تفسير القرطبي
القرطبي ج 1
[ 1 ]
الجامع لاحكام القرآن لابي عبد الله محمد بن أحمد الانصاري القرطبي الجزء الاول أعاد طبعه دار احياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه - 1985 م
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية لعلنا في غير حاجة إلى تعريف القراء بهذ التفسير العظيم، بعد ان عرفوه في طبعته الاولى فأقبلوا عليه إقبالا منقطع النظير. إذ لم يكد يخرح منه جزء حتى تهافت عليه الجمهور، ممن عرفوا فضل القرطبي وعلمه وادبه، ودقته في تأويل كتاب الله تعالى، وعرض اقوال الائمة من جهابذة المحققين، وأولي البصر بكتاب الله من أعلام المجتهدين. ولقد رأى القراء حين طلع عليهم تفسير القرطبي مبلغ ما بذله مؤلفه من جهد كبير، وعناية فائقة، يدلان على عمقه في البحث، ومقدرته على فهم كتاب الله، وإلمامه بأصول علوم الشريعة وفروعها، من لغة وأدب وبلاغة. يتجلى كل أولئك في استنباطه الاحكام الشرعية من نصوص الايات الكريمة، حتى ليكاد يستغني به القارئ عن دراسة كتب الفقه، ثم في استشهاده بكثير من النصوص الادبية من لغة العرب شعرها ونثرها، مما يشهد له بطول البع وسعة الافق. وإن أخذ عليه شئ فليس إلا هنات يسيرة، لا تنقص من مقداره، ولا تغض من قيمته، فقد ينبو الحسام، وقد يكبد الجواد. فمن ذلك أنه خالف أحيانا ما اشترطه على نفسه في مقدمة كتابه إذ يقول: "... وأضرب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين، إلا ما لا بد منه، ولا غنى عنه للتبيين... "
[ 3 ]
فليس مما لا بد منه أو لا غنى عنه ما ينقله عن كعب الاحبار: " أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الارض كلها، فألقى في قلبه فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا (1) من الامم والشجر والدواب والناس والجبال ! لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع. قال: فهم لوثيا بفعل ذلك، فبعث الله دابة فدخلت في منخره، فعج الى الله منها فخرجت (2).... ". وليس مما لا بد منه: " أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسهاوأظهرت له العداوة هناك، فلما هبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب (3) ". وليس مما لا بد منه ما يرويه عن ابن عباس قال: " سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ قال: ملك من الملائكة معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله (4) ". وليس مما لا بد منه ما ذكره عن كلب اصحاب الكهف والاختلاف في لونه وفي اسمه (5). ولا ما يرويه عن الزهري في قوله تعالى " جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ": أن جبريل عليه السلام قال له: يا محمد لو رأيت إسرافيل إن له لاثنى عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق، وجناح بالمغرب، وإن العرش لعلى كاهله، وإنه في الاحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع (6).... ". ولا ما ذكره في قوله تعالى: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ": أن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال (7) بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء، وفوق ظهورهن العرش (8) ". (1) اسم الحوت. (2) راجع ج 1 ص 257. (3) ج 1 ص 313. (4) ج 1 ص 327. (5) راجع ج 10 ص 370. (6) ج 14 ص 320 والوصع: عصفور صغير. (7) الاوعال: جمع وعل، وهو التيس الجبلي. (8) ج 18 ص 267. (*)
[ 4 ]
إلