجه أبو داود عن علي قال: أمرنا، فذكره. المقابلة: المقطوعة طرف الاذن. والمدابرة المقطوعة مؤخر الاذن. والشرقاء: مشقوقة الاذن. والخرقاء التي تخرق أذنها السمة. والعيب في الاذن مراعى عند جماعة العلماء. قال مالك والليث: المقطوعة الاذن أو جل الاذن لا تجزئ، والشق للميسم يجزئ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء. فإن كانت سكاء، وهى التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي: لا تجوز. وإن كانت صغيرة الاذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك. الرابعة - وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره. والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره. ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز. وخصى عروة بن الزبير بغلا له. ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك لانه لا يقصد به تعليق (3) الحيوان بالدين لصنم يعبد، ولا لرب يوحد، وإنما يقصد به تطييب اللحم [ فيما (4) يؤكل ]، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله (5) عن الانثى. ومنهم من كره ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون). واختاره ابن المنذر وقال: لان ذلك (1) صرم: (جمع صريم)، وهو المقطوع الاذن. وفى ج وط وز: حرم. (2) أي تأمل سلامتهما من آفة تكون بهما، وآفة العين عورها، وآفة الاذن قطعها. أو من الشرفة و هي خيار المال. أي أمرنا أن نتخيرها. (3) كذا في الاصول. في ابن العربي: (تعليق الحال بالدين). (4) عن ابن العربي. (5) في ا وح: انقطع عن الانثى. وفى ط وج وز: انقطع أصله. والمثيت من ابن العربي. (*)
[ 391 ]
ثابت عن ابن عمر، وكان يقول: هو نماء (1) خلق الله، وكره ذلك عبد الملك بن مروان. وقال الاوزاعي: كانوا يكرهون خصاء كل شئ له نسل. وقال ابن المنذر: وفيه حديثان: أحدهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والابل والخيل. والآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر (2) الروح وخصاء البهائم. والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الاخصاء ويقول: فيه تمام الخلق. قال أبو عمر: يعني في ترك الاخصاء تمام الخلق، وروي نماء الخلق. قلت: أسنده أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تخصوا ما ينمي خلق الله). رواه عن الدار قطني شيخه، قال: حدثنا [ أبو عبد الله المعدل حدثنا (3) ] عباس بن محمد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل، فذكره. قال الدار قطني: ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك. الخامسة - وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته، عكس الحيوان، وأنقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام: (تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الامم (4)) ثم إن فيه ألما عظيما ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس، وكل ذلك منهي عنه. ثم هذه مثلة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهو صحيح. وقد كره جماعة من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا: لو لم يشتروا منهم لم يخصوا. ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز، لانه مثلة وتغيير لخلق الله تعالى، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود، قال أبو عمر. السادسة - وإذا تقرر هذا فأعلم أن الوسم والاشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان، وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار، والوسم: الكي بالنار وأصله العلامة، يقال: وسم الشئ يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها، ومنه قوله تعالى: (سيماهم في وجوههم (5)). فالسيما العلامة والميسم المكواة. وثبت في صحيح مسلم عن أنس (1) في ج، ط، ز: هو مما خلق الله. (2) صبر الانسان وغيره على القتل: هو أن يحبس ثم يرمى بشئ حتى يموت. (3) كذا في كل الاصول بالدال المهملة، ولعله أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعذل بالمعجمة. (4) كذا في الاصول وكثير من الكتب. وصحتة الرواية كما في البيهق (تناكحوا تكثروا فانى أباهى بكم الامم يوم القيامة) راجع كشف الخفا ج 1 ص 318 (5) راجع ج 16 ص 292 (*)
[ 392 ]
قال: رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفئ وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره. السابعة - والوسم جائز في كل الاعضاء غير الوجه، لما رواه جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه، أخرجه مسلم. وإنما كان ذلك لشرفه على الاعضاء، إذ هو مقر الحسن والجمال، ولان به قوام الحيوان، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال: (اتق الوجه (1) فإن الله خلق آدم على صورته). أي على صورة المضروب، أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم، فينبغي أن يحترم لشبهه (2). وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم. وقالت طائفة: الاشارة بالتغيير إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن، قال ابن مسعود والحسن. ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبد الله قال [ قال رسول الله صلى الله عليه (3) وسلم ]: (لعن الله الواشمات والمستوشمات [ والنامصات (4) ] والمتنمصات [ والمتفلجات ] للحسن، المغيرات خلق الله) الحديث. أخرجه مسلم، وسيأتي بكماله في الحشر (5) إن شاء الله تعالى. والوشم يكون في اليدين، وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور (6) فيخضر. وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة. والمستوشمة التي يفعل ذلك بها، قال الهروي. وقال ابن العربي: ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه، ليدل كل واحد منهم على رجلته (7) في حداثته. قال القاضي عياض: ووقع في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان (الواشمة والمستوشمة) (الواشية والمستوشية) (بالياء مكان الميم) وهو من الوشي وهو التزين، وأصل الوشي نسج الثوب على لونين، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد، أي تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والاشر. والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص، وهو الذي يقلع الشعر، ويقال لها النامصة. ابن العربي: وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه، فإن السنة حلق العانة ونتف الابط، فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه، ويبطل كثيرا من المنفعة (1) في ج: اتق الله. (2) في ج: ما يشبهه. (3) من ج. (4) الزيادة عن صحيح مسلم. (5) راجع ج 18 ص 18 (6) النئور: دخان الشحم. (7) كذا في ابن العربي وج، ط، وهو مثلث الراء. (*)
[ 393 ]
فيه. والمتفلجات جمع متفلجة، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها، أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الاسنان خلقة فلجاء صنعة. وفي غير كتاب مسلم: (الواشرات)، وهي جمع واشرة، وهي التي تشر أسنانها، أي تصنع فيها أشرا، وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان (1)، تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة. وهذه الامور كلها قد شهدت الاحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر. واختلف في المعنى الذي نهي لاجتها، فقيل: لانها من باب التدليس. وقيل: من باب تغيير خلق الله تعالى، كما قال ابن مسعود، وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الاول. ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيا، لانه من باب تغيير خلق الله تعالى، فأما مالا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره، وكرهه مالك للرجال. وأجاز مالك أيضا أن تشي المرأة يديها بالحناء. وروي عن عمر إنكار ذلك وقال: إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع، وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر، ولا تدع الخضاب بالحناء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب فقال: (لا تدع إحدا كن يدها كأنها يد رجل) فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت. قال القاضي عياض: وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء، ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل، ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز، فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة [ رضي (2) الله عنها ]: (إنه لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير. وقال أنس: يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سيرا. قال أبو جعفر الطبري: في حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شئ من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان، التماس الحسن لزوج أو غيره، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها، أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها. وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها، لان كل ذلك تغيير خلق الله. قال عياض: ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه، لانه من تغيير خلق الله تعالى، إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره. (1) في ج: الشباب. (2) من ج وط. (*)
[ 394 ]
الثامنة - قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة) أخرجه مسلم. فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها، وهو أن يضاف إليه شعر آخر بكثر به، والواصلة هي التي تفعل ذلك، والمستوصلة هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها. مسلم عن جابر قال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها (1) شيئا. وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن لي ابنة عريسا (2) أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله ؟ فقال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة). وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر، وبه قال مالك وجماعه العلماء. ومنعوا الوصل بكل شئ من الصوف والخرق وغير ذلك، لانه في معنى وصله (3) بالشعر. وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر، وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر. وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا: إنما جاء النهي عن الوصل خاصة، وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى. وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقا، وهو قول باطل قطعا ترده الاحاديث. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح. وروي عن ابن سيرين أنه سأله رجل فقال: إن أمي كانت تمشط النساء، أتراني آكل من مالها ؟ فقال: إن كانت تصل فلا. ولا يدخل في النهي ما ربط [ منه (4) ] بخيوط الحرير الملونة على وجه الزينة والتجميل، والله أعلم. التاسعة - وقالت طائفة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والاحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة. قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الانعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله. وقاله جماعة من أهل التفسير: مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وروي عن ابن عباس (فليغيرن خلق الله) دين الله، وقاله النخعي، واختاره الطبري قال: وإذا كان ذلك معناه (1) هكذا في الاصول. وفى صحيح مسلم: (برأسها). (2) مريسا (بضم العين وفتح الراء وتشديد الياء المكسورة) تصغير عروس والعريس يقع على المرأة والرجل عند الزواج. وتمرق: اتتثر وتساقط. (3) في ج: وصل الشعر. (4) من ج، ط. (*)
[ 395 ]
دخل فيه [ فعل (1) ] كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي، لان الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه. وقال مجاهد أيضا: (فليغيرن خلق الله) فطرة الله التي فطر الناس عليها، يعني أنهم ولدوا على الاسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه). فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الايمان به في قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى (2)). قال ابن العربي: روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود، ويقول: هذا من قول الله (فليغيرن خلق الله). قال القاضي: وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض، بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض، وهذا مما خفي على طاوس مع علمه. قلت: ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية. وقد كانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف زهرية. وهذا أيضا يخص، وقد خفي عليهما (3). قوله تعالى: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا (120) أولائك مأوائهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا (121) والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سند خلهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122) قوله تعالى: (يعدهم) المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير (ويمنيهم) كذلك (وما يعدهم الشيطان الا غرورا) أي خديعة. قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه (1) من ج، ط. (2) راجع ج 7 ص 314 (3) كذا في الاصول. وحقه الافراد. ولعل الضمير يعود لطاوس وابن العربي. (*)
[ 396 ]
باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور، لانه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. (أولئك) ابتداء (مأواهم) ابتداء ثان (جهنم) خبر الثاني والجملة خبر الاول. و (محيصا) ملجأ، والفعل منه حاص يحيص. (ومن أصدق من الله قيلا) ابتداء وخبر. (قيلا) على البيان، قال قيلا وقولا وقالا، بمعنى [ أي (1) ] لا أحد أصدق من الله. وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من المعاني والحمد لله. قوله تعالى: ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجذ له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب). قرأ أبو جعفر المدني (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) بتخفيف الياء فيها جميعا. ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا. وقالت قريش: ليس نبعث، فأنزل الله (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب). وقال قتادة والسدي: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم. وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية. قوله تعالى: (من يعمل سوءا يجز به). السوء ها هنا الشرك، قال الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ (وهل يجازى إلا الكفور (2)). وعنه أيضا (من يعمل سوءا يجز به) قال: ذلك لمن أراد الله هو انه، فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: (أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون). وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب. وقال الجمهور: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار، لان كفره أو بقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة (1) من ج، ط. (2) قراءة نافع. راجع ج 14 ص 288 (*)
[ 397 ]
قال: لما نزلت (من يعمل سوءا يجز به) بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها). وخرج الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول، في الفصل الخامس والتسعين) حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان (1) أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع: لا تمر بي على المصلوب، يعني ابن الزبير، قال: فما فجئه (2) في جوف الليل أن صك محمله جذعه، [ فجلس (3) ] فمسح عينيه ثم قال: يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت ! ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة) فإن يك هذا بذاك فهيه. قال الترمذي أبو عبد الله: فأما في التنزيل فقد أجمله فقال: (من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر، ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: (يجز به في الدنيا أو في الآخرة) وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين، ألا ترى أن ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهيه، معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الاسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا [ هذا (4) ] كذلك، وسمع للبيت أنينا: آه آه ! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يعمل سوءا يجز به). ثم قال: إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه، أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب. رحمه الله ! ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين، حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي قال: لما نزلت (من يعمل سوءا يجز به) قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما هذه بمبقية منا، قال: (يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة). حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة (5) عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر (1) يروى بالياء والباء (التقريب). (2) فجئه الامر وفجأه (بالكسر والفتح): هجم عليه من غير أن يشعر به. (3) من ج وط. (4) من ج. (5) هو ابن سليمان الكلابي، عن اسماعيل بن أبى خالد، التهذيب. (*)
[ 398 ]
ابن [ أبي ] زهير (1) الثقفي قال: لما نزلت (من يعمل سوءا يجز به) قال أبو بكر: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا ؟ كل شئ عملناه جزينا به، فقال: (غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب، ألست تحزن، الست تصيبك اللاواء (2)) ؟ قال: بلى. قال (فذلك مما تجزون به) ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله: من يعمل سوءا يجز به). وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة). قال: حديث غريب: وفي إسناده مقال، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل. ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه (3) عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا، وفي الباب عن عائشة. قلت: خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد ابن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه (4)) وعن هذه الآية (من يعمل سوءا يجز به) فقالت عائشة: ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: (يا عائشة، هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير). واسم (ليس) مضمر فيها في جميع هذه الاقوال، والتقدير: ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه، بل من يعمل سوءا يجز به. وقيل: المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم، إذ قد تقدم (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات). قوله تعالى: (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) يعني المشركين، لقوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد (5)) وقيل: (من يعمل (1) أبو زهير هو معاذ بن رباح الثقفى كذا في أسد الغابة، وفى التهذيب: أبو زهرة. (2) للا واء: الشدة والمحنة. (3) عبارة الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه. (4) راجع ج 3 ص 420 (5) راجع ج 15 ص 322. (*)
[ 399 ]
سوءا يجز به) إلا أن يتوب. وقراءة الجماعة (ولا يجد له) بالجزم عطفا على (يجز به). وروى ابن بكار عن ابن عامر (ولا يجد) بالرفع استئنافا. فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير. وإن حملت على المؤمن فليس [ له (1) ] ولي ولا نصير دون الله. قوله تعالى: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) شرط الايمان لان المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقرى الاضياف، وأهل الكتاب بسبقهم، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، فبين تعالى أن الاعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان. وقرأ (يدخلون الجنة) الشيخان أبو عمرو وابن كثير (بضم الياء وفتح الخاء) على ما لم يسم فاعله. الباقون بفتح الياء وضم الخاء، يعني يدخلون الجنة بأعمالهم. وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة. قوله تعالى: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا (125) قوله تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا) فضل دين الاسلام على سائر الاديان و (أسلم وجهه لله) معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة. قال ابن عباس: أراد أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وانتصب (دينا) على البيان. (وهو محسن) ابتداء وخبر في موضع الحال، أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب، لانهم تركوا الايمان بمحمد عليه السلام. والملة الدين، والحنيف المسلم وقد تقدم (2). (1) من ج وط وز. (2) راجع ج 2 ص 139 (*)
[ 400 ]
قوله تعالى: (واتخذ الله ابراهيم خليلا) قال ثعلب: إنما سمي الخليل خليلا لان محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملاته، وأنشد قول بشار: قد تخللت مسلك الروح مني * وبه سمي الخليل خليلا وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم. وقيل: هو [ بمعنى ] المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا [ لله (1) ]. وقيل: الخليل من الاختصاص فالله عزوجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة. واختار هذا النحاس قال: والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم (وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا) يعني نفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا) أي لو كنت مختصا أحدا بشئ لاختصصت أبا بكر. رضي الله عنه. وفي هذا رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أختص بعض أصحابه بشئ من الدين. وقيل: الخليل المحتاج، فإبراهيم خليل الله على معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى، كأنه الذي به الاختلال. وقال زهير يمدح هرم بن سنان: وإن أتاه خليل يوم مسغبة * يقول لا غالب مالي ولا حرم أي لا ممنوع. قال الزجاج: ومعنى الخليل: الذي ليس في محبته خلل، فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة. وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى، لانه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك. والاختلال الفقر، فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا. فخلة الله تعالى لابراهيم نصرته إياه. وقيل: سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر، وقيل: بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه، فملا غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام، ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه، فلما قدموه إليه قال: من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الذى جئت به من عند خليلك المصري، فقال: هو من عند خليلي، يعني الله تعالى، فسمي خليل الله بذلك. وقيل: إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك ؟ قال: حاجتي أن تسجدوا (1) من ج. (*)
[ 401 ]
سجدة، فسجدوا فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك، فوفقهم الله تعالى للاسلام فاتخذه الله خليلا لذلك. ويقال: لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا: إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم: أعطوا ثمنه وكلوا، قالوا: وما ثمنه ؟ قال: أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله، فقالوا فيما بينهم: حق على الله أن يتخذه خليلا، فاتخذه الله خليلا. وروى جابر ابن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذ الله إبراهيم خليلا لاطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام). وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا جبريل لم أتخذ الله إبراهيم خليلا) ؟ قال: لاطعامه الطعام يا محمد. وقيل: معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله. والخلة بين الآدميين الصداقة، مشتقة من تخلل الاسرار بين المتخالين. وقيل: هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه. وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). ولقد أحسن من قال: من لم تكن في الله خلته * فخليله منه على خطر آخر: إذا ما كنت متخذا خليلا * فلا تثقن بكل أخي إخاء فإن خيرت بينهم فألصق * بأهل العقل منهم والحياء فإن العقل ليس له إذا ما * تفاضلت الفضائل من كفاء وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: أخلاء الرجال هم كثير * ولكن في البلاء هم قليل فلا تغررك خلة من تؤاخي * فما لك عند نائبة خليل وكل أخ يقول أنا وفي * ولكن ليس يفعل ما يقول سوى خل له حسب ودين * فذاك لما يقول هو الفعول
[ 402 ]
قوله تعالى: ولله ما في السماوات وما في الارض وكان الله بكل شئ محيطا (126) قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الارض) أي ملكا واختراعا. والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته ولا للتكثير به والاعتضاد، وكيف وله ما في السموات وما في الارض ؟ وإنما أكرمه لامتثاله لامره. قوله تعالى: (وكان الله بكل شئ محيطا) أي أحاط علمه بكل الاشياء. قوله تعالى: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الاتى لا تؤتو نهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فان الله كان به عليما (127) نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك، فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول [ لهم (1) ]: الله يفتيكم فيهن، أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه. وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم: إن الله يفتيكم فيهن. روى أشهب عن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن). (ويسألونك عن اليتامى (2)). و (يسألونك عن الخمر والميسر (2)). (ويسألونك عن الجبال (3)). قوله تعالى: (وما يتلى عليكم) (ما) في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى. والمعنى: والقرآن يفتيكم فيهن، وهو قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) وقد تقدم (4). وقوله تعالى: (وترغبون أن تنكحوهن) أي وترغبون عن أن تنكحوهن، ثم حذفت (عن). (1) من ط. (2) راجع ج 3 ص 6 وص 51. (3) راجع ج 11 ص 245. (4) راجع ص 12 وما بعد ها من هذا الجزء. (*)
[ 403 ]
وقيل: وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت (في). قال سعيد بن جبير ومجاهد: ويرغب في نكاحها وإذا كانت كثيرة المال. وحديث عائشة يقوي حذف (عن) فإن في حديثها: وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، وقد تقدم أول السورة. قوله تعالى: وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الا نفس الشح وان تحسنوا وتتقوا فان الله كان بما تعملون خبيرا (128) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وان امرأة) رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده. و (خافت) بمعنى توقعت. وقول من قال: [ خافت (1) ] تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى وإن امرأة. خافت من بعلها دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والاعراض أن النشوز التباعد، والاعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها. ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة. روى الترمذي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني، وأجعل يومي منك لعائشة، ففعل فنزلت: (فلا جناح عليهما أن يصالحا (2) بينهما صلحا والصلح خير) فما اصطلحا عليه من شئ فهو جائز، قال: هذا حديث حسن غريب. وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني وأقسم لي ما شئت، فجرت السنة بذلك ونزلت (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا). وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية. وقراءة العامة (أن يصالحا). (1) من ج. (2) كذا في بعض الاصول، وهى قراءة نافع. (*)
[ 404 ]
وقرأ أكثر الكوفيين (أن يصلحا). وقرأ الجحدري وعثمان البتي (أن يصلحا) والمعنى يصطلحا ثم أدغم. الثانية - في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها. قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني وأجعل يومي (1) لعائشة، ففعل صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي من أزواجه. قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة، روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الانصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقهاء واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: [ ما شئت (2) ] إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الاثرة، وإن شئت فارقتك. قالت: بل أستقر على الاثرة. فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الاثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير). قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم: (فآثر الشابة عليها) يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها، لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت، لان هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع، والله أعلم. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الاحوص عن سماك بن حرب عن خالد ابن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له [ أن يأخذ (3) ] وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول لهذه الكبيرة: (1) في ج: نوبتي. (2) من ط وج. (3) من ج. (*)
[ 405 ]
أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار، فترضى الاخرى بما اصطلحا عليه، وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم. الثالثة - قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر (1) ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والاثرة من غير عطاء، فهذا كله مباح. وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشئ تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهبت يومي لك. ذكره ابن خويز منداد في أحكامه عن عائشة قالت: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شئ، فقالت لي صفية: هل لك أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ولك يومي ؟ قالت: فلبست خمارا كان عندي مصبوغا بزعفران ونضحته، ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إليك عني فإنه ليس بيومك). فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأخبرته الخبر، فرضي عنها. وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها. الرابعة - قرأ الكوفيون (يصلحا). والباقون (أن يصالحا). الجحدري (يصلحا) فمن قرأ (يصالحا) فوجهه أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال: تصالح القوم، ولا يقال: أصلح القوم ؟ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا. ومن قرأ (يصلحا) فقد استعمل مثله في التشاجر والتنازع، كما قال (فاصلح بينهم). ونصب قوله: (صلحا) على هذه القراءة على أنه مفعول، وهو اسم مثل العطاء من أعطيت. فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا، وكذلك هو مفعول أيضا على قراءة من قرأ (يصالحا) لان تفاعل قد جاء متعديا، ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده. ومن قرأ (يصلحا) (1) في ج: أن تؤثر الزوج أو على أن تؤثر الخ. راجع ج 2 ص 271 (*)
[ 406 ]
فالاصل (يصتلحا) ثم صار إلى يصطلحا، ثم أبدلت الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد،، ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير. الخامسة - قوله تعالى: (والصلح خير) لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الاطلاق. ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطئ أو غير ذلك. (خير) أي خير من الفرقة، فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر، وقال عليه السلام في البغضة: (إنها الحالقة) يعني حالقة الدين لا حالقة الشعر. السادسة - قوله تعالى: (وأحضرت الا نفس الشح) إخبار بأن الشح في كل أحد. وأن الانسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره، يقال: شح يشح (بكسر الشين) قال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها. وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها. وقال ابن عطية: وهذا أحسن، فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة. والشح الضبط على المعتقدات والارادة وفي الهمم والاموال ونحو ذلك، فما أفرط منه على الدين فهو محمود، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال الله فيه: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (1)). وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية [ أو (2) ] التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة. وإذا آل البخل إلى هذه الاخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول. قلت: وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للانصار: (من سيدكم) ؟ قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأي داء أدوى من البخل) ! قالوا: وكيف ذاك يارسول الله ؟ قال: (إن قوما نزلوا بساحل [ البحر (3) ] فكرهوا لبخلهم نزول الاضياف بهم فقالوا ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الاضياف ببعد النساء وتعتذر (1) راجع ج 18 ص 144 (2) الزيادة عن ابن عطية. (3) من ج 4 ص 292 (*)
[ 407 ]
النساء ببعد الرجال، ففعلوا وطال ذلك بهم، فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء). وقد تقدم (1)، ذكره الماوردي. السابعة - قوله تعالى: (وان تحسنوا وتتقوا) شرط (فان الله كان بما تعلمون خبيرا) جوابه. وهذا خطاب للازواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن، أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم. قوله تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وان تصلحوا وتتقوا فان الله كان غفورا رحيما (129) قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل) أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب. فوصف الله تعالى حالة البشر و أنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض، ولهذا كان عليه السلام يقول: (اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك). ثم نهى فقال: (فلا تميلوا كل الميل). قال مجاهد: لا تتعمدوا الاساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة، لان هذا مما يستطاع. وسيأتي بيان هذا في (الاحزاب (2)) مبسوطا إن شاء الله تعالى. وروى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل). قوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج، قاله الحسن. وهذا تشبيه بالشئ المعلق من شئ، لانه لا على الارض استقر ولا على ما علق عليه انحمل، وهذا مطرد في قولهم في المثل: (ارض من المركب بالتعليق). وفي عرف النحويين فمن (3) تعليق (1) راجع ج 4 ص 292 (2) راجع ج 14 ص 214 (3) في ا وز وط: في تعليق. (*)
[ 408 ]
الفعل. ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة: زوجي العشنق (1)، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق. وقال قتادة: كالمسجونة، وكذا قرأ أبي (فتذروها كالمسجونة). وقرأ ابن مسعود (فتذروها كأنها معلقة). وموضع (فتذروها) نصب، لانه جواب النهي. والكاف في (كالمعلقة) في موضع نصب أيضا. قوله تعالى: وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130) ولله ما في السماوات وما في الارض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم واياكم أن اتقوا الله وان تكفروا فان لله ما في السماوات وما في الارض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما في السماوات وما في الارض وكفى بالله وكيلا (132) قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه، وللمرأة من يوسع عليها. وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج، ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق، فسئل عن هذه الآية فقال: أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله (2) فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: فلعله من أهل هذه الآية (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته). قوله تعالى: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) أي الامر بالتقوى كان عاما لجميع الامم: وقد مضى القول في التقوى (3). (و إياكم) عطف على (الذين). (أن اتقوا الله) في موضع نصب، قال الاخفش: أي بأن اتقوا الله. وقال بعض العارفين: هذه الآية هي رحى آي القرآن، لان جميعه يدور عليها. (1) العشنق: الطويل الممتد القامة، أرادت أن له منظرا بلا مخبر. (2) راحع ج 12 ص 241 (3) راجع ج 1 ص 161 (*)
[ 409 ]
قوله تعالى: (وان تكفروا فان لله ما في السموات وما في الارض وكان الله غنيا حميدا. ولله ما في السموات وما في الارض وكفى بالله وكيلا) إن قال قائل: ما فائدة هذا التكرير ؟ فعنه جوابان: أحدهما - أنه كرر تأكيدا، ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين. الجواب الثاني - أنه كرر لفوائد: فأخبر في الاول أن الله تعالى يغني كلا من سعته، لان له ما في السموات وما في الارض فلا تنفد خزائنه. ثم قال: أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى (وإن تكفروا) [ أي وإن (1) تكفروا ] فإنه غني عنكم، لان له ما في السموات وما في الارض. ثم أعلم في الثالث بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله: (وكفى بالله وكيلا) لان له ما في السموات وما في الارض. وقال: (ما في السموات) ولم يقل من في السموات، لانه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والارض من يعقل ومن لا يعقل. قوله تعالى: ان يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين وكان الله على ذالك قديرا (133) قوله تعالى: (ان يشأ يذهبكم) يعني بالموت (أيها الناس). يريد المشركين والمنافقين. (ويأت بآخرين) يعني بغيركم. ولما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال: (هم قوم هذا). وقيل: الآية عامة، أي وإن تكفروا يذهبكم ويأت بخلق أطوع لله منكم. وهذا كما قال في آية أخرى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (2)). وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره. (وكان الله على ذلك قديرا) والقدرة صفة أزلية، لا تتناهى مقدوراته، كما لا تتناهى معلوماته، والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد، وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه يحدث (3) في ذاته وصفاته. والقدرة هي التي يكون بها الفعل ولا يجوز وجود العجز معها. قوله تعالى: من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا (134) (1) من ج. (2) راجع ج 16 ص 258 (3) في ج: محدث. (*)
[ 410 ]
أي من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة أتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا أتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب، لانه عمل لغير الله كما قال تعالى: (وما له في الآخرة من نصيب (1)). وقال تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار (2)). وهذا على أن يكون المراد بالآية المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري. وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة، وإنما يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم مكروهها، فأنزل الله عزوجل (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا) أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما يسرونه. قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وان تلوا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا (135) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (كونوا قوامين) (قوامين) بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها. ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنى بالاقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب، فكان الاجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الاموال. الثانية - لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين [ الاب والام (3) ] ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا (4)) فإن شهد لهما أو شهدا له وهي: (1) راجع ج 6 ص 8 (2) راجع ج 9 ص 15 (3) من ج وط. (4) راجع ج 18 ص 194 (*)
[ 411 ]
الثالثة - فقد اختلف فيها قديما وحديثا، فقال ابن شهاب الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين (1) والاخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) فلم يكن أحديتهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والاخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي و ابن حنبل. وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه، وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق والثوري والمزني. ومذهب مالك جواز شهادة الاخ لاخيه إذا كان عدلا إلا في النسب. وروى عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه. وقال مالك وأبو حنيفة: شهادة الزوج لزوجته لا تقبل، لتواصل منافع الاملاك بينهما و هي محل الشهادة. وقال الشافعي: تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض، لانهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو معرض للزوال. والاصل قبول الشهادة إلا حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الاصل، وهذا ضعيف، فإن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والالفة والمحبة، فالتهمة قوية ظاهرة. وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لاهل البيت وأجازها لغيرهم. قال الخطابي: ذو الغمر هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته [ عليه (2) ] للتهمة. وقال أبو حنيفة: شهادته على العدو مقبولة إذا كان عدلا. والقانع السائل والمستطعم، وأصل القنوع السؤال. ويقال في القانع: إنه المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم، وذلك مثل الاجير أو الوكيل ونحوه. ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر المنفعة إلى نفسه، لان القانع لاهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع. وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا (1) غبارة ابن العربي: (... الوالد والاخ لاخيه... الخ). (2) من ج. (*)
[ 412 ]
فشهادته مردودة، كمن شهد لرجل على شراء دار هو شفيعها، أو كمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس، فشهد المفلس على رجل بدين ونحوه. قال الخطابي: ومن رد شهادة القانع لاهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته، لان ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والحديث حجة على من أجاز شهادة الاب لابنه، لانه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه والميل إليه، ولان يمتلك عليه ماله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لابيك). وممن ترد شهادته عند مالك البدوي على الفروي، قال: إلا أن يكون في بادية أو قرية، فأما الذي يشهد في الحضر بدويا ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب. وقد روى أبو داود والدرا قطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية). قال [ محمد (1) ] ابن [ عبد (1) ] الحكم: تأول مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والاموال، ولا ترد الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق. وقال عامة أهل العلم: شهادة البدوي إذا كان عدلا يقيم الشهادة على وجهها جائزة، والله أعلم. وقد مضى القول في هذا في (البقرة (2))، ويأتي في (براءة (3)) تمامها إن شاء الله تعالى. الرابعة - قوله تعالى: (شهداء لله) نصب على النعت ل (قوامين)، وإن شئت كان خبرا بعد خبر. قال النحاس: وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في (قوامين) من ذكر الذين آمنوا، لانه نفس المعنى، أي كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم. قال ابن عطية: والحال فيه ضعيفة في المعنى، لانها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. ولم ينصرف (شهداء) لان فيه ألف التأنيث. الخامسة - قوله تعالى: (لله) معناه لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه. (ولو على أنفسكم) متعلق ب (شهداء)، هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وإن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيقر بها لاهلها، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه، كما تقدم. (1) من ج وط. (2) راجع ج 3 ص 389 وما بعدها. (3) راجع ج 8 ص 232 (*)
[ 413 ]
