تفسير القرطبي
القرطبي ج 2

[ 1 ]
الجامع لاحكام القران لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي الجزء الثاني أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه‍ 1985 م
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم " هذا استفهام فيه معنى الانكار، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك. والخطاب لاصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الانصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا. و " أن " في موضع نصب، أي في أن يؤمنوا، نصب بأن، ولذلك حذفت منه النون. يقال: طمع فيه طمعا وطماعية - مخفف - فهو طمع، على وزن فعل. وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب: طمع الرجل - بضم الميم - أي صار كثير الطمع. والطمع: رزق الجند، يقال: أمر لهم الامير بأطماعهم، أي بأرزاقهم. وامرأة مطماع: تطمع ولا تمكن. الثانية - قوله تعالى: " وقد كان فريق منهم " الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه في أدنى العدد أفرقة، وفي الكثير أفرقاء. " يسمعون " في موضع نصب خبر " كان ". ويجوز أن يكون الخبر " منهم "، ويكون " يسمعون " نعتا لفريق، وفيه بعد. " كلام الله " قراءة الجماعة. وقرأ الاعمش " كلم الله " على جمع كلمة. قال سيبويه: وأعلم أن ناسا من ربيعة يقولون " منهم " بكسر الهاء إتباعا لكسرة الميم، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده. " كلام الله " مفعول ب " يسمعون ". والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه
[ 2 ]
السلام، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم. هذا قول الربيع وابن إسحاق، وفي هذا القول ضعف. ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السدي وغيره: لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام، كما قال تعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " (1). فإن قيل: فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتا كصوت الشبور: (2) " إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة ". قلت: هذا حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به، وإنما الكلام شئ خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم، وقد قال وقوله الحق: " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " (3). وهذا واضح. الثالثة - واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه، فمنهم من قال: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين. وقال آخرون: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له: " إني أنا ربك " (4) هو الله عز وجل. وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه (1) راجع ج‍ 8 ص 75. (2) الشبور (على وزن التنور): البوق. (3) راجع ج‍ 7 ص 280. (4) راجع ج‍ 11 ص 172. (*)
[ 3 ]
إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز. وسيأتي في سورة " القصص " بيان معنى قوله تعالى: " نودي من شاطئ الوادي الايمن في البقعة المباركة من الشجرة " (1) إن شاء الله تعالى. الرابعة - قوله تعالى: " ثم يحرفونه " قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لاهوائهم. " من بعد ما عقلره " أي عرفوه وعلموه. وهذا توبيخ لهم، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لابائهم أفاعيل سوء وعناد، فهؤلاء على ذلك السنن، فكيف تطمعون في إيمانهم !. ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد، لانه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده. قوله تعالى: وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به ى عند ربكم أفلا تعقلون (76) أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77) قوله تعالى - " وإذا لقوا الذين آمنوا آمنا " هذا المنافقين. وأصل " لقوا " لقيوا، وقد تقدم (2). " وإذ خلا بعضهم إلى بععض " الاية في اليهود، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، فقالت لهم اليهود: " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " أي حكم الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم، عن ابن عباس والسدي. وقيل: إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فانصرف إليه وقال: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له، فقال: " أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك " ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم: (أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته) فقالوا: (1) راجع ج‍ 13 ص 281. (2) يراجع ج‍ 1 ص 206 طبعة ثانية (*)
[ 4 ]
ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا ؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا ! روي هذا المعنى عن مجاهد. قوله تعالى: " وإذا خلا " الاصل في " خلا " خلو، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى " خلا " في أول السورة (1). ومعنى " فتح " حكم. والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " (2) أي الحاكمين، والفتاح: القاضي بلغة اليمن، يقال: بيني وبينك الفتاح، قيل ذلك لانه ينصر المظلوم على الظالم. والفتح: النصر، ومنه قوله: " يستفتحون على الذين كفروا "، (3)، وقوله: " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " (4). ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين. قوله تعالى: " لياجوكم " نصب بلام كي، وإن شئت بإضمار أن، وعلامة النصب، حذف النون. قال يونس: وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الاخفش: لان الفتح الاصل. قال خلف الاحمر: هي لغة بني العنبر. ومعنى " ليحاجوكم " ليعيروكم، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم. وقيل: المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه. وقيل: إن الرجل من اليهود كان يلقي صديقه من المسلمين فيقول له: تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا. " عند ربكم " قيل في الاخرة، كما قال: " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " (5). وقيل: عند ذكر ربكم. وقيل: " عند " بمعنى " في " أي ليحاجوكم به في ربكم، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عن الحسن. والحجة: الكلام المستقيم على الاطلاق، ومن ذلك محجة الطريق. وحاججت فلانا فحججته، أي غلبته بالحجة. ومنه الحديث: (فحج آدم موسى). " أفلا تعقلون " قيل: هو من قول الاحبار للاتباع. وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الاحوال. ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال: " أولا يعلمون " الاية. فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع. وقرأ الجمهور " يعلمون " بالياء، وابن محيصن بالتاء، خطابا للمؤمنين. والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه الجحد به. (1) يراجع ج‍ 1 ص 206 طبعة ثانية (2) راجع ج‍ 7 ص 251 (3) راجع ص 26 من هذا الجزء (4) راجع ج‍ 7 ص 386 (5) راجع ج‍ 15 ص 254 (*)
[ 5 ]
قوله تعالى. ومنهم أميون لا يعلمون الكتب إلا أمانى وإن هم إلا يظونون (87). فيهه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ومنهم أميون " أي من اليهود. وقيل: من اليهود والمنافقين أميون، أي من لا يكتب ولا يقرأ، واحدهم أمي، منسوب إلى الامة الامية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، ومنه قوله عليه السلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) الحديث. وقد قيل لهم إنهم أميون لانهم لم يصدقوا بأم الكتاب، عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب. عكرمة والضحاك: هم نصارى العرب. وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين. علي رضي الله عنه: هم المجوس. قلت: والقول الاول أظر، والله اعلم. الثانية - قوله تعالى " لا يعلمون الكتاب إلا أمانى " " إلا " ها هنا بمعنى لكن، فهو استثناء منقطع، كقوله تعالى: " وما لهم به من علم إلا اتباع الظن " (1). وقال النابغة: حلفت يمينا غير ذي مثنوية (2) * ولا علم إلا حسن ظن بصاحب وقرأ أبو جعفر وشيبة والاعرج " إلا أماني " خفيفة الياء، حذفوا إحدى الياءين استخفافا. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف، مثل أثافي وأغاني وأماني، ونحوه. وقال الاخفش: هذا كما يقال في جميع مفتاح: مفاتيح ومفاتح، وهي ياء الجمع. قال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال الشاعر (3): وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى * ثلاث الاثفي والرسوم البلاقع (4) (1) راجع ج‍ 6 ص 9 (2) المثنوية: الاستثناء في اليمين (3) هو ذو الرمة، كما في ديوانه. (4) الاثافي (جمع أثفية، بضم الهمزة وكسرها وسكون الثاء وتشديد الياء): الحج الذى توضع ععليه القدر. والرسوم: بقايا الابنية. والبانقع (جمع بلقع) ؟ ؟: الخراب. (*)
[ 6 ]
والاماني جمع أمنية وهي التلاوة، وأصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية، ومنه قوله تعالى: " إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته (1) " أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقال كعب بن مالك: تمنى كتاب الله أول ليلة * وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليله * تمني داود الزبور على رسل والاماني أيضا الاكاذيب، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث: أهذا شئ رويته أم شئ تمنيته ؟ أي أفتعلته. وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد " أماني " في الاية. والاماني أيضا ما يتمناه الانسان ويشتهيه. قال قتادة: " إلا أماني " يعني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم. وقيل: الاماني التقدير، يقال: مني له أي قدر، قال الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم * حتى تلاقي ما يمني لك الماني (2) أي يقدر لك المقدر. الثالثة - قوله تعالى " وإن هم إلا يظنون " " إن " بمعنى ما النافية، كما قال تعالى: " إن الكافرون إلا في غرور ". و " يظنون " يكذبون ويحدثون، لانهم لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لاحبارهم فيها يقرءون به. قال أبو بكر الانباري: وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل " وإن هم إلا يظنون " أراد إلا يكذبون. الرابعة - قال علماؤنا رحة الله عليهم: نعت الله تعالى أحبارهم بأنه يبدلون ويحرقون فقال وقوله الحق: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " الاية. وذلك أنه لما درس (1) راجع ج‍ 12 ص 79. (2) نسب شارح القاموس هذا البيت لسويد بن عامر المصطلقي. (*)
[ 7 ]
الامر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رياستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: ليس علينا في الاميين سبيل، وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرنا ذنب، فنحن أحباؤه وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك ! وإنما كان في التوراة " يا أحباري ويا أبناء رسلي " فغيروه وكتبوا " يا أحبائي ويا أبنائي " فأنزل الله تكذيبهم: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم (1) ". فقالت: لن يعذبنا الله، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل، فأنزل الله تعالى: " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا (2) ". قال ابن مقسم: يعني توحيدا، بدليل قوله تعالى: " إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (3) " يعني لا إله إلا الله " فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ". ثم أكذبهم فقال: " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النارهم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (4) ". فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والايمان، لا بما قالوه. قوله تعالى: فويل للذين يكتبون الكتب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتب أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله: " فويل " اختلف في الويل (5) ما هو، فروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه جبل من نار. وروى أبو سعيد الخدرى أن الويل واد في جهنم بين (1) راجع ج‍ 6 ص 120 (2) راجع ص 10 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 11 ص 153. (4) راجع ص 11 من هذا الجزء. (5) قال أبو حيان في البحر المحيط بعد أن ذكر الاقوال التى وردت في معنى الويل: " لو صح في التفسير الويل شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب المصير إليه، وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظ الويل قبل أن يجئ القرآن ولم تطلقه على شئ من هذا التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره به أهل اللغة ". (*)
[ 8 ]
جبلين يهوى فيه الهاوى أربعين خريفا. وروى سفيان وعطاء بن يسار: أن الويل في هذه الاية واد يجرى بفناء جهنم من صديد أهل النار. وقيل: صهريج في جهنم. وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم. وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب. وقال الخليل: الويل شدة الشر (1). الاصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم. سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة. ابن عرفة: الويل الحزن، يقال: تويل الرجل إذا دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه، ومنه قوله، " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ". وقيل: أصله الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى: " يا ويلتنا مال هذا الكتاب (2) ". وهى الويل والويلة، وهما الهلكة، والجمع الويلات، قال: * له الويل إن أمسى ولا أم هاشم * وقال أيضا: * فقالت لك الويلات إنك مر جلى * وارتفع " ويل " بالابتداء، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لان فيه معنى الدعاء. قال الاخفش: ويجوز النصبب على إضمار فعل، أي ألزمهم الله ويلا. وقال الفراء: الاصل في الويل " وى " أي حزن، كما تقول: وى لفلان، أي حزن له، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها. والاحسن فيه إذا فصل عن الاضافة الرفع، لانه يقتضى الوقوع. ويصح النصب على معنى الدعاء، كما ذكرنا. قال الخليل: ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب، وكله يتقارب في المعنى. وقد فرق بينها انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، إذا أدخلت اللام رفعت فقلت: ويل له، وويح له. الثانية - قوله تعالى: " للذين يكتبون " الكابة معروفة. وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام، وجاء ذلك في حديث أبى ذر، خرجه الاجرى وغيره. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطى الخط فصار وراثة في ولده. (1) كذا في نسخ الاصل، وكتاب البح لابي حيان. (2) راجع ج‍ 10 ص 418 (*)
[ 9 ]
الثالثة - قوله تعالى: " بأيديهم " تأكيد، فإنه قد علم أن الكتب لا يكون إلا باليد، فهو مثل قوله: " ولا طائر يطير بجناحيه "، وقوله " يقولون بأفواههم " وقيل: فائدة " بأيديهم " بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيا له. وقال ابن السراج: " بأيديهم " كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم. الرابعة - في هذه الاية والتى قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع، فكل من بدل وغير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الاليم، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال: (ألا من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعينن ملة وإن هذه الامة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) الحديث، وسيأتى. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس، وقد وقع ما حدره وشاع،. كثر وذاع، فإناالله وإنا إليه راجعون. الخامسة - قوله تعالى: " ليشتروا به ثمنا قليلا " وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة، إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لان الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم ربعة أسمر، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وقالوا لاصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا، وكانت للاحبار والعلماء رياسة ومكاسب، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورياستهم، فمن ثم غيروا. ثم قال تعالى: " فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " قيل من المآكل. وقيل من المعاصي. وكرر الويل تغليظا لفعلهم.
[ 10 ]
قوله تعالى: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يحلف الله عهده - أم تقولون على الله مالا تعلمون (80) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وقالوا " يعني اليهود. " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " اختلف، في سبب نزولها، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: (من أهل النار). قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: (كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم) فنزلت هذه الاية، قال ابن زيد. وقال عكرمة عن ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الاخرة، وإنما هي سبعة أيام، فأنزل الله الاية، وهذا قول مجاهد. وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم. ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم. وقالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، فأكذبهم الله، كما تقدم. الثانية - في هذه الاية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام: (دعى الصلاة أيام أقرائك) في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، قالوا: لان ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه أيام، وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة، قال الله تعالى: " فصيام ثلاثة أيام في الحج (1) " " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام (2) "، " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما (3) " (1) راجع ص 399 من هذا الجزء (2) راجع ج‍ 9 ص 60 (3) راجع ج‍ 18 ص 259. (*)
[ 11 ]
فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: " أياما معدودات " يعني جميع الشهر، وقال: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودات (1) " يعني أربعين يوما. وأيضا فإذا أضيفت الايام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد، ولعله أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع، فخرج الكلام عليه، والله اعلم. الثالثة - قوله تعالى " قل أتخذتم " تقدم القول في " أتخذ (1) " فلا معنى لاعادته " عند الله عهد " أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم تستوجبون بذلك الخروج من النار أو هل عرفتم ذلك بويح الذى عهده إليكم " فلن يحلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعملون " توبيخ وتقريع. قوله تعالى: بلى من كسب سيئتة وأحطت به خطيئته فأولئك أصحب النار هم فيها خالدون (81) والذين ءامنوا وعملوا الصلحت أولئك أصحب الجنة هم فيها خالدون (82) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " بلى " أي الامر كما ذكرتم. قال سيبويه: ليس " بلى " و " نعم " اسمين. وإنما هما حرفان مثل " بل " وغيره، وهي رد لقولهم: إن تمسنا النار. وقال الكوفيون: أصلها بل التي للاضراب عن الاول، زيدت عليها الياء ليحسن الوقف، وضمنت الياء معنى الايجاب والانعام. ف " بل " تدل على رد الجحد، والياء تدل على الايجاب لما بعد. قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا ؟ فقلت: نعم، لكان المعنى لا، لم آخذ، لانك حققت النفي وما بعده. فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شئ، فقال الاخر: نعم، كان ذلك تصديقا، لان لا شئ (1) راجع ج‍ 4 ص 51 (2) راجع ج‍ 1 ص 396 طبعة ثانية.
[ 12 ]
له عليه، ولو قال: بلى، كان ردا لقوله، وتقديره: بلى لي عليك. وفي التنزيل " ألست بربكم قالوا بلى (1) " ولو قالوا نعم لكفروا. الثانية - قوله تعالى: " سيئة " السيئة الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: " من كسب سيئة " ؟ قال: الشرك، وتلا " ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار (2) ". وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة. الثالثة - لما قال تعالى: " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته " دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا (3) " وقوله عليه السلام لسفيان بن عبد الله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الاسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: (قل آمنت بالله ثم استقم). رواه مسلم. وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء فيه عند قوله تعالى لادم وحواء: " ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (4) ". وقرأ نافع " خطيئاته " بالجمع، الباقون بالافراد، والمعنى الكثرة، مثل قوله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها (5) ". قوله تعالى: وإذا أخذنا ميثق بنى إسراءيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذى القربى واليتمى والمسكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة هم تويلتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وإذا أخذنا ميثاق بنى إسرائيل " تقدم الكلام في بيان هذه الالفاظ (6). واختلف في الميثاق هنا، فقال مكي: هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم. (1) راجع ج‍ 7 ص 316 (2) راجع ج‍ 13 ص 245 (3) راجع ج‍ 15 ص 357 (4) راجع ج‍ 1 ص 304 (5) راجع ج‍ 9 ص 367 (6) راجع ج‍ 1 ص 246، 330.
[ 13 ]
وهو قوله: " لا تعبدون إلا الله " وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه. الثانية - قوله تعالى: " لا تعبدون " قال سيبويه: " لا تعبدون " متعلق بقسم، والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون، وأجازه المبرد والكسائي والفراء. وقرأ أبي وابن مسعود " لا تعبدوا " على النهي، ولهذا وصل الكلام بالامر فقال: " وقوموا، وقولوا، وأقيموا، وآتوا ". وقيل: هو في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم موحدين، أو غير معاندين، قاله قطرب والمبرد أيضا. وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي " يعبدون " بالياء من أسفل. وقال الفراء والزجاج وجماعة: المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله، وبأن يحسنوا للوالدين، وبألا يسفكوا الدماء، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما، كقوله تعالى: " أفغير الله تأمروني (1) ". قال المبرد: هذا خطأ، لان كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا، تقول: وبلد قطعت، أي رب بلد. قلت: ليس هذا بخطإ، بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد سيبويه: ألا أيها ذا الزاجري أخضر الوغى * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي (2) بالنصب والرفع، فالنصب على إضمار أن، والرفع على حذفها. الثالثة - قوله تعالى: " وبالوالدين إحسانا " أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا. وقرن الله عز وجل في هذه الاية حق الوالدين بالتوحيد، لان النشأة الاولى من عند الله، والنش ء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: " أن اشكر لي ولوالديك (3) ". والاحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما، على ما يأتي بيانه مفصلا في " الاسراء (4) " إن شاء الله تعالى. * هامش) * (1) راجع ج‍ 15 ص 276 (2) البيت لطرفة بن العبد في معلقته. (3) راجع ج‍ 14 ص 65 (4) راجع ج‍ 10 ص 238 (*)
[ 14 ]
الرابعة - قوله تعالى: " وذى القربى " عطف ذي القربى على الوالدين. والقربى: بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، أي وأمرناهم بالاحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة " القتال (1) " إن شاء الله تعالى. الخامسة - قوله تعالى: " واليتامى " اليتامى عطف أيضا، وهو جمع يتيم، مثل ندامى جمع نديم. واليتم في بني آدم بفقد الاب، وفي البهائم بفقد الام. وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الام، والاول المعروف. وأصله الانفراد، يقال: صبي يتيم، أي منفرد من أبيه. وبيت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شئ من الشعر. ودرة يتيمة: ليس لها نظير. وقيل: أصله الابطاء، فسمي به اليتيم، لان البر يبطئ عنه. ويقال: يتم ييتم يتما، مثل عظم يعظم. ويتم ييتم يتما ويتما، مثل سمع يسمع، ذكر الوجهين الفراء. وقد أيتمه الله. ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله، على ما يأتي بيانه في " النساء (2) ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة). وأشار مالك (3) بالسبابة والوسطى، رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وخرج الامام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل (4) قال حدثنا الاسود بن عبد الرحمن عن هصان (5) عن أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان). وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي (6) عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ضم يتيما من بين ملمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه ألبتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه - قالوا: وما كريمتاه ؟ قال: - عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن (7) أو يمتن غفرت له ذنوبه ألبتة (1) راجع ج‍ 16 ص 245 (2) راجع ج‍ 5 ص 8 (3) مالك: أحد رواة سند هذا الحديث. (4) لانه ربيب دينار. (5) في تهذيب التهذيب: " بكس أوله وتشديد المهملة آخره نون " وهو ابن كاهم ويقال ابن كاهن، كان أبوه كاهنا في الجاهلية ". (6) الرحبى (بفتح الراء والحاء المهملين وباء موحدة): منسوب إلى رحبة بن زرعة. (7) يبن: يتزوجن. (*)
[ 15 ]
إلا أن يعمل عملا لا يغفر) فناداه رجل من الاعراب ممن هاجر فقال: يا رسول الله أو اثنتين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو اثنتين). فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال: هذا والله من غرائب الحديث وغرره. الثادسة - السبابة من الاصابع هي التي تلي الابهام، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة، لانهم كانوا يسبون بها، فلما جاء الله بالاسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة، لانهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد. وتسمى أيضا بالسباحة، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت. وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الابهام على سائر أصابعه. فقوله عليه السلام: (أنا وهو كهاتين في الجنة)، وقوله في الحديث الاخر: (أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا) وأشار بأصابعه الثلاث، فإنما أراد ذكر المنازل والاشراف على الخلق فقال: نحشر هكذا ونحن مشرفون، وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة. فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة. وهذا معنى بعيد، لان منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة، ومنازل مختلفة. السابعة - قوله تعالى " والمساكين " " المساكين " عطف أيضا أي وأمرناهم بالاحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم. وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء. روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الارملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال -
[ 16 ]
وكالقائم لا (1) يفتر وكالصائم لا يفطر). قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الاخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله. الثامنة - قوله تعالى: " وقولوا للناس ححسنا " " حسنا " نصب على المصدر على المعنى، لان المعنى ليحسن قولكم. وقيل: التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن، فهو مصدر لا على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي " حسنا " بفتح الحاء والسين. قال الاخفش: هما بمعنى واحد، مثل البخل والبخل، والرشد والرشد. وحكى الاخفش: " حسنى " بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: " وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شئ إلا بالالف واللام، نحو الفضلى والكبرى والحسنى، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر " حسنا " بضمتين، مثل " الحلم ". قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها. ابن جريج: قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتغيروا نعته. سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به. وهذا كله حض على مكارم الاخلاق، فينبغي للانسان أن يكون قول للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لان الله تعالى قال لموسى وهارون: " فقولا له قولا لينا (2) ". فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل ! يقول الله تعالى: " وقولوا للناس حسنا ". فدخل في هذه الاية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي (3). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: (لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء). وقيل: أراد بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم، كقوله: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله (4) " فكأنه قال: قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسنا. وحكى (1) كذا في صحيح مسلم. والذى في نسخ الاصل: " لا يفتر من صلاة... الخ ". (2) راجع ج‍ 11 ص 199. (3) في بعض نسخ الاصل: " فكيف في غيرهما ". (4) راجع ج‍ 5 ص 251. (*)
[ 17 ]
المهدوي عن قتادة أن قوله: " وقولوا للناس حسنا " منسوخ بآية السيف. وحكاه أبو نصر عبد الرحيم (1) عن ابن عباس. قال ابن عباس: نزلت هذه الاية في الابتداء ثم نسختها آية السيف. قال ابن عطية: وهذا يدل على أن هذه الامة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الاسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، والله أعلم. التاسعة - قوله تعالى: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " تقدم (2) القول فيه. والخطاب لبني إسرائيل. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل، ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا يحتاج إلى نقل، كما ثبت ذلك في الغنائم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والاخلاص. العاشرة - قوله تعالى: " ثم توليتم " الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم، كما قال: " شنشنة (3) أعرفها من أخزم ". " إلا قليلا " كعبد الله بن سلام وأصحابه. و " قليلا " نصب على الاستثناء، والمستثنى عند سيبويه منصوب، لانه مشبه بالمفعول. وقال محمد ابن يزيد: هو مفعول على الحقيقة، المعنى استثنيت قليلا. " وأنتم معرضون " ابتداء وخبر. والاعراض والتولى بمعنى واحد، مخالف بينهما في اللفظ. وقيل: التولى بالجسم، والاعراض بالقلب. قال المهدوي: " وأنتم معرضون " حال، لان التولى فيه دلالة على الاعراض. (1) في بعض نسخ الاصل: " عبد الرحمن ". (2) يراجع ج‍ 1 ص 164، 343 طبعة ثانية. (3) الشنشنة (بالكسر): الطبيعة والخليقة والسجية. قال الاصمعي: وهذا ببت رجز تمثل به لابن أخزم الطائى، وهو: إن بنى زملوني بالدم * شنشنة أعرفها من أخزم * من يلق آساد الرجال يكلم * قال ابن برى: كان أخزم عاقا لابيه فمأت وترك بنين وعقوا جدهم وضربوه وأموه، فقال ذلك. (عن اللسان). (2 - 2) (*)
[ 18 ]
قوله تعالى: وإذا أخذنا ميثقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من ديركم ثم أقررتم تشهدون (84) فيه مسسئلتان: الاولى - قوله تعالى: " وإذا أخذنا ميثاقكم " تقدم القول فيه (1). " لا تسفكون دماءكم " المراد بنو إسرائيل، ودخل فيه بالمعنى من بعدهم. " لا تسفكون " مثل " لا تعبدون " (2) في الاعراب. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبى حمزة بضم الفاء وهى لغة، وأبو نهيك " تسفكون " بضم التاء وتشديد الفاء وفتح السين. والسفك: الصب. وقد تقدم (3). " ولا تخرجون " معطوف. " أنفسكم " النفس مأخوذة من النفاسة، فنفس الانسان أشرف ما فيه. والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية. وقيل: سميت دارا لدورها على سكانها، كما سمي الحائط حائطا لاحاطته على ما يحويه. و " أقررتم " من الاقرار، أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم. " وأنتم تشهدون " من الشهادة، أي شهداء بقلوبكم على هذا وقيل: الشهادة بمعنى الحضور، أي تحضرون سفك دمائكم، وإخراج أنفسكم من دياركم. الثانية - فإن قيل: وهل يسفك أحد دمه ويخرج نفسه من داره ؟ قيل له لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الامم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضا وإخراج بعضهم بعضا قتلا لانفسهم ونفيا لها. وقيل: المراد القصاص، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دمه. وكذلك لا يزنى ولا يرتد، فإن ذلك يبيح الدم. ولا يفسد فينفي، فيكون قد أخرج نفسه من دياره. وهذا تأويل فيه بعد وإن كان صحيح المعنى. وإنما كان الامر أن الله تعالى قد أخذ على بنى إسرائيل في التوراة ميثاقا ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه ولا يسترقه، ولا يدعه يسرق، إلى غير ذلك من الطاعات. (هامش) * (1) راجع ج‍ 1 ص 436. (2) راجع ص 13 من هذا الجزء (3) راجع ج‍ 1 ص 275 طبعة ثانية. (*)
[ 19 ]
قلت: وهذا كله محترم علينا، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا، فإنالله وإنا إليه راجعون ! وفى التنزيل: " أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض (1) " وسيأتى. قال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد به الظاهر، لا يقتل الانسانية نفسه، ولا يخرج من داره سفها، كم تقتل الهند أنفسها. أو يقتل الانسان نفسه من جهد وبلاء يصيبه، أو يهيم في الصحراء ولا يأوى البيوت جهلا في ديانته وسفها في حلمه: فهو عموم في جميع ذلك. وقد روى أن عثمان بن مظعون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا أن يلبسوا المسوح، وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا البيوت: ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده، فقال لامرأته: (ما حديث بلغني عن عثمان) ؟ وكرهت أن تفشى سر زوجها، وأن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن كان قد بلغك شئ فهو كما بلغك، فقال: (قولى لعثمان أخلاف لسنتي أم على غير ملتى إنى أصلى وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء واوى البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى) فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه. قوله تعالى: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم تظهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسرى تفدوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغفل عما تعملون (85) أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالاخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون (86) قوله تعالى: " ثم أنتم هؤلاء " " أنتم " في موضع رفع بالابتداء، ولا يعرب، لانه مضمر. وضمت التاء من " أنتم " لانها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدا مذكرا، ومكسورة (1) راجع ج‍ 7 ص 9. (*)
[ 20 ]
إذا خاطبت واحدة مؤنثة، فلما ثنينت أو جمعت لم يبق إلا الضمة. " هؤلاء " قال القتبي: التقدير يا هؤلاء. قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه، ولا يجوز هذا أقبل. وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين. و " تقتلون " داخل في الصلة، أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: " هؤلاء " رفع بالابتداء، و " أنتم " خبر مقدم، و " تقتلون " حال من أولاء. وقيل: " هؤلاء " نصب بإضمار أعني. وقرأ الزهري " تقتلون " بضم التاء مشددا، وكذلك " فلم تقتلون أنبياء الله ". وهذه الاية خطاب للمواجهين لا يحتمل رده إلى الاسلاف. نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة، وكانت الاوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة. والنضير والاوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضا إخوان، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم، فعيرهم الله بذلك فقال: " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ". قوله تعالى: " تظاهرون " معنى " تظاهرون " تتعاونون، مشتق من الظهر، لان بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر: تظاهرتم أستاه بيت تجمعت (1) * على واحد لا زلتم قرن واحد والاثم: الفعل الذى يستحق عليه صاحبه الذم. والعدوان: الافراط في الظلم والتجاوز فيه. وقرأ أهل المدينة وأهل مكة " تظاهرون " بالتشديد، يدغمون التاء في الظاء لقربها منها، والاصل تتظاهرون. وقرأ الكوفيون " تظاهرون " مخففا، حذفوا التاء الثانية لدلالة الاولى عليها، وكذا " وإن تظاهرا عليه (2) ". وقرأ قتادة " تظهرون عليهم " وكله راجع إلى معنى التعاون، ومنه: " وكان الكافر على ربه ظهيرا (3) " وقوله: " والملائكة بعد ذلك ظهير " فاعلمه (4). قوله تعالى: " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم " فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وإن يأتوكم أسارى " شرط، وجوابه: " تفادوهم " و " أسارى " نصب على الحال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهم (1) كذا في بعض نسخ الاصل. وفى البعض الاخر: "... أستاه قوم... الخ ". وقد وردت رواية البيت في تفسير الشوكاني هكذا: * تظاهرتم من كل أوب ووجهة... الخ * (2) راجع ج‍ 18 ص 189 (3) راجع ج‍ 13 ص 61. (4) راجع ج‍ 18 ص 191 (*)
[ 21 ]
الاسارى، وما جاء مستأسرا فهم الاسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، إنما هو كما تقول: سكارى وسكرى. وقراءة الجماعة " أسارى " ما عدا حمزة فإنه قرأ " أسرى " على فعلى، جمع أسير بمعنى مأسور، والباب - في تكسيره إذا كان كذلك - فعلى، كما تقول: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سكارى، وفعالى هو الاصل، وفعالى داخلة عليها. وحكى عن محمد بن يزيد قال: يقال أسير وأسراء، كظريف وظرفاء. قال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى، وقرئ بهما. وقيل: أسارى (بفتح الهمزة) وليست بالعالية. الثانية - الاسير مشتق من الاسار، وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيرا، لانه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسر قتبه (1)، أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيرا وإن لم يؤسر، وقال الاعشى: وقيدني الشعر في بيته * كما قيد الاسرات الحمارا (2) أي أنا في بيته، يريد ذلك بلوغه النهاية فيه. فأما الاسر في قوله عز وجل: " وشددنا أسرهم (3) " فهو الخلق. وأسرة الرجل رهطه، لانه يتقوى بهم. الثالثة - قوله تعالى: " تفادوهم " كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي. والباقون " تفدوهم " من الفداء. والفداء: طلب الفدية في الاسير الذي في أيديهم. قال الجوهري: " الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، يقال: قم فدى لك أبى. ومن العرب من يكسر " فداء " بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة، فيقول: فداء لك، لانه نكرة يريدون به معنى الدعاء. وأنشد الاصمعي للنابغة: مهلا فداء لك الاقوام كلهم * وما أثمر من مال ومن ولد ويقال: فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه. وفداه بنفسه، وفداه يفديه إذا قال جعلت فداك. وتفادوا، أي فدى بعضهم بعضا ". والفدية والفدى والفداء كله بمعنى واحد. (1) القتب (بكسر فسكون وبالتحريك أيضا): رحل صغير على قدر سنام البعير. (2) الحمار: من معانيه أنه خشبة في مقدم الرحل تقبض ؟ المرأة. وقيل: العود الذى يحمل عليه الاقتاب. والاسرات: النساء اللواتى يؤكدون الرحال بالقد ويوثقنها. (3) راجع ج‍ 19 ص 149 (*)
[ 22 ]
وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، بمعنى فديت، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: فاديت نفسي وفاديت عقيلا. وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر، تقول: فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي، قال الشاعر: قفي فادي أسيرك إن قومي * وقومك ما أرى لهم اجتماعا الرابعة - قوله تعالى: " وهو محرم عليكم إخراجهم " " هو " مبتدأ وهو كناية عن الاخراج، و " محرم " خبره، و " إخراجهم " بدل من " هو " وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة، والجملة التي بعده خبره، أي والامر محرم عليكم إخراجهم. ف‍ " إخراجهم " مبتدأ ثان. و " محرم " خبره، والجملة خبر عن " هو "، وفي " محرم " ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الاخراج. ويجوز أن يكون " محرم " مبتدأ، و " إخراجهم " مفعول ما لم يسم فاعله يسد مسد خبر " محرم "، والجملة خبر عن " هو ". وزعم الفراء أن " هو " عماد، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له، لان العماد لا يكون في أول الكلام. ويقرأ " وهو " بسكون الهاء لثقل الضمة، كما قال الشاعر (1): فهو لا تنمى (2) رميته * ما له لا عد من نفره وكذلك إن جئت باللام وثم، وقد تقدم (3). قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الاخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال: " أفتؤمنون ببعض الكتاب " وهو التوراة " وتكفرون ببعض " ! ! قلت: ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض ! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين ! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم !. قال علماؤنا: فداء الاسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد: تضمنت الاية وجوب فك الاسرى، وبذلك وردت الاثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (1) هو امرؤ القيس، كما في اللسان وشرح الديوان. (2) أنميت الصيد فنمى يمنى، وذلك أن ترميه فتصيبه ويذهب عنك فيموت بعد ما يغيب. (3) يراجع ج‍ 1 ص 261 طبعة ثانية. (*)
[ 23 ]
فك الاسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الاجماع. ويجب فك الاسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين. وسيأتي (1). الخامسة - قوله تعالى: " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا " ابتداء وخبر. والخزي الهوان. قال الجوهري: وخزي - بالكسر - يخزي خزيا إذا ذل وهان. قال ابن السكيت: وقع في بلية. وأخزاه الله، وخزي أيضا يخزى خزاية إذا استحيا، فهو خزيان. وقوم خزايا وامرأة خزيا. السادسة - قوله تعالى: " ويوم القيامة يردون " " يردون " بالياء قراءة العامة، وقرأ الحسن " تردون " بالتاء على الخطاب. " إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون " تقدم القول فيه (2) وكذلك: " أولئك الذين اشتروا " الاية (3)، فلا معنى للاعادة. " يوم " منصوب ب‍ " يردون ". قوله تعالى: ولقد ءاتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينت وأيدنه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87) قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب " يعني التوراة. " وقفينا " أي أتبعنا. والتقفية: الاتباع والارداف، مأخوذ من إتباع القفا وهو مؤخر العنق. تقول استقفيته إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لانها تتلو سائر الكلام. والقافية: القفا، ومنه الحديث: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم). والقفي والقفاوة: ما يدخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه. وقفوت الرجل: قذفته بفجور. وفلان قفوتي أي تهمتي. وقفوتي أي خيرتي. قال ابن دريد كأنه من الاضداد. قال العلماء: وهذه الاية مثل قوله تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترا (4) ". وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والامر (1) راجع ج‍ 8 ص 52 (2) راجع ج‍ 1 ص 466. (3) راجع ج‍ 1 ص 210 طبعة ثانية. (4) راجع ج‍ 12 ص 125. (*)
[ 24 ]
بلزومها إلى عيسى عليه السلام. ويقال: رسل ورسل لغتان، الاولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، وسواء كان مضافا أو غير مضاف. وكان أبو عمرو يخفف إذا أضاف إلى حرفين، ويثقل إذا أضاف إلى حرف واحد. قوله تعالى: " واتينا عيسى ابن مريم البينات " أي الجج والدلالات، وهي التي ذكرها الله في " آل عمران " و " المائدة " (1)، قاله ابن عباس. " أيدناه " أي قويناه. وقرأ مجاهد وابن محيصن " آيدناه " بالمد، وهما لغتان. " بروح القدس " روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومعمر عن قتادة قالا: جبريل عليه السلام. وقال حسان: وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس به خفاء قال النحاس: وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس، لانه كان بتكوين الله عزوجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا. وروى غالب بن عبد الله عن مجاهد قال: القدس هو الله عز وجل. وكذا قال الحسن: القدس هو الله، وروحه جبريل. وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس: " بروح القدس " قال: هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى، وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير، وهو اسم الله الاعظم. وقيل: المراد الانجيل، سماه روحا كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا (2) ". والاول أظهر، والله تعالى أعلم. والقدس: الطهارة. وقد تقدم (3). قوله تعالى: " أفكلما جاءكم رسول بمالا تهوى أنفسسكم " أي بما لا يوافقها ويلائمها، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي بما لا تهواه. " استكبرتم " عن إجابته احتقارا للرسل، واستبعادا للرسالة. وأصل الهوى الميل إلى الشئ، وبجمع أهواء، كما جاء في التنزيل، ولا يجمع أهوية، على أنهم قد قالوا في ندى أندية، قال الشاعر: في ليلة من جمادى ذات أندية * لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا (4) (1) راجع ج‍ 4 ص 93، ج‍ 6 ص 362 (2) راجع ج‍ 16 ص 54 (3) راجع ج‍ 1 ص 277 طبعة ثانية. (4) الطنب (بضم الطاء وسكون النون وضمها): حبل الخباء والسرادق وغيرهما. (*)
[ 25 ]
قال الجوهري: وهو شاذ وسمي الهوى هوى لانه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه، وهذه الاية من ذلك. وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. أخرجهما مسلم. قوله تعالى: " ففريقا كذبتم " " ففريقا " منصوب ب‍ " كذبتم "، وكذا " وفريقا تقتلون " فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام، على ما يأتي بيانه في " سبحان (1) " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88) قوله تعالى: " وقالوا " يعني اليهود " قلوبنا غلف " بسكون اللام جمع أغلف، أي عليها أغطية. وهو مثل قول: " قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه (2) " أي في أوعية. قال مجاهد: " غلف " عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع. وحكى أهل اللغة غلفت السيف جعلت له غلافا، فقلب أغلف، أي مستور عن الفهم والتمييز. وقرأ ابن عباس والاعرج وابن محيصن " غلف " بضم اللام. قال ابن عباس: أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره. وقيل: هو جمع غلاف. مثل خمار وخمر، أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علما كثيرا ! وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم. فرد الله تعالى عليهم بقوله: " بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون " ثم بين أن السبب في نفورهم عن الايمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه. وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والابعاد. ويقال للذئب: لعين. وللرجل الطريد: لعين، وقال الشماخ: ذعرت به القطا ونفيت عنه * مقام الذئب كالرجل اللعين (1) راجع ج‍ 10 ص 218 (2) راجع ج‍ 15 ص 339. (*)
[ 26 ]
ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل، فالمعنى أبعدهم الله من رحمته. وقيل: من توفيقه وهدايته. وقيل: من كل خير، وهذا عام. " فقليلا " نعت لمصدر محذوف، تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون. وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، ويكون " قليلا " منصوب بنزع حرف الصفة. و " ما " صلة، أي فقليلا يؤمنون. وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، كما تقول: ما أقل ما يفعل كذا، أي لا يفعله ألبتة. وقال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، أي لا تنبت شيئا. قوله تعالى: ولما جاءهم كتب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكفرين (89) قوله تعالى: " ولما جاءهم " يعني اليهود. " كتاب " يعني القرآن. " من عند الله مصدق " نعت لكتاب، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال، وكذلك هو في مصحف أبى بالنصب فيما روي. " لما معهم " يعني التوراة والانجيل يخبرهم بما فيهما. " وكانوا من قبل يستفتحون " أي يستنصرون. والاستفتاح الاستنصار. استفتحت: استنصرت. وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم (1). ومنه " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده (2) ". والنصر: فتح شئ مغلق، فهو يرجع إلى قولهم فتحت الباب. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نصر (4) الله هذه الامة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). وروى النسائي أيضا عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (1) الذى في نهاية ابن الاثير واللسان مادة فتح: " أي يستنصر بهم ". (2) راجع ج‍ 6 ص 217. (3) يلاحظ أن راوي هذا الحديث هو سعد بن أبى وقاص، ففى سنن النسائي (ج‍ 1 ص 65 طبع المطبعة الميمنية) باب الاستبصار بالضعيف: أخبرنا محمد بن إدريس... عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه ظن... " الخ. (4) الذى في سنن النسائي: " إنما ينصر الله هذه الامة بضعيفها ". (*)
[ 27 ]
(أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ". قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود، فعادت (1) يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الامي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا، فأنزل الله تعالى: " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " أي بك يا محمد، إلى قوله: " فلعنة الله على الكافرين ". قوله تعالى: " ولما جاءهم " جواب " لما " الفاء وما بعدها في قوله: " فلما جاءهم ما عرفوا " في قول الفراء، وجواب " لما " الثانية " كفروا ". وقال الاخفش سعيد: جواب " لما " محذوف لعلم السامع، وقاله الزجاج. وقال المبرد: جواب " لما " في قوله: " كفروا "، وأعيدت " لما " الثانية لطول الكلام. ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيدا له. قوله تعالى: بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكفرين عذاب مهين (90) قوله تعالى: " بئسما اشتروا " بئس في كلام العرب مستوفية للذم، كما أن " نعم " مستوفية للمدح. وفي كل واحدة منها أربع لغات: بئس بئس بئس بئس. نعم نعم نعم نعم. ومذهب سيبويه أن " ما " فاعلة بئس، ولا تدخل إلا على أسماء الاجناس والنكرات. وكذا نعم، فتقول نعم الرجل زيد، ونعم رجلا زيد، فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبدا، فإذا كان فيه ألف ولام فهو رفع أبدا، ونصب رجل على التمييز. وفي نعم مضمر على شريطة التفسير، وزيد مرفوع على وجهين: على خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل من الممدوح ؟ قلت هو زيد، والاخر على الابتداء وما قبله خبره. وأجاز أبو علي أن تليها " ما " موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخص واحدا (1) في ب: " فعاذت " بالذال المعجمة. (*)
[ 28 ]
بعينه، والتقدير عند سيبويه: بئس الشئ اشتروا به أنفسهم أن يكفروا. ف‍ " أن يكفروا " في موضع رفع بالابتداء وخبره فيما قبله، كقولك: بئس الرجل زيد، و " ما " على هذا القول موصولة. وقال الاخفش: " ما " في موضع نصب على التمييز، كقولك: بئس رجلا زيد، فالتقدير بئس شيئا أن يكفروا. ف‍ " آشتروا به أنفسهم " على هذا القول صفة " ما ". وقال الفراء: " بئسما " بجملته شئ واحد ركب كحبذا. وفي هذا القول اعتراض، لانه يبقى فعل بلا فاعل. وقال الكسائي: " ما " و " اشتروا " بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود، فإن نعم وبئس لا يدخلان على اسم معين معرف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير. قال النحاس: وأبين هذه الاقوال قول الاخفش وسيبويه. قال الفراء والكسائي: " أن يكفروا " إن شئت كانت " أن " في موضع خفض ردا على الهاء في به. قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله. فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع، والمعنى: بئس الشئ الذي اختاروا لانفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالايمان. قوله تعالى: " بغيا " معناه حسدا، قاله قتادة والسدي، وهو مفعول من أجله، وهو على الحقيقة مصدر. الاصمعي: وهو مأخوذ من قولهم: قد بغى الجرح إذا فسد. وقيل: أصله الطلب، ولذلك سميت الزانية بغيا. " أن ينزل الله " في موضع نصب، أي لان ينزل، أي لاجل إنزال الله الفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن " أن ينزل " مخففا، وكذلك سائر ما في القرآن، إلا " وما ننزله " في " الحجر (1) "، وفي " الانعام " " على أن ينزل آية (2) ". قوله تعالى: " ففباءوا " أي رجعوا، وأكثر ما يقال في الشر، وقد تقدم (3). " بغضب على غضب " تقدم معنى غضب الله عليهم (4)، وهو عقابه، فقيل: الغضب الاول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. وقال عكرمة: لانهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد، يعني اليهود. وروى سعيد عن قتادة: الاول لكفرهم (1) راجع ج‍ 10 ص 14. (2) راجع ج‍ 6 ص 418. (3) راجع ج‍ 1 ص 430. (4) راجع ج‍ 1 ص 149 طبعة ثانية. (*)
[ 29 ]
بالانجيل، والثاني لكفرهم بالقرآن. وقال قوم: المراد التأييد وشدة الحال عليهم، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين. و " مهين " مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائما بخلاف خلود العصاة من المسلمين، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير، كرجم الزاني وقطع يد السارق، على ما يأتي بيانه في سورة " النساء (1) " من حديث أبي سعيد الخدري، إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: وإذا قيل لهم ءامنو بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91) قوله تعالى: " وإذا قيل لهم آمنو " أي صدقوا " بما أنزل الله " يعني القرآن " قالو نؤمن " أي نصدق " بما أنزل علينا " يعني التوراة. " ويكفرون بما وراءه " أي بما سواه، عن الفتراء. وقتادة: بما بعده، وهو قول أبي عبيدة، والمعنى واحد. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام. وهي من الاضداد، قال الله تعالى: " وكان وراءهم ملك (2) " أي أمامهم، وتصغيرها وريئة (بالهاء) وهي شاذة. وانتصب " وراءه " على الظرف. قال الاخفش: يقال لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكن، كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد: إذا أنا لم أو من عليك ولم يكن * لقاؤك إلا من وراء وراء (3) فلت: ومنه قول إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة: (إنما كنت خليلا من وراء وراء). والوراء: ولد الولد أيضا. قوله تعالى: " وهو الحق " ابتداء وخبر. " مصدقا " حال مؤكدة عند سيبويه. " لما معهم " ما في موضع خفض باللام، و " معهم " صلتها، و " معهم " نصب بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا. (1) راجع ج‍ 5 ص 87 - ويأتى أيضا في المائدة والنور، راجع ج‍ 6 ص 159، ج‍ 12 ص 159 (2) راجع ج‍ 11 ص 34. (3) البيت لعى بن مالك العقيلى. (عن اللسان). (4) الذى في النهاية واللسان مادة (روى): " إنى كنت، الخ، وفيهما: هكذا يروى مبيتا على الفتح، أي من خلف حجاب ". (*)
[ 30 ]
قوله تعالى " قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل " رد من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم وتوبيخ، المعنى: فكيف قتلتم وقد نهيتم عن ذلك ! فالخطاب لمن حضر محمدا صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم. وإنما توجه الخطاب لابنائهم، لانهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء (1) " فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم. وقيل: لانهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم. وجاء " تقتلون " بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الاشكال بقوله: " من قبل ". وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل، والمستقبل بمعنى الماضي، قال الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * أن الوليد أحق بالعذر شهد بمعنى يشهد. " إن كنتم مؤمنين " أي إن كنتم معتقدين الايمان فلم رضيتم بقتل الانبياء ! وقيل: " إن " بمعنى ما، وأصل " لم " لما، حذفت الالف فرقا بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليه، لانه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا، وإن وقف عليه بالهاء زيد في السواد. قوله تعالى: ولقد جاءكم موسى بالبينت ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون (92) قوله تعالى: " ولقد جاءكم بالبينات " اللام لام القسم. والبينات قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات (2) " وهي العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر. وقيل: البينات التوراة، وما فيها من الدلالات. قوله تعالى: ثم اتخذتم العجل " توبيخ، و " ثم " أبلغ من الواو في التقريع، أي بعد النظر في الايات، أو الاتيان بها اتخذتم. وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من (1) راجع ج‍ 6 ص 254 (2) راجع ج‍ 10 ص 335. (*)
[ 31 ]
قوله تعالى: وإذ أخذنا مثيقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتينكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمنكم إن كنتم مؤمنين (93) قوله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا " تقدم (1) الكلام في هذا ومعنى " اسمعوا " أطيعوا، وليس معناه الامر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب. قال: دعوت الله حتى خفت ألا * يكون الله يسمع ما أقول أي يقبل، وقال الراجز: والسمع والطاعة والتسليم * خير وأعفى لبني تميم " قالوا سمعنا وعصينا " اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا، كما قال: امتلا الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملات بطني. وهذا احتجاج عليهم في قولهم: " نؤمن بما أنزل علينا ". قوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل. والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم. وفي الحديث: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء) الحديث، خرجه مسلم. يقال أشرب قلبه حب كذا، قال زهير: فصحوت عنها بعد حب داخل * والحب تشربه فؤادك داء (1) راجع ج‍ 1 ص 436 وما بعدها، طبعة ثانية. (*)
[ 32 ]
وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الاكل لان شرب الماء يتغلغل في الاعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها. وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة، وكان عتب عليها في بعض الامر فطلقها وكان محبا لها: تغلغل حب عثمة في فؤادي * فباديه مع الخافي يسير تغلغل حيث لم يبلغ شراب * ولا حزن ولم يبلغ سرور أكاد إذا ذكرت العهد منها * أطير لو أن إنسانا يطير وقال السدي وابن جريج: إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه. وروي أنه ما شربه أحد إلا جن، حكاه القشيري. قلت: أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى: " ثم لننسفنه في اليم نسفا (1) " وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه فيرده قوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل ". والله تعالى أعلم. قوله تعالى: " قل بئسما يأمركم به إيمانكم " أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: نؤمن بما أنزل علينا. وقيل: إن هذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمر أن يوبخهم، أي قل لهم يا محمد: بئس هذه الاشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم. وقد مضى الكلام في " بئسما " والحمد (1) لله وحده. قوله تعالى: قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صدقين (94) ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين (95) لما ادعت اليهود دعاوى باطلة حكاها الله عز وجل عنهم في كتابه، كقوله تعالى: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة "، وقوله: " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان (1) راجع ج‍ 11 ص 243. (2) راجع ص 27 من هذا الجزء. (*)
[ 33 ]
هودا أو نصارى "، وقالوا: " نحن أبناء الله وأحباؤه (1) " أكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد: " إن كانت لكم الدار الاخرة " يعني الجنة. " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " في أقوالكم، لان من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا، لما يصير إليه من نعيم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا، فأحجموا عن تمنى ذلك فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم: " نحن أبناء الله وأحباؤه "، وحرصهم على الدنيا، ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم بقوله الحق: " ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين " تحقيقا لكذبهم. وأيضا لو تمنوا الموت لماتوا، كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم (2) من النار). وقيل: إن الله صرفهم عن إظهار التمنى، وقصرهم على الامساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم، فهذه ثلاثة أوجه في تركهم التمنى. وحكى عكرمة عن ابن عباس في قوله: " فتمنوا الموت " أن المراد ادعوا بالموت على أكذب الفريقين منا ومنكم: فما دعوا لعلمهم بكذبهم. فإن قيل: فالتمني يكون باللسان تارة وبالقلب أخرى، فمن أين علم أنهم لم يتمنوه بقلوبهم ؟ قيل له: نطق القرآن بذلك بقوله " ولن يتمنوه أبدا " ولو تمنوه بقلوبهم لاظهروه بألسنتهم ردا على النبي صلى الله عليه وسلم وإبطالا لحجته، وهذا بين. قوله تعالى: " خالصة " نصب على خبر كان، وإن شئت كان حالا، ويكون " عند الله " في موضع الخبر. " أبدا " ظرف زمان يقع على القليل والكثير، كالحين والوقت، وهو هنا من أول العمر إلى الموت. و " ما " في قوله " بما " بمعنى الذي والعائد محذوف، والتقدير قدمته، وتكون مصدرية ولا تحتاج إلى عائد. و " أيديهم " في موضع رفع، حذفت الضمة من الياء لثقلها مع الكسرة، وإن كانت في موضع نصب حركتها، لان النصب خفيف، ويجوز إسكانها في الشعر. " والله عليم بالظالمين " ابتداء وخبر. (1) راجع ج‍ 6 ص 120. (2) في بعض نسخ الاصل: " مقاعدهم ". (*)
[ 34 ]
قوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعلمون (96) قوله تعالى: " ولتجندهم أحرص الناس على حياة " يعني اليهود. " ومن الذين أشركوا " قيل: المعنى وأحرص، فحذف " من الذين أشركوا " لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الاخرة، ألا ترى قول شاعرهم: تمتع من الدنيا فإنك فان * من النشوات والنساء الحسان (1) والضمير في " أحدهم " يعود في هذا القول على اليهود. وقيل: إن الكلام تم في " حياة " ثم استؤنف الاخبار عن طائفة من المشركين. قيل: هم المجوس، وذلك بين في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه " عش ألف سنة ". وخص الالف بالذكر لانها نهاية العقد في الحساب. وذهب الحسن إلى أن " الذين أشركوا " مشركو العرب، خصوا بذلك لانهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يتمنون طول العمر. وأصل سنة سنهة. وقيل: سنوة. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة. قوله تعالى: " يود أحدهم لو يعمر ألف سنة " أصل " يود " يودد، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين، وقلبت حركة الدال على الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل. وحكى الكسائي: وددت، فيجوز على هذا يود بكسر الواو. ومعنى يود: يتمنى. قوله تعالى: " وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر " اختلف النحاة في هو، فقيل: هو ضمير الاحد المتقدم، التقدير ما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور. " أن يعمر " فاعل بمزحزح وقالت فرقة: هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه، والخبر في المجرور، " أن يعمر " بدل من التعمير على هذا القول. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: " هو " عماد. (1) البيت لامرى القيس. والنشوات (جمع نشوة): السكر. (*)
[ 35 ]
قلت: وفيه بعد، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين مثلا زمين، مثل قوله: " إن كان هذا هو الحق (1) "، وقوله: " ولكن كانوا هم الظالمين (2) " ونحو ذلك. وقيل: " ما " عاملة حجازية، و " هو " اسمها، والخبر في " بمزحزحه ". وقالت طائفة: " هو " ضمير الامر والشأن. ابن عطية: وفيه بعد، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر. وقوله: " بمزحزحه " الزحزحة: الابعاد والتنحية، يقال: زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد، يكون لازما ومتعديا، قال الشاعر في المتعدي: يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت * وغافر الذنب زحزحني عن النار وأنشده ذو الرمة: يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا * وغافر الذنب زحزحني عن النار وقال آخر في اللازم: خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح * وما بال ضوء الصبح لا يتوضح وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا). قوله تعالى: " والله بصير بما يعملون " أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة. ومن قرأ بالتاء فالتقدير عنده. قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون. وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الامور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشئ الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال، قال: فإن تسألوني بالنساء فإنني * بصير بأدواء النساء طبيب قال الخطابي: البصير العالم، والبصير المبصر. وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الاشياء المبصرة ذوات إبصار، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الالة المدركة والقوة، فالله بصير بعباده، أي جاعل عباده مبصرين. (1) راجع ج‍ 7 ص 398. (2) راجع ج‍ 16 ص 115. (*)
[ 36 ]
قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليس نبي من الانبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك ؟ قال: (جبريل) قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا ! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل الله الاية إلى قوله: " للكافرين " أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: " فإنه نزله على قلبك " الضمير في " إنه " يحتمل معنيين، الاول: فإن الله نزل جبريل على قلبك. الثاني: فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك. وخص القلب بالذكر لانه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف. ودلت الاية على شرف جبريل عليه السلام وذم معاديه. وقوله تعالى: " بإذن الله " أي بإرادته وعلمه. " مصدقا لما بين يديه " يعني التوراة. " وهدى وبشرى للمؤمنين " تقدم معناه (1)، والحمد لله. قوله تعالى: من كان عدوا لله وملئكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكفرين (98). قوله تعالى: " من كان عدوا لله " شرط، وجوابه " فإن الله عدو للكافرين ". وهذا وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلان أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم. وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته، ومعادات أوليائه. وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه. فإن قيل: لم خص الله جبريل وميكائيل بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما ؟ قيل له: خصهما بالذكر تشريفا لهما، كما قال: " فيهما فاكهة ونخل ورمان (2) ". وقيل: خصا لان اليهود ذكروهما، ونزلت الاية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود: إنا لم نعاد (1) يراجع ج‍ 1 ص 160، 162، 238 طبعة ثانية. (2) راجع ج‍ 17 ص 185. (*)
[ 37 ]
الله وجميع ملائكته، فنص الله تعالى عليهما لابطال ما يتأولونه من التخصيص. ولعلماء اللسان في جبريل وميكائيل عليهما السلام لغات، فأما التي في جبريل فعشر: الاولى - جبريل، وهي لغة أهل الحجاز، قال حسان بن ثابت: * وجبريل رسول الله فينا * الثانية - جبريل (بفتح الجيم) وهي قراءة الحسن وابن كثير، وروي عن ابن كثير أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك. الثالثة - جبرئيل (بياء بعد الهمزة، مثال جبرعيل)، كما قرأ أهل الكوفة، وأنشدوا: شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة * مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها (1) وهي لغة تميم وقيس. الرابعة - جبرئل (على وزن جبرعل) مقصور، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. الخامسة - مثلها، وهي قراءة يحيى بن يعمر، إلا أنه شدد اللام. السادسة - جبرائل (بألف بعد الراء ثم همزة) وبها قرأ عكرمة. السابعة - مثلها، إلا أن بعد الهمزة ياء. الثامنة - جبرييل (بياءين بغير همزة) وبها قرأ الاعمش ويحيى بن يعمر أيضا. التاسعة - جبرئين (بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون). العاشرة - جبرين (بكسر الجيم وتسكين الياء بنون من غير همزة) وهي لغة بني أسد. قال الطبري: ولم يقرأ بها. قال النحاس - وذكر قراءة ابن كثير -: " لا يعرف في كلام العرب فعليل، وفيه فعليل، نحو دهليز وقطمير وبرطيل، وليس ينكر أن يكون في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب، وليس ينكر أن يكثر تغيره، كما قالوا: إبراهيم وإبرهم وإبراهم (1) البيت لكعب بن مالك، كما في شرح القاموس. (*)
[ 38 ]
وإبراهام ". قال غيره: جبريل اسم أعجمي عربته العرب، فلها فيه هذه اللغات ولذلك لم ينصرف. قلت: قد تقدم في أول الكتاب (1) أن الصحيح في هذه الالفاظ عربية نزل بها جبريل بلسان عربي مبين. قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل. وأما اللغات التي في ميكائيل فست: الاولى - ميكاييل، قراءة نافع. وميكائيل (بياء بعد الهمزة) قراءة حمزة. ميكال، لغة أهل الحجاز، وهي قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم. وروي عن ابن كثير الثلاثة أوجه، قال كعب بن مالك: ويوم بدر لقيناكم لنا مدد * فيه مع النصر ميكال وجبريل وقال آخر (2): عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد * وبجبرئيل وكذبوا ميكالا الرابعة - ميكئيل، مثل ميكعيل، وهي قراءة ابن محيصن. الخامسة - ميكاييل (بياءين) وهي قراءة الاعمش باختلاف عنه. السادسة - ميكاءل، كما يقال (إسراءل بهمزة مفتوحة)، وهو اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف. وذكر ابن عباس أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالاعجمية بمعنى: عبد ومملوك. وإيل: اسم الله تعالى، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إل، وفي التنزيل: " لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة " في أحد التأويلين، وسيأتي (3). قال المارودي: إن جبريل وميكائيل اسمان، أحدهما عبد الله، والاخر عبيدالله، لان إيل هو الله تعالى، وجبرهو عبد، وميكا هو عبيد، فكأن جبريل عبد الله، وميكائيل عبيدالله، هذا قول ابن عباس، وليس له في المفسرين مخالف. (1) راجع ج‍ 1 ص 68 طبعة ثانية. (2) هو جرير، كما في ديوانه. (3) راجع ج‍ 8 ص 79 (*)
[ 39 ]
قلت: وزاد بعض المفسرين: وإسرافيل عبد الرحمن. قال النحاس: ومن تأول الحديث " جبر " عبد، و " إل " الله وجب عليه أن يقول: هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبرئل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمى بهذا. قال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفا، فترك الصرف يدل على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف. وروى عبد الغني الحافظ من حديث أفلت بن خليفة - وهو فليت العامري وهو أبو حسان - عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب جبريل وميكايل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر). قوله تعالى: ولقد أنزلنا إليك ءايت بينت وما يكفر بها إلا الفسقون (99) قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا جواب لابن صوريا (1) حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشئ نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها ؟ فأنزل الله هذه الاية، ذكره الطبري. قوله تعالى: أو كلما عهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) قوله تعالى: " أو كلما عاهدوا عهدا " الواو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله: " أفحكم الجاهلية (2) "، " أفأنت تسمع الصم (3) "، " أفتتخذونه وذريته (4) ". وعلى ثم كقوله: " أثم إذا ما وقع (5) " هذا قول سيبويه. وقال الاخفش: الواو زائدة. ومذهب الكسائي أنها أو، حركت الواو منها تسهيلا. وقرأها قوم أو، ساكنة الواو فتجئ بمعنى بل، كما يقول القائل: لاضربنك، فيقول المجيب: أو يكفي الله. قال ابن عطية: وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه. " كلما " نصب على الظرف، والمعني (1) كذا في نسخ الاصل وتفسير الطبري وأسباب النزول للواحدي. وفى سيرة ابن هشام (ص 379 طبع أوربا): " أبو صلوبا الفطيونى ". (2) راجع ج‍ 6 ص 214. (3) راجع ج‍ 8 ص 346. (4) راجع ج‍ 10 ص 420. (5) راجع ج‍ 8 ص 351. (*)
[ 40 ]
في الاية مالك بن الصيف، ويقال فيه ابن الضيف (1)، كان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق، فنزلت الاية. وقيل: إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمن به ولنكونن معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به. وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، دليله قول تعالى: " الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون (2) ". قوله تعالى: " نبذه فريق منهم " النبذ: الطرح والالقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، قال أبو الاسود: وخبرني من كنت أرسلت إنما * أخذت كتابي معرضا بشمالكا نظرت إلى عنوانه فنبذته * كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا آخر: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا * نبذوا كتابك واستحلوا المحرما وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشئ فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك، وتحت قدمك، أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى: " واتخذتموه وراءكم ظهريا (3) ". وأنشد الفراء: تميم بن زيد لا تكونن حاجتي * بظهر فلا يعيا علي جوابها (4) " بل أكثرهم " ابتداء. " لا يؤمنون " فعل مستقبل في موضع الخبر. قوله تعالى: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدقا لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) (1) في 1 ب، ح: " الصيت " بالتاء المثناة، وفى ج‍: " الصيب " بالباء. والتصويب عن سيرة ابن هشام ص 352 طبع أوربا. (2) ج‍ 8 ص 30. (3) ج‍ 9 ص 91. (4) البيت للفرزدق، يخاطب تميم بن زيد القينى وكان على السند. (عن النقائض ص 381) طبع أوربا. (*)
[ 41 ]
قوله تعالى: " ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم " نعت لرسول، ويجوز نصبه على الحال. " نبذ فريق " جواب " لما ". " من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله " نصب ب‍ " نبذ "، والمراد التوراة، لان كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها. قال السدي: نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. وقيل: يجوز أن يعني به القرآن. قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ. وقد تقدم بيانه مستوفى (1). " كأنهم لا يعلمون " تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجئ من اللفظ أنهم كفروا على علم. قوله تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشيطين على ملك سليمن وما كفر سليمن ولكن الشيطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هروت ومروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الاخرة من خلق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) فيه أربع وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على مللك سليمان " هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا، وهم اليهود. وقال السدى: عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت. وقال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داود (1) في الصفحة السابقة. (*)
[ 42 ]
كان نبيا ! والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله عز وجل: " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا. وقال الكلبي: كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات (1) على لسان آصف كاتب سليمان، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملككم بهذا فتعلموه، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال: " واتبعوا ما تتلوا الشياطين ". قال عطاء: " تتلو " تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس: " تتلو " تتبع، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا. وقال الطبري: " اتبعوا " بمعنى فضلوا. قلت: لان كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره، ومعنى " تتلو " يعني تلت، فهو بمعنى المضي، قال الشاعر: وإذا مررت بقبره فاعقر به * كوم الهجان (2) وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها * فلقد يكون أخادم وذبائح أي فلقد كان. و " ما " مفعول ب‍ " اتبعوا " أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته. وقيل: " ما " نفي، وليس بشئ لا في نظام الكلام ولا في صحته، قال ابن العربي. " على ملك سليمان " أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج: المعنى على عهد ملك سليمان. وقيل: المعنى في ملك سليمان، يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي، في مثل هذا الموضع. وقال " على " ولم يقل بعد لقوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول (1) اختلفت الاصول في رسم هذه اللكمة، والذى في القاموس: " النيرنج " قال شارح القاموس: " هكذا في سائر النسخ، والمنقول عن نص كلام الليث: " النيرج " بإسقاط النون الثانية. وكذا ورد في اللسان. وهو أحد كالسحر وليس به، إنما هو تشبيه وتلبيس ". (2) الكوم (بالضم): جمع كوماه، وهى الناقة العظيمة السنام. والهجان من الابل: البيض الكرام. (*)
[ 43 ]
ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته (1) " أي في تلاوته. وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه، فلا معنى لاعادته (2). والشياطين هنا قيل: هم شياطين الجن، وهو المفهوم من هذا الاسم. وقيل: المراد شياطين الانس المتمردون في الضلال، كقول جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزلي * وكن يهوينني إذ كنت شيطانا الثانية - قوله تعالى: " وما كفر سليمان " تبرئة من الله لسليمان، ولم يتقدم في الاية أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر. ثم قال: " ولكن الشياطين كفروا " فأثبت كفرهم بتعليم السحر. و " يعلمون: في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان. وقرأ الكوفيون سوى عاصم " ولكن الشياطين " بتخفيف " لكن "، ورفع النون من " الشياطين "، وكذلك في الانفال " ولكن الله رمى (3) " ووافقهم ابن عامر. الباقون بالتشديد والنصب. و " لكن " كلمة لها معنيان: نفي الخبر الماضي، وإثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات: لا، ك، إن. " لا " نفي، و " الكاف " خطاب، و " إن " إثبات وتحقيق، فذهبت الهمزة استثقالا، وهي تثقل وتخفف، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة. الثالثة - السحر، قيل: السحر أصله التمويه بالحيل والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الاشجار والجبال سائرة معه. وقيل: هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وكذلك إذا عللته، والتسحير مثله، قال لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا * عصافير من هذا الانام المسحر (1) راجع ج‍ 12 ص 79 (2) راجع ج‍ 1 ص 90 طبعة ثانية. (3) راجع ج‍ 7 ص 384. (*)
[ 44 ]
آخر (1): أرانا موضعين لامر غيب (2) * ونسحر بالطعام وبالشراب عصافير وذبان ودود * وأجرأ من مجلحة (3) الذئاب وقوله تعالى: " إنما أنت من المسحرين " يقال: المسحر الذي خلق ذا سحر، ويقال من المعللين، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب. وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله في خفية. وقيل: أصله الصرف، يقال: ما سحرك عن كذا، أي ما صرفك عنه، فالسحر مصروف عن جهته. وقيل: أصله الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك. وقيل في قوله تعالى: " بل نحن قوم مسحورون " أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا. وقال الجوهري: السحر الاخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، وقد سحره يسحره سحرا. والساحر: العالم، وسحره أيضا بمعنى خدعه، وقد ذكرناه. وقال ابن مسعود: كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه. والعضه عند العرب: شدة البهت وتمويه الكذب، قال الشاعر: أعوذ بربي من النافثا * ت في عضه العاضه المعضه الرابعة - واختلف هل له حقيقة أم لا، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له: أن السحر المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. قال: وعندنا أصله طلسم يبني على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر. قلت: وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء، على ما يأتي. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة. والشعوذي: البريد لخفة سيره. قال ابن فارس في المجمل: الشعوذة ليس من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر، ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقى من أسماء الله تعالى. وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. (1) هو أمرؤ القيس، كما في ديوانه واللسان. (2) موضعين: مسرعين. لامر غيب: يريد الموت. وأنه قد غيب عنا وقته، ونحن ؟ عنه بالطعام والشراب. (3) ذئب مجلح: جرئ. (*)
[ 45 ]
الخامسة - سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا، فقال: (إن من البيان لسحرا) أخرجه مالك وغيره. وذلك لان فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام: (إن من البيان لسحرا) خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسحر. وقيل: خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان، قاله جماعة من أهل العلم. والاول أصح، والدليل عليه قوله عليه السلام: (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، وقوله: (إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون). الثرثرة: كثرة الكلام وترديده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار. والمتفيهق نحوه. قال ابن دريد. فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع، قال: وأصله الفهق وهو الامتلاء، كأنه ملا به فمه. قلت: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا: أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا) فالرجل يكون عليه ألحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الاسهاب والاطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق. وهذا بين، والحمد لله. السادسة - من السحر ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري. قال أبو عمرو: من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، فيجعل الانسان حمارا أو نحوه، ويقدر على نقل الاجساد وهلاكها وتبديلها، فهذا يرى قتل الساحر لانه كافر بالانبياء، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة. وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به.
[ 46 ]
السابعة - ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الاسترابادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشئ على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة، كما قال تعالى: " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (1) " ولم يقل تسعى على الحقيقة، ولكن قال " يخيل إليه ". وقال أيضا: " سحروا أعين الناس (2) ". وهذا لا حجة فيه، لانا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع، فمن ذلك ما جاء في هذه الاية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس، فدل على أن له حقيقة. وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون: " وجاءوا بسحر عظيم " وسورة " الفلق "، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الاعصم، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الاعصم، الحديث. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر: (إن الله شفاني). والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقا وحقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الاجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لاصله. وروى سفيان عن أبي الاعور عن عكرمة عن ابن عباس قال: علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها: " الفرما " فمن كذب به فهو كافر، مكذب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدة وعيانا. الثامنة - قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة، والجري على (1) راجع ج‍ 11 ص 222. (2) راجع ج‍ 7 ص 259. (*)
[ 47 ]
خيط مستدق، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك، ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا، ولا يكون الساحر مستقلا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الاشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشيع عند الاكل، والري عند شرب الماء. روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب - هذا هو جندب بن كعب الازدي ويقال البجلي - وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل). فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر. قال علي بن المديني: روى عنه حارثة بن مضرب. التاسعة - أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالاجماع ولولاه لاجزناه. العاشرة - في الفرق بين السحر والمعجزة، قال علماؤنا: السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الاتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها، كما تقدم في مقدمة الكتاب (1). الحادية عشرة - واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته، لانه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولان الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله: " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي (1) يراجع ج‍ 1 ص 69 وما بعدها طبعة ثانية. (*)
[ 48 ]
وأبي حنيفة. وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس ابن سعد وعن سبعة من التابعين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف) خرجه الترمذي وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم، رواه ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن مرسلا، ومنهم من جعله عن الحسن عن جندب. قال ابن المنذر: وقد روينا عن عائشة. أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب. قال ابن المنذر: وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا. وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك. قال ابن المنذر: وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا. فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف) فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا، فيكون ذلك موافقا للاخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...) قلت: وهذا صحيح، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف. والله تعالى أعلم. وقال بعض العلماء: إن قال أهل الصناعة أن السحر لا يتم إلا مع الكفر ولاستكبار، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير، والله تعالى أعلم. وروي عن الشافعي: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل، وإن قال لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ، وإن أضربه أدب على قدر الضرر. قال ابن العربي: وهذا باطل من وجهين، أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته أنه كلام
[ 49 ]
مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات. الثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال: " وما كفر سليمان " بقول السحر " ولكن الشياطين كفروا " به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان: " إنما نحن فتنة فلا تكفر " وهذا تأكيد للبيان. احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته، لان السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا، قال مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا (1) " فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب، فكذلك هذان. الثانية عشرة - وأما ساحر الذمة، فقيل يقتل. وقال مالك: لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه. وقال ابن خويز منداد: فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك، فقال مرة: يستتاب وتوبته الاسلام. وقال مرة: يقتل وإن أسلم. وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم: يستتاب وتوبته الاسلام. وقال مرة: يقتل ولا يستتاب كالمسلم. وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر: يعاقب، إلا أن يكون قتل بسحره، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره. وقال غيره: يقتل، لانه قد نقض العهد. ولا يرث الساحر ورثته، لانه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل. الثالثة عشرة - واختلفو اهل يسئل الساحر حل السحر عن المسحور، فأجازه سعيد ابن المسيب على ما ذكره البخاري، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري. وقال الشعبي: لا بأس بالنشرة (2). قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر (1) راجع ج‍ 15 ص 336 (2) النشرة (بالضم): ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن، لانه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال. (4 - 2) (*)
[ 50 ]
أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. الرابعة عشرة - أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه، ونص الشرع على ثبوته، قال الله تعالى: " ولكن الشياطين كفروا " وقال: " ومن الشياطين من يغوصون (1) له " إلى غير ذلك، من الاي، وسورة " الجن " تقضي بذلك، وقال عليه السلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس، وأحالوا روحين في جسد، والعقل لا يحيل سلوكهم في الانس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء. الخامسة عشرة - قوله تعالى: " وما أنزل على الملكين " " ما " نفي، والواو للعطف على قوله: " وما كفر سليمان " وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: " ولكن الشياطين كفروا ". هذا أولى ما حملت عليه الاية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الانس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله تعالى: " ومن شر النفاثات في العقد (2) ". وقال الشاعر: أعوذ بربي من النافثا * ت.............. السادسة عشرة - إن قال قائل: كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه، فالجواب من وجوه ثلاثة، الاول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم (1) راجع ج‍ 11 ص 322 (2) راجع ج‍ 20 ص 257. (*)
[ 51 ]
الجمع، كما قال تعالى: " فإن كان له إخوة فلامه السدس " ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الاخوة فصاعدا، على ما يأتي بيانه في " النساء (1) ". الثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما، كما قال تعالى: " عليها تسعة عشر (2) " الثالث: إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى: " فيهما فاكهة ونخل ورمان (3) " وقوله: " وجبريل وميكال ". وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي (4) " وقوله: " وجبريل وميكال "، وإما لطيبه كقوله: " فاكهة ونخل ورمان "، وإما لاكثريته، كقوله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الارض مسجدا وتربتها طهورا)، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الاية، والله تعالى أعلم. وقد قيل: إن " ما " عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون " ما " بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: إنما نحن فتنة، أي محنة من الله، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت، وإن عصيتنا هلكت. وقد روي عن على وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الاحبار والسدي والكلبي ما معناه: أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام - وذلك في زمن إدريس عليه السلام - عيرتهم الملائكة، فقال الله تعالى: أما إنكم لو كنتم مكانهم، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا: سبحانك ! ما كان ينبغي لنا ذلك، قال: فاختاروا ملكين من خياركم، فاختاروا هاروت وماروت، فأنزلهما إلى الارض فركب فيهما الشهوة، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية " بيدخت " وبالفارسية " ناهيل (5) " وبالعربية " الزهرة " اختصمت إليهما، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها، فرأهما رجل فقتلاه، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به (1) راجع ج‍ 5 ص 72. (2) راجع ج‍ 19 ص 77. (3) راجع ج‍ 17 ص 185. (4) راجع ج‍ 4 ص 109. (5) في بعض نسخ الاصل: " ناهيد " بالدال المهملة بدل اللام. (*)
[ 52 ]
فعرجت فمسخت كوكبا. وقال سالم عن أبيه عن عبد الله: فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما. وفي غير هذا الحديث: فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة فاختارا عذاب الدنيا، فهما يعذبان ببابل في سرب من الارض. قيل: بابل العراق. وقيل: بابل نهاوند، وكان ابن عمر فيما يروي عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما، ويقول: إن سهيلا كان عشارا (1) باليمن يظلم الناس، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت. قلنا: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شئ، فإنه قول تدفعه الاصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله " لا يعصون الله ما أمر هم ويفعلون ما يؤمرون (2) ". " بل عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (3) ". " يسبحون الليل والنهار لا يفترون (3) ". وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم، ومن هذا خوف الانبياء والاولياء الفضلاء العلماء، ولكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء، ففي الخبر: (أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر ". وهذا معنى قول الله تعالى: " وكل في فلك يسبحون (3) ". فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم، ثم إن قول الملائكة: " ما كان ينبغي لنا " عورة (4): لا تقدر على فتنتنا، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون. السابعة عشرة - قرأ ابن عباس وابن أبزي والضحاك والحسن: " الملكين " بكسر اللام. قال ابن أبزى: هما داود وسليمان. ف‍ " ما " على هذا القول أيضا نافية، وضعف هذا القول ابن العربي. وقال الحسن: هما علجان كانا ببابل ملكين، ف‍ " ما " على هذا القول مفعولة غير نافية. (1) العشار: الذى يقبض عشر الاموال. (2) راجع ج‍ 18 ص 196 (3) راجع ج‍ 11 ص 281، 278. (4) كذا في أ، ب، ج‍. وفى ح، ز: " عوده ". وكتب على هامش الازهرية: " لعله: تقديره ". وقد تكون هذه الكلمة محرفة عن " غوره " وغور كل شئ: عمقه وبعده. (*)
[ 53 ]
الثامنة عشرة - قوله تعالى: " ببابل " بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة، وهي قطر من الارض، قيل: العراق وما والاه. وقال ابن مسعود لاهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل. وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين. وقال قوم: هي بالمغرب. قال ابن عطية: وهذا ضعيف. وقال قوم: هو جبل نهاوند، فالله تعالى أعلم. واختلف في تسميته ببابل، فقيل: سمي بذلك لتبلبل الالسن بها حين سقط صرح نمرود. وقيل: سمي به لان الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الافاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد. والبلبلة: التفريق، قال معناه الخليل. وقال أبو عمر بن عبد البر: من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتني قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض. التاسعة عشرة - روى عبد الله بن بشر المازني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لاسحر من هاروت وماروت). قال علماؤنا: إنما كانت الدنيا أسحر منهما لانها تسحرك بخدعها، وتكتمك فتنتها، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها، والجمع لها والمنع، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، فالدنيا أسحر منهما، تأخذ بقلبك عن الله، وعن القيام بحقوقه، وعن وعده ووعيده. وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حبك الشئ يعمي ويصم). الموفية عشرين - قوله تعالى: " هاروت وماروت " لا ينصرف " هاروت "، لانه أعجمي معرفة، وكذا " ماروت "، ويجمع هواريت ومواريت، مثل طواغيت، ويقال: هوارتة وهوار، وموارتة وموار، ومثله جالوت وطالوت، فاعلم. وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما ؟ خلاف. قال الزجاج: وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال: أي والذي أنزل
[ 54 ]
على الملكين، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج: وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي، كأنه قولا للناس: لا تعملوا كذا، ف‍ " يعلمان " بمعنى يعلمان، كما قال: " ولقد كرمنا (1) بني آدم " أي أكرمنا. الحادية والعشرون - قوله تعالى: " وما يعلمان من أحد " " من " زائدة للتوكيد، والتقدير: وما يعلمان أحدا. " حتى يقولا " نصب بحى فلذلك حذفت منه النون، ولغة هذيل وثقيف " عتى " بالعين غير المعجمة. والضمير في " يعلمان " لها روت وماروت. وفي " يعلمان " قولان، أحدهما: أنه على بابه من التعليم. الثاني: أنه من الاعلام لا من التعليم، ف‍ " يعلمان " بمعنى، يعلمان، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، ذكره ابن الاعرابي وابن الانباري. قال كعب بن مالك. تعلم رسول الله أنك مدركي * وأن وعيدا منك كالاخذ باليد وقال القطامي: تعلم أن بعد الغي رشدا * وأن لذلك القي انقشاعا وقال زهير: پتعلمن ها لعمر الله ذا قسما * فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك (2) وقال آخر: تعلم أنه لا طير إلا * على متطير وهو الثبور " إنما نحن فتنة " لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها. " فلا تكفر " قالت فرقة بتعليم السحر، وقالت فرقة باستعماله. وحكى المهدوي أنه استهزاء، لانهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله. (1) راجع ج‍ 10 ص 293. (2) في البيت شاهد آخر، وهو تقديم " ها " التى للتنبيه على " ذا " وقد حال بينهما بقوله: " لعمر الله " والمعنى تعلمن الله هذا ما أقسم به. وفى الديوان: " فاقصد بذرعك ". (*)
[ 55 ]
الثانية والعشرون - قوله تعالى: " فيتعلمون منهما " قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال ومثله " كن فيكون ". وقيل: هو معطوف على موضع " ما يعلمان "، لان قوله: " وما يعلمان " وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الايجاب في التعليم. وقال الفراء: هي مردودة على قوله: " يعلمون الناس السحر " فيتعلمون، ويكون " فيتعلمون " متصلة بقول " إنما نحن فتنة " فيأتون فيتعلمون. قال السدي: كانا يقولان لمن جاءهما: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت هذا الرماد فبل فيه، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء، وهو الايمان، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة، لان الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة: ذلك خرج على الاغلب، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الالام وعظيم الاسقام، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة، وقد تقدم هذا، والحمد لله. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " " ما هم "، إشارة إلى السحرة. وقيل إلى اليهود، وقيل إلى الشياطين. " بضارين به " أي بالسخر. " من أحد " أي أحدا، ومن زائدة. " إلا بإذن الله " بإرادته وقضائه لا بأمره، لانه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها. وقال الزجاج: " إلا بإذن الله " إلا بعلم الله. قال النحاس: وقول أبي إسحاق " إلا بإذن الله " إلا بعلم الله غلط، لانه إنما يقال في العلم أذن، وقد أذنت أذنا. ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا. الرابعة والعشرون - قوله تعالى: " ويتعلمون ما يضرهم " يريد في الاخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا. وقيل: يضرهم في الدنيا، لان ضرر السحر والتفريق يعود
[ 56 ]
على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه، لانه يؤدب ويزجر، ويلحقه شؤم السحر. وباقي الاي بين لتقدم معانيها. واللام في " ولقد علموا " لام توكيد. " لمن اشتراه " لام يمين، وهي للتوكيد أيضا. وموضع " من " رفع بالابتداء، لانه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها. و " من " بمعنى الذي. وقال الفراء. هي للمجازاة. وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، و " من " بمعنى الذي، كما تقول: لقد علمت، لمن جاءك ما له عقل. " من خلاق " " من " زائدة، والتقدير ما له في الاخرة خلاق، ولا تزاد في الواجب، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: تكون زائدة في الواجب، واستدلوا بقوله تعالى: " يغفر لكم من ذنوبكم (1) " والخلاق: النصيب، قاله مجاهد. قال الزجاج: وكذلك هو عند أهل اللغة، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير. وسئل عن قوله تعالى: " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق " فأخبر أنهم قد علموا. ثم قال: " ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون " فأخبر أنهم لا يعلمون، فالجواب وهو قول قطرب والاخفش: أن يكون الذين يعلمون الشياطين، والذين شروا أنفسهم - أي باعوها - هم الانس الذين لا يعلمون. قال الزجاج وقال علي بن سليمان: الاجود عندي أن يكون " ولقد علموا " للملكين، لانهما أولى بأن يعلموا. وقال: " علموا " كما يقال: الزيدان قاموا. وقال الزجاج: الذين علموا علماء اليهود، ولكن قيل: " لو كانوا يعلمون " أي فدخلوا في محل من يقال له: لست بعالم، لانهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر. قوله تعالى: ولو أنهم أمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) قوله تعالى: " ولو أنهم آمنوا واتقوا " أي اتقوا السحر. " لمثوبة " المثوبة الثواب، وهي جواب " ولو أنهم آمنوا " عند قوم. وقال الاخفش سعيد: ليس ل‍ " لو " هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لاثيبوا. وموضع " أن " من قوله: " ولو أنهم " موضع رفع، أي لو وقع إيمانهم، لان " لو " لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا، لانها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بدله من جواب، و " أن " يليه فعل. قال محمد بن يزيد: (1) راجع ج‍ 16 ص 217. (*)
[ 57 ]
وإنما لم يجاز ب‍ " لو " لان سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل، فلما لم يكن هذا في " لو " لم يجز أن يجازى بها. قوله تعالى: يأيها الذين أمنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انضرنا واسمعوا وللكفرين عذاب أليم (104) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " ذكر شيئا آخر من جهالات اليهود والمقصود نهي المسلمين عن مثل ذلك. وحقيقة " راعنا " في اللغة أرعنا ولنرعك، لان المفاعلة من اثنين، فتكون من رعاك الله، أي احفظنا ولنحفظك، وارقبنا ولنرقبك. ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا. وفي المخاطبة بهذا جفاء، فأمر المؤمنين أن يتخيروا من الالفاظ أحسنها ومن المعاني أرقها. قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا. على جهة الطلب والرغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبا، أي اسمع لاسمعت، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرا فالان نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله ! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لاضربن عنقه، فقالوا: أو لستم تقولونها ؟ فنزلت الاية، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه. الثانية - في هذه الاية دليلان: أحدهما - على تجنب الالفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض، وذلك يوجب الحد عندنا خلافا لابي حنيفة والشافعي وأصحابهما حين قالوا: التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة. وسيأتي في " النور (1) " بيان هذا، إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني - التمسك بسد الذرائع (2) وحمايتها وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد ابن حنبل في رواية عنه، وقد دل على هذا الاصل الكتاب والسنة. والذريعة عبارة عن أمر (1) راجع ج‍ 12 ص 175. (2) الذرائع (جمع الذريعة) وهى لغة: الوسيلة والسبب إلى الشئ. (*)
[ 58 ]
غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع. أما الكتاب فهذه الاية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ، لانه ذريعة للسب، وقوله تعالى: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (1) " فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك، وقوله تعالى: " واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر (1) " الاية، فحرم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا، أي ظاهرة، فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الاحد، وكان السد ذريعة للاصطياد، فمسخهم الله قردة وخنازير، وذكر الله لنا ذلك في معنى التحذير عن ذلك، وقوله تعالى لادم وحواء: " ولا تقربا هذه الشجرة " وقد تقدم (2). وأما السنة فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير [ فذكرتا (3) ذلك ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله). أخرجه البخاري ومسلم. قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عزوجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم أنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد). وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه (4)) الحديث، فمنع من الاقدام (1) راجع ج‍ 7 ص 61 وص 304. (2) راجع ج‍ 1 ص 304. (3) زيادة عن صحيح البخاري. (4) ورد هذا في صحيح مسلم - كتاب البيوع - ببعض اختلاف في ألفاظه. (*)
[ 59 ]
على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وذلك سدا للذريعة. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال: (نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه). فجعل التعرض لسب الاباء كسب الاباء. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم). وقال أبو عبيد الهروي: العينة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ثم باعها المشتري من البائع الاول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الاولى، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة، وذلك لان العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره. وروى ابن وهب عن مالك أن أم ولد لزيد بن الارقم ذكرت لعائشة رضي الله عنها أنها باعت من زيد عبدا بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتاعته منه بستمائة نقدا، فقالت عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت ! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. ومثل هذا لا يقال بالرأي، لان إبطال الاعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي، فثبت أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعوا الربا والريبة. ونهى ابن عباس رضي الله عنهما عن دراهم بدراهم بينهما حريزة (1). قلت: فهذه هي الادلة التي لنا على سد الذرائع، وعليه بنى المالكية كتاب الاجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها. وليس عند الشافعية كتاب الاجال. لان ذلك عندهم (1) كذا في أ. وفى ب: " جريرة ". وفى ج‍ " جريرة ". وفى ح " جريزة ". ولم نوفق إلى وجه لصواب فيها. (*)
[ 60 ]
عقود مختلفة مستقلة، قالوا: وأصل الاشياء على الظواهر لا على الظنون. والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه، فآعلمه. الثالثة - قوله تعالى: " لا تقولوا راعنا " نهي يقتضي التحريم، على ما تقدم. وقرأ الحسن " راعنا " منونة. وقال: أي هجرا من القول، وهو مصدر ونصبه بالقول، أي لا تقولوا رعونة. وقرأ زر بن حبيش والاعمش " راعونا "، يقال لما نتأمن الجبل: رعن، والجبل أرعن. وجيش أرعن، أي متفرق. وكذا رجل أرعن، أي متفرق الحجج وليس عقله مجتمعا، عن النحاس. وقال ابن فارس: رعن الرجل يرعن رعنا فهو أرعن، أي أهوج. والمرأة رعناء. وسميت البصرة رعناء لانها تشبه برعن الجبل، قال ابن دريد ذلك، وأنشد للفرزدق: لولا ابن عتبة عمرو والرجاء له * ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا الرابعة - قوله تعالى: " وقولوا انظرنا " أمروا أن يخاطبوه صلى الله عليه وسلم بالاجلال، والمعنى: أقبل علينا وانظر إلينا، فحذف حرف التعدية، كما قال: ظاهرات الجمال والحسن ينظر * ن كما ينظر الاراك الظباء أي إلى الاراك. وقال مجاهد: المعنى فهمنا وبين لنا. وقيل: المعنى انتظرنا وتأن بنا، قال (1): فإنكما إن تنظراني ساعة * من الدهر ينفعني لدى أم جندب والظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعنا، فبدلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود. وقرأ الاعمش وغيره " أنظرنا " بقطع الالف وكسر الظاء، بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك، قال الشاعر (2): أبا هند فلا تعجل علينا * وأنظرنا نخبرك اليقينا الخامسة - قوله تعالى: " واسمعوا " لما نهى وأمر عزوجل، حض على السمع الذي في ضمنه الطاعة. وأعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما. (1) القائل هو امرؤ القيس، كما في ديوانه. (2) هو عمرو بن كلثوم. (*)
[ 61 ]
قوله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم (105). قوله تعالى: " ما يود " أي ما يتمنى، وقد تقدم (1). " الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين " معطوف على " أهل ". ويجوز: ولا المشركون، تعطفه على الذين، قاله النحاس. " أن ينزل عليكم من خير " " من " زائدة، " خير " اسم ما لم يسم فاعله. و " أن " في موضع نصب، أي بأن ينزل. " والله يختص برحمته من يشاء " قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " يختص برحمته " أي بنبوته، خص بها محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال قوم: الرحمة القرآن وقيل: الرحمة في هذه الاية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا، يقال: رحم يرحم إذا رق. والرحم والمرحمة والرحمة بمعنى، قاله ابن فارس. ورحمة الله لعباده: إنعامه عليهم وعفوه لهم. " والله ذو الفضل العظيم " " ذو " بمعنى صاحب. قوله تعالى: ما ننسخ من اية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيئ قدير (106). فيه خمس عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها " " ننسها " عطف على " ننسخ " وحذفت الياء للجزم. ومن قرأ " ننساها " حذف الضمة من الهمزة للجزم، وسيأتي معناه. " نأت " جواب الشرط، وهذه آية عظمي في الاحكام. وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الاسلام بذلك، وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشئ ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله: " وإذا بدلنا آية مكان آية (2) " وأنزل " ما ننسخ من آية ". (1) يراجع ص 34 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 10 ص 176. (*)
[ 62 ]
الثانية - معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الاغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الاحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ ! فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى: أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت !. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما. الثالثة - النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما - النقل، كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الاية، ومنه قوله تعالى: " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (1) " أي نأمر بنسخه وإثباته. الثاني: الابطال والازالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما: إبطال الشئ وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسحت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ". وفي صحيح مسلم: (لم تكن نبوة قط إلا تناسخت) أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الامة. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره، كالاية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكل شئ خلف شيئا فقد انتسخه، يقال: انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب. وتناسخ الورثة: أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الازمنة والقرون. الثاني: إزالة الشئ دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الاثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى " فينسخ الله ما يلقي الشيطان (2) " أي يزيله فلا يتلي ولا يثبت في المصحف بدله. (1) راجع ج‍ 16 ص 175. (2) راجع ج‍ 12 ص 79. (*)
[ 63 ]
وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب. قلت: ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة " الاحزاب " كانت تعدل سورة البقرة في الطول، على ما يأتي مبينا هناك (1) إن شاء الله تعالى. ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الانباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا عبد الله ابن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل ابن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شئ منها، وقام آخر فلم يقدر على شئ منها، وقام آخر فلم يقدر على شئ منها، فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: قمت الليلة يا رسول الله لاقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شئ منها، فقام الاخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقام الاخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مما نسخ الله البارحة). وفي إحدى الروايات: وسعيد بن المسيب يسمع ما يحدث به أبو أمامة فلا ينكره. الرابعة - أنكرت طوائف من المنتمين للاسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم قد حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الاخ من الاخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له: لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه، ثم تعبد بها بعد ذلك، إلى غير ذلك. وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لضرب من المصلحة، إظهارا لحكمته وكمال مملكته. ولا (1) راجع ج‍ 14 ص 113. (*)
[ 64 ]
خلاف بين العقلاء أن شرائع الانبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمال الامور، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى. وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلوا. قال النحاس: والفرق ببن النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شئ إلى شئ قد كان حلالا فيحرم، أو كان حراما فيحلل. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الاول، وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذلك إن قلت: ازرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، فهو البداء. الخامسة - اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا، فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ هو المزال، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة، وهو المكلف. السادسة - اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر، وزادا: لولاه لكان السابق ثابتا، فحافظا على معنى النسخ اللغوي، إذ هو بمعنى الرفع والازالة، وتحرزا من الحكم العقلي، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره، وليخرج القياس والاجماع، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما. وقيدا بالتراخي، لانه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله، كقولك: قم لا تقم. السابعة - المنسوخ عند أئمتنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله، كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. والذي
[ 65 ]
قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الاوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله حسن، وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم. الثامنة - اختلف علماؤنا في الاخبار هل يدخلها النسخ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالاوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه، كقوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ". وهناك (1) يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى. التاسعة - التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لان المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت تناول العموم لشئ ما ثم أخرج ذلك الشئ عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا. العاشرة - اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الاطلاق والاستغراق، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الاطلاق، كقوله تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان (2) ". فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر، كقوله " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء (3) ". فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الاخبار وليس كذلك، بل هو من باب الاطلاق والتقييد. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في موضعها إن شاء الله تعالى. الحادية عشرة - قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: جائز نسخ الاثقل إلى الاخف، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين (4). ويجوز نسخ الاخف إلى الاثقل، كنسخ يوم عاشوراء والايام المعدودة برمضان، على ما يأتي بيانه في آية الصيام (5). وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كالقبلة. وينسخ الشئ لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن. والسنة بالعبارة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي. وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد. وحذاق الائمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: (لا وصية لوارث). وهو ظاهر مسائل مالك. وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، (1) راجع ج‍ 10 ص 127. (2) ص 308 من هذا الجزء. (3) ج‍ 6 ص 423. (4) وهو أن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته لاثنين. (5) ص 275 من هذا الجزء. (5 - 2) (*)
[ 66 ]
والاول أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الاسماء. وأيضا فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بين. والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى. وفي قوله تعالى: " فلا ترجعوهن إلى الكفار (1) " فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش. والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلقوا هل وقع شرعا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء، على ما يأتي بيانه (2)، وأبى ذلك قوم. ولا يصح نسخ نص بقياس، إذ من شروط القياس ألا يخالف نصا. وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الامة أنه لا نسخ، ولهذا كان الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فيعلم أن الاجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ وبقي سنة يقرأ ويروى، كما آية عدة السنة (3) في القرآن تتلى، فتأمل هذا فإنه نفيس، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة، ومثله صدقة النجوى. وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم. وقد تنسخ التلاوة والحكم معا، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: كنا نقرأ " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر " ومثله كثير. والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الاول، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة. والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس، على ما يأتي بيانه في " الاسراء (4) " و " الصافات (5) "، إن شاء الله تعالى. الثانية عشرة - لمعرفة الناسخ طرق، منها - أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الاشربة إلا في ظروف (1) راجع ج‍ 18 ص 63. (2) ج‍ 8 ص 259. (3) يريد قوله تعالى: " متاعا إلى الحول... " فإنه قد نسخ حكمها وبقيت تلاوتها. راجع ج‍ 3 ص 226. (4) ج‍ 10 ص 210. (5) ج‍ 15 ص 107. (*)
[ 67 ]
الادم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا) ونحوه. ومنها - أن يذكر الراوي التاريخ، مثل أن يقول: سمعت عام الخندق، وكان المنسوخ معلوما قبله. أو يقول: نسخ حكم كذا بكذا. ومنها - أن تجمع الامة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم. وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه، نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية، والله الموفق للهداية. الثالثة عشرة - قرأ الجمهور " ما ننسخ " بفتح النون، من نسخ، وهو الظاهر المستعمل على معنى: ما نرفع من حكم آية ونبقي تلاوتها، كما تقدم. ويحتمل أن يكون المعنى: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها، على ما ذكرناه. وقرأ ابن عامر " ننسخ " بضم النون، من أنسخت الكتاب، على معنى وجدته منسوخا. قال أبو حاتم: هو غلط: وقال الفارسي أبو علي: ليست لغة، لانه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته، بمعنى وجدته محمودا وبخيلا. قال أبو علي: وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ. وقيل: " ما ننسخ " ما نجعل لك نسخه، يقال: نسخت الكتاب إذا كتبته، وانتسخته غيري إذا جعلت نسخه له. قال مكي: ولا يجوز أن تكون الهمزة للتعدي، لان المعنى يتغير، ويصير المعنى ما ننسخك من آية يا محمد، وإنساخه إياها إنزالها عليه، فيصير المعنى ما ننزل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، فيؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها، فيصير القرآن كله منسوخا وهذا لا يمكن، لانه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن. فلما امتنع أن يكون أفعل وفعل بمعنى إذ لم يسمع، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي لفساد المعنى، لم يبق ممكن إلا أن يكون من باب أحمدته وأبخلته إذا وجدته محمودا أو بخيلا. الرابعة عشرة - قوله تعالى: " أو ننسها " قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن، من التأخير، أي نؤخر نسخ لفظها، أي نتركه في آخر (1) أم الكتاب فلا يكون (2). وهذا قول عطاء. وقال غير عطاء: معنى أو ننسأها: نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم، من قولهم: (1) كذا في نسخة أ والذى في ب، ج‍، ح، ز: " في أم الكتاب ". (2) في ح: " فلا تكن نسخا ". (*)
[ 68 ]
نسأت هذا الامر إذا أخرته، ومن ذلك قولهم: بعته نسأ إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا، ونسأتهم أنا أخرتهم. فالمعنى نؤخر نزولها أو نسخها على ما ذكرنا. وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر. وقرأ الباقون " ننسها " بضم النون، من النسيان الذي بمعنى الترك، أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها، قاله ابن عباس والسدي، ومنه قوله تعالى: " نسوا الله فنسيهم (1) " أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، قال أبو عبيد: سمعت أبا نعيم القارئ يقول: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بقراءة أبي عمرو فلم يغير علي إلا حرفين، قال: قرأت عليه " أرنا (2) " فقال: أرنا، فقال أبو عبيد: وأحسب الحرف الاخر " أو ننسأها " فقال: " أو ننسها ". وحكى الازهري " ننسها " نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشئ أي أمرت بتركه، ونسيته تركته، قال الشاعر: إن علي عقبة أقضيها * لست بناسيها ومنسيها (3) أي ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك، وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " أو ننسها " قال: نتركها لا نبدلها، فلا يصح. ولعل ابن عباس قال: نتركها، فلم يضبط. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى " أو ننسها " نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه. وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه، لانه بمعنى نجعلك تتركها. وقيل: من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر، على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها، نقل بالهمز فتعدى الفعل إلى مفعولين: وهما النبي والهاء، لكن اسم النبي محذوف. الخامسة عشرة - قوله تعالى: " نأت بخير منها " لفظة " بخير " هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها راجع ج‍ 8 ص 199. (2) سيأتي الكلام عليها في ص 127 من هذا الجزء. (3) العقبة (بضم فسكون) من معانيها: الابل يرعاها الرجل ويسقها، أي أنا أسوق عقبى وأحسن رعيها. (*)
[ 69 ]
إن كانت مستوية. وقال مالك: محكمة فكان ؟ منسوخة. وقيل: ليس المراد بأخير التفضيل، لان كلام الله لا يتفاضل، وإنما هو مثل قوله: " من جاء بالحسنة فله خير منها (1) " أي فله منها خير، أي نفع وأجر، لا الخير الذي هو بمعنى الافضل، ويدل على القول الاول قوله: " أو مثلها ". قوله تعالى: ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (107). قوله تعالى: " ألم تعلم " جزم بلم، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وفتحت " أن " لانها في موضع نصب. " له ملك السموات والارض " أي بالايجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الامر والارادة. وارتفع " ملك " بالابتداء، والخبر " له " والجملة خبر " أن ". والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لقوله: " وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير " وقيل: المعنى أي قل لهم يا محمد ألم تعلموا أن لله سلطان السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي، من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنه ولي العهد، أي القيم بما عهد إليه من أمر المسلمين. ومعنى " من دون الله " سوى لله وبعد الله، كما قال أمية بن أبي الصلت: يا نفس ما لك دون الله من واق * وما على حدثان الدهر من باق وقراءة الجماعة " ولا نصير " بالخفض عطفا على " ولي " ويجوز " ولا نصير " بالرفع عطفا على الموضع، لان المعنى ما لكم من دون الله ولي ولا نصير. قوله تعالى: أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمن فقد ضل سوآء السبيل (108). قوله تعالى: " أم تريدون " هذه " أم " المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل تريدون، ومعنى الكلام التوبيخ. " أن تسألوا " في موضع نصب ب‍ " تريدون ". " كما سئل " الكاف في موضع (1) راجع ج‍ 13 ص 244. (*)
[ 70 ]
نصب نعت لمصدر، أي سؤالا كما. و " موسى " في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. " من قبل ": سؤالهم إياه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمدا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. عن ابن عباس ومجاهد: سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا. وقرأ الحسن " كما سيل "، وهذا على لغة من قال: سلت أسأل، ويجوز أن يكون على بدل الهمزة ياء ساكنة على غير قياس فانكسرت السين قبلها. قال النحاس: بدل الهمزة بعيد. والسواء من كل شئ: الوسط. قاله أبو عبيدة معمر بن المثني، ومنه قوله: " في سواء الجحيم ". وحكى عيسى بن عمر قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي، وأنشد قول حسان يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا ويح أصحاب النبي ورهطه * بعد المغيب في سواء الملحد وقيل: السواء القصد، عن الفراء، أي ذهب عن قصد الطريق وسمته، أي طريق طاعة الله عزوجل. وعن ابن عباس أيضا أن سبب نزول هذه الاية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك. قوله تعالى: ود كثير من أهل الكتب لو يردونكم من بعد إيمنكم كفارا حسدا من عند أنفسهم كم بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير (109). وأقيموا الصلوة وأتو الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110). قوله تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ". فيه مسألتان: الاولى - " ود " تمنى، وقد تقدم (1). " كفارا " مفعول ث‍ ن ب‍ " يدونكم ". " من عند أنفسهم " قيل: هو متعلق ي‍ " ود ". وقيل: ب‍ " حسدا "، فالوقف على قوله: " كفارا ". و " حسدا " مفعول له، أي ود. ذلك للحسد، أو مصدر دل على ما قبله على الفعل. ومعنى " من عند أنفسهم " أي من (1) راجع ص 34 من هذا الجزء. (*)
[ 71 ]
تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به، ولفظة الحسد تعطي هذا. فجاء (من عند أنفسهم " تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: " يقولون بأفواههم (1) "، " يكتبون الكتاب بأيديهم "، " ولا طائر يطير بجناحيه (2) ". والاية في اليهود. الثانية - الحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا، وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله (3) " وإنما كان مذموما لان فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق. وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام: (لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار). وهذا الحسد معناه الغبطة. وكذلك ترجم عليه البخاري " باب الاغتباط في العلم والحكمة ". وحقيقتها: أن تتمنى أن يكون لك ما لاخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره، وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة، ومنه قوله تعالى: " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (4) ". " من بعد ما تبين لهم الحق " أي " من بعد ما تبين لهم الحق " لهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الذي جاء به. قوله تعالى - " فاعفوا واصفحوا " فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " فاعفوا " والاصل اعفووا حذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس. صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: " أفنضرب عنكم الذكر صفحا (5) ". الثانية - هذه الاية منسوخة بقوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون " إلى قوله: " صاغرون (6) " عن ابن عباس. وقيل: الناسخ لها " فاقتلوا المشركين (7) ". قال أبو عبيدة: (1) راجع ج‍ 4 ص 267. (2) ج‍ 6 ص 419. (3) ج‍ 5 ص 251. (4) ج‍ 19 ص 264. (5) ج‍ 16 ص 62. (6) ج‍ 8 ص 109. (7) ج‍ 8 ص 72. (*)
[ 72 ]
كل آية فيها ترك للقتال فهي مكية منسوخة بالقتال. قال ابن عطية: وحكمه بأن هذه الاية مكية ضعيف، لان معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة. قلت: وهو الصحيح، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية (1) وأسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث ابن الخزرج قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول (2) - وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي - فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الاوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة (3) الدابة خمر (4) ابن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغيروا علينا ! فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا ! فلا تؤذنا به في مجالسنا، [ ارجع إلى رحلك (5) ] فمن جاءك فاقصص عليه. قال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستتب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ([ يا سعد (5) ] ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا) فقال: أي رسول الله، بأبي أنت وأمي ! اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة (6) على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما (1) فدكية: منسوبة إلى فدك (بالتحريك) قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان. (2) سلول: أم عبد الله بن أبى. (3) العجاج: الغبار. (4) خمر أنفه: غطاه. (5) زيادة عن صحيحي البخاري ومسلم يقتضيها السياق. والرحل: المنزل. (6) البحيرة (تصغير البحرة): مدينة الرسول عليه السلام، وقد جاء في رواية مكيرا. (*)
[ 73 ]
أمرهم الله تعالى، ويصبرون على الاذى، قال الله عزوجل: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا (1) "، وقال: " ود كثير من أهل الكتاب ". فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به من قتل من صناديد الكفار وسادات قريش، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه غانمين منصورين، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش، قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الاوثان: هذا أمر قد توجه (2)، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إلاسلام، فأسلموا. قوله تعالى: " حتى يأتي الله بأمره " يعني قتل قريظة وجلاء بني النضير. " إن الله على كل شئ قدير. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " تقدم (3). والحمد لله تعالى. قوله تعالى: " وما نقدموا لانفسكم من حير تجدوه عند الله " جاء في الحديث (أن العبد إذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم). وخرج البخاري والنسائي عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله). قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله. مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت)، لفظ النسائي. ولفظ البخاري: قال عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله) قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: (فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر). وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر ببقيع الغرقد (4) فقال: السلام عليكم أهل القبور، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت. فأجابه هاتف: يابن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفناه فقد خسرناه. ولقد أحسن القائل: قدم لنفسك قبل موتك صالحا * واعمل فليس إلى الخلو سبيل (1) راجع ج‍ 4 ص 303. (2) أي ظهر وجهه. (3) يراجع ج‍ 1 ص 164 ويا بعدها، 224، 343 وما بعدها، طبعة ثانية. (4) بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة. (*)
[ 74 ]
وقال آخر: قدم لنفسك توبة مرجوة * قبل الممات وقبل حبس الالسن وقال آخر: ولدتك إذ ولدتك أمك باكيا * والقوم حولك يضحكون سرورا فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا * في يوم موتك ضاحكا مسرورا وقال آخر: سابق إلى الخير وبادر به * فإنما خلفك ما تعلم وقدم الخير فكل امرئ * على الذي قدمه يقدم وأحسن من هذا كله قول أبي العتاهية: استعد بمالك في حياتك إنما * يبقى وراءك مصلح أو مفسد وإذا تركت لمفسد لم يبقه * وأخو الصلاح قليله يتزيد وإن استطعت فكن لنفسك وارثا * إن المورث نفسه لمسدد " إن الله بما تعملون بصير " تقدم (1): قوله تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصرى تلك أمانيهم قل هاتوا برهنكم إن كنتم صدقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله - أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) قوله تعالى: " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا. وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. وأجاز الفراء أن يكون " هودا " بمعنى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون (1) يراجع ص 35 من هذا الجزء. (*)
[ 75 ]
جمع هائد. وقال الاخفش سعيد: " إلا من كان " جعل " كان " واحدا على لفظ " من "، ثم قال هودا فجمع، لان معنى " من " جمع. ويجوز " تلك أمانيهم " وتقدم (1) الكلام في هذا، والحمد لله. قوله تعالى: " قل هاتوا برهانكم " أصل " هاتوا " هاتيوا، حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، يقال في الواحد المذكر: هات، مثل رام، وفى المؤنث: هاتي، مثل رامي. والبرهان: الدليل الذي يوقع اليقين، وجمعه براهين، مثل قربان وقرابين، وسلطان وسلاطين. قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه. " إن كنتم صادقين " يعني في إيمانكم أو في قولكم تدخلون الجنة، أي بينوا ما قلتم ببرهان، ثم قال تعالى: " بلى " ردا عليهم وتكذيبا لهم، أي ليس كما تقولون. وقيل: إن " بلى " محمولة على المعنى، كأنه قيل أما يدخل الجنة أحد ؟ فقيل: " بلى من أسلم وجهه لله " ومعنى " أسلم " استسلم وخضع. وقيل: أخلص عمله. وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الانسان، ولانه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشئ. ويصح أن يكون الوجه في هذه الاية المقصد. " وهو محسن " جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في " وجهه " و " له " على لفظ " من " وكذلك " أجره " وعاد في " عليهم " على المعنى، وكذلك في " يحزنون " وقد تقدم (2). قوله تعالى: وقالت اليهود ليست النصرى على شئ وقالت النصرى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيما فيما كانوا فيه يختلفون (113) (1) راجع المسألة الثانية ص 5 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 1 ص 329 طبعة ثانية. (*)
[ 76 ]
معناه ادعى كل فريق منهم أن صاحبه ليس على شئ، وأنه أحق برحمة الله منه. " وهم يتلون الكتاب " يعني التوراة والانجيل، والحملة في موضع الحال. والمراد ب‍ " الذين لا يعلمون " في قول الجمهور: كفار العرب، لانهم لا كتاب لهم. وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى. الربيع بن أنس: المعنى كذلك قالت اليهود قبل النصارى. ابن عباس: قدم أهل نجران على النبي صلى الله عليه وسلم فأتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت كل فرقة منهم للاخرى لستم على شئ، فنزلت الاية. قوله تعالى: ومن أظلم ممن منع مسجد الله أن يدكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم (114). فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يدكر فيها اسمه " " من " رفع بالابتداء، و " أظلم " خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و " أن " في موضع نصب على البدل من " مساجد "، ويجوز أن يكون التقدير: كراهية أن يذكر، ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: من أن يذكر فيها، وحرف الخفض يحذف مع " أن " لطول الكلام. وأراد بالمساجد هنا بيت المقدس ومحاريبه. وقيل الكعبة، وجمعت لانها قبلة المساجد أو للتعظيم. وقيل: المراد سائر المساجد، والواحد مسجد (بكسر الجيم)، ومن العرب من يقول: مسجد، (بفتحها). قال الفراء: " كل ما كان على فعل يفعل، مثل دخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، ولا يقع فيه الفرق، مثل دخل يدخل مدخلا، وهذا مدخله، إلا أحرفا من الاسماء الزموها كسر العين، من ذلك: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق والمسقط والمفرق والمجزر والمسكن والمرفق (من رفق يرفق) والمنبت والمنسك (من نسك ينسك)، فجعلوا
[ 77 ]
الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم ". والمسجد (بالفتح): جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود. والاراب (1): السبعة مساجد، قاله الجوهري. الثانية - واختلف الناس في المراد بهذه الاية وفيمن نزلت، فذكر المفسرون أنها نزلت في بخت نصر، لانه كان أخرب بيت المقدس. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في النصارى، والمعنى كيف تدعون أيها النصارى أنكم من أهل الجنة ! وقد خربتم بيت المقدس ومنعتم المصلين من الصلاة فيه. ومعنى الاية على هذا: التعجب من فعل النصارى ببيت المقدس مع تعظيمهم له، وإنما فعلوا ما فعلوا عداوة لليهود. روى سعيد عن قتادة قال: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا بخت نصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وروي أن هذا التخريب بقي إلى زمن عمر رضي الله عنه. وقيل: نزلت في المشركين إذ منعوا المصلين والنبي صلى الله عليه وسلم، وصدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية. وقيل: المراد من منع من كل مسجد إلى يوم القيامة، وهو الصحيح، لان اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الاشخاص ضعيف، والله تعالى أعلم. الثالثة - خراب المساجد قد يكون حقيقيا كتخريب بخت نصر والنصارى بيت المقدس على ما ذكر أنهم غزوا بني إسرائيل مع بعض ملوكهم - قيل: اسمه نطوس (2) بن اسبيسانوس الرومي فيما ذكر الغزنوي - فقتلوا وسبوا، وحرقوا التوراة، وقذفوا في بيت المقدس العذرة وخربوه. ويكون مجازا كمنع المشركين المسلمين حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الاسلام فيها خراب لها. (1) الاراب (جمع إرب بكسر فسكون): الاعضاء، والمراد بالسبعة: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان. (29 اضطربت الاصول في رسم هذا الاسم، ففى أ، ح، ز، " بطوس " بالباء الموحدة التحتانية. وفى ب: " تطرس " بالتاء المثناة من فوق، وفى ح‍: " نطوس " بالنون. (*)
[ 78 ]
الرابعة - قال علماؤنا: ولهذا قلنا لا يجوز منع المرأة من الحج إذا كانت ضرورة (1)، سواء كان لها محرم أو لم يكن، ولا تمنع أيضا من الصلاة في المساجد ما لم يخف عليها الفتنة، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ولذلك قلنا: لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة، ولا يمنع بناء المساجد إلا أن يقصدوا الشقاق والخلاف، بأن يبنوا مسجدا إلى جنب مسجد أو قربه، يريدون بذلك تفريق أهل المسجد الاول وخرابه واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثاني ينقض ويمنع من بنيانه، ولذلك قلنا: لا يجوز أن يكون في المصر جامعان، ولا لمسجد واحد إمامان، ولا يصلي في مسجد جماعتان. وسيأتي لهذا كله مزيد بيان في سورة " براءة (2) " إن شاء الله تعالى، وفي " النور (3) " حكم المساجد وبنائها بحول الله تعالى. ودلت الاية أيضا على تعظيم أمر الصلاة، وأنها لما كانت أفضل الاعمال وأعظمها أجرا كان منعها أعظم إثما. الخامسة - كل موضع يمكن أن يعبد الله فيه ويسجد له يسمى مسجدا، قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الارض مسجدا وطهورا)، أخرجه الائمة. وأجمعت الامة على أن البقعة إذا عينت للصلاة بالقول خرجت عن جملة الاملاك المختصة بربها وصارت عامة لجميع المسلمين، فلو بنى رجل في داره مسجدا وحجزه على الناس واختص به لنفسه لبقي على ملكه ولم يخرج إلى حد المسجدية، ولو أباحه للناس كلهم كان حكمه حكم سائر المساجد العامة، وخرج عن اختصاص الاملاك. السادسة - قوله تعالى: " أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين " " أولئك " مبتدأ وما بعده خبره. " خائفين " حال، يعني إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها. فإن دخلوها، فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم، وتأديبهم على دخولها. وفي هذا دليل على أن الكافر ليس له دخول المسجد بحال، على ما يأتي في " براءة " إن شاء الله تعالى. ومن جعل الاية في النصارى روى أنه مر زمان (1) الصرورة: التى لم تحج قط. (2) راجع ج‍ 8 ص 254 وص 104. (3) ج‍ 12 ص 265. (*)
[ 79 ]
بعد بناء عمر بيت المقدس في الاسلام لا يدخله نصراني إلا أوجع ضربا بعد أن كان متعبدهم. ومن جعلها في قريش قال: كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). وقيل: هو خبر ومقصوده الامر، أي جاهدوهم واستأصلوهم حتى لا يدخل أحد منهم المسجد الحرام إلا خائفا، كقوله: " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله (1) " فإنه نهى ورد بلفظ الخبر. السابعة - قوله تعالى: " لهم في الدنيا خزى " قيل القتل للحربي، والجزية للذمي، عن قتادة. السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية وقسطنطينية، وغير ذلك من مدنهم، على ما ذكرناه في كتاب التذكرة. ومن جعلها في قريش جعل الخزي عليهم في الفتح، والعذاب في الاخرة لمن مات منهم كافرا. قوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله وسع عليم (115). فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ولله المشرق والمغرب " " المشرق " موضع الشروق. " والمغرب " موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالايجاد والاختراع، كما تقدم. وخصهما بالذكر والاضافة إليه تشريفا، نحو بيت الله، وناقة الله، ولان سبب الاية اقتضى ذلك، على ما يأتي. الثانية - قوله تعالى: " فأينما تولوا " شرط، ولذلك حذفت النون، و " أين " العاملة، و " ما " زائدة، والجواب " فثم وجه الله ". وقرأ الحسن " تولوا " بفتح التاء واللام، والاصل تتولوا. و " ثم " في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد، إلا أنها مبنية على الفتح غير معربة لانها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبعد، فإن أردت القرب قلت هنا. الثالثة - اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه " فأينما تولوا " على خمسة أقوال: فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه (1) راجع ج‍ 14 ص 228. (*)
[ 80 ]
الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: " فأينما تولوا فثم وجه الله ". قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق. قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكا قال: تستحب له الاعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لانه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم، ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرق أو غرب جدا مجتهدا، وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال المغيرة والشافعي: لا يحزيه، لان القبلة شرط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح، لان جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر. وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت " فأينما تولوا فثم وجه الله ". ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله. ولا يجوز لاحد أن يدع القبلة عامدا بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف، على ما يأتي. واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله، فمرة قال: لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه. قال سحنون: فإن فعل أعاد، حكاه الباجي. ومرة قال: إن كان ممن لا يصلي بالارض إلا إيماء فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة.
[ 81 ]
وأجمعوا على أنه لا يجوز لاحد صحيح أن يصلي فريضة إلا بالارض إلا في الخوف الشديد خاصة، على ما يأتي بيانه. واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة، فقال مالك وأصحابه والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، قالوا: لان الاسفار التي حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي: يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا، لان الاثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شئ من الاسفار بما يجب التسليم له. وقال أبو يوسف: يصلي في المصر على الدابة بالايماء، لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء. وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه [ بالايماء ]. وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنقل على الدابة في الحضر والسفر. وقال الاثرم: قيل لاحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر، فقال: أما في السفر فقد سمعت، وما سمعت في الحضر. قال ابن القاسم: من تنفل في محمله تنفل جالسا، قيامه تربع، يركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه. وقال قتادة: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلي على رجل مات ؟ وهو يصلي لغير قبلتنا، وكان النجاشي ملك الحبشة - واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية - يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الاية، ونزل فيه: " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله (1) " فكان هذا عذرا للنجاشي، وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه سنة تسع من الهجرة. وقد استدل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب، وهو الشافعي. قال ابن العربي: ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يصلي على الغائب، وقد كنت ببغداد (1) راجع ج‍ 4 ص 322. (*)
[ 82 ]
في مجلس الامام فخر الاسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له: كيف حال فلان ؟ فيقول له: مات، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ! ثم يقول لنا: قوموا فلاصل لكم، فيقوم فيصلي عليه بنا، وذلك بعد ستة أشهر من المدة، وبينه وبين بلده ستة أشهر. والاصل عندهم في ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي. وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مخصوص لثلاثة أوجه: أحدها - أن الارض دحيت له جنوبا وشمالا حتى رأى نعش النجاشي، كما دحيت له شمالا وجنوبا حتى رأى المسجد الاقصى. وقال المخالف: وأي فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته. الثاني - أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه. قال المخالف: هذا محال عادة ! ملك على دين لا يكون له أتباع، والتأويل بالمحال محال. الثالث - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيا وميتا. قال المخالف: بركة الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن سواه تلحق الميت باتفاق. قال ابن العربي: والذي عندي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه. قلت: والتأويل الاول أحسن، لانه إذا رآه فما صلى على غائب وإنما صلى على مرئي حاضر، والغائب ما لا يرى. والله تعالى أعلم. القول الرابع - قال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، فنزلت: " ولله المشرق والمغرب " فوجه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فعل لا حجة (1) عليه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون. (1) في ب، ج‍: " لا حجر ". (*)
[ 83 ]
القول الخامس - أن الاية منسوخة بقوله: " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره (1) " ذكره ابن عباس، فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك. وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " أي تلقاءه، حكاه أبو عيسى الترمذي. وقول سادس - روي عن مجاهد والضحاك أنها محكمة، المعنى: أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة. وعن مجاهد أيضا وابن جبير لما نزلت: " ادعوني أستجب لكم " قالوا: إلى أين ؟ فنزلت: " فأينما تولوا قثم وجه الله ". وعن ابن عمر والنخعي: أينما تولوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فثم وجه الله. وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه " الاية، فالمعنى أن بلاد لله أيها المؤمنون تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه. وقيل: نزلت حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية فاغتم المسلمون لذلك. فهذه عشرة أقوال. ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرا، لانها محتملة لمعنى الامر. يحتمل أن يكون معنى " فأينما تولوا فثم وجه الله ": ولوا وجوهكم نحو وجه الله، وهذه الاية هي التي تلا سعيد بن جبير رحمه الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الارض. الرابعة - اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الاعضاء في الشاهد وأجلها قدرا. وقال ابن فورك: قد تذكر صفة الشئ والمراد بها الموصوف توسعا، كما يقول القائل: رأيت علم فلال اليوم، ونظرت إلى علمه، وإنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم، كذلك إذا ذكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأول قوله تعالى: " إنما نطعمكم لوجه الله (2) " لان المراد به: لله الذي له الوجه، وكذلك قوله: " إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى (3) " أي الذي له الوجه. قال ابن عباس: (1) راجع ص 159، 168 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 19 ص 128. (3) راجع ج‍ 20 ص 88. (*)
[ 84 ]
الوجه عبارة عنه عز وجل، كما قال: " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (1) ". وقال بعض الائمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. قال ابن عطية: وضعف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف، وإنما المراد وجوده. وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وجهنا إليها أي القبلة. وقيل: الوجه القصد، كما قال الشاعر: استغفر الله ذنبا لست محصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل وقيل: المعنى فثم رضا الله وثوابه، كما قال: " إنما نطعمكم لوجه الله " أي لرضائه وطلب ثوابه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجدا يبتغي به وجه لله بنى الله له مثله في الجنة). وقوله: (يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرا وهو أعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي) أي خالصا لي، خرجه الدارقطني. وقيل: المراد فثم الله، والوجه صلة، وهو كقوله: " وهو معكم ". قاله الكلبي والقتبي، ونحوه قول المعتزلة. الخامسة - قوله تعالى: " إن الله واسع عليم " أي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. وقيل: " واسع " بمعنى أنه يسع علمه كل شئ، كما قال: " وسع كل شئ علما (2) ". وقال الفراء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شئ، دليله قوله تعالى: " ورحمتي وسعت كل شئ (3) ". وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب. وقيل: متفضل على العباد وغني عن أعمالهم، يقال: فلان يسع ما يسئل، أي لا يبخل، قال الله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته (4) " أي لينفق الغني مما أعطاه الله. وقد أتينا عليه في الكتاب " الاسنى " والحمد لله. قوله تعالى: وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه بل له ما في السموت والارض كل له قنتون (116). (1) راجع ج‍ 17 ص 165. (2) راجع ج‍ 11 ص 243. (3) راجع ج‍ 7 ص 296. (4) راجع ج‍ 18 ص 170. (*)
[ 85 ]
فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وقالوا اتخذ الله ولدا " هذا إخبار عن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله. وقيل عن اليهود في قولهم: عزير ابن الله. وقيل عن كفرة العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. وقد جاء مثل هذه الاخبار عن الجهلة الكفار في " مريم (1) " و " الانبياء (1) ". الثانية - قوله: " سبحانه بل له " الاية. خرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا ". الثالثة - " سبحان " منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه والمحاشاة، من قولهم: اتخذ الله ولدا، بل هو الله تعالى واحد في ذاته، أحد في صفاته، لم يلد فيحتاج إلى صاحبة، " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ " ولم يولد فيكون مسبوقا، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ! " بل له ما في السموات والارض " ما " رفع بالابتداء والخبر في المجرور، أي كل ذلك له ملك بالايجاد والاختراع. والقائل بأنه اتخذ ولدا داخل في جملة السموات والارض. وقد تقدم أن معنى سبحان الله: براءة الله من السوء (2). الرابعة - لا يكون الولد إلا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته وهو لا يشبهه شئ، وقد قال: " إن كل من في السموات والارض إلا آتى الرحمن عبدا (1) "، كما قال هنا: " بل له ما في السموات والارض " فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضى الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الازلي الواحد الاحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ثم إن البنوة تنافى الرق والعبودية - على ما يأتي بيانه في سورة " مريم (1) " إن شاء الله تعالى - فكيف يكون ولد عبدا ! هذا محال، وما أدى إلى المحال محال. (1) راجع ج‍ 11 ص 158 فما بعدها وص 281. (2) راجع ج‍ 1 ص 276 طبعة ثانية. (*)
[ 86 ]
الخامسة - قوله تعالى: " كل له قانتون " ابتداء وخبر، والتقدير كلهم، ثم حذف الهاء والميم. " قانتون " أي مطيعون وخاضعون، فالمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطبع. والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم. فالقنوت الطاعة، والقنوت السكوت، ومنه قول زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه إلى جنبه حتى نزلت: " وقوموا لله قانتين " فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. والقنوت: الصلاة، قال الشاعر: قانتا لله يتلو كتبه * وعلى عمد من الناس اعتزل وقال السدي وغيره في قوله: " كل له قانتون " أي يوم القيامة. الحسن: كل قائم بالشهادة أنه عبده. والقنوت في اللغة أصله القيام، ومنه الحديث: (أفضل الصلاة طول القنوت) قاله الزجاج. فالخلق قانتون، أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم. وقيل: أصله الطاعة، ومنه قوله تعالى: " والقانتين والقانتات ". وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله تعالى: " وقوموا لله قانتين (1) ". قوله تعالى: بديع السموت والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117). فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " بديع السموات " فعيل للمبالغة، وارتفع على خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مبدع، كبصير من مبصر. أبدعت الشئ لا عن مثال، فالله عز وجل بديع السموات والارض، أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع. وسميت البدعة بدعة لان قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري (ونعمت البدعة هذه) يعني قيام رمضان. (1) راجع ج‍ 3 ص 213. (*)
[ 87 ]
الثانية - كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أولا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسوله عليه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الافعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه (1)، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس، عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر لله به ورسوله فهي في حيز الذم والانكار، قال معناه الخطابي وغيره. قلت: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: (وشر الامور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقوله: (من سن في الاسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ). وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره. الثالثة - قوله تعالى: " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي إذا أراد إحكامه وإتقانه - كما سبق في علمه - قال له كن. قال ابن عرفة: قضاء الشئ إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لانه إذا حكم فقد فرغ مما ببن الخصمين. وقال الازهري: قضى في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشئ وتمامه، قال أبو ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع (2) وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بواثق في أكمامها لم تفتق (1) يريد: قيام رمضان. (2) مسرودتان: درعان مخروزتان. والصنع: الحاذق بالعمل. (*)
[ 88 ]
قال علماؤنا: " قضى " لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، قال الله تعالى: " فقضاهن سبع سموات في يومين (1) " أي خلقهن. ويكون بمعنى الاعلام، قال الله تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب (2) " أي أعلمنا. ويكون بمعنى الامر، كقوله تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه (2) ". ويكون بمعنى الالزام وإمضاء الاحكام، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق، قال الله تعالى: " فلما قضى موسى الاجل (3) ". ويكون بمعنى الارادة، كقوله تعالى: " فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي إذا أراد خلق شئ. قال ابن عطية: " قضى " معناه قدر، وقد يجئ بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الاية المعنيان على مذهب أهل السنة قدر في الازل وأمضى فيه. وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والايجاد. الرابعة - قوله تعالى: " أمرا " الامر واحد الامور، وليس بمصدر أمر يأمر. قال علماؤنا: والامر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها: الاول - الدين، قال الله تعالى: " حتى جاء الحق وظهر أمر الله (4) " يعني دين الله الاسلام. الثاني - القول، ومنه قوله تعالى: " فإذا جاء أمرنا " يعني قولنا، وقوله: " فتنازعوا أمرهم بينهم " يعني قولهم. الثالث - العذاب، ومنه قوله تعالى: " لما قضي الامر (5) " يعني لما وجب العذاب بأهل النار. الرابع - عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: " إذا قضى أمرا (6) " يعني عيسى، وكان في علمه أن يكون من غير أب. الخامس - القتل ببدر، قال الله تعالى: " فإذا جاء أمر الله (7) " يعني القتل ببدر، وقوله تعالى: " ليقضي الله أمرا كان مفعولا (8) " يعني قتل كفار مكة. السادس - فتح مكة، قال الله تعالى: " فتربصوا حتى يأتي الله بأمره (9) " يعني فتح مكة. (1) راجع ج‍ 15 ص 345. (2) راجع ج‍ 10 ص 214، 236. (3) راجع ج‍ 13 ص 280. (4) راجع ج‍ 8 ص 157. (5) راجع ج‍ 9 ص 356. (6) راجع ج‍ 4 ص 93. (7) راجع ج‍ 15 ص 334. (8) راجع ج‍ 8 ص 22. (9) راجع ج‍ 8 ص 95. (*)
[ 89 ]
السابع - قتل قريظة وجلاء بني الضير، قال الله تعالى: " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره (1) ". الثامن - القيامة، قال الله تعالى: " أتى أمر الله (2) ". التاسع - القضاء، قال الله تعالى: " يدبر الامر (3) " يعني القضاء. العاشر - الوحي، قال الله تعالى: " يدبر الامر من السماء إلى الارض (4) " يقول: ينزل الوحي من السماء إلى الارض، وقوله: " يتنزل الامر بينهن (5) " يعني الوحي. الحادي عشر - أمر الخلق، قال الله تعالى: " ألا إلى الله تصير الامور (6) " يعني أمور الخلائق. الثاني عشر - النصر، قال الله تعالى: " يقولون هل لنا من الامر من شئ (7) ". يعنون النصر، " قل إن الامر كله لله " يعني النصر. الثالث عشر - الذنب، قال الله تعالى: " فذاقت وبال أمرها (8) " يعني جزاء ذنبها. الرابع عشر - الشأن والفعل، قال الله تعالى: " وما أمر فرعون برشيد (9) " أي فغله وشأنه، وقال: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره (10) " أي فعله. الخامسة - قوله تعالى: " كن " قيل: الكاف من كينونه، والنون من نوره، وهي المراد بقوله عليه السلام: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق). ويروي: (بكلمة الله التامة) على الافراد. فالجمع لما كانت هذه الكلمة في الامور كلها، فإذا قال لكل أمر كن، ولكل شئ كن، فهن كلمات. يدل على هذا ما روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن الله تعالى: (عطائي كلام وعذابي كلام). خرجه الترمذي في حديث فيه طول. والكلمة على الافراد بمعنى الكلمات أيضا، لكن لما تفرقت الكلمة الواحدة في الامور في الاوقات صارت كلمات ومرجعهن إلى كلمة واحدة. وإنما قيل " تامة " لان أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف: حرف مبتدأ، وحرف تحشى به الكلمة، وحرف يسكت عليه. وإذا كان على حرفين فهو عندهم منقوص، كيد
[ 90 ]
ودم وفم، وإنما نقص لعلة. فهي من الادميين من المنقوصات لانها على حرفين، ولانها كلمة ملفوظة بالادوات. ومن ربنا تبارك وتعالى تامة، لانها بغير الادوات، تعالى عن شبه المخلوقين. السادسة - قوله تعالى: " فيكون " قرئ برفع النون على الاستئناف. قال سيبويه: فهو يكون، أو فإنه يكون. وقال غيره: هو معطوف على " يقول "، فعلى الاول كائنا بعد الامر، وإن كان معدوما فإنه بمنزلة الموجود إذا هو عنده معلوم، على ما يأتي بيانه. وعلى الثاني كائنا مع الامر، واختاره الطبري وقال: أمره للشئ ب‍ " كن " لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشئ مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالامر، ولا موجودا إلا وهو مأمور بالوجود، على ما يأتي بيانه. قال: ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، كما قال " ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون (1) ". وضعف ابن عطية هذا القول وقال: هو خطأ من جهة المعنى، لانه يقتضي أن القول مع (2) التكوين والوجود. وتلخيص المعتقد في هذه الاية: أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر المعلومات. فكل ما في الاية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجئ بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل. والمعنى الذي تقتضيه عبارة " كن ": هو قديم قائم بالذات. وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل: ففي أي حال يقول له كن فيكون ؟ أفي حال عدمه، أم في حال وجوده ؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا، كما يستحيل أن يكون الامر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لانه موجود حادث ؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة: أحدها - أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات. (1) راجع ج‍ 14 ص 19. (2) في أ: " من جهة التكوين ". (*)
[ 91 ]
الثاني - أن الله عزوجل عالم بما هو كائن قبل كونه، فكانت الاشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني. ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم. الثالث - أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا، كقول أبي النجم: * قد قالت الاتساع للبطن الحق * ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقول عمرو بن حممة الدوسي: فأصبحت مثل النسر طارت فراخه * إذا رام تطيارا يقل له قع وكما قال الاخر: قالت جناحاه لساقيه الحقا * ونجيا لحمكما أن يمزقا قوله تعالى: وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا ءاية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشبهت قلوبهم قد بينا الايت لقوم يوقنون (118) قوله تعالى: " وقال الذين لا يعلمون قال ابن عباس: هم اليهود. مجاهد: النصارى، ورجحه الطبري، لانهم المذكورون في الاية أولا. وقال الربيع والسدي وقتادة: مشركو العرب. و " لولا " بمعنى " هلا " تحضيض، كما قال الاشهب بن رميلة (1): تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطري لولا الكمي المقنعا (1) كذا في الاصول. وقال البغدادي صاحب خزانة الادب: " نسبه ابن الشجرى في أماليه للاشهب، والصحيح أنه من قصيدة لجرير، لا خلاف بين الرواة أنها له، وهى جواب عن قصيدة تقدمت لفرزدق على قافيها ". وقضية عقر الابل مشهورة في التواريخ. والنيب (بكسر النون وسكون الياء جمع ناب): الناقة المسنة. وضوطرى: قيل: الرجل الضخم اللئيم الذى لا غناء عنده. وقيل: الحمقى. والكمى: الشجاع. والمقنع: الذى على رأسه البيضة والمغفر. راجع خزانة الادب في الشاهد الرابع والستين بعد المائة. وكتاب المغنى في " لولا " والنقائض ص 833 طبع أوربا، وذيل أمالى القالى. (*)
[ 92 ]
وليست هذه " لولا " التي تعطي منع الشئ لوجود غيره، والفرق بينهما عند علماء اللسان أن " لولا " بمعنى التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مقدرا، والتي للامتناع يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر. ومعنى الكلام هلا يكلمنا الله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنعلم أنه نبي فنؤمن به، أو يأتينا بآية تكون علامة على نبوته. والاية: الدلالة والعلامة، وقد تقدم (1). " الذين من قبلهم " اليهود والنصارى في قول من جعل " الذين لا يعلمون " كفار العرب، أو الامم السالفة في قول من جعل " الذين لا يعلمون " اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل " الذين لا يعلمون " النصارى. " تشابهت قلوبهم " قيل: في التعنيت والاقتراح وترك الايمان. وقال الفراء. " تشابهت قلوبهم " في اتفاقهم على الكفر. " قد بينا الايات لقوم يوقنون " تقدم (2). قوله تعالى: إنا أرسلنك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحب الجحيم (119). قوله تعالى: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا " " بشيرا " نصب على الحال، " ونذيرا " عطف عليه، وقد تقدم معناهما (3). " ولا تسئل عن أصحاب الجحيم " قال مقاتل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنزل الله بأسه باليهود لامنوا)، فأنزل الله تعالى: " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " برفع تسأل، وهي قراءة الجمهور، ويكون في موضع الحال بعطفه على " بشيرا ونذيرا ". والمعنى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول. وقال سعيد الاخفش: ولا تسأل (بفتح التاء وضم اللام)، ويكون في موضع الحال عطفا على " بشيرا ونذيرا ". والمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير سائل عنهم، لان علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم. هذا معنى غير سائل. ومعنى غير مسئول لا يكون مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والانذار. وقال ابن عباس ومحمد بن كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (ليت شعري ما فعل أبواي). فنزلت هذه الاية، وهذا على قراءة من قرأ " ولا تسأل " جزما على النهي، وهي قراءة نافع وحده، وفيه وجهان: (1) راجع ج‍ 1 ص 66 طبعة ثانية. (2) راجع ج‍ 1 ص 180 طبعة ثانية. (3) راجع ج‍ 1 ص 184، 238 طبعة ثانية. (*)
[ 93 ]
أحدهما: أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الاحياء، لانه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الايمان، وعن المعصية إلى الطاعة. والثاني - وهو الاظهر، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه، وهذا كما يقال: لا تسأل عن فلان ! أي قد بلغ فوق ما تحسب. وقرأ ابن مسعود " ولن تسأل ". وقرأ أبي " وما تسأل "، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفى أن يكون مسئولا عنهم. وقيل: إنما سأل أي أبويه أحدث موتا، فنزلت. وقد ذكرنا في كتاب " التذكرة " أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به، وذكرنا قوله عليه السلام للرجل: (إن أبى وأباك في النار) وبينا ذلك، والحمد لله. قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصرى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذى جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير (120). قوله تعالى: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ". فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " المعنى: ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الايات أن يؤمنوا، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الاسلام واتباعهم. يقال: رضي يرضى رضا ورضا ورضوانا ورضوانا ومرضاة، وهو من ذوات الواو، ويقال في التثنية: رضوان، وحكى الكسائي: رضيان. وحكي رضاء ممدود، وكأنه مصدر راضى يراضي مراضاة ورضاء. و " تتبع " منصوب بأن ولكنها لا تظهر مع حتى، قاله الخليل. وذلك أن حتى خافضة للاسم، كقوله: " حتى مطلع الفجر " وما يعمل في الاسم لا يعمل في الفعل ألبتة، وما يخفض اسما لا ينصب شيئا. وقال النحاس: " تتبع " منصوب بحتى، و " حتى " بدل من أن. والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله.
[ 94 ]
فكانت الملة والشريعة سواء، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة، فإن الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدين ما فعله العباد عن أمره. الثانية - تمسك بهذه الاية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد ابن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى: " ملتهم " فوحد الملة، وبقوله تعالى: " لكم دينكم ولي دين (1) "، وبقوله عليه السلام: (لا يتوارث أهل ملتين) على أن المراد به الاسلام والكفر، بدليل قوله عليه السلام: (لا يرث المسلم الكافر). وذهب مالك وأحمد في الرواية الاخرى إلى أن الكفر ملل، فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السلام: (لا يتوارث أهل ملتين)، وأما قوله تعالى: " ملتهم " فالمراد به الكثرة وإن كانت موحدة في اللفظ بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذت عن علماء أهل المدينة - مثلا - علمهم، وسمعت عليهم حديثهم، يعني علومهم وأحاديثهم. قوله تعالى: " قل إن هدى الله هو الهدى " المعنى ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء. قوله تعالى: " ولئن اتبعت أهواءهم " الاهواء جمع هوى، كما تقول: جمل وأجمال، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على أفراد الملة لقال هواهم. وفي هذا الخطاب وجهان: أحدهما - أنه للرسول، لتوجه الخطاب إليه. والثاني - أنه للرسول والمراد به أمته، وعلى الاول يكون فيه تأديب لامته، إذ منزلتهم دون منزلته. وسبب الاية أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدية، ويعدون النبي صلى الله عليه وسلم بالاسلام، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم. قوله تعالى: " من العلم " سئل أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، فقيل: بم كفرته ؟ فقال: بآيات من كتاب الله تعالى: " ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم (2) " والقرآن من علم الله. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر. (1) راجع ج‍ 20 ص 229. (2) راجع ج‍ 9 ص 326. (*)
[ 95 ]
قوله تعالى: الذين ءاتينهم الكتب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخسرون (121). يبنى إسرءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العلمين (122). واتقوا يوما لاتجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفعة ولا هم ينصرون (123). قوله تعالى: " الذين آتيناهم الكتاب " قال قتادة: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب على هذا التأويل القرآن. وقال ابن زيد: هم من أسلم من بني إسرائيل. والكتاب على هذا التأويل: التوراة، والاية تعم. و " الذين " رفع بالابتداء، " آتيناهم " صلته، " يتلونه " خبر الابتداء، وإن شئت كان الخبر " أولئك يؤمنون به ". واختلف في معنى " يتلونه حق تلاوته " فقيل: يتبعونه حق اتباعه، باتباع الامر والنهي، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه، قاله عكرمة. قال عكرمة: أما سمعت قول الله تعالى: " والقمر إذا تلاها " أي أتبعها، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما. وقال الشاعر: * قد جعلت دلوي تستتليني (1) * وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " يتلونه حق تلاوته " قال: (يتبعونه حق اتباعه). في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر أحمد، إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الاشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب (1) تمامه: (2) * ولا أريد تبع القرين *
[ 96 ]
تعوذ. وقال الحسن: هم الذين يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقيل: يقرءونه حق قراءته. قلت: وهذا فيه بعد، إلا أن يكون المعنى يرتلون ألفاظه، ويفهمون معانيه، فإن بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق. قوله تعالى: وإذ ابتلى إبرهم ربه، بكلمت فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظلمين (124) فيه عشرون مسألة: الاولى - لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام، وأنه الذي بنى البيت، فكان من حق اليهود - وهم من نسل إبراهيم - ألا يرغبوا عن دينه. والابتلاء: الامتحان والاختبار، ومعناه أمر وتعبد. وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية: أب رحيم. قال السهيلي: وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم، لرحمته بالاطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لاطفال المؤمنين الذين يموتون صغارا إلى يوم القيامة. قلت: ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس. وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة، والحمد لله. وإبراهيم هذا هو ابن تارخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين. وفي التنزيل: " وإذ قال إبراهيم لابيه آزر (1) وكذلك في صحيح البخاري، ولا تناقض في ذلك، على ما يأتي في " الانعام " بيانه إن شاء الله تعالى. وكان له أربع بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن، على ما ذكره السهيلي. وقدم على الفاعل للاهتمام، إذ كون الرب تبارك وتعالى (1) راجع ج‍ 7 ص 22. (*)
[ 97 ]
مبتليا معلوم، وكون الضمير المفعول في العربية متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام، فاعلمه. وقراءة العامة " إبراهيم " بالنصب، " ربه " بالرفع على ما ذكرنا. وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ على العكس، وزعم أن ابن عباس أقرأه كذلك. والمعنى دعا إبراهيم ربه وسأل، وفيه بعد، لاجل الباء في قوله: " بكلمات ". الثانية - قوله تعالى: " بكلمات " الكلمات جمع كلمة، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة، لانه صدر عن كلمة وهي " كن ". وتسمية الشئ بمقدمته أحد قسمي المجاز، قاله ابن العربي. الثالثة - واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال: أحدها - شرائع الاسلام، وهي ثلاثون سهما، عشرة منها في سورة براءة: " التائبون العابدون (1) " إلى آخرها، وعشرة في الاحزاب: " إن المسلمين والمسلمات (2) " إلى آخرها، وعشرة في المؤمنون: " قد أفلح المؤمنون (3) " إلى قوله: " على صلواتهم يحافظون " وقوله في " سأل سائل (4) ": " إلا المصلين " إلى قوله: " والذين هم على صلاتهم يحافظون ". قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلي بالاسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال: " وإبراهيم الذي وفى (5) ". وقال بعضهم: بالامر والنهي، وقال بعضهم: بذبح ابنه، وقال بعضهم: بآداء الرسالة، والمعنى متقارب. وقال مجاهد: هي قوله تعالى: إني مبتليك بأمر، قال: تجعلني للناس إماما ؟ قال نعم. قال: ومن ذريتي ؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال نعم. قال: وأمنا ؟ قال نعم. قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا ؟ قال نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات ؟ قال نعم. وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم. وأصح من هذا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن (1) راجع ج‍ 8 ص 269. (2) راجع ج‍ 14 ص 185. (3) راجع ج‍ 12 ص 102 (4) راجع ج‍ 18 ص 291. (5) راجع ج‍ 17 ص 113. (*)
[ 98 ]
ابن طاوس عن ابن عباس في قوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الشعر. وفي الجسد: تقليم الاظفار، وحلق العانة، والاختتان، ونتف الابط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم، وهو ظاهر القرآن. وروى مطر (1) عن أبي الجلد أنها عشر أيضا، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم (2)، وموضع الاستنجاء (3) الاستحداد. وقال قتادة: هي مناسك الحج خاصة. الحسن: هي الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه الاقوال ليست بمتناقضة، لان هذا كله مما ابتلي به إبراهيم عليه السلام. قلت: وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من أضاف الضيف، وأول من استحد، وأول من قلم الاظفار، وأول من قص الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا ؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقارا. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله. قال غيره: وأول من ثرد الثريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل. وروى معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم). قلت: وهذه أحكام يجب بيانها والوقوف عليها والكلام فيها، فأول ذلك " الختان " وما جاء فيه، وهى المسألة: الرابعة - أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن. واختلف في السن التي اختتن فيها، ففي الموطأ عن أبي هريرة موقوفا: (وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش (1) في ج‍: " مطرف ". (2) سيأتي الكلام على البراجم في المسألة العاشرة. (3) سيذكر المؤلف معنى الاستحداد عند المسألة التاسعة. (*)
[ 99 ]
بعد ذلك ثمانين سنة). ومثل هذا لا يكون رأيا، وقد رواه الاوزاعي مرفوعا عن يحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة). ذكره أبو عمر (1). وروي مسندا مرفوعا من غير رواية يحيى من وجوه: (أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم (2). كذا في صحيح مسلم وغيره " ابن ثمانين سنة "، وهو المحفوظ في حديث ابن عجلان وحديث الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عكرمة: اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة. قال: ولم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختون، هكذا قال عكرمة وقاله المسيب بن رافع، ذكره المروزي. و " القدوم " يروي مشددا ومخففا. قال أبو الزناد: القدوم (مشددا): موضع. الخامسة - واختلف العلماء في الختان، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الاسلام التي لا يسع تركها في الرجال. وقالت طائفة: ذلك فرض، لقوله تعالى: " أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ". قال قتادة: هو الاختتان، وإليه مال بعض المالكيين، وهو قول الشافعي. واستدل ابن سريج (3) على وجوبه بالاجماع على تحريم النظر إلى العورة، وقال: لولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون. وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب، والطب ليس بواجب إجماعا، على ما يأتي في " النحل " بيانه إن شاء الله تعالى. وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه الحجاج بن أرطاة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء). والحجاج ليس ممن يحتج به. (1) في ج‍: " ذكره عبد الرزاق ". (2) قال النووي: " رواة مسلم متفقون على تخفيف (القدوم)، ووقع في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه، قالوا: وآلة النجار يقال لها: قدوم بالتخفيف لاغير، وأما القدوم مكان بالشام ففيه التخفيف والتشديد. فمن رواه بالتشديد أراد القرية، ورواية التخفيف تحتمل القرية والالة، والاكثرون على التخفيف وعلى إرادة الالة ". (3) في أ، ح: " ابن شريح ". (*)
[ 100 ]
قلت: أعلى ما يحتج به في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس الاختتان...) الحديث، وسيأتي. وروى أبو داود عن أم عطية أن امرأة كانت تختن النساء بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنهكي (1) فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل). قال أبو داود: وهذا الحديث ضعيف راويه مجهول. وفي رواية ذكرها رزين: (ولا تنهكي فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل). السادسة - فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان. قال الميموني قال لي أحمد: إن ها هنا رجلا ولد له ولد مختون، فاغتم لذلك غما شديدا، فقلت له: إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا ! السابعة - قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الاحبار قال: خلق من الانبياء ثلاثة عشر مختونين: آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن حبيب الهاشمي: هم أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان (نبي أصحاب الرس (2)) ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين. قلت: اختلفت الروايات في النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أبو نعيم الحافظ في " كتاب الحلية " بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا. وأسند أبو عمر في التمهيد حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي (3) العلاف حدثنا محمد ابن أبى السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس: أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه " محمدا ". قال أبو عمر: هذا حديث مسند غريب. قال يحيى بن أيوب: طلبت (1) " لاتنهكى " أي لا تبالغي في استقصاء الختان. (2) في اللسان: " قال الزجاج: يروى أن الرس ديار لطائفة من ثمود، قال ويروى أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج، ويروى أنهم كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أي دسوه فيها حتى مات، ويروى أن الرس بئر، وكل بئر عند العرب رس ". (3) في الاصول: " زياد " والتصويب عن تهذيب التهذيب. (*)
[ 101 ]
هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري. قال أبو عمر: وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا. الثامنة - واختلفوا متى يختن الصبي، فثبت في الاخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا: ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عثرة سنة. وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام. وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع، وأنكر ذلك مالك وقال ذلك من عمل اليهود. ذكره عنه ابن وهب. وقال الليث بن سعد: يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر. ونحوه روى ابن وهب عن مالك. وقال أحمد: لم أسمع في ذلك شيئا. وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أنا يومئذ مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام. واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختتن، وكان عطاء يقول: لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة. وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن، ولا يرى به بأسا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته، قال ابن عبد البر: وعامة أهل العلم على هذا. وحديث بريدة في حج الاغلف لا يثبت. وروي عن ابن عباس وجابر ابن زيد وعكرمة: أن الاغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته. التاسعة - قوله: (وأول من استحد) فالاستحداد استعمال الحديد في حلق العانة. وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى (1) ولى عانته بيده. وروى ابن عباس أن رجلا طلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ إلى عانته قال له: اخرج عنى، ثم طلى عانته بيده. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور، وكان إذا كثر الشعر على عانته حلقه. قال ابن خويز منداد: وهذا يدل على أن الاكثر من فعله كان الحلق وإنما تنور نادرا، ليصح الجمع بين الحديثين. (1) اطلى: يعنى بالنورة وهى حجر يتخذ منه طلاء لازالة الشعر من بواطن الجسد. (*)
[ 102 ]
العاشرة - في تقليم الاظفار. وتقليم الاظفار: قصها، والقلامة ما يزال منها. وقال مالك: أحب للنساء من قص الاظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال. ذكره الحارث ابن مسكين وسحنون عن ابن القاسم. وذكر الترمذي الحكيم في " نوادر الاصول " له (الاصل التاسع والعشرون): حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمر بن بلال الفزاري قال: سمعت عبد الله بن بشر المازني يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا على قخرا بخرا (1) ثم تكلم عليه فأحسن. قال الترمذي: فأما قص الاظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر، وهو مجتمع الوسخ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا. ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله، فلذلك ندبهم إلى قص الاظفار. والاظافير جمع الاظفور، والاظفار جمع الظفر. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته فقال: (وما لي لا أوهم ورفغ (2) أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث). وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا في " أحكام القرآن " له، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال: أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته، فرأى في أظفاري طولا فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء فقال: (يحئ أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث). وأما قوله: (ادفنوا قلاماتكم) فإن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم، فيحق عليه أن يدفنه، كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة. وقد أمر رسول الله (1) اضطربت الاصول في رسم هذه الكلمة، والتصويب عن " نوادر الاصول " وسينقل المؤلف رحمه الله كلام الترمذي عن هذا الحديث. (2) الرفع: الوسخ الذى بين الانملة والظفر. (*)
[ 103 ]
صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب. حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز قال: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: (يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد). فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: (يا عبد الله ما صنعت به ؟). قال: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس. قال: (لعلك شربته ؟) قال نعم. قال: (لم شربت الدم، [ ويل للناس منك (1) و ] ويل لك من الناس). حدثني أبي قال: حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة أشياء من الانسان: الشعر، والظفر، والدم، والحيضة، والسن، والقلفة، والبشيمة. وأما قوله: (نقوا براجمكم) فالبراجم تلك الغضون من المفاصل، وهي مجتمع الدرن (واحدها برجمة) وهو ظهر عقدة كل مفصل، فظهر العقدة يسمى برجمة، وما بين العقدتين تسمى راجبة، وجمعها رواجب، وذلك مما يلى ظهرها، وهي قصبة الاصبع، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الابهام فإن لها برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة. وأما قوله: (نظفوا لثاتكم) فاللثة واحدة، واللثات جماعة، وهي اللحمة فوق الاسنان ودون الاسنان، وهي منابتها. والعمور: اللحمة القليلة بين السنين، واحدها عمر. فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة، ويتأذى الملكان، لانه طريق القرآن، ومقعد الملكين عند نابيه. وروي في الخبر في قوله تعالى: " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (2) " قال: عند نابيه. حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال: سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة، وجاد ما قال، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ (1) زيادة عن كتاب " نوادر الاصول ". (2) راجع ج‍ 17 ص 11. (*)
[ 104 ]
الكلام عن لسانه إلى البراز. وقوله: " لديه " أي عنده، والدي والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد، وكذلك قولهم " لدن " فالنون زائدة. فكأن الاية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب. وأما قوله: (تسننوا) وهو السواك مأخوذ من السن، أي نظفوا السن. وقوله: (لا تدخلوا على قخرا بخرا) فالمحفوظ عندي (فحلا وقلحا). وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال: الاقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها، ولا أعرف القخر. والبخر: الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته، يقال: رجل أبخر، ورجال بخر. حدثنا الجارود قال: حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استاكوا، ما لكم تدخلون علي قلحا). الحادية عشرة - في قص الشارب. وهو الاخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الاطار، ولا يجزه فيمثل نفسه، قاله مالك. وذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب: هذه بدع، وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال ابن خويز منداد قال مالك: أرى أن يوجع من حلقه ضربا. كأنه يراه ممثلا بنفسه، وكذلك بنتفه الشعر، وتقصيره عنده أولى من حلقه. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذا لمة، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر، وإنما حلق وحلقوا في النسك. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم: المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى. قال: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الاحفاء أفضل من التقصير. وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء. وقال أبو بكر الاثرم: رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احفوا الشوارب). قال أبو عمر: إنما في هذا الباب أصلان:
[ 105 ]
أحدهما: أحفوا، وهو لفظ محتمل التأويل. والثاني - قص الشارب، وهو مفسر، والمفسر يقضي على المجمل، وهو عمل أهل المدينة، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب. روى الترمذي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من شاربه ويقول: (إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله). قال: هذا حديث حسن غريب. وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الابط). وفيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى (1)). والاعاجم يقصون لحاهم، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة. ذكر رزين عن نافع أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد، ويأخذ هذين، يعني ما بين الشارب واللحية. وفي البخاري: وكان ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها. قال: هذا حديث غريب. الثانية عشرة - وأما الابط فسنته النتف، كما أن سنة العانة الحلق، فلو عكس جاز لحصول النظافة، والاول أولى، لانه المتيسر المعتاد. الثالثة عشرة - وفرق الشعر: تفريقه في المفرق (2)، وفي صفته صلى الله عليه وسلم: إن انفرقت عقيصته (3) فرق، يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا، يقول: إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه، فإن لم ينفرق تركه وفرة (4) واحدة. خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشئ، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس. قال القاضي عياض: سدل الشعر إرساله، والمراد به ها هنا عند العلماء إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة، والفرق في الشعر سنة، لانه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة (1) إحفاء الشوارب: قص ما طال منها. وإعفاء اللحى: توفيرها. (2) المفرق: وسط الرأس. (3) العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور. (4) الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس. (*)
[ 106 ]
أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره. وقد قيل: إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام، فالله أعلم. الرابعة عشرة - وأما الشيب فنور ويكره نتفه، ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الاسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة). قلت: وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد، فأما تغييره بغير السواد فجائز، لقوله صلى الله عليه وسلم في حق أبي قحافة - وقد جئ به ولحيته كالثغامة (1) بياضا -: (غيروا هذا بشئ واجتنبوا السواد). ولقد أحسن من قال: يسود أعلاها ويبيض أصلها * ولا خير في الاعلى إذا فسد الاصل وقال آخر: يا خاضب الشيب بالحناء تستره * سل المليك له سترا من النار الخامسة عشرة - وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل على سائر الطعام فقال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وفي صحيح البستي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه أعظم للبركة). السادسة عشرة - قلت: وهذا كله في معنى ما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره. ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة " النساء (2) " وحكم الاستنجاء في " براءة (3) " وحكم الضيافة في " هود (4) " إن شاء الله تعالى. وخرج مسلم عن أنس قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الابط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة، قال علماؤنا: هذا تحديد في أكثر المدة، (1) الثغامة: نبت أبيض الثمر والزهر، يشبه بياض الشيب به. (2) راجع ج‍ 5 ص 212. (3) راجع ج‍ 8 ص 262 (4) راجع ج‍ 9 ص 64. (*)
[ 107 ]
والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان. قال العقيلي: في حديثه نظر. وقال أبو عمر فيه: ليس بحجة، لسوء حفظه وكثرة غلطه. وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل، ولكنه قد قال به قوم، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك، وبالله التوفيق. السابعة عشرة - قوله تعالى: " إنى جاعلك للناس إماما " الامام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، لانه يؤم فيه للمسالك، أي يقصد. فالمعنى: جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماما لاهل طاعته، فلذلك اجتمعت الامم على الدعوى فيه - والله أعلم - أنه كان حنيفا. الثامنة عشرة - قوله تعالى: " ومن ذريتي " دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى، أي من ذريتي يا رب فاجعل. وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون ؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الامامة. قال ابن عباس: سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال: " لا ينال عهدي الظالمين ". التاسعة عشرة - قوله تعالى: " ومن ذريتي " أصل ذرية، فعلية من الذر، لان الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم. وقيل: هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. وقرأ زيد بن ثابت " ذرية " بكسر الذال و " ذرية " بفتحها. قال ابن جني أبو الفتح عثمان: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ: أحدها - ذرأ، والثاني - ذرر، والثالث - ذرو، والرابع ذري، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه، وذلك لما ورد في الخبر (أن الخلق كان كالذر) وأما الواو والياء، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا، وذلك قوله تعالى: " فأصبح هشيما تدروه الرياح (1) " وهذا للطفه وخفته، وتلك حال لذر أيضا. قال الجوهري: (1) راجع ج‍ 10 ص 413. (*)
[ 108 ]
ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذرويه ذروا وذريا أي نسفته، ومنه قولهم: ذرى الناس الحنطة، وأذريت الشئ إذا ألقيته، كإلقائك الحب للزرع. وطعنه فأذراه عن ظهر دابته، أي ألقاه. وقال الخليل: إنما سموا ذرية، لان الله تعالى ذرأها على الارض كما ذرأ الزارع البذر. وقيل: أهل ذرية، ذرورة، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء، فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية. والمراد بالذرية هنا الابناء خاصة، وقد تطلق على الاباء والابناء، ومنه قوله تعالى: " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم (1) " يعني آباءهم. الموفية عشرين - قوله تعالى: " لا ينال عهدي الظالمين " اختلف في المراد بالعهد، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة، وقاله السدي. مجاهد: الامامة. قتادة: الايمان. عطاء: الرحمة. الضحاك: دين الله تعالى. وقيل: عهده أمره. ويطلق العهد على الامر، قال الله تعالى: " إن الله عهد إلينا (2) " أي أمرنا. وقال: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم " يعني ألم أقدم إليكم الامر به، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله: " لا ينال عهدي الظالمين " أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا (3) يقيمون عليها، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا (4) إن شاء الله تعالى. وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى: " لا ينال عهدي الظالمين " قال: لا ينال عهد لله في الاخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به، وأكل وعاش وأبصر. قال الزجاج: وهذا قول حسن، أي لا ينال أماني الظالمين، أي لا أؤمنهم من عذابي. وقال سعيد بن جبير: الظالم هنا المشرك. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف " لا ينال عهدي الظالمون " برفع الظالمون. الباقون بالنصب. وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في " عهدي "، وفتحها الباقون. الحادية والعشرون - استدل جماعة من العلماء بهذه الاية على أن الامام يكون من أهل العدل والاحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الامر أهله، على ما تقدم (5) من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم (1) راجع ج‍ 15 ص 34. (2) راجع ج‍ 4 ص 295. (3) في ب، ج‍: " ولا يفتون عليها ". (4) آنفا: الان. وفعلت الشئ آنفا. أي في أول وقت يقرب منى. (5) راجع ج‍ 1 ص 264 طبعة ثانية. (*)
[ 109 ]
فليسوا له بأهل، لقوله تعالى: " لا ينال عهدي الظالمين " ولهذا خرج ابن الزبير والحسين (1) ابن علي رضي الله عنهم. وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة (2). والذي عليه الاكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الامام الجائر أولى من الخروج عليه، لان في منازعته والخروج عليه استبدال الامن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الارض. والاول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه. الثانية والعشرون - قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الاحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الاجماع، أو يخالفوا النصوص. وإنما قلنا ذلك لاجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الائمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لاحكامهم. الثالثة والعشرون - قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الارزاق من الائمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي (1) في ب، ج‍: " والحسن ". (2) الذى في الاصول: " عقبة بن مسلم " وهو تحريف. ويوم الحرة ذكره ابن الاثير في النهاية فقال: " وهو يوم مشهور في الاسلام أيام يزيد بن معاوية لما انتهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المرى في ذى الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد. والحرة هذه: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة وكانت الوقعة بها ". ويراجع تاريخ الطبري وابن الاثير والنجوم الزاهرة في حوادث سنة ثلاث وستين. (*)
[ 110 ]
الامراء اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلص في يده مال مسروق، ومال جيد حلال وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق، إذا لم يكن شئ معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما - وإن كان الورع التنزه عنه - وذلك أن الاموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الامام في مصالح المسلمين. قوله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبرهم مصلى وعهدنا إلى إبرهم وإسمعل أن طهرا بيتى للطائفين والعكفين والركع السجود (125) قوله تعالى: " وإذ جعلنا البيت مثابه للناس وأمنا " فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " جعلنا " بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين، وقد تقدم. " البيت " يعنى الكعبة. " مثابة " أي مرجعا، يقال: ثاب يثوب مثابا ومثابة وثؤوبا وثوبانا. فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه. قال ورقة بن نوفل في الكعبة (1): مثابا لافناء القبائل كلها * تخب إليها اليعملات الذوامل وقرأ الاعمش: " مثابات " على الجمع. ويحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك. وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وطرا، قال الشاعر: جعل البيت مثابا لهم * ليس منه الدهر يقضون الوطر والاصل مثوبة، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب، وانتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لانه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، قاله الاخفش. وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة. (1) الذى في اللسان وشرح القاموس مادة " ثوب " أن البيت لابي طالب. (*)
[ 111 ]
فإن قيل: ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل: ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصدا من الناس، والله تعالى أعلم. الثانية - قوله تعالى: " وأمنا " استدل به أبو حنيقة وجماعة من فقهاء الامصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: " ومن دخله كان آمنا " كأنه قال: آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لان الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا ؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه. وقال أبو حنيفة: من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا. وفي قوله: " وأمنا " تأكيد للامر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه. وسيأتي بيان هذا في " المائدة (1) " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " واتخذوا " قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وهو معطوف على " جعلنا " أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى. وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال: وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا، فعلى الاول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان. وقرأ جمهور القراء " واتخذوا " بكسر الخاء على جهة الامر، قطعوه من الاول وجعلوه معطوفا جملة على جملة. قال المهدوي: يجوز أن يكون معطوفا على " اذكروا نعمتي " كأنه قال ذلك لليهود، أو على معنى إذ جعلنا البيت، لان معناه اذكروا إذ جعلنا. أو على معنى قوله: " مثابة " لان معناه ثوبوا. (1) راجع ج‍ 6 ص 325. (*)
[ 112 ]
الثانية - روى ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. خرجه مسلم وغيره. وخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث... الحديث، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت يا رسول الله: لو صليت خلف المقام ؟ فنزلت هذه الاية: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقلت: يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر ؟ فأنزل الله: " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب (1) "، ونزلت هذه الاية: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (2) "، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: " فتبارك الله أحسن الخالقين (2) "، ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن، فنزلت الاية: " عسى ربه إن طلقكن (3) ". قلت: ليس في هذه الرواية ذكر للاسارى، فتكون موافقة عمر في خمس. الثالثة - قوله تعالى: " من مقام " المقام في اللغة: موضع القدمين. قال النحاس: " مقام " من قام يقوم، يكون مصدرا واسما للموضع. ومقام من أقام، فأما قول زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم (4) * وأندية ينتابها القول والفعل فمعناه: فيهم أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها - أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم. وهذا قول جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة وغيرهم. وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم (5) إلى مقام إبراهيم فقرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فصلى ركعتين قرأ فيهما ب‍ " قل هو الله أحد " و " قل يأيها الكافرون ". وهذا يدل على أن ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات (1) راجع ج‍ 14 ص 227. (2) راجع ج‍ 12 ص 109، 110. (3) راجع ج‍ 18 ص 193. (4) في نسخ الاصل: " وجوهها ". والتصويب عن الديوان. (5) في ب، ج‍، ز: " نفذ ". (*)
[ 113 ]
[ لاهل مكة (1) أفضل و ] يدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، على ما يأتي. وفي البخاري: أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة (2) وعطاء: الحج كله. وعن عطاء: عرفة ومزدلفة والجمار، وقاله الشعبي. النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد. فلت: والصحيح في المقام القول الاول، حسب ما ثبت في الصحيح. وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقول: اللهم اغفر لفلان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا) ؟ فقال: رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام، فقال: (ارجع فقد غفر لصاحبك). قال أبو نعيم: حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري عن محمد بن سوقة، فذكره. قال أبو نعيم: كذا رواه عبد الرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس. ومعنى " مصلى ". مدعى يدعي فيه، قاله مجاهد. وقيل: موضع صلاة يصلى عنده، قاله قتادة. وقيل: قبلة يقف الامام عندها، قاله الحسن. قوله تعالى: " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود " فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وعهدنا " قيل: معناه أمرنا. وقيل: أوحينا. " أن طهرا " " أن " في موضع نصب على تقدير حذف الخافض. وقال سيبويه: إنها بمعنى أي (1) زيادة يقتضيها السياق، وقد اعتمدنا في زيادتها على ما ورد في المسألة السادسة ص 116 من هذا الجزء. (2) هذا الاسم ساقط من ب، ج‍، ز. (*)
[ 114 ]
مفسرة، فلا موضع لها من الاعراب. وقال الكوفيون: تكون بمعنى القول. و " طهرا " قيل معناه: من الاوثان، عن مجاهد والزهري. وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير: من الافات والريب. وقيل: من الكفار. وقال السدي: أبنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجئ مثل قوله: " أسس على التقوى (1) ". وقال يمان: بخراه وخلقاه. " بيتي " أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص: " بيتي " بفتح الياء، والاخرون بإسكانها. الثانية - قوله تعالى: " للطائفين " ظاهره الذين يطفون به، وهو قول عطاء. وقال سعيد بن جبير: معناه للغرباء الطارئين على مكة، وفيه بعد. " وللعاكفين " المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء. وكذلك قوله: " للطائفين ". والعكوف في اللغة: اللزوم والاقبال على الشئ، كما قال الشاعر (2): عكف النبيط يلعبون الفنزجا (3) وقال مجاهد: العاكفون المجاورون. ابن عباس: المصلون. وقيل: الجالسون بغير طواف، والمعنى متقارب. " والركع السجود " أي المصلون عند الكعبة. وخص الركوع والسجود بالذكر لانهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وقد تقدم (4) معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله. الثالثة - لما قال الله تعالى " أن طهرا بيتي " دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة. وإنما خص الكعبة بالذكر لانه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم حرمة، والاول أظهر، والله أعلم. وفي التنزيل " في بيوت أذن الله أن ترفع (5) " وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه (1) راجع ج‍ 8 ص 259. (2) هو العجاج، يصف ثورا. وصدر البيت: * فهن يعكفن به إذا حجا. * (3) الفنزجة والفنزج (بفتح فسكون): رقص العجم إذا أخذ بعضهم يد بعض وهم يرقصون. (4) راجع ج‍ 1 ص 291، 344 طبعة ثانية. (5) راجع ج‍ 12 ص 264. (*)
[ 115 ]
سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا ! أتدري أين أنت ! ؟ وقال حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي مادام لاحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين). الرابعة - استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الاية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت. قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لانه لم يستقبل منها شيئا. وقال مالك: لا يصلي فيه الفرض ولا السنن، ويصلي فيه التطوع، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت. وقال أصبغ: يعيد أبدا. قلت: وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال: (هذه القبلة) وهذا نص. فإن قيل: فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال، نعم بين العمودين اليمانيين. وأخرجه مسلم، وفيه قال: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. قلنا: هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا، كما قال أسامة، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به.
[ 116 ]
فإن قيل: فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورا في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور. وخرجه أبو داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: (قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون). فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة، فكان من أثبت أولى ممن نفى، وقد قال أسامة نفسه: فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي. وقد روى مجاهد عن عبد الله بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة ؟ قال: صلى ركعتين. قلنا: هذا محمول على النافلة، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة، وأما الفرض فلا، لان الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى: " فولوا وجوهكم شطره " على ما يأتي بيانه (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم لما خرج: (هذه القبلة) فعينها كما عينها الله تعالى. ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال: (هذه القبلة). وبهذا يصح الجمع بين الاحاديث، وهو أولى من إسقاط بعضها، فلا تعارض، والحمد لله. الخامسة - واختلفوا أيضا في الصلاة على ظهرها، فقال الشافعي ما ذكرناه. وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت. وقد روي عن بعض أصحاب مالك: يعيدا أبدا. وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر الكعبة فلا شئ عليه. السادسة - واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك: الطواف لاهل الامصار أفضل، والصلاة لاهل مكة أفضل. وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. والجمهور على أن الصلاة أفضل. وفي الخبر: (لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا). وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب (السابق واللاحق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسلو الله صلى الله (1) راجع ص 160 من هذا الجزء. (*)
[ 117 ]
عليه وسلم: (لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا). لم يذكر فيه " وشيوخ ركع ". وفي حديث أبي ذر (الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل). خرجه الاجري. والاخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا أمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126). وفيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " بلدا آمنا " يعني مكة، فدعا لذريته وغيرهم بالامن ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل فاقتلع الطائف من الشام فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسميت الطائف لذلك، ثم أنزلها تهامة، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثمرات، على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم (1) " إن شاء الله تعالى. الثانية - اختلف العلماء في مكة هل صارت حراما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين: أحدهما - أنها لم تزل حرما من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالامن من غيرهم من أهل القرى. ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب. وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات، لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، (1) راجع 9 ص 368 فما بعدها. (*)
[ 118 ]
فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لابراهيم صلى الله عليه وسلم حتى يقال: طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، هذا بعيد جدا. الثاني - أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بعد أن كانت حلالا. احتج أهل المقالة الاولى بحديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة (إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والارض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد (1) شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلي خلاها (2)) فقال العباس: يا رسول الله إلا الاذخر (3) فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: (إلا الاذخر). ونحوه حديث أبي شريح، أخرجهما مسلم وغيره. وفي صحيح مسلم أيضا عن عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لاهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لاهل مكة). قال ابن عطية: " ولا تعارض بين الحديثين، لان الاول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان. والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكان القول الاول من النبي صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه ". وقال الطبري: كانت مكة حراما فلم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها. (1) لا يعضد: لا يقطع. (2) الخلى (مقصور): النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا، واختلاؤه: قطعه. (3) الاذخر (بكسر الهمزة والخاء): حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب، ويحرق بدل الخشب والفحم. والقين: الحداد. (*)
[ 119 ]
الثالثة - قوله تعالى: " وارزق أهله من الثمرات من آمن " تقدم معنى الرزق (1). والثمرات جمع ثمرة، وقد تقدم (2). " من آمن " بدل من أهل، بدل البعض من الكل. والايمان: التصديق، وقد تقدم (3). " قال ومن كفر " " من " في قوله " ومن كفر " في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط والخبر " فأمتعه " وهو الجواب. واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام ؟ فقال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هو من الله تعالى، وقرءوا " فأمتعه " بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء. " ثم أضطره " بقطع الالف وضم الراء، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه سكن الميم وخفف التاء. وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي " فنمتعه قليلا ثم نضطره " بالنون. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هذا القول عن إبراهيم عليه السلام. وقرءوا " فأمتعه " بفتح الهمزة وسكون الميم، " ثم اضطره " بوصل الالف وفتح الراء، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين، وعليه فيكون الضمير في " قال " لابراهيم، وأعيد " قال " لطول الكلام، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين. والفاعل في " قال " على قراءة الجماعة اسم الله تعالى، واختاره النحاس، وجعل القراءة بفتح الهمزة وسكون الميم ووصل الالف شاذة، قال: ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على غيرها، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: " رب اجعل هذا بلدا آمنا " ثم جاء بقوله عزوجل: " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاخر " ولم يفصل بينه بقال، ثم قال بعد: " قال ومن كفر " فكان هذا جوابا من الله، ولم يقل بعد: قال إبراهيم. وأما التفسير فقد صح عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب. وهذا لفظ ابن عباس: دعا إبراهيم عليه السلام لمن آمن دون الناس خاصة، فأعلم الله عزوجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وأنه يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب (1) راجع المسألة الثانية والعشرين ج‍ 1 ص 177. (2) راجع المسألة الرابعة ج‍ 1 ص 229. (3) راجع المسألة الاولى ج‍ 1 ص 162 طبعة ثانية. (*)
[ 120 ]
النار. قال أبو جعفر: وقال الله عزوجل: " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك (1) " وقال جل ثناؤه: " وأمم سنمتعهم (2) ". قال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص المؤمنين، لان الله تعالى قال: " لا ينال عهدي الظالمين ". قوله تعالى: وإذ يرفع إبرهم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127). قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " القواعد: أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء. وقال الكسائي: هي الجدر. والمعروف أنها الاساس. وفي الحديث: (إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام) فقال ابن الزبير: هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام. وقيل: إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها. ابن عباس: وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الارض من تحته. والقواعد واحدتها قاعدة. والقواعد من النساء واحدها قاعد. واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه، فقيل: الملائكة. روي عن جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عزوجل لما قال: " إني جاعل في الارض خليفة " قالت الملائكة: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتا في الارض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضي عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عزوجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لى بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي (1) راجع ج‍ 10 ص 236. (2) راجع ج‍ 9 ص 48. (*)
[ 121 ]
في السماء. قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طورزيتا، وكان ربضه (1) من حراء. قال الخليل: والربض ها هنا الاساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة: ربض. وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال: لما أهبط آدم من الجنة إلى الارض قال له: يا آدم، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الارض، وقبضت له المفازة، فلا يقع قدمه على شئ من الارض إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الارض فأبرز عن أس ثابت على الارض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا. وقد روي في بعض الاخبار: أنه أهبط لادم عليه السلام خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها، فلم تزل باقية حتى قبض الله عزوجل آدم ثم رفعت. وهذا من طريق وهب بن منبه. وفي رواية: أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله فصار في السماء، وهو الذي يدعي البيت المعمور. روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب " منهاج الدين " له، وقال: يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا، ثم قيل له: ابن بقدره، وتحري (2) أن يكون بحياله، فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه. وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صلى الله عليه وسلم ما عاش ثم رفعت، فتتفق هذه الاخبار. فهذا بناء آدم عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام. قال ابن جريح وقال ناس: أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس: إنه قد فعلت، فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الارض. وروي عن علي بن (1) الربض (بضم الراء، وبسكون الباء وضمها): الاساس. وبفتحهما: ما حول المدينة. (2) في أ، ج‍، ز: " ويجوز أن يكون ". (*)
[ 122 ]
أبي طالب رضي الله عنه: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وبعث معه السكينة (1) لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لابراهيم: ابن على موضعي (2) الاساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن، فقال لابنه: يا بني، ابغني حجرا أجعله علما للناس، فجاءه بحجر فلم يرضه، وقال: ابغني غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه، فقال: يا أبة، من جاءك بهذا الحجر ؟ فقال: من لم يكلني إليك. ابن عباس: صالح أبو قبيس (2): يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت: أن ارفعا على تربيعي. فهذا بناء إبراهيم عليه السلام. وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت. روى الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب بن همام أخو عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخبيل وحشا كسائر الوحش، فلما أذن الله لابراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه: (إني معطيكما كنزا ادخرته لكما) ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز. فخرج إلى أجياد - وكانت وطنا - ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه، فلم يبق على وجه الارض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل، فإنما سمي (3) الفرس عربيا لان إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى. وروى عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، قال: أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام. وأما بنيان قريش له فمشهور، وخبر الحية في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا: ربنا، لم ترع ! أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدالك فافعل، فسمعوا (1) السكينة (بفتح فكسر): ريح خجوج، أي سريعة الحر ؟. (2) في ج‍: " ابن على موضع الاساس ". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة. (3) هكذا في جميع النسخ التى بأيدينا. (*)
[ 123 ]
خواتا من السماء - والخوات: حفيف جناح الطير الضخم - فإذا هو بطائر أعظم من النسر، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين، فغرز مخاليبه في قفا الحية، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة (1) فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد. وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة. ذكره عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان عن أبي الطفيل. وذكر عن معمر عن الزهري: حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن، أي القبائل تلي رفعه ؟ حتى شجر بينهم، فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة، فاصطلحوا على ذلك، فأطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا فيه: " أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والارض وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها (2)، مبارك لاهلها في الماء واللبن ". وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالارض حتى بنته قريش. خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر (3) أمن البيت هو ؟ قال: (نعم) قلت: فلم لم يدخلوه [ في البيت (4) ] ؟ قال: (إن قومك قصرت بهم النفقة). قلت: (1) النمرة: كل شملة مخططة من مآزر العرب. (2) الاخشان: الحبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس، والاحمر. (3) الجدر: (بفتح الجيم وإسكا - الدال): حجر الكعبة (بكسر الحاء). (4) الزيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 124 ]
فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال: (فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالارض). وخرج عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: حدثتني خالتي (يعني عائشة) رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالارض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة). وعن عروة عن [ أبيه عن (1) ] عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا حداثة [ عهد (1) ] قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا). وفي البخاري قال هشام بن عروة: يعني بابا. وفي البخاري أيضا: (لجعلت لها خلفين) يعني بابين، فهذا بناء قريش. ثم لما غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه، والاخر يخرج منه، كذا في صحيح مسلم، وألفاظ الحديث تختلف. وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال: لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه (2) قال للناس: اهدموا، قال: فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب. قال مجاهد: فخرجنا إلى مني فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب. قال: وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه، فلما رأوا أنه لم يصبه شئ اجترءوا على ذلك، قال: فهدموا. فلما بناها جعل لها بابين: بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع، وزاد في طولها تسعة أذرع. قال مسلم في حديثه: فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل (1) الزيادة عن صحيح مسلم. (2) كذا في نسخ الاصل. ولمعل تذكير الضمير على بمعنى البيت. (*)
[ 125 ]
مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شئ (1)، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه. في رواية: قال عبد الملك: ما كنت أظن أبا خبيب (يعني ابن الزبير) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث بن عبد الله: بلى، أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا ؟ قال: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه (2) فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لاربك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع). في أخرى: قال عبد الملك: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بني ابن الزبير. فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الاثار. وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وذكر الوافدي: حدثنا معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة يقول،: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب أسعد الحميري، وهو تبع، وهو أول من كسا البيت، وهو تبع الاخر. قال ابن إسحاق: كانت تكسي القباطي (3) ثم كسيت البرد، وأول من كساها الديباج الحجاج. قال العلماء: ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شئ، فإنه مهدي إليها، ولا ينقص منها شئ. روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة (4) لا يألو أن يوجعها. وقال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه. (1) قوله: إنا لسنا... الخ، قال النووي: " يريد بذلك سبه وعيب فعله، يقال: لطخته أي رميته بأمر قبيح ". (2) كان في صحيح مسلم. وفى نسخ الاصل: " تمامه ". (3) القباطى (جمع القبطية القاف): ثياب كتاب بيض رقاق تعمل بمصر، وهى منسوبة إلى القبط على غير قياس. (4) القفد (بفتح فسكون): صفع الرأس ببسط الكف من قبل القفا. (*)
[ 126 ]
قوله تعالى: " ربنا تقبل منا " المعنى: ويقولان " ربنا "، فحذف. وكذلك هي في قراءة أبى وعبد الله بن مسعود: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا ". وتفسير إسماعيل: اسمع يا ألله، لان " إيل " بالسريانية هو الله، وقد تقدم (1). فقيل: إن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه. ذكره الماوردي. قوله تعالى: " إنك أنت السميع العليم " اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب " الاسنى في شرج أسماء الله الحسنى ". قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128). قوله تعالى: " ربنا واجعلنا مسلمين لك " أي صيرنا، و " مسلمين " مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام. والاسلام في هذا الموضع: الايمان والاعمال جميعا، ومنه قوله تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام (2) " ففي هذا دليل لمن قال: إن الايمان والاسلام شئ واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الاية الاخرى: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (3) ". وقرأ ابن عباس وعوف الاعرابي " مسلمين " على الجمع. قوله تعالى: " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولامته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولامته ولهذه الامة. و " من " في قوله: " ومن ذريتنا " للتبعيض، لان الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين. وحكى الطبري: أنه أراد بقوله " ومن ذريتنا " العرب خاصة. قال السهيلي (4): وذريتهما (1) راجع ص 36 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 4 ص 43. (3) راجع ج‍ 17 ص 48. (4) اضطربت الاصول في ذكر كلام السهيلي، وقد ذكر الطبري في تاريخه خبر أولاد إسماعيل (ص 351 قسم أول)، وابن الاثير (ج‍ 1 ص 88) وابن هشام في سيرته (ص 4) طبع أوربا، فيراجع. (*)
[ 127 ]
العرب، لانهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال: قيدر بن نبت بن إسماعيل. أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لان دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم. والامة: الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدي به في الخير، ومنه قوله تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا (1) لله "، وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل: (يبعث أمة وحده) لانه لم يشرك في دينه غيره، والله أعلم. وقد يطلق لفظ الامة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: " إنا وجدنا آباءنا على أمة (2) " أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: " إن هذه أمتكم أمة واحدة (3) ". وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى: " وادكر بعد أمة (4) " أي بعد حين وزمان. ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد. والامة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الامة، أي حسن القامة، قال (5): وإن معاوية الاكرمي * ن ؟ حسان الوجوه طوال الامم وقيل: الامة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم. قوله تعالى: " وأرنا مناسكا " " أرنا " من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين، وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ابن عطية: وينفصل (6) بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين [ كغير المعدي (7) ]، قال حطائط بن يعفر أخو الاسود بن يعفر: أريني جوادا مات هزلا لانني (8) * أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي " أرنا " بسكون الراء في القرآن، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة (1) راجع ج‍ 10 ص 197. (2) راجع ج‍ 16 ص 74. (3) راجع ج‍ 11 ص 338. (4) راجع ج‍ 9 ص 201. (5) القائل هو الاعشى، كما في اللسان. (6) قال أبو حيان في البحر: " وقوله: ينفصل... الخ. يعنى أنه قد استعمل في اللسان العربي متعديا إلى إثنين ومعه همزة النقل كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة. (7) زيادة عن ابن عطية. (8) ويروى " لعلى "، ولان بمعنى لعل. (*)
[ 128 ]
الراء، والباقون بكسرها، واختاره أبو عبيد. وأصله أرئنا بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر: أرنا إداوة عبد الله نملؤها * من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء، وأبو عمر وطلب الخفة. وعن شجاع بن أبي نصر (1) وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين: هذا، والاخر " ما ننسخ من آية أو ننسأها " مهموزا. قوله تعالى: " مناسكا " يقال: إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا. واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا، فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي. وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح. وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومسك. والناسك: العابد. قال النحاس: يقال نسك ينسك، فكان يجب أن يقال على هذا: منسك، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل. وعن زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال: أي رب، قد فرغت فأرنا مناسكنا، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال له: أحصبه، فحصبه بسبع حصيات، ثم الغد ثم اليوم الثالث، ثم علا ثبيرا (2) فقال: يا عباد الله، أجيبوا، فسمع دعوته من بين الابحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال: لبيك، اللهم لبيك، قال: ولم يزل على وجه الارض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك لاهلكت الارض ومن عليها. وأول من أجابه أهل اليمن. وعن أبي مجلز قال: لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف (1) في أ، ب، ز: " أبى نصرة ". وفى ج‍، ح: " أبى بصرة ". والتصويب عن طبقات الفتراء وتهذيب التهذيب. (2) ثبير: جبل بين مكة ومنى وهو على يمين الذاهب إلى مكة. (*)
[ 129 ]
بالبيت - قال: وأحسبه قال: " والصفا والمروة - ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لابراهيم: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتى به جمعا (1) فقال: ها هنا يجمع الناس الصلوات. ثم أتى به عرفات فقال: عرفت ؟ فقال نعم، فمن ثم سمي عرفات. وروي أنه قال له: عرفت، عرفت، عرفت ؟ أي مني والجمع وهذا، فقال نعم، فسمي ذلك المكان عرفات. وعن خصيف بن عبد الرحمن أن مجاهدا حدثه قال: لما قال إبراهيم عليه السلام: " وأرنا مناسكنا " أي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله بنص القرآن، ثم خرج به جبريل، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها، فقال له جبريل: كبر وارمه، فارتفع إبليس إلى الوسطى، فقال جبريل: كبر وارمه، ثم في الجمرة القصوى كذلك. ثم انطلق به إلى المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال له: هل عرفت ما أريتك ؟ قال نعم، فسميت عرفات لذلك فيما قيل، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أقول ؟ قال قل: يأيها الناس، أجيبوا ربكم، ثلاث مرار، ففعل، فقالوا: لبيك، اللهم لبيك. قال: فمن أجاب يومئذ فهو حاج. وفي رواية أخرى: أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته. وقال محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعا، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام، يستلمان الاركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين. قال: فقام جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى والمزدلفة. قال: (1) جمع (بفتح فسكون): المزدلفة. (*)
[ 130 ]
فلما دخل مني وهبط من العقبة تمثل له إبليس...، فذكر نحو ما تقدم. قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الاركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام. وقال: حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق، وحجته بعد ذلك الانبياء والامم. وروى محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان النبي من الانبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر). وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم. وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الجحر، وقبر شعيب مقابل الحجر الاسود. وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين. قوله تعالى: " وتب علينا " اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: " وتب علينا " وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب. قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا. وقد مضى الكلام في عصمة الانبياء (1) عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام، وتقدم القول في معنى قوله: " إنك أنت التواب الرحيم " فأغنى عن (2) إعادته. قوله تعالى: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم ءايتك ويعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129). (1) يراجع ج‍ 1 ص 30 طبعة ثانية. (2) يراجع ج‍ 1 ص 325 طبعة ثانية. (*)
[ 131 ]
قوله تعالى: " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي قراءة أبي " وابعث في آخرهم رسولا منهم ". وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: (نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى). و " رسولا " أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة. قال ابن الانباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرسال ورسلة، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمه أرسال. يقال: جاء القوم أرسالا، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لانه يرسل من الضرع. قوله تعالى: " ويعلمهم الكتاب والحكمة " " الكتاب " القرآن و " الحكمة ": المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقاله ابن زيد. وقال قتادة: " الحكمة " السنة وبيان الشرائع. وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب. ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الامور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه. " ويزكيهم " أي يطهرهم من وضر (1) الشرك، عن ابن جريج وغيره. والزكاة: التطهير، وقد تقدم (2). وقيل: إن الايات تلاوة ظاهر الالفاظ. والكتاب معاني الالفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم، والله تعالى أعلم. " والعزيز " معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب. وقال ابن كيسان: معناه الذي لا يعجزه شئ، دليله: " وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في الارض (3) ". الكسائي: " العزيز " الغالب، ومنه قوله تعالى: " وعزني في الخطاب (4) ". وفي المثل: " من عز بز " أي من غلب سلب. وقيل: " العزيز " الذي لا مثل له، بيانه " ليس كمثله شئ (5) ". وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب " الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى " وقد تقدم معنى " الحكيم (6) " والحمد الله. (1) الوضر: الوسخ. (2) يراجع ج‍ 1 ص 343 طبعة ثانية. (3) راجع ج‍ 14 ص 361. (4) راجع ج‍ 15 ص 174. (5) راجع ج‍ 16 ص 8. (6) راجع المسألة الثالثة ج‍ 1 ص 287 طبعة ثانية. (*)
[ 132 ]
قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبرهم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفينه في الدنيا وإنه الاخرة لمن الصلحين (130). قوله تعالى: " ومن يرغب عم ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " " من " استفهام في موضع رفع بالابتداء، و " يرغب " صلة " من ". " إلا من سفه نفسه " في موضع الخبر. وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس. والمعنى: يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع. " إلا من سفه نفسه " قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى. قال الزجاج: " سفه " بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد أن " سفه " بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة. وقال الاخفش: " سفه نفسه " أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها. وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه، حكاه المهدوي، والاول ذكره الماوردي. فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد وثعلب. وحكى الكسائي عن الاخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت " في " فانتصب. قال الاخفش: ومثله " عقدة النكاح (1) "، أي على عقدة النكاح. وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم: ضرب فلان الظهر والبطن، أي في الظهر والبطن. الفراء: هو تمييز. قال ابن بحر: معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والايات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شئ، فيعلم به توحيد الله وقدرته. قلت: وهذا هو معنى قول الزجاج، فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الاطراف، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما، وهذا معنى قوله تعالى: " (1) أي في قوله تعالى: " ولا تعزموا عقدة المكاح " راجع ج‍ 3 ص 192. (*)
[ 133 ]
" وفي أنفسكم أفلا تبصرون " أشار إلى هذا الخطابى رحمه الله تعالى. وسيأتي له مزيد بيان في سورة " والذاريات (1) " إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الاية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها، وهذا كقوله: " ملة أبيكم إبراهيم (2) "، " أن اتبع ملة إبراهيم (3) ". وسيأتي بيانه. قوله تعالى: " ولقد اصطفيناه في الدنيا " أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الادناس والاصل في " اصطفيناه " اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها (4) مع الصاد في الاطباق. واللفظ مشتق من الصفوة، ومعناه تخير الاصفى. قوله تعالى: " وإنه في الاخرة لمن الصالحين " الصالح في الاخرة هو الفائز. ثم قيل: كيف جاز تقديم " في الاخرة " وهو داخل في الصلة، قال النحاس: فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الاخرة، فتكون الصلة قد تقدمت، ولاهل العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الاخرة، ثم حذف. وقيل: " في الاخرة " متعلق بمصدر محذوف، أي صلاحه في الاخرة. والقول الثالث: أن " الصالحين " ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنه اسم قائم بنفسه، كما يقال الرجل والغلام. قلت: وقول زابع أن المعنى وإنه في عمل الاخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضاف. وقال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والاخرة وإنه لمن الصالحين. وروى حجاج بن حجاج - وهو حجاج الاسود، وهو أيضا حجاج الاحول المعروف بزق العسل - قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وأرض عنا. (1) راجع ج‍ 17 ص 40. (2) راجع ج‍ 12 ص 101. (3) راجع ج‍ 10 ص 198. (4) في أ: " لتشابهها... ". (*)
[ 134 ]
قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العلمين (131). العامل في " إذ " قوله: " اصطفيناه " أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم. وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. قال ابن كيسان والكلبي: أي أخلص دينك لله بالتوحيد. وقيل: اخضع واخشع. وقال ابن عباس: إنما قال له ذلك حين خرج من السرب (1)، على ما يأتي ذكره في " الانعام (2) ". والاسلام هنا على أتم وجوهه. والاسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمستسلم. وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لان من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله. وليس كل من أسلم آمن بالله، لانه قد يتكلم فزعا (3) من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الاسلام هو الايمان، فكل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لقوله: " إن الدين عند الله الاسلام (4) " فدل على أن الاسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن. ودليلنا قوله تعالى: " قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا (5) " الاية. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له: أعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو مسلم) الحديث، خرجه مسلم، فدل على أن الايمان ليس الاسلام، فإن الايمان باطن، والاسلام ظاهر، وهذا بين. وقد يطلق الايمان بمعنى الاسلام، والاسلام ويراد به الايمان، للزوم أحدهما الاخر وصدوره عنه، كالاسلام الذي هو ثمرة الايمان ودلالة على صحته، فاعلمه. وبالله التوفيق. قوله تعالى: ووصى بها إبرهم بنيه ويعقوب يبنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132). (1) السرب (بالتحريك): الحفير، وبيت تحت الارض. (2) راجع 7 ص 24. (3) في ج‍: " فرقا ". (4) راجع ج‍ 4 ص 43. (5) راجع ج‍ 16 ص 348. (*)
[ 135 ]
قوله تعالى: " ووصى بها إبراهيم " أي بالملة، وقيل: بالكلمة التي هي قوله: " أسملت لرب العالمين " وهو أصوب، لانه أقرب مذكور، أي قولوا أسلمنا. ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرئ بهما. وفي مصحف عبد الله " ووصى "، وفي مصحف عثمان " وأوصى " وهي قراءة أهل المدينة والشام. الباقون " ووصى " وفيه معنى التكثير. " وإبراهيم " رفع بفعله، " ويعقوب " عطف عليه، وقيل: هو مقطوع مستأنف، والمعنى: وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه. وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع. وقيل: كان له سنتان، وقيل: كان له أربع عشرة سنة، والاول أصح، على ما يأتي في سورة " إبراهيم (1) " بيانه إن شاء الله تعالى: وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة. وقيل: مائة وثلاثون. وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة. وهو الذبيح في قول. وإسحاق أمه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الاصح، على ما يأتي بيانه في سورة " والصافات (2) " إن شاء الله. ومن ولده الروم واليونان والارمن ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالارض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. ثم لما توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ (3)، ثم توفي عليه السلام. وكان بين وفاته وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود ينقصون من ذلك نحوا من أربعمائة سنة. وسيأتي ذكر أولاد يعقوب في سورة " يوسف (4) " إن شاء الله تعالى. وقرأ عمرو بن فائد الاسواري وإسماعيل بن عبد الله المكي: " ويعقوب " بالنصب عطفا على (1) راجع ج‍ 9 ص 368. (2) راجع ج‍ 15 ص 99. (3) كذا وردت هذه الاسماء في نسخ الاصل. والذى في كتاب الرسل والملوك لابن جرير الطبري قسم أول ص 345 طبع أوربا: " يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر ". وفى تاريخ ابن الاثير ج‍ 1 ص 87 طبع أوربا: " نفشان، ومران، ومديان، ومدن، ونشق، وسرح ". (4) راجع ج‍ 9 ص 130. (*)
[ 136 ]
" بنيه "، فيكون يعقوب داخلا فيمن أوصى. قال القشيري: وقرئ " يعقوب " بالنصب عطفا على " بنيه " وهو بعيد، لان يعقوب لم يكن فيما بين أولاد إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأن (1) يعقوب أوصى بنيه أيضا كما فعل إبراهيم. وسيأتي تسمية أولاد يعقوب إن شاء الله تعالى. قال الكلبي: لما دخل يعقوب إلى مصر رآهم يعبدون الاوثان والنيران والبقر، فجمع ولده وخاف عليهم وقال: ما تعبدون من بعدي ؟ ويقال: إنما سمي يعقوب لانه كان هو والعيص توأمين، فخرج من بطن أمه آخذا بعقب أخيه العيص. وفي ذلك نظر، لان هذا اشتقاق عربي، ويعقوب اسم أعجمي، وإن كان قد وافق العربية في التسمية به كذكر الخجل (2). عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الارض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده. قوله تعالى: " يا بنى " معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود والضحاك. قال الفراء: ألغيت أن لان التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها. قال: وقول النحويين إنما أراد " أن " فألغيت ليس بشئ. النحاس: " يا بني " نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها، لانها لو سكنت لالتقى ساكنان، ومثله " بمصرخي (3) ". " إن الله " كسرت " إن " لان أوصى وقال واحد. وقيل: على إضمار القول. " اصطفى " اختار. قال الراجز: يا بن ملوك ورثوا الا ملاكا * خلافة الله التي أعطاكا * لك اصطفاها ولها اصطفاكا * " لكم الدين " أي الاسلام، والالف واللام في " الدين " للعهد، لانهم قد كانوا عرفوه. " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " إيجاز بليغ. والمعنى: الزموا الاسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه (1) في أ، ب، ز: " بل إن ". (2) الحجل (بالتحريك): طائر على قدر الحمام كالقطا، أحمر المنقار والرجلين، ويسمى دجاج البر. ويسمى الذكر منه يعقوب وجمعه يعاقب ويعاقيب. (3) راجع ج‍ 9 ص 357. (*)
[ 137 ]
حتى، تموتوا. فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الامر دائبا لازما. و " لا " نهي " تموتن " في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. " إلا أنتم مسلمون " ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون. قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله أآبائك إبرهم وإسمعيل وإسحق إلها وحدا ونحن له مسلمون (133). قوله تعالى: " أم كنتم شهداء " " شهداء " خبر كان، ولم يصرف لان فيه ألف التأنيث، ودخلت لتأنيث الجماعة كما تدخل الهاء. والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه، وأنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم، وقال لهم على جهة التوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون !. و " أم " بمعنى بل، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب. والعامل في " إذ " الاولى معنى الشهادة، و " إذ " الثانية بدل من الاولى. و " شهداء " جمع شاهد أي حاضر. ومعنى " حضر يعقوب الموت " أي مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا. وعبر عن المعبود ب‍ " ما " ولم يقل من، لانه أراد أن يختبرهم، ولو قال " من " لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال " ما ". وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالاوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما يعبدون من هذه. ومعنى " من بعدي " أي من بعد موتي. وحكي أن يعقوب حين خيركما تخير الانبياء اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدوا وقالوا: " نعبد إلهك " الاية. فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى.
[ 138 ]
قوله تعالى: " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " " إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " في موضع خفض على البدل، ولم تنصرف لانها أعجمية. قال الكسائي: وإن شئت صرفت " إسحاق " وجعلته من السحق، وصرفت " يعقوب " وجعلته من الطير. وسمى الله كل واحد من العم والجد أبا، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لانه أكبر من إسحاق. و " إلها " بدل من " إلهك " بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية. وقيل: " إلها " حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لان الغرض إثبات حال الوحدانية. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وأبو رجاء العطاردي " وإله أبيك " وفيه وجهان: أحدهما - أن يكون أفرد وأراد إبراهيم وحده، وكره أن يجعل إسماعيل أبا لانه عم. قال النحاس: وهذا لا يجب، لان العرب تسمي العم أبا. الثاني - على مذهب سيبويه أن يكون " أبيك " جمع سلامة، حكى سيبويه أب وأبون وأبين، كما قال الشاعر: * فقلنا أسلموا إن أخوكم (1) * وقال آخر: فلما تبين أصواتنا * بكين وفديننا بالابينا (2) قوله تعالى: " ونحن له مسلمون " ابتداء وخبر، ويحتمل أن يكون في موضع الحال، والعامل " نعبد ". قوله تعالى: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (134). (1) الشاهد فيه " أخوكم " فإنه جمع بالواو والنون وحذفت النون للاضافة ليصح الاخبار به عن ضمير الجمع. وتمام البيت: * فقد سلمت من الاحن الصدور * وصف نساء سبين فوفد عليهن من قومهن من يفاديهن فبكين إليهم وفدينهم بآبائهن سرورا بوفودهم عليهن. (عن شرح الشواهد). (2) راجع خزانة الادب في الشاهد الثامن والعشرين بعد الثلثمائة. (*)
[ 139 ]
قوله تعالى: " تلك أمة قد خلت " " تلك " مبتدأ، و " أمة " خبر، " قد خلت " نعت لامة، وإن شئت كانت خبر المبتدأ، وتكون " أمة " بدلا من " تلك ". " لها ما كسبت " " ما " في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة على قول الكوفيين. " ولكم ما كسبتم " مثله، يريد من خير وشر. وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والاي في القرآن بهذا المعنى كثيرة. فالعبد مكتسب لافعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط التكليف. وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وإنه كالنبات الذي تصرفه الرياح. وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وإن العبد يخلق أفعاله. قوله تعالى: " ولا تسئلون عما كانوا يعملون " أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، وسيأتي (1). قوله تعالى: وقالوا كونوا هودا أو نصرى تهتدوا قل بل ملة إبرهم حنيفا وما كان من المشركين (135). قوله تعالى: " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " دعت كل فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال: " بل ملة " أي قل يا محمد: بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة. وقيل: المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا. وقرأ الاعرج وابن أبي عبلة: " بل ملة " بالرفع، والتقدير بل الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و " حنيفا " مائلا عن الاديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وهو في موضع نصب على الحال، قاله الزجاج. أي بل نتبع ملة إبراهيم في هذه الحالة. وقال علي بن سليمان: هو منصوب على أعني، والحال خطأ، لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة. وسمي إبراهيم حنيفا لانه (1) راجع ج‍ 7 ص 157. (*)
[ 140 ]
حنف إلى دين الله وهو الاسلام. والحنف: الميل، ومنه رجل حنفاء، ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الاحنف: والله لولا حنف برجله * ما كان في فتيانكم بن مثله وقال الشاعر: إذا حول الظل العشي رأيته * حنيفا وفي قرن الضحى يتنصر أي الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، والمشرق بالغداة، وهو قبلة النصارى. وقال قوم: الخنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته. وسمي المعوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم. قوله تعالى: قولوآ ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبرهم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) قوله تعالى: " قولوا آمنا بالله " خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل) الاية. وقال محمد بن سيربن: إذا قيل لك أنت مؤمن ؟ فقل: " آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " الاية. وكره أكثر السلف أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، وسيأتي بيانه في " الانفال (1) " إن شاء الله تعالى. وسئل بعض المتقدمين عن رجل قيل له: أتؤمن بفلان النبي، فسماه باسم لم يعرفه، فلو قال نعم، فلعله لم يكن نبيا، فقد شهد بالنبوة لغير نبي، ولو قال لا، فلعله نبي، فقد جحد نبيا من الانبياء، فكيف يصنع ؟ فقال: ينبغي أن يقول: إن كان نبيا فقد آمنت به. والخطاب في هذه الاية لهذه الامة، علمهم الايمان. قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1) راجع ج‍ 7 ص 367. (*)
[ 141 ]
فسألوه عمن يؤمن به من الانبياء، فنزلت الاية. فلما جاء ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به. قوله تعالى: " وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط " جمع إبراهيم براهيم، وإسماعيل سماعيل، قاله الخليل وسيبويه، وقاله الكوفيون، وحكوا براهمة وسماعلة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط، لان الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع. وأجاز أحمد بن يحيى براه، كما يقال في التصغير بريه. وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون أساحقة وأساحق، وكذا يعقوب ويعاقيب، ويعاقبة ويعاقب. قال النحاس: فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال أساريل، وحكى الكوفيون أسارلة وأسارل. والباب في هذا كله أن يجمع مسلما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون ويعقوبون، والمسلم لا عمل فيه. والاسباط: ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط. والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسموا الاسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السبط (بالتحريك) وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سبطة. قال أبو إسحاق الزجاج: ويبين لك هذا ما حدثنا به محمد بن جعفر الانباري قال حدثنا أبو نجيد (1) الدقاق قال حدثنا الاسود بن عامر قال حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل الانبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم. ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب. والسبط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد. وشعر سبط وسبط: غير جعد. لا نفرق بين أحد منهم " قال الفراء: أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى. (1) كذا في ج‍ وتفسير ابن كثير في هذا الموضع. وفى سائر الاصول: " أبو مجيد " بالميم. (*)
[ 142 ]
قوله تعالى: فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137). قوله تعالى: " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا " الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الايمانين، وقيل (1): إن الباء زائدة مؤكدة. وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري: " فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا " وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، ف‍ " مثل " زائدة كما هي في قوله: " ليس كمثله شئ (2) " أي ليس كهو شئ. وقال الشاعر (3): * فصيروا مثل كعصف مأكول * وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا: بالذي آمنتم به. تابعه على بن نصر الجهضيمي عن شعبة، ذكره البيهقي. والمعنى: أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الانبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين (4) إلى الشقاق " فسيكفيكهم الله ". وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا: ويحتمل أن تكون الكاف في قوله: " ليس كمثله شئ " زائدة. قال: والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شئ ذهب إليه للمبالغة في نقي التشبيه عن الله عز وجل. وقال ابن عطية: هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول. وقد قيل: إن الباء بمعنى على، والمعنى: فإن آمنوا على مثل إيمانكم. وقيل: " مثل " على بابها أي بمثل المنزل، دليله قوله: " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب (5) " وقوله: " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم (6) ". (1) هذه الحملة من تمام القول الاول وليست قولا آخر كما يتبادر من السياق. (2) راجع ج‍ 16 ص 8 (3) هو حميد الارقط، وصف قوما استؤصلوا فشبههم بالععصف الذى أكل حبه. والعصف التبن. (عن شرح الشواهد). (4) في ج‍: " عن التببين ". وفى ب، ز: " عن التدين ". (5) راجع ج‍ 16 ص 13. (6) راجع ج‍ 13 ص 351. (*)
[ 143 ]
قوله تعالى: " وإن تولوا " أي عن الايمان " فإنما هم في شقاق " قال زيد بن أسلم: الشقاق المنازعة. وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي. وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه. قال الشاعر: إلى كم تقتل العلماء قسرا * وتفجر بالشقاق وبالنفاق (1) وقال آخر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم * بغاة ما بقينا في شقاق وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه. قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله " أي فسيكفي الله رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير. والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان. ويجوز في غير القرآن: فسيكفيك [ إياهم (2) ]. وهذا الحرف " فسيكفيكهم الله " هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك. و " السميع " لقول كل قائل " العليم " بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة (3) مكتوب بين كتفيها " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم "، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة ؟ قال: بشر يا أمير المؤمنين قال: وكيف ذاك ؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره ! فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته. (1) في أ: "... يقتل... ويفجر... " بالياء. (2) زيادة من إعراب القرآن للنحاس. (3) الدراعة والمدرع: جبة مشوقة المقدم. (*)
[ 144 ]
قوله تعالى: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عبدون (138). فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " صبغة الله " قال الاخفش وغيره: دين الله، وهو بدل من " ملة ". وقال الكسائي: وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الاغراء أي ألزموا. ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله. وروى شيبان عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الاسلام. قال الزجاج: ويدلك على هذا أن " صبغة " بدل من " ملة ". وقال مجاهد: أي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال أبو إسحاق الزجاج: وقول مجاهد هذا يرجع إلى الاسلام، لان الفطرة ابتداء الخلق، وابتداء ما خلقوا عليه الاسلام. وروي عن مجاهد والحسن وأبي العالية وقتادة: الصبغة الدين. وأصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم. وقال ابن عباس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك ليطهروه به مكان الختان، لان الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا: الان صار نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال: " صبغة الله " أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الاسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. وقال بعض شعراء ملوك همدان. وكل أناس لهم صبغة * وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أبناءنا * فأكرم بصبغتنا في الصبغ وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الاسلام، بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي. قلت: وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا، وهى المسألة:
[ 145 ]
الثانية - لان معنى " صبغة الله " غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي (1) أسر فمر به النبي صلى الله عليه وسلم يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط (2) أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسن إسلام صاحبكم). وخرج أيضا عن قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر. ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبد الحق. وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل. وقال الجوهري: " صبغة الله " دينه. وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء، قاله الفراء. ونحن له عابدون " ابتداء وخبر. قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعملنا ولكم أعملكم ونحن له مخلصون (139). قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لانا أبناء الله وأحباؤه. وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولانا لم نعبد الاوثان. فمعنى الاية: قل لهم يا محمد، أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم: " أتحاجوننا " أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي ثأثير لقدم الدين. ومعنى " في الله " أي في دينه والقرب منه والحظوة له (3). وقراءة الجماعة: " أتحاجوننا ". وجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لان الثاني كالمنفصل. وقرأ ابن محصين " أتحاجونا " بالادغام لاجتماع المثلين. قال النحاس: وهذا (1) ثمامة الحنفي هو ثمامة بن أثال المتقدم. (2) الحائط: البستان من النخل إذا كان عليه جدار. (3) كذا في الاصول، ولعل صوابه: " والحظوة عنده ". (*)
[ 146 ]
جائز إلا أنه مخالف للسواد. ويجوز " أتحاجون " بحذف النون الثانية، كما قرأ نافع " فبم تبشرون (1) " قوله تعالى: " ونحن له مخلصون " أي مخلصون العبادة، وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم !. والاخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شئ ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شئ). رواه الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره، خرجه الدارقطني. وقال رويم: الاخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين ولا حظا من الملكين. وقال الجنيد: الاخلاص سر بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله. وذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سألت جبريل عن الاخلاص ما هو فقال سألت رب العزة عن الاخلاص ما هو قال سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي). قوله تعالى: أم تقولون إن إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصرى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهدة عنده من الله وما الله بغفل عما تعملون (140). قوله تعالى: " أم تقولون " بمعنى قالوا (2). وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " تقولون " بالتاء وهي قراءة حسنة، لان الكلام متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الانبياء كانوا على دينكم، فهي أم المتصلة، وهي على قراءة من قرأ بالياء منقطعة، فيكون (1) راجع ج‍ 10 ص 35. (2) هذا القول بأن " أم " منقطعة. (*)
[ 147 ]
كلامين وتكون " أم " بمعنى بل. " هودا " خبر كان، وخبر " إن " في الجملة. ويجوز في غير القرآن رفع " هودا " على خبر " إن " وتكون كان ملغاة، ذكره النحاس. قوله تعالى: قل أأنتم أعلم أم الله " تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى. فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى. قوله تعالى: " ومن أظلم " لفظه الاستفهام، والمعنى: لا أحد أظلم. " ممن كتم شهادة " يريد علمهم بأن الانبياء كانوا على الاسلام. وقيل: ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة، والاول أشبه بسياق الاية. " وما الله بغافل عما تعملون " وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم. والغافل: الذي لا يفطن للامور إهمالا منه، مأخوذ من الارض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة. وناقة غفل: لا سمة بها. ورجل غفل: لم يجرب الامور. وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر. غفلت عن الشئ غفلة وغفولا، وأغفلت الشئ: تركته على ذكر منك. قوله تعالى: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (141) كررها لانها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الانبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها. قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ماولهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (142). فيه إحدى عشرة مسألة الاولى - قوله تعالى: " سيقول السفهاء من الناس " أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ما ولاهم. و " سيقول " بمعنى قال، جعل المستقبل
[ 148 ]
موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله: " من الناس " لان السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من " السفهاء " جميع من قال: " ما ولاهم ". والسفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم (1). والنساء سقائه. وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب: الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي: المنافقون. الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير. وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم ! واستهزءوا بالمسلمين. و " ولاهم " يعني عدلهم وصرفهم. الثانية - روى الائمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء (2) في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر (3) وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: " وما كان الله ليضيع إيمانكم "، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح. وقيل: نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك (1) يراجع ج‍ 1 ص 205 طبعة ثانية. (2) قباء (بالضم): قرية على ميلين من المدينة على يسار لقاصد إلى مكة بها أثر بننيان كثير، وهناك مسجد التقوى. (عن معجم ياقو ت). (3) رواية البخاري كما في صحيحه: " وإنه صلى - أو صلاها - صلاة العصر... ". (*)
[ 149 ]
المسجد مسجد القبلتين. وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة. وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة (1) بنت أسلم وكانت من المبايعات، قالت: كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة - أو قال: البيت الحرام - فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال. وقيل: إن الاية نزلت في غير صلاة، وهو الاكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله أعلم. وروى أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الاية: " قد نرى تقلب وجهك في السماء " حتى فرغ من الاية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا نعما (2) فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لابي سعيد بن المعلي غير هذا الحديث، وحديث: " كنت أصلى " في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم (3). الثالثة - واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا، قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت: " قد نرى تقلب وجهك في السماء " الاية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة (1) في كتاب الاستيعاب والقاموس: " نولة " بالنون، وقال صاحب القاموس: " أو هي كجهينة ". وقد ذكرت في كتاب الاصابة مصغرة في حرفي التاء والنون، وهى بالنون رواية إسحاق بن إدريس عن جعفر بن محمود، وبالتاء رواية إبراهيم بن حمزة، قال صاحب الاصابة: " وهى أوثق ". (2) هذه الكلمة ساقطة من أ - والنعم - بفتحتين -: واحد الانعام، الابل والشاء أو الابل خاصة، يذكر ويؤنث. (3) يراجع ج‍ 1 ص 108 طبعة ثانية. (*)
[ 150 ]
اثنتين. وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة الثلاثاء للنصف من شعبان. الرابعة - واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله (1) عكرمة وأبو العالية. الثاني - أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري. وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لانهم ألفوا الكعبة. الثالث - وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " الاية. الخامسة - واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي. قال غيره: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه [ إلى ] قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لانها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس. وقيل: لانها كانت أدعى للعرب إلى الاسلام، وقيل: مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية (1) في الاصول: " وقال ". (*)
[ 151 ]
الرياحي أنه قال: كانت (1) مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الانبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين. السادسة - في هذه الاية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الامة إلا من شذ، كما تقدم (2). وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل. السابعة - ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: " كنت عليها " بمعنى أنت عليها. الثامنة - وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الاتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بدليل الاجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون. وأما قصة أهل قباء (1) العبارة هنا غبر واضحة. والذى في تفسير الطبري (ج 2 ص 21 طبع بولاق): "... قال الربيع: إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال: إن موسى عليه السلام كان يصلى إلى صخرة بيت المقدس، فقال أبو العالية: كان يصلى عند الصخرة إلى البيت الحرام، قال قال: فبيني وبينك مسجد صالح فإنه نحنه من الجبل، قال أبو العالية: قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام، قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذى القرنين وقبلته إلى الكعبة ". (2) عند قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها " ص 61 من هذا الجزء. (*)
[ 152 ]
وولاة النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه. التاسعة - وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الاول، خلافا لمن قال: إن الحكم الاول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والاول أصح، لان أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الاتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة. فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لان الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبي مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض (1)، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني. قلت: وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي - رحمهما الله - وغيرهما. وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وسيأتي. العاشرة - وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولانه ورسله آحادا للافاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الاوامر والنواهي. (1) القراض (بكسر القاف) عند المالكية هو ما يسمى بالمضاربة عند الحنفية، وهو إعطاء المقارص (بكسر الراء وهو رب المال) المقارض (بفتح الراء وهو العامل) مالا ليتجر به على أن يكون له جزء معلوم من الربح. (*)
[ 153 ]
الحادية عشرة - وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شئ وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: " اليوم أكملت لكم دينكم (1) ". قوله تعالى: " قل لله المشرق والمغرب " أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم. قوله تعالى: " يهدى من يشاء " إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الامة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى أعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم (2). قوله تعالى: وكذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن يتقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمنكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143). فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وكذلك جعلنا كم أمة وسطا " المعنى: وكما أن الكعبة وسط الارض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الانبياء وفوق الامم. والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الاشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال: (عدلا). قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل: " قال أوسطهم (3) " أي أعدلهم وخيرهم. وقال زهير: هم وسط يرضى الانام بحكمهم * إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم (1) راجع ج‍ 6 ص 61. (2) ج‍ 1 ص 147. (3) ج‍ 18 ص 244. (*)
[ 154 ]
آخر: أنتم أوسط حي علموا * بصغير الامر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن في الامور فرطا * لا تسألن إن سألت شططا * وكن من الناس جميعا وسطا * ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلا وماء. ولما كان الوسط مجانبا للغلق والتقصير كان محمودا، أي هذه الامة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم. وفي الحديث: (خير الامور أوسطها). وفيه عن علي رضي الله عنه: " عليكم (1) بالنمط الاوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل ". وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شئ. والوسط (بسكون السين) الظرف، تقول: صليت وسط القوم. وجلست وسط الدار (بالتحريك) لانه اسم. قال الجوهري: وكل موضع صلح فيه " بين " فهو وسط، وإن لم يصلح فيه " بين " فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه. الثانية - قوله تعالى: " لتكونوا " نصب بلام كي، أي لان تكونوا. " شهداء " خبر كان. " على الناس " أي في المحشر للانبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعي نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لامته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عزوجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا...). وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، (1) في اللسان والنهاية: "... خير هذه الامة النمط الاوسط، يلحق بهم التالى، ويرجع إليهم الغالى " والنمط: جماعة من الناس أمرهم واحد. وقيل: هو الطريقة. (*)
[ 155 ]
وفيه: (فتقول تلك الامم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل وكذلك جعلناكم أمة وسطا - والوسط العدل - لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه جنة (1) على أخيه. وقالت طائفة: معنى الاية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين مرت به جنازة فأثنى عليها خير فقال: (وجبت وجبت وجبت). ثم مر عليه بأخرى فأثنى عليها شر فقال: (وجبت وجبت وجبت). فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: (وجبت وجبت وجبت) ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: (وجبت وجبت وجبت) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الارض أنتم شهداء الله في الارض أنتم شهداء الله في الارض). أخرجه البخاري بمعناه. وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ". وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الانبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس). خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في " نوادر الاصول ". الثالثة - قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال (1) الحنة (بكسر الحاء): العداوة، وهى لغة قليلة في الاحنة. (*)
[ 156 ]
عليه السلام: (نحن الاخرون الاولون). وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة (1) إن شاء الله تعالى. الرابعة - وفيه دليل على صحة الاجماع ووجوب الحكم به، لانهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الامة شهداء فقد وجب قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الامة، لانه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه. قوله تعالى: " ويكون الرسول عليكم شهيدا " قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة. وقيل: " عليكم " بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالايمان. وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قوله تعالى: " وما جعلنا القبلة التى كنت عليها " قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الاولى، لقوله " كنت عليها ". وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت الان عليها، كما تقدم، وكما قال: " كنتم خير أمة أخرجت للناس " أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي (2). قوله تعالى: إلا لنعلم من يتبع الرسول " قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى " لنعلم " لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك (3) " بمعنى ألم تعلم. وقيل: المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالاشياء قبل كونها. وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس. وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي وأتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الامير كذا، وإنما فعله أتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد. وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله: (يابن آدم مرضت (4) فلم تعدني) (1) راجع ج‍ 3 ص 383. (2) راجع ج‍ 4 ص 170. (3) راجع ج‍ 20 ص 44. (4) أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له. وفى الحديث: " قال يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك وعدته لوجدتني عنده... ". راجع صحيح مسلم " فضل عيادة المريض ". (*)
[ 157 ]
الحديث. والاول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الاحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء (1) "، " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين (2) " وما أشبه. والاية جواب لقريش في قولهم: " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. وقرأ الزهري " إلا ليعلم " ف‍ " من " في موضع رفع على هذه القراءة، لانها اسم ما لم يسم فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول. " يتبع الرسول " يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة. " ممن ينقلب على عقبيه " يعني ممن يرتد عن دينه، لان القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم. ولهذا قال: " وإن كانت لكبيرة " أي تحويلها، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة. قوله تعالى: " وإن كانت لكبيرة " ذهب الفراء إلى أن " إن " واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة خففت. وقال الاخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة. " إلا على الذين هدى الله " أي خلق الهدى الذي هو الايمان في قلوبهم، كما قال تعالى: " أولئك كتب في قلوبهم الايمان (3) ". قوله تعالى: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم (4). وخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " الاية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل. وقال مالك: إني لاذكر بهذه الاية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الايمان. وقال محمد بن إسحاق: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي (1) راجع ج‍ 4 ص 218. (2) راجع ج‍ 16 ص 253. (3) راجع ج‍ 17 ص 308. (4) راجع ص 148 من هذا الجزء. (*)
[ 158 ]
بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والاصوليين. وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك " وما كان الله ليضيع إيمانكم " قال: صلاتكم. قوله تعالى: " إن الله بالناس لرءوف رحيم " الرأفة أشد من الرحمة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب " الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى " فلينظر هناك. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو " لرؤف " على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة: وشر الطالبين فلا تكنه * يقاتل عمه الرؤوف الرحيم وحكى الكسائي أن لغة بني أسد " لرأف "، على فعل. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " لروف " مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنة كانت أو متحركة. قوله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغفل عما يعملون (144). قال العلماء: هذه الاية مقدمة في النزول على قوله تعالى: " سيقول السفهاء من الناس ". ومعنى " تقلب وجهك ": تحول وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي. ومعنى " ترضاها " تحبها. قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى: " قد نرى تقلب وجهك في السماء ". وروى أبو إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: " قد نرى تقلب وجهك في السماء ". وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه، والحمد لله.
[ 159 ]
قوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فول " أمر " وجهك شطر " أي ناحية " المسجد الحرام " يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كله، عن ابن عباس. وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قاله ابن عطية. والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الاندلس. قلت: قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيت قبلة لاهل المسجد والمسجد قبلة لاهل الحرم والحرم قبلة لاهل الارض في مشارقها ومغاربها من أمتي). الثانية - قوله تعالى: " شطر المسجد الحرام " الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الاية، وهو ظرف مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته. وانتصب الظرف لانه فضلة بمنزلة المفعول [ به (1) ]، وأيضا فإن الفعل واقع فيه. وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود " فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ". وقال الشاعر (2): أقول لام زنباع أقيمي * صدور العيس شطر بني تميم. وقال آخر: وقد أظلكم من شطر ثغركم * هول له ظلم يغشاكم قطعا وقال آخر: ألا من مبلغ عمرا رسولا * وما تغني الرسالة شطر عمرو وشطر الشئ: نصفه، ومنه الحديث: (الطهور شطر الايمان). ويكون من الاضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من الرجال فلانه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر (بالضم) شطارة فيهما. وسئل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه. (1) التكملة عن إعراب القرآن للنحاس. (2) هو أبو زنباع الجذامي، (عن اللسان). (*)
[ 160 ]
الثانية - لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد. الرابعة - واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالاول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لانه تكليف لما لا يصل (1) إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الاول - أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني - أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم " يعني من الارض من شرق أو غرب " فولوا وجوهكم شطره ". الثالث - أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت. الخامسة - في هذه الاية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي. يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده. وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره. قال ابن العربي: إنما ينظر أمامه فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس وهو أشرف الاعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الارض فتلك مشقة عظيمة وحرج. وما جعل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه. (1) كذا في كتاب الاحكام لابن العربي. وفى الاصول: " ما لا يوصل إليه ". (*)
[ 161 ]
قوله تعالى: " وإن الذين أوتوا الكتاب " يريد اليهود والنصارى " ليعلمون أنه الحق من ربهم " يعني تحويل القبلة من بيت المقدس. فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم ؟ قيل عنه جوابان: أحدهما - أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به. الثاني - أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة. قوله تعالى: " وما الله بغافل عما يعملون " تقدم (2) معناه. وقراء ابن عامر وحمزة والكسائي " تعملون " بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل (2) أعمال العباد ولا يغفل عنها، ضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت. قوله تعالى: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظلمين (145). قوله تعالى: " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك " لانهم كفروا وقد تبين لهم الحق، وليس تنفعهم الايات، أي العلامات. وجمع قبلة في التكسير: قبل. وفي التسليم: قبلات. ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة، فتقول قبلات. ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات. وأجيبت " لئن " بجواب " لو " وهي ضدها في أن " لو " تطلب في جوابها المضي والوقوع، و " لئن " تطلب الاستقبال، فقال الفراء و الاخفش: أجيبت بجواب " لو " لان المعنى: ولو أتيت. وكذلك تجاب " لو " بجواب " لئن "، تقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى: " ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا (3) " أي ولو أرسلنا ريحا. وخالفهما سيبويه فقال: إن معنى " لئن " مخالف (1) راجع ج‍ 1 ص 466. (2) ف ب: " بأن الله تعالى يعلم أعمال... ". (3) راجع ج‍ 14 ص 45. (*)
[ 162 ]
لمعنى " لو " فلا يدخل واحد منهما على الاخر، فالمعنى: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى " ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا " ليظلن. قوله تعالى: " وما أنت بتابع قبلتهم " لفظ خبر ويتضمن الامر، أي فلا تركن إلى شئ من ذلك. ثم أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، عن السدي وابن زيد. فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم. وقال قوم: المعنى وما من اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم. والاول أظهر، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: " ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين " الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وقطعنا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للامر ولانه المنزل عليه. والاهواء: جمع هوى، وقد تقدم (1)، وكذا " من العلم " تقدم (2) أيضا، فلا معنى للاعادة. قوله تعالى: الذين ءاتينهم الكتب يعرفونه كما يعرفون إبنآءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146). قوله تعالى: " الذين آتيناهم الكتب يعرفونه أبناءهم " " الذين " في موضع رفع بالابتداء والخبر " يعرفونه ". ويصح أن يكون في موضع خفض على الصفة ل‍ " لظالمين "، و " يعرفون " في موضع الحال، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته، والضمير عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وقيل: " يعرفون " تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة أنه حق، قاله ابن عباس وابن جريج والربيع وقتادة أيضا. (1) راجع ج‍ 94 من هذا الجزء. (2) راجع ص 95 من هذا الجزء. (*)
[ 163 ]
وخص الابناء في المعرفة بالذكر دون الانفس وإن كانت ألصق لان الانسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه. وروي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك ؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه. قوله تعالى: " وإن فريقا منهم ليكتمون الحق " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وخصيف. وقيل: استقبال الكعبة، على ما ذكرنا آنفا. قوله تعالى: " وهم يعلمون " ظاهر في صحة الكفر عنادا، ومثله: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " (1) وقوله: " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ". قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147). قوله تعالى: " الحق من ربك " يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرك به اليهود من قبلتهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ " الحق " منصوبا ب‍ " يعلمون " أي يعلمون الحق. ويصح نصبه على تقدير الزم الحق. والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدأ، والتقدير هو الحق، أو على إضمار فعل، أي جاءك الحق. قال النحاس: فأما الذي في " الانبياء " " الحق فهم معرضون (2) " فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا، والفرق بينهما أن الذي في سورة " البقرة " مبتدأ آية (3)، والذي في الانبياء ليس كذلك. قوله تعالى: " فلا تكونن من الممترين " أي من الشاكين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. يقال: امتري فلان [ في ] كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى فدافع إحداهما بالاخرى، ومنه المراء لان كل واحد منهما يشك في قول صاحبه. والامتراء في الشئ الشك فيه، وكذا التماري. وأنشد الطبري شاهدا على أن الممترين الشاكون قول الاعشى: تدر على أسؤق الممترين * من ركضا إذا ما السراب ارجحن (1) راجع ج‍ 13 ص 163. (2) راجع ج‍ 11 ص 280. (3) في أ: " به ". (*)
[ 164 ]
قال ابن عطية: ووهم في هذا، لان أبا عبيدة وغيره قال: الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، وليس في البيت معنى الشك كما قال الطبري. قلت: معنى الشك فيه موجود، لانه يحتمل أن يختبر الفرس صاحبه هل هو على ما عهد من الجري أم لا، لئلا يكون أصابه شئ، أو يكون هذا عند أول شرائه فيجريه ليعلم مقدار جريه. قال الجوهري: ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره. والاسم المرية (بالكسر) وقد تضم. ومريت الناقة مريا: إذا مسحت ضرعها لتدر. وأمرت هي إذا در لبنها، والاسم المرية (بالكسر)، والضم غلط. والمرية: الشك، وقد تضم، وقرئ بهما. قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرت أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير (148). فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ولكل وجهة " الوجهة وزنها فعلة من المواجهة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القبلة، أي إنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم، ولكل وجهة إما بحق وإما بهوى. الثانية - قوله تعالى: " هو موليها " " هو " عائد على لفظ كل لا على معناه، لانه لو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم، فالهاء والالف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي هو موليها وجهه ونفسه. والمعنى: ولكل صاحب ملة قبلة، صاحب القبلة موليها وجهه، على لفظ كل، وهو قول الربيع وعطاء وابن عباس. وقال علي بن سليمان: " موليها " أي متوليها. وقرأ ابن عباس وابن عامر " مولاها " على ما لم يسم فاعله. والضمير على هذه القراءة لواحد، أي ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها أي مصروف إليها، قاله الزجاج. ويحتمل أن يكون على قراءة الجماعة " هو " ضمير اسم الله عزوجل وإن لم يجر له ذكر، إذ
[ 165 ]
معلوم أن الله عز وجل فاعل ذلك، والمعنى: لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه. وحكى الطبري: أن قوما قرءوا " ولكل وجهة " بإضافة كل إلى وجهة. قال ابن عطية: وخطأها الطبري، وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله " ولكل وجهة " على الامر في قوله: " فاستبقوا الخيرات " للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسلمت الواو في " وجهة " للفرق بين عدة وزنة، لان جهة ظرف، وتلك مصادر. وقال أبو علي: ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم. وذهب قوم إلى أنه اسم وليس بمصدر. وقال غير أبي علي: وإذا أردت المصدر قلت جهة، وقد يقال الجهة في الظرف. الثالثة - قوله تعالى: " فاستبقوا الخيرات " أي إلى الخيرات، فحذف الحرف، أي بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بالعموم، فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الاي. والمعنى المراد المبادرة بالصلاة أول وقتها، والله تعالى أعلم. روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل المهجر إلى الصلاة كمثل الذي يهدي البدنة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البقرة ثم الذي على أثره كالذي يهدي الكبش ثم الذي على أثره كالذي يهدي الدجاجة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البيضة). وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الاول ما هو خير له من أهله وماله). وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد قوله. وروى الدارقطني أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الاعمال الصلاة في أول وقتها). وفي حديث ابن مسعود " أول وقتها " بإسقاط " في ". وروي أيضا عن إبراهيم بن عبد الملك عن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول الوقت رضوان الله ووسط الوقت رحمة الله
[ 166 ]
وآخر الوقت عفو الله). زاد ابن العربي: فقال أبو بكر: رضوان الله أحب إلينا من عفوه، فإن رضوانه عن المحسنين وعفوه عن المقصرين، وهذا اختيار الشافعي. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أفضل، لانه وقت الوجوب. وأما مالك ففصل القول، فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل، أما الصبح فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) - في رواية - (متلففات). وأما المغرب فلحديث سلمة بن الاكوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، أخرجهما مسلم. وأما العشاء فتأخيرها أفضل لمن قدر عليه. روى ابن عمر قال: مكثنا [ ذات (1) ] ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الاخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشئ شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: (إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة). وفي البخاري عن أنس قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى...، وذكر الحديث. وقال أبو برزة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب تأخيرها. وأما الظهر فإنها تأتي الناس [ على (2) ] غفلة فيستحب تأخيرها قليلا حتى يتأهبوا ويجتمعوا. قال أبو الفرج قال مالك: أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا للظهر في شدة الحر. وقال ابن أبي أويس: وكان مالك يكره أن يصلي الظهر عند الزوال ولكن بعد ذلك، ويقول: تلك صلاة الخوارج. وفي صحيح البخاري وصحيح الترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبرد) ثم أراد أن يؤذن فقال له: (أبرد) حتى رأينا فئ التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شدة الحر من فيح (3) جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة). وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس. والذي يجمع ببن الحديثين ما رواه أنس أنه إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل. (1) الزيادة عن صحيح مسلم وسنن النسائي. (2) الزيادة عن أحكام القرآن لابن العربي. (3) الفيح: سطوع الحر وفورائه. (*)
[ 167 ]
قال أبو عيسى الترمذي: " وقد اختار قوم [ من أهل العلم (1) ] تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال الشافعي: إنما الابراد بصلاة الظهر إذا كان [ مسجدا (1) ] ينتاب (2) أهله من البعد، فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه فالذي أحب له ألا يؤخر الصلاة في شدة الحر. قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر (3) في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال الشافعي. قال أبو ذر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ([ يا بلال (1) ] أبرد ثم أبرد). فلو كان الامر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للابراد في ذلك الوقت معنى، لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد ". وأما العصر فتقديمها أفضل. ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة رجاء الجماعة أفضل من تقديمها، فإن فضل الجماعة معلوم، وفضل أول الوقت مجهول وتحصيل المعلوم أولى، قاله ابن العربي. الرابعة - قوله تعالى: " أينما تكونوا " شرط، وجوابه: " يأت بكم الله جميعا " يعني يوم القيامة. ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شئ لتناسب الصفة مع ما ذكر من الاعادة بعد الموت والبلى. قوله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغفل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150). (1) الزيادة من صحيح الترمذي. (2) انتاب: قصد. (3) كذا في صحيح الترمذي. وفى الاصول: " تأخير الصلاة ". (*)
[ 168 ]
قوله تعالى: " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام " قيل: هذا تأكيد للامر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لان موقع التحويل كان صعيا (1) في نفوسهم جدا، فأكد الامر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه. وقيل: أراد بالاول: ول وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صليت تلقاءها. ثم قال: " وحيث ما كنتم " معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها " فولوا وجوهكم شطره ". ثم قال: " ومن حيث خرجت " يعني وجوب الاستقبال في الاسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الارض. قلت: هذا القول أحسن من الاول، لان فيه حمل كل آية على فائدة. وقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به. أخرجه أبو داود أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. وذهب مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال، لحديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته. قال: وفيه نزل " فأينما تولوا فثم وجه الله " وقد تقدم. قلت: ولا تعارض بين الحديثين، لان هذا من باب المطلق والمقيد، فقول الشافعي أولى، وحديث أنس في ذلك حديث صحيح. ويروى أن جعفر بن محمد سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن ؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن، فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض، فكررت لتكون عند من حفظ البعض. قوله تعالى: " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " قال مجاهد: هم مشركو العرب. وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقد أجيبوا عن هذا بقوله: " قل لله المشرق والمغرب ". وقيل: معنى " لئلا يكون للناس عليكم حجة " لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، فلما قال عز وجل: " وحيث ما كنتم فولوا (1) في نسخ الاصل: " كان معنى ". والتصويب عن تفسير ابن عطية. (*)
[ 169 ]
وجوهكم شطره " زال هذا. وقال أبو عبيدة: إن " إلا " ها هنا بمعنى الواو، أي والذين ظلموا، فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر (1): ما بالمدينة دار غير واحدة * دار الخليفة إلا دار مروانا كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وكذا قيل في قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (2) " أي الذين آمنوا. وأبطل الزجاج هذا القول وقال: هذا خطأ عند الحذاق من النحويين، وفيه بطلان المعاني، وتكون " إلا " وما بعدها مستغني عن ذكرهما. والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الاول، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون. قال أبو إسحاق الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله: " ولكل وجهة هو موليها " " ولئلا يكون للناس عليكم حجة " إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك على حجة إلا الظلم أو إلا أن تظلمني، أي مالك حجة البتة ولكنك تظلمني، فسمى ظلمه حجة لان المحتج به سماه حجة وإن كانت داحضة. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين بدل من الكاف والميم في " عليكم ". وقالت فرقة: " إلا الذين " استثناء متصل، روي معناه عن ابن عباس وغيره، واختاره الطبري وقال: نفى الله أن يكون لاحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة. والمعنى: لا حجة لاحد عليكم إلا الحجة الداحضة. حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الاقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق. والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة. وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة. وقال ابن عطية: وقيل إن الاستثناء منقطع، وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب، كأنه قال: لكن الذين ظلموا يحاجونكم، وقوله " منهم " يرد هذا التأويل. والمعنى لكن الذين ظلموا، يعني كفار قريش في قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا (1) هو الفرزدق، وأراد مروان بن الحكم. (عن شرح الشواهد). (2) راجع ج‍ 20 ص 116. (*)
[ 170 ]
وسيرجع إلى ديننا كله. ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد " ألا الذين ظلموا " بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام، فيكون " الذين ظلموا " ابتداء، أو على معنى الاغراء، فيكون " الذين " منصوبا بفعل مقدر. قوله تعالى: " فلا تخشوهم " يريد الناس " واخشوني " الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي. والخوف: فزع القلب تخف له الاعضاء، ولخفة الاعضاء به سمي خوفا. ومعنى الاية التحقير لكل من سوى الله تعالى، والامر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى. قوله تعالى: " ولاتم نعمتي عليكم " معطوف على " لئلا يكون " أي ولان أتم، قاله الاخفش. وقيل: مقطوع (1) في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: ولاتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، قاله الزجاج. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة. قال سعيد بن جبير: ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة. و " لعلكم تهتدون " تقدم (2). قوله تعالى: كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم ءايتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151). قوله تعالى: " كما أرسلنا " الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، المعنى: ولاتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا، قاله الفراء. قال ابن عطية: وهذا أحسن الاقوال، أي ولاتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام مثل ما أرسلنا. وقيل: المعنى ولعلكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا. وقيل: هي في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولاتم نعمتي عليكم في هذه الحال. والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وأن الذكر المأمور به في عظمه كعظم النعمة. وقيل: معنى الكلام على التقديم والتأخير، أي فاذكروني (1) نص العبارة في البحر المحيط لابي حيان: " وقيل: تتعلق اللام بفعل مؤخر، التقدير: ولاتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتى ". (2) يراجع ج‍ 1 ص 160 طبعة ثانية. (*)
[ 171 ]
كما أرسلنا روي عن علي رضي الله عنه واختاره الزجاج. أي كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه بالصدق فاذكروني بالتوحيد والتصديق به. والوقف على " تهتدون " على هذا القول جائز. قلت: وهذا اختيار الترمذي الحكيم في كتابه، أي كما فعلت بكم هذا من المنن التي عددتها عليكم فإذ كروني بالشكر أذكركم بالمزيد، لان في ذكركم ذلك شكرا لي، وقد وعدتكم بالمزيد على الشكر، وهو قوله: " لئن شكرتم لازيدنكم (1) "، فالكاف في قوله " كما " هنا، وفي الانفال " كما أخرجك ربك (2) " وفي آخر الحجر " كما أنزلنا على المقتسمين " متعلقة بما بعده، على ما يأتي بيانه (3). قوله تعالى: فاذكروني أذكركم واشكروا لى ولا تكفرون (152). يأيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصبرين (153). قوله تعالى: " فاذكروني أذكركم " أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم. وأصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي الذكر باللسان ذكرا لانه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم. ومعنى الاية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله سعيد بن جبير. وقال أيضا: الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل و قراءة القرآن، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير)، ذكره أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في " أحكام القرآن " له. وقال أبو عثمان النهدي: إني لاعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها، قيل له: ومن أين تعلمها ؟ قال يقول الله عز وجل: " فاذكروني أذكركم ". وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله عز وجل، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب. وسئل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته. وقال ذو النون المصري رحمه الله: من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكره (1) راجع ج‍ 9 ص 343. (2) راجع ج‍ 7 ص 367. (39 راجع ج‍ 10 ص 57 (*)
[ 172 ]
كل شئ، وحفظ الله عليه كل شئ، وكان له عوضا من كل شئ. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. والاحاديث في فضل الذكر وثوابه كثيرة خرجها الائمة. روى ابن ماجة عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شرائع الاسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشئ أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل). وخرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه). وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان عند قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا إذ كروا الله ذكرا كثيرا (1) " وأن المراد ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات. قوله تعالى: " واشكروا لى ولا تكفرون " قال الفراء يقال: شكرتك وشكرت لك، ونصحتك ونصحت لك، والفصيح الاول (2). والشكر معرفة الاحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور، وقد تقدم (3). فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات. قوله تعالى: " ولا تكفرون " نهي، ولذلك حذفت مثه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم. وحذفت الياء لانها رأس آية، وإثباتها أحسن في غير القرآن، أي لا تكفروا نعمتي وأيادي. فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب. وقد مضى القول في الكفر (4) لغة، مضى القول في معنى الاستعانة (5) بالصبر والصلاة، فلا معنى للاعادة. قوله تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموت بل أحياء ولكن لا تشعرون (154) (1) راجع ج‍ 14 ص 197. (2) الذى في معاجم اللغة أن الفصيح الثاني. (3) تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج‍ 1 ص 397 طبعة ثانية. (4) يراجع ج‍ 1 ص 183. (5) يراجع ج‍ 1 ص 371 طبعة ثانية. (*)
[ 173 ]
هذا مثل قوله تعالى في الاية الاخرى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون "، وهناك (1) يأتي الكلام في الشهداء وأحكامهم، إن شاء الله تعالى. وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم - على ما يأتي - فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، ويكون فيه دليل على عذاب القبر. والشهداء أحياء كما قال الله تعالى، وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا. ويدل على هذا قوله تعالى: " ولكن لا تشعرون " والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون. وارتفع " أموات " على إضمار مبتدأ، وكذلك " بل أحياء " أي هم أموات وهم أحياء، ولا يصح إعمال القول فيه لانه ليس بينه وبينه تناسب، كما يصح في قولك: قلت كلاما وحجة. قوله تعالى: ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرت وبشر الصبرين (155). قوله تعالى: " ولنبلونكم " هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء الساكنين. وقال غيره: لما ضمت إلى النون الثقيلة بني الفعل فصار بمنزلة خمسة عشر. والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة، وقد تقدم (2). والمعنى لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء، كما تقدم. وقيل: إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق. وقيل: أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم، فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع، وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس. قوله تعالى: " بشئ " لفظ مفرد ومعناه الجمع. وقرأ الضحاك " بأشياء " على الجمع وقرأ الجمهور بالتوحيد، أي بشئ من هذا وشئ من هذا، فاكتفى بالاول إيجازا " من الخوف " أي خوف العدو والفزع في القتال، قاله ابن عباس. وقال الشافعي: هو خوف (1) راجع ج‍ 4 ص 268. (2) تراجع المسألة الثالثة عشرة ج‍ 1 ص 387 طبعة ثانية. (*)
[ 174 ]
الله عز وجل. " والجوع " يعني المجاعة بالجدب والقحط، في قول ابن عباس. وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان " ونقص من الاموال " بسبب الاشتغال بقتال الكفار. وقيل: الجوائح المتلفة. وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة. " والانفس " قال ابن عباس: بالقتل ولموت في الجهاد. وقال الشافعي: يعني بالامراض. " والثمرات " قال الشافعي: المراد موت الاولاد، وولد الرجل ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، على ما يأتي. وقال ابن عباس: المراد قلة النبات وانقطاع البركات. قوله تعالى: " وبشر الصابرين " أي بالثواب على الصبر. والصبر أصله الحبس، وثوابه غير مقدر، وقد تقدم (1). لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الاولى، كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الصبر عند الصدمة الاولى). وأخرجه مسلم أتم منه، أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك، ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للاحمق منه بعد ثلاث. وقال سهل بن عبد الله التستري: لما قال تعالى: " وبشر الصابرين " صار الصبر عيشا (2). والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فهذا مجاهد، وصبر على طاعة الله، فهذا عابد. فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه، وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. وقال ذو النون المصري: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى. وقال الاستاذ أبو علي: الصبر حده ألا تعترض على التقدير، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب: " إنا وجدناه صابرا نعم العبد (3) " مع ما أخبر عنه أنه قال: " مسني الضر ". (1) راجع ج‍ 1 ص 371. (2) هكذا في جميع النسخ التى بأيدينا. (3) راجع ج‍ 15 ص 215. (*)
[ 175 ]
قوله تعالى: الذين إذا أصيبتهم مصيبة قالوا إنا وإنا إليه رجعون (156). أولئك عليهم صلوت من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157). فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " مصيبة " المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابا. والمصيبة واحدة المصائب. والمصوبة (بضم الصاد) مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، كأنهم شبهوا الاصلي بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الاصل. والمصاب الاصابة، قال الشاعر: أسليم إن مصابكم رجلا * أهدى السلام تحية ظلم وصاب السهم القرطاس يصيب صبيا، لغة في أصابه. والمصيبة: النكبة ينكبها الانسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله ؟ قال: (نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة). قلت: هذا ثابت معناه في الصحيح، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه (1) إلا كفر به من سيئاته). الثانية - خرج ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الاجر مثله يوم أصيب). (1) قال النوى في شرحه على صحيح مسلم: " قال القاضى: هو بضم الياء وفتح الهاء على ما لم يسم فاعله، وضبطه غيره بفتح الياء وضم الهاء، أي يغمه، وكلاهما صحيح ". (*)
[ 176 ]
الثالثة - من أعظم المصائب المصيبة في الدين، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب). أخرجه السمرقندي أبو محمد في مسنده، أخبرنا أبو نعيم قال: أنبأنا فطر...، فذكر مثله سواء. وأسند مثله عن مكحول مرسلا. قال أبو عمر: وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي وماتت النبوة. وكان أول ظهور الشر بآرتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه. قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول: اصبر لكل مصيبة وتجلد * واعلم بأن المرء غير مخلد أو ما ترى أن المصائب جمة * وترى المنية للعباد بمرصد من لم يصب ممن ترى بمصيبة ؟ * هذا سبيل لست فيه بأوحد فإذا ذكرت محمدا ومصابه * فاذكر مصابك بالنبي محمد الرابعة - قوله تعالى: " قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين: لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: " إنا لله " توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: " وإنا إليه راجعون " إقرار بالهلك، على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الامر كله إليه كما هو له. قال سعيد ابن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفي على يوسف. الخامسة - قال أبو سنان: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي
[ 177 ]
فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد). وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها). فهذا تنبيه على قوله تعالى: " وبشر الصابرين " إما بالخلف كما أخلف الله لام سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها. وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى، وقد يكون بهما. السادسة - قوله تعالى: " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والاخرة. وقال الزجاج: الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى، كما قال: " من البينات والهدى "، وقوله " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ". وقال الشاعر: صلى على يحيى وأشياعه * رب كريم وشفيع مطاع وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة: " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ". أراد بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الاهتداء. قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الاجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن. قوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158).
[ 178 ]
فيه تسع مسائل: الاولى - روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الاسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عزوجل: " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ". وخرج الترمذي عن عروة قال: (قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يابن أختي ! طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، وإنما كان من أهل لمناة (1) الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " ولو كانت كما تقول لكانت: " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ". قال الزهري: فذكرت ذلك لابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال: إن هذا لعلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الانصار: إنما أمرنا بالطواف [ بالبيت (2) ] ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء. قال: " هذا حديث حسن صحيح ". أخرجه البخاري بمعناه، وفيه بعد قوله فأنزل الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله ": " قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لاحد أن يترك الطواف بينهما "، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة - ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن (1) مناة: اسم ضم في جهة البحر مما يلى قديدا بالمشلل (وهو جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر) على سبعة أميال من المدينة. وكانت الازد وغسان يهلون له ويحجون إليه، وكان أول من نصبه عمرو بن لحى الخزاعى. (راجع معجم ياقوت في اسم مناة). (2) زيادة عن الترمذي. (*)
[ 179 ]
نطوف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله عز وجل: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الاية. قال أبو بكر: فأسمع هذه الاية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الاسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت ". وروى الترمذي عن عاصم بن سليمان الاحول قال: (سألت أنس بن مالك (1) عن الصفا والمروة فقال: كانا من شعائر الجاهلية، فلما كان الاسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: " إن الصفا والمروة بن شعائر الله قمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال: هما تطوع، " ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم). قال: هذا حديث حسن صحيح ". خرجه البخاري أيضا. وعن ابن عباس قال: كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة، فلما ظهر الاسلام قال المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك، فنزلت. وقال الشعبي: كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى " إسافا " وعلى المروة صنم يسمى " نائلة " فكانوا يمسحونهما إذا طافوا، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك، فنزلت الاية. الثانية - أصل الصفا في اللغة الحجر الاملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذكر الصفا لان آدم المصطفى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة، فأنث لذلك، والله أعلم. وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يسمى " إسافا " وعلى المروة صنم يدعى " نائلة " فآطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، وهذا حسن، لان الاحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى. وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله الحرج في ذلك. وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين (1) كذا في الاصول وصحيح البخاري وتفسير الطبري. والذى في صحيح الترمذي: " أنس بن سيرين... ". وهو مولى أنس بن مالك وممن روى عنه. (*)
[ 180 ]
فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، والله تعالى أعلم. والصفا (مقصور): جمع صفاة، وهى الحجارة الملس. وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صفى (بضم الصاد) وأصفاء على مثل أرحاء. قال الراجز (1): كأن متنيه (2) من النفي * مواقع الطير على الصفى وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو، أي خلص من التراب والطين. والمروة (واحدة المرو) وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقد قيل إنها الصلاب. والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر: وتولى الارض خفا ذابلا * فإذا ما صادف المرو رضخ وقال أبو ذؤيب: حتى كأني للحوادث مروة * بصفا المشقر (3) كل يوم تقرع وقد قيل: إنها الحجارة السود. وقيل: حجارة بيض براقة تكون فيها النار. الثالثة - قوله تعالى: " من شعائر الله " أي من معالمه ومواضع عباداته، وهى جمع شعيرة. والشعائر: المتعبدات التي أشعرها الله تعالى، أي جعلها أعلاما للناس، من الموقف والسعى والنحر. والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت أي أعلمت، وقال الكميت: نقتلهم جيلا فجيلا تراهم * شعائر قربان بهم يتقرب (1) هو الاخيل، كما في اللسان. (2) في اللسان: " قال ابن سيده: كذا أنشده أبو على، وأنشده ابن دريد في الجمهرة: " كأن متنى " قال: وهو الصحيح، لقوله بعده: من طول إشرافى على العلوى. والنفى: تطاير الماء عن الرشاء عند الاستقاء. ونفى المطر: ما تنقيه وترشه. قال صاحب اللسان: " وفسره ثعلب فقال: شبه الماء وقد وقع على متن المستقى بذرق الطائر على المصفى ". (3) المشقر: حضن بالبحرين عظيم لعبد القيس يلى حصنا لهم آخر يقال له الصفا قبل مدينة هجر. ويروى " بصفا المشرق " قال أبو عبيدة: المشرق سوق الطائف. وقال الاصمعي: المشرق المصلى. (عن شرح الديوان ومعجم ياقوت). (*)
[ 181 ]
الرابعة - قوله تعالى: " فمن حج البيت " أي قصد. وأصل الحج القصد، قال الشاعر (1): فأشهد من عوف حلولا (2) كثيرة * يحجون سب الزبرقان المزعفرا السب: لفظ مشترك. قال أبو عبيدة: السب (بالكسر) الكثير السباب. وسبك أيضا الذي يسابك، قال الشاعر (3): لا تسبنني فلست بسبي * إن سبى من الرجال الكريم والسب أيضا الخمار، وكذلك العمامة، قال المخبل السعدي: * يحجون سب الزبرقان المزعفرا * والسب أيضا الحبل في لغة هذيل، قال أبو ذؤيب: تدلى عليها بين سب وخيطة * بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها * والسبوب: الحبال. والسب: شقة كتان رقيقة، والسبيبة مثله، والجمع السبوب والسبائب، قاله الجوهري. وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل، قال الشاعر (4): * يحج مأمومة (5) في قعرها لجف * اللجف: الخسف. تلجفت البئر: انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لافعال مخصوصة. الخامسة - قوله تعالى: " أو اعتمر " أي زار. والعمرة: الزيارة، قال الشاعر (6): لقد سما ابن معمر حين اعتمر * مغزى بعيدا من بعيد وضبر (7) (1) هو المخبل السعدى كما سيجى. (2) الحلول: الاحياء المجتمعة، وهو جمع حال. والمزعفر: الملون بالزعفران، وسادات العرب تصبغ عما ثمها بالزعفران. (3) هو عبد الرحمن بن حسان يهجو مسكينا الدارمي. (عن اللسان). (4) هو عذار بن درة الطائى، كما في اللسان. وتمام البيت: * فاست الطبيب قذاها كالمغاريد * (5) المأمومة: الشجة التى بلغت أم الرأس، وهى الجلدة التى تجمع الدماغ. وفى اللسان: " وفسر ابن دريد هذا الشعر فقال: وصف هذا الشاعر طبيبا يداوى شجة بعيدة القعر فهو بجزع من هولها، فالقذى يتساقط من استه كالمغاريد ". والمغاريد: جمع مغرود وهو صمغ معروف. (6) هو العجاج يمدح عمر بن عبيد الله القرشى. عن اللسان. (7) ضمير: جمع قوائمه ليثب. (*)
[ 182 ]
السادسة - قوله تعالى: " فلا جناح عليه " أي لا إثم. وأصله من الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح للاعضاء لاعوجاجها. وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الاية. قال ابن العربي " وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول الله تعالى: " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة: ليس قوله: " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " دليلا على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " فلم يأت هذا اللفظ لاباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لافادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للاصنام التي كانت فيه، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا ". فإن قيل: فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " وهى قراءة ابن مسعود، ويروى أنها في مصحف أبى كذلك، ويروى عن أنس مثل هذا. والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا، وكان عطاء يكثر الارسال عن ابن عباس من غير سماع. والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة، أو تكون " لا " زائدة للتوكيد، كما قال: وما ألوم البيض ألا تسخرا * لما رأين الشمط القفندرا (1) السابعة - روى الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وصلى خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال: (نبدأ بما بدأ الله به) فبدأ بالصفا وقال (2) " إن الصقا والمروة من (1) القفندر: القبيح المنظر. (2) الذى في صحيح الترمذي: " وقرأ ". (*)
[ 183 ]
شعائر الله " قال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا. الثامنة - واختلف العلماء في وجوب السعي ببن الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك، لقوله عليه السلام: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي). خرجه الدارقطني. وكتب بمعنى أوجب، لقوله تعالى: " كتب عليكم الصيام "، وقوله عليه السلام: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد). وخرج ابن ماجه عن أم ولد لشيبة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: (لا يقطع الابطح إلا شدا (1)) فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى، لان السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي: عليه هدى، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لانه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية (2). وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع، لقوله تعالى: " ومن تطوع خيرا ". وقرأ حمزة والكسائي " يطوع " مضارع مجزوم، وكذلك " فمن تطوع خيرا فهو خير له " الباقون " تطوع " ماض، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشئ من النوافل فإن الله يشكره. وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا، وقوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم) فصار بيانا لمجمل الحج، فالواجب أن يكون فرضا، كبيانه لعدد الركعات، وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع. وقال طليب: رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل. (1) شدا: أي عدوا. (2) العتبية: كتاب في مذهب الامام مالك، نسبت إلى مؤلفها فقيه الاندلسي محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبى القرطبى المتوفى سنة 254 ه‍. (*)
[ 184 ]
قلت: وهذا ثابت في صحيح البخاري، على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم (1) ". التاسعة - ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، فإن طاف معذورا فعليه دم، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال: (خذوا عني مناسككم). وإنما جوزنا ذلك من العذر، لان النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه (2)، وقال لعائشة وقد قالت له: إني أشتكى، فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة). وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لانه حينئذ لا يكون طائفا، وإنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويز منداد: وهذه تفرقة اختيار، وأما الاجزاء فيجزئ، ألا ترى أنه لو أغمى عليه فطيف به محمولا، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه. قوله تعالى: إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينت والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون (159). فيه سبع مسائل: الاولى - أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون. واختلفوا من المراد بذلك، فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كتم اليهود أمر الرجم. وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهى عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم [ يعلمه (3) ] فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار). رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص، أخرجه ابن ماجه. ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه السلام: (حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن (1) راجع ج‍ 9 ص 368. (2) المحجن: عصا معوجة الرأس يتناول بها الراكب ما سقط له. (3) الزيادة عن سنن ابن ماجه. (*)
[ 185 ]
يكذب الله ورسوله). وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته، والله تعالى أعلم. الثانية - هذه الاية هي التى أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: لولا (1) آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا. وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الاجرة عليه، إذ لا يستحق الاجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الاجرة على الاسلام. وقد مضى القول (2) في هذا. وتحقيق الاية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الاية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها). وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير)، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سحنون: إن حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي: والصحيح خلافه، لان في الحديث (من سئل عن علم) ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله، والله أعلم. الثالثة - قوله تعالى: " من البينات والهدى " يعم المنصوص عليه والمستنبط، لشمول اسم الهدى للجميع. وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد، لانه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال: " إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا " فحكم بوقوع البيان بخبرهم. (1) الذى في صحيح البخاري وسنن ابن ماجه: " لولا آيتان ". (2) تراجع المسألة الثانية ج‍ 1 ص 335 طبعة ثانية. (*)
[ 186 ]
فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط، لانهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم، والله تعالى أعلم. الرابعة - لما قال: " من البينات والهدى " دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الاخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد الله (1): البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى أعلم. الخامسة - قوله تعالى: " من بعد ما بيناه " الكناية في " بيناه " ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة. السادسة - قوله تعالى: " أولئك يلعنهم الله " أي يتبرأ منهم ويبعد هم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للعين: " وإن عليك لعنتي ". وأصل اللعن في اللغة الابعاد والطرد، وقد تقدم (2). السابعة - قوله تعالى: " ويلعنهم اللاعنون " قال قتادة والربيع: المراد ب‍ " اللاعنون " الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى الكلام. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج: والصواب قول من قال: " اللاعنون " الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الارض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا. (1) أبو عبد الله: كنية البخاري رضى الله عنه. (2) يراجع ص 25 من هذا الجزء. (*)
[ 187 ]
قلت: قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون " قال: (دواب الارض). أخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء، إسناد حسن. فإن قيل: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟. قيل: لانه أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: " رأيتهم لي ساجدين (1) " ولم يقل ساجدات، وقد قال: " لم شهدتم علينا (2) "، وقال: " وتراهم ينظرون إليك (3) "، ومثله كثير، وسيأتى إن شاء الله تعالى. وقال البراء بن عازب وابن عباس: " اللاعنون " كل المخلوقات ما عدا الثقلين: الجن والانس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع). وقال ابن مسعود والسدي: (هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى، فهو قوله: " ويلعنهم اللاعنون " فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقى من اليهود). قوله تعالى: إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160). قوله تعالى: " إلا الذين تابوا " استثنى تعالى التائبين الصالحين لاعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم. ولا يكفى في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الاول، فإن كان مرتدا رجع إلى الاسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والاحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الاوثان جانبهم وخالط أهل الاسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. وسيأتى بيان التوبة وأحكامها في " النساء (4) " إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء في قوله: (1) راجع ج‍ 9 ص 122. (2) راجع ج‍ 15 ص 350. (3) راجع ج‍ 7 ص 344. (4) راجع ج‍ 5 ص 91. (*)
[ 188 ]
" وبينوا " أي بكسر الخمر وإراقتها. وقيل: " بينوا " يعنى ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه. والعموم أولى على ما بيناه، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه، والله تعالى أعلم. " فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم " تقدم (2) والحمد لله. قوله تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارا أولئك عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين (161). خلدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (162). فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وهم كفار " الواو واو الحال. قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه، لان حاله عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الاية في إطلاق اللعنة: الموافاة على الكفر، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمالهم. قال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أنى لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني). فلعنه، وإن كان الايمان والدين والاسلام مآله. وانتصف بقوله: (عدد ما هجاني) ولم يزد ليعلم العدل والانصاف. وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك، كما يضاف إليه المكرو الاستهزاء والخديعة. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. قلت: أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الاعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن (1) تراجع المسألة الخامسة وما بعدها ج‍ 1 ص 325 طبعة ثانية. (*)
[ 189 ]
فعله، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله، وكذلك كل من جاهر بالمعاصى كشراب الخمر وأكلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الاحاديث لعنه. الثانية - ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره، كان الكافر ميتا أو مجنونا. وقال قوم من السلف: إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر به. والمراد بالاية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى: " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا (1) "، ويدل على هذا القول أن الاية دالة على الاخبار عن الله تعالى بلعنهم، لا على الامر. وذكر ابن العربي أن لعن العاصى المعين لا يجوز إتفاقا، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) فجعل له حرمة الاخوة، وهذا يوجب الشفقة، وهذا حديث صحيح. قلت: خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال عليه السلام: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) في حق نعيمان (2) بعد إقامة الحد عليه، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا، لان النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه. وبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب (3)). (1) راجع ج‍ 13 ص 339. (2) نعمان: هو ابن عمرو بن رفاعة، شهد العقبة وبدرا والمشاهد بعدها، وكان كثير المزاح، يضحك النبي صلى الله عليه وسلم من مزاحه. (عن أسد الغابة). (3) قال ابن الاثير في النهاية: " أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. وقيل: أراد لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد ". (*)
[ 190 ]
فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة، والله تعالى أعلم. قال ابن العربي: وأما لعن العاصى مطلقا فيجوز إجماعا، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده). الثالثة - قوله تعالى: " أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " أي إبعادهم من رحمته. وأصل اللعن: الطرد والابعاد، وقد تقدم (1). فاللعنة من العباد الطرد، ومن الله العذاب. وقرأ الحسن البصري " والملائكة والناس أجمعون " بالرفع. وتأويلها: أولئك جزاءهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون، كما تقول: كرهت قيام زيد وعمرو وخالد، لان المعنى: كرهت أن قام زيد. وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف. فإن قيل: ليس يلعنهم جميع الناس لان قومهم لا يلعنونهم، قيل عن هذا ثلاثة أجوبة، أحدها - أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الاكثر على الاقل. الثاني - قال السدى: كل أحد يلعن الظالم، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه. الثالث - قال أبو العالية: المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس، كما قال تعالى: " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا (2) ". ثم قال عز وجل: " خالدين فيها " يعنى في اللعنة، أي في جزائها. وقيل: خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم " ولا هم ينظرون " أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الاوقات. " و " خالدين " نصب على الحال من الهاء والميم في " عليهم "، والعامل فيه الظرف من قوله: " عليهم " لان فيها معنى استقرار اللعنة. قوله تعالى: وإلهكم إله وحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163). فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " وإلهكم إله واحد " لما حذر تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد، ووصل ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق (1) راجع ص 25 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 13 ص 339. (*)
[ 191 ]
النظر، وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شئ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت كفار قريش: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى سورة " الاخلاص " وهذه الاية. وكان للمشركين ثلثمائة وستون صنما، فبين الله أنه واحد. الثانية - قوله تعالى: " لاإله إلا هو " نفى وإثبات. أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه لا معبود إلا الله. وحكى عن الشبلي رحمه الله أنه كان يقول: الله، ولا يقول: لا إله، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الاقرار. قلت: وهذا من علومهم الدقيقة، التي ليست لها حقيقة، فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره، ووعد بالثواب الجزيل لقائله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، خرجه الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). خرجه مسلم. والمقصود القلب لا اللسان، فلو قال: لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة باتفاق أهل السنة. وقد أتينا على معنى اسمه الواحد، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم في " الكتاب الاسنى، في شرح أسماء الله الحسنى ". والحمد لله. قوله تعالى: إن في خلق السموت والارض واختلف اليل والنهار والفلك التى تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الريح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايت لقوم يعقلون (164). فيه أربع عشرة مسألة: الاولى - قال عطاء: لما نزلت " وإلهكم إله واحد " قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد ! فنزلت " إن في خلق السموات والارض ". ورواه سفيان عن أبيه
[ 192 ]
عن أبي الضحى قال: لما نزلت " وإلهكم إله واحد " قالوا هل من دليل على ذلك ؟ فأنزل الله تعالى " إن في خلق السموات والارض " فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع. وجمع السموات لانها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الاخرى. ووحد الارض لانها كلها تراب، والله تعالى أعلم. فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية. وآية الارض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها. الثانية - قوله تعالى: " واختلاف الليل والنهار " قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الاخر من حيث لا يعلم. وقيل: اختلافهما في الاوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة، مثل تمرة وتمر ونخلة ونخل. ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى، وهو مما شذ عن قياس الجموع، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر، وكأن ليالى في القياس جمع ليلاة. وقد استعملوا ذلك في الشعر قال: * في كل يوم ما وكل ليلاة * وقال آخر: في كل يوم ما وكل ليلاه * حتى يقول كل راء إذ رآه * يا ويحه من جمل ما أشقاه * قال ابن فارس في المجمل: ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه (1). والنهار يجمع نهر وأنهرة. قال أحمد بن يحيى ثعلب: نهر جمع نهر وهو جمع [ الجمع (2) ] للنهار، وقيل النهار اسم (1) قال الجوهرى في الصحاح: " وذكر قوم أن الليل ولد الكروان، وأن النهار ولد الحبارى، وقد جاء ذلك في بعض الاشعار ". (2) زيادة عن اللسان. (*)
[ 193 ]
مفرد لم يجمع لانه بمعنى المصدر، كقولك الضياء، يقع على القليل والكثير. والاول أكثر، قال الشاعر: لولا الثريدان هلكنا بالضمر * ثريد ليل وثريد بالنهر قال ابن فارس: النهار معروف، والجمع نهر وأنهار. ويقال: إن النهار يجمع على النهر. والنهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ورجل نهر: صاحب نهار. ويقال: إن النهار فرخ الحبارى. قال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وقال ثعلب: أوله عند العرب طلوع الشمس، استشهد بقول أمية بن أبى الصلت. والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد وأنشد قول عدي بن زيد: وجاعل الشمس مصرا (1) لاخفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا وأنشد الكسائي: إذا طلعت شمس النهار فإنها * أمارة تسليمى عليك فسلمي قال الزجاج في كتاب الانواء: أول النهار ذرور الشمس. وقسم ابن الانباري الزمن ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسما جعله نهارا محضا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. قلت: والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما رواه ابن فارس في المجمل، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت " حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر " قال له عدي: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا أبيض وعقالا أسود، أعرف بهما الليل من النهار. فقال (1) المصر: الحاجز بين الشيئين. (*)
[ 194 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار). فهذا الحديث يقضى أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو مقتضى الفقه في الايمان، وبه ترتبط الاحكام. فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه قبل طلوع الشمس حنث، وعلى الاول لا يحنث. وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل في ذلك والحكم. وأما على ظاهر اللغة وأخذه من السنة فهو من وقت الاسفار إذا اتسع وقت النهار، كما قال (1): ملكت بها كفي فأنهرا فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول، خرجه النسائي. وسيأتى في آي الصيام (2) إن شاء الله تعالى. الثالثة - قوله تعالى: " والفلك التى تجرى في البحر " الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر، قال تعالى: " في الفلك المشحون (3) " فجاء به مذكرا، وقال: " والفلك التى تجري في البحر " فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا، وقال: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة (4) " فجمع، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل: واحده فلك، مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التى تدور عليه النجوم. وفلكت الجارية استدار ثدبها، ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لانها تدور بالماء أسهل دور. ووجه الاية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: اصنعها على جؤجؤ (5) الطائر، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل. فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها، قاله ابن العربي. (1) هو قيس بن الخطيم، يصف طعنة. (2) راجع ص 273 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 15 ص 34. (4) راجع ج‍ 8 ص 324. (5) الجؤجؤ: الصدر. وقيل: عظامه. (*)
[ 195 ]
الرابعة - هذه الاية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة، كالحج والجهاد. ومن السنة حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. الحديث. وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام، أخرجهما الائمة: مالك وغيره. روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام، جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس. هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر ابن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنهما المنع من ركوبه. والقرآن والسنة يرد هذا القول، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له: إنا نركب البحر. وهذه الاية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع. وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء الفرائض فلا. ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الارض وجعل الخلق في العدوتين (1)، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها، فسهل الله سبيله بالفلك، قاله ابن العربي. قال أبو عمر: وقد كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسنة يرد قوله، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال: إنما كره ذلك مالك لان السفن بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا، فلذلك كره مالك ذلك. وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس. قال: والاصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلا من الاحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالا، إذا كان الاغلب من الطريق الامن، ولم يخص بحرا من بر. (1) العدوة: شاطئ الوادي. (*)
[ 196 ]
قلت: فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، فهى الحجة وفيها الاسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد (1) المفرط الميد، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض، فالاول ذلك له جائز، والثانى يحرم عليه ويمنع منه. لا خلاف بين أهل العلم وهى: الخامسة - إن البحر إذا أرتج (2) لم يجز ركوبه لاحد بوجه من الوجوه في حين إرتجاجه ولا في الزمن الذي الاغلب فيه عدم السلامة، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الاغلب، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون. السادسة - قوله تعالى: " بما ينفع الناس " أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التى تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الارباح، وينتفع من يحمل إليه المتاع أيضا. وقد قال بعض من طعن في الدين: إن الله تعالى يقول في كتابكم: " ما فرطنا في الكتاب من شئ (3) " فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله: " بما ينفع الناس ". السابعة - قوله تعالى: " وما أنزل الله من السماء من ماء " يعني بها الامطار التى بها إنعاش العالم وإخراج النبات والارزاق، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله، كما قال تعالى: " فأسكناه في الارض (4) ". الثامنة - قوله تعالى: " وبث فيها من كل دابة " أي فرق ونشر، ومنه " كالفراش المبثوث (5) ". ودابة تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود، (1) المائد: الذى يركب البحر فتغثى نفسه حتى يدار به ويكاد يغشى عليه. (2) أرتج البحر: إذا هاج. وقيل: إذا كثر ماؤه فعم كل شئ. (3) راجع ج‍ 6 ص 420. (4) راجع ج‍ 12 ص 112. (5) راجع ج‍ 20 ص 165. (*)
[ 197 ]
قال الله تعالى: " وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها (1) " فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته، قال الاعشى: * دبيب قطا البطحاء في كل منهل * وقال علقمة بن عبدة: * صواعقها لطيرهن دبيب * التاسعة - قوله تعالى: " وتصريف الرياح " تصريفها: إرسالها عقيما وملقحة، وصرا ونصرا وهلاكا، وحارة وباردة، ولينة وعاصفة. وقيل: تصريفها إرسالها جنوبا وشمالا، ودبورا وصبا، ونكباء، وهى التى تأتى بين مهبى ريحين. وقيل: تصريفها أن تأتى السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنهما ما يضربهما، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت. والرياح جمع ريح سميت به لانها تأتى بالروح غالبا. روى أبو داود عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الريح من روح الله تأتى بالرحمة وتأتى بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها (2)). وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الاوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتى بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن). المعنى: أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح، والاضافة من طريق الفعل. والمعنى: أن الله تعالى جعلها كذلك. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت (3) بالصبا وأهلكت عاد بالدبور). وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى (1) راجع ج‍ 9 ص 6. (2) كذا ورد في سنن أبى داود. والذى في الاصول: " الريح من روح الله. قال سلمة: فروح الله عز وجل تأتى... " الخ وسلمة هذا أحد من روى عنهم أبو داود هذا الحديث. (3) أي يوم الاحزاب. وسيأتى معنى " الصبا والدبور ". (*)
[ 198 ]
فرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الاحزاب، فقال تعالى: " فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها (1) ". ويقال: نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا، أي فرج عنه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة). أي فرج عنه. وقال الشاعر: كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت * على كبد مهموم تجلت هموهما قال ابن الاعرابي: النسيم أول هبوب الريح. وأصل الريح روح، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح، ولا يقال: أرياح، لانها من ذوات الواو، وإنما قيل: رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها. وفي مصحف حفصة " وتصريف الارواح ". العاشرة - قوله تعالى: " وتصريف الرياح " قرأ حمزة والكسائي " الريح " على الافراد، وكذا في الاعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية، لا خلاف بينهما في ذلك. ووافقهما ابن كثير في الاعراف والنمل والروم وفاطر والشورى. وأفرد حمزة " الريح لواقح (2) ". وأفرد ابن كثير " وهو الذي أرسل الريح (3) " في الفرقان. وقرأ الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع، ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع. والذي ذكرناه في الروم هو الثاني " الله الذي يرسل الرياح (4) ". ولا خلاف بينهم في " الرياح مبشرات ". وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا كان فيها ألف ولام في جميع القرآن، سوى " تهوي به الريح " و " الريح العقيم ". فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد. فمن وحد الريح فلانه اسم للجنس يدل على القليل والكثير. ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح. ومن جمع مع الرحمة ووجد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتبارا بالاغلب في القرآن، نحو: " الرياح مبشرات " و " الريح العقيم " فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله: " وجرين بهم بريح طيبة ". وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح: (اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا). وذلك لان ريح العذاب شديدة ملتئمة الاجزاء كأنها جسم (1) راجع ج‍ 14 ص 143. (2) راجع ج‍ 10 ص 15. (3) راجع ج‍ 13 ص 39. (4) راجع ج‍ 14 ص 44. (*)
[ 199 ]
واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح. فأفردت مع الفلك في " يونس "، لان ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب. الحادية عشرة - قال العلماء: الريح تحرك الهواء، وقد يشتد ويضعف. فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح: " الصبا ". وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح: " الدبور ". وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها: " ريح الجنوب ". وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها: " ريح الشمال ". ولكل واحدة من هذه الرياح طبع، فتكون منفعتها بحسب طبعها، فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة. واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا، ورتب فيه النش ء والنمو فتنزل فيه المياه، وتخرج الارض زهرتها وتظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الاشجار وكثير من الزرع، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الالبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة، ومباين له في الاخرى وهي الرطوبة، لان الهواء في الصيف حار يابس، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس، ومباين له في الاخرى وهي الحرارة، لان الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار، فتقطف الثمار وتحصد الاعناب وتفرغ من جمعها الاشجار. فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة، ومباين له في الاخرى وهو اليبس، لان الهواء في الشتاء بارد رطب، فتكثر الامطار والثلوج وتمهد الارض كالجسد المستريح، فلا تتحرك إلا أن يعبد الله تبارك وتعالى إليها حرارة
[ 200 ]
الربيع، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النش ء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى. وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه، إلا أن الاصول هذه الاربع. فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التى تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى " النكباء ". الثانية عشرة - قوله تعالى: " والسحاب المسخر بين السماء والارض " سمى السحاب سحابا لانسحابه في الهواء. وسحبت ذيلي سحبا. وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والسحب: شدة الاكل والشرب. والمسخر: المذلل، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر. وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والارض من غير عمد ولا علائق، والاول أظهر. وقد يكون بماء وبعذاب، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل بفلاة من الارض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة (1) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع [ فيها (2) ] قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه). وفي رواية " وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل). وفي التنزيل: " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت (3) "، وقال: " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبد ميت (4) " وهو في التنزيل كثير. وخرج ابن ماجه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الافاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول: (اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به) فإن أمطر قال: (اللهم سيبا نافعا) مرتين أو ثلاثة، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذلك. أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه (1) الحرة: أرض ذات أحجار سود. والشرجة: طريق الماء ومسيله. (2) الزيادة عن صحيح مسلم. (3) راجع ج‍ 14 ص 326. (4) راجع ج‍ 7 ص 229. (*)
[ 201 ]
وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك. قالت عائشة: فسألته فقال: (إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتى). ويقول إذا رأى المطر: (رحمة). في رواية فقال: (لعله يا عائشة كما قال قوم عاد " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا (1). فهذه الاحاديث والاي تدل على صحة القول الاول وأن تسخيرها ليس ثبوتها، والله تعالى أعلم. فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الارض فصحيح، لقوله " بين " وهي مع ذلك مسخرة محمولة، وذلك أعظم في القدرة، كالطير في الهواء، قال الله تعالى: " ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله (2) " وقال: " أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن (3) ". الثالثة عشرة - قال كعب الاحبار: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لافسد ما يقع عليه من الارض، رواه عنه ابن عباس. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن على عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال: رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بنى سلمة، فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس: هل سمعت كعب الاحبار يقول في السحاب شيئا ؟ قال: نعم، قال: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لافسد ما يقع عليه من الارض. قال: سمعت كعبا يقول في الارض تنبت العام نباتا، وتنبت عاما قابلا غيره ؟ قال نعم، سمعته يقول: إن البذر ينزل من السماء. قال ابن عباس: وقد سمعت ذلك من كعب. الرابعة عشرة - قوله تعالى: " لايات " أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الامور عقيب قوله: " وإلهكم إله واحد " ليدل بها على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ويل لمن قرأ هذه الاية فمج بها) أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها. فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها. قيل له: هذا محال، لانها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة، فإن أحدثتها وهى (1) راجع ج‍ 16 ص 205. (2) راجع ج‍ 10 ص 152. (3) راجع ج‍ 18 ص 217. (*)
[ 202 ]
معدومة كان محالا، لان الاحداث لا يتأتى إلا من حى عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغنى عن إحداث أنفسها. وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه، وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال. ثم أن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الاخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قل انظروا ماذا في السموات والارض (1) " والخطاب للكفار، لقوله تعالى: " وما تغنى الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون "، وقال: " أو لم ينظروا في ملكوت السموات والارض (2) " يعني بالملكوت الايات. وقال: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون (3) ". يقول: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغنى عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لانه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الانسان أكمل منه وذلك محال. وقال تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (4) " يعني آدم عليه السلام، " ثم جعلناه " أي جعلنا نسله وذريته " نطفة في قرار مكين " إلى قوله: " تبعثون ". فالانسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة. كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لانه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الافضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الاعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز. وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الافعال بنفسه، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر. وقال بعض الحكماء: إن كل شئ في العالم الكبير له نظير العالم الصغير، الذي هو بدن الانسان، ولذلك قال تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " وقال: " وفي أنفسكم أفلا (1) راجع ج‍ 8 ص 386. (2) ج‍ 7 ص 330. (3) ج‍ 17 ص 40. (4) ج‍ 12 ص 109. (*)
[ 203 ]
تبصرون ". فحواس الانسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الارض، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء. وعروقه بمنزلة الانهار في الارض، وكبده بمنزلة العيون التى تستمد منها الانهار، لان العروق تستمد من الكبد. ومثانته بمنزلة البحر، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الانهار إلى البحر. وعظامه بمنزلة الجبال التى هي أوتاد الارض. وأعضاؤه كالاشجار، فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر. والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الارض. ثم إن الانسان يحكى بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكى بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد، لا إله إلا هو. قوله تعالى: ومن الناس من ينخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165). لما أخبر الله سبحانه وتعالى في الاية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه أخبر أن مع هذه الايات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا، وواحدها ند، وقد تقدم (1). والمراد الاوثان والاصنام التى كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها، قاله مجاهد. قوله تعالى: " يحبونهم كحب الله " أي يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، قاله المبرد، وقال معناه الزجاج. أي أنهم مع عجز الاصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته. وقال ابن عباس والسدي: المراد بالانداد الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي الله. وجاء الضمير في " يحبونهم " على هذا على الاصل، وعلى الاول جاء ضمير الاصنام (1) تراجع المسألة السادسة ج‍ 1 ص 230 طبعة ثانية. (*)
[ 204 ]
ضمير من يعقل على غير الاصل. وقال ابن كيسان والزجاج أيضا: معنى " يحبونهم كحب الله " أي يسؤون بين الاصنام وبين الله تعالى في المحبة. قال أبو إسحاق: وهذا القول الصحيح، والدليل على صحته: " والذين آمنوا أشد حبا لله ". وقرأ أبو رجاء " يحبونهم " بفتح الياء. وكذلك ما كان منه في القرآن، وهي لغة، يقال: حببت الرجل فهو محبوب. قال الفراء: أنشدني أبو تراب: أحب لحبها السودان حتى * حببت لحبها سود الكلاب و " من " في قوله " من يتخذ " في موضع رفع بالابتداء، و " يتخذ " على اللفظ، ويجوز في غير القرآن " يتخذون " على المعنى، و " يحبونهم " على المعنى، و " يحبهم " على اللفظ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في " يتخذ " أي محبين، وإن شئت كان نعتا للانداد، أي محبوبة. والكاف من " كحب " نعت لمصدر محذوف، أي يحبونهم حبا كحب الله. " والذين آمنوا أشد حبا لله " أي أشد من حب أهل الاوثان لاوثانهم والتابعين لمتبوعهم. وقيل: إنما قال " والذين آمنوا أشد حبا لله " لان الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه. ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال الله تعالى: " يحبهم ويحبونه ". وسيأتى بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة " آل عمران (1) " إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء، وهو اختيار أبي عبيد. وفي الاية إشكال وحذف، فقال أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الاخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعا. و " يرى " على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في كتاب " معاني القرآن " له: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في كتاب " إعراب القرآن " له: وروي عن محمد بن يزيد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لانه يقدر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو قول الاخفش: (1) راجع ج‍ 4 ص 59. (*)
[ 205 ]
ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله. و " يرى " بمعنى يعلم، أي لو يعلمون حقيقة قوة الله عز وجل وشدة عذابه، ف‍ " يرى " واقعة على أن القوة لله، وسدت مسد المفعولين. و " الذين " فاعل " يرى "، وجواب " لو " محذوف، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الالهة، كما قال عز وجل. " ولو ترى إذ وقفوا (1) على ربهم "، " ولو ترى إذ وقفوا على النار (1) " ولم يأت ل‍ " لو " جواب. قال الزهري وقتادة: الاضمار أشد للوعيد، ومثله قول القائل: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه ! ومن قرأ بالتاء فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لاقروا أن القوة لله، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في " أن ". وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد للظالم هذا. وقيل: " أن " في موضع نصب مفعول من أجله، أي لان القوة لله جميعا. وأنشد سيبويه: وأغفر عوراء الكريم ادخاره * وأعرض عن شتم اللئيم تكرما أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لان القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت " إذ " وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للامر وتصحيحا لوقوعه. وقرأ ابن عامر وحده " يرون " بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وشيبة وسلام وأبو جعفر " إن القوة، وإن الله " بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله. وثبت بنص هذه الاية القوة لله، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة، تعالى الله عن قولهم. قوله تعالى: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورراءو العذاب وتقطعت بهم الاسباب (166). (1) راجع ج‍ 6 ص 411، 408. (*)
[ 206 ]
قوله تعالى: " إذ تبرأ الذين اتبعوا " يعنى السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر. عن قتادة وعطاء والربيع. وقال قتادة أيضا والسدي: هم الشياطين المضلون تبرءوا من الانس. وقل: هو عام في كل متبوع. " ورأو العذاب " يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا. وقيل: عند العرض والمسألة في الاخرة. قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الاخرة يذوقون أليم العذاب والنكال. قوله تعالى: " وتقطعت بهم الاسباب " أي الوصلات التى كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره. الواحد سبب ووصلة. وأصل السبب الحبل يشد بالشئ فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا. وقال السدي وابن زيد: إن الاسباب أعمالهم. والسبب الناحية، ومنه قول زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أسباب السماء بسلم قوله تعالى: وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعملهم حسرت عليهم وما هم بخرجين من النار (167). قوله تعالى: " وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة " " أن " في موضع رفع، أي لو ثبت أن لنا رجعة " فنتبرأ منهم " جواب التمنى. والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد كانت، أي قال الاتباع: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم " كما تبرءوا منا " أي تبرأ كما، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. ويجوز أن يكون نصبا على الحال، تقديرها متبرئين، والتبرؤ الانفصال. قوله تعالى: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم " الكاف في موضع رفع، أي الامر كذلك. أي كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم الله أعمالهم. و " يريهم الله " قيل:
[ 207 ]
هي من رؤية البصر، فيكون متعديا لمفعولين: الاول الهاء والميم في " يريهم "، والثاني " أعمالهم "، وتكون " حسرات " حال. ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فتكون " حسرات " المفعول الثالث. " أعمالهم " قال الربيع: أي الاعمال الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدي: الاعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون. وأضيفت هذه الاعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الاعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها. والحسرة واحدة الحسرات، كتمرة وتمرات، وجفنة وجفنات، وشهوة وشهوات. هذا إذا كان اسما، فإن نعته سكنت، كقولك: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات. والحسرة أعلا درجات الندامة على شئ فائت. والتحسر: التلهف، يقال: حسرت عليه (بالكسر) أحسر حسرا وحسرة. وهي مشتقة من الشئ الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته، كالبعير إذا عيى. وقيل: هي مشتقة من حسر إذا كشف، ومنه الحاسر في الحرب: الذي لا درع معه. والانحسار. الانكشاف. قوله تعالى: " وما هم بخارجين من النار " دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الاية، ولقوله تعالى: " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ". وسيأتي (1). قوله تعالى: يأيها الناس كلوا مما في الارض حللا طيبا ولا تتبعوا خطوت الشيطن إنه لكم عدو مبين (168) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الناس " قيل: إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الانعام، واللفظ عام. والطيب هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو (1) راجع ج‍ 7 ص 206. (*)
[ 208 ]
تنويع، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتى بيان هذا في " الانعام " (1) و " الاعراف (1) " إن شاء الله تعالى. الثانية - قوله تعالى: " حلالا طيبا " " حلالا " حال، وقيل مفعول. وسمى الحلال حلالا لانحلال عقدة الخطر عنه. قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبد الله الساجى واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت - وهو اسم مجمل - والغلول والمكروه والشبهة. الثالثة - قوله تعالى: " ولا تتبعوا " نهى " خطوات الشيطان " " خطوات " جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء: الخطوات جمع خطوة، بالفتح. وخطوة (بالضم): ما بين القدمين. وقال الجوهري: وجمع القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا. والخطوة (بالفتح): المرة الواحدة، والجمع خطوات (بالتحريك) وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس: لها وثبات كوثب الظباء * فواد خطاء وواد مطر (2) وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير " خطوات " بفتح الخاء والطاء. وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والاعرج وعمرو بن ميمون والاعمش " خطؤات " بضم الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الاخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطيئة، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تفقوا أثر الشيطان وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس: " خطوات الشيطان " أعماله. مجاهد: خطاياه. السدي: طاعته. أبو مجلز: هي النذور في المعاصي. (1) راجع ج‍ 7 ص 115، 300. (2) يقول: مرة تخطو فتكف عن العدو، ومرة تعدو عدوا يشبه المطر. عن شرح الديوان. (*)
[ 209 ]
قلت: والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول في " الشيطان " مستوفى (1). الرابعة - قوله تعالى: " إنه لكم عدو مبين " أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بنى آدم، وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل: " ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين "، " إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " وقال: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء (2) " وقال: " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا " وقال: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (3) " وقال: " إنه عدو مضل مبين (4) " وقال: " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير (5) ". وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبد الله ابن عمر: إن إبليس موثق في الارض السفلى، فإذا تحرك فإن كل شر في الارض بين اثنين فصاعدا من تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبى مالك الاشعري وفيه: (وآمركم أن تذ كروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) الحديث. وقال فيه: حديث حسن صحيح غريب. قوله تعالى: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله مالا تعلمون (169). قوله تعالى: " إنما يأمركم بالسوء والفحشاء " سمى السوء سوءا لانه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسئ إذا أحزنته فحزن، قال الله تعالى: " سيئت وجوه الذين كفروا (6) ". وقال الشاعر: (1) تراجع المسألة العاشرة ج‍ 1 ص 90 طبعة ثانية. (2) راجع ج‍ 3 ص 328. (3) راجع ج‍ 6 ص 292. (4) راجع ج‍ 13 ص 261. (5) راجع ج‍ 14 ص 323. (6) راجع ج‍ 18 ص 220. (*)
[ 210 ]
إن يك هذا الدهر قد ساءنى * فطالما قد سرنى الدهر الامر عندي فيهما واحد * لذاك شكر ولذاك صبر والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال: وجيد كجيد الريم (1) ليس بفاحش ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه الزنى، إلا قوله: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء " فإنه منع الزكاة. قلت: فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه، والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " قال الطبري: يريد ما حرموا من البحيرة (2) والسائبة (3) ونحوها مما جعلوه شرعا. " وأن تقولوا " في موضع خفض عطفا على قوله تعالى: " بالسوء والفحشاء ". قوله تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه ءابآءنآ أولو كان أآباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170). فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وإذا قيل لهم " يعني كفار العرب. ابن عباس: نزلت في اليهود. الطبري: الضمير في " لهم " عائد على الناس من قوله تعالى: " يأيها الناس كلوا ". (1) الريم: الظبى الابيض الخالص البياض. (2) قال أبو إسحاق النحوي: " أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحيرة أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوه، واعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تحلا، (تطرد) عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعنى المنقطع به لم يركبها ". (3) كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نحبة دابة من مشقة أو حرب قال: ناقتي سائبة، أي تسيب فلا ينتفع بظهرها ولا تحلا عن ماء، ولا تمنع من كلا ولا تركب. (عن اللسان). (*)
[ 211 ]
وقيل: هو عائد على " من " في قوله تعالى: " ومن الناس من يتخذ من دون الله " الاية. وقوله تعالى: " واتبعوا ما أنزل الله " أي بالقبول والعمل. " قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنآ " ألفينا: وجدنا. وقال الشاعر: فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا الثانية - قوله تعالى: " أولو كان آباؤهم " الالف للاستفهام، وفتحت الواو لانها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة، لان غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال آبائهم. مسألة - قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الاية تعطى إبطال التقليد، ونظيرها: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " الاية. وهذه الاية والتى قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة (1)، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في دينه، فالضمير في " لهم " عائد عليهم في الايتين جميعا. الثالثة - تعلق قوم بهذه الاية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لابائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الاصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح. الرابعة - التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا. (1) قال المفسرون: الوصيلة كانت في الشاة خاصة، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهى لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لالهتهم، فإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لالهتهم. وفيها معان أخر. (يراجع اللسان مادة " وصل "). وتقدم معنى " البحيرة والسائبة " ص 210. (*)
[ 212 ]
وقيل: هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير، فإن العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به، فكأن المقلد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء، وكذلك قال شاعرهم: وقلدوا أمركم لله دركم * ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا الخامسة - التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الاصول ولا في الفروع، وهو قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، والاحتجاج عليهم في كتب الاصول. السادسة - فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الاحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (1) "، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الاكثر من الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلد عالما مثله في نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الاخر صحابيا أو غيره، وإليه ذهب القاضى أبو بكر وجماعة من المحققين. السابعة - قال ابن عطية: أجمعت الامة على إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبى بكر بن العربي وأبي عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي. قال ابن درباس في كتاب " الانتصار " له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد، وهو خطأ لقوله تعالى: " إنا وجدنا آباءنا على أمة (2) ". فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل، كصنيع أهل الاهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، ولانه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد والقطع به، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة، كما بيناه في آية التوحيد (3)، والله يهدي من يريد. (1) راجع ج‍ 10 ص 108 وج‍ 11 ص 272. (2) راجع ج‍ 16 ص 74. (3) ص 190 من هذا الجزء. (*)
[ 213 ]
قال ابن درباس: وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون. وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا داخلين فيمن ذمهم الله بقوله: " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا " إلى قوله: " كبيرا (1) " وقوله: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (2) ". ثم قال لنبيه: " قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (3) " ثم قال لنبيه عليه السلام " فانتقمنا منهم (2) " الاية. فبين تعالى أن الهدى فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الاثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الاخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الامة، من قولهم: إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل، لان هؤلاء نسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الاباطيل، فازدادوا بذلك في التضليل، ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في القرآن حيث قال: " إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس (3) ". فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله، كان اتباعه آباءه من صفات المدح. ولم يجئ فيما جاءوا به ذكر الاعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها. قال ابن الحصار: وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الاوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه. واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته، فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الاغراب على أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة. فلم يزل الامر كذلك إلى أن ظهرت البدعة، وصارت للمبتدعة شيعة، والتبس الامر على السلطان، حتى قال الامير بخلق القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك. (1) راجع ج‍ 14 ص 249. (2) راجع ج‍ 16 ص 74 فما بعدها. (3) راجع ج‍ 9 ص 191. (*)
[ 214 ]
فانتدب رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الاشعري وعبد الله (1) بن كلاب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم، فخاضوا مع المبتدعة في إصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم. وكان من درج من المسلمين من هذه الامة متمسكين بالكتاب والسنة، معرضين عن شبه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعرض، على ذلك كان السلف. قلت: ومن نظر الان في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين. فأما من يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالاثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدمين من الائمة الماضين، والله أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بين في القرآن، وسيأتى بيانه (2) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء وندآء صم بكم عمى فهم لا يعقلون (171). شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعى الذي ينعق بالغنم والابل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه، وهذه نهاية الايجاز. قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به. والمعنى: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لاتفهم، فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الالهة الحماد كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع. وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم، يعني الاصنام، كمثل الراعى إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي. قال الطبري: المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشئ بعيد فهو لا يسمع من أجل (1) في الاصول: " وأبى عبد الله " والتصويب عن القاموس وشرحه، وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب التميمي البصري، وهو رأس الطائفة الكلابية من أهل السنة. (2) راجع ج‍ 12 ص 94، ج‍ 13 ص 350. (*)
[ 215 ]
البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه. ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبه الكفار بالناعق الصائح، والاصنام بالمنعوق به. والنعيق: زجر الغنم والصياح بها، يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعاقا، أي صاح بها وزجرها. قال الاخطل: انعق بضأنك يا جرير فإنما * منتك نفسك في الخلاء ضلالا قال القتبي: لم يكن جرير راعى ضأن، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعى الضأن، وجرير منهم، فهو في جهلهم. والعرب تضرب المثل براعى الغنم في الجهل ويقولون: " أجهل من راعى ضأن ". قال القتبي: ومن ذهب إلى هذا في معنى الاية كان مذهبا، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب، ولذلك قيل للاذان بالصلاة نداء لانه للاباعد. وقد تضم النون في النداء والاصل الكسر. ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمى. وقد تقدم في أول (1) السورة. قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا من طيبت ما رزقنكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172). هذا تأكيد للامر الاول، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالاكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل: هو الاكل المعتاد. وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال " يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " وقال: " يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " ثم ذكر (2) الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام [ ومشربه حرام ] وملبسه حرام [ وغذي بالحرام (3) ] فأنى يستجاب لذلك). " واشكروا لله إن كنتم " إياه تعبدون " تقدم معنى الشكر (4) فلا معنى للاعادة. (1) راجع ج‍ 1 ص 214 طبعة ثانية. (2) هذه الجملة من كلام الراوى، والضمير للنبى صلى الله عليه وسلم. و " الرجل " بالرفع مبتدأ، مذكور على الحكاية من لفظ الرسول عليه السلام. ويجوز أن ينصب على أنه مفعول " ذكر ". (3) الزيادة عن صحيح مسلم. (4) تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج‍ 1 ص 397 طبعة ثانية. (*)
[ 216 ]
قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173). فيه أربع وثلاثون مسألة (1): الاولى - قوله تعالى: " إنما حرم عليم الميتة " إنما " كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي والاثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفى ما عداه، وقد حصرت ها هنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " فأفادت الاباحة على الاطلاق، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة " إنما " الحاصرة، فاقتضى ذلك الايعاب للقسمين، فلا محرم يخرج عن هذه الاية، وهي مدنية، وأكدها بالاية الاخرى التى روى أنها نزلت بعرفة: " قل لا أجد فيما اوحى إلي محرما على طاعم يطعمه " إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا، قال ابن العربي. وسيأتى الكلام في تلك في " الانعام (2) " إن شاء الله تعالى. الثانية - " الميتة " نصب ب‍ " حرم "، و " ما " كافة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع " الميتة والدم ولحم الخنزير " على خبر " إن " وهي قراءة ابن أبى عبلة. وفي " حرم " ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله تعالى: " إنما صنعوا كيد ساحر (3) ". وقرأ أبو جعفر " حرم " بضم الحاء وكسر الراء ورفع الاسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله، وإما على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا " الميتة " بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في ميت، وميت لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه " ميت " بالتخفيف، دليله قوله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون (4) ". وقال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الاحياء (1) اضطربت جميع نسخ الاصل في ذكر هذه المسائل، فبعضها أسقط الثانية، وأخرى " الحادية والعشرين ". أخرى " الرابعة والعشرين ". (2) راجع ج‍ 7 ص 115. (3) راجع ج‍ 11 ص 223. (4) راجع ج‍ 15 ص 254. (*)
[ 217 ]
ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير " وما هو بميت (1) " والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر: إذا ما مات ميت من تميم * فسرك أن يعيش فجئ بزاد فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت، والاول أشهر. الثالثة - الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح، وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي " الانعام (2) " إن شاء الله تعالى. الرابعة - هذه الاية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: (أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال). أخرجه الدار قطني، وكذلك حديث جابر في العنبر (3) يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرجه البخاري ومسلم مع قوله تعالى: " أحل لكم صيد البحر "، على ما يأتي بيانه هناك (4)، إن شاء الله تعالى. وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك. وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا ! قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما. الخامسة - وقد اختلف الناس في تخصيص كتاب الله تعالى بالسنة، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، قاله ابن العربي. وقد يستدل على تخصيص هذه الاية أيضا بما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبى أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. وظاهره أكله كيف ما مات بعلاج أو حتف أنفه، وبهذا قال ابن نافع وابن عبد الحكم وأكثر العلماء، وهو مذهب الشافعي وأبى حنيفة وغيرهما. ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف أنفه، لانه من صيد البر، ألا ترى أن الحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال. وقال (1) راجع ج‍ 9 ص 352. (2) راجع ج‍ 7 ص 116. (3) العنبر: سمكة كبيرة بحرية تتخذ من جلدها الاتراس، ويقال للترس: عنبر، وسمى هذا الحوت بالعنبر لوجوده في جوفه. (عن القسطلانى واللسان). (4) راجع ج‍ 6 ص 318. (*)
[ 218 ]
أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل، لانها حالة قد يعيش بها وينسل. وسيأتى لحكم الجراد مزيد بيان في " الاعراف (1) " عند ذكره، إن شاء الله تعالى. السادسة - واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشئ من النجاسات، واختلف عن مالك في ذلك أيضا، فقال مرة: يجوز الانتفاع بها، لان النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ميمونة فقال: (هلا أخذتم إهابها) الحديث. وقال مرة: جملتها محرم، فلا يجوز الانتفاع بشئ منها، ولا بشئ من النجاسات على وجه من وجوه الانتفاع، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تعلف البهائم النجاسات، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع. ووجه هذا القول ظاهر قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم " ولم يخص وجها من وجه، ولا يجوز أن يقال: هذا الخطاب مجمل، لان المجمل ما لا يفهم المراد من ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة "، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشئ). وفي حديث عبد الله بن عكيم (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب). وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر، وسيأتى بيان هذه الاخبار والكلام عليها في " النحل (2) " إن شاء الله تعالى. السابعة - فأما الناقة إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير تذكية له في نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه، وذلك أن الجنين إذا خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها. ومما يبين ذلك أنه لو باع الشاة وأستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو استثنى عضوا منها، وكان ما في بطنها تابعا لها كسائر أعضائها. وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا مبتدأ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق. وقد روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت، فقال: (إن شئتم فكلوه لان ذكاته ذكاة أمه). خرجه أبو داود بمعناه من حديث (1) راجع ج‍ 7 ص 268. (2) في قوله تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة... " آية 115 ولم يذكر المؤلف فيها شيئا، بل أحال على ما هنا، راجع ج‍ 10 ص 195. (*)
[ 219 ]
أبى سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل. وسيأتى لهذا مزيد بيان في سورة " المائدة (1) " إن شاء الله تعالى. الثامنة - واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أولا، فروي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر، لقوله عليه السلام (أيما إهاب دبغ فقد طهر). ووجه قوله: لا يطهر، بأنه حزء من الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على اللحم. وتحمل لاخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الاوساخ عن الجلد حتى ينتفع به في الاشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل سقاء، لان الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في سورة " الفرقان (2) ". والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الاوساخ كما تتوجه إلى الطهارة الشرعية، والله تعالى أعلم. التاسعة - وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر، لما روى عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل). ولانه كان طاهرا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجسا في حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس. ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة الميتة، لان اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة، ولكنهما حصلا في وعاء نجس فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة " النحل (3) " إن شاء الله تعالى. العاشرة - وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان: حالة تكون إن أخرجت الفأرة حية فهو طاهر. وإن ماتت فيه فله حالتان: حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه. وحالة يكون جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن فتموت، فقال عليه السلام: (1) راجع ج‍ 6 ص 50. (2) راجع ج‍ 13 ص 39 فما بعدها. (3) راجع ج‍ 10 ص 195. (*)
[ 220 ]
(إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه). واختلف العلماء فيه إذا غسل، فقيل: لا يطهر بالغسل، لانه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر النجاسات. وقال ابن القاسم: يطهر بالغسل، لانه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه الثوب، ولا يلزم على هذا الدم، لانه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لان الغسل يستهلكهما ولا يتأتى فيه. الحادية عشرة - فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته الاولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع، لكن لا يبيعه حتى يبين، لان ذلك عيب عند الناس تأباه نفوسهم. ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب كسائر الاشياء المعيبة. وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال، لان النجاسات عنده لا يجوز بيعها، ولانه مائع نجس فأشبه الخمر، ولان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ثمن الخمر فقال: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها (1) فباعوها وأكلوا أثمانها). وأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه. وهذا المائع محرم لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر. الثانية عشرة - واختلف إذا وقع في القدر حيوان، طائر أو غيره [ فمات ] فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال: يغسل اللحم ويؤكل. ولا مخالف له في المرق (2) من أصحابه، ذكره ابن خويز منداد. الثالثة عشرة - فأما أنفحة الميتة ولبن الميتة فقال الشافعي: ذلك نجس لعموم قوله تعالى " حرمت عليكم الميتة ". وقال أبو حنيفة بطهارتهما، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق، مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا. وقال مالك نحو قول أبي حنيفة إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه الغسل. (1) جمل الشحم وأجمله: أذابه واستخرج دهنه. (2) في بعض الاصول والنسخة الازهرية: " ولا مخالف له في الصحابة ". (*)
[ 221 ]
وكذلك الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها، لان البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها، وإنما تجمد وتصلب بالهواء. قال ابن خويز منداد فإن قيل: فقولكم يؤدي إلى خلاف الاجماع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعده كانوا يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس ميتة، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بأنفحة ميتة أو ذكى. قيل له: قدر ما يقع من الانفحة في اللبن المجبن يسير، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من المائع. هذا جواب على إحدى الروايتين. وعلى الرواية الاخرى إنما كان ذلك في أول الاسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل الجبن ليس من طعام العرب، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح لهم، فمن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلت جبنا فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من أنفخة ذبائحهم. وقال أبو عمر: ولا بأس بأكل طعام عبدة الاوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من أنفحة الميتة. وفي سنن ابن ماجه " الجبن والسمن " حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء. فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه). الرابعة عشرة - قوله تعالى: " والدم " اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويز منداد: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه. وإنما قلنا ذلك لان الله تعالى قال: " حرمت عليكم الميتة والدم "، وقال في موضع آخر " قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا (1) ". (1) راجع ج‍ 7 ص 115. (*)
[ 222 ]
فحرم المسفوح من الدم. وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره، لان التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والاصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الامة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك. قلت: ذكر الله سبحانه وتعالى الدم هاهنا مطلقا، وقيده في الانعام بقوله " مسفوحا (1) " وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا. فالدم هنا يراد به المسفوح، لان ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه. وفي دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير محرم. وهو اختيار ابن العربي، قال: لانه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته. قلت: وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، سمعت بعض الحنفية يقول: الدليل على أنه طاهر أنه إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على الشافعية. الخامسة عشرة - قوله تعالى: " ولحم الخنزير " خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكى أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف (2) وغيرها. السادسة عشرة - أجمعت الامة على تحريم شحم الخنزير. وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم. فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لان اللحم مع الشحم يقع عليه اسم اللحم، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم. وقد حرم الله تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه، لانه دخل تحت اسم اللحم. وحرم الله تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله: " حرمنا عليهم شحومهما " فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم، فلهذا فرق مالك بين الحالف (1) راجع ج‍ 7 ص 123. (2) الغضروف والغرضوف: كل عظم لين رخص في أي موضع كان. (*)
[ 223 ]
في الشحم والحالف في اللحم، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث، والله تعالى أعلم. ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما. وقال أحمد: إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم. السابعة عشرة - لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. وقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: (لا بأس بذلك) ذكره ابن خويز منداد، قال: ولان الخرازة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرها ولا أحد من الائمة بعده. وما أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كابتداء الشرع منه. الثامنة عشرة - لا خلاف في تحريم خنزير البر كما ذكرنا، وفي خنزير الماء خلاف. وأبي مالك أن يجيب فيه بشئ، وقال: أنتم تقولون خنزيرا ! وقد تقدم، وسيأتى بيانه في " المائدة (2) " إن شاء الله تعالى. التاسعة عشرة - ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية. وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين، لانه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية. وفي الصحاح: وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر. والخزر: ضيق العين وصغرها. رجل أخزر بين الخزر. ويقال: هو أن يكون الانسان كأنه ينظر بمؤخرها. وجمع الخنزير خنازير. والخنازير أيضا علة معروفة، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة. الموفية عشرين - قوله تعالى: " وما أهل به لغير الله " أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل. فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه. ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان (1) راجع ج‍ 6 ص 320 (*)
[ 224 ]
إن شاء الله تعالى في سورة " المائدة (1) ". والاهلال: رفع الصوت، يقال: أهل بكذا، أي رفع صوته. قال ابن أحمر يصف فلاة: يهل بالفريد ركبانها * كما يهل الراكب المعتمر وقال النابغة: أو درة صدفية غواصها * بهنج ؟ متى يرها يهل ويسجد ومنه إهلال الصبى واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للانصاب والاوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح، على ما يأتي بيانه في سورة " المائدة (1) " إن شاء الله تعالى. وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الابل التي نحرها غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أهل لغير الله به، فتركها الناس. قال ابن عطية: ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم. قلت: ومن هذا المعنى ما رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال: أخبرنا جرير عن قابوس قال: أرسل أبي امرأة إلى عائشة رضي الله عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة كانت أعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدوم عليها. قالت: كان يصلى قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة. قالت امرأة عند ذلك من الناس: يا أم المؤمنين، إن لنا أظارا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا منه، أفنأكل منه شيئا ؟ قالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم. الحادية والعشرون - قوله تعالى: " فمن اضطر " قرئ بضم النون للاتباع وبالكسر وهو الاصل لالتقاء الساكنين، وفيه إضمار، أي فمن اضطر إلى شئ من هذه (1) راجع ج‍ 6 ص 76. (*)
[ 225 ]
المحرمات أي أحوج إليها، فهو افتعل من الضرورة. وقرأ ابن محيصن " فمن اطر " بإدغام الضاد في الطاء. وأبو السمال " فمن اضطر " بكسر الطاء. وأصله اضطرر فلما أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء. الثانية والعشرون - الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الاية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى، إلا أن الاكراه يبيح ذلك إلى آخر الاكراه. وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة (1) الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة (2) بعضاه الشجر فثبنا إليهما فنادانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا إليه فقال: (إن هذه الابل لاهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم (3) بعد الله أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا) قالوا لا، فقال: (إن هذه كذلك). قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب ؟ فقال: (كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل). خرجه ابن ماجه رحمه الله، وقال: هذا الاصل عندي. وذكره ابن المنذر قال: قلنا يا رسول الله، ما يحل لاحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه ؟ قال: (يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل). قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله الاموال. قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة المسلم، وتوجه (1) الحريسة: الشاة تسرق ليلا. وفى الحديث (لا قطع في حريسة الجبل) أي ليس فيما حرس بالجبل قطع، لانه ليس بحرز. (2) مصرورة: مربوطة الضروع، وكان عادة العرب أنهم إذا أرسلوا الحلويات إلى المراعى ربطوا ضروعها. (3) كذا في سنن ابن ماجه، أي بركتهم وخيرهم. وفى الاصول " قيمهم ". (*)
[ 226 ]
الفرض في ذلك بألا يكون هناك غيره قضى عليه بنرميق تلك المهجة الادمية. وكان للممنوع منه ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا أو جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشئ على الذي ردت به مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشئ اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة. الثالثة والعشرون - خرج ابن ماجه أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة (ح 1) وحدثنا محمد ابن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال: سمعت عباد بن شرحبيل - رجلا من بني غبر - قال: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا (2) من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال للرجل: (ما أطعمه إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا) فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق. قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده. وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فما ذكر أبو عمر رحمه الله، وهو ينفي القطع والادب في المخمصة. وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب (1) إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد: " ح " وهى مأخوذة من التحول... الخ. راجع كتب المصطلح. (2) الحائط: البستان من النخيل وغيره إذا كان عليه جدار. (*)
[ 227 ]
ولا يحمل). وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة). قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق، فقال: (من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شئ عليه). قال فيه: حديث حسن. وفي حديث عمر رضي الله عنه: (إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا). قال أبو عبيد قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشئ، فإن حملته بين يديك فهو ثبان، يقال: قد تثبنت ثبانا، فإن حملته على ظهرك فهو الحال، يقال منه: قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حضنك فهو خبنة، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع (ولا يتخذ خبنة). يقال منه: خبنت أخبن خبنا. قال أبو عبيد: وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شئ معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته. قلت: لان الاصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الاسلام، أو كما هو الان في بعض البلدان، فذلك جائز. ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدم والله أعلم. وإن كان الثاني (1) وهو النادر في وقت من الاوقات، فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما - أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع (2)، ويتزود إذا خشى الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها. قال معناه مالك في موطئه، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء. والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا. ومقدار الضروة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وحديث العنبر نص في ذلك، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع (1) يريد بالثاني أحد فرضى المخمصة الذى تقدم في المسألة " الثانية والعشرين " وهو غير الدائمة. (2) تضلع: أمثلا شعبا أوربا. (*)
[ 228 ]
لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، الحديث. فأكلوا وشبعوا - رضوان الله عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حلال وقال: (هل معكم من لحمه شئ فتطعمونا) فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. وقالت طائفة. يأكل بقدر سد الرمق. وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود: فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها. الرابعة والعشرون - فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا. وهو قول الشافعي، فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الابهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لان الله تعالى قال في الخنزير " فإنه رجس " ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها " رجس " فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وترد الجوع ولو مدة. الخامسة والعشرون - روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الابل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لان الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ. نص عليه أصحاب الشافعي. السادسة والعشرون - فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا، فقيل. لا، مخافة أن يدعي ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لانها حالة ضرورة. ابن العربي: " أما الغاص بلقمة
[ 229 ]
فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا. ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن آدم أكل الميتة، لانها حلال في حال. والخنزير وابن آدم لا يحل بحال. والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ الاجنبية لانها تحل له بحال. وهذا هو الضابط لهذه الاحكام. ولا يأكل ابن آدم ولو مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. احتج أحمد بقوله عليه السلام: (كسر عظم الميت ككسره حيا). وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذميا لانه محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لانه مال الغير. فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والاكل منه. وشنع داود على المزني بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الانبياء ! فغلب عليه ابن شريح بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الانبياء إذ منعتهم من أكل الكافر. قال ابن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الادمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، والله أعلم. السابعة والعشرون - سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما، فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا، وذلك أحب إلى من أن يأكل الميتة، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشى ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة. الثامنة والعشرون - روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة (1) ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لى ضلت فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: أنحرها، فأبى فنفقت. فقالت: اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل (1) الحرة (بفتح الحاء والراء المشددة): أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود. (*)
[ 230 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله، فقال: (هل عندك غنى يغنيك) قال لا، قال: (فكلوها) قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها فقال: استحييت منك. قال ابن خويز منداد: في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف، لانه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه. والثانى - يأكل ويشبع ويدخر ويتزود، لانه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع. قال أبو داود: وحدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبى يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا الميتة ؟ قال: (ما طعامكم) قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم (1): فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية. قال: (ذاك وأبي الجوع). قال: فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار. وقال الخطابى: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشى يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت. وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولى الشافعي. قال ابن خويز منداد: إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا. وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الاخر: لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وإليه ذهب المزني. قالوا: لانه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وروى نحوه عن الحسن. وقال قتادة: لا يتضلع منها بشئ. وقال مقاتل بن حيان: لا يزداد على ثلاث لقم. والصحيح خلاف هذا، كما تقدم. التاسعة والعشرون - وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة، فإن تغيرت بالاحراق فقال ابن حبيب: يجوز التداوي بها والصلاة. وخففه ابن الماجشون (1) أبو نعيم: كنية الفضل بن دكين. (*)
[ 231 ]
بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات. وفي العتبية من رواية مالك في المرتك (9) يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون: لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير، لان منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة. ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل. وكذلك الخمر لا يتداوى بها، قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه. وقال أبو حنيفة: يجوز شربها للتداوي دون العطش، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي، وهو قول الثوري. وقال بعض البغداديين من الشافعية: يجوز شربها للعطش دون التداوي، لان ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي. وقيل: يجوز شربها للامرين جميعا. ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الابل خاصة، لحديث العرنيين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرم، لقوله عليه السلام: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم)، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال، إنما أصنعها للدواء، فقال: (إنه ليس بدواء ولكنه داء). رواه مسلم في الصحيح. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه، والله أعلم. الموفية ثلاثين - قوله تعالى: " غير باغ " " غير " نصب على الحال، وقيل: على الاستثناء. وإذا رأيت " غير " يصلح في موضعه " في " فهي حال، وإذا صلح موضعها " إلا " فهي استثناء، فقس عليه. و " باغ " أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها. والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة " غير باغ " في أكله فوق حاجته، " ولا عاد " بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها. وقال السدي: " غير باغ " في أكلها شهوة وتلذذا، " ولا عاد " باستيفاء الاكل إلى حد الشبع. وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما: المعنى " غير باغ " على المسلمين " ولا عاد " عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على (1) المرتك (كمقعد): ضرب من الادوية. (*)
[ 232 ]
المسلمين وما شاكله. وهذا صحيح، فإن أصل البغى في اللغة قصد الفساد، يقال: بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت، قال الله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء (1) " [ النور: 33 ]. وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب تقول: خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر: لا يمنعك من بغا * ءالخير تعقاد الرتائم إن الاشائم كالايا * من والايامن كالاشائم الحادية والثلاثون - قوله تعالى: " ولا عاد " أصل " عاد " عائد، فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث. والاصل شائك وهائر ولائت، من لثت العمامة. فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم. الثانية والثلاثون - واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لاجل معصيته، لان الله سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الاكل فليتب وليأكل. وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الاخر له، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. قال ابن العربي: وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا. قلت: الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال الله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم (29 " [ النساء: 29 ] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان. وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو الله عنه. قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا، (1) راجع ج‍ 12 ص 254. (2) راجع ج‍ 5 ص 156. (*)
[ 233 ]
وليس [ تناول (1) ] الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالافطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء. قال: وهو الصحيح عندنا. قلت: واختلفت الروايات عن مالك في ذلك، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى: أنه يجوز له الاكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر. وقال ابن خويز منداد: فأما الاكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لان الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر، لانهما رخصتان متعلقتان بالسفر. فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه، لان هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا: إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية، لان التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لاجل معصية ارتكبها، وفي تركه الاكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة. أيجوز أن يقال له: ارتكبت معصية فارتكب أخرى ! أيجوز أن يقال لشارب الخمر: ازن، وللزاني: اكفر ! أو يقال لهما: ضيعا الصلاة ؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه. وقال الباجي: " وروى زياد بن عبد الرحمن الاندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان. فسوى بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة. ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالامساك عن الاكل، وأنه مأمور بالاكل على وجه الوجوب، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الاتيان بها، فكذلك ما ذكرناه. وجه القول الاول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الاسفار لحاجة الناس إليها، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه. قال ابن حبيب: وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته. وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا. والمسافر (1) الزيادة عن كتاب " أحكام القرآن " للكيا الهراسى. (*)
[ 234 ]
على وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط الاباحة، والله أعلم ". قلت: هذا استدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين الاصوليين، ومنظوم الاية أن المضطر غير باغ ولا عاد لا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه، والاصل عموم الخطاب، فمن ادعى زواله لامر ما فعليه الدليل. الرابعة وثلاثون (1) - قوله تعالى: " فإن الله غفور رحيم " أي يغفر المعاصي، فأولى لا يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص. قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174). قوله تعالى: " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته. ومعنى " أنزل ": أظهر، كما قال تعالى: " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله (2) " [ الانعام: 93 ] أي سأظهر. وقيل: هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به ملائكته على رسله. " ويشترون به " أي بالمكتوم " ثمنا قليلا " يعني أخذ الرشاء. وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لان ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا. قلت: وهذه الاية وإن كانت في الاخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وقد تقدم (3) هذا المعنى. قوله تعالى: " في بطونهم " ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الاكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضى ونحوه. وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم (1) يلاحظ أن نسخ الاصل اضطربت في عد هذه المسائل. (2) راجع ج‍ 7 ص 40. (3) راجع ج‍ 1 ص 334، ص 9 من هذا الجزء. (*)
[ 235 ]
وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له. ومعنى " إلا النار " أي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لانه يؤديهم إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة. فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نار (1) " [ النساء: 10 ] أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم: * لدوا للموت وابنوا للخراب (2) قال: * فللموت ما تلد الوالده * آخر: * ودورنا لخراب الدهر نبنيها * وهو في القرآن والشعر كثير. قوله تعالى: " ولا يكلمهم الله " عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه. وقال الطبري: المعنى " ولا يكلمهم " بما يحبونه. وفي التنزيل: " اخسئوا فيها ولا تكلمون (3) " [ المؤمنون: 108 ]. وقيل: المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. " ولا يزكيهم " أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. وقال الزجاج: لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء. و " أليم " بمعنى مؤلم، وقد تقدم (4). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر). وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. ومعنى " لا ينظر إليهم " لا يرحمهم ولا يعطف عليهم. وسيأتي في " آل عمران (5) " إن شاء الله تعالى. (1) راجع ج‍ 5 ص 53. (2) اختلف في أنه حديث أو غير حديث. راجع كشف الخفاء ج‍ 2 ص 140. (3) راجع ج‍ 12 ص 153. (4) راجع ج‍ 1 ص 198. (5) راجع ج‍ 4 ص 119. (*)
[ 236 ]
قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الظللة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175). قوله تعالى: " أولئك الذين اشتروا الظلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة " تقدم (1) القول فيه. ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه دخلا في تجوز الشراء. قوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن " ما " معناه التعجب، وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال: اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها. وفي التنزيل: " قتل الانسان ما أكفره (2) " [ عبس: 17 ] و " أسمع بهم وأبصر (3) " [ مريم: 38 ]. وبهذا المعنى صدر أبو علي. قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما لهم والله عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار ! وهي لغة يمنية معروفة. قال الفراء: أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله ؟ أي ما أجرأك عليه. والمعنى: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها. وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس ! أي ما أبقاه فيه. وقيل: المعنى فما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا. وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار. وقيل: " ما " استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه: أي أي شئ صبرهم على عمل أهل النار ؟ ! وقيل: هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم. قوله تعالى: ذلك بأن الله نزل الكتب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتب لفى شقاق بعيد (176). (1) يراجع ج‍ 1 ص 210 طبعة ثانية. (2) راجع ج‍ 19 ص 215. (3) راجع ج‍ 11 ص 108. (*)
[ 237 ]
قوله تعالى: " ذلك " " ذلك " في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه قال: ذلك الحكم بالنار. وقال الزجاج: تقديره الامر ذلك، أو ذلك الامر، أو ذلك العذاب لهم. قال الاخفش: وخبر " ذلك " مضمر، معناه ذلك معلوم لهم. وقيل: محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم. " بأن الله نزل الكتاب " يعني القرآن في هذا الموضع " بالحق " أي بالصدق. وقيل بالحجة. " وإن الذين اختلفوا في الكتاب " يعني التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته. وقيل: خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها. وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها. وقيل: المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: أساطير الاولين، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك. وقد تقدم القول في معنى الشقاق، والحمد لله (1). قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الاخر والملئكة والكتب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلوة وءاتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصبرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177). فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ليس البر " اختلف من المراد بهذا الخطاب، فقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر، فأنزل الله هذه الاية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل الله هذه الاية. وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود (1) راجع ص 143 من هذا الجزء. (*)
[ 238 ]
والنصارى لانهم اختلفوا في التوجه والتولى، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن بالله. الثانية - قرأ حمزة وحفص " البر " بالنصب، لان ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد " ليس ": " البر " نصبه، وجعل " أن تولوا " الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لانه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف. وقرأ الباقون " البر " بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره " أن تولوا "، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الاول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا (1) " [ الجاثية: 25 ]، " ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا (2) " [ الروم: 10 ] " فكان عاقبتهما أنهما في النار (3) " [ الحشر: 17 ] وما كان مثله. ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " [ البقرة: 189 ] ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الاول على الثاني أولى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أبي بالباء " ليس البر بأن تولوا " وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان. الثالثة - قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله " البر ها هنا اسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى: " واسأل القرية (4) " [ يوسف: 82 ]، " وأشربوا في قلوبهم العجل (5) " [ البقرة: 93 ] قاله الفراء وقطرب والزجاج. وقال الشاعر: * فإنما هي إقبال وإدبار * أي ذات إقبال وذات إدبار. وقال النابغة: * وكيف تواصل من أصبحت * * خلالته كأبي مرحب (6) (1) راجع ج‍ 16 ص 173. (2) راجع ج‍ 14 ص 10. (3) راجع ج‍ 18 ص 42. (4) راجع ج‍ 9 ص 246. (5) راجع ص 31 من هذا الجزء. (6) الخلالة: (بفتح الخاء وكسرها وضمها، جمع الخلة): الصداقة. وأبو مرحب: كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب. يقول: خلة هذه المرأة ووصالها لا يثبت كما لا تثبت خلة أبى مرحب، فلا ينبغى أن نستأنس إليها ويعتدبها. (عن اللسان وشرح الشواهد). (*)
[ 239 ]
أي كخلالة أبي مرحب، فحذف. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى: " هم درجات عند الله (1) " [ آل عمران: 163 ] أي ذوو درجات. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل الله هذه الاية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن بالله، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا. ويجوز أن يكون " البر " بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل عدل، وصوم وفطر. وفي التنزيل: " إن أصبح ماؤكم غورا (2) " [ الملك: 30 ] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت " ولكن البر " بفتح الباء. الرابعة - قوله تعالى: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين " فقيل: يكون " الموفون " عطفا على " من " لان من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والاخفش. " والصابرين " نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه. فأما المدح فقوله: " والمقيمين الصلاة (3) " [ النساء: 162 ]. وأنشد الكسائي: وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم * إلا نميرا أطاعت أمر غاويها الظاعنين ولما يظعنوا أحدا * والقائلون لمن دار نخليها وأنشد أبو عبيدة: لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة وآفة الجزر (4) النازلين بكل معترك * والطيبون معاقد الازر وقال آخر: * نحن بني ضبة أصحاب الجمل * (1) راجع ج‍ 4 ص 263. (2) راجع ج‍ 18 ص 222. (3) راجع ج‍ 6 ص 13. (4) راجع كتاب سيبويه وتوجيه الاعراب فيه (ج‍ 1 ص 104، 246، 249) طبع بولاق. (*)
[ 240 ]
فنصب على المدح. وأما الذم فقوله تعالى: " ملعونين أينما ثقفوا (1) " [ الاحزاب: 61 ] الاية. وقال عروة ابن الورد: سقوني الخمر ثم تكنفوني * عداة الله من كذب وزور وهذا مهيع (2) في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الاعراب، موجود في كلام العرب كما بينا. وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الامام، قال: والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى (3) فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهكذا قال في سورة النساء " والمقيمين الصلاة " [ النساء: 162 ]، وفي سورة المائدة " والصابئون " [ المائدة: 69 ]. والجواب ما ذكرناه. وقيل: " الموفون " رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون. وقال الكسائي: " والصابرين " عطف على " ذوي القربى " كأنه قال: وآتى الصابرين. قال النحاس: " وهذا القول خطأ وغلط بين، لانك إذا نصبت " والصابرين " ونسقته على " ذوي القربى " دخل في صلة " من " وإذا رفعت " والموفون " على أنه نسق على " من " فقد نسقت على " من " من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف ". وقال الكسائي: وفي قراءة عبد الله " والموفين، والصابرين ". وقال النحاس: " يكونان منسوقين على " ذوي القربى " أو على المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله في النساء " والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة (5) " [ النساء: 162 ]. وقرأ يعقوب والاعمش " والموفون والصابرون " بالرفع فيهما. وقرأ (1) راجع ج‍ 14 ص 247. (2) المهيع: الطريق الواسع البين. (3) هذا القول من أخبث ما وضع الوضا عون على عثمان رضى الله عنه، وقد أنكر العلماء صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه ؟ ؟ الصحابة في جمعه وكتابته ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التى جمع القرآن فيها على عهد أبى بكر رضى الله عنه، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق تمام الموافقة للعرضة الاخيرة التى عرض فيها النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل عليه السلام. وهل يظن ظان أن عثمان رضى الله عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل الله ويتركه ويقول: ستقيمه العرب بألسنتها ! وكيف يفعل أن يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته. وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان المصنف والزمخشري وأبو حيان والالوسى في سورة " النساء " عند قوله تعالى: " والمقيمين الصلاة " آية 162، راجع ج‍ 6 ص 13. (4) راجع ج‍ 6 ص 246. (5) كذا في كتاب " إعراب القرآن " للنحاس، وما يدل عليه سياق الكلام في البحر المحيط لابي حيان في سورة " النساء ". وفى الاصول: " والمقيمين... والمؤتين ". (*)
[ 241 ]
الجحدري " بعهودهم ". وقد قيل: إن " والموفون " عطف على الضمير الذي في " آمن ". وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن بالله هو والموفون، أي آمنا جميعا. كما تقول: الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله " من آمن " تعداد لافعال من آمن وأوصافهم. الخامسة - قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الاحكام، لانها تضمنت ست عشرة قاعدة: الايمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في " الكتاب الاسنى " - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب " التذكرة " - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به، وقيل: الضيف - والسؤال وفك الرقاب. وسيأتى بيان هذا في آية الصدقات (1)، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد. وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتى بيان باقيها بما فيها في مواضعها إن شاء الله تعالى. واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء. وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا (2). السادسة - قوله تعالى: " وآتى المال على حبه " استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر. وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والاول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في المال حقا سوى الزكاة) ثم تلا هذه الاية " ليس البر أن تولوا وجوهكم " إلى آخر الاية. وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه وقال: " هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة (1) راجع ج‍ 8 ص 167. (2) آنفا: أي الان. (16 - 2) (*)
[ 242 ]
ميمون الاعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبى هذا الحديث قوله وهو أصح ". قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الاية نفسها من قوله تعالى: " وأقام الصلاة وآتى الزكاة " فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: " وآتى المال على حبه " ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، والله أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو يقوى ما اخترناه، والموفق الاله (1). السابعة - قوله تعالى: " على حبه " الضمير في " حبه " اختلف في عوده، فقيل: يعود على المعطى للمال، وحذف المفعول وهو المال. ويجوز نصب " ذوى القربى " بالحلب، فيكون التقدير على حب المعطى ذوى القربى. وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. قال ابن عطية: ويجئ قوله " على حبه " اعتراضا بليغا أثناء القول. قلت: ونطيره قوله الحق: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا (1) " فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام. ومن الاعتراض قوله الحق: " ومن يعمل منن الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك (2) " وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله " على حبه " وقوله: " وهو مؤمن "، ومنه قول زهير: من يلق يوما على علاته هرما * يلق السماحة منه والندى خلقا وقال امرؤ القيس: على هيكل يعطيك قبل سؤاله * أفانين جرى غير كز ولا وإن فقوله: " على علاته " و " قبل سؤاله " تتميم حسن، ومنه قول عنترة: أثنى على بما علمت فإننى * سهل مخالفتي إذا لم أظلم (1) راجع ج‍ 19 ص 126. (2) راجع ج‍ 5 ص 399. (*)
[ 243 ]
فقوله: " إذا لم أظلم " تتميم حسن. وقال طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها * صوب الربيع وديمة تهمى وقال الربيع بن ضبع الفزارى: فنيت وما يفنى صنيعى ومنطقي * وكل امرئ إلا أحاديثه فأن فقوله: " غير مفسدها "، و " إلا أحاديثه " تتميم واحتراس. وقال أبو هفان: فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم * وأفنى الندى أموالنا غير عائب فقوله: " غير ظالم، و " غير عائب " تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير. وقيل: يعود على الايتاء، لان الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى: " ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم (1) " أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم. وقيل يعود على اسم الله تعالى في قوله: " من آمن بالله ". والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء. الثامنة - قوله تعالى: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " أي فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس. " والصابرين في البأساء والضراء " البأساء: الشدة والفقر. والضراء: المرض والزمانة، قاله ابن مسعود. وقال عليه السلام: (يقول الله تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتى وإن عافيته عافيته وليس له ذنب) قيل: يا رسول الله، مالحم خير من لحمه ؟ قال: (لحم لم يذنب) قيل: فما دم خير من دمه ؟ قال: (دم لم يذنب) ووالبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لانهما اسمان وليسا بنعت. " وحين البأس " أي وقت الحزب (2). قوله تعالى: " أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء. والصدق: خلاف (1) راجع ج‍ 4 ص 290. (2) في ب: " وقت الجدب ". (*)
[ 244 ]
الكذب. ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا). قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسن ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178). فيه سبع عشرة مسألة: الاولى - روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: " كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الامة: " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى له من أخيه شئ " فالعفو أن يقبل الدية في العمد " فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " مما كتب على من كان قبلكم " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " قتل بعد قبول الدية ". هذا لفظ البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو [ قال (1) ] سمعت مجاهدا [ قال (1) ] سمعت ابن عباس [ يقول (1) ]. وقال الشعبي في قوله تعالى: " الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى " قال: أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقتل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان، ونحوه عن قتادة. الثانية - قوله تعالى: " كتب عليكم القصاص " " كتب " معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول (1) الزيادة عن صحيح البخاري. (*)
[ 245 ]
وقد قيل: إن " كتب " هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الاثر وهو اتباعه، ومنه القاص لانه يتبع الاثار ولاخبار. وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه " فارتدا على آثارهما قصصا " [ الكهف: 64 ]. وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص، لانه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه. الثالثة - صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لامر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: (إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول (1) الجاهلية). قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون: (القتل أوقى للقتل) بالواو والقاف، ويروي (أبقى) بالباء والقاف، ويروى (أنفى) بالنون والفاء، فنهاهم الله عن البغي فقال: " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد " الاية، وقال " ولكم في القصاص حياة " [ البقرة: 179 ]. وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم. الرابعة - لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الامر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لان الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم (1) الذحل (بفتح فسكون): قيل هو العداوة والحقد، وقيل: النأر وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو جرح، ونحو ذلك. (*)
[ 246 ]
في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح، على ما يأتي بيانه. فإن قيل: فان قوله تعالى " كتب عليكم " معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب ؟ قيل له: معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقي، وشبههن. الخامسة - قوله تعالى: " الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى " الاية. اختلف في تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الاية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والانثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الاخر، فالاية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " [ المائدة: 45 ]، وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية " المائدة (1) " وهو قول أهل العراق. السادسة - قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " فعم، وقوله: " وكتبا عليهم فيها أن النفس بالنفس " [ المائدة: 45 ]، قالوا: والذمي مع المسلم (2) متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الاسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود (1) راجع ج‍ 6 ص 191. (2) في ب، ج‍، ز: " مع الحر ". (*)
[ 247 ]
رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة. والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الاية. وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والاحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالاجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد. وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة. قلت: هذا الاجماع صحيح، وأما قوله أولا: " ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض " فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الاحرار والعبيد في النفس وفي جميع الاعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في " النساء (1) " إن شاء الله تعالى. السابعة - والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لانه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا. قال الدارقطني: " لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله ". قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: " كتب عليكم القصاص في القتلى " الاية، وعموم قوله: " النفس بالنفس " [ المائدة: 45 ]. الثامنة - روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الاية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا (1) راجع ج‍ 5 ص 314. (*)
[ 248 ]
أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لان الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبد الله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الاعور والاشل إذا قتل رجلا سالم الاعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الاعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير. ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي الله عنه. وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا. التاسعة - وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشئ. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس بالنفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الاخرى والاولى، على ما تقدم. العاشرة - قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل عبده قتلناه) وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى: " ومن قتل
[ 249 ]
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل (1) " [ الاسراء: 33 ] والولي ها هنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه ". وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به. فإن قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا: النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطئ بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل الله له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لاورثها في الجانبين. قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه: (ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه). وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الامامان، وحسبك بهما !. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، والله أعلم. [ واختلفوا (2) في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله والزهري وقران (3) ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر: الاول أصح ]. الحادية عشرة - روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد الاب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. قال أبو عيسى: " هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا (1) راجع ج‍ 10 ص 254. (2) ما بين المربعين ساقط من ب، ج‍، ز. (3) قران (بضم القاف وتشديد الراء) بن تمام الاسدي، توفى سنة إحدى وثمانين ومائة. (*)
[ 250 ]
الحديث أبو خالد الاحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الاب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد ". وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبد الحكم: يقتل به. وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى: " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد "، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الاب من جملة الاية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الاحاد في مقابلة عمومات القرآن. قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره (1) مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله، ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة العلماء. ويقتل الا جني بمثل هذا. ابن العربي (2): " سمعت شيخنا فخر الاسلام الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الاب بابنه، لان الاب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه ؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه، [ ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك (3) ]. وقد أثروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقاد الوالد (1) صبر الانسان وغيره على القتل: أن يحبس ويرمى حتى يموت. وفى أ، ج‍: " أو يضربه ". (2) أثبتنا كلام ابن العربي هنا كما ورد في كتابه " أحكام القرآن "، وقد ورد في الاصول بنقص وتحريف من النساخ. (3) زيادة عن ابن العربي. (*)
[ 251 ]
بولده) وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي الله عنهم المسألة مسجلة (1)، [ وقالوا (2): لا يقتل الوالد بولده ]، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الابوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله ". قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الاب قتل به. الثانية عشرة - وقد استدل الامام أحمد بن حنبل بهذه الاية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لان الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد. وقد قال تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين " [ المائدة: 45 ]. والجواب أن المراد بالقصاص في الاية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وقتل علي رضي الله عنه الحرورية (3) بعبد الله بن خباب، فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر على بذلك قال: الله أكبر ! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لاصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم على وأصحابه) خرج الحديثين الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أهل السماء وأهل الارض اشتركوا في دم مؤمن لاكبهم الله في النار). وقال فيه: حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الاعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الامل من التشفي، (1) أي مرسلة مطلقة. (2) زيادة عن ابن العربي. (3) الحرورية: طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء (موضع قريب من الكوفة) لان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها. (*)
[ 252 ]
ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الالفاظ، والله أعلم. [ وقال (1) ابن المنذر: وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبد الملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه (1) ]. التاسعة عشرة - روى الائمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا)، لفظ أبي داود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية). وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. الرابعة عشرة - اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد ابن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والاوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لان فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال الله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم (3) " [ النساء: 29 ]. وقوله: " فمن عفي له من أخيه شئ " أي ترك له دمه، في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية " فاتباع بالمعروف " أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " أي أن من كان قبلنا لم يفرض الله عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل الله على هذه الامة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه. وقال (1) مابين المربعين ساقط من ب، ج‍، ز. (2) أبو شريح الخزاعى: هو أبو شريح الكعبي، واختلف في اسمه، والمشهور أنه خويلد بن عمرو بن صخر، أسلم يوم الفتح. (3) راجع ج‍ 5 ص 156. (*)
[ 253 ]
آخرون: ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع (1) حين كسرت ثنية المرأة، رواه الائمة قالوا: فلما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وقال: (القصاص كتاب الله، القصاص كتاب الله) ولم يخبر المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص، والاول أصح، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة ابن سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود). فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: تأخذ به ! نعم آخذ به، وذلك الفرض على وعلى من سمعه، إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت. الخامسة عشرة - قوله تعالى: " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " اختلف العلماء في تأويل " من " و " عفي " على تأويلات خمس: أحدها - أن " من " يراد بها القاتل، و " عفي " تتضمن عافيا هو ولي الدم، والاخ هو المقتول، و " شئ " هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتول وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان. (1) الربيع (بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد المثناة المكسورة بعدها عين مهملة) وهى عمة أنس بن مالك. (*)
[ 254 ]
الثاني: وهو قول مالك أن " من " يراد به الولي " وعفي " يسر، لا على بابها في العفو، والاخ يراد به القاتل، و " شئ " هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول: إذا رضي الاولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة: إن معنى " عفي " بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال الله تعالى: " خذ العفو (1) " [ الاعراف: 199 ] أي ما سهل. وقال أبو الاسود الدؤلي: * خذي العفو مني تستديمي مودتي * [ وقال (2) صلى الله عليه وسلم: (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله) يعني شهد الله على عباده. فكأنه قال: من بذل له شئ من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف. وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة [ المائدة ] " فمن تصدق به فهو كفارة له (3) " [ المائدة: 45 ] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الاية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالاداء بالاحسان ]. وقد قال قوم: إن هذه الالفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الاية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الاية: فمن فضل له من الطائفتين على الاخرى شئ من تلك الديات، ويكون " عفي " بمعنى فضل. [ روى (2) سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: (القتل سواء) فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الاخر، فهو قوله: " كتب " إلى قوله: " فمن عفي له من أخيه شئ " يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الاية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ ]. (1) راجع ج‍ 7 ص 344. (2) مابين المربعين في ح، وساقط من سائر النسخ. (3) ج‍ 6 ص 208. (*)
[ 255 ]
وتأويل خامس (1) - وهو قول علي رضي الله عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و " عفي " في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل. السادسة عشرة - هذه الاية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لان المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: " فمن عفي له " شرط والجواب، " فاتباع " وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن " فاتباعا "، و " أداء " بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة " فاتباعا " بالنصب. والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى: " فإمساك بمعروف (2) " [ البقرة: 229 ]. وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله: " فضرب الرقاب (3) " [ محمد: 4 ]. السابع عشرة - قوله تعالى: " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " لان أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الانجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الامة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا. قوله تعالى: " فمن اعتدى بعد ذلك فله " شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ الدم (4) ] قاتل وليه. " فله عذاب أليم " قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجئ قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية. واختلف العلماء فيمن تقل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الاخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعفى (5) من قتل بعد أخذ (1) يلاحط أن المؤلف رحمه الله لم يذكر التأويل الثالث والرابع. (2) راجع ج‍ 3 ص 127. (3) راجع ج‍ 16 ص 225. (4) زيادة يقتضيها السياق. (5) أعفى: من عفا الشئ إذا كثر وزاد، وهذا دعاء عليه، أي لا كثر ماله ولا استغنى. (*)
[ 256 ]
الدية). وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الاخرة. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الامام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا). قوله تعالى: ولكم في القصاص حيوة يأولى الالبب لعلكم تتقون (179). فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك. والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الاخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة. الثانية - اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لاحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض. الثالثة - وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل، لقوله جل ذكره: " كتب عليكم القصاص في القتلى "، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت صادقا لاقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري
[ 257 ]
قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ تعال ] فاستقد). قال: بل عفوت يا رسول الله. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه !. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه. وذكر الحديث بمعناه. الرابعة - قوله تعالى: " لعلكم تتقون " تقدم (1) معناه. والمراد هنا " تتقون " القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لانواع التقوى في غير ذلك، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي " ولكم في القصص حياة ". قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص. وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة. قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين (180). فيه إحدى وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: " كتب عليكم " هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الاية، [ وفي (2) " النساء ": " من بعد وصية (3) " [ النساء: 12 ] وفي " المائدة ": " حين الوصية (4) ". [ المائدة: 106 ]. والتي في البقرة أتمها وأكملها ] ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي (1) يراجع ج‍ 1 ص 226 وما بعدها، طبعة ثانية. (2) مابين المربعين ساقط في ب، ج‍، ز. (3) راجع ج‍ 5 ص 73. (4) راجع ج‍ 6 ص 348. (*)
[ 258 ]
بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الاقوال: " لا يصلاها إلا الاشقى. الذي كذب وتولى " (1) [ الليل: 15 - 16 ] أي والذي، فحذف. وقيل: لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية، فالاية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و " كتب " معناه فرض وأثبت، كما تقدم (2). وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم: يأيها الراكب المزجي مطيته * سائل بني أسد ما هذه الصوت (3) وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا * قولا يبرئكم إني أنا الموت وقال عنترة: وإن الموت طوع يدي إذا ما * وصلت بنانها بالهندوان وقال جرير في مهاجاة الفرزدق: أنا الموت الذي حدثت عنه * فليس لهارب مني نجاء الثانية - إن قيل: لم قال " كتب " ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة ؟ قيل له: إنما ذلك لانه أراد بالوصية الايصاء. وقيل: لانه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة. وقد حكى سيبويه: قام امرأة. ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل. الثالثة - قوله تعالى: " إن ترك خيرا " " إن " شرط، وفي جوابه لابي الحسن الاخفش قولان، قال الاخفش: التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر: من يفعل الحسنات الله يشكرها * والشر بالشر عند الله مثلان والجواب الاخر: أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية للوالدين والاقربين إن ترك خيرا. فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدر (1) راجع ج‍ 20 ص 86. (2) راجع ص 244 من هذا الجزء. (3) الصوت مذكر، وإنما أنثه ها هنا لانه أراد به الضوضاء والجلبة، على معنى الصيحة. (عن اللسان). (*)
[ 259 ]
الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل " الوصية " في " إذا " لانها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة. ويجوز أن يكون العامل في " إذا ": " كتب " والمعنى: توجه إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الايجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الازل. ويجوز أن يكون العامل في " إذا " الايصاء يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى: كتب عليكم الايصاء إذا. الرابعة - قوله تعالى: " خيرا " الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل: المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا سبعمائة دينار إنه قليل. قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبي ما بين خمسمائة دينار إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شئ يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشئ وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية (بالكسر والفتح). وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان (1) عندكم). ووصيت الشئ بكذا إذا وصلته به. الخامسة - اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شئ من ذلك، وهو قول مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصى أو فقيرا. وقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهدي وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال (1) عوان (جمع عانة): وهى الاسيرة. يقول: إنما هن عندكم بمنزلة الامرى. (*)
[ 260 ]
لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن، لان الله فرض أداء الامانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الاولون بما رواه الائمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شئ يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) وفي رواية (يبيت ثلاث ليال) وفيها قال عبد الله بن عمر: ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. احتج من لم يوجبها بأن قال: لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي، ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور. وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: " كتب عليكم " وكتب بمعنى فرض، فدل على وجوب الوصية. قيل لهم: قد تقدم الجواب عنه في الاية قبل، والمعنى: إذا أردتم الوصية، والله أعلم. وقال النخعي: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شئ عليه. السادسة - لم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال: " إن ترك خيرا " والخير المال، كقوله: " وما تنفقوا من (1) خير " [ البقرة: 272 ]، " وإنه لحب الخير (2) " [ العاديات: 8 ] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس. وقال علي رضي الله عنه من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر عن قتادة. أوصى عمر بالربع. وذكره البخاري عن ابن عباس. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لان أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولان أوصي بالربع أحسن إلي من أوصي بالثلث). واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين. روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن (1) راجع ج‍ 3 ص 339. (2) راجع ج‍ 20 ص 162. (*)
[ 261 ]
عائشة قال لها: إني أريد أن أوصي: قالت: وكم مالك ؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك ؟ قال أربعة. قالت: إن الله تعالى يقول: " إن ترك خيرا " وهذا شئ يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك. السابعة - ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لاحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله. وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله عليه السلام: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث، رواه الائمة. ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي. وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه ؟ قولان. الثامنة - أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله. وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله: إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبد الله: فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم. التاسعة - وأجمعوا أن للانسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر، فقال مالك رحمه الله: الامر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده). قال أبو الفرج المالكي: المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر، لانه أجل آت
[ 262 ]
لا محالة. وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: هو وصية، لاجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا. وفي إجازتهم وطئ المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبرا، وأن عائشة دبرت جارية لها ثم باعتها، وهو قول جماعة من التابعين. وقالت طائفة: يغير الرجل من وصيته ما شاء إلا العتاقة. وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي، وهو قول سفيان الثوري. العاشرة - واختلفوا في الرجل يقول لعبده: أنت حر بعد موتي، وأراد الوصية، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال: فلان مدبر بعد موتي، لم يكن له الرجوع فيه. وإن أراد التدبير بقوله الاول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية، لانه في الثلث، وكل ما كان في الثلث فهو وصية، إلا أن الشافعي قال: لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة. وليس قوله: (قد رجعت) رجوعا، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حثى يموت فإنه يعتق بموته. وقال في القديم: يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية. واختاره المزني قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه. وقال أبو ثور: إذا قال قد رجعت في مدبري فقد بطل التدبير، فإن مات لم يعتق. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: عبدي حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم: هو وصية. وقال أشهب: هو مدبر وإن لم يرد الوصية. الحادية - اختلف العلماء في هذه الاية هل هي منسوخة أو محكمة، فقيل: هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قاله الضحاك وطاوس والحسن، واختاره الطبري. وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والاقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة: الاية عامة، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر، ونسخ منها كل من كان يرث بآية
[ 263 ]
الفرائض. وقد قيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قوله عليه السلام: (إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث). رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. فنسخ الاية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالارث، على الصحيح من أقوال العلماء. ولولا هذا الحديث لامكن الجمع بين الايتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والاجماع. والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الاسماء، وقد تقدم هذا المعنى (1). ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث. فقد ظهر أن وجوب الوصية للاقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين. والله أعلم. وقال ابن عباس والحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة " النساء " وثبتت للاقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم. وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، وجعل للابوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع. وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الاية كلها منسوخة، وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي. وقال الربيع بن خثيم (2): لا وصية. قال عروة بن ثابت: قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ولده وقرأ " وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله (3) " [ الانفال: 75 ]. ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه. (1) يراجع 65 من هذا الجزء. (2) خثيم: بضم أوله وفتح المثلة، كذا في التقريب. وفى الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة ينهما تحتانية ساكنة. (3) راجع ج‍ 8 ص 58. (*)
[ 264 ]
الثانية عشرة - قوله تعالى: " والاقربين " الاقربون جمع أقرب. قال قوم: الوصية للاقربين أولى من الاجانب، لنص الله تعالى عليهم، حتى قال الضحاك: إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية. وروي عن ابن عمر (1) أنه أوصى لامهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت. وروي عن سالم ابن عبد الله بمثل ذلك. وقال الحسن: إن أوصى لغير الاقربين ردت الوصية للاقربين، فإن كانت لاجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم. وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبا له ! أعتقته امرأة من رياح (2) وأوصى بماله لبني هاشم. وقال الشعبي: لم يكن له ذلك ولا كرامة. وقال طاوس: إذا أوص لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله، وقاله جابر بن زيد، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا، وبه قال إسحاق بن راهوية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والاوزاعي وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع ! وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر. وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة، وهو قول ابن عمر وابن عباس. قلت: القول الاول أحسن، وأما أبو العالية رضي الله عنه فلعله نظر إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والاخرى. وهذه الابوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية، ومعتقته غايتها أن ألحقته بالاحرار في الدنيا، فحسبها ثواب عتقها، والله أعلم. الثالثة عشرة - ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله، وشذ أهل الظاهر فقالوا: لا يحجر عليه وهو كالصحيح، والحديث والمعنى يرد عليهم. قال سعد: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت (3) منه على الموت فقلت يا رسول الله، بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة، (1) في ب، ج‍: " عن عمر ". والمعروف أن سيدنا عمر مات مدينا. (2) رياح (ككتاب): قبيلة. (3) أشفى على الشئ: أشرف. (*)
[ 265 ]
أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال: (لا)، قلت: أفأتصدق بشطره ؟ قال: (لا، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث. ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازا الورثة، وهو الصحيح، لان المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم. وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة). وروي عن عمرو بن خارجة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة). الرابعة عشرة - واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته، فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء بن ابي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والاوزاعي. وقالت طائفة: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا. هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق. احتج أهل المقالة الاولى بأن المنع إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لاجنبي جاز بإجازتهم، فكذلك ها هنا. واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شئ. واحتج مالك بأن قال: إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لانه قد فات. الخامسة عشرة - فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لانه لم يفت بالتنفيذ، قاله الابهري. وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهوية أن قول مالك في هذه المسألة
[ 266 ]
أشبه بالسنة من غيره. قال ابن المنذر: واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم. السادسة عشرة - واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال، ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل الله، فلم يجيزوه. فقال مالك: إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم. وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق يمضي في سبيل الله. السابعة عشرة - لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره، فقال مالك: الامر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به. وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز وصية الصبي. وقال المزني: وهو قياس قول الشافعي، ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه. واختلف أصحابه على قولين: أحدهما كقول مالك، والثاني كقول أبي حنيفة. وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا يحد في قذف، فليس كالبالغ المحجور عليه، فكذلك وصيته. قال أبو عمر: قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة. ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل، فوجب أن تجوز وصيته مع الامر الذي جاء فيه عن عمر رضي الله عنه. وقال مالك: إنه الامر المجمع عليه عندهم بالمدينة، وبالله التوفيق. وقال محمد بن شريح: من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فالله قضاه على لسانه ليس للحق مدفع. الثامنة عشرة - قوله تعالى: " بالمعروف " يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكولا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان
[ 267 ]
نبيه عليه السلام، فقال عليه السلام: (الثلث والثلث كثير)، وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة). أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: لا تجوز وصية إلا في الثلث، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى: " وأن احكم بينهم بما أنزل الله (1) " [ المائدة: 49 ] وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله. فمن تجاوز ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عالما. وقال الشافعي: وقوله (الثلث كثير) يريد أنه غير قليل. التاسعة عشرة - قوله تعالى: " حقا " يعني ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب، بدليل قوله: " على المتقين " وهذا يدل على كونه ندبا، لانه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به، لانه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه، وقد تقدم هذا المعنى. وانتصب " حقا " على المصدر المؤكد، ويجوز في غير القرآن " حق " بمعنى ذلك حق. الموفية عشرين - قال العلماء: المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الاية وإنما هي من حديث ابن عمر. وفائدتها: المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه. الحادية والعشرون - روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم (هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (1) راجع ج‍ 6 ص 212. (*)
[ 268 ]
وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون). قوله تعالى: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فمن بدله " شرط، وجوابه " فإنما إثمه على الذين يبدلونه " و " ما " كافة ل‍ " إن " عن العمل. و " إثمه " رفع بالابتداء، " على الذين يبدلونه " موضع الخبر. والضمير في " بدله " يرجع إلى الايصاء، لان الوصية في معنى الايصاء، وكذلك الضمير في " سمعه "، وهو كقوله: " فمن جاءه موعظة من ربه (1) " [ البقرة: 275 ] أي وعظ، وقوله: " إذا حضر القسمة (2) " [ النساء: 8 ] أي المال، بدليل قوله " منه ". ومثله قول الشاعر: * ما هذه الصوت * أي الصيحة. وقال امرؤ القيس: برهرهة رؤدة رخصة * كخرعوبة البانة المنفطر (3) والمنفطر المنتفخ بالورق، وهو أنعم ما يكون، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة. و " سمعه " يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان. والضمير في " إثمه " عائد على التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي. وقيل: إن هذا الموصي إذا غير فترك الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الاثم. (1) راجع ج‍ 3 ص 359. (2) راجع ج‍ 5 ص 48. (3) البرهرهة: الرقيقة الجلد، أو هي الملساء المترجمة. الرؤدة والرؤدة: الشابة الحسنة، السريعة الشباب مع حسن غذا، والرخصة: اللينة الخلق. والخرعوبة: القضيب الغض اللدن. والبانة: يريد شجر البان. (*)
[ 269 ]
الثانية - في هذه الاية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الاجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره. وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: " وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه ". الثالثة - ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شئ من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر. الرابعة - قوله تعالى: " إن الله سميع عليم " صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شئ من جنف الموصين وتبديل المعتدين. قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182). فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فمن خاف " " من " شرط، و " خاف " بمعنى خشي. وقيل: علم. والاصل خوف، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون " خاف " ليدلوا على الكسرة من فعلت. " من موص " بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، وخفف الباقون، والتخفيف أبين، لان أكثر النحويين يقولون " موص " للتكثير. وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم. " جنفا " من جنف يجنف إذا جار، والاسم منه جنف وجانف، عن النحاس. وقيل: الجنف الميل. قال الاعشى: تجانف عن حجر (1) اليمامة ناقتي * وما قصدت من أهلها لسوائكا وفي الصحاح: " الجنف " الميل. وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال، ومنه قوله تعالى: " فمن خاف من موص جنفا ". قال الشاعر (2): هم المولى وإن جنفوا علينا * وإنا من لقائهم لزور (1) في الصحيح المنير واللسان: " جو ". (2) هو عامر الخصفى. (*)
[ 270 ]
قال أبو عبيدة: المولى ها هنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله تعالى: " ثم يخرجكم طفلا " (1). وقال لبيد: إني امرؤ منعت أرومة عامر * ضيمي وقد جنفت على خصومي قال أبو عبيدة: وكذلك الجانئ (بالهمز) وهو المائل أيضا. ويقال: أجنف الرجل، أي جاء بالجنف. كما يقال: ألام، أي أتى بما يلام عليه. وأخس، أي أتى بخسيس. وتجانف لاثم، أي مال. ورجل أجنف، أي منحني الظهر. وجنفى (على فعلى بضم الفاء وفتح العين ": اسم موضع، عن ابن السكيت. وروي عن على أنه قرأ " حيفا " بالحاء والياء، أي ظلما. وقال مجاهد: " فمن خاف " أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الاذية (2)، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم. فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه. " إن الله غفور " عن الموصى إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الاذية. وقال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: معنى الاية من خاف أي علم ورأى وأتى علمه بعد موت الموصى أن الموصى جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق " فلا إثم عليه "، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل. وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، ولكنة تبديل لمصلحة. والتبديل الذى فيه الاثم إنما هو تبديل الهوى. الثانية - الخطاب بقوله: فمن خاف " لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصى بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الاصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الاثم عن المصلح. والاصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عم الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل. (1) راجع ج‍ 15 ص 330. (2) في الاصول هنا وفيما سيأتي " الاذاية ". (*)
[ 271 ]
الثالثة - في هذه الاية دليل على الحكم بالظن، لانه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح. وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له. قوله تعالى: " فأصلح بينهم " عطف على " خاف "، والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لانه قد عرف المعنى، وجواب الشرط " فلا إثم عليه ". الرابعة - لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت، لقوله عليه السلام وقد سئل: أي الصدقة أفضل ؟ فقال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) الحديث، أخرجه أهل الصحيح. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لان يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة). وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع). الخامسة - من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته. روى الدارقطني عن معاوية بن قرة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته). فإن ضر في الوصية وهي: السادسة - فقد روى الدارقطني أيضا عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الاضرار في الوصية من الكبائر). وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار). وترجم النسائي " الصلاة على من جنف (1) في وصيته " أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن زاذان عن الحسن (2) عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال (1) في سنن النسائي: " حيف " بالحاء والياء. (2) كذا في النسائي. وفى الاصول: " عن الحسن عن سمرة عن عمران ". (*)
[ 272 ]
غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك وقال: (لقد هممت ألا أصلي عليه) [ ثم دعا مملوكيه (1) ] فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة. وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره: وقال له قولا شديدا، بدل قوله: (لقد هممت ألا أصلي عليه). قوله تعالى: يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم االصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) أياما معدودت فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج) رواه ابن عمر. ومعناه في اللغة: الامساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصمت صوم، لانه. إمساك عن الكلام. قال الله تعالى مخبرا عن مريم: " إني نذرت للرحمن صوما (2) " [ مريم: 26 ] أي سكوتا عن الكلام. والصوم: ركود الريح، وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على آريها (3): قامت وثبتت فلم تعتلف. وصام النهار: اعتدل. ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة * تحت العجاج وخيل تعلك اللجما (1) الزيادة عن سنن النسائي. (2) راجع ج‍ 11 ص 97. (3) الارى: حبل تشد به الداية في محبسها، ويسمى الاخية. (*)
[ 273 ]
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال (1): * كأن الثريا علقت في مصامها * أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل، وقوله: * والبكرات شرهن الصائمة (2) * يعني التي لا تدور. وقال امرؤ القيس: فدعها (3) وسل الهم عنك بجسرة * ذمول إذا صام النهار وهجرا أي ابطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالابطاء كالممسكة. وقال آخر: حتى إذا صام النهار واعتدل * وسال للشمس لعاب فنزل وقال آخر: نعاما بوجرة صفر الخدود * دما تطعم النوم إلا صياما (4) أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير. والصوم في الشرع: الامساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله بآجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). الثانية - فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الائمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك الان منها في فضل الصوم أن خصه الله بالاضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مخبرا عن ربه: (1) هو أمرؤ القيس، كما في اللسان والمعلقات، وتمام البيت: * بأمراس كان على صم جندل * (2) قبله: * شر الدلاء الولغة الملازمة * (3) في الاصول: " فدع ذا " والتصويب عن الديوان واللسان. (4) تقدم الكلام على هذا البيت ج‍ 1 ص 423 طبعة ثانية، فليراجع. (*)
[ 274 ]
(يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) الحديث. وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لامرين باين الصوم بهما سائر العبادات. أحدهما - أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات. الثاني - أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. وقيل غير هذا. الثالثة - قوله تعالى: " كما كتب " الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما. أو على الحال من الصيام، أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم. وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الاجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته ب‍ " كما " إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول. و " ما " في موضع خفض، وصلتها: " كتب على الذين من قبلكم ". والضمير في " كتب " يعود على " ما ". واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهى: الرابعة - فقال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الاشبه بما في الاية. وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل ابن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمن هذه السبعة الايام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين). وقال مجاهد: كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة. وقيل:
[ 275 ]
أخذوا بالوثيقة (1) فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي. قلت: ولهذا - والله أعلم - كره الان صوم يوم الشك والستة من شوال بإثر يوم الفطر متصلا به. قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لافطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لانه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لانفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الاخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى: " كما كتب على الذين من قبلكم ". وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية. وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الاكل والشرب والنكاح، فإذا حان الافطار فلا يفعل هذه الاشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الاسلام، ثم نسخه الله تعالى بقوله: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " [ البقرة: 187 ] على ما يأتي بيانه (2)، قاله السدي وأبو العالية والربيع. وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. المعنى: " كتب عليكم الصيام " أي في أول الاسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، " كما كتب على الذين من قبلكم " وهم اليهود - في قول ابن عباس - ثلاثة أيام ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا في هذه الامة بشهر رمضان. وقال معاذ بن جبل: نسخ ذلك " بأيام معدودات " ثم نسخت الايام برمضان. الخامسة - قوله تعالى: " لعلكم تتقون " " لعل " ترج في حقهم، كما تقدم (3). و " تتقون " قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الاكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت (1) الوثيقة في الامر: إحكامه والاخذ بالثقة. (2) راجع ص 314 من هذا الجزء. (3) يراجع ج‍ 1 ص 226 طبعة ثانية. (*)
[ 276 ]
الشهوة قلت المعاصي. وهذا وجه مجازي حسن. وقيل: لتتقوا المعاصي. وقيل: هو على العموم، لان الصيام كما قال عليه السلام: (الصيام جنة ووجاء (1)) وسبب تقوى، لانه يميت الشهوات. السادسة - قوله تعالى: " أياما معدودات " " أياما " مفعول ثان ب‍ " كتب "، قاله الفراء. وقيل: نصب على الظرف ل‍ " كتب "، أي كتب عليكم الصيام في أيام. والايام المعدودات: شهر رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ، والله أعلم. قوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " فيه ست عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: " مريضا " للمريض حالتان: إحداهما - ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا. الثانية - أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الانسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة. قال طريف ابن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت أصبعي هذه. وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به. وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة. وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لانه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرضى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام. وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر، وقاله النخعي. وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من (1) الوجاء: أن ترض أنثيا الفحل رضا شديدا يذهب شهوة الجماع، وينزل في قطعة منزلة الخصى. أراد أن الصوم يقطع النكاح كما يقطعه الوجاء. (*)
[ 277 ]
دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى. قلت: قول ابن سيربن أعدل شئ في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله ؟ فقلت نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض افطر ؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى: " فمن كان منكم مريضا " قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر. الثانية - قوله تعالى: " أو على سفر " اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والاجازة، والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا، قال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلا، وقال مرة: مسيرة يوم وليلة، وروى عنه يومان، وهو قول الشافعي. وفصل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، حكاه ابن عطية. قلت: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا.
[ 278 ]
الثالثة - اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لان المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لانه إذا نوى الاقامة كان مقيما في الحين، لان الاقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا. ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج، فإن أفطر فقال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في أسباب الحركة فلا شئ عليه، وحكى ذلك عن أصبغ وابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة، وحسبه أن ينجو إن سافر ؟. وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم، لانه متأول في فطره. وقال أشهب: ليس عليه شئ من الكفارة سافر أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، وهو بمنزلة المرأة تقول: غدا تأتيني حيضتي، فتفطر لذلك، ثم رجع إلى قول عبد الملك وأصبغ وقال: ليس مثل المرأة، لان الرجل يحدث السفر إذا شاء، والمرأة لا تحدث الحيضة. قلت: قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن، لانه فعل ما يجوز له فعله، والذمة بريئة، فلا يثبت فيها شئ إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى: " أو على سفر ". وقال أبو عمر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، لانه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول، ولو كان الاكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لانه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده كذلك، إن شاء الله تعالى. وقد روى الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم قال: أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد ابن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب. فقلت له: سنة ؟ قال نعم. وروي عن أنس أيضا قال قال لي أبو موسى: ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائما، وإذا دخلت دخلت صائما، فإذا خرجت فاخرج مفطرا، وإذا دخلت فادخل
[ 279 ]
مفطرا. وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج. وقال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت. وقال إسحاق: لا، بل حين يضع رجله في الرحل. قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لانهم يقولون لمن أصبح صحيحا ثم اعتل: إنه يفطر بقية يومه، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الانصاري ومالك والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال يقضي ولا يكفر. قال مالك: لان السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه. وروي عن بعض أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وحكاه الباجي عن الشافعي، واختاره ابن العربي وقال به، قال: لان السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة ويخالف المرض والحيض، لان المرض يبيح له الفطر، والحيض يحرم عليها الصوم، والسفر لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته. قال أبو عمر: وليس هذا بشئ، لان الله سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة. وأما قولهم " لا يفطر " فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج مسافرا، وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق. قلت: وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه المسألة " باب من أفطر في السفر ليراه الناس " وساق الحديث عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان (1)، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان. وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس وقال فيه: ثم دعا بإناء فيه شراب شربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة. وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه، وبالله التوفيق. وفيه أيضا حجة على من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر. روي عن عمر وابن عباس (1) عسفان (بضم العين وسكون السين المهملتين): قرية بينها وبين مكة ثمانية وأربعون ميلا. (*)
[ 280 ]
وأبي هريرة وابن عمر. قال ابن عمر: من صام في السفر قضى في الحضر. وعن عبد الرحمن ابن عوف: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وقال به قوم من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله تعالى: " فعدة من أيام أخر " على ما يأتي بيانه، وبما روى كعب بن عاصم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من البر الصيام في السفر). وفيه أيضا حجة على من يقول: إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، وإليه ذهب مطرف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث. وكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لانه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر، فإن أفطر عامدا من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كفر، لانه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، لان المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره. وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنه لا كفارة عليه، منهم الثوري والاوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، قال أبو عمر. الرابعة - واختلف العلماء في الافضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخير، ولم يفصل، وكذلك ابن علية، لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قالا: الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمرو ابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبى وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والاوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل، لقول الله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " [ البقرة: 185 ].