أدب الله جل وعز المؤمنين بهذا، كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم. ويحتمل أن يكون قوله: (شهداء لله) معناه بالوحدانية لله، ويتعلق قوله: (ولو على أنفسكم) ب (قوامين) والتأويل الاول أبين. السادسة - قوله تعالى: (ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) في الكلام إضمار وهو اسم كان، أي إن يكن الطالب أو المشهود عليه غنيا فلا يراعى لغناه ولا يخاف منه، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه. (فالله أولى بهما) [ أي (1) ] فيما اختار لهما من فقر وغنى. قال السدي: اختصم (2) إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير، فكان ضلعه (3) [ صلى الله عليه وسلم (4) ] مع الفقير، ورأى أن الفقير لا يظلم الغني، فنزلت الآية. السابعة - قوله تعالى: (فالله أولى بهما) إنما قال (بهما) ولم يقل (به) وإن كانت (أو) إنما تدل على الحصول الواحد، لان المعنى فالله أولى بكل واحد منهما. وقال الاخفش: تكون (أو) بمعنى الواو، أي إن يكن غنيا وفقيرا فالله أولى بالخصمين كيفما كانا، وفيه ضعف. وقيل: إنما قال (بهما) لانه قد تقدم ذكر هما، كما قال تعالى: (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس (5)). الثامنة - قولع تعالى: (فلا تتبعوا الهوى) نهى، فإن اتباع الهوى مرد، أي مهلك، قال الله تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله (6)) فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، إلى غير ذلك. وقال الشعبي: أخذ الله عزوجل على الحكام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا. (أن تعدلوا) في موضع نصب. التاسعة - قوله تعالى: (وإن تلووا أو تعرضوا) قرئ (وإن تلووا) من لويت فلانا حقه لياإذا دفعته به، والفعل منه (لوى) والاصل فيه (لوى) قلبت الياء ألفا لحركتها وحركة ما قبلها، والمصدر (ليا) والاصل لويا، وليانا والاصل لويانا، ثم أدغمت الواو (1) من ج، ط. (2) في ج: إذا اختصم. (3) الضلع: الميل. (4) من ج، ط. (5) راجع ص 71 من هذا الجزء. (6) راجع ج 15 ص 188 (*)
[ 414 ]
في الياء. وقال القتبي: (تلووا) من اللي في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين. وقرأ ابن عامر والكوفيون (تلوا) أراد قمتم بالامر [ وأعرضتم، من قولك: وليت الامر، فيكون في الكلام معنى التوبيخ للاعراض عن القيام بالامر (1) ]. وقيل: إن معنى (تلوا) الاعراض. فالقراءة بضم اللام تفيد معنيين: الولاية والاعراض، والقراءة بواوين تفيد معنى واحدا وهو الاعراض. وزعم بعض النحويين أن من قرأ (تلوا) فقد لحن، لانه لا معنى للولاية ها هنا. قال النحاس وغيره: وليس يلزم هذا [ ولكن (2) تكون ] (تلوا) بمعنى (تلووا) وذلك أن أصله (تلووا) فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين، ذكره مكي. وقال الزجاج: المعنى على قراءته (وإن تلووا) ثم همز الواو الاولى فصارت (تلؤوا) ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت (تلوا) وأصلها (تلووا). فتتفق (3) القراءتان على هذا التقدير. وذكره النحاس ومكي وابن العربي وغيرهم. قال ابن عباس: هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لاحدهما على الآخر، فاللي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي إليه. قال ابن عطية: وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله حسيب الكل. وقال ابن عباس أيضا والسدي وابن زيد والضحاك ومجاهد: هي في الشهود يلوي الشاهد الشهادة بلسانه ويحرفها فلا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل. وفي الحديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته). قال ابن الاعرابي: عقوبته حبسه، وعرضه شكايته. العاشرة - وقد استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية، فقال: جعل الله تعالى الحاكم شاهدا في هذه الآية، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة، لان المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا فلذلك ردت الشهادة. (1) من ج، ط، ز. (2) من ج، ط والنحاس. (3) في ج: فتستوي. (*)
[ 415 ]
قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلا لا بعيدا (136) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) الآية. نزلت في جميع المؤمنين، والمعنى: يا أيها الذين صدقوا أقيموا على تصديقكم وأثبتوا عليه. (والكتاب الذى نزل على رسوله) أي القرآن. (والكتاب الذى أنزل من قبل) أي كل كتاب أنزل على النبيين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (نزل) و (أنزل) بالضم. الباقون (نزل) و (أنزل) بالفتح. وقيل: نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلى الله عليه وسلم من الانبياء عليهم السلام. قيل: إنه خطاب للمنافقين، والمعنى على هذا يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل: المراد المشركون، والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله، أي صدقوا بالله وبكتبه. قوله تعالى: ان الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهد يهم سبيلا (137) قيل: المعنى آمنوا بموسى وكفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى، ثم أزدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الذين آمنوا بموسى ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعد عزير بالمسيح، وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن. فإن قيل: إن الله تعالى لا يغفر شيئا من الكفر فكيف قال: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم أزدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم) فالجواب أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الاول، وهذا كما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
[ 416 ]
[ يا رسول (1) الله ] أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال: (أما من أحسن منكم في الاسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والاسلام). وفي رواية (ومن أساء في الاسلام أخذ بالاول والآخر). الاساءة هنا بمعنى الكفر، إذ لا يصح أن يراد بها [ هنا (2) ] أرتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الاسلام ما سبق قبله إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلا حين موته، وذلك باطل بالاجماع. ومعنى: (ثم ازدادوا كفرا) أصروا على الكفر. (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم) يرشدهم. (سبيلا) طريقا إلى الجنة. وقيل: لا يخصهم بالتوفيق كما يخص أولياءه. وفي هذه الآية رد على أهل القدر، فإن الله تعالى بين أنه لا يهدي الكافرين طريق خير ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا. وتضمنت الآية أيضا حكم المرتدين، وقد مضى القول فيهم في (البقرة (3)) عند قوله تعالى: (ومن يرتدد (4) منكم عن دينه فيمت وهو كافر). قوله تعالى: بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) التبشير الاخبار بما ظهر أثره على البشرة، وقد تقدم بيانه في (البقرة (5)) ومعنى النفاق. قوله تعالى: الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا (139) قوله تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) (الذين) نعت للمنافقين. وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق، لانه لا يتولى الكفار. وتضمنت المنع من موالاة الكافر، وأن يتخذوا أعوانا على الاعمال المتعلقة بالدين. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل معه، فقال له: (ارجع فإنا لا نستعين بمشرك). (العزة) أي الغلبة، عزه يعزه (1) الزيادة عن صحيح مسلم وط. (2) من ج وط. (3) راجع ج 3 ص 47 (4) بفك الادغام قراءة نافع. راجع ج 3 ص 40 (5) راجع ج 1 ص 198، 238 (*)
[ 417 ]
عزا إذا غلبه. (فان العزة لله جميعا) أي الغلبة والقوة لله. قال ابن عباس: (يبتغون عندهم) يريد عند بني قينقاع، فإن ابن أبي كان يواليهم. قوله تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انكم إذا مثلهم ان الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140) الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من الله قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141) قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) الخطاب لجميع من أظهر الايمان من محق ومنافق، لانه إذا أظهر الايمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله. فالمنزل قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره (1)). وكان المنافقين يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن. وقرأ عاصم ويعقوب (وقد نزل) بفتح النون والزاي وشدها، لتقدم اسم الله جل جلاله في قوله تعالى: (فإن العزة لله جميعا). وقرأ حميد كذلك، إلا أنه خفف الزاي. الباقون (نزل) غير مسمى الفاعل. (أن إذا سمعتم آيات الله) موضع (أن إذا سمعتم) على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه. وفي قراءة الباقين رفع، لكونه اسم ما لم يسم فاعله. (يكفر بها) أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله، فأوقع السماع (1) راجع ج 7 ص 12 (*)
[ 418 ]
على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء، كما تقول: سمعت عبد الله يلام، أي سمعت اللوم في عبد الله. قوله تعالى: (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) أي غير الكفر. (انكم إذا مثلهم) فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لان من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عزوجل: (إنكم إذا مثلهم). فكل من جلس في مجلس (1) معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز [ رضى الله عنه (2) ] أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الادب وقرأ هذه الآية (إنكم إذا مثلهم) أي إن الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم. وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، كما قال: * فكل قرين بالمقارن يقتدي * وقد تقدم (3). وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والاهواء أولى. وقال الكلبي: قوله تعالى (فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) نسخ بقوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ (4)). وقال عامة المفسرين: هي محكمة. وروى جويبر عن الضحاك قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة. قوله تعالى: (ان الله جامع المنافقين) الاصل (جامع) بالتنوين فحذف استخفافا، فإنه بمعنى يجمع. (الذين يتربصون بكم) يعني المنافقين، أي ينتظرون بكم الدوائر. (1) في ج: موضع. (2) من ج وط. (3) راجع ص 194 من هذا الجزء. (4) راجع ج 6 ص 431 (*)