[ 281 ]
الخامسة - قوله تعالى: " فعدة من أيام " في الكلام حذف، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض. والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما. وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي: إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الايام. قال الكيا الطبري: وهذا بعيد، لقوله تعالى: " فعدة من أيام أخر " ولم يقل فشهر من أيام أخر. وقوله: " فعدة " يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده. السادسة - قوله تعالى: " فعدة " ارتفع " عدة " على خبر الابتداء، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح فعليه عدة. وقال الكسائي: ويجوز فعدة، أي فليصم عدة من أيام. وقيل: المعنى فعليه صيام عدة، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامة. والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا (1). ومنه عدة المرأة. " من أيام أخر " لم ينصرف " أخر " عند سيبوبه، لانها معدولة عن الالف واللام، لان سبيل فعل من هذا الباب أن يأتي بالالف واللام، نحو الكبر والفضل. وقال الكسائي: هي معدولة عن آخر، كما تقول: حمراء وحمر، فلذلك لم تنصرف. وقيل: منعت من الصرف لانها على وزن جمع وهي صفة لايام، ولم تجئ أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة. وقيل: إن " أخر " جمع أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل: أيام أخر. وقيل: إن نعت الايام يكون مؤنثا فلذلك نعتت بأخر. السابعة - اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدارقطني في " سننه "، فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت " فعدة من أيام أخر متتابعات " فسقطت (2) " متتابعات " قال هذا إسناد صحيح. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله (1) مثل يضرب للرجل الذى يكثر الكلام ولا يعمل، وللذى بعد ولا يفعل. (2) قال الزرقاني في شرح الموطأ: معنى " سقطت " نسخت، قال: وليس بين اللوحين " متتابعات " أي ليس في المصحف كلمة " متتابعات ". وقال الدارقطني: إن كلمة " سقطت " انفرد بها عروة. (*)
[ 282 ]
عليه وسلم: (من كان عليه صوم من رمضان فليسرده (1) ولا يقطعه) في إسناده عبد الرحمن ابن إبراهيم ضعيف الحديث. وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان " صمه كيف شئت ". وقال ابن عمر: " صمه كما أفطرته ". وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص. وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال: (ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فالله أحق أن يعفو ويغفر). إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا. وفي موطأ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر (2). قال الباجي في " المنتقى ": " يحتمل أن يريد الاخبار عن الوجوب، ويحتمل أن يريد الاخبار عن الاستحباب، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء. وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي. والدليل على صحة هذا قوله تعالى: " فعدة من أيام أخر " ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه ". ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق. الثامنة - لما قال تعالى: " فعدة من أيام أخر " دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لان اللفظ مسترسل على الازمان لا يختص ببعضها دون بعض. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل (3) من رسول الله، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية: وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا نص وزيادة بيان للاية. وذلك يرد على داود قوله: إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال. ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لان الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها. ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري (1) أي يتابعه. (2) عبارة الموطأ: " يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر ". (3) قال النووي: هو مرفوع على أنه فاعل لفعل مقدر، أي يمنعنى الشغل. (*)
[ 283 ]
غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله. وقال بعض الاصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم. والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض. التاسعة - من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الايام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه، لانه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير. هذا قول البغداديين من المالكيين، ويرونه قول ابن القاسم في المدونة. العاشرة - فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: نعم. وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي وداود: لا. قلت: وإلى هذا ذهب البخاري لقوله، ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم، ولم يذكر الله الاطعام، إنما قال: " فعدة من أيام أخر ". قلت: قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا. خرجه الدارقطني وقال: إسناد صحيح. وروي عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: (يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا). في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان. الحادية عشرة - فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر، فروى الدارقطني عن ابن عمر أنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة، ثم ليس عليه قضاء. وروي أيضا عن أبي هريرة أنه قال: إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني
[ 284 ]
ولا قضاء عليه، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي، فإذا أفطر قضاه، إسناد صحيح. قال علماؤنا: وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج بها. وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال: مرضت رمضانين ؟ فقال له ابن عباس: استمر بك مرضك، أو صححت بينهما ؟ فقال: بل صححت، قال: صم رمضانين وأطعم ستين مسكينا. وهذا بدل من قوله: إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه. وهذا يشبه مذهبهم في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، على ما يأتي (1). الثانية عشرة - واختلف من أوجب عليه الاطعام في قدر ما يجب أن يطعم، فكان أبو هريرة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي يقولون: يطعم عن كل يوم مدا. وقال الثوري: يطعم نصف صاع عن كل يوم. الثالثة - واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه، فقال مالك: من أفطر يوما من قضاء رمضان ناسيا لم يكن عليه شئ غير قضائه، ويستحب له أن يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه، ولو أفطره عامدا أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك اليوم ولا يتمادى، لانه لا معنى لكفه عما يكف الصائم ها هنا إذ هو غير صائم عند جماعة العلماء لافطاره عامدا. وأما الكفارة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنها لا تجب في ذلك، وهو قول جمهور العلماء. قال مالك: ليس على من أفطر يوما من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم. وقال قتادة: على من جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه يومان، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال: إن أفطر عمدا في قضاء القضاء كان عليه مكانه صيام يومين، كمن أفسد حجه بإصابة أهله، وحج قابلا فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله كان عليه حجتان. قال أبو عمر: قد خالفه في الحج ابن وهب وعبد الملك، وليس يجب القياس على أصل مختلف فيه. والصواب عندي - والله أعلم - أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد، لانه يوم واحد أفسده مرتين. (1) راجع ص 288 من هذا الجزء. (*)
[ 285 ]
قلت: وهو مقتضى قوله تعالى: " فعدة من أيام أخر " فمتى أتى بيوم تام بدلا عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه، ولا يجب عليه غير ذلك، والله أعلم. الرابعة عشرة - والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته تلك، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شئ عليه. وقال طاوس وقتادة في المريض يموت قبل أن يصح: يطعم عنه. الخامسة عشرة - واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه، فقال مالك والشافعي والثوري: لا يصوم أحد عن أحد. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور والليث وأبو عبيد وأهل الظاهر: يصام عنه، إلا أنهم خصصوه بالنذر، وروي مثله عن الشافعي. وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان: يطعم عنه. احتج من قال بالصوم بما رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه). إلا أن هذا عام في الصوم، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: جاءت أمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر - وفي رواية صوم شهر - أفأصوم عنها ؟ قال: (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها) قالت: نعم، قال: (فصومي عن أمك). احتج مالك ومن وافقه بقوله سبحانه: " ولا تزر وازرة وزر أخرى (1) " [ الانعام: 164 ] وقوله: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " (2) [ النجم: 39 ] وقوله: " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " (1) [ الانعام: 164 ] وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة). قلت: وهذا الحديث عام، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: (لا يصوم أحد عن أحد) صوم رمضان. فأما صوم النذر فيجوز، بدليل حديث ابن عباس وغيره، فقد جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس، وفي بعض طرقه: صوم شهرين أفأصوم عنها ؟ قال: (صومي عنها) قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال: (1) راجع ج‍ 7 ص 156، 157. (2) راجع ج‍ 17 ص 114. (*)
[ 286 ]
(جي عنها). فقولها: شهرين، يبعد أن يكون رمضان، والله أعلم. وأقوى ما يحتج به لمالك أنه عمل أهل المدينة، ويعضده القياس الجلي، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة. ولا ينقص هذا بالحج لان للمال فيه مدخلا. السادسة عشرة - استدل بهذه الاية من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا، فإن الله تعالى يقول: " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار. [ وبقوله (1) عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصيام في السفر) قال: ما لم يكن من البر فهو من الاثم، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر ]. والجمهور يقولون: فيه محذوف فأفطر، كما تقدم. وهو الصحيح، لحديث أنس قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس. وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم). قوله تعالى: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون " فيه خمس مسائل: الاولى قوله تعالى: " وعلى الذين يطيقونه " قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الاصل من غير اعتلال، والقياس الاعتلال. ومشهور قراءة ابن عباس " يطوقونه " بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. وقد روى مجاهد " يطيقونه " بالياء بعد الطاء على لفظ " يكيلونه " وهي باطلة ومحال، لان الفعل مأخوذ من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال. قال أبو بكر الانباري: وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لابي ذؤيب: فقيل تحمل فوق طوقك إنها * مطبعة (2) من يأتها لا يضيرها (1) ما بين المربعين في ج‍. وسائط من سائر نسخ الاصل. (2) مطبعة: مملوءة. (*)
[ 287 ]
فأظهر الواو في الطوق، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب. وروى ابن الانباري عن ابن عباس " يطيقونه " بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه، يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى. وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن دينار " يطوقونه " بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لان الاصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن، خلافا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير. وقرأ أهل المدينة والشام " فدية طعام " مضافا، " مساكين " جمعا. وقرأ ابن عباس " طعام مسكين " بالافراد فيما ذكر البخاري وأبو داود والنسائي عن عطاء عنه. وهي قراءة حسنة، لانها بينت الحكم في اليوم، واختارها أبو عبيد، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. قال أبو عبيد: فبينت أن لكل يوم إطعام واحد، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد. وجمع المساكين لا يدري كم منهم في اليوم إلامن غير الاية. وتخرج قراءة الجمع في " مساكين " لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه، كما قال تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة (1) " [ النور: 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون، قال معناه أبو علي. واختار قراءة الجمع النحاس قال: وما اختاره أبو عبيد مردود، لان هذا إنما يعرف بالدلالة، فقد علم أن معنى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين " أن لكل يوم مسكينا، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع. قال النحاس: واختار أبو عبيد أن يقرأ " فدية طعام " قال: لان الطعام هو الفدية، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لانه جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أن يقرأ " فدية طعام " بالاضافة، لان " فدية " مبهمة تقع للطعام وغيره، فصار مثل قولك: هذا ثوب خز. الثانية - واختلف العلماء في المراد بالاية، فقيل: هي منسوخة. روى البخاري: " وقال ابن نمير حدثنا [ الاعمش حدثنا ] عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن (1) راجع ج‍ 12 ص 171. (*)
[ 288 ]
يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها " وأن تصوموا خير لكم ". وعلى هذا قراءة الجمهور " يطيقونه " أي يقدرون عليه، لان فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا. وقال ابن عباس: نزلت هذه الاية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " [ البقرة: 185 ] فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم. قال الفراء: الضمير في " يطيقونه " يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله: "، وأن تصوموا ". ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية. وأما قراءة " يطوقونه " على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك. ففسر ابن عباس - إن كان الاسناد عنه صحيحا - " يطيقونه " بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن. روى أبو داود عن ابن عباس " وعلى الذين يطيقونه " قال: أثبتت للحبلى والمرضع. وروي عنه أيضا " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وخرج الدارقطني عنه أيضا قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح. وروي عنه أنه قال: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام " ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال لام ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح. وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع - من غير شك - فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح. قلت: فقد ثبت بالاسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الاية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الاول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك
[ 289 ]
بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، والله أعلم. وقال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والاوزاعي وأصحاب الرأي: الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما، بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور. وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور، واختاره ابن المنذر، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والاطعام. وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويطعمان ويقضيان، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا. واختلفوا فيما عليهم، فقال ربيعة ومالك: لا شئ عليهم، غير أن مالكا قال: لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إلى. وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة: عليهم الفدية. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، اتباعا لقول الصحابة رضي الله عن جميعهم، وقوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " ثم قال: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين، فوجبت عليهم الفدية. والدليل لقول مالك: أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض. وروي هذا عن الثوري ومكحول، واختاره ابن المنذر. الثالثة - واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها، فقال مالك: مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يوم أفطره، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر. وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة، ذكره الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال: من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح. وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم. الرابعة - قوله تعالى: " فمن تطوع خيرا فهو خير له " قال ابن شهاب: من أراد الاطعام مع الصوم. وقال مجاهد: من زاد في الاطعام على المد. ابن عباس: " فمن تطوع
[ 290 ]
خيرا " قال: مسكينا آخر فهو خير له. ذكره الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت. و " خير " الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث و " خير " الاول. وقرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " يطوع خيرا " مشددا وجزم العين على معنى يتطوع. الباقون " تطوع " بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي. الخامسة - قوله تعالى: " وأن تصوموا خير لكم " أي والصيام خير لكم. وكذا قرأ أبي، أي من الافطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ. وقيل: " وأن تصوموا " في السفر والمرض غير الشاق والله أعلم. وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم، أي فاعلموا ذلك وصوموا. قوله تعالى: شهر رمضان الذى أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكلموا العدة ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون (185). فيه إحدى وعشرون مسألة: الاولى - قوله تعالى: " شهر رمضان " قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة. وقد تقدم قول مجاهد: كتب الله رمضان على كل أمة (1)، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم، والله أعلم. والشهر مشتق من الاشهار لانه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته. ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش. والرمضاء (ممدودة): شدة الحر، ومنه الحديث: (صلاة (2) الاوابين إذا رمضت الفصال). خرجه مسلم. ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها. فرمضان - فيما ذكروا - وافق شدة الحر، فهو مأخوذ من الرمضاء. قال (1) راجع ص 274 من هذا الجزء. (2) هي الصلاة التى سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الضحى. (*).
[ 291 ]
الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالازمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك. وقيل: إنما سمي رمضان لانه يرمض الذنوب أي يحرقها بالاعمال الصالحة، من الارماض وهو الاحراق، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت. وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني، ومنه قيل: أرمضني الامر. وقيل: لان القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الاخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. والرمضاء: الحجارة المحماة. وقيل: هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق. ومنه نصل رميض ومرموض - عن ابن السكيت -، وسمي الشهر به لانهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الاشهر الحرم. وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية " ناتق " وأنشد للمفضل: وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغي * وولت على الادبار فرسان خثعما و " شهر " بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء، والخبر " الذي أنزل فيه القرآن ". أو يرتفع على إضمار مبتدأ، المعنى: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان. ويجوز أن يكون " شهر " مبتدأ، و " الذي أنزل فيه القرآن " صفة، والخبر " فمن شهد منكم الشهر ". وأعيد ذكر الشهر تعظيما، كقوله تعالى: " الحاقة ما الحاقة ". [ الحاقة: 1 - 2 ]. وجاز أن يدخله معنى الجزاء، لان شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لانه شائع في جميع القابل، قاله أبو علي. وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب " شهر "، ورواها هارون الاعور عن أبي عمرو، ومعناه: الزموا شهر رمضان أو صوموا. و " الذي أنزل فيه القرآن " نعت له، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا، لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو " خير لكم ". الرماني: يجوز نصبه على البدل من قوله " أياما معدودات " [ البقرة: 184 ]. الثانية - واختلف هل يقال " رمضان " دون أن يضاف إلى شهر، فكره ذلك مجاهد وقال: يقال كما قال الله تعالى. وفي الخبر: (لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه الله في القرآن
[ 292 ]
فقال شهر رمضان). وكان يقول: بلغني أنه اسم من أسماء الله. وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى. ويحتج بما روي: رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف. والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين). وفي صحيح البستي عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين). وروي عن ابن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول...، فذكره. قال البستي: أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس، واسم أبي أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة، وهو مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان (1) بن جثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن. وروى النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عزوجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم). وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال: فقوله (مردة الشياطين) تقييد لقوله: (صفدت الشياطين وسلسلت). وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الانصار: (إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة). وروى النسائي أيضا عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى فرض صيام رمضان [ عليكم ] وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). والاثار في هذا كثيرة، كلها بإسقاط شهر. وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان. (1) الذى في ابن خلكان: " غيمان - بغين معجمة وياء تحتها نقطتان - ويقال عثمان - بعين مهملة وثاء مثلثة -، ابن جثيل - بجيم وثاء مثلثة وياء ساكتة تحتها نقطتان. وقال ابن سعد: هو خثيل بخاء معجمة ". وقد ورد هذا التسب في الاصول محرفا. (*)
[ 293 ]
قال الشاعر: جارية في درعها الفضفاض * أبيض من أخت بني إباض جارية في رمضان الماضي * تقطع الحديث بالايماض وفضل رمضان عظيم، وثوابه جسيم، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب، وما كتبناه من الاحاديث. الثالثة - فرض الله صيام شهر رمضان أي مدة هلاله، وبه سمي الشهر، كما جاء في الحديث: (فإن غمي عليكم الشهر) أي الهلال، وسيأتي، وقال الشاعر: أخوان من نجد على ثقة * والشهر مثل قلامة الظفر حتى تكامل في استدارته * في أربع زادت على عشر وفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين، فقال في كتابه " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (1) " [ النحل: 44 ]. وروى الائمة الاثبات عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدد) في رواية (فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين). وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا: يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لرؤي، لقوله عليه السلام: (فإن أغمي عليكم فاقدروا له) أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه. وقال الجمهور: معنى (فاقدروا له) فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة (فأكملوا العدة). وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله " فاقدروا له ": أي قدروا المنازل. وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والاجماع حجة عليهم. وقد روى ابن نافع عن مالك في الامام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه لا يقتدى به (1) راجع ج‍ 10 ص 108 (*)
[ 294 ]
ولا يتبع. قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يعول على الحساب، وهي عثرة " لا لعاد لها (1) ". الرابعة - واختلف مالك والشافعي هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين، فقال مالك: لا يقبل فيه شهادة الواحد لانها شهادة على هلال فلا يقبل فيها أقل من اثنين، أصله الشهادة على هلال شوال وذي الحجة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يقبل الواحد، لما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. وأخرجه الدارقطني وقال: تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة. روى الدارقطني " أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام، أحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان. قال الشافعي: فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للاثر والاحتياط. وقال الشافعي بعد: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان. قال الشافعي وقال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلا شاهدين، وهو القياس على كل مغيب ". الخامسة - واختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال، فروى الربيع عن الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر، وليخف ذلك. وروى ابن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم، لانه لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، لان الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا، ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم: قد رأينا الهلال. قال ابن المنذر: وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل. وقال عطاء وإسحاق: لا يصوم ولا يفطر. قال ابن المنذر: يصوم ويفطر. (1) كذا في أ، ب، ج، ز، و " لعا " بالتنوين: كلمة يدعى بها للعاثر، معناها الارتفاع والاقالة من العثرة، فإذا أريد الدعاء عليه قيل: لا لعا. وفى ح: " لا يقال بها ". وفى أحكام القرآن لابن العربي: " لا يقالها ". (*)
[ 295 ]
السادسة - واختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد، فلا يخلو أن يقرب أو يبعد، فإن قرب فالحكم واحد، وإن بعد فلاهل كل بلد رؤيتهم، روي هذا عن عكرمة والقاسم وسالم، وروي عن ابن عباس، وبه قال إسحاق، وإليه أشار البخاري حيث بوب: " لاهل كل بلد رؤيتهم ". وقال آخرون. إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا، هكذا قال الليث بن سعد والشافعي. قال ابن المنذر: ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي. قلت: ذكر الكيا الطبري في كتاب أحكام القرآن له: وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية، وأهل بلد تسعة وعشرين يوما أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم. وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك، إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: " ولتكملوا العدة " وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها. ومخالفهم يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) الحديث، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم. وحكى أبو عمر الاجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالاندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال ؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته ؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علماؤنا: قول ابن عباس (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره. فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك
[ 296 ]
عند الامام الاعظم، ما لم يحمل الناس على ذلك، فإن حمل فلا تجوز مخالفته. وقال الكيا الطبري: قوله (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون تأول فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته). وقال ابن العربي: " واختلف في تأويل [ قول (1) ] ابن عباس [ هذا (2) ] فقيل: رده لانه خبر واحد، وقيل: رده لان الاقطار مختلفة في المطالع، وهو الصحيح، لان كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزي فيه خبر الواحد. ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات (2) وأهل بأشبيلية (3) ليلة السبت فيكون لاهل كل بلد رؤيتهم، لان سهيلا (4) يكشف من أغمات ولا يكشف من أشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع. قلت: وأما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الاداء. وروي القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين. قال: وهذا قول مالك. السابعة - قرأ جمهور الناس " شهر " بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أي ذلكم شهر، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان. أو الصوم أو الايام. وقيل: ارتفع على أنه مفعول لم يسم فاعله ب " كتب " أي كتب عليكم شهر رمضان. و " رمضان " لا ينصرف لان النون فيه زائدة. ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره " الذي أنزل في القرآن ". وقيل: خبره " فمن شهد "، و " الذي أنزل " نعت له. وقيل: ارتفع على البدل من الصيام. فمن قال: إن الصيام في قوله " كتب عليكم الصيام " هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا (1) الزيادة عن " أحكام القرآن " لابن العربي. (2) أغمات: ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مراكش. (3) أشبيلية: مدينة كبيرة عظيمة بالاندلس. (4) سهيل: كوكب. (*)
[ 297 ]
بالابتداء. ومن قال: إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام، أي كتب عليكم شهر رمضان. وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب " شهر " بالنصب. قال الكسائي: المعنى كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان. وقال الفراء: أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان. قال النحاس: " لا يجوز أن ينتصب " شهر رمضان " بتصوموا، لانه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول، وكذلك إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الاغراء، أي الزموا شهر رمضان، وصوموا شهر رمضان، وهذا بعيد أيضا لانه لم يتقدم ذكر الشهر فيغرى به ". قلت: قوله " كتب عليكم الصيام " يدل على الشهر فجاز الاغراء، وهو اختيار أبي عبيد. وقال الاخفش: انتصب على الظرف. وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان، ويجوز أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء ثم تدغم، وهو قول الكوفيين. الثامنة - قوله تعالى: " الذى أنزل فيه القرآن " نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله عز وجل: " حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة " (1) [ الدخان: 1 - 3 ] يعني ليلة القدر، ولقوله: " إنا أنزلناه في ليلة القدر (2) " [ القدر: 1 ]. وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر - على ما بيناه (3) - جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نجما نجما في الاوامر والنواهي والاسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوما - يعني الاية والايتين - في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل في قوله تعالى: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السفرة (4) من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة. (1) راجع ج‍ 16 ص 125. (2) راجع ج‍ 20 ص 129. (3) يراجع ج‍ 1 ص 60. (4) السفرة: الملائكة. (*)
[ 298 ]
قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الاجماع " أن القرآن أنزل جملة واحدة " والله أعلم. وروى واثلة بن الاسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والانجيل لثلاث عشرة والقرآن لاربع وعشرين). قلت: وفي هذا الحديث دلالة على ما يقول الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان (1) هذا. التاسعة - قوله تعالى: " القرآن " " القرآن ": اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى المقروء، كالمشروب يسمى شرابا، والمكتوب يسمى كتابا، وعلى هذا قيل: هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى. قال الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا أي قراءة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا، أي قراءة. وفي التنزيل: " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (2) " [ الاسراء: 78 ] أي قراءة الفجر. ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في تسميتها المفعول باسم المصدر، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا وللمشروب شربا، كما ذكرنا، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار القرآن اسما لكلام الله، حتى إذا قيل: القرآن غير مخلوق، يراد به المقروء لا القراءة لذلك. وقد يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام الله قرآنا توسعا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) أراد به المصحف. وهو مشتق من قرأت الشئ جمعته. وقيل: هو اسم علم لكتاب الله، غير مشتق كالتوراة والانجيل، وهذا يحكى عن الشافعي. والصحيح الاشتقاق في الجميع، وسيأتي. العاشرة - قوله تعالى: " هدى للناس " " هدى " في موضع نصب على الحال من القرآن، أي هاديا لهم. " وبينات " عطف عليه. و " الهدى " الارشاد والبيان، كما تقدم (3)، (1) راجع ج‍ 20 ص 134. (2) راجع ج‍ 10 ص 305. (3) يراجع ج‍ 1 ص 160 طبعة ثانية. (*)
[ 299 ]
أي بيانا لهم وإرشادا. والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والاحكام. " وبينات " جمع بينة، من بان الشئ يبين إذا وضح. " والفرقان " ما فرق بين الحق والباطل، أي فصل، وقد (1) تقدم. الحادية عشرة - قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " قراءة العامة بجزم اللام. وقرأ الحسن والاعرج بكسر اللام، وهي لام الامر وحقها الكسر إذا أفردت، فإذا وصلت بشئ ففيها وجهان: الجزم والكسر. وإنما توصل بثلاثة أحرف: بالفاء كقوله " فليصمه " " فليعبدوا " [ قريش: 3 ]. والواو كقوله: " وليوفوا " [ الحج: 29 ]. وثم كقوله: " ثم ليقضوا " [ الحج: 29 ] و " شهد " بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه، وهو يقال عام فيخصص بقوله: " فمن كان منكم مريضا أو على سفر " الاية. وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة - أربعة من الصحابة - وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني: من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده وأهله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر. والمعنى عندهم: من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرا فليصمه. وقال جمهور الامة: من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما، فإن سافر أفطر، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الاخبار الثابتة. وقد ترجم البخاري رحمه الله ردا على القول الاول " باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر " حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ابن شهاب عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد (2) أفطر فأفطر الناس. قال أبو عبد الله: والكديد ما بين عسفان وقديد (3). (1) يراجع ج‍ 1 ص 387 طبعة ثانية. (2) الكديد (بفتح الكاف وكسر الدال): موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين. (3) عسفان: قرية بها مزارع ونخيل على مرحلتين من مكة، وقديد (بضم القاف): اسم موضع قرب مكة. (*)
[ 300 ]
قلت: قد يحتمل أن يحمل قول على رضي الله عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الاخوان من الفضلاء والصالحين، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية. وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك، أو دفع عدو، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الامساك، بل الفطر فيه أفضل للتقوى، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه، لحديث ابن عباس وغيره، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء الله، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه، لانه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه. ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب‍ " شهد ". الثانية عشرة - قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالاسلام والبلوغ والعلم بالشهر، فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم، وإن كان بعد الفجر استحب لهما الامساك، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم. وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا ؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه ؟ فقال الامام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى، لانه إنما شهد الشهر من حين إسلامه. قال مالك: وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه. وقال عطاء والحسن: يصوم ما بقي ويقضي ما مضى. وقال عبد الملك بن الماجشون: يكف عن الاكل في ذلك اليوم ويقضيه. وقال أحمد وإسحاق مثله. وقال ابن المنذر: ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم. وقال الباجي: من قال من أصحابنا أن الكفار مخاطبون بشرائع الاسلام - وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه - أوجب عليه الامساك في بقية يومه. ورواه في المدونة ابن نافع عن مالك، وقاله الشيخ أبو القاسم. ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال: لا يلزمه الامساك في بقية يومه، وهو مقتضى قول أشهب وعبد الملك بن الماجشون، وقاله ابن القاسم.
[ 301 ]
قلت: وهو الصحيح لقوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا " فخاطب المؤمنين دون غيرهم، وهذا واضح، فلا يجب عليه الامساك في بقية اليوم ولا قضاء ما مضى. وتقدم الكلام في معنى قوله: " ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر (1) " والحمد لله. الثالثة عشرة - قوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر " قراءة جماعة " اليسر " بضم السين لغتان، وكذلك " العسر ". قال مجاهد والضحاك: " اليسر " الفطر في السفر، و " العسر " الصوم في السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " [ الحج: 78 ]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (دين الله يسر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا). واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسميت اليد اليسرى تفاؤلا، أو لانه يسهل له الامر بمعاونتها لليمنى، قولان. وقوله: " ولا يريد بكم العسر " هو بمعنى قوله " يريد الله بكم اليسر " فكرر تأكيدا. الرابعة عشرة - دلت الاية على أن الله سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات. هذا مذهب أهل السنة، كما أنه عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام. وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات. وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها، تعالى الله عن قول الزائغين وإبطال المبطلين. والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فإن من كانت له الصفات الارادية فله أن يخصص الشئ وله ألا يخصصه، فالعقل السليم يقضي بأن ذنك كمال له وليس بنقصان، حتى أنه لو قدر بالوهم سلب ذلك الامر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حاله ثانيا، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتصف أنقص مما هو متصف به، ولا يخفي ما فيه من المحال، فإنه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والخالق أنقص منه، والبديهة تقضي برده وإبطاله. وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى: (1) تراجع المسألة الاولى وما بعدها ص 276 من هذا الجزء. (2) راجع ج‍ 12 ص 100. (*)
[ 302 ]
" فعال لما يريد (1) " [ هود: 107 ] وقال سبحانه: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " [ البقرة: 185 ] وقال: " يريد الله أن يخفف عنكم (2) " [ النساء: 28 ]، إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون. ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والاتقان والانتظام والاحكام، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون مريدا له قادرا عليه عالما به، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شئ، ومن لم يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والاتقان، ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس، إذ نسبتها إليه نسبة واحدة. قالوا: وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا، إذ الحياة شرط هذه الصفات، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما، فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا. الخامسة عشرة - قوله تعالى: " ولتكلموا العدة " فيه تأويلان: أحدهما - إكمال عدة الاداء لمن أفطر في سفره أو مرضه. الثاني - عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين. قال جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين). وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صلى الله عليه وسلم: (شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة) أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوما، أخرجه أبو داود. وتأوله جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الاجر وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين. السادسة عشرة - ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا بل هو لليلة التي تأتي، هذا هو الصحيح. وقد اختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدارقطني عن شقيق قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه: (إن الاهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالامس. (1) راجع ج‍ 19 ص 295. (2) راجع ج‍ 5 ص 148. (*)
[ 303 ]
وذكره أبو عمر من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الاعمش عن أبي وائل (1) قال: كتب إلينا عمر...، فذكره. قال أبو عمر: وروي عن علي بن أبي طالب مثل ما ذكره عبد الرزاق أيضا، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد ابن الحسن والليث والاوزاعي، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال سفيان الثوري وأبو يوسف. إن رؤي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي، وإن رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية. وروي مثل ذلك عن عمر، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال: كتب عمر إلى عتبة بن فرقد " إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تمسوا "، وروي عن على مثله. ولا يصح في هذه المسألة شئ من جهة الاسناد عن على. وروي عن سليمان بن ربيعة مثل قول الثوري، وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب، وبه كان يفتي بقرطبة. واختلف عن عمر بن عبد العزيز في هذه المسألة، قال أبو عمر: والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة متصل، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثوري منقطع، والمصير إلى المتصل أولى. وقد احتج من ذهب مذهب الثوري بأن قال: حديث الاعمش مجمل لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده، وحديث إبراهيم مفسر، فهو أولى أن يقال به. قلت: قد روي مرفوعا معنى ما روي عن عمر متصلا موقوفا روته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما صبح ثلاثين يوما، فرأى هلال شوال نهارا فلم يفطر حتى أمسى. أخرجه الدارقطني من حديث الواقدي وقال: قال الواقدي حدثنا معاذ بن محمد الانصاري قال: سألت الزهري عن هلال شوال إذا رؤي باكرا، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رؤي هلال شوال بعد أن طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجئ، قال أبو عبد الله: وهذا مجمع عليه. (1) أبو وائل: كنية شقيق السابق ذكره. (*)
[ 304 ]
السابعة عشرة - روى الدارقطني عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم لاهلا (1) الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ الناس (2) ] أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن ثابت. قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحكي عن أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة، فمرة قال بقول مالك، واختاره المزني وقال: إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحرى ألا تصلى فيه. وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى. وقال البويطي: لا تصلى إلا أن يثبت في ذلك حديث. قال أبو عمر: لو قضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لاشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها. وقال الثوري والاوزاعي وأحمد بن حنبل: يخرجون من الغد، وقال أبو يوسف في الاملاء. وقال الحسن بن صالح بن حي: لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الاضحى. قال أبو يوسف: وأما في الاضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث. قال أبو عمر: لان الاضحى أيام عيد وهى صلاة عيد، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد، فإذا لم تصل فيه لم تقض في غيره، لانها ليست بفريضة فتقضى. وقال الليث بن سعد: يخرجون في الفطر والاضحى من الغد. قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس). صححه أبو محمد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك. وروي عن عمر أنه فعله. (1) أهل الرجل الهلال: رآه. (2) زيادة عن سنن الدارقطني. (*)
[ 305 ]
قلت: وقد قال علماؤنا: من ضاق عليه الوقت وصلى الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء. وقيل: لا يصليهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصليهما فهل ما يفعله قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر. قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تجوز. قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر في اليوم الثاني على هذا الاصل، لا سيما مع كونها مرة واحدة في السنة مع ما ثبت من السنة. روى النسائي قال: أخبرني عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أن قوما رأوا الهلال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد. في رواية: ويخرجوا لمصلاهم من الغد. الثامنة عشرة - قرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو - في بعض ما روي عنه - والحسن وقتادة والاعرج " ولتكملوا العدة " بالتشديد. والباقون بالتخفيف. واختار الكسائي التخفيف، كقوله عز وجل: " اليوم أكملت لكم دينكم (1) " [ المائدة: 3 ]. قال النحاس: وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال عز وجل: " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا (2) " [ الطارق: 17 ]. ولا يجوز " ولتكلموا " بإسكان اللام، والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير: ويريد لان تكملوا، ولا يجوز حذف أن والكسرة، هذا قول البصريين، ونحوه قول كثير أبو صخر: * أريد لانسى ذكرها * أي لان أنسى، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. وقيل: هي متعلقة بفعل مضمر بعد، تقديره: ولان تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة. وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفراء. قال النحاس: وهذا قول حسن، ومثله: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين (3) " [ الانعام: 75 ] أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك. وقيل: الواو مقحمة. وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللام لام الامر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. وقال أبو إسحاق إبراهيم (1) راجع ج‍ 6 ص 61. (2) راجع ج‍ 20 ص 12. (3) راجع ج‍ 7 ص 23. (20 - 2) (*)
[ 306 ]
ابن السري: هو محمول على المعنى، والتقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة، قال: ومثله ما أنشده سيبويه. بادت وغير آيهن مع البلى * إلا رواكد جمرهن هباء ومشجج أما سواء قذاله * فبدا وغيب (1) ساره (2) المعزاء شاده يشيده شيدا جصصه، لان معناه بادت إلا رواكد بها رواكد، فكأنه قال: وبها مشجج أو ثم مشجج. التاسعة عشرة - قوله تعالى: " ولتكبروا الله " عطف عليه، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل. واختلف الناس في حده، فقال الشافعي: روي عن سعيد بن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها. وقال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الامام ويكبر بتكبيره. وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الامام للصلاة. وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر. زيد بن أسلم: يكبرون إذا خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد. وهذا مذهب مالك، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الامام. وروى ابن القاسم وعلي بن زياد: أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه (1) في نسخ الاصل وكتاب سيبويه وإعراب القرآن للنحاس: " غير " بالراء. والتصويب عن اللسان مادة " شجج ". (2) كذا في كتاب سيبويه وإعراب القرآن للنحاس واللسان. وساره يريد " سائره " فخفف بحذف الهمزة، ومثله هار وأصله هائر، وشاك وأصله شائك. وفى الاصول " شاده " بالشين المعجمة والدال وهو تصحيف. وبهذا يعلم أن تفسير المؤلف وقع لكلمة مصحفة. والاى (جمع آية) وهى علامات الديار. والرواكد: الاثاق. والهباء هنا: الغبار. وأراد بالمشجج وتدا من أوتاد الخيام، وتشجيجه ضرب رأسه ليثبت. وسواء قذاله: وسطه. ويروى: سواد قذاله، وسواد كل شئ شخخصه. وأراد بالقذال أعلاه، وهو أيضا جماع مؤخر الرأس من الانسان. والمعزاء: أرض صلبة ذات حصى. (راجع شرح الشواهد للشنتمرى). (*)
[ 307 ]
ولا جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الامام. والفطر والاضحى في ذلك سواء عند مالك، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكبر في الاضحى ولا يكبر في الفطر، والليل عليه قوله تعالى: " ولتكبروا الله " ولان هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن الكبير في الخروج إليه كالاضحى. وروى الدارقطني عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الاضحى. وروي عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى) وروي عن ابن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الاضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الامام. وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم فيما ذكر ابن المنذر قال: وحكى ذلك الاوزاعي عن إلياس. وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال: أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى وحين يخرج الامام إلى الصلاة، وكذلك أحب ليلة الاضحى لمن لم يحج. وسيأتي حكم صلاة العيدين والتكبير فيهما في " سبح اسم ربك الاعلى " [ الاعلى ] و " الكوثر (1) " [ الكوثر ] إن شاء الله تعالى. الموفية عشرين - ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثا، وروي عن جابر بن عبد الله. ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير. ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. قال ابن المنذر: وكان مالك لا يحد فيه حدا. وقال أحمد: هو واسع. قال ابن العربي: " واختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل ". الحادية والعشرون - قوله تعالى: " على ما هداكم " قيل: لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم (2). وقيل: بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالاباء والتظاهر (1) راجع ج‍ 20 ص 22 وص 218. (2) في بعض الاصول: " كتابهم ". (*)
[ 308 ]
بالاحساب وتعديد المناقب. وقيل: لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع، فهو عام. وتقدم معنى " ولعلكم تشكرون (1) ". قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون (186) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وإذا سألك " المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغنما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الاية: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ". وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الاكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الاية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه (2). وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت هذه الاية. وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه ؟ فنزلت. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم (3) " [ غافر: 60 ] قال قوم: في أي ساعة ندعوه ؟ فنزلت. الثانية - قوله تعالى: " فإنى قريب " أي بالاجابة. وقيل بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالافضال والانعام. الثالثة - قوله تعالى: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والاجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن (1) يراجع ج‍ 1 ص 227، 397 طبعة ثانية. (2) راجع ص 314 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 15 ص 326. (*)
[ 309 ]
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة قال ربكم أدعوني أستجب لكم) فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (1) " [ غافر: 60 ] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وخص عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الانبياء كان الله إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس). وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الامة في " ادعوني أستجب لكم " [ غافر: 60 ] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالاجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا ؟ قال مثل قوله: " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات (2) " [ البقرة: 25 ] فها هنا شرط، وقوله: " وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق (3) " [ يونس: 2 ] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: " فادعوا الله مخلصين له الدين (4) " [ غافر: 14 ] فها هنا شرط، وقوله: " ادعوني أستجب لكم " ليس فيه شرط. وكانت الامم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الانبياء لهم ذلك. فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب ؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الايتين " أجيب " " أستجب " لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (5) " [ الاعراف: 55 ] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، يأتي بيانها هنا وفي " الاعراف " إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء (6) " [ الانعام: 41 ] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة، على ما يأتي بيانه في " الانعام " إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما مقصود هذا الاخبار (1) راجع ج‍ 15 ص 326. (2) راجع ج‍ 1 ص 238. (3) راجع ج‍ 8 ص 306. (4) راجع ج‍ 15 ص 299. (5) راجع ج‍ 7 ص 223. (6) راجع ج‍ 6 ص 423. (*)
[ 310 ]
تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء " ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له (1) " [ الاحقاف: 5 ] الاية. وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالاجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة، لان أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الاجابة). وأوحى الله تعالى إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن الله يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الاجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الاخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها). قالوا: إذن نكثر ؟ قال: (لله أكثر). خرجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله تعالى " ادعوني أستجب لكم " [ غافر: 60 ] فهذا كله من الاجابة. وقال ابن عباس: كل عبد دعا أستجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له. قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالاجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الاجابة حيث قال فيه: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) وزاد مسلم: (ما لم يستعجل). رواه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل - قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال ؟ قال - يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر (2) عند ذلك ويدع الدعاء). وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول (1) راجع ج‍ 16 ص 183. (2) يستحسر: ينقطع عن الدعاء ويمله. (*)
[ 311 ]
الله صلى الله عيه وسلم قال: (يستجاب لاحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: يحتمل قوله (يستجاب لاحدكم) الاخبار عن [ وجوب (1) ] وقوع الاجابة، والاخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الاخبار عن الوجوب والوقوع فإن الاجابة تكون بمعنى الثلاثة الاشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الاشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز الاجابة فإن الاجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب، لي، لان ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط. قلت: ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك) وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشئ المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لاكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الامور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) فيدخل في الاثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبد الله التستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الاسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه (1) زيادة عن الموطأ يقتضيها السياق. (*)
[ 312 ]
وسلم. وقيل: شرائطه أربع - أولها حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم: ينادي ربه باللحن ليث * كذاك إذا دعاه لا يجيب وقيل لابراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا ؟ قال: لانكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الاموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. قال علي رضي الله عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن الله أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لاحد منهم، ما دام لاحد من خلقي مظلمة. يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا (2)، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله: " إن شئت " نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الائمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن (1) االعريف: الذى يلى أمور طائفة من الناس ويتعرف أمورهم ويبلغها للامير. والشرطي (كتركي وكجهنى): هم أعوان الحاكم. والعشار: من يتولى أخذ أعشار الاموال. (*)
[ 313 ]
اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له). وفي الموطأ: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت). قال علماؤنا: قوله (فليعزم المسألة) دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في، الدعاء ويكون على رجاء من الاجابة، ولا يقنط من رحمة الله، لانه يدعو كريما. قال سفيان ابن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الاجابة، وذلك كالسحر ووقت الفطر، وما بين الاذان والاقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الاربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل الله. كل هذا جاءت به الاثار، ويأتي بيانها في مواضعها. وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة ؟ قلت نعم. قالت: فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك. وقال جابر بن عبد الله: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الاربعاء بين الصلاتين. فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الاجابة. الرابعة - قوله تعالى: " فليستجيبوا لى " قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي. وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم. وهذا هو باب " استفعل " أي طلب الشئ إلا ما شذ، مثل استغنى الله. وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الايمان، أي الطاعة والعمل. ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر: * فلم يستجبه عند ذاك مجيب * أي لم يجبه. والسين زائدة واللام لام الامر. وكذا " وليؤمنوا " وجزمت لام الامر لانها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط. وقيل: لانها لا تقع إلا على الفعل. والرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد (بالكسر) يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده الله. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الارشد: نحو الاقصد. وتقول:
[ 314 ]
هو لرشدة (1). خلاف قولك: لزنية. وأم راشد: كنية للفأرة: وبنو رشدان: بطن من العرب، عن الجوهري. وقال الهروي: الرشد والرشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله: " لعلهم يرشدون ". قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فا لئن بشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض منن الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله ءايته للناس لعلهم يتقون (187) فيه ست وثلاثون مسألة: الاولى - قوله تعالى: " أحل لكم " لفظ " أحل " يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر (1) فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء رجل من الانصار فأراد طعاما فقالوا: حتى نسخن لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه الاية، وفيها (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ". وروى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس ابن صرمة الانصاري كان صائما - وفي رواية: كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الافطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام ؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك ! فلما (1) بكسر الراء وقد تفتح، ومعناه: إذا كان لنكاح صحيح. (2) الذى في مسند أبى داود: " إذا صام فنام... ". (*)
[ 315 ]
انتصف النهار غشى عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ". وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: " علم الله أنكم كنتم تحتانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ". يقال: خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب. وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شئ فلا يؤدي الامانة فيه. وذكر الطبري: أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتذر إلى الله وإليك، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي: (لم تكن حقيقا يا عمر) فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت: " علم الله أنكم كنتم تحتانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالان باشروهن... " الاية. الثانية - قوله تعالى: " ليلة الصيام الرفث " " ليلة " نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت. والرفث: كناية عن الجماع لان الله عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي. وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقاله الازهري أيضا. وقال ابن عرفة: الرفث ها هنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والاعراب به. قال الشاعر: ويرين من أنس الحديث زوانيا * وبهن عن رفث الرجال نفار وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول الشاعر: ورب أسراب حجيج كظم * عن اللغا ورفث التكلم
[ 316 ]
وتعدى " الرفث " بإلى في قوله تعالى جده: " الرفث إلى نسائكم ". وأنت لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جئ به محمولا على الافضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله: " وقد أفضى بعضكم إلى بعض (1) ". [ النساء: 21 ]. ومن هذا المعنى: " وإذا خلوا إلى شياطينهم " [ البقرة: 14 ] كما تقدم (2). وقوله: " يوم يحمى عليها " [ التوبة: 35 ] أي يوقد، لانك تقول: أحميت الحديدة في النار، وسيأتي (3)، ومنه قوله: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره (4) " [ النور: 63 ] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، لانك تقول: خالفت زيدا. ومثله قوله تعالى: " وكان بالمؤمنين رحيما (5) " [ الاحزاب: 43 ] حمل على معنى رءوف في نحو " بالمؤمنين رءوف رحيم (6) " [ التوبة: 128 ]، ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي: حملت به في ليلة مزءودة (7) * كرها وعقد نطاقها لم يحلل عدى " حملت " بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل: " حملته أمه كرها ووضعته كرها (8) " [ الاحقاف: 15 ]، ولكنه قال: حملت به، لانه في معنى حبلت به. الثالثة - قوله تعالى: " هن لباس لكم " ابتداء وخبر، وشددت النون من " هن " لانها بمنزلة الميم والواو في المذكر. " وأنتم لباس لهن " أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب. وقال النابغة الجعدي: إذا ما الضجيع ؟ ثنى جيدها * تداعت فكانت عليه لباسا وقال أيضا: لبست أناسا فأفنيتهم * وأفنيت بعد أناس أناسا وقال بعضهم: يقال لما ستر الشئ وداراه: لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر. وقيل: لان كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس. وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك. قال رجل لعمر بن الخطاب: (1) راجع ج‍ 5 ص 102. (2) ج‍ 1 ص 206. (3) ج‍ 8 ص 129. (4) ج‍ 12 ص 322. (5) ج‍ 14 ص 198. (6) ج‍ 8 ص 302. (7) مزءودة: فزعة. (8) ج‍ 16 ص 193. (*)
[ 317 ]
ألا أبلغ أبا حفص رسولا * فدى لك من أخي ثقة إزاري قال أبو عبيد: أي نسائي. وقيل نفسي. وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض. الرابعة - قوله تعالى: " علم الله أنكم كنتم تحتانون أنفسكم " يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والاكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: " تقتلون أنفسكم " [ البقرة: 85 ] يعني يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه، كما تقدم. وقوله تعالى: " فتاب عليكم " يحتمل معنيين: أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لانفسهم. والاخر - التخفيف عنهم بالرخصة والاباحة، كقوله تعالى: " علم أن لن تحصوه فتاب عليكم (1) " [ المزمل: 20 ] يعني خفف عنكم. وقوله عقيب القتل الخطأ: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله (2) " [ النساء: 92 ] يعني تخفيفا، لان القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة (3) " [ التوبة: 117 ] وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب التوبة منه. وقوله تعالى: " فعفا عنكم " يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله) يعني تسهيله وتوسعته. فمعنى " علم الله " أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة " فتاب عليكم " بعد ما وقع، أي خفف عنكم " وعفا " أي سهل. و " تختانون " من الخيانة، كما تقدم. قال ابن العربي: " وقال علماء الزهد: وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة، وخفف من أجله عن الامة فرضي الله عنه وأرضاه ". قوله تعالى: " فالان با شروهن " كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم. وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه. قال ابن العربي: " وهذا يدل على أن سبب الاية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس، لانه لو كان السبب جوع قيس لقال: فالان كلوا، ابتدأ به لانه المهم الذي نزلت الاية لاجله. (1) راجع ج‍ 19 ص 51. (2) راجع ج‍ 5 ص 327. (3) راجع ج‍ 8 ص 277. (*)
[ 318 ]
الخامسة - قوله تعالى: " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال ابن عباس ومجاهد والحكم ابن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله: " فالان باشروهن ". وقال ابن عباس: ما كتب الله لنا هو القرآن. الزجاج: أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر. وقيل: المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة. قال ابن عطية: وهو قول حسن. وقيل: " ابتغوا ما كتب الله لكم " من الاماء والزوجات. وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة " واتبعوا " من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح " ابتغوا " من الابتغاء. السادسة - قوله تعالى: " وكلوا واشربوا " هذا جواب نازلة قيس، والاول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لانه المهم فهو المقدم. السابعة - قوله تعالى: " حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر " " حتى " غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لاحد ويحرم عليه الاكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الامساك، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الافق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الاخبار ومضت عليه الامصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الافق المستطيل هكذا حتى يستطير (1) هكذا). وحكاه حماد (2) بيديه قال: يعني معترضا. وفي حديث ابن مسعود: (إن الفجر ليس الذي يقول (3) هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الارض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه). وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله (1) يستطير: أي ينتشر ضوءه ويعترض في الافق بخلاف المستطيل، والاستطارة هذه تكون بعد غيبوبة ذلك المستطيل. (2) حماد هذا هو حماد بن زيد أحد رجال سند هذا الحديث. (3) قال ابن الاثير في النهاية: " العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى. وقال بثوبه، أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتساع " فمعنى يقول هنا: يظهر. (*)
[ 319 ]
صلى الله عليه وسلم قال: (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان (1) فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الافق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام) هذا مرسل. وقالت طائفة: ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر (2) وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والاعمش سليمان وغيرهم أن الامساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال. وقال مسروق: لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملاء البيوت. وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال: (كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الاحمر). قال الدارقطني: [ قيس بن طلق (2) ] ليس بالقوي. وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة. قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها، وقد مضى (4) الخلاف في هذا بين اللغويين. وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك، وقوله " أياما معدودات " [ البقرة: 184 ]. وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له). تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الاسناد، وكلهم ثقات. وروي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له). رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها. ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة، وهي: الثامنة - وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال: إن الاكل والشرب بعد الفجر جائز. وروى البخاري ومسلم عن (1) السرحان (بكسر فسكون): الذئب، وقيل: الاسد، وجمعه سراح وسراحين. (2) في بعض النسخ (عثمان). (3) التكملة عن سنن الدارقطني يقتضيها السياق. (4) تراجع المسألة الثانية ص 192 من هذا الجزء. (*)
[ 320 ]
سهل بن سعد قال: نزلت " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود " ولم ينزل " من الفجر " وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الابيض والخيط الاسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد " من الفجر " فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار. وعن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول الله، ما الخيط الابيض من الخيط الاسود، أهما الخيطان ؟ قال: (إنك لعريض القفا (1) إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار). أخرجه البخاري. وسمي الفجر خيطا لان ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط. قال الشاعر: الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق * والخيط الاسود جنح الليل مكتوم والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجرا لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الافق المنتشر، تسميه العرب الخيط الابيض، كما بينا. قال أبو دواد الايادي: فلما أضاءت لنا سدفة (2) * ولاح من الصبح خيط أنارا وقال آخر: قد كاد يبدو وبدت تباشره * وسدف الليل البهيم ساتره وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم: انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو ابن معديكرب: ترى السرحان مفترشا يديه * كأن بياض لبته صديع وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال: إذا ما الليل كان الصبح فيه * أشق كمفرق الرأس الدهين (1) القفا العريض يستدل به على قلة فطنة الرحل. (2) السدفة (بضم السين وفتحها وسكون الدال): في لغة نجد ظلمة الليل، وفى لغة غيرهم الضوء. وهو من الاضداد. (*)
[ 321 ]
ويقولون في الامر الواضح: هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر: فوردت قبل انبلاج الفجر * وابن ذكاء كامن في كفر (1) التاسعة - قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للاكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما. فلا يجوز في اليوم شئ مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض، كما تقدم بيانه. فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا، فإن كان الاول فقال مالك: من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة، لما رواه مالك في موطئه، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا، الحديث. وبهذا قال الشعبي. وقال الشافعي وغيره: إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع، لحديث أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: هلكت يا رسول الله ! قال: (وما أهلكك) قال: وقعت على امرأتي في رمضان، الحديث. وفيه ذكر للكفارة على الترتيب، أخرجه مسلم. وحملوا هذه القضية على القضية الاولى فقالوا: هي واحدة، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان، لان مساقهما مختلف، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيوم فلزم مطلقا. وبهذا قال مالك وأصحابه والاوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول: ترك الاستفصال مع تعارض الاحوال يدل على هموم الحكم. وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر. العاشرة - واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي: عليها مثل ما على الزوج. وقال الشافعي: ليس عليها (1) قائل هذا البيت هو حميد الارقط، كما في الصحاح. وذكاء (بالضم): اسم الشمس، ويقال للصبح: ابن ذكاء لانه من ضوئها. والكفر (بالفتح): ظلمة الليل وسواده. (*)
[ 322 ]
إلا كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لان النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل. وروي عن أبي حنيفة: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير. وهو قول سحنون بن سعيد المالكي. وقال مالك: عليه كفارتان، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه. الحادية عشرة - واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق: ليس عليه في الوجهين شئ، لا قضاء ولا كفارة. وقال مالك والليث والاوزاعي: عليه القضاء ولا كفارة، وروي مثل ذلك عن عطاء. وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع، وقال: مثل هذا لا ينسى. وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، لان الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد. قال ابن المنذر: لا شئ عليه. الثانية عشرة - قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقيل في المذهب: عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا. قال أبو عمر: وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر، لان من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك، فأي حرمة هتك وهو مفطر. وعند غير مالك: ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه. قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور: إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى [ إليه ] ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه). أخرجه الدارقطني. وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال أبو بكر الاثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عمن أكل ناسيا في رمضان،
[ 323 ]
قال: ليس عليه شئ على حديث أبي هريرة. ثم قال أبو عبد الله مالك: وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء ! وضحك. وقال ابن المنذر: لا شئ عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا: (يتم صومه) وإذا قال (يتم صومه) فأتمه فهو صوم تام كامل. قلت: وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - والله أعلم - كمن لم يفطر ناسيا. وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا: المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم، لقوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه) فلم يذكر قضاء ولا تعرض له، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والامر بمضيه على صومه وإتمامه، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء. وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا قضاء عليه). قلت: هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة) أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الانصاري، فزال الاحتمال وارتفع الاشكال، والحمد لله ذي الجلال والكمال. الثالثة عشرة - لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الاكل والشرب والجماع، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر، لان فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الاشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولذلك شاع الاختلاف فيه، واختلف علماء السلف فيه، فمن ذلك المباشرة. قال علماؤنا: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان
[ 324 ]
ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم، وهذا - والله أعلم - خوف ما يحدث عنهما، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر. وروى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم. وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة ابن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه، والحديث حجة عليهم. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة، قاله أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر وقال: ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة. قال أبو عمر: ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شئ عندهم. وقال أحمد: من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء. وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي. قال القاضي أبو محمد: واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه. وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون: لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم: يكفر في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر. وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى: الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق، وهو قول مالك في المدونة. وحجة قول أشهب: أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها، وإنما يبقى أن تؤول إلى الامر الذي يقع به الفطر، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الانزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر. قال اللخمي: واتفق جميعهم في الانزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع. والاصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة، أو كانت عادته مختلفة: مرة ينزل،
[ 325 ]
ومرة لا ينزل، رأيت عليه الكفارة، لان فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له. وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة، لن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه. وحمل أشهب الامر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك، وقولهم في النظر دليل على ذلك. قلت: ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك، فقد حكى الباجي في المنتقى " فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة [ فأنزل ] (1) فقد قال الشيخ أبو الحسن: عليه القضاء والكفارة. قال الباجي: وهو الصحيح عندي، لانه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع، والله أعلم ". وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى: فلا قضاء عليه ولا كفارة، قاله ابن المنذر. قال الباجي: وروى في المدنية ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة. الرابعة عشرة - والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: " وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الامر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح ". قلت: أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور، وذلك قول أبي هريرة: من أصبح جنبا فلا صوم له، أخرجه الموطأ وغيره. وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع: والله ما أنا قلته، محمد صلى الله عليه وسلم والله قاله. وقد اختلف في رجوعه عنها، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له، حكاه ابن المنذر، وروي عن الحسن بن صالح. وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال: إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى أصبح (1) زيادة عن كتاب " المنتقى " يقتضيها السياق. (*)
[ 326 ]
فهو صائم، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير. وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض. قلت: فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا، والصحيح منها مذهب الجمهور، لحديث عائشة رضي الله عنها وأم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، أخرجهما البخاري ومسلم. وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى: " فالان باشروهن " الاية، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر. وقد قال الشافعي: ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه. وقال المزني: عليه القضاء لانه من تمام الجماع، والاول أصح لما ذكرنا، وهو قول علمائنا. الخامسة عشرة - واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب، وهو قول مالك وابن القاسم. وقال عبد الملك: إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر، لانها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب لان الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبد الملك. وقال الاوزاعي: تقضي لانها فرطت في الاغتسال. وذكر ابن الجلاب عن عبد الملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر، وقاله مالك، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض. وقال محمد بن مسلمة في هذه: تصوم وتقضي، مثل قول الاوزاعي. وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء.
[ 327 ]
السادسة عشرة - وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها. السابعة عشرة - روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفطر الحاجم والمحجوم). من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج، وبه قال أحمد وإسحاق، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج. وقال مالك والشافعي والثوري: لا قضاء عليه، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير. وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال لا، إلا من أجل الضعف. وقال أبو عمر: حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائما محرما، لان في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشره ليلة خلت من رمضان فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم). واحتجم هو صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم، فإذا كانت حجته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة، لانه صلى الله عليه وسلم لم يدرك بعد ذلك رمضان، لانه توفي في ربيع الاول، صلى الله عليه وسلم. الثامنة عشرة - قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " أمروا يقتضي الوجوب من غير خلاف. و " إلى " غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك: اشتريت الفدان إلى حاشيته، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر، فإن الشجرة داخلة في المبيع. بخلاف قولك: اشتريت الفدان إلى الدار، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه. فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الاكل حتى يتبين النهار. التاسعة عشرة - ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء. وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه، قال: ولا يخرجه من الصوم إلا الافطار بالفعل وليس بالنية.
[ 328 ]
وقيل: عليه القضاء والكفارة. وقال سحنون: إنما يكفر من بيت الفطر، فأما من نواه في نهاره فلا يضره، وإنما يقضي استحسانا. قلت: هذا حسن. الموفية عشرين - قوله تعالى: " إلى الليل " إذا تبين الليل سن الفطر شرعا، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي: وقد سئل الامام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شئ عليه، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم). وسئل عنها الامام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال: لا بد أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الامام أبو إسحاق أولى، لانه مقتضى الكتاب والسنة. الحادية والعشرون - فإن ظن أن الشمس قد غربت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء. وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام (1): فأمروا بالقضاء، قال: لا بد من قضاء ؟. قال عمر في الموطأ في هذا: الخطب يسير، وقد اجتهدنا [ في الوقت ] (2) يريد القضاء. وروي عن عمر أنه قال: لا قضاء عليه، وبه قال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وقول الله تعالى: " إلى الليل " يرد هذا القول، والله أعلم. الثانية والعشرون - فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء، قاله مالك، إلا أن يكون الاغلب عليه غروبها. ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الاكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي، لم يختلف في ذلك قوله. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر، وبه قال ابن المنذر. وقال الكيا الطبري: " وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الاكل فلا قضاء عليه، كذلك قال مجاهد وجابر (1) هو ابن عروة، أحد رجال سند هذا الحديث. (2) زيادة عن الموطأ. (*)
[ 329 ]
ابن زيد. ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله. وكذلك الاسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه. الثالثة عشرين - قوله تعالى: " إلى الليل " فيه ما يقتضي النهي عن الوصال، إذ الليل غاية الصيام، وقالته عائشة. وهذا موضع اختلف فيه، فمن واصل عبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعا، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه، قال: وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من. ها هنا فقد أفطر الصائم). خرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى. ونهى عن الوصال، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: (لو تأخر الهلال لزدتكم) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي حديث أنس: (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم). خرجه مسلم أيضا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والوصال إياكم والوصال) تأكيدا في المنع لهم منه، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الابدان - جمهور العلماء. وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب، قال صلى الله عليه وسلم: (إن فصل (1) ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر). خرجه مسلم وأبو داود. وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر) قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال: (لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمنى وساق يسقيني). قالوا: وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد (1) كذا في صحيح مسلم بالصاد المهملة، بمعنى الفاضل. وفى سنن أبى داود بالضاد المعجمة. (*)
[ 330 ]
وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. واحتج من أجاز الوصال بأن قال: إنما كان النهي عن الوصال لانهم كانوا حديثي عهد بالاسلام، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال: (لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني). فلما كمل الايمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات، والله أعلم. قلت: ترك الوصال مع ظهور الاسلام وقهر الاعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات، والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا: إنك تواصل، فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة: أنه صلى الله عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها. وقيل: إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالاصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله: (أطعم وأسقي) المعنى لكان مفطرا حكما، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما، ولا فرق بينهما، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به، فكان تركه أولى. وبالله التوفيق. الرابعة والعشرون - ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما رواه أبو داود عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 331 ]
يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: إسناد صحيح. وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: (لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم). وعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الاجر إن شاء الله). خرجه أبو داود أيضا. وقال الدارقطني: تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن. وروى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير قال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال: (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الابرار وصلت عليكم الملائكة). وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا). وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد). قال ابن أبى مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إنى أسألك برحمتك التى وسعت كل شئ أن تغفر لي. وفى صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: " للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقى ربه فرح بصومه ". الخامسة والعشرون - ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبى أيوب الانصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر " هذا حديث صحيح من حديث سعد بن سعيد الانصاري المدنى، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبى أسماء الرحبى عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة ". رواه النسائي. واختلف في صيام هذه الايام، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان
[ 332 ]
ما ليس منه، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان. وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي، وكرهه أبو يوسف. السادسة والعشرون - قوله تعالى: " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري والزهرى: عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهى مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لان عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر: وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي: إن فعل شيئا من ذلك فسدا اعتكافه، قاله المزني. وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطئ إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم. السابعة والعشرون - قوله تعالى: " وأنتم عاكفون " جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشئ إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز: * عكف النبيط يلعبون الفنزجا (1) * وقال شاعر: وظل بنات الليل حولي عكفا * عكوف البواكي بينهن صريع ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع (1) تقدم صدر هذا البيت وقائله ومعناه في هامش ص 114 من هذا الجزء. (*)
[ 333 ]
مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه. الثامنة والعشرون - أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول الله تعالى " في المساجد ". واختلفوا في المراد بالمساجد، فذهب قوم إلى أن الاية خرجت على نوح من المساجد، وهو ما بناه نبى كالمساجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد إيلياء (1)، روى هذا عن حذيفة بن اليمان وسعد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لان الاشارة في الاية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روى هذا عن على بن أبى طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهرى وأبى جعفر محمد بن على، وهو أحد قولى مالك. وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبى قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبى حنيفة وأصهابهما. وحجتهم حمل الاية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولى مالك، وبه يقول ابن علية وداود بن على والطبري وابن المنذر. وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح ". قال الدارقطني: والضحاك لم يسمع من حذيفة. التاسعة والعشرون - وأقل الاعتكاف عند مالك وأبى حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله على اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم. وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة. وقال سحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شئ على، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة، وإن نذر ليلة فلا شئ علبه. كما قال سحنون. قال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوما فيوما. قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لاكثره. وقال بعض (1) إيلياء (بكسر أوله واللام): اسم مدينة بيت المقدس. (*)
[ 334 ]
أصحاب أبى حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة. وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم، وروى عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن على وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي. واحتجوا بأن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في رمضان، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره. ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه. ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره، وأن ليله داخل إفى اعتكافه، وأن الليل ليس بموضع صوم، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم، وإن صام فحسن، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الاخر: لا يصح إلا بصوم. وروى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضى الله عنهم. وفى الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبد الله بن عمر: لا اعتكاف إلا بصيام، لقول الله تعالى في كتابه: " وكلوا واشربوا " إلى قوله: " في المساجد " وقالا: فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام. قال يحيى قال مالك: وعلى ذلك الامر عندنا. واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عمر بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه [ أن يعتكف (1) ] في الجاهلية ليلة أو يوما [ عند الكعبة (1) ] فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اعتكف وصم ". أخرجه أبو داود. وقال الدارقطني: تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا اعتكاف إلا بصيام ". قال الدارقطني: تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة. وقالوا: ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف نذره إلى مقتضاه في أصل الشرع، وهذا كمن نذر صلاة فإنما تلزمه، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها. الموفية ثلاثين - وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لابد له منه، لما روى الائمة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدنى إلى رأسه
[ 335 ]
فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان، تريد الغائط والبول. ولا خلاف في هذا بين الامة ولا بين الائمة، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لابد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شئ عليه. ومن الضرورة المرض البين والحيض. واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فمذهب مالك ما ذكرنا، وكذلك مذهب الشافعي وأبى حنيفة. وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي: يعود المريض ويشهد الجنائز، وروى عن على وليس بثابت عنه. وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع، فقال في الاعتكاف الواجب: لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز، وقال في التطوع: يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة. وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه. واختلف فيه عن أحمد، فمنع منه مرة، وقال مرة: أرجو ألا يكون به بأس. وقال الاوزاعي كما قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط. قال ابن المنذر: لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لابد له منه، وهو الذى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج له. الحادية والثلاثون - واختلفوا في خروجه للجمعة، فقالت طائفة: يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم، لانه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه. ورواه ابن الجهم عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، واختاره ابن العربي وابن المنذر. ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع، وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه. وقاال عبد الملك: يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه. قلت: وهو صحيح لقوله تعالى: " وأنتم عاكفون في المساجد " فعم. وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، وأجمع الجمهور من الائمة على أن الجمعة فرض على الاعيان، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الاخر قدم اللاكد، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب، ولم يقل أحد بترك الخروج إليها، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الانسان.
[ 336 ]
الثانية والثلاثون - المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لان الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة. قاله ابن خويز منداد عن مالك. الثالثة والثلاثون - روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه...، الحديث. واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الاوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروى عن الثوري والليث ابن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين. وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصهابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر. وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبد الملك، لان أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم. وقال الشافعي: إذا قال لله على يوم دخل قبل طلوع الفجر وخروج بعد الغروب الشمس، خلاف قوله في الشهر. وقال الليث في أحد قوليه وزفر: يدخل قبل طلوع الفجر، والشهر واليوم عندهم سواء. وروى مثل ذلك عن أبى يوسف، وبه قال القاضى عبد الوهاب، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم. فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل. قلت: وحديث عائشة يرد هذه الاقوال وهو الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته. الرابعة والثلاثون - استحب مالك لمن اعتكف العشر الاواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد. وقال الشافعي واللاوزاعى: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سحنون عن ابن القاسم، لان العشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضى
[ 337 ]
بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. وقال سحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه. وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفى الاجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف. فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالايات، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية. الخامسة والثلاثون - قوله تعالى: " تلك حدود الله " أي هذه الاحكام حدود الله فلا تخالفوا، ف‍ " تلك " إشارة إلى هذه الاوامر والنوهى. والحدود: الحواجز. والحد: المنع، ومنه سمى الحديد حديدا، لانه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمى البواب والسبحان حدادا، لانه يمنع من في الدار من الخروج منها، ويمنع الخارج من الدخول فيها. وسميت حدود الله لانها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لانها تمنع أصحابهما من العود إلى أمثالها. ومنه سميت الحاد في العدة، لانها تمتنع من الزينة. السادسة والثلاثون - قوله تعالى: " كذلك يبين الله آياته للناس " أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الاحكام لتتقوا مجاوزتها. والايات: العلامات الهادية إلى الحق. و " لعلهم " ترج في حقهم، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى، بدلالة الايات التى تتضمن أن الله يضل من يشاء. قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالبطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون (188) فيه ثمانى مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم " قيل: إنه نزل في عبدان ابن أشوع الحضرمي، ادعى ملا امرئ القيس الكندى واختصما إلى النبي صلى الله عليه (22 - 2)
[ 338 ]
وسلم، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت الاية، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه. الثانية - الخطاب بهذه الاية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كهر البغى وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لان الغبن كأنه هبة، على ما يأتي بيانه في سورة " النساء (1) ". وأضيفت الاموال إلى ضمير المنتهى لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال: " تقتلون أنفسكم (2) ". وقال قوم: المراد بالاية " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل (3) " أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة، فيجئ على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين. الثالثة - من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الاكل بالباطل أن يقتضى القاضى لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضى، لانه إنما يقضى بالظاهر. وهذا إجماع في الاموال، وإن كان عند أبى حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضى لا يغير حكم الباطن في الاموال فهو في الفروج أولى. وروى الائمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار - في رواية - فليحملها أو يذرها ". وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن، وسواء كان ذلك في الاموال والدماء والفروج، إلا ما حكى عن أبى حنيفة في الفروج، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها - ممن يعلم أن القضية باطل - بعد العدة. وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده، لانه لما حلت للازواج في الظاهر كان الشاهد وغيره (1) راجع ج‍ 5 ص 152. (2) راجع ص 19 من هذا الجزء. (3) راجع ج‍ 5 ص 150. (*)
[ 339 ]
سواء، لان قضاء القاضى قطع عصمتها، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا، ولولا ذلك ما حلت للازواج. واحتج بحكم اللعان وقال: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذى لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام: " فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه " الحديث. الرابعة - وهذه الاية متسمك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لانفسهم بأنه لا يجوز، فيستدل عليه بقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ". فجوابه أن يقال له: لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل، وحينئذ يدخل في هذا العموم، فهى دليل على أنه الباطل في المعاملات لا يجوز، وليس فيها تعيين الباطل. الخامسة - قوله تعالى: " بالباطل " الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا، وجمع الباطل بواطل. والاباطل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى: " لا يأتيه الباطل " (1) قال قتادة: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقض. وقوله: " ويمح الله الباطل (2) " يعنى الشرك. والبطلة: السحرة. السادسة: قوله تعالى: " وتدلوا بها إلى الحكام " الاية. قيل: يعنى الوديعة وما لا تقوم فيه بينة، عن ابن عباس والحسن. وقيل: هو مال اليتيم الذى في أيدى الاوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة. وقال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الاحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالامر الذى يرجو النجاح به، تشبيها بالذى يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وجمع الدلو والدلاء: أدل ودلاء ودلى. والمعنى في الاية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الادلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله: " ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق (3) ". وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل: (1) راجع ج‍ 15 ص 367. (2) راجع ج‍ 16 ص 25. (3) راجع ج‍ 1 ص 340. (*)
[ 340 ]
المعنى لا تصانعوا بأمولكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، فالياء إلزاق مجرد. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لان الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الاقل. وأيضا فإن اللفظين متناسبان: تدلوا من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضى الحاجة. قلت: ويقوى هذا قوله: " وتدلوا بها " تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا. وفى مصحف أبى " ولا تدلوا " بتكرار حرف النهى، وهذه القراءة تؤيد جزم " تدلوا " في قراءة الجماعة. وقيل: " تدلوا " في موضع نصب على الظرف، والذى ينصب في مثل هذا عند سيبويه " أن " مضمرة. والهاء في قوله " بها " ترجع إلى الاموال، وعلى القول الاول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر: فقوى القول الثاني لذكر الاموال، والله أعلم. في الصحاح: " والرشوة معروفة، والرشوة بالضم مثله، والجمع رشى ورشى، وقد رشاه يرشوه. وارتشى: أخذ الرشوة. واسترشى في حكمه: طلب الرشوة عليه ". قلت - فالحكام اليوم عين الرشاء لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا بالله !. السابعة - قوله تعالى: " لتأكلوا " نصب بلام كى. " فريقا " أي قطعة وجزاء، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض. والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس. " بالاثم " معناه بالظلم والتعدى، وسمى ذلك إثما لما كان الاثم يتعلق بفاعله. " وأنتم تعلمون " أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية. الثامنة - اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه. خلافا لبشربن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وخلافا لابن الجباثى حيث قال: إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها. وخلافا لابن الهذيل حيث قال: يفسق بأخذ خمسة دراهم: وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال: يفسق بأخذ درهم فما
[ 341 ]
فوق، ولا يفسق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الامة، قال صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " الحديث، متفق على صحته. قوله تعالى: يسئلونك عن الاهلة قل هي موقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوبها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189). فيه اثنتا عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: " يسئلونك عن الاهلة " هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال معاذ: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الاهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان ؟ فأنزل الله هذه الاية. وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه (1) وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم. الثانية - قوله تعالى: " عن الاهلة " الاهلة جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الاهلة. ويريد بالاهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلول فيه، كما قال: أخوان من نجد على ثقة * والشهر مثل قلامة الظفر وقيل: سمي شهرا لان الايدي تشهر بالاشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه. ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله. وقيل: لثلاث من أوله. وقال الاصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه (1) المحاق (بتثليث الميم): أن ستسر القمر ليلتين فلا يرى غدوة ولا عشية. (*)
[ 342 ]
السماء، وذلك ليلة سبع. قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لان الناس يرفعون أصواتهم بالاخبار عنه. ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه. واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور. قال أبو كبير: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه * برقت كبرق العارض المتهلل ويقال: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري: " وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله. ويقال أيضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل، وهو قياسه ": قال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا. الثالثة - قال علماؤنا: من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث. وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي. قوله تعالى: " قل هي مواقيت للناس والحج " تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الاشكال في الاجال والمعاملات والايمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والاجارات والاكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب " [ الاسراء: 12 ] على ما يأتي (1). وقوله: " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب (2) " [ يونس: 5 ]. وإحصاء الاهلة أيسر من إحصاء الايام. الرابعة - وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز إلى الاجل المجهول سنين غير معلومة، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير توقيت. وهذا (1) راجع ج‍ 10 ص 227. (2) راجع ج‍ 8 ص 309. (*)
[ 343 ]
لا دليل فيه، لانه عليه السلام قال لليهود: (أقركم [ فيها ] (1) ما أقركم الله). وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره. وقد أحكمت الشريعة معاني الاجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شئ منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الامة. الخامسة - قوله تعالى: " مواقيت " المواقيت: جميع الميقات وهو الوقت. وقيل: الميقات منتهى الوقت. و " مواقيت " لا تنصرف، لانه جمع لا نظير له في الاحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها. وصرفت " قوارير " في قوله: " قواريرا " (2) [ الانسان: 16 ] لانها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم. السادسة - قوله تعالى: " والحج " بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله: " حج البيت في " [ آل عمران: 97 ] في " آل عمران " (3). سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم. السابعة - أفرد سبحانه الحج بالذكر لانه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسئ فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم، على ما يأتي بيانه في " براءة " (4) إن شاء الله تعالى. الثامنة - استدل مالك رحمه الله وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الاحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الاية، لان الله تعالى جعل الاهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي، لقوله تعالى: " الحج أشهر معلومات " [ البقرة: 197 ] على ما يأتي. وأن معنى هذه الاية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو. والجواب أن يقال: إن ظاهر قوله " هي مواقيت للناس (1) الزيادة عن الموطأ. (2) راجع ج‍ 19 ص 138. (3) راجع ج‍ 4 ص 142. (4) راجع ج‍ 8 ص 136. (*)
[ 344 ]
والحج " يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج، ولو أراد التبعيض لقال: بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج. وهذا كما تقول: إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو. ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما. وما ذكروه من الجارية فصحيح، لان كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل، وليس كذلك في مسئلتنا، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو، فبطل ما قالوه. التاسعة - لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الاجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك، فقال مالك: ذلك جائز لانه معروف، وبه قال أبو ثور. وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة. ذلك غير جائز، لان الله تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لاجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح. العاشرة - إذا رؤي الهلال كبيرا فقال علماؤنا: لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال: أي ليلة رأيتموه ؟ قال فقلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله مده للرؤية) فهو لليلة رأيتموه. الحادية عشرة - قوله تعالى: " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الاهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الاية فيهما جميعا. وكان الانصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين
[ 345 ]
السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته. فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا، فرد عليهم فيها، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الناس في الجاهلية وفي أول الاسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه. وإن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام الخيمة، إلا من كان من الحمس. وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لم دخلت وأنت قد أحرمت). فقال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحمس " أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الاية، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة. وقيل: إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الانصاري. والحمس: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم (1) وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر ابن معاوية. وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم. والحماسة الشدة. قال العجاج: * وكم قطعنا من قفاف (2) حمس * أي شداد. ثم اختلفوا في تأويلها، فقيل ما ذكرنا، وهو الصحيح. وقيل: إنه النسئ وتأخير الحج به، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. (1) كذا في ج‍. وفى سائر الاصول والفخر الرازي: " خيثم ". وفى البحر لابن حيان: " خثعم ". (2) في نسخ الاصل: " قفار " بالراء، والتصويب عن اللسان. والقفاف: الاماكن الغلاظ الصلبة. (*)
[ 346 ]
وسيأتي بيان النسئ في سورة [ براءة ] (1) إن شاء الله تعالى. وقال أبو عبيدة: الاية ضرب مثل، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله وأسألوا العلماء، فهذا كما تقول: أتيت هذا الامر من بابه. وحكى المهدوي ومكي عن ابن الانباري، والماوردي عن ابن زيد أن الاية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر. وسمي النساء بيوتا للايواء إليهن كالايواء إلى البيوت. قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام. وقال الحسن: كانوا يتطيرون، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة، فقيل لهم: ليس في التطير بر، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه. قلت: القول الاول أصح هذه الاقوال، لما رواه البراء قال: كان الانصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، قال: فجاء رجل من الانصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الاية: " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " وهذا نص في البيوت حقيقة. خرجه البخاري ومسلم. وأما تلك الاقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الاية، فتأمله. وقد قيل: إن الاية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الامور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه. قلت: فعلى هذا يصح ما ذكر من الاقوال. والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها. وتقدم معنى التقوى والفلاح ولعل، فلا معنى للاعادة (2). الثانية عشرة - في هذه الاية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الاثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم (1) راجع ج‍ 8 ص 136. (2) راجع ج‍ 1 ص 161، 182، 227 طبعة ثانية. (*)
[ 347 ]
في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل (1)، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه). فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن. قوله تعالى: وقتلوا في سبيل الله الذين يقتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " وقاتلوا " هذه الاية أول آية نزلت في الامر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: " ادفع بالتي هي أحسن " (2) [ فصلت: 34 ] وقوله: " فاعف عنهم واصفح " (3) [ المائدة: 13 ] وقوله: " واهجرهم هجرا جميلا " (4) [ المزمل: 10 ] وقوله: " لست عليهم بمسيطر " (5) [ الغاشية: 22 ] وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا " (6) [ الحج: 39 ]. والاول أكثر، وأن آية الاذن إنما نزلت في القتال عامة لمن فاتل ولمن لم يقاتل من المشركين، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فلما نزل الحديبية بقرب مكة - والحديبية اسم بئر، فسمى ذلك الموضع باسم تلك البئر - فصده المشركون عن البيت، وأقام بالحديبية شهرا، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين، ورجع إلى المدينة. فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام، فنزلت هذه الاية، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار. فالاية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت (1) أبو إسرائيل هذا: رجل من الانصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه. راجع الاستيعاب والاصابة وأسد الغابة في " باب الكنى ". (2) راجع ج‍ 12 ص 147. (3) راجع ج‍ 6 ص 116. (4) راجع ج‍ 19 ص 44. (5) راجع ج‍ 20 ص 37. (6) راجع ج‍ 12 ص 67. (*)
[ 348 ]
من ظهورها، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل " فاقتلوا المشركين " (1) [ التوبة: 5 ] فنسخت هذه الاية، قاله جماعة من العلماء. وقال ابن زيد والربيع: نسخها " وقاتلوا المشركين كافة " (1) [ التوبة: 36 ] فأمر بالقتال لجميع الكفار. وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: هي محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، على ما يأتي بيانه. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان، رواه الائمة. وأما النظر فإن " فاعل " لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والاجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية، أخرجه مالك وغيره، وللعلماء فيهم صور ست: الاولى - النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم "، " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " [ البقرة: 191 ]. وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الامداد بالاموال، ومنها التحريص على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الاسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال. الثانية - الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولانه لا تكليف عليهم، فإن قاتل [ الصبي ] قتل. الثالثة - الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد (2): " وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا (1) راجع ج‍ 8 ص 72 وص 132. (2) هو يزيد بن أبى سفيان بن حرب، أسلم يوم فتح مكة، وعقد له أبو بكر رضى الله عنه سنة 13 ه‍ مع أمراء الجيوش إلى الشام، وكان أول الامراء الذين خرجوا إليها، وشيعه أبو بكر راجلا، وقال له: "... وإنى موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تغبن ". راجع موطأ مالك باب الجهاد، وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري. (*)
[ 349 ]
أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له " فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج (1). وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي: " والصحيح عندي رواية أشهب، لانها داخلة تحت قوله: " فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ". الرابعة - الزمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا (2) مالا على حالهم وحشوة. الخامسة - الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما - مثل قول الجماعة. والثاني - يقتل هو والراهب. والصحيح الاول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الامام فيه مخيرا بين خمسة أشياء: القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية. السادسة - العسفاء، وهم الاجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والاجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والاول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح (3) بن الربيع (الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا). وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذي لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حراثا، ذكره ابن المنذر. (1) لاتهاج: أي لا تزعج ولا تنفر. (2) هكذا في الاصول. (3) رباح، بباء موحدة. وقيل: بالياء المثناة من تحت. راجع تهذيب التهذيب في حرف الراء. (*)
[ 350 ]
الثانية - روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " أهل الحديبية (1) أمروا بقتال من قاتلهم. والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بينها في سورة " براءة " بقوله: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " (2) [ التوبة: 123 ] وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الافاق ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الاجر والمغنم). وقيل: غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وهو موافق للحديث الذي قبله، لان نزوله من أشراط الساعة. الثالثة - قوله تعالى: " ولا تعتدوا " قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أسر الاعتقاد بالباطل (3) ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: " لا تعتدوا " أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الاية منسوخة بالامر بالقتال لجميع الكفار، والله أعلم. قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم منن حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكفرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192). (1) في أ، ب، ز: " أهل المدينة ". (2) راجع ج‍ 8 ص 297. (3) في بعض نسخ الاصل: "... بالباطل... " بالنون.
[ 351 ]
فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ثقفتموهم " يقال: ثقف يثقف ثقفا وثقفا، ورجل ثقف لقف: إذا كان محكما لما يتناوله من الامور. وفي هذا دليل على قتل الاسير، وسيأتي بيان هذا في " الانفال " (1) إن شاء الله تعالى. وأخرجوهم من حيث أخرجوكم " أي مكة. قال الطبري: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش. الثانية قوله تعالى: " والفتنة أشد منن القتل " أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل. قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة. وقال غيره: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به. وهذا دليل على أن الاية نزلت في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله واقد بن عبد الله التميمي في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، حسب ما هو مذكور في سرية عبد الله بن جحش، على ما يأتي بيانه (2)، قاله الطبري وغيره. الثالثة - قوله تعالى: " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه " الاية. للعلماء في هذه الاية قولان: أحدهما - أنها منسوخة، والثاني - أنها محكمة. قال مجاهد: الاية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه إقال طاوس، وهو الذي يقتضيه نص الاية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وفي الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة). وقال قتادة: الاية منسوخة بقوله تعالى: " فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (3) [ التوبة: 5 ]. وقال مقاتل: نسخها قوله تعالى: " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " ثم نسخ هذا قوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". فيجوز الابتداء بالقتال في الحرم. (1) راجع ج‍ 8 ص 30. (2) راجع ج‍ 3 ص 49. (3) راجع ج‍ 8 ص 72. (*)
[ 352 ]
ومما احتجوا به أن " براءة " نزلت بعد سورة " البقرة " بسنتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر (1)، فقيل: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: (اقتلوه). وقال ابن خويز منداد: " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام " منسوخة، لان الاجماع قد تقرر بأن عدلوا لو استولى على مكة وقال: لاقاتلكم، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال، فمكة وغيرها من البلاد سواء. وإنما قيل فيها: هي حرام تعظيما لها، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال: (احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا) حتى جاء العباس فقال: يا رسول الله، ذهبت قريش، فلا قريش بعد اليوم. ألا ترى أنه قال في تعظيمها: (ولا يلتقط لقطتها إلا منشد) واللقطة بها وبغيرها سواء. ويجوز أن تكون منسوخة بقوله: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " [ البقرة: 193 ]. قال ابن العربي: " حضرت في بيت المقدس - طهره الله - بمدرسة أبي عقبة الحنفي، والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء وتصدر في صدر المجلس بمدارع (2) الرعاء، فقال القاضي الزنجاني: من السيد ؟ فقال: رجل سلبه الشطار (3) أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا: سلوه - على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم - ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا ؟ فأفتى بأنه لا يقتل. فسئل عن الدليل، فقال قوله تعالى: " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه " قرئ " ولا تقتلوهم، ولا تقاتلوهم " فإن قرئ " ولا تقتلوهم " فالمسألة نص، وإن قرئ " ولا تقاتلوهم " فهو تنبيه، لانه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما، على العادة، فقال: هذه الاية منسوخة بقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين (1) المغفر ومثله والغفارة (كلها بالكسر): زرد ينسخ من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة. (2) المدرع والدراعة: ضرب من الثياب التى تلبس. وقيل: جبة مشقوقة المقدم. (3) الشطار: جمع شاطر، وهو الذى أعيا أهله ومؤدبة خبثا. (*)
[ 353 ]
حيث وجدتموهم " [ التوبة: 5 ]. فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الاية التي اعترضت بها عامة في الاماكن، والتي احتججت بها خاصة، ولا يجوز لاحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص. فبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام). قال ابن العربي (1): (فإن لجأ إليه كافر فلا سبيل إليه، لنص الاية والسنة الثابتة بالنهي عن القتال فيه. وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيقتل بنص القرآن). قلت: وأما ما احتجوا به من قتل ابن خطل وأصحابه فلا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل فيها القتال. فثبت وصح أن القول الاول أصح، والله أعلم. الرابعة - قال بعض العلماء: في هذه الاية دليل على أن الباغي على الامام بخلاف الكافر، فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع. ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح. على ما يأتي بيانه من أحكام الباغين في " الحجرات " (2) إن شاء الله تعالى. الخامسة - قوله تعالى: " فإن انتهوا " أي عن قتالكم بالايمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم، ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم، نظيره قوله تعالى: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " [ الانفال: 38 ]. وسيأتي. (3) قوله تعالى: وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدون إلا على الظلمين (193). فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " وقاتلوهم " أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، على من رآها ناسخة. ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: " فإن قاتلوكم " والاول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار. دليل ذلك قوله تعالى: " ويكون الدين لله "، وقال عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله (1) وردت عبارة ابن العربي في كتابه ببعض اختلاف عما في الاصول. (2) راجع ج‍ 16 ص 315. فما بعدها. (3) راجع ج‍ 7 ص 401. (*)
[ 354 ]
إلا الله). فدلت الاية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لانه قال: " حتى لا تكون فتنة " أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر. قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم: الفتنة هناك الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين. وأصل الفتنة: الاختبار والامتحان، مأخوذ من فتنت الفضة إذا أدخلتها في النار لتميز رديئها من جيدها. وسيأتي بيان محاملها إن شاء الله تعالى. الثانية - قوله تعالى: " فإن انتهوا " أي عن الكفر، إما بالاسلام كما تقدم في الاية قبل، أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب، على ما يأتي بيانه في " براءة " (1) وإلا قوتلوا وهم الظالمون عدوان إلا عليهم. وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا، كقوله: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (2). [ الشورى: 40 ]. والظالمون هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الاخر: من بقي على كفر وفتنة. قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمت قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194). فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: " الشهر الحرام " قد تقدم اشتقاق الشهر (3). وسبب نزولها ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقسم والسدي والربيع والضحاك وغيرهم قالوا: نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية، [ وذلك (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية ] في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله، فدخله سنة سبع وقضى نسكه، فنزلت هذه الاية. وروي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام ؟ قال: (نعم). فأرادوا قتاله، فنزلت الاية. المعنى: إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم، فأباح الله بالاية مدافعتهم، والقول الاول أشهر وعليه الاكثر. (1) راجع ج‍ 8 ص 109. (2) راجع ج‍ 16 ص 40. (3) راجع ص 290 من هذا الجزء. (4) مابين المربعين ساقط من ب. (*)
[ 355 ]
الثانية - قوله تعالى: " والحرمات قصاص " الحرمات جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة. وإنما جمعت الحرمات لانه أراد [ حرمة ] الشهر الحرام [ وحرمة ] البلد الحرام، وحرمة الاحرام. والحرمة: ما منعت من انتها كه. والقصاص المساواة، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع. ف‍ " الحرمات قصاص " على هذا متصل بما قبله ومتعلق به. وقيل: هو مقطوع منه. وهو ابتداء أمر كان في أول الاسلام: إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك، ثم نسخ ذلك بالقتال. وقالت طائفة: ما تناولت الاية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفى (1) له ذلك، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شئ، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب مالك. وقالت طائفة من أصحاب مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام. والاموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم: (أد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك). خرجه الدارقطني وغيره. فمن ائتمنه من خانه فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه، وهو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة تمسكا بهذا الحديث، وقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها " (2) [ النساء: 58 ]. وهو قول عطاء الخراساني. قال قدامة بن الهيثم: سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له: لي على رجل حق، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة، أفأقتص من ماله ؟ قال: أرأيت لو وقع بجاريتك، فعلمت ما كنت صانعا. قلت: والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر، واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وأخذ الحق من الظالم نصر له. وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله (1) قوله: " إذ خفى " أي ظهر. وهذا اللفظ من الاضداد، يقال: خفيف الشئ: كتمته. وخفيته: أظهرته. راجع ج‍ 11 ص 182. (2) راجع ج‍ 5 ص 255. (*)
[ 356 ]
عليه وسلم: (خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف). فأباح لها الاخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها. وهذا كله ثابت في الصحيح، وقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " قاطع في موضع الخلاف. الثالثة - واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله، فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم. وللشافعي قولان، أصحهما الاخذ، قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله. والقول الثاني لا يأخذ لانه خلاف الجنس. ومنهم من قال: يتحرى قيمة ما له عليه ويأخذ مقدار ذلك. وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل، والله أعلم. الرابعة - وإذا فرعنا على الاخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك، فقال الشافعي: لا، بل يأخذ ماله عليه. وقال مالك: يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفلس، وهو القياس، والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام. واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال: ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح، لان قول القائل: * فقالت له العينان سمعا وطاعة * وكذلك: * امتلا الحوض وقال قطني * وكذلك: * شكا إلى جملى طول السرى * ومعلوم أن هذه الاشياء لا تنطق. وحد الكذب: إخبار عن الشئ على خلاف ما هو به. ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدوانا على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله، كما قال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
[ 357 ]
وقال الاخر: ولي فرس للجلم بالحلم ملجم * ولي فرس للجهل بالجهل مسرج ومن رام تقويمي فإني مقوم * ومن رام تعويجي فإني معوج يريد: أكافئ الجاهل والمعوج، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج. السادسة - واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء: عليه في ذلك المثل، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل، لقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وقوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (1) [ النحل: 126 ]. قالوا: وهذا عموم في جميع الاشياء كلها، وعضدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال: (إناء بإناء وطعام بطعام) خرجه أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة. قال ابن المثنى: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الاخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: (غارت أمكم). زاد ابن المثنى (كلوا) فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها. ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال: (كلوا) وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته. حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري - قال أبو داود: وهو أفلت بن خليفة - عن جسرة بنت دجاجة قالت قالت عائشة رضى الله عنها: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به، فأخذني أفكل (2) فكسرت الاناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت ؟ قال: (إناء مثل إناء وطعام مثل طعام). قال مالك (1) راجع ج‍ 10 ص 200. (2) الافكل (على وزن أفعل): الرعدة. أي ارتعدت من شدة الغيرة. (*)
[ 358 ]
وأصحابه: عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل، بدليل تضمين النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه، ولم يضمنه مثل نصف عبده. ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات، لقوله عليه السلام: (طعام بطعام). السابعة - لا خلاف بين العلماء أن هذه الاية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشئ قتل بمثل ما قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف. وللشافعية قول: إنه يقتل بذلك، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت. وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعذب بالنار، إلا الله). والسم نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك، لعموم الاية. الثامنة - وأما القود بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين: إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف، رواه عنه ابن وهب، وقاله ابن القاسم. وفي الاخرى: يقتل بها وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي. وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضرب ضربات فلا. وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لانه من التعذيب، وقاله عبد الملك. قال ابن العربي: " والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف ". واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه بقصد التعذيب فعل به ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلة الرعاء (1). وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف. وذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة والثعبي والنخعي. (1) هم قوم من عربية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واستوخموا المدينة وسقمت أجسامهم واصفرت ألوانهم وعظمت بطونهم، فبعث بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوا فقتلوا رعاتها واستاقوا الابل، فبعث نبى الله في طلبهم فأتى بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم. راجع كتب السنة في هذا الحديث. (*)
[ 359 ]
واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قود إلا بحديدة)، وبالنهي عن المثلة، وقوله: (لا يعذب بالنار إلا رب النار). والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لما رواه الائمة عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك ! أفلان، أفلان ؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بالحجارة. وفي رواية: فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين. وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " [ النحل: 126 ]. وقوله: " فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ". وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين، لا يروى من طريق صحيح، لو صح قلنا بموجبه، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها، يدل على ذلك حديث أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين. وأما النهي عن المثلة فنقول أيضا بموجبها إذا لم يمثل، فإذا مثل مثلنا به، يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الائمة. وقوله: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) صحيح إذا لم يحرق، فإن حرق حرق، يدل عليه عموم القرآن. قال الشافعي: إن طرحه في النار عمدا طرح في النار حتى يموت، وذكره الوقار (1) في مختصره عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال: لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات، أو ألفاه من جبل أو سطح فمات، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفا بذلك - قد خنق غير واحد - فعليه القتل. قال ابن المنذر: ولما أقاد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله. قلت: وحكى هذا القول غيره عن أبي حنيفة فقال: وقد شذ أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة: إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إلا إذا (1) الوقار (كسحاب): لقب ذكريا بن يحيى بن إبراهيم الفقيه المصرى، أخذ عن ابن القاسم وابن وهب. (*)
[ 360 ]
قتل بمحدد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتردية وكان عاقلته الدية. وهذا منه رد للكتاب والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الامة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس، فليس عنه مناص. التاسعة - واختلفوا فيمن حبس رجلا وقتله آخر، فقال عطاء: يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت. وقال مالك: إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلا جميعا، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس. واختاره ابن المنذر. قلت: قول عطاء صحيح، وهو مقتضى التنزيل. وروى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الاخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه). رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وابن جريج عن إسماعيل مرسلا. العاشرة - قوله تعالى: " فمن اعتدى " الاعتداء هو التجاوز، قال الله تعالى: " ومن يتعد حدود الله " (1) [ البقرة: 229 ] أي يتجاوزها، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب يا شاهد زور. ولو قلت له يا زان، كنت كاذبا وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني دون عذر فقل: يا ظالم، يا آكل أموال الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لي (2) الواجد يحل عرضه وعقوبته). أما عرضه فبما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه. وقال ابن عباس: نزل هذا قبل أن يقوى الاسلام، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به، أو يصبر أو يعفو، ثم نسخ ذلك بقوله: " وقاتلوا المشركين كافة " (3) [ التوبة: 36 ]. وقيل: نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان. ولا يحل لاحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان. (1) راجع ج‍ 3 ص 146 وج‍ 18 ص 156. (2) اللى: المطل. والواجد: القادر على قضاء دينه. (3) راجع ج‍ 8 ص 136. (*)
[ 361 ]
قوله تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195). فيه ثلاث مسائل: الاولى - روى البخاري عن حذيفة: " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه (1) مه ! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة ! فقال أبو أيوب: سبحان الله ! أنزلت هذه الاية فينا معاشر الانصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: " وأنفقوا في سبيل الله " الاية. والالقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الالقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الاية نزلت في ذلك. وروي مثله عن حذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك. قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: " كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله ! يلقى بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الانصاري فقال: يأيها الناس، إنكم تتأولون هذه الاية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الاية فينا معاشر الانصار لما أعز الله الاسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الاسلام (1) مه: زجر ونهى، فإن وصلت نؤنت، قلت: مه مه، وكذلك صمه. (*)
[ 362 ]
وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد عليه ما قلنا: " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ". فكانت التهلكة الاقامة على الاموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح ". وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم. قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص (1)، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شئ. وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الاعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بماذا نتجهز ! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: " وأنفقوا في سبيل الله " يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل. ومعنى ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا. وقول رابع - قيل للبراء ابن عازب في هذه الاية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة ؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقال عبيدة السلماني. وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. " سبيل الله " هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في " بأيديكم " زائدة، التقدير تلقوا أيديكم. (1) المشقص (كمنبر): نصل عريض أو منهم فيه نصل، يرمى به الوحش. (*)
[ 363 ]
ونظيره: " ألم يعلم بأن الله يرى " (1) [ العلق: 14 ]. وقال المبرد: " بأيديكم " أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: " فبما كسبت أيديكم " (2)، [ الشورى: 30 ]، " بما قدمت يداك " (3) [ الحج: 10 ]. وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لان المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: [ والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز) (4) وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. والتهلكة (بضم اللام) مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم. وقيل: إن معنى الاية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الاخرة. ويقال: " لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال: " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " [ البقرة: 267 ]. وقال الطبري: قوله " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله. الثانية - اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم بن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبد الملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لان مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " (5) [ البقرة: 207 ]. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من (1) راجع ج‍ 20 ص 124. (2) راجع ج‍ 16 ص 30. (3) في نسخ الاصل: " بما كسبت ". راجع ج‍ 12 ص 16. (4) عبارة عبد المطلب كما أوردها ابن هشام في سيرته عند الكلام على حفر زمزم: " والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الارض ونبتغي لانفسنا لعجز... " الخ. (5) راجع ج‍ 3 ص 20. (*)
[ 364 ]
الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل (1) من المسلمين: ضعوني في الحجفة (2) وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب. قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ؟ قال: (فلك الجنة). فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد (3) يوم أحد في سبعة من الانصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه (4) قال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة) فتقدم رجل من الانصار فقاتل حتى قتل. [ ثم رهقوه أيضا فقال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة). فتقدم رجل من الانصار فقاتل حتى قتل (5) ]. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا). هكذا الرواية (أنصفنا) بسكون الفاء (أصحابنا) بفتح الباء، أي لم ندلهم (6) للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم. وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لانه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولان فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لاعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الدي مدح الله به المؤمنين في قوله: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم " (7) [ التوبة: 111 ] الاية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان (1) هو البراء بن مالك، أخو أنس بن مالك، كما في تاريخ الطبري. (2) الحجفة (بتقديم الحاء على الجيم والتحريك): ترس يتخذ من الجلود. (3) أفرد يوم أحد، أي حين انهزم الناس وخلص إليه العدو. (4) رهقه (بكسر ثانية): غشيه ولحقه. (5) زيادة عن صحيح مسلم. (6) أي لم ترشدهم ونسددهم. (7) راجع ج‍ 8 ص 267. (*)
[ 365 ]
في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور " (1) [ لقمان: 17 ]. وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله). وسيأتي القول في هذا في [ آل عمران ] إن شاء تعالى. الثالثة - قوله تعالى: " وأحسنوا " أي في الانفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم. وقيل: " أحسنوا " في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة. قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محلة فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (199). قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " فيه سبع مسائل: الاولى - اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة لله، فقيل: أداؤهما والاتيان بهما، كقوله: " فأتمهن " [ البقرة: 124 ] وقوله: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " [ البقرة: 187 ] أي ائتوا بالصيام، وهذا على مذهب من أوجب العمرة، على ما يأتي. ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، قال معناه الشعبي وابن زيد. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وفعله عمران بن حصين. وقال سفيان (1) راجع ج‍ 14 ص 68. (*)
[ 366 ]
الثوري: إتمامهما أن تحرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله " لله ". وقال عمر: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع وقران، وقاله ابن حبيب. وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشئ آخر. قلت: أما ما روي عن علي وفعله عمران بن حصين في الاحرام قبل المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال به عبد الله بن مسعود وجماعة من السلف، وثبت أن عمر أهل من إيلياء، وكان الاسود وعلقمة وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم، ورخص فيه الشافعي. وروى أبو داود والدارقطني عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحرم من بيت المقدس بحج أو عمرة كان من ذنوبه كيوم (1) ولدته أمه) في رواية (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر). وخرجه أبو داود وقال: " يرحم الله وكيعا ! أحرم من بيت المقدس، يعني إلى مكة ". ففي هذا إجازة الاحرام قبل الميقات. وكره مالك رحمه الله أن يحرم أحد قبل الميقات، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة. وأنكر عثمان على ابن (2) عمر إحرامه قبل الميقات. وقل أحمد وإسحاق: وجه العمل المواقيت، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت وعينها، فصارت بيانا لمجمل الحج، ولم يحرم صلى الله عليه وسلم من بيته لحجته، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لامته، وما فعله صلى الله عليه وسلم فهو الافضل إن شاء الله. وكذلك صنع جمهور الصحابة والتابعين بعدهم. واحتج أهل المقالة الاولى بأن ذلك أفضل بقول عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وبحديث أم سلمة مع ما ذكر عن الصحابة في ذلك، وقد شهدوا إحرام رسول الله (1) كذا في الدارقطني. وفى الاصول: " كهيئة يوم ". (2) في شرح الموطأ للزرقاني: "... على عبد الله بن عامر " وعبد الله بن عامر هذا ابن خال عثمان وكان واليا له على البصرة. (*)
[ 367 ]
صلى الله عليه وسلم في حجته من ميقاته، وعرفوا مغزاه ومراده، وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته. الثانية - روى الائمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لاهل المدينة ذا الحليفة (1)، ولاهل الشام الجحفة (2)، ولاهل نجد قرن (3)، ولاهل اليمن يلملم (4)، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. واختلفوا في ميقات أهل العراق وفيمن وقته، فروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لاهل المشرق العقيق. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروي أن عمر وقت لاهل العراق ذات عرق (5). وفي كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لاهل العراق ذات عرق، وهذا هو الصحيح. ومن روى أن عمر وقته لان العراق في وقته افتتحت، فغفلة منه، بل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقت لاهل الشام الجحفة. والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق وغيرها يومئذ من البلدان، ولم تفتح العراق ولا الشام إلا على عهد عمر، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل السير. قال أبو عمر: كل عراقي أو مشرقي أحرم من ذات عرق فقد أحرم عند الجميع من ميقاته، والعقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق، وذات عرق ميقاتهم أيضا بإجماع. الثالثة - أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الاحرام عند الميقات أفضل، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الاحرام إذا فعل ذلك، لانه زاد ولم ينقص. (1) ذوالحليفة (مصر حلفة): قرية خربة بينها وبين مكة مائتا ميل. (2) الجحفة (بضم الجيم وسكون المهملة): قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل، ويقرب منها القرية المعروفة برابغ - براء وموحدة وغين معجمة - فيصح الاحرام منها. (3) قرن: (بفتح فسكون): جبل مشرف على عرفات، وهو على مرحلتين من مكة. (4) يلملم (بفتح التحية واللام وسكون الميم وفتح اللام): مكان على مرحلتين من مكة. (5) ذات عرق: قرية مرحلتين من مكة. (*)
[ 368 ]
الرابعة - في هذه الاية دليل على وجوب العمرة، لانه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج. قال الصبي (1) بن معبد: أتيت عمر رضي الله عنه فقلت إني كنت نصرانيا فأسلمت، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبتين على، وإني أهللت بهما جميعا. فقال له عمر هديت لسنة نبيك. قال ابن المنذر: ولم ينكر عليه قوله: " وجدت الحج والعمرة مكتوبتين على ". وبوجوبهما قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس. وروى الدارقطني عن ابن جريج قال: أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع. قال: ولم أسمعه يقول في أهل مكة شيئا. قال ابن جريج: وأخبرت عن عكرمة أن ابن عباس قال: العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا. وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وأبو بردة ومسروق وعبد الله بن شداد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري: سمعنا أنها واجبة. وسئل زيد بن ثابت عن العمرة قبل الحج، فقال: صلاتان لا يضرك بأيهما بدأت، ذكره الدارقطني. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت). وكان مالك يقول: (العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها). وهو قول النخعي وأصحاب الرأي فيما حكى ابن المنذر. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج، وبأنها سنة ثابتة، قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله. روى الدارقطني حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا حدثنا محمد بن العلاء أبو كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والحج: أواجب هو ؟ قال: (نعم) فسأله عن العمرة: أواجبة هي ؟ قال: (لا وأن تعتمر خير لك). رواه يحيى (2) بن أيوب عن حجاج وابن جريج عن ابن المنكدر (1) الصبى (بضم الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء). (2) في نسخ الاصل: " محمد " والتصويب عن سنن الدارقطني. (*)
[ 369 ]
عن جابر موقوفا من قول جابر. فهذه حجة من لم يوجبها من السنة. قالوا: وأما الاية فلا حجة فيها للوجوب، لان الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الاتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " [ المزمل: 20 ]. وابتدأ بإيجاب الحج فقال: " ولله على الناس حج البيت " (1) [ آل عمران: 97 ] ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها لا بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الاتمام في جميعها، فإنما جاءت الاية لالزام الاتمام لا لالزام الابتداء، والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة، وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها. الخامسة - قرأ الشعبي وأبو حيوة برفع التاء في " العمرة "، وهي تدل على عدم الوجوب. وقرأ الجماعة " العمرة " بنصب التاء، وهي تدل على الوجوب. وفي مصحف ابن مسعود " وأتموا الحج والعمرة إلى البيت (2) لله " وروي عنه " وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ". وفائدة التخصيص بذكر الله هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الاسواق، وكل ذلك ليس لله فيه طاعة، ولا حظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لاداء فرضه وقضاء حقه، ثم سامح في التجارة، على ما يأتي. السادسة - لا خلاف بين العلماء فيمن شهد مناسك الحج وهو لا ينوي حجا ولا عمرة - والقلم جار له وعليه - أن شهودها بغير نية ولا قصد غير مغن عنه، وأن النية تجب فرضا، لقوله تعالى: " وأتموا " ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالاحرام عند الاحرام، لقوله عليه السلام لما ركب راحلته: (لبيك بحجة وعمرة معا) على ما يأتي. وذكر الربيع في كتاب البويطي عن الشافعي قال: ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن (1) راجع ج‍ 4 ص 142. (2) قال أبو حيان في البحر: ينبغى أن يحمل هذا كله على التفسير لانه مخالف لسواد المصحف الذى أجمع عليه المسلمون. (*)
[ 370 ]
حاجا ولا معتمرا، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الاعمال بالنيات). قال: ومن فعل مثل ما فعل على حين أهل على إهلال النبي صلى الله عليه وسلم أجزته تلك النية، لانها وقعت على نية لغيره قد تقدمت، بخلاف الصلاة. السابعة - واختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك: لا سبيل لهما إلى رفض الاحرام ولا لاحد متمسكا بقوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " ومن رفض إحرامه فلا يتم حجه ولا عمرته. وقال أبو حنيفة: جائز للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفة أن يجدد إحراما، فإن تمادى على حجه ذلك لم يجزه من حجة الاسلام. واحتج بأنه لما لم يكن الحج يجزي عنه، ولم يكن الفرض لازما له حين أحرم بالحج ثم لزمه حين بلغ استحال أن يشغل عن فرض قد تعين عليه بنافلة ويعطل فرضه، كمن دخل في نافلة وأقيمت عليه المكتوبة وخشي فوتها قطع النافلة ودخل في المكتوبة. وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرما أجزأه من حجة الاسلام، وكذلك العبد. قال: ولو عتق بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزت عنهما من حجة الاسلام، ولم يكن عليهما دم، ولو احتاطا فأهراقا (1) دما كان أحب إلي، وليس ذلك بالبين عندي. واحتج في إسقاط تجديد الاحرام بحديث علي رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من اليمن مهلا بالحج: (بم أهللت) قال قلت: لبيك اللهم بإهلال كإهلال نبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإني أهللت بالحج وسقت الهدي). قال الشافعي: ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، ولا أمره بتجديد نية لافراد أو تمتع أو قران. وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج: أجزأه من حجة الاسلام، وكذلك العبد يعتق، والصبي يبلغ إذا لم يكونوا محرمين ولا دم على واحد منهم، وإنما يلزم الدم من أراد الحج ولم يحرم من الميقات. (1) هراق الماء وأهرقه وأهراقه: صبه. وأصله: أراقه. (*)
[ 371 ]
وقال أبو حنيفة: يلزم العبد الدم. وهو كالحر عندهم في تجاوز الميقات، بخلاف الصبي والنصراني فإنهما لا يلزمهما الاحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عنهما. فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي كان حكمهما حكم المكي، ولا شئ عليهما في ترك الميقات. قوله تعالى: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى " فيه اثنتا عشرة مسألة: الاولى - قال ابن العربي: هذه آية مشكلة، عضلة من العضل. قلت: لا إشكال فيها، ونحن نبينها غاية البيان فنقول: الاحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة، ف‍ " جملة " أي بأي عذر كان، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان. واختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين: الاول: قال علقمة وعروة ابن الزبير وغيرهما: هو المرض لا العدو. وقيل: العدو خاصة، قاله ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي. قال ابن العربي: وهو اختيار علمائنا. ورأى أكثر أهل اللغة ومحصليها على أن " أحصر " عرض للمرض، و " حصر " نزل به العدو. قلت: ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا: الاحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصر حصرا فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى. وحكى أبو إسحاق الزجاج أنه كذلك عند جميع أهل اللغة، على ما يأتي. وقال أبو عبيدة والكسائي: " أحصر " بالمرض، و " حصر " بالعدو. وفي المجمل لابن فارس على العكس، فحصر بالمرض، وأحصر بالعدو. وقالت طائفة: يقال أحصر فيهما جميعا من الرباعي، حكاه أبو عمر. قلت: وهو يشبه قول مالك حيث ترجم في موطئه " أحصر " فيهما، فتأمله. وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو. قال القشيري أبو نصر: وادعت الشافعية أن الاحصار يستعمل في العدو، فأما المرض فيستعمل فيه الحصر، والصحيح أنهما يستعملان فيهما. قلت: ما ادعته الشافعية قد نص الخليل بن أحمد وغيره على خلافه. قال الخليل: حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته، وأحصر الحاج عن بلوغ المناسك من مرض أو نحوه،
[ 372 ]
هكذا قال، جعل الاول ثلاثيا من حصرت، والثاني في المرض رباعيا. وعلى هذا خرج قول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وقال ابن السكيت: أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها. وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه فأطافوا به، وحاصروه محاصرة وحصارا. قال الاخفش: حصرت الرجل فهو محصور، أي حبسته. قال: وأحصرني بولي، وأحصرني مرصي، أي جعلني أحصر نفسي. قال أبو عمرو الشيباني: حصرني الشئ وأحصرني، أي حبسني. قلت: فالاكثر من أهل اللغة على أن " حصر " في العدو، و " أحصر " في المرض، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " (1) [ البقرة: 273 ]. وقال ابن ميادة: وما هجر ليلى أن تكون تباعدت * عليك ولا أن أحصرتك شغول وقال الزجاج: الاحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حصر، يقال: حصر حصرا، وفي الاول أحصر إحصارا، فدل على ما ذكرناه. وأصل الكلمة من الحبس، ومنه الحصير للذي يحبس نفسه عن البوح بسره. والحصير: الملك لانه كالمحبوس من وراء الحجاب. والحصير الذي يجلس عليه لانضمام بعض طاقات البردي (2) إلى بعض، كحبس الشئ مع غيره. الثانية - ولما كان أصل الحصر الحبس قالت الحنفية: المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الاحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك. واحتجوا بمقتضى الاحصار مطلقا، قالوا: وذكر الامن في آخر الاية لا يدل على أنه لا يكون من المرض، قال صلى الله عليه وسلم: (الزكام أمان من الجذام)، وقال: (من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص). الشوص: وجع السن. واللوص: وجع الاذن. والعلوص: وجع البطن. أخرجه ابن ماجه في سننه. قالوا: وإنما جعلنا حبس العدل حصارا قياسا على المرض إذا كان (1) راجع ج‍ 3 ص 339. (2) البردى (بفتح الموحدة وسكون الراء): نبات يعمل منه الحصر. وبضمها وسكون الراء: ضرب من أجود التمر. (*)
[ 373 ]
في حكمه، لا بدلالة الظاهر. وقال ابن عمر وابن الزبير وابن عباس والشافعي وأهل المدينة: المراد بالاية حصر العدو، لان الاية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة. قال ابن عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه. ودل على هذا قوله تعالى: " فإذا أمنتم ". ولم يقل: برأتم، والله أعلم. الثالثة - جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه إن كان ثم هدي ويحلق رأسه. وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه، فإذا بلغ محله (1) صار حلالا. وقال أبو حنيفة: دم الاحصار لا يتوقف على يوم النحر، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله، وخالفه صاحباه فقالا: يتوقف على يوم النحر، وإن نحر قبله لم يجزه. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان. الرابعة - الاكثر من العلماء على أن من أحصر بعدو كافر أو مسلم أو سلطان حبسه في سجن أن عليه الهدى، وهو قول الشافعي، وبه قال أشهب. وكان ابن القاسم يقول: ليس على من صد عن البيت في حج أو عمرة هدى إلا أن يكون ساقه معه، وهو قول مالك. ومن حجتهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نحر يوم الحديبية هديا قد كان أشعره وقلده (2) حين أحرم بعمرة، فلما لم يبلغ ذلك الهدى محله للصد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر، لانه كان هديا وجب بالتقليد والاشعار، وخرج لله فلم يجز الرجوع فيه، ولم ينحره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الصد، فلذلك لا يجب على من صد عن البيت هدى. واحتج الجمهور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدى، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدى إن كان عنده، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به، وهو مقتضى قوله: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ". (1) محله: أي الموضع والوقت الذى يحل فيهما نحره، وهو يوم النحر بمنى. (2) إشعار الهدى: هو أن يشق أحد جنبى السنام حتى يسيل الدم، ويجعل ذلك علامة له يعرف بها أنه هدى. وتقليده: أن يجعل في عنقه شعار يعلم به أنه هدى. (*)
[ 374 ]
وقد قيل: يحل ويهدى إذا قدر عليه، والقولان للشافعي، وكذلك من لا يجد هديا يشتريه، قولان. الخامسة - قال عطاء وغيره: المحصر بمرض كالمحصر بعدو. وقال مالك والشافعي وأصحابهما: من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت وإن أقام سنين حتى يفيق. وكذلك من أخطأ العدد أو خفي عليه الهلال. قال مالك: وأهل مكة في ذلك كأهل الافاق. قال: وإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى وبقي على إحرامه لا يحل من شئ حتى يبرأ من مرضه، فإذا برئ من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجته أو عمرته. وهذا كله قول الشافعي، وذهب في ذلك إلى ما روي عن عمر وابن عباس وعائشة وابن عمر وابن الزبير أنهم قالوا في المحصر بمرض أو خطأ العدد: إنه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وكذلك من أصابه كسر أو بطن منخرق. وحكم من كانت هذه حاله عند مالك وأصحابه أن يكون بالخيار إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لمرضه، إن شاء مضى إذا أفاق إلى البيت فطاف وتحلل بعمرة، وإن شاء أقام على إحرامه إلى قابل، وإن أقام على إحرامه ولم يواقع شيئا مما نهي عنه الحاج فلا هدي عليه. ومن حجته في ذلك الاجماع من الصحابة على أن من أخطأ العدد أن هذا حكمه لا يحله إلا الطواف بالبيت. وقال في المكي إذا بقي محصورا حتى فرغ الناس من حجهم: فإنه يخرج إلى الحل فيلبي ويفعل ما يفعله المعتمر ويحل، فإذا كان قابل حج وأهدى. وقال ابن شهاب الزهري في إحصار من أحصر بمكة من أهلها: لا بد له من أن يقف بعرفة وإن نعش نعشا. واختار هذا القول أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير المالكي فقال: قول مالك في المحصر المكي أن عليه ما على الافاق من إعادة الحج والهدى خلاف ظاهر الكتاب، لقول الله عز وجل: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ". قال: والقول عندي في هذا قول الزهري في أن الاباحة من الله عز وجل لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أن يقيم لبعد المسافة يتعالج وإن فاته الحج، فأما من كان بينه وبين المسجد الحرام ما لا تقصر في مثله الصلاة فإنه يحضر المشاهد وإن
[ 375 ]
نعش نعشا لقرب المسافة بالبيت. وقال أبو حنيفة وأصحابه: كل من منع من الوصول إلى البيت بعدو أو مرض أو ذهاب تفقة أو إضلال راحلة أو لدغ هامة فإنه يقف مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو بثمن هديه، فإذا نحر فقد حل من إحرامه. كذلك قال عروة وقتادة والحسن وعطاء والنخعي ومجاهد وأهل العراق، لقوله تعالى: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى " الاية. السادسة - قال مالك وأصحابه: لا ينفع المحرم الاشتراط في الحج إذا خاف الحصر يمرض أو عدو، وهو قول الثوري وأبي حنيفة و أصحابهم. والاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني من الارض. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو ثور: لا بأس أن يشترط وله شرطه، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أردت الحج، أأشترط ؟ قال: (نعم). قالت: فكيف أقول ؟ قال: (قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الارض حيث حبستني). أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما. قال الشافعي: لو ثبت حديث ضباعة لم أعده، وكان محله حيث حبسه الله. قلت: قد صححه غير واحد، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر، قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بنت الزبير: (حجي واشترطي). وجه قال الشافعي إذ هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر. قال ابن المنذر: وبالقول الاول أقول. وذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن طاوسا وعكرمة أخبراه عن ابن عباس قال: جاءت ضباعة بنت الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة (1) وإني أريد الحج، فكيف تأمرني أن أهل ؟ قال: (أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني). قال: فأدركت (2). وهذا إسناد صحيح. (1) أي أثقلى المرض. (2) أي أدركت الحج ولم تحللى حتى فرغت منه. (*)
[ 376 ]
السابعة - واختلفت العلماء أيضا في وجوب القضاء على من أحصر، فقال مالك والشافعي: من أحصر بعدو فلا قضاء عليه لحجه ولا عمرته، إلا أن يكون ضرورة (1) لم يكن حج، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا. وقال أبو حنيفة: المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة، وهو قول الطبري. قال أصحاب الرأي: إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة، لان إحرامه بالحج صار عمرة. وإن كان قارنا قضى حجة وعمرتين. وإن كان مهلا بعمرة قضى عمرة. وسواء عندهم المحصر بمرض أو عدو، على ما تقدم. واحتجوا بحديث ميمون بن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدى، فلما انتهيت إلى أهل الشام منعوني أن أدخل الحرم، فنحرت الهدى مكاني ثم حللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لاقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدى الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. واستدلوا بقوله عليه السلام: (من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى أو عمرة أخرى). رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو الانصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى). قالوا: فاعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، قالوا: ولذلك قيل لها عمرة القضاء. واحتج مالك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشئ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي حصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه. قالوا: وعمرة القضاء وعمرة القضية سواء، وإنما قيل لها ذلك لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع عن البيت وقصده من قابل، فسميت بذلك عمرة القضية. (1) الصرورة (بالصاد المهملة): الذى لم يحج قط. ويطلق أيضا على من لم يتزوج، وأصله من الصر: ؟ ؟ (*)
[ 377 ]
الثامنة - لم يقل أحد من الفقهاء فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر غير أبي ثور على ظاهر حديث الحجاج بن عمرو، وتابعه على ذلك داود بن علي وأصحابه. وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر، ولكن اختلفوا فيما به يحل، فقال مالك وغيره: يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره. ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية وفعل ما يتحلل به، على ما تقدم من مذهبه. التاسعة - لا خلاف بين علماء الامصار أن الاحصار عام في الحج والعمرة. وقال ابن سيرين: لا إحصار في العمرة، لانها غير مؤقتة. وأجيب بأنها وإن كانت غير مؤقتة لكن في الصبر إلى زوال العذر ضرر، وفي ذلك نزلت الاية. وحكي عن ابن الزبير أن من أحصره العدو أو المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، وهذا أيضا مخالف لنص الخبر عام الحديبية. العاشرة - الحاصر لا يخلو أن يكون كافرا أو مسلما، فإن كان كافرا لم يجز قتاله ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموضعه، لقوله تعالى: " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام " كما تقدم. ولو سأل الكافر جعلا لم يجز، لان ذلك وهن في الاسلام. فإن كان مسلما لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب شيئا ويتخلى عن الطريق جاز دفعه، ولم يجز القتال لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإن الدين أسمح. وأما بذل الجعل فلما فيه من دفع أعظم الضررين بأهونهما، ولان الحج مما ينفق فيه المال، فيعد هذا من النفقة. الحادية عشرة - والعدو الحاصر لا يخلو أن يتيقن بقاؤه واستيطانه لقوته وكثرته أولا، فإن كان الاول حل المحصر مكانه من ساعته. وإن كان الثاني وهو مما يرجى زواله فهذا لا يكون محصورا حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه إن زال العدو لا يدرك فيه الحج، فيحل حينئذ عند ابن القاسم وابن الماجشون. وقال أشهب: لا يحل من حصر عن الحج بعدو حتى يوم النحر، ولا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة. وجه قول ابن القاسم: أن هذا وقت يأس من إكمال حجه لعدو غالب، فجاز له أن يحل فيه، أصل ذلك يوم عرفة. ووجه
[ 378 ]
قول أشهب أن عليه أن يأتي من حكم الاحرام بما يمكنه [ والتزامه (1) له إلى يوم النحر، الوقت الذي يجوز للحاج التحلل بما يمكنه ] الاتيان به [ فكان ذلك عليه ] (1). قوله تعالى: " فما استيسر من الهدى " " ما " في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا. و " ما استيسر " عند جمهور أهل العلم شاة. وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: " ما استيسر " جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما. وقال الحسن: أعلى الهدى بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مالك من أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاء، لقوله: " فما استيسر من الهدى " ولم يذكر قضاء. والله أعلم. الثانية عشرة - قوله تعالى: " من الهدى " الهدى والهدى لغتان. وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها. والعرب تقول: كم هدى بني فلان، أي كم إبلهم. وقال أبو بكر: سميت هديا لان منها ما يهدى إلى بيت الله، فسميت بما يلحق بعضها، كما قال تعالى: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ". (2) [ النساء: 25 ]. أراد فإن زنى الاماء فعلى الامة منهن إذا زنت نصف ما على الحرة البكر إذا زنت، فذكر الله المحصنات وهو يريد الابكار، لان الاحصان يكون في أكثرهن فسمين بأمر يوجد في بعضهن. والمحصنة من الحرائر هي ذات الزوج، يجب عليها الرجم إذا زنت، والرجم لا يتبعض، فيكون على الامة نصفه، فانكشف بهذا أن المحصنات يراد بهن الابكار لا أولات الازواج. وقال الفراء: أهل الحجاز وبنو أسد يخفون الهدى، قال: وتميم وسفلى قيس يثقلون فيقولون: هدى. قال الشاعر: حلفت برب مكة والمصلى * وأعناق الهدى مقلدات قال: وواحد الهدى هدية. ويقال في جمع الهدى: أهداء. قوله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محلة " فيه سبع مسائل: (1) الزيادة عن كتاب " المنتقى " للباجى يقتضيها السياق. (2) راجع ج‍ 5 ص 143. (*)
[ 379 ]
الاولى - قوله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محلة " الخطاب لجميع الامة: محصر ومخلى. ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، أي لا تتحللوا من الاحرام حتى ينحر الهدى. والمحل: الموضع الذي يحل فيه ذبحه. فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي: موضع الحصر، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، قال الله تعالى: " والهدى معكوفا أن يبلغ محله " (1) [ الفتح: 25 ] قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق. وعند أبي حنيفة محل الهدى في الاحصار: الحرم، لقوله تعالى: " ثم محلها إلى البيت العتيق " (2) [ الحج: 33 ]. وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الامن الذي يجد الوصول إلى البيت. فأما المحصر فخارج من قول الله تعالى: " ثم محلها إلى البيت العتيق " بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم. واحتجوا من السنة بحديث ناجية ابن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معي الهدى فأنحره بالحرم. قال: (فكيف تصنع به) قال: أخرجه في الاودية لا يقدرون عليه، فأنطلق به حتى أنحره في الحرم. وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما ينحر حيث حل، اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية، وهو الصحيح الذي رواه الائمة، ولان الهدى تابع للمهدي، والمهدي حل بموضعه، فالمهدى أيضا يحل معه. الثانية - واختلف العلماء على ما قررناه في المحصر هل له أن يحلق أو يحل بشئ من الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدى، فقال مالك: السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لاحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه، قال الله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله ". وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم، ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه. وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدى فعليه الجزاء. وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه. قالوا: وأقل ما يهديه شاة، لا عمياء ولا مقطوعة الاذنين، وليس هذا عندهم موضع صيام. قال أبو عمر: قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض، لانهم لا يجيزون لمحصر بعدو ولا مرض أن يحل (1) راجع ج‍ 16 ص 283. (2) راجع ج‍ 12 ص 57 ؟. (*)
[ 380 ]
حتى ينحر هديه في الحرم. وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدى ويواعد حامله يوما ينحره فيه فيحل ويحلق فقد أجازوا له أن يحل على غير يقين من نحر الهدى وبلوغه، وحملوه على الاحلال بالظنون. والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شئ من فرائضه أن يخرج منه بالظن، والدليل على أن ذلك ظن قولهم: لو عطب ذلك الهدى أو ضل أو سرق فحل مرسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراما وعليه جزاء ما صاد، فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم من لم يحل من إحرامه. وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب، وإنما بنوا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له. وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدى: فيه قولان: لا يحل أبدا إلا بهدى. والقول الاخر: أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه، فإن لم يقدر على شئ كان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه. قال الشافعي: ومن قال هذا قال: يحل مكانه ويذبح إذا قدر، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر. قال ويقال لا يجزيه إلا هدى. ويقال: إذا لم يجد هديا كان عليه الاطعام أو الصيام. وإن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر. وقال في العبد: لا يجزيه إلا الصوم، تقوم له الشاة دراهم ثم الدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما. الثالثة - واختلفوا إذا نحر المحصر هديه هل له أن يحلق أو لا، فقالت طائفة: ليس عليه أن يحلق رأسه، لانه قد ذهب عنه النسك. واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالاحصار جميع المناسك كالطواف والسعي - وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه - سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر. وممن احتج بهذا وقال به أبو حنيفة ومحمد بن الحسن قالا: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال أبو يوسف: يحلق المقصر، فإن لم يحلق فلا شئ عليه. وقد حكى ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق، والتقصير لا بد له منه. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين: أحدهما أن الحلاق للمحصر من النسك، وهو قول مالك. والاخر ليس من النسك كما قال أبو حنيفة. والحجة
[ 381 ]
لمالك أن الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قد منع من ذلك كله المحصر وقد صد عنه، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه. وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه، وهو قادر على أن يفعله، وما كان قادرا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه. ومما يدل على أن الحلاق باق على المحصر كما هو باق على من قد وصل إلى البيت سواء قوله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله "، وما رواه الائمة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة. وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه. الحلاق عندهم نسك على الحاج الذي قد أتم حجه، وعلى من فاته الحج، والمحصر بعدو والمحصر بمرض. الرابعة - روى الائمة واللفظ لمالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (اللهم ارحم المحلقين) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: (اللهم ارحم المحلقين) قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: (والمقصرين). قال علماؤنا: ففي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير، وهو مقتضى قوله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم " الاية، ولم يقل تقصروا. وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال، إلا شئ ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الانسان. الخامسة - لم تدخل النساء في الحلق، وأن سنتهن التقصير، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير). خرجه أبو داود عن ابن عباس. وأجمع أهل العلم على القول به. ورأت جماعة أن حلقها رأسها من المثلة، واختلفوا في قدر ما تقصر من رأسها، فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: تقصر من كل قرن مثل الانملة. وقال عطاء: قدر ثلاث أصابع مقبوضة. وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع. وفرقت حفصة بنت سيرين بين المرأة التي قعدت فتأخذ الربع، وفي الشابة أشارت بأنملتها تأخذ وتقلل. وقال مالك: تأخذ من جميع قرون رأسها، وما أخذت
[ 382 ]
من ذلك فهو يكفيها، ولا يجزي عنده أن تأخذ من بعض القرون وتبقي بعضا. قال ابن المنذر: يجزي ما وقع عليه اسم تقصير، وأحوط أن تأخذ من جميع القرون قدر أنملة. السادسة - لا يجوز لاحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، وذلك أن سنة الذبح قبل الحلاق. والاصل في ذلك قوله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله "، وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأ فنحر هديه ثم حلق بعد ذلك، فمن خالف هذا فقدم الحلاق قبل النحر فلا يخلو أن يقدمه خطأ وجهلا أو عمدا وقصدا، فإن كان الاول فلا شئ عليه، رواه ابن حبيب عن ابن القاسم، وهو المشهور من مذهب مالك. وقال ابن الماجشون: عليه الهدى، وبه قال أبو حنيفة. وإن كان الثاني فقد روى القاضي أبو الحسن أنه يجوز تقديم الحلق على النحر، وبه قال الشافعي. والظاهر من المذهب المنع، والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: (لا حرج) رواه مسلم. وخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يحلق، أو حلق قبل أن يذبح فقال: (لا حرج). السابعة - لا خلاف أن حلق الرأس في الحج نسك مندوب إليه وفي غير الحج جائز، خلافا لمن قال: إنه مثلة، ولو كان مثلة ما جاز في الحج ولا غيره، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة، وقد حلق رءوس بني جعفر بعد أن أتاه قتله بثلاثة أيام، ولو لم يجز الحلق ما حلقهم. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحلق رأسه. قال ابن عبد البر: وقد أجمع العلماء على حبس الشعر وعلى إباحة الحلق. وكفى بهذا حجة، وبالله التوفيق. قوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا " استدل بعض علماء الشافعية بهذه الاية على أن المحصر في أول الاية العدو لا المرض، وهذا لا يلزم، فإن معنى قوله: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه " فحلق " ففدية " أي فعليه فدية، وإذا كان هذا واردا في المرض
[ 383 ]
بلا خلاف كان الظاهر أن أول الاية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها، لاتساق الكلام بعضه على بعض، وانتظام بعضه ببعض، ورجوع الاضمار في آخر الاية إلى من خوطب في أولها، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه. ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الاية، روى الائمة واللفظ للدارقطني: " عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال: (أيؤذيك هوامك) قال نعم. فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا (1) بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام). خرجه البخاري بهذا اللفظ أيضا. فقوله: " ولم يبين لهم أنهم يحلون بها " يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم، فإذا الموجب للفدية الحلق للاذى والمرض، والله أعلم. الثانية - قال الاوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه: إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق. قلت: فعلى هذا يكون المعنى " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " إن أراد أن يحلق، ومن قدر فحلق ففدية، فلا يفتدي حتى يحلق. والله أعلم. الثالثة - قال ابن عبد البر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. وأما الصوم والاطعام فاختلفوا فيه، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة. وجاء عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الاذى عشرة أيام، والاطعام عشرة مساكين، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الامصار ولا أئمة الحديث. وقد جاء من رواية أبي الزبير عن (1) الفرق (بالتحريك): مكيال يسع سنة عشر رطلا، وهى اثنا عشر مدا، أو ثلاثة عند أهل الحجازه وقيل: خمسة أقساط: والقسط: نصف صاع. والفرق (بالسكون): مائة وعشرون رطلا. عن نهاية ابن الاثير. (*)
[ 384 ]
مجاهد عن عبد الرحمن عن كعب بن عجرة أنه حدثه أنه كان أهل في ذي القعدة، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له، فقال له: (كأنك يؤذيك هوام رأسك). فقال أجل. قال: (أحلق واهد هديا). فقال: ما أجد هديا. قال: (فأطعم ستة مساكين). فقال: ما أجد. قال: (صم ثلاثة أيام). قال أبو عمر: كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا، وعامة الاثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه مضى عمل العلماء في كل الامصار وفتواهم، وبالله التوفيق. الرابعة - اختلف العلماء في الاطعام في فدية الاذى، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الاطعام في ذلك مدان بمد (1) النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي ثور وداود. وروي عن الثوري أنه قال في الفدية: من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير والزبيب صاع. وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر. قال ابن المنذر: وهذا غلط، لان في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين). وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي، ومرة قال: إن أطعم برا فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمرا فنصف صاع. الخامسة - ولا يجزى أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الاذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم. السادسة - أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن. وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة، واختلفوا فيما على من فعل ذلك، أو لبس أو تطيب بغير عذر عامدا، فقال مالك: بئس ما فعل ! وعليه الفدية، وهو مخير فيها، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ، لضرورة وغير ضرورة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور: (1) في ب، ز: " مدان مدان بمد... ". (*)
[ 385 ]
ليس بمخير إلا في الضرورة لان الله تعالى قال: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه " فإذا حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير. السابعة - واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا، فقال مالك رحمه الله: العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما - لا فدية عليه، وهو قول داود وإسحاق. والثاني - عليه الفدية. وأكثر العلماء يوجبون الفدية على المحرم بلبس المخيط وتغطية الرأس أو بعضه، ولبس الخفين وتقليم الاظافر ومس الطيب وإماطة الاذى، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى، أو حلق مواضع المحاجم. والمرأة كالرجل في ذلك، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب. وللرجل أن يكتحل بما لا طيب فيه. وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شئ من ذلك. وقال داود: لا شئ عليهما في حلق شعر الجسد. الثامنة - واختلف العلماء في موضع الفدية المذكورة، فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي. وعن الحسن أن الدم بمكة. وقال طاوس والشافعي: الاطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، لان الصيام لا منفعة فيه لاهل الحرم، وقد قال الله سبحانه " هديا بالغ الكعبة " (1) [ المائدة: 95 ] رفقا لمساكين جيران بيته، فالاطعام فيه منفعة بخلاف الصيام، والله أعلم. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد. والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدى لنص القرآن والسنة، والنسك يكون حيث شاء، والهدى لا يكون إلا بمكة. ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه، وفيه: فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين (2) - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا (3) فنحر عنه بعيرا. قال مالك قال يحيى بن سعيد: وكان حسين خرج مع عثمان في سفره [ ذلك (4) ] إلى مكة. ففي هذا (1) راجع ج‍ 6 ص 314. (2) هو حسين بن على. (3) السقيا: منزل بين مكة والمدينة، قيل هي على يومين من المدينة. (4) زيادة عن الموطأ. (*)
[ 386 ]
أوضح دليل على أن فدية الاذى جائز أن تكون بغير مكة، وجائز عند مالك في الهدى إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم، لان البغية في إطعام مساكين المسلمين. قال مالك: ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم، ثم إن قوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا " الاية، أوضح الدلالة على ما قلناه، فإنه تعالى لما قال: " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " لم يقل في موضع دون موضع، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه. وقال: " أو نسك " فسقى ما يذبح نسكا، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدى، ولا أن نعتبره بالهدى مع ما جاء في ذلك عن علي. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم، وقد روي عن الشافعي مثل هذا في وجه بعيد. التاسعة - قوله تعالى: " أو نسك " النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك: العبادة في الاصل، ومنه قوله تعالى: " وأرنا مناسكنا " (1) [ البقرة: 128 ] أي متعبداتنا. وقيل: إن أصل النسك في اللغة الغسل، ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الاثام وسبكها. قوله تعالى: " فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى " فيه ثلاث عشرة مسألة: الا اولى - قوله تعالى: " فإذا أمنتم " قيل: معناه برأتم من المرض. وقيل: من خوفكم من العدو المحصر، قاله ابن عباس وقتادة. وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الامن منه، كما تقدم، والله أعلم. الثانية - قوله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " الاية. اختلف العلماء من المخاطب بهذا ؟ فقال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم: الاية في المحصرين دون المخلى سبيلهم. وصورة المتمتع عند ابن الزبير: أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت (1) راجع ص 127 من هذا الجزء. (*)
[ 387 ]
فيحل بعمرة، ثم يقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء. وصورة المتمتع المحصر عند غيره: أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه. وقال ابن عباس وجماعة: الاية في المحصرين وغيرهم ممن خلى سبيله. الثانية - لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله، وأن الافراد جائز، وأن القرآن جائز، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهم، صلى الله عليه وسلم. وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الافضل من ذلك، لاختلاف الاثار الواردة في ذلك، فقال قائلون منهم مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا، والافراد أفضل من القران. قال: والقران أفضل من التمتع. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) قالت عائشة: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة، رواه جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وقال بعضهم فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأما أنا فأهل بالحج) وهذا نص في موضع الخلاف، وهو حجة من قال بالافراد وفضله. وحكى محمد بن الحسن عن مالك أنه قال: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الاخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به. واستحب أبو ثور الافراد أيضا وفضله على التمتع والقران، وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه. واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج، قالوا: وذلك أفضل. وهو مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو أحد قولي الشافعي. قال الدارقطني قال الشافعي: اخترت الافراد، والتمتع حسن لا نكرهه. احتج من فضل التمتع بما رواه مسلم عن عمران بن حصين
[ 388 ]
قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ [ آية (1) ] متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه بعد ما شاء. وروى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك ابن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك ابن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يابن أخي ! فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه، هذا حديث صحيح. وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: حسن جميل. قال: فإن أباك كان ينهى عنها. فقال: ويلك ! فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ؟ قم عني. أخرجه الدارقطني، وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم. وروي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية. حديث حسن. قال أبو عمر: حديث ليث هذا حديث منكر، وهو ليث ابن أبي سليم ضعيف. والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها فسخ الحج في العمرة. فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا. وزعم من صحح نهي عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام حتى تكثر عمارته بكثرة الزوار له في غير الموسم، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس تحقيقا لدعوة إبراهيم: " فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " (2) [ إبراهيم: 37 ]. وقال آخرون: إنما نهى عنها لانه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته، فخشي أن يضيع (1) زيادة عن صحيح مسلم. (2) راجع ج‍ 9 ص 373. (*)
[ 389 ]
الافراد والقران وهما سنتان للنبي صلى الله عليه وسلم. واحتج أحمد في اختياره التمتع بقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى ولجعلتها عمرة). أخرجه الائمة. وقال آخرون: القران أفضل، منهم أبو حنيفة والثوري، وبه قال المزني قال: لانه يكون مؤديا للفرضين جميعا، وهو قول إسحاق. قال إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا، وهو قول علي بن أبي طالب. واحتج من استحب القران وفضله بما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق (1) يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة). وروى الترمذي عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك بعمرة وحجة). وقال: حديث حسن صحيح. قال أبو عمر: والافراد إن شاء الله أفضل، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفردا، فلذلك قلنا إنه أفضل، لان الاثار أصح عنه في إفراده صلى الله عليه وسلم، ولان الافراد أكثر عملا ثم العمرة عمل آخر. وذلك كله طاعة والاكثر منها أفضل. وقال أبو جعفر النحاس: المفرد أكثر تعبا من المتمتع، لاقامته على الاحرام وذلك أعظم لثوابه. والوجه في اتفاق الاحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالتمتع والقران جاز أن يقال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرن، كما قال جل وعز: " ونادى فرعون في قومه " (2) [ الزخرف: 51 ]. وقال عمر بن الخطاب: رجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر بالرجم. قلت: الاظهر في حجته عليه السلام القران، وأنه كان قارنا، لحديث عمر وأنس المذكورين. وفي صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة معا) (3). قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبيانا ! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك عمرة وحجا). وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة (1) العقيق: موضع بينه وبين المدينة أربعة أميال. (2) راجع ج‍ 16 ص 98. (3) عبارة مسلم: " جميعا ". (*)
[ 390 ]
وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدى من أصحابه، وحل بقيتهم. قال بعض أهل العلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا، وإذا كان قارنا فقد حج واعتمر، واتفقت الاحاديث. وقال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة، فقال من رآه: تمتع ثم أهل بحجة. فقال من رآه: أفرد ثم قال: (لبيك بحجة وعمرة). فقال من سمعه: قرن. فاتفقت الاحاديث. والدليل على هذا أنه لم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفردت الحج ولا تمتعت. وصح عنه أنه قال: (قرنت) كما رواه النسائي عن علي أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: (كيف صنعت) قلت: أهللت بإهلالك. قال (فإني سقت الهدى وقرنت). قال وقال صلى الله عليه وسلم لاصحابه: (لو استقبلت من أمري كما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكني سقت الهدى وقرنت). وثبت عن حفصة قالت قلت: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرنهم ولم تحلل أنت ؟ قال: (إني لبدت رأسي وسقت هديى فلا أحل حتى أنحر). وهذا يبين أنه كان قارنا، لانه لو كان متمتعا أو مفردا لم يمتنع من نحر الهدى. قلت: ما ذكره النحاس أنه لم يرو أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفردت الحج) فقد تقدم من رواية عائشة أنه قال: (وأما أنا فأهل بالحج). وهذا معناه: فأنا أفرد الحج، إلا أنه يحتمل أن يكون قد أحرم بالعمرة، ثم قال: فأنا أهل بالحج. ومما يبين هذا ما رواه مسلم عن ابن عمر، وفيه: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، فلم يبق في قوله: (فأنا أهل بالحج) دليل على الافراد. وبقي قوله عليه السلام: (فإني قرنت). وقول أنس خادمه أنه سمعه يقول: (لبيك بحجة وعمرة معا) نص صريح في القران لا يحتمل التأويل. وروى الدارقطني عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لانه علم أنه ليس بحاج بعدها. الرابعة - وإذا مضى القول في الافراد والتمتع والقران وأن كل ذلك جائز بإجماع فالتمتع بالعمرة إلى الحج عند العلماء على أربعة أوجه، منها وجه واحد مجتمع عليه، والثلاثة مختلف
[ 391 ]
فيها. فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله عزوجل: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى " وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج - على ما يأتي بيانها - وأن يكون من أهل الافاق، وقدم مكة ففرغ منها ثم أقام حلالا (1) بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع، وذلك ما استيسر من الهدى، يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى بلده - على ما يأتي - وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين. واختلف في صيام أيام التشريق على ما يأتي. فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة، ورابطها ثمانية شروط: الاول - أن يجمع بين الحج والعمرة. الثاني - في سفر واحد. الثالث - في عام واحد. الرابع - في أشهر الحج. الخامس - تقديم العمرة. السادس - ألا يمزجها، بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة. السابع: أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد. الثامن - أن يكون من غير أهل مكة. وتأمل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها. والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج: القران، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها، يقول: لبيك بحجة وعمرة معا، فإذا قدم مكة طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا، عند من رأى ذلك، وهم مالك والشافعي وأصحابهما وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، لحديث. وفيه: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا. أخرجه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة يوم النفر (2) ولم تكن طافت بالبيت وحاضت: (يسعك طوافك لحجك وعمرتك) في رواية: (1) الحلال: الخارج من الاحرام. (2) يوم النفر (بفتح النون وتسكين الفاء وفتحها): اليوم الذى ينفر (ينزل) الناس فيه من منى. (*)
[ 392 ]
(يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك). أخرجه مسلم - أو طاف طوافين وسعى سعيين، عند من رأى ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري والاوزاعي والحسن ابن صالح وابن أبي ليلى، وروي عن علي وابن مسعود، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد. واحتجوا بأحاديث عن علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. أخرجهما الدارقطني في سننه وضعفها كلها، وإنما جعل القران من باب التمتع، لان القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة، مرة وإلى الحج أخرى، ويتمتع بجمعهما، ولم يحرم لكل واحدة من ميقاته، وضم الحج إلى العمرة، فدخل تحت قول الله عز وجل: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى ". وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه. وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدى، وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها. ومما يدل على أن القران تمتع قول ابن عمر: إنما جعل القران لاهل الافاق، وتلا قول الله عز وجل: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع. قال مالك: وما سمعت أن مكيا قرن، فإن فعل لم يكن عليه هدى ولا صيام، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك. وقال عبد الملك بن الماجشون: إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع. والوجه الثالث من التمتع: هو الذي توعد عليه عمر بن الخطاب وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. وقد تنازع العلماء في جواز هذا بعد هلم (1) جرا، وذلك أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية (2). فهذا هو الوجه الذي (1) كذا في الاصل. وفى المنتقى للباجى بحث طويل في هذه المسألة، فارجع إليه. (2) يوم التروية: يوم قبل يوم عرفة، وهو الثامن من ذى الحجة، سمى به لان الحجاج يرتوون فيه من الماء، (*)
[ 393 ]
تواردت به الاثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه هدى ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة. وقد أجمع العلماء على تصحيح الاثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولم يدفعوا شيئا منها، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل فجمهورهم على ترك العمل بها، لانها عندهم خصوص خص بها رسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجته تلك. قال أبو ذر: (كانت المتعة لنا في الحج خاصة. أخرجه مسلم. وفي رواية عنه أنه قال: (لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء ومتعة الحج). والعلة في الخصوصية ووجه الفائدة فيها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه قال: (كانوا (1) يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الارض ويجعلون (2) المحرم صفرا ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الاثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة (3) مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل (4) ؟ قال: (الحل كله). أخرجه مسلم. وفي المسند الصحيح لابي حاتم عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحى من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الوبر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر. فقد كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة، فما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلا لينقض ذلك من قولهم. ففي هذا دليل علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها. وكان ذلك له ولمن معه خاصة، لان الله عز وجل قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من (1) الضمير في " كانوا " يعود إلى الجاهلية. (2) قوله: " ويجعلون المحرم صفرا ". المراد الاخبار عن النسئ الذى كانوا يفعلونه وكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه، وينسئون المحرم، أي يؤخرون تحريمه إلى ما بعد صفر لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها والدبر: الجرح الذى يحصل في ظهر الابل من اصطكاك الاقتاب، فإنها كانت تدبر بالسير عليها للحج. وعفا الاثر: أي درس وامحى، والمراد أثر الابل وغيرهما في سيرها، عفا أثرها لطول مرور الايام. وقال الخطابى: المراد أثر الدبر. وهذه الالفاظ تقرأ كلها ساكنة الاخر ويوقف عليها، لان مرادهم السجع. عن شرح النووي لصحيح مسلم. (3) أي صبح رابعة من ذى الحجة. (4) قوله: " أي الحل " أي هل هو الحل العام لكل ما حرم بالاحرام حتى بالجماع، أو حل خاص. (*)
[ 394 ]
دخل فيها أمرا مطلقا، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة. واحتجوا بما ذكرناه عن أبي ذر وبحديث الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال: (بل لنا خاصة). وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز والعراق والشام، إلا شئ يروى عن ابن عباس والحسن والسدي، وبه قال أحمد بن حنبل. قال أحمد: لا أرد تلك الاثار الواردة المتواترة الصحاح في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر. قال: ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر، ولو أجمعوا كان حجة، قال: وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا. واحتج أحمد بالحديث الصحيح، حديث جابر الطويل في الحج، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لابد ؟ فشك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الاخرى وقال: (دخلت العمرة في الحج - مرتين (1) - لا بل لا بد أبد) لفظ مسلم. وإلى هذا والله أعلم مال البخاري حيث ترجم " باب من لبى بالحج وسماه " وساق حديث جابر بن عبد الله: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة. وقال قوم: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاحلال كان على وجه آخر. وذكر مجاهد ذلك الوجه، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به، وكذلك أهل على باليمن. وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله عليه السلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى وجعلتها عمرة) فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ويأمر أصحابه بذلك، ويدل على ذلك قوله عليه السلام: (أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة في عمرة). (1) قوله: مرتين. أي قاله مرتين. (*)
[ 395 ]
والوجه الرابع من المتعة: متعة المحصر ومن صد عن البيت، ذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبد الله ابن الزبير وهو يخطب يقول: أيها الناس، إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، ولكن التمتع أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي. وقد مضى القول في حكم المحصر وما للعلماء في ذلك مبينا، والحمد لله. فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدى يوم النحر، ثم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة. والذي ذكره ابن الزبير خلاف عموم قوله تعالى: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى " بعد قوله: " وأتموا الحج والعمرة لله " ولم يفصل في حكم الاحصار بين الحج والعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلوا وحل، وأمرهم بالاحلال. واختلف العلماء أيضا لم سمي المتمتع متمتعا، فقال ابن القاسم: لانه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج. وقال غيره: سمي متمتعا لانه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر، وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا، كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، والوجه الاول أعم، فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله، وسقط عنه السفر لحجه من بلده، وسقط عنه الاحرام من ميقاته في الحج. وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر وابن مسعود، وقالا أو قال أحدهما: يأتي أحدكم مني وذكره يقطر منيا، وقد أجمع المسلمون على جواز هذا. وقد قال جماعة من العلماء: إنما كرهه عمر لانه أحب أن يزار البيت في العام مرتين: مرة في الحج، ومرة في العمرة. ورأى الافراد أفضل، فكان يأمر به ويميل إليه
[ 396 ]
وينهى عن غيره استحبابا، ولذلك قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم، فإنه أتم لحج أحدكم و [ أتم ] (1) لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج. الخامسة - اختلف العلماء فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه، فقال الجمهور من العلماء: ليس بمتمتع، ولا هدى عليه ولا صيام. وقال الحسن البصري: هو متمتع وإن رجع إلى أهله، حج أو لم يحج. قال لانه كان يقال: عمرة في أشهر الحج متعة، رواه هشيم عن يونس عن الحسن. وقد روي عن يونس عن الحسن: ليس عليه هدى. والصحيح القول الاول، هكذا ذكر أبو عمر " حج أو لم يحج " ولم يذكره ابن المنذر. قال ابن المنذر: وحجته ظاهر الكتاب قوله عزوجل: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج " ولم يستثن: راجعا إلى أهله وغير راجع، ولو كان لله جل ثناؤه في ذلك مراد لبينه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن سعيد بن المسيب مثل قول الحسن. قال أبو عمر: وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم. وذلك أنه قال: من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة. وقد روي عن طاوس قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن، أحدهما: أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى دخل وقت الحج، ثم حج من عامه أنه متمتع. هذا لم يقل به أحد من العلماء غيره، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الامصار. وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة، لان العمرة جائزة في السنة كلها، والحج إنما موضعه شهور معلومة، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به، إلا أن الله تعالى قد رخص في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها، رحمة منه، وجعل فيه ما استيسر من الهدى. والوجه الاخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الامصار فعليه الهدى، وهذا لم يعرج عليه، لظاهر قوله تعالى: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " والتمتع الجائز عند جماعة العلماء ما أوضحناه بالشرائط التي ذكرناها، وبالله توفيقنا. (1) الزيادة عن الموطأ. (*)
[ 397 ]
السادسة - أجمع العلماء على أن رجلا من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الاقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه فحج أنه متمتع، عليه ما على المتمتع. وأجمعوا في المكي يجئ من وراء الميقات محرما بعمرة، ثم ينشئ الحج من مكة وأهله بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له فيها أهل وفي غيرها. وأجمعوا على أنه إن انتقل من مكة بأهله ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع. السابعة - واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وعليه بعد أيضا طواف آخر لحجه وسعي بين الصفا والمروة. وروي عن عطاء وطاوس أنه يكفيه سعى واحد بين الصفا والمروة، والاول المشهور، وهو الذي عليه الجمهور، وأما طواف القارن فقد تقدم. الثامنة - واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عمل لها في أشهر الحج، فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه، يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه. وقال الشافعي: إذا طاف بالبيت في الاشهر الحرم للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت، وإنما ينظر إلى كمالها، وهو قول الحسن البصري والحكم بن عيينة وابن شبرمة وسفيان الثوري. وقال قتادة وأحمد وإسحاق: عمرته للشهر الذي أهل فيه، وروي معنى ذلك عن جابر ابن عبد الله. وقال طاوس: عمرته للشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال أصحاب الرأي: إن طاف لها ثلاثة أشواط في رمضان، وأربعة أشواط في شوال فحج من عامه أنه متمتع. وإن طاف في رمضان أربعة أشواط، وفي شوال ثلاثة أشواط لم يكن متمتعا. وقال أبو ثور: إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء أطاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا. وهو معنى قول احمد وإسحاق: عمرته للشهر الذى أهل فيه.