[ 419 ]
(فان كان لكم فتح من الله) أي غلبة على اليهود وغنيمة. (قالوا ألم نكن معكم) أي أعطونا من الغنيمة. (وان كان للكافرين نصيب) أي ظفر. (قالوا ألم نستحوذ عليكم) أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم. يقال: استحوذ على كذا أي غلب عليه، ومنه قوله تعالى: (استحوذ عليهم الشيطان). وقيل: أصل الاستحواذ الحوط، حاذه يحوذه حوذا إذا حاطه. وهذا الفعل جاء على الاصل، ولو أعل لكان ألم نستحذ، والفعل على الاعلال استحاذ يستحيذ، وعلى غير الاعلال استحوذ يستحوذ. (ونمنعكم من المؤمنين) أي بتخذيلنا إياهم عنكم، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم. والآية تدل على أن المنافقين [ كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين ولهذا قالوا: ألم نكن معكم ؟ وتدل على أنهم (2) ] كانوا لا يعطونهم الغنيمة ولهذا طلبوها وقالوا: ألم نكن معكم ! ويحتمل أن يريدوا بقولهم (ألم نكن معكم) الامتنان على المسلمين. أي كنا نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصارا لكم. قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) للعلماء فيه تأويلات خمس: أحدها - ما روي عن يسيع (3) الحضرمي قال: كنت عند علي [ بن أبي طالب رضي الله عنه (4) ] فقال له رجل يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) كيف ذلك، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ! فقال علي رضي الله عنه: معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم. وكذا قال ابن عباس: ذاك يوم القيامة. قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل. قال ابن العربي: وهذا ضعيف: لعدم فائدة الخبر فيه، وإن أو هم صدر الكلام معناه، لقوله تعالى: فالله يحكم بينكم يوم القيامة) فأخر الحكم إلى يوم القيامة، وجعل الامر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى، (1) راجع ج 17 ص 305 (2) من ى وط وج. (3) كذا في ج وفي ا وط وى وابن عطية يثيع، وفي التهذيب: يسيع - بالتصغير - ابن معدان الخ ويقال فيه: أسيع، وفى القاموس وشرحه: (أثيع) كزبير أو (يثيع) يقلب الهمزياء. (4) من ج وط. (*)
[ 420 ]
بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة. ثم قال: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرارا. الثاني - إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب أثارهم ويستبيح بيضتهم، كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لامتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا). الثالث - أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا [ منه (1) ] إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم، كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (2)). قال ابن العربي: وهذا نفيس (3) جدا. قلت: ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان (حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا) وذلك أن (حتى) غاية، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض، وقد وجد ذلك في هذه الازمان بالفتن الواقعة بين المسلمين، فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الاسلام إلا أقله، فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه. الرابع - إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا، فإن وجد فبخلاف الشرع. الخامس - (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها إلا أبطلها و دحضت. (1) من ج وى. (2) راجع ج 16 ص 30 (3) في ج: بين. (*)
[ 421 ]
الثانية - ابن العربي: ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم. وبه قال أشهب والشافعي: لان الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه، [ والملك (1) ] بالشراء سبيل، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك. وقال ابن القاسم عن مالك، وهو قول أبي حنيفة: إن معنى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) في دوام الملك، لانا نجد الابتداء يكون له [ عليه (1) ] وذلك بالارث. وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه، فقبل الحكم عليه ببيعه مات، فيرث العبد المسلم [ وارث (2) ] الكافر. فهده سبيل قد ثبت (3) قهرا لا قصد فيه، وإن ملك الشراء ثبت بقصد النية، فقد أراد الكافر تملكه باختياره، فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده، وجعل له سبيل عليه. قال أبو عمر: وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه. وأجمعوا أنه إذا أسلم عبد الكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه. فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له، إلا أنه ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه، وذلك والله أعلم لقول الله عزوجل: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا دائما. واختلف العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين: أحدهما - البيع مفسوخ. والثاني - البيع صحيح ويباع على المشتري. الثالثة - واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فأسلم العبد، فقال مالك والشافعي في أحد قوليه: يحال بينه وبين العبد، ويخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره. فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن العبد المدبر، إلا أن يكون في ماله ما يحمل المدبر فيعتق المدبر. وقال الشافعي في القول الآخر: إنه يباع عليه ساعة أسلم، واختاره المزني، لان المدبر وصية ولا يجوز ترك مسلم (1) من ط وى. (2) زيادة عن ابن العربي. (3) في ط: ثبتت. والسبيل تذكر وتوئنث وتأنيثها أفصح. (*)
[ 422 ]
في ملك (1) مشرك يذله ويخارجه، وقد صار بالاسلام عدوا له. وقال الليث بن سعد: يباع النصراني من مسلم فيعتقه، ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه، ويدفع إلى النصراني ثمنه. وقال سفيان والكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قوم قيمته فيسعى في قيمته، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية. قوله تعالى: ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يراعون الناس ولا يذكرون الله الا قليلا (142) قوله تعالى: (ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) قد مضى في (البقرة) معنى الخدع (2). والخداع من الله مجازاتهم (3) على خداعهم أولياءه ورسله. قال الحسن: يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرج المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا، فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: (انظرونا نقتبس من نوركم (4)). قوله تعالى: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون على تركها عقابا. وفي صحيح الحديث: (إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح). فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم (5) عمل النهار فيثقل عليهم القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا. والرياء: إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله، وقد تقدم بيانه (6). ثم وصفهم بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف. وقال صلى الله عليه وسلم ذاما لمن أخر الصلاة: (تلك صلاة المنافقين - ثلاثا - يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان - أو - على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا) رواه مالك وغيره. فقيل: وصفهم بقلة الذكر لانهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير. وقيل: وصفه بالقلة لان الله تعالى لا يقبله. وقيل: لعدم الاخلاص فيه. وهنا مسألتان: (1) كذا في ج وط وى وز. وفي ا وح: يد. (2) راجع ج 1 ص 195 (3) في ج: مجازاته. (4) راجع ج 17 ص 245 ففيه بحث. (5) في ج وط وى: أنصبهم. (6) راج ج 3 ص 312 (*)
[ 423 ]
الاولى - بين الله تعالى في هذه الآية صلاة المنافقين، وبينها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فمن صلى كصلاتهم وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون (1)). وسيأتي. اللهم إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض (2) حسب ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي حين رآه أخل بالصلاة فقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم أركع حتى تطمئن راكعا ثم أرفع حتى تعتدل قائما ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ثم أرفع حتى تطمئن جالسا ثم أفعل ذلك في صلاتك كلها). رواه الائمة. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن). وقال: (لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه. الركوع والسجود). أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود. قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود). قال ابن العربي: وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض. وهي رواية عراقية لا ينبغي لاحد من المالكيين أن يشتغل بها. وقد مضى في (البقرة (3)) هذا المعنى. الثانية - قال ابن العربي: إن من صلى صلاة ليراها الناس ويرونه فيها فيشهدون له بالايمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الامامة فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج، وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيد اللناس وطريقا إلى الاكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الاعادة. (1) راجع ج 12 ص 10 (2) من ج وط وى. وفى أو ح وز: الحسن. (3) راجع ج 1 ص 170، وص 103 - 4 ج 12. (*)
[ 424 ]
قلت: قوله (وأراد طلب المنزلة والظهور لقبول. الشهادة) فيه نظر. وقد تقدم بيانه في (النساء (1)) فتأمله هناك. ودلت هذه الآية على أن الرياء يدخل الفرض والنفل، لقول الله تعالى: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا) فعم. وقال قوم: إنما يدخل النفل خاصة، لان الفرض واجب على جميع الناس والنفل عرضة لذلك. وقيل بالعكس، لانه لو لم يأت بالنوافل لم يؤاخذ بها. قوله تعالى: مذبذبين ذالك لا إلى هاؤلاء ولا إلى هاؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143) المذبذب: المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب. يقال: ذبذبته فتذبذب، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب آخر: خيال لام السلسبيل ودونها * مسيرة شهر للبريد المذبذب كذا روي بكسر الذال الثانية. قال ابن جني: أي المهتز (2) القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل. فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الايمان ولا مصرحين بالكفر. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة (3) بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى) وفي رواية (تكر) بدل (تعير). وقرأ الجمهور (مذبذبين) بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية. وفي حرف أبي (متذبذبين). ويجوز الادغام على هذه القراءة (مذبذبين) بتشديد الذال الاولى وكسر الثانية. وعن الحسن (مذبذبين) بفتح الميم والذالين. (1) راجع ص 180 فما بعد من هذا الجزء وص 212 ج 20. (2) في الاصول: الممتر. والتصحيح من ابن عطية وفى الراغب: الذبذبة حكاية صوت الحركة للشئ المعلق ثم استعير لكل اضطراب وحركة. (3) العائرة: المترددة بين قطيعين لا تدرى أيهما تتبع. (*)
[ 425 ]
قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤ منين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء) مفعولان، أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم، وقد تقدم (1) هذا المعنى. (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) أي في تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد نهاكم. قوله تعالى: ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) قوله تعالى: (في الدرك) قرأ الكوفيون (الدرك) بإسكان الراء، والاولى أفصح، لانه يقال في الجمع: أدراك مثل جمل وأجمال، قاله النحاس. وقال أبو علي: هما لغتان كالشمع والشمع ونحوه، والجمع أدراك. وقيل: جمع الدرك أيرك، كفلس وأفلس. والنار دركات سبعة، أي طبقات ومنازل، إلا أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك. يقال: للبئر أدراك، ولما تعالى درج، فللجنة درج، وللنار أدراك. وقد تقدم هذا (2). فالمنافق في الدرك الاسفل وهي الهاوية، لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الاولى، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه. وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى: (في الدرك الاسفل من النار) قال: توابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم. وقال ابن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة [ ثلاثة (3) ]: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار). وقال تعالى أصحاب المائدة: (فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (4)). وقال في آل فرعون: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (5)). (1) راجع ج 4 ص 178. (2) راجع ص 344 من هذا الجزء. (3) من ج وز وى. (4) راجع ج 6 ص 398 (5) راجع ج 15 ص 318 (*)
[ 426 ]
قوله تعالى: الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولائك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146) استثناء ممن نافق. ومن شرط التائب من النفاق أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله، كما نصت عليه هذه الآية، وإلا فليس بتائب، ولهذا أوقع أجر المؤمنين في التسويف (1) لانضمام المنافقين إليهم. والله أعلم. روى البخاري (2) عن الاسود قال: كنا في حلقة عبد الله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال: لقد نزل النفاق على قوم خير منكم، قال الاسود: سبحان الله ! إن الله تعالى يقول: (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار). فتبسم عبد الله وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله فتفرق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته. فقال حذيفة: عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت: لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم. وقال الفراء: معنى (فأولئك مع المؤمنين) أي من المؤمنين. وقال القتبي: حاد عن كلامهم غضبا عليهم (3) فقال: (فأولئك مع المؤمنين) ولم يقل: هم المؤمنون. وحذفت الياء من (يؤت) في الخط كما حذفت في اللفظ، لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله (يوم يناد المنادي (4)) و (سندع الزبانية) و (يوم يدع الداعي) حذفت الواوات لالتقاء الساكنين. قوله تعالى: ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وءامنتم وكان الله شاكرا عليما (147) استفهام بمعنى التقرير للمنافقين. التقدير: أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه. وقال مكحول: أربع من كن فيه كن له، وثلاث من كن (1) في ج: التسوية. (2) في ج: ومسلم. (3) كذا في الاصول. وفى البحر: لم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون الخ. تنفيرا مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق. (4) راجع ج 17 ص 26 وص 125 وج 20 ص 126 (*)
[ 427 ]
فيه كن عليه، فالاربع اللاتي له: فالشكر والايمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) وقال الله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (1)) وقال تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم (2)). وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث، قال الله تعالى: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه (3)). وقال تعالى: (ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله (4)) وقال تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم (5)). (وكان الله شاكرا عليما) أي يشكر عباده على طاعته. ومعنى (يشكرهم) يثيبهم، فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته. والشكر في اللغة الظهور، يقال: دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى (6). والعرب تقول في المثل: (أشكر من بروقة (7)) لانها يقال: تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر. والله أعلم. (1) راجع ج 7 ص 398
[ 427 ]
فيه كن عليه، فالاربع اللاتي له: فالشكر والايمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) وقال الله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (1)) وقال تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم (2)). وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث، قال الله تعالى: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه (3)). وقال تعالى: (ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله (4)) وقال تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم (5)). (وكان الله شاكرا عليما) أي يشكر عباده على طاعته. ومعنى (يشكرهم) يثيبهم، فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته. والشكر في اللغة الظهور، يقال: دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى (6). والعرب تقول في المثل: (أشكر من بروقة (7)) لانها يقال: تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر. والله أعلم. (1) راجع ج 7 ص 398 (2) راجع ج 13 ص 84 (3) راجع ج 16 ص 268 (4) راجع ج 14 ص 259 (5) راجع ج 8 ص 324 (6) راجع ج 1 ص 397 (7) البروق: ما يكسو الارض من أول خضرة النبات. وقيل: هو نبت معروف. (*) تم الجزء الخامس من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السادس، وأوله قوله تعالى: " لا يجب الله الجهر بالسوء من القول " مصححة أبو إسحاق إبراهيم اطفيش