[ 398 ]
التاسعة - أجمع أهل العلم على أن لمن أهل بعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، ويكون قارنا بذلك، يلزمه ما يلزم القارن الذي أنشأ الحج والعمرة معا. واختلقوا في إدخال الحج على العمرة بعد أن افتتح الطواف، فقال مالك: يلزمه ذلك ويصير قارنا ما لم يتم طوافه، وروي مثله عن أبي حنيفة، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الاخذ في الطواف، وقد قيل: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يركع ركعتي الطواف. وكل ذلك قول مالك وأصحابه. فإذا طاف المعتمر شوطا واحد لعمرته ثم أحرم بالحج صار قارنا، وسقط عنه باقي عمرته ولزمه دم القران. وكذلك من أحرم بالحج في أضعاف طوافه أو بعد فراغه منه قبل ركوعه. وقال بعضهم: له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة. قال أبو عمر: وهذا كله شذوذ عند أهل العلم. وقال أشهب: إذا طاف لعمرته شوطا واحدا لم يلزمه الاحرام به ولم يكن قارنا، ومضى على عمرته حتى يتمها ثم يحرم بالحج، وهذا قول الشافعي وعطاء، وبه قال أبو ثور. العاشرة - واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال مالك وأبو ثور وإسحاق: لا تدخل العمرة على الحج، ومن أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشئ، قاله مالك، وهو أحد قولي الشافعي، وهو المشهور عنه بمصر. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في القديم: يصير قارنا، ويكون عليه ما على القارن ما لم يطف بحجته شوطا واحدا، فإن طاف لم يلزمه، لانه قد عمل في الحج. قال ابن المنذر: وبقول مالك أقول في هذه المسألة. الحادية عشرة: قال مالك: من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجزه ذلك، وعليه هدى آخر لمتعته، لانه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته، وحينئذ يجب عليه الهدى. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق: لا ينحر هديه إلا يوم النحر. وقال أحمد: إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر، وقاله عطاء. وقال الشافعي: يحل من عمرته إذا طاف وسعى، ساق هديا أو لم يسقه.
[ 399 ]
الثانية عشرة - واختلف مالك والشافعي في المتمتع يموت، فقال الشافعي: إذا أحرم بالحج وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك، حكاه الزعفراني عنه. وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها، أترى عليه هديا ؟ قال: من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدى. قيل له: من رأس المال أو من الثلث ؟ قال: بل من وأس المال. الثالثة عشرة - قوله تعالى: " فمن استيسر من الهدى " قد تقدم الكلام فيه. قوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ". فيه عشر مسائل: الاولى قوله تعالى: " فمن لم يجد " يعني الهدى، إما لعدم المال أو لعدم الحيوان، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده. والثلاثة الايام في الحج آخرها يوم عرفة، هذا قول طاوس، وروي عن الشعبي وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وعمرو بن دينار وأصحاب الرأي، حكاه ابن المنذر. وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة يصومها في إحرامه بالعمرة، لانه أحد إحرامي التمتع، فجاز صوم الايام فيه كإحرامه بالحج. وقال أبو حنيفة أيضا وأصحابه: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية ويوم عرفة. وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج إلى يوم النحر، لان الله تعالى قال: " فصيام ثلاثة أيام في الحج " فإذا صامها في العمرة فقد أتاه قبل وقته فلم يجزه. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: يصومهن ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر وعائشة، وروي هذا عن مالك، وهو مقتضى قوله في موطئه، ليكون يوم عرفة مفطرا، فذلك أتبع للسنة، وأقوى على العبادة، وسيأتي. وعن أحمد أيضا: جائز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم. وقال الثوري والاوزاعي: يصومهن من أول أيام العشر، وبه قال عطاء. وقال عروة: يصومها ما دام بمكة في أيام منى، وقاله أيضا مالك وجماعة من أهل المدينة.
[ 400 ]
وأيام منى هي أيام التشريق الثلاثة التي تلى يوم النحر. روى مالك في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: " الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى ". وهذا اللفظ يقتضي صحة الصوم من وقت يحرم بالحج المتمتع إلى يوم عرفة، وأن ذلك مبدأ، إما لانه وقت الاداء وما بعد ذلك من ذلك من أيام منى وقت القضاء، على ما يقوله أصحاب الشافعي، وإما لان في تقديم الصيام قبل يوم النحر إبراء للذمة، وذلك مأمور به. والاظهر من المذهب أنها على وجه الاداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل، كوقت الصلاة الذي فيه سعة للاداء وإن كان أوله أفضل من آخره. وهذا هو الصحيح وأنها أداء لا قضاء، فإن قوله: " أيام في الحج " يحتمل أن يريد موضع الحج، ويحتمل أن يريد أيام الحج، فإن كان المراد أيام الحج فهذا القول صحيح، لان آخر أيام الحج يوم النحر، ويحتمل أن يكون آخر أيام الحج أيام الرمي، لان الرمي عمل من عمل الحج خالصا وإن لم يكن من أركانه. وإن كان المراد موضع الحج صامه ما دام بمكة في أيام منى، كما قال عروة، ويقوى جدا. وقد قال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى أيام التشريق، لانه لا يجب عليه الصيام إلا بألا يجد الهدى يوم النحر. فإن قيل وهي: الثانية - فقد ذهب جماعة من أهل المدينة والشافعي في الجديد وعليه أكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز صوم أيام التشريق لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام منى، قيل له: إن ثبت النهي فهو عام يخصص منه المتمتع بما ثبت في البخاري أن عائشة كانت تصومها. وعن ابن عمر وعائشة قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى. وقال الدارقطني: إسناده صحيح، ورواه مرفوعا عن ابن عمر وعائشة من طرق ثلاثة ضعفها. وإنما رخص في صومها لانه لم يبق من أيامه إلا بمقدارها، وبذلك يتحقق وجوب الصوم لعدم الهدى. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا فاته الصوم صام بعد أيام التشريق، وقاله الحسن وعطاء. قال ابن المنذر: وكذلك نقول.
[ 401 ]
وقالت طائفة: إذا فاته الصوم في العشر لم يجزه إلا الهدى. روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وحكاه أبو عمر عن أبي حنيفة وأصحابه عنه، فتأمله. الثالثة - أجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدى، واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدى فصام ثم وجد الهدى قبل إكمال صومه، فذكر ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحب إلي أن يهدي، فإن لم يفعل أجزاه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور، وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدى، وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الايام لا يرجع إلى الهدى، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد. الرابعة - قوله تعالى: " وسبعة " قراءة الجمهور بالخفض على العطف. وقرأ زيد ابن علي " وسبعة " بالنصب، على معنى: وصوموا سبعة. الخامسة - قوله تعالى: " إذا رجعتم " يعنى إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقال مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان. وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن. والتقدير عند بعض أهل اللغة: إذا رجعتم من الحج، أي إذا رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الاحرام من الحل. وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم وقال ابن العربي: " إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرخص وترك (1) الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الاغلب (2). " (1) كذا في أحكام القرآن لابن العربي. وفى نسخ الاصل: " بدل ". (2) عبارة ابن العربي: "... ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وإنما المراد في الاغلب والاظهر فيه أنه الحج ". (*)
[ 402 ]
قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص، يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى (1) فساق الهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: (من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الايام إلا في أهله وبلده، والله أعلم. وكذا قال البخاري في حديث ابن عباس: (ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى، كما قال الله تعالى: " فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم (2) " [ البقرة 196 ] الحديث، وسيأتي. قال النحاس: وكان هذا إجماعا. السادسة - قوله تعالى: " تلك عشرة كاملة " يقال: كمل يكمل، مثل نصر ينصر. وكمل يكمل، مثل عظم يعظم. وكمل يكمل، مثل حمد يحمد، ثلاث لغات. واختلفوا في معنى قوله: " تلك عشرة " وقد علم أنها عشرة، فقال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع بدلا منها، لانه لم يقل وسبعة أخرى - أزيل ذلك بالجملة من قوله " تلك عشرة " ثم قال: " كاملة ". وقال الحسن: " كاملة " في الثواب كمن أهدى. وقيل: " كاملة " في البدل عن الهدى، يعني العشرة كلها بدل عن الهدى. وقيل: " كاملة " في الثواب كمن لم يتمتع. وقيل: لفظها لفظ الاخبار ومعناها الامر، أي أكملوها فذلك فرضها. وقال المبرد: " عشرة " دلالة على انقضاء العدد، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي (1) في الاصول: " من أهل ". (2) قوله " إلى أمصاركم ": تفسير من ابن عباس للرجوع. (*)
[ 403 ]
منه شئ بعد ذكر السبعة. وقيل: هو توكيد، كما تقول: كتبت بيدي. ومنه قول الشاعر: ثلاث واثنتان فهن خمس * وسادسة تميل إلى شمامي فقوله " خمس " تأكيد. ومثله قول الاخر: ثلاث بالغداة فذاك حسبى * وست حين يدركني العشاء فذلك تسعة في اليوم ريي * وشرب المرء فوق الري داء وقوله " كاملة " تأكيد آخر، فيه زيادة توصية بصيامها وألا ينقص من عددها، كما تقول لمن تأمره بأمر ذي بال: الله الله لا تقصر. السابعة - قوله تعالى: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام " أي إنما يجب دم التمتع عن الغريب الذي ليس من حاضري المسجد الحرام. خرج البخاري " عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والانصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى) طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: (من قلد الهدى فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدى محله) ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدى، كما قال الله تعالى: " فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم " إلى أمصاركم، الشاة تجزي، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله عز وجل: " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " وأشهر الحج التي ذكر الله عز وجل شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الاشهر فعليه دم أو صوم. والرفث: الجماع والفسوق: المعاصي. والجدال: المراء.
[ 404 ]
الثامنة - اللام في قوله " لمن " بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: (اشترطي لهم الولاء). وقوله تعالى: " وإن أسأتم فلها " (1) [ الاسراء: 7 ] أي فعليها. وذلك إشارة إلى التمتع والقران للغريب عند أبي حنيفة وأصحابه، لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم. ومن فعل ذلك كان عليه دم جناية لا يأكل منه، لانه ليس بدم تمتع. وقال الشافعي: لهم دم تمتع (2) وقران. والاشارة ترجع إلى الهدى والصيام، فلا هدى ولا صيام عليهم. وفرق عبد الملك بن الماجشون بين التمتع والقران، فأوجب الدم في القران وأسقطه في التمتع، على ما تقدم عنه. التاسعة - واختلف الناس في حاضري المسجد الحرام - بعد الاجماع على أن أهل مكة وما اتصل بها من حاضريه. وقال الطبري: بعد الاجماع على أهل الحرم. قال ابن عطية: وليس كما قال - فقال بعض العلماء: من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة. وقال مالك وأصحابه هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة. وعند أبي حنيفة وأصحابه: هم أهل المواقيت ومن وراءها من كل ناحية، فمن كان من أهل المواقيت أو من أهل ما وراءها فهم من حاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي وأصحابه: هم من لا يلزمه تقصير الصلاة من موضعه إلى مكة، وذلك أقرب المواقيت. وعلى هذه الاقوال مذاهب السلف في تأويل الاية. العاشرة - قوله تعالى: " واتقوا الله " أي فيما فرضه عليكم. وقيل: هو أمر بالتقوى على العموم، وتحذير من شدة عقابه. قوله تعالى: الحج أشهر معلومت فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يأولى الالبب (197) (1) راجع ج‍ 10 ص 217. (2) لفظة " دم " ساقطة من ب، ج‍، ز. (*)
[ 405 ]
فيه أربع عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: " الحج أشهر معلومات " لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: " وأتموا الحج والعمرة " [ البقرة: 196 ] بين اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للاحرام بالعمرة، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الاشهر. و " الحج أشهر معلومات " ابتداء وخبر، وفي الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو وقت الحج أشهر، أو وقت عمل الحج أشهر. وقيل التقدير: الحج في أشهر. ويلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الاشهر، ولم يقرأ أحد بنصبها، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف. قال الفراء: الاشهر رفع، لان معناه وقت الحج أشهر معلومات. قال الفراء: وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيف شهران، وإنما الطيلسان (1) ثلاثة أشهر. أراد وقت الصيف، ووقت لباس الطيلسان، فحذف. الثانية - واختلف في الاشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو العقدة وذو الحجة كله. وقال ابن عباس والسدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة، وروي عن ابن مسعود، وقاله ابن الزبير، والقولان مرويان عن مالك، حكى الاخير ابن حبيب، والاول ابن المنذر. وفائدة الفرق تعلق الدم، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يردما فيما يقع من الاعمال بعد يوم النحر، لانها في أشهر الحج. وعلى القول الاخير ينقضي الحج بيوم النحر، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته. الثالثة - لم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه، لانها كانت معلومة عندهم. ولفظ الاشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لان بعض الشهر يتنزل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان. ولعله إنما رآه في ساعة منها، فالوقت يذكر بعضه بكله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيام منى ثلاثة). وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: رأيتك اليوم، وجئتك العام. وقيل: لما كان الاثنان وما فوقهما جمع (2) قال أشهر، والله أعلم. (1) الطيلسان: كساء مدور أخضر، لحمته أو سداه من صوف يلبسه الخواص من العلماء والمشايخ، وهو من لباس العجم. (2) كذا في نسخ الاصل. ووجهه: أن اسم كان ضمير الشان، وجملة " الاثنان وما... " الخ في محل نصب خبر كان. (*)
[ 406 ]
الرابعة - اختلف في الاهلال بالحج غير أشهر الحج، فروي عن ابن عباس: من سنة الحج أن يحرم به في أشهر الحج. وقال عطاء ومجاهد وطاوس والاوزاعي: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال الاوزاعي: يحل بعمرة. وقال أحمد بن حنبل: هذا مكروه، وروي عن مالك، والمشهور عنه جواز الاحرام بالحج في جميع السنة كلها، وهو قول أبي حنيقة. وقال النخعي: لا يحل حتى يقضي حجه، لقوله تعالى: " يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج " [ البقرة: 189 ] وقد تقدم القول فيها. وما ذهب إليه الشافعي أصح، لان تلك عامة، وهذه الاية خاصة. ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم، لفضل هذه الاشهر على غيرها، وعليه فيكون قول مالك صحيح، والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: " فمن فرض فيهن الحج " أي الزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالاحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وهو قول الحسن بن حي. قال الشافعي: تكفي النية في الاحرام بالحج. وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم. وأصل الفرض في اللغة: الحز والقطع، ومنه فرضة (1) القوس والنهر والجبل. ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الخز للقدح. وقيل: " فرض " أي أبان، وهذا يرجع إلى القطع، لان من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره. و " من " رفع بالابتداء ومعناها الشرط، والخبر قوله: " فرض "، لان " من " ليست بموصولة، فكأنه قال: رجل فرض. وقال: " فيهن " ولم يقل فيها، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال. وقال المازني أبو عثمان: الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الاجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: " إن عدة الشهور " [ التوبة: 36 ] ثم قال: " منها ". (1) فرضة القوس (بضم أوله وسكون ثانية): الحز يقع عليه الوتر. وفرضة النهر: مشرب الماء منه. وفرضة الجبل: ما انحدر من وسطه وجانبه. (*)
[ 407 ]
السادسة - قوله تعالى: " فلا رفث " قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: الرفث الجماع، أي فلا جماع لانه يفسده. وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج، وعليه حج قابل والهدى. وقال عبد الله ابن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الافحاش للمرأة بالكلام، لقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، من غير كناية، وقاله ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم: وهن يمشين بنا هميسا * إن تصدق الطير ننك لميسا (1) فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم ! فقال: إن الرفث ما قيل عند النساء. وقال قوم: الرفث الافحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا. وقيل: الرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله. وقال أبو عبيدة: الرفث اللغا من الكلام، وأنشد: ورب أسراب حجيج كظم * عن اللغا ورفث التكلم يقال: رفث يرفث، بضم الفاء وكسرها. وقرأ ابن مسعود " فلا رفوث " على الجمع. قال ابن العربي: المراد بقوله " فلا رفث " نفيه مشروعا لا موجودا، فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا لا إلى وجوده محسوسا، كقوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (2) [ البقرة: 228 ] معناه: شرعا لا حسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي. وهذا كقوله تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون " (3) [ الواقعة: 79 ] إذا قلنا: إنه وارد في الادميين - وهو الصحيح - أن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادان وصفا. السابعة - قوله تعالى: " ولا فسوق " يعني جميع المعاصي كلها، قاله ابن عباس وعطاء والحسن. وكذلك قال ابن عمر وجماعة: الفسوق إتيان معاصي الله عزوجل (1) الليس: المرأة اللينة الملبس ؟. (2) راجع ج‍ 3 ص 112. (3) راجع ج‍ 17 ص 225. (*)
[ 408 ]
في حال إحرامه بالحج، كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر، وشبه ذلك. وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للاصنام، ومنه قوله تعالى: " أو فسقا أهل لغير الله به " (1) [ الانعام: 145 ]. وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالالقاب، ومنه قوله: " بئس الاسم الفسوق " (2) [ الحجرات: 11 ]. وقال ابن عمر أيضا: الفسوق السباب، ومنه قوله عليه السلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). والقول الاول أصح، لانه يتناول جميع الاقوال. قال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) خرجه مسلم وغيره. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده ما بين السماء والارض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال). وقال الفقهاء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله تعالى فيه أثناء أدائه. وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله سبحانه بعده، ذكر القولين ابن العربي رحمه الله. قلت: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده. قال الحسن: الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدا في الدنيا راغبا في الاخرة. وقيل غير هذا، وسيأتي. الثامنة - قوله تعالى: " ولا جدال في الحج " قرئ " فلا رفث ولا فسوق " بالرفع والتنوين فيهما. وقرئا بالنصب بغير تنوين. وأجمعوا على الفتح في " ولا جدال "، وهو يقوي قراءة النصب فيما قبله، ولان المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كله، وعلى النصب أكثر القراء. والاسماء الثلاثة في موضع (3) رفع، كل واحد مع " لا ". وقوله " في الحج " خبر عن جميعها. ووجه قراءة الرفع أن " لا " بمعنى " ليس " فارتفع الاسم بعدها، لانه اسمها، والخبر محذوف تقديره: فليس رفث ولا فسوق في الحج، دل عليه " في الحج " الثاني الظاهر وهو خبر " لا جدال ". وقال أبو عمرو بن العلاء: الرفع بمعنى فلا يكونن رفث ولا فسوق، أي شئ يخرج من الحج، ثم ابتدأ النفي فقال: ولا جدال. (1) راجع ج‍ 7 ص 115. (2) راجع ج‍ 16 ص 328. (3) هذا على أحد قولين للنحويين، والثانى أن " لا " عاملة في الاسم النصب وما بعدها خبر. (*)
[ 409 ]
قلت: فيحتمل أن تكون كان تامة، مثل قوله: " وإن كان ذو عسرة " فلا تحتاج إلى خبر. ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف، كما تقدم آنفا. ويجوز أن يرفع " رفث وفسوق " بالابتداء، " ولا " للنفي، والخبر محذوف أيضا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بالرفع في الثلاثة. ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وعليه يكون " في الحج " خبر الثلاثة، كما قلنا في قراءة النصب، وإنما لم يحسن أن يكون " في الحج " خبر عن الجميع مع اختلاف القراءة، لان خبر ليس منصوب وخبر " ولا جدال " مرفوع، لان " ولا جدال " مقطوع من الاول وهو في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد. ويجوز " فلا رفث ولا فسوق " تعطفه على الموضع. وأنشد النحويون: لانسب اليوم ولا خلة * إتسع الخرق على الراقع (1) ويجوز في الكلام " فلا رفث ولا فسوقا ولا جدال في الحج " عطفا على اللفظ على ما كان يجب في " لا " قال الفراء: ومثله: فلا أب وابنا مثل مروان وابنه * إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا وقال أبو رجاء العطاردي: " فلا رفث ولا فسوق " بالنصب فيهما، " ولا جدال " بالرفع والتنوين. وأنشد الاخفش: هذا وجدكم الصغار بعينه * لا أم لي إن كان ذاك ولا أب وقيل: إن معنى " فلا رفث ولا فسوق " النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. ومعنى " ولا جدال " النفي، فلما اختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ. قال القشيري: وفيه نظر، إذ فيل: " ولا جدال " نهي أيضا، أي لا تجادلوا، فلم فرق بينهما. التاسعة - " ولا جدال " الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجدل وهو القتل، ومنه زمام مجدول. وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الارض. (1) البيت لانس العباس السلمى. راجع الكلام عليه في شرح الشواهد الكبرى للعينى. (*)
[ 410 ]
فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة. قال الشاعر: قد أركب الالة بعد الالة (1) * وأترك العاجز بالجداله * منعفرا لست له محاله * العاشرة - واختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة، فقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة: الجدال السباب. وقال ابن زيد ومالك بن أنس: الجدال هنا أن يختلف الناس: أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، فالمعنى على هذا التأويل: لا جدال في مواضعه. وقالت طائفة: الجدال هنا أن تقول طائقة: الحج اليوم، وتقول طائفة: الحج غدا. وقال مجاهد وطائفة معه: الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النسئ، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع (2) وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك. قلت: فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله " ولا جدال "، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض) الحديث، وسيأتي في " براءة " (3). يعني رجع أم الحج كما كان، أي عاد إلى يومه ووقته. وقال صلى الله عليه وسلم لما حج: (خذوا عني مناسككم) فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه. وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم. ويقول الاخر مثل ذلك. وقيل: الجدال كان في الفخر بالاباء، والله أعلم. الحادية عشرة - قوله تعالى: " وما تفعلوا من خير يعلمه الله " شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لان المجازاة إنما تقع من العالم بالشئ. وقيل: * (هامش) (1) الالة: الحالة، والشدة. (2) هي المزدلفة. (3) راجع ج‍ 8 ص 132. (*)
[ 411 ]
هو تحريض وحث على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى في الاخلاق مكان الفسوق والجدال. وقيل: جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نهوا عنه. الثانية عشرة - قوله تعالى: " وتزودوا " أمر باتخاذ الزاد. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الاية في طائفة من العرب كانت تجئ إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد. وقال عبد الله بن الزبير: كان الناس يتكل بعضهم على بعض بالزاد، فأمروا بالزاد. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: (يا عمر زود القوم). وقال بعض الناس: " تزودوا " الرفيق الصالح. وقال ابن عطية: وهذا تخصيص ضعيف، والاولى في معنى الاية: وتزودوا لمعادكم من الاعمال الصالحة. قلت: القول الاول أصح، فإن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا، كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " وهذا نص فيما ذكرنا، وعليه أكثر المفسرين. قال الشعبي: الزاد التمر والسويق. ابن جبير: الكعك والسويق. قال ابن العربي: " أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه، وإنما خاطب الله أهل الاموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون: نحن المتوكلون. والتوكل له شروط، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب، فإنه خرج على الاغلب من الخلق وهم المقصرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه، والله عزوجل أعلم ". قال أبو الفرج الجوزي: وقد لبس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ. قال رجل لاحمد بن حنبل: أريد أن أخرج
[ 412 ]
إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرج في غير القافلة. فقال لا، إلا معهم. قال: فعلى جرب (1) الناس توكلت ؟ ! الثالثة عشرة - قوله تعالى: " فإن خير الزاد التقوى " أخبر تعالى أن خير الزاد اتقاء المنهيات، فأمرهم أن يضموا إلى التزود التقوى. وجاء قوله " فإن خير الزاد التقوى " محمولا على المعنى، لان معنى " وتزودوا ": اتقوا الله في اتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة (2) أو الحاجة إلى السؤال والتكفف. وقيل: فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار. قال أهل الاشارات: ذكرهم الله تعالى سفر الاخرة وحثهم على تزود التقوى، فإن التقوى زاد الاخرة. قال الاعشى: إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله * وأنك لم ترضد كما كان أرصدا وقال آخر: الموت بحر طامح موجه * تذهب فيه حيلة السابخ يا نفس إني قائل فاسمعي * مقالة من مشفق ناصح لا يصحب الانسان في قبره * غير التقي والعمل الصالح الرابعة عشرة - قوله تعالى: " واتقون يا أولى الالباب " خص أولي الالباب بالخطاب - وإن كان الامر يعم الكل - لانهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. والالباب جمع لب، ولب كل شئ: خالصه، ولذلك قيل للعقل: لب. قال النحاس: سمعت أبا إسحاق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب: أتعرف في كلام العرب شيئا من المضاعف جاء على فعل ؟ قلت نعم، حكى سيبويه عن يونس: لببت تلب، فاستحسنه وقال: ما أعرف له نظيرا. (1) جرب (بضمتين): جمع جراب وهو الوعاء. (2) الهلكة (بالتحريك): الهلاك. (*)
[ 413 ]
قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفت فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198). قوله تعالى: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " جناح " أي إثم، وهو اسم ليس. " أن تبتغوا " في موضع نصب خبر ليس، أي في أن تبتغوا. وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض. ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة، المعنى: لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله. وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة، قال الله تعالى: " فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله " (1) [ الجمعة: 10 ]. والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: (كانت (2) عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " في مواسم الحج) (3). الثانية - إذا ثبت هذا ففي الاية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الاخلاص المفترض عليه، (1) راجع ج‍ 18 ص 108. (2) الذى في البخاري: " كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الاسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت... الخ ". وعكاظ: نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال. وذو المجاز: خلف عرفة. ومجنة: بمر الظهران، قرب جبل يقال له الاصغر، وهو بأسفل مكة على قدر بريد منها. وهذه أسواق للعرب. وكان أهل الجاهلية يصبحون بعكاظ يوم هلال ذى القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضى عشرين يوما من ذى القعدة، فإذا رأوا هلال ذى الحجة ذهبوا من مجنة إلى ذى المجاز، فلبثوا به ثمان ليال، ثم يذهبون إلى عرفة. ولم تزل هذه الاسواق قائمة في الاسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة، لما خرج الحروى بمكة مع أبى حمزة المختار بن عوف خاف الناس أن ينتهبوا فتركت إلى الان، ثم ترك ذو المجاز ومجنة بعد ذلك، واستغنوا بالاسواق بمكة وبمنى وبعرفة. (عن شرح القسطلانى). (3) فوله: " في مواسم الحج " قراءة ابن عباس، كما نبه عليه المؤلف في مقدمة الكتاب ص 83، وقال أبو حيان في البحر: " وقراء ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير " فضلا من ربكم في مواسم الحج " وجعل هذا تفسيرا، لانه مخالف لسواد المصحف الذى أجمعت عليه الامة. (*)
[ 414 ]
خلافا للفقراء (1). أما إن الحج دون تجارة أفضل، لعروها (2) عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها. روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إني رجل أكرى في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: إنه لا حج لك. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مثل هذا الذي سألتني، فسكت حتى نزلت هذه الاية: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لك حجا). قوله تعالى: " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين " فيه ست (3) عشرة مسألة. الاولى - قوله تعالى: " فإذا أفضتم " أي أندفعتم. ويقال: فاض الاناء إذا امتلا حتى ينصب عن نواحيه. ورجل فياض، أي مندفق بالعطاء. قال زهير: وأبيض فياض يداه غمامة * على معتفيه ما تغب فواضله (4) وحديث مستفيض، أي شائع. الثانية - قوله تعالى: " من عرفات " قراءة الجماعة " عرفات " بالتنوين، وكذلك لو سميت امرأة بمسلمات، لان التنوين هنا ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين. قال النحاس: هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات، يقول: هذه عرفات يا هذا، ورأيت عرفات يا هذا، بكسر التاء وبغير تنوين، قال: لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الاخفش والكوفيون فتح التاء، تشبيها بتاء فاطمة وطلحة. وأنشدوا: تنورتها من أذرعات وأهلها * بيثرب أدنى دارها نظر عال والقول الاول أحسن، وأن التنوين فيه على حده في مسلمات، الكسرة مقابلة الياء في مسلمين والتنوين مقابل النون. وعرفات: اسم علم، سمي بجمع كأذرعات. وقيل: سمي (1) لعله يريد بالفقراء الصوفية. (2) كذا في نسخ الاصل. ومقتضى الظاهر تذكير الضمير لعوده إلى الحج، ولعله يريد بالتأثيث هنا: الحج بمعنى العبادة. (3) يلاحظ أن الاصول اضطربت في العدد هنا. (4) الفياض: الكثير العطاء. المعنفون: الطالبون ما عنده. يقال: عفاه واعتفاه إذا أتاه يطلب معروفة. ماتغب فواضله: أي عطاياه دائمة لا تنقطع. (*)
[ 415 ]
بما حوله، كأرض سباسب (1). وقيل: سميت تلك البقعة عرفات لان الناس يتعارفون بها. وقيل: لان آدم لما هبط وقع بالهند، وحواء بجدة، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا (2)، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات، قاله الضحاك. وقيل غير هذا لما تقدم ذكره عند قول تعالى: " وأرنا مناسكنا " (3) [ البقرة: 128 ]. قال ابن عطية: والظاهر أن اسمه مرتجل كسائر أسماء البقاع. وعرفة هي نعمان الاراك، وفيها يقول الشاعر: تزودت من نعمان عود أراكة * لهند ولكن لم يبلغه هندا وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب، قال الله تعالى: " عرفها لهم " (4) [ محمد: 6 ] أي طيبها، فهي طيبة بخلاف منى التي فيها الفروث (5) والدماء، فلذلك سميت عرفات. ويوم الوقوف، يوم عرفة. وقال بعضهم: أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال: رجل عارف. إذا كان صابرا خاشعا. ويقال في المثل: النفس عروف وما حملتها تتحمل. قال: * فصبرت (6) عارفة لذلك حرة * أي نفس صابرة. وقال ذو الرمة: * عروف لما خطت عليه المقادر (7) * أي صبور على قضاء الله، فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم، وصبرهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمال الشدائد، لاقامة هذه العبادة. الثالثة - أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة (1) جاء في اللسان مادة سبسب: " وحكى اللحيانى بلد سبسب، وبلد سباسب، كأنهم جعلوا كل جزء منه سبسبا، ثم جمعوه على هذا ". والسبسب: القفر والمفازة. وقيل: الارض المستوية العبيدة. (2) كل هذا يحتاج إلى التثبت. (3) راجع ص 127 من هذا الجزء. (4) راجع ج‍ 16 ص 231. (5) الفروث: جمع فرث، وهو السرجين (الزبل) ما دام في الكرش. (6) البيت لعنترة، وتمامه: * ترسو إذا نفس الجبان تطلع * (7) صدر البيت: * إذا خاف شيئا وقرته طبيعة * (*)
[ 416 ]
بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل، إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا. وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الامة في تمام حجه. والحجة للجمهور مطلق قوله تعالى: " فإذا أفضتم من عرفات " ولم يخص ليلا من نهار، وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جميع، فقلت يا رسول الله، جئتك من جبلي طئ، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل (1) إلا وقفت عليه، فهل لي من حج يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد قضى تفثه (2) وتم حجه). أخرجه غير واحد من الائمة، منهم أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال أبو عمر: حديث عروة بن مضرس الطائي حديث ثابت صحيح، رواه جماعة من أصحاب الشعبي الثقات عن الشعبي عن عروة بن مضرس، منهم إسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وزكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن أبي السفر ومطرف، كلهم عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام. وحجة مالك من السنة الثابتة: حديث جابر الطويل، خرجه مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص. وأفعاله على الوجوب، لا سيما في الحج وقد قال: (خذوا عني مناسككم). الرابعة - واختلف الجمهور فيمن أفاض قبل غروب الشمس ولم يرجع ماذا عليه مع صحة الحج، فقال عطاء وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم: (1) في ز وبعض كتب الحديث ونهاية ابن الاثير بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الموحدة. قال الترمذي في سننه: " قوله: من حبل " إذا كان من رمل يقال له حبل، وإذا كان من حجارة يقال له جبل ". وقال ابن الاثير في تفسير هذا الحديث: " الحبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه، وجمعه حبال. وقيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل ". وقال الخطابى: الحبال ما دون الجبال في الارتفاع. (2) قال صاحب التعليق المغنى على سنن الدارقطني: " وقوله: وقضى تفثه. قيل: المراد به أنه أتى بما عليه من المناسك، والمشهور أن التفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الابط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل في ضمن ذلك نحر البدن، وقضاء جميع المناسك، لانه لا يقضى النفث إلا بعد ذلك، وأصل النفث الوسخ والقذر. قاله الشوكاني ". (*)
[ 417 ]
عليه دم. وقال الحسن البصري: عليه هدي. وقال ابن جريج: عليه بدنة. وقال مالك: عليه حج قابل، والهدى ينحره في حج قابل، وهو كمن فاته الحج. فإن عاد إلى عرفة حتى يدفع بعد مغيب الشمس فقال الشافعي: لا شئ عليه، وهو قول أحمد وإسحاق وداود، وبه قال الطبري. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا يسقط عنه الدم وإن رجع بعد غروب الشمس، وبذلك قال أبو ثور. الخامسة - ولا خلاف بين العلماء في أن الوقوف بعرفة راكبا لمن قدر عليه أفضل، لان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وقف إلى أن دفع منها بعد غروب الشمس، وأردف أسامة بن زيد، وهذا محفوظ في حديث جابر الطويل وحديث علي، وفي حديث ابن عباس أيضا. قال جابر: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات (1)، وجعل حبل (2) المشاة بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، الحديث. فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف، وفي الوقوف راكبا مباهاة وتعظيم للحج " ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " (3) [ الحج: 32 ]. قال ابن وهب في موطئه قال لي مالك: الوقوف بعرفة على الدواب والابل أحب إلي من أن أقف قائما، قال: ومن وقف قائما فلا بأس أن يستريح. السادسة - ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد أنه عليه السلام كان إذا أفاض من عرفة يسير العنق (4) فإذا وجد فجوة نص. قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق (1) الصخرات: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذى بوسط أرض عرفات. (2) قال ابن الاثير: " وجعل حبل المشاة بين يديه، أي طريقهم الذى يسلكونه في الرمل. وقيل: أراد صفهم ومجتمعهم في مشيهم تشبيها بحبل الرمل. (3) راجع ج‍ 12 ص 56. (4) العنق (محركة): سير سريع فسيح واسع الابل والدابة. والفجوة: الموضع المتسع بين شيئين. (*)
[ 418 ]
وهكذا ينبغي على أئمة الحاج فمن دونهم، لان في استعجال السير إلى المزدلفة استعجال الصلاة بها، ومعلوم أن المغرب لا تصلى تلك الليلة إلا مع العشاء بالمزدلفة، وتلك سنتها، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. السابعة - ظاهر عموم القرآن والسنة الثابتة يدل على أن عرفة كلها موقف، قال صلى الله عليه وسلم: (ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف). رواه مسلم وغيره من حديث جابر الطويل. وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر). قال ابن عبد البر: هذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب، وأكثر الاثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة، وبطن محسر من المزدلفة، وكذلك نقلها الحفاظ الثقات الاثبات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. قال أبو عمر: واختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة بعرنة، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه: يهريق دما وحجه تام. وهذه رواية رواها خالد بن نزار عن مالك. وذكر أبو المصعب أنه كمن لم يقف وحجه فائت، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة. وروي عن ابن عباس قال: من أفاض من عرنة فلا حج له. وهو قول ابن القاسم وسالم، وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي، قال وبه أقول: لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يوقف به. قال ابن عبد البر: الاستثناء ببطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته، لا من جهة النقل ولا من جهة الاجماع. وحجة من ذهب مذهب أبي المصعب أن الوقوف بعرفة فرض مجمع عليه في موضع معين، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين، ولا يقين مع الاختلاف. وبطن عرنة يقال بفتح الراء وضمها، وهو بغربي مسجد عرفة، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة. وحكى الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل، وعرنة في الحرم. قال أبو عمر:
[ 419 ]
وأما بطن محسر فذكر وكيع: حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع (1) في بطن محسر. الثامنة - ولا بأس بالتعريف في المساجد يوم عرفة بغير عرفة، تشبيها بأهل عرفة. روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال: أول من صنع ذلك ابن عباس بالبصرة. يعني اجتماع الناس يوم عرفة في المسجد بالبصرة. وقال موسى بن أبي عائشة: رأيت عمر بن حريث يخطب يوم عرفة وقد اجتمع الناس إليه. وقال الاثرم: سألت أحمد بن حنبل عن التعريف في الامصار، يجتمعون يوم عرفة، فقال: أرجو ألا يكون به بأس، قد فعله غير واحد: الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع، كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة. التاسعة - في فضل يوم عرفة. يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الاعمال، قال صلى الله عليه وسلم: (صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية). أخرجه الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له). وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء). وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر). قيل: وما رأى [ يوم بدر ] (2) يا رسول الله ؟ قال: (أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة) (3). قال أبو عمر: روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم ابن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أبيه، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره (1) الايضاع: سير مثل الخبب (ضرب من العدو)، يقال: وضع البعير يضع وصنعا، وأوضعه راكبه إيضاعا إذا حمله على سرعة السير. (2) زيادة عن الموطأ. (3) قوله " يزع الملائكة ": يرتبهم ويستويهم ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار. (*)
[ 420 ]
وليس بشئ، والصواب ما في الموطأ. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الاصول: حدثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال حدثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جده عباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لامته عشية عرفة بالمغفرة والرحمة، وأكثر الدعاء فأجابه: إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها. قال: يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم) فلم يجبه تلك العشية، فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه: إني قد غفرت لهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: تبسمت يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها ؟ فقال: تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثى التراب على رأسه ويفر). وذكر أبو عبد الغني الحسن (1) بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له). قال أبو عمر: هذا حديث غريب من حديث مالك، وليس محفوظا عنه إلا من هذا الوجه، وأبو عبد الغني لا أعرفه، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد، وإنما كانوا يتشددون في أحاديث الاحكام. العاشرة - استحب أهل العلم صوم يوم عرفة إلا بعرفة. روى الائمة واللفظ للترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب. قال: حديث حسن صحيح. وقد روي عن ابن عمر قال: (حججت مع النبي صلى الله (1) في نسخة ب: " الحسين ". والذى يروى عن عبد الرزاق بن هشام الحميرى - أحد رجال هذا السند - هو الحسن بن على الخلال أبو على، وقيل أبو محمد. (*)
[ 421 ]
عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يستحبون الافطار بعرفة ليتقوى به الرجل على الدعاء، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة ". وأسند عن ابن عمر مثل الحديث الاول، وزاد في آخره: ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه، حديث حسن. وذكره ابن المنذر. وقال عطاء في صوم يوم عرفة: أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف. وقال يحيى الانصاري: يجب الفطر يوم عرفة. وكان عثمان بن أبي، العاصي وابن الزبير وعائشة يصومون يوم عرفة. قال ابن المنذر: الفطر يوم عرفة بعرفات أحب إلي، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصوم بغير عرفة أحب إلي، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صوم يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والباقية). وقد روينا عن عطاء أنه قال: من أفطر يوم عرفة ليتقوى على الدعاء فإن له مثل أجر الصائم. الحادية عشرة - في قوله تعالى: " فاذكروا الله عند المشعر الحرام " أي إذ كروه بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام. ويسمى جمعا لانه يجمع ثم المغرب والعشاء، قاله قتادة. وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء، وازدلف إليها، أي دنا منها، وبه سميت المزدلفة. ويجوز أن يقال: سميت بفعل أهلها، لانهم يزدلفون إلى الله، أي يتقربون بالوقوف فيها. وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لانه معلم للحج والصلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحج. ووصف بالحرام لحرمته. الثانية عشرة - ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا. وأجمع أهل العلم - لا اختلاف بينهم - أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء. واختلفوا فيمن صلاها ؟ أن يأتي جمعا، فقال مالك: من وقف مع الامام ودفع بدفعه فلا يصلي حتى يأتي المزدلفة فيجمع بينها، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لاسامة بن زيد: (الصلاة أمامك). قال ابن حبيب: من صلى قبل أن يأتي المزدلفة دون
[ 422 ]
عذر يعيد متى ما علم، بمنزلة من قد صلى قبل الزوال، لقوله عليه السلام: (الصلاة أمامك). وبه قال أبو حنيفة. وقال أشهب: لا إعادة عليه، إلا أن يصليهما قبل مغيب الشفق فيعيد العشاء وحدها، وبه قال الشافعي، وهو الذي نصره القاضي أبو الحسن، واحتج له بأن هاتين صلاتان سن الجمع بينهما، فلم يكن ذلك شرطا في صحتهما، وإنما كان على معنى الاستحباب، كالجمع بين الظهر والعصر بعرفة. واختار ابن المنذر هذا القول، وحكاه عن عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبي ثور ويعقوب. وحكي عن الشافعي أنه قال: لا يصلي حتى يأتي المزدلفة، فإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما. الثالثة عشرة - ومن أسرع فأتى المزدلفة قبل مغيب الشفق فقد قال ابن حبيب: لا صلاة لمن عجل إلى المزدلفة قبل مغيب الشفق، [ لا لامام ولا غيره حتى يغيب الشفق ] (1)، لقوله عليه السلام: (لصلاة أمامك) ثم صلاها بالمزدلفة بعد مغيب الشفق. [ ومن جهة (1) ] المعنى أن وقت هذه الصلاة بعد مغيب الشفق ]، فلا يجوز أن يؤتي بها قبله، ولو كان لها وقت قبل مغيب الشفق لما أخرت عنه. الرابعة عشرة - وأما من أتى عرفة بعد دفع الامام، أو كان له عذر ممن وقف مع الامام فقد قال ابن المواز: من وقف بعد الامام فليصل كل صلاة لوقتها. وقال مالك فيمن كان له عذر يمنعه أن يكون مع الامام: إنه يصلي إذا غاب الشفق الصلاتين يجمع بينهما. وقال ابن القاسم فيمن وقف بعد الامام: إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل فليؤخر الصلاة حتى يأتي المزدلفة، وإلا صلى كل صلاة لوقتها. فجعل ابن المواز تأخير الصلاة إلى المزدلفة لمن وقف مع الامام دون غيره، وراعي مالك الوقت دون المكان، واعتبر ابن القاسم الوقت المختار للصلاة والمكان، فإذا خاف فوات الوقت المختار بطل اعتبار المكان، وكان مراعاة وقتها المختار أولى. (1) مابين المربعين ساقط من ج‍. (*)
[ 423 ]
الخامسة عشرة - اختلف العلماء في هيئة الصلاة بالمزدلفة على وجهين: أحدهما - الاذان والاقامة. والاخر: هل يكون جمعهما متصلا لا يفصل بينهما بعمل، أو يجوز العمل بينهما وحط الرحال ونحو ذلك، فأما الاذان والاقامة فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين. أخرجه الصحيح من حديث جابر الطويل، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وابن المنذر. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وكذلك الظهر والعصر بعرفة، إلا أن ذلك في أول وقت الظهر بإجماع. قال أبو عمر: لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب، وزاد ابن المنذر ابن مسعود. ومن الحجة لمالك في هذا الباب من جهة النظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاتين بمزدلفة وعرفة أن الوقت لهما جميعا وقت واحد، وإذا كان وقتهما واحدا وكانت كل صلاة تصلى في وقتها لم تكن واحدة منهما أولى بالاذان والاقامة من الاخرى، لان ليس واحدة منهما تقضي، وإنما هي صلاة تصلى في وقتها، وكل صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة، وهذا بين، والله أعلم. وقال آخرون: أما الاولى منهما فتصلى بأذان وإقامة، وأما الثانية فتصلى بلا أذان ولا إقامة. قالوا: وإنما أمر عمر بالتأذين الثاني لان الناس قد تفرقوا لعشائهم فأذن ليجمعهم. قالوا: وكذلك نقول إذا تفرق الناس عن الامام لعشاء أو غيره، أمر المؤذنين فأذنوا ليجمعهم، وإذا أذن أقام. قالوا: فهذا معنى ما روي عن عمر، وذكروا حديث عبد الرحمن بن يزيد قال: كان ابن مسعود يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين، وفي طريق أخرى وصلى كل صلاة بأذان وإقامة، ذكره عبد الرزاق. وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شئ منهما، روي عن ابن عمر وبه قال الثوري. وذكر عبد الرزاق وعبد الملك بن الصباح عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة. وقال آخرون: تصلى الصلاتان جميعا بين
[ 424 ]
المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة. وذهبوا في ذلك إلى ما رواه هشيم عن يونس ابن عبيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة، لم يجعل بينهما شيئا. وروي مثل هذا مرفوعا من حديث خزيمة بن ثابت، وليس بالقوي. وحكى الجوزجاني (1) عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين، يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط. وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر، وهو القول الاول وعليه المعول. وقال آخرون: تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما. وممن قال ذلك الشافعي وأصحابه وإسحاق وأحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، واحتجوا بما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا. قال أبو عمر: والاثار عن ابن عمر في هذا القول من أثبت ما روي عنه في هذا الباب، ولكنها محتملة للتأويل، وحديث جابر لم يختلف فيه، فهو أولى، ولا مدخل في هذه المسألة للنظر، وإنما فيها الاتباع. السادسة عشرة - وأما الفصل بين الصلاتين بعمل غير الصلاة فثبت عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلاها، ولم يصل بينهما شيئا. في رواية: ولم يحلوا (2) حتى أقام العشاء الاخرة فصلى ثم حلوا. وقد ذكرنا آنفا عن ابن مسعود أنه كان يجعل، العشاء بين الصلاتين، ففي هذا جواز الفصل بين الصلاتين بجمع. وقد سئل مالك فيمن أتى المزدلفة: أيبدأ بالصلاة أو يؤخر حتى يحط عن راحلته ؟ فقال: (1) الجوزجانى (بجيم وواو وزاى معجمة ثم جيم أخرى): هذه النسبة إلى المدينة بخراسان مما يلى بلخ، وهو أبو سليمان، صاحب الامام محمد بن الحسن بن فرقد، أخذ الفقه عنه وروى كتبه. (2) قوله: ولم يحلوا. هو من الحل بمعنى الفك، أو من الحلول بمعنى النزول، أي لم يفكوا ما على الجمال، أو ما نزلوا تمام النزول الذى يريده المسافر البالغ منزلة. (*)
[ 425 ]
أما الرحل الخفيف فلا بأس أن يبدأ به قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك (1)، وليبدأ بالصلاتين ثم يحط عن راحلته. وقال أشهب في كتبه: له حط رحله قبل الصلاة، وحطه له بعد أن يصلي المغرب أحب إلي ما لم يضطر إلى ذلك، لما بدابته من الثقل، أو لغير ذلك من العذر. وأما التنفل بين الصلاتين فقال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من السنة ألا يتطوع بينهما الجامع بين الصلاتين، وفى حديث أسامة: ولم يصل بينهما شيئا. السابعة عشرة - وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور. واختلفوا فيما يجب على من لم يبت بالمزدلفة ليلة النحر ولم يقف بجمع، فقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله فلا شئ عليه، لان المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه، لا فرض، ونحوه قول عطاء والزهري وقتادة وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي فيمن لم يعد. وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شئ عليه، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة. وقال عكرمة والشعبي والنخعي والحسن البصري: الوقوف بالمزدلفة فرض، ومن فاته جمع ولم يقف فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة. وروي ذلك عن ابن الزبير وهو قول الاوزاعي. وروي عن الثوري مثل ذلك، والاصح عنه أن الوقوف بها سنة مؤكدة. وقال حماد ابن أبي سليمان. من فاتته الافاضة من جمع فقد فاته الحج، وليتحلل بعمرة ثم ليحج قابلا. واحتجوا بظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقول الله تعالى: " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام " وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك جمعا فوقف مع الناس حتى يفيض فقد أدرك ومن لم يدرك ذلك فلا حج له). ذكره ابن المنذر. وروى الدارقطني عن عروة بن مضرس: قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت له: يا رسول الله، هل لي من حج ؟ فقال: (من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا حتى نفيض وقد أفاض قبل ذلك [ من عرفات ] (2) ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه). (1) عبارة الاصل. " فلا أدرى، وليبدأ... الخ " والتصويب عن كتاب " المنتقى " للباجى. (2) الزيادة عن الدارقطني. (*)
[ 426 ]
قال الشعبي: من لم يقف بجمع جعلها عمرة. وأجاب من احتج للجمهور بأن قال: أما الاية فلا حجة فيها على الوجوب في الوقوف ولا المبيت، إذ ليس ذلك مذكورا فيها، وإنما فيها مجرد الذكر. وكل قد أجمع أنه لو وقف بمزدلفة ولم يذكر الله إن حجه تام، فإذا لم يكن الذكر المأمور به من صلب الحج فشهود الموطن أولى بألا يكون كذلك. قال أبو عمر: وكذلك أجمعوا أن الشمس إذا طلعت يوم النحر فقد فات وقت الوقوف بجمع، وإن من أدرك الوقوف بها قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ممن يقول إن ذلك فرض، ومن يقول إن ذلك سنة. وأما حديث عروة بن مضرس فقد جاء في بعض طرقه بيان الوقوف بعرفة دون المبيت بالمزدلفة، ومثله حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه). رواه النسائي قال: أخبرنا إسحاق ابن إبراهيم قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن ابن يعمر الديلي قال: شهدت...، فذكره. ورواه ابن عيينة عن بكير عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه). وقوله في حديث عروة: (من صلى صلاتنا هذه). فذكر الصلاة بالمزدلفة، فقد أجمع العلماء أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصل مع الامام حتى فاتته أن حجه تام. فلما كان حضور الصلاة مع الامام ليس من صلب الحج كان الوقوف بالموطن الذي تكون فيه الصلاة أحرى أن يكون كذلك. قالوا: فلم يتحقق بهذا الحديث ذلك الفرض إلا بعرفة خاصة. الثامنة (1) عشرة - قوله تعالى: " واذكروه كما هداكم " كرر الامر تأكيدا، كما تقول: ارم. ارم. وقيل: الاول أمر بالذكر عند المشعر الحرام. والثاني أمر بالذكر على حكم الاخلاص. وقيل المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر (1) يلاحظ أن الاصول اضطربت في عدد هذه المسائل. (*)
[ 427 ]
قدر الانعام فقال: " وإن كنتم من قبله لمن الضالين " والكاف في " كما " نعت لمصدر محذوف، و " ما " مصدرية أو كافة. والمعنى: إذ كروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه. و " إن " مخففة من الثقيلة، يدل على ذلك دخول اللام في الخبر، قال سيبويه. الفراء: نافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، كما قال: ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة الرحمن (1) أو بمعنى قد، أي قد كنتم، ثلاثة أقوال. والضمير في " قبله " عائد إلى الهدي. وقيل إلى القرآن، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين. وإن شئت على النبي صلى الله عليه وسلم، كناية عن غير مذكور، والاول أظهر والله أعلم. قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " قيل: الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون: نحن قطين (2) الله، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة، فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة. و " ثم " ليست في هذه الاية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة. وقال الضحاك: المخاطب بالاية جملة الامة، والمراد ب‍ " الناس " إبراهيم عليه السلام، كما قال: " الذين قال لهم الناس " (3) [ آل عمران: 173 ] وهو يريد واحدا. ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالافاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، فتجئ " ثم " على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول (1) البيت لعاتكة بنت زيد. والرواية فيه:... عقوبة المعتمد. راجع الكلام عليه في الشاهد 868. (2) قطين الله: أي سكان حرمه، والقطين جمع قاطن كالقطان. (3) راجع ج‍ 4 ص 279. (*)
[ 428 ]
الطبري. والمعنى: أفيضوا من حيت أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع، أي ثم أفيضوا إلى منى لان الافاضة من عرفات قبل الافاضة من جمع. قلت: ويكون في هذا حجة لمن أوجب الوقوف بالمزدلفة، للامر بالافاضة منها، والله أعلم. والصحيح في تأويل هذه الاية من القولين القول الاول. روى الترمذي عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قطين الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله تعالى: " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ". هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس " قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: " أفيضوا من من حيث أفاض الناس " رجعوا إلى عرفات. وهذا نص صريح، ومثله كثير صحيح، فلا معول على غيره من الاقوال. والله المستعان. وقرأ سعيد بن جبير " الناسي " وتأويله آدم عليه السلام، لقوله تعالى: " فنسي ولم نجد له عزما " (1) [ طه: 115 ]. ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس، كالقاض والهاد. ابن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه. وأمر تعالى بالاستغفار لانها مواطنه، ومظان القبول ومساقط الرحمة. وقالت فرقة: المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة. الثانية - روى أبو داود عن علي قال: فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - وقف على قزح فقال: (هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف ونحرت ها هنا ومني كلها منحر فانحروا في رحالكم). فحكم الحجيج إذا دفعوا من عرفة إلى المزدلفة ان يبيتوا بها ثم يغلس (2) بالصبح الامام بالناس ويقفون بالمشعر الحرام. وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الامام، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس، ثم يدفعون قبل الطلوع، على مخالفة العرب، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، أي كيما نقرب (1) راجع ج‍ 11 ص 251. (2) الغلس (محركة): ظلمة آخر الليل. (*)
[ 429 ]
من التحلل فنتوصل إلى الاغارة. وروى البخاري (1) عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير (2)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس. وروى ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا، أخر الدفع من عرفة، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدى المشركين. الثالثة - فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة، وهو أن يسير الامام بالناس سير العنق، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا. والعنق: مشي للدواب معروف لا يجهل. والنص: فوق العنق، كالخبب أو فوق ذلك. وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسئل: كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة ؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام (3): والنص فوق العنق، وقد تقدم. ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر، فإن لم يفعل فلا حرج، وهو من منى. وروى الثوري (4) وغيره عن أبي الزبير عن جابر قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم: (أوضعوا في وادي محسر) وقال لهم: (خذوا عني مناسككم). فإذا أتوا مني وذلك غدوة يوم النحر، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار، ويرمونها بسبع حصيات، كل حصاة منها مثل حصي الخذف (5) - على ما يأتي بيانه - فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس (1) في ب، ج‍: " النحاس " وهو خطأ. (2) ثبير (بفتح المثلثة وكسر الموحدة وسكون التحية): جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب منا إلى منى. هذا هو المراد، وللعرب جبال أخر اسم كل منها ثبير. (عن زهر الربى للسيوطي). (3) هشام هو أحد رواة سند هذا الحديث. (4) في ج‍،: " الترمذي ". (5) الخذف (بالخاء المعجمة المفتوحة والذال المعجمة الساكنة): رميك حصاة أو نواة تأخذها بين الابهام والسابة وترمى بها. والمراد الحصا الصغار. (*)
[ 430 ]
والتفث كله، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه. وقال عمر بن الخطاب وابن عمر: يحل له كل شئ إلا النساء والطيب. ومن تطيب عند مالك بعد الرمي وقبل الافاضة لم ير عليه فدية، لما جاء في ذلك. ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: يحل له كل شئ إلا النساء، وروي عن ابن عباس. الرابعة - ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها، وهو جائز مباح عند مالك. والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة، على ما ذكر في موطئه عن علي، وقال: هو الامر عندنا. قلت: والاصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن الفضل بن عباس، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع (1) للناس حين دفعوا: (عليكم بالسكينة) وهو كاف (2) ناقته حتى دخل محسرا (وهو من منى) قال: (عليكم بحصى الخذف الذي يرمي به الجمرة)، وقال: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة. في رواية: والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يحذف الانسان. وفي البخاري عن عبد الله أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم. وروى الدار قطني عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شئ إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب). وفي البخاري عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين، حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها. وهذا هو التحلل الاصغر عند العلماء. والتحلل الاكبر: طواف الافاضة، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الاحرام، وسيأتي ذكره في سورة " الحج " (3) إن شاء الله تعالى. (1) أي صباح المزدلفة. (2) من الكف بمعنى الاسراع. (3) راجع ج‍ 12 ص 51. (*)
[ 431 ]
قوله تعالى: فإذا قضيتم منسككم فاذكروا الله كذكركم ءاباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا وما له في الاخرة من خلق (200) فيه مسألتان: الاولى - قوله تعالى: " فإذا قضيتم مناسككم " قال مجاهد: المناسك الذبائح وهراقة الدماء. وقيل: هي شعائر الحج، لقوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم). المعنى: فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم. وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف، وكذلك " ما سلككم " لانهما مثلان. و " قضيتم " هنا بمعنى أديتم وفرغتم، قال الله تعالى: " فإذا قضيت الصلاة " (1) [ الجمعة: 10 ] أي أديتم الجمعة. وقد يعبر بالقضاء عما فعل من العبادات خارج وقتها المحدود لها. الثانية - قوله تعالى: " فاذكروا الله كذكركم آباءكم " كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة، فتفاخر بالاباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، وغير ذلك، حتى أن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة، عظيم الجفنة (2)، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الاية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية. هذا قول جمهور المفسرين. وقال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: معنى الاية واذكروا الله كذكر الاطفال آباءهم وأمهاتهم: أبه أمه، أي فاستغيثوا به والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم. وقالت طائفة: معنى الاية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم. وقال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل اليوم لا يذكر أباه، فما معنى الاية ؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى (1) راجع ج‍ 18 ص 108. (2) الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع. (*)
[ 432 ]
إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتما. والكاف من قوله " كذكركم " في موضع نصب، أي ذكرا كذكركم. " أو أشد " قال الزجاج: " أو أشد " في موضع خفض عطفا على ذكركم، المعنى: أو كأشد ذكرا، ولم ينصرف لانه " أفعل " صفة، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشد. و " ذكرا " نصب على البيان. قوله تعالى: " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا " " من " في موضع رفع بالابتداء، وإن شئت بالصفة يقول " ربنا آتنا في الدنيا " صلة " من " المراد المشركون. قال أبو وائل والسدي وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية تدعوا في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الابل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الاخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم. ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا، وعلى هذا ف‍ " ما له في الاخرة من خلاق " أي كخلاق الذي يسأل الاخرة والخلاق النصيب. و " من " زائدة وقد تقدم. قوله تعالى: ومنهم من يقول ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفى الاخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " ومنهم " أي من الناس، وهم المسلمون يطلبون خير الدنيا والاخرة. واختلف في تأويل الحسنتين على أقوال عديدة، فروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء، وفي الاخرة الحور العين. " وقنا عذاب النار ": المرأة السوء. قلت: وهذا فيه بعد، ولا يصح عن علي، لان النار حقيقة في النار المحرقة، وعبارة المرأة عن النار تجوز. وقال قتادة: حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال. وقال الحسن: حسنة الدنيا العلم والعبادة. وقيل غير هذا. والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نعم الدنيا والاخرة. وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن " حسنة "
[ 433 ]
نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل. وحسنة الاخرة: الجنة بإجماع. وقيل: لم يرد حسنة واحدة، بل أراد: أعطنا في الدنيا عطية حسنة، فحذف الاسم. الثانية - قوله تعالى: " وقنا عذاب النار " أصل " قنا " أو قنا، حذفت الواو كما حذفت في يقى ويشئ، لانها بين ياء وكسرة، مثل يعد، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: حذفت فرقا بين اللازم والمتعدي. قال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لان العرب تقول: ورم يرم، فيحذفون الواو. والمراد بالاية الدعاء في ألا يكون المرء ممن يدخلها بمعاصيه وتخرجه الشفاعة. ويحتمل أن يكون دعاء مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين، كما قال أحد الصحابة للنبى صلى الله عليه وسلم: أنا إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة وعافنى من النار، ولا أدرى ما دندنتك (1) ولا دندنة معاذ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حولها (2) ندندن " خرجه أبو داود في سننه وابن ماجه أيضا. الثالثة - هذه الاية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والاخرة. قيل لانس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا. قال: ما تريدون ! قد سألت الدنيا والاخرة !. وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار). قال: فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار. ماله هجيرى (3) غيرها، ذكره أبو عبيد. وقال ابن جريج: بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الاية: " ربنا آتنا (1) الدندنة: أن يتكلم الرجل الكلام تسمع نغمته ولا يفهم، وهو أرفع من الهينمة قليلا. (2) في حاشية السندي على سنن ابن ماجه: " وفى بعض النسخ حولهما بالتثنية، فعلى الاول معناه حول مقالتك، أي كلامنا قريب من كلامك. وعلى الثاني معناه حول الجنة والنار، أي كلامنا أيضا لطلب الجنة والتعوذ من النار ". (3) الهجير والهجيرى: الدأب والعادة والديدن. (*)
[ 434 ]
في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ". وقال ابن عباس: إن عند الركن ملكا قائما منذ خلق الله السموات والارض يقول آمين، فقولوا: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار " وسئل عطاء بن أبي رباح عن الركن اليماني وهو يطوف بالبيت، فقال عطاء: حدثني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكل به سبعون ملكا فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والاخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين) الحديث. خرجه ابن ماجه في السنن، وسيأتي بكماله مسندا في [ الحج ] إن شاء الله. قوله تعالى: أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202) فيه ثلاث مسائل: الاولى - قوله تعالى: " أولئك لهم نصيب مما كسبوا " هذا يرجع إلى الفريق الثاني فريق الاسلام، أي لهم ثواب الحج أو ثواب الدعاء، فإن دعاء المؤمن عبادة. وقيل: يرجع " أولئك " إلى الفريقين، فللمؤمن ثواب عمله ودعائه، وللكافر عقاب شركه وقصر نظره على الدنيا، وهو مثل قوله تعالى: " ولكل درجات مما (1) عملوا " [ الانعام: 132 ]. الثانية - قوله تعالى: " والله سريع الحساب " من سرع يسرع - مثل عظم يعظم - سرعا وسرعة، فهو سريع. " الحساب " مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب العد: يقال: حسب يحسب حسابا وحسابة وحسبانا وحسبانا وحسبا، أي عد، وأنشد ابن الاعرابي: يل جمل أسقاك (2) بلا حسابه * سقيا مليك حسن الربابه (3) * قتلتنى بالدل والخلابه * (1) راجع ج‍ 7 ص 87. (2) هكذا أورده الجوهرى في الصحاح، وهى رواية الاصول. وفى اللسان: " وصواب إنشاده: يا جمل أسقيت " أي أسقيت بلا حساب ولا هنداز. (3) في الاصول: " الرياسة ". والتصويب عن الصحاح واللسان. والرواية (بالكسر): القيام على الشئ بإصلاحه وتربية. والخلابة (بالكسر): أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول وأعذبه. (*)
[ 435 ]
والحسب: ما عد من مفاخر المرء. ويقال: حسبه دينه. ويقال: ماله، ومنه الحديث: " الحسب المال والكرم التقوى " رواه سمرة بن جندب، أخرجه ابن ماجه، وهو في الشهاب أيضا. والرجل حسيب، وقد حسب حسابة (بالضم) مثل خطب خطابة. والمعنى في الاية: أن الله سبحانه سريع الحساب، لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقوله الحق: " وكفى بنا حاسبين " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم منزل الكتاب سريع الحساب " الحديث. فالله عزوجل عالم بما للعباد وعليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل، إذا قد علم ما للحاسب وعليه، لان الفائدة في الحساب علم حقيقته. وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم. وقيل: المعنى لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسبهم في حالة واحدة، كما قال وقوله الحق: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة (1). قال الحسن: حسابه أسرع من لمح البصر، وفى الخبر " إن الله يحاسب في قدر حلب شاة ". وقيل: هو أنه إذا حاسب واحدا فقد حاسب جميع الخلق. وقيل لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه كيف يحاسب الله العباد في يوم ؟ قال كما يرزقهم في يوم ! ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقاديرا الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه، بدليل قوله تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه (2) ". وقيل: معنى الاية سريع بمجئ يوم الحساب، فالمقصد بالاية الانذار بيوم القيامة. قلت: والكل محتمل، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالاعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الاخرة على من حاسب نفسه في الدنيا. الثالثة - قال ابن عباس في قوله تعالى: " أولئك لهم نصيب مما كسبوا " هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الاية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي). قال نعم. قال: (فدين الله أحق أن يقضى). قال: فهل لي من أجر ؟ فأنزل الله تعالى: " أولئك لهم نصيب مما كسبوا " يعني من حج (1) راجع ج‍ 14 ص 78. (2) راجع ج‍ 17 ص 289. (*)
[ 436 ]
عن منيت كان الاجر بينه وبين الميت. قال أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لان تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الاسلام أو لم يحج، لان الاعمال " يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه (2) ". وقيل: معنى الاية سريع بمجئ يوم الحساب، فالمقصد بالاية الانذار بيوم القيامة. قلت: والكل محتمل، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالاعمال الصالحة، وإنما يخف الحساب في الاخرة على من حاسب نفسه في الدنيا. الثالثة - قال ابن عباس في قوله تعالى: " أولئك لهم نصيب مما كسبوا " هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الاية أن رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ذلك يجزي). قال نعم. قال: (فدين الله أحق أن يقضى). قال: فهل لي من أجر ؟ فأنزل الله تعالى: " أولئك لهم نصيب مما كسبوا " يعني من حج (1) راجع ج‍ 14 ص 78. (2) راجع ج‍ 17 ص 289. (*)
[ 436 ]
عن منيت كان الاجر بينه وبين الميت. قال أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه: قول ابن عباس نحو قول مالك، لان تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، ولهذا قلنا: لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الاسلام أو لم يحج، لان الاعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستناب فيها بين أن يكون قد أدى عن نفسه أو لم يؤد، اعتبارا بأعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدي عن غيره وإن لم يؤد عن نفسه، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره من مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه، ويزوج غيره وإن لم يزوج نفسه. تم الجزء الثاني من تفسير القرطبى يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث، وأوله قوله تعالى: " واذكروا الله في أيام معدودات... " الاية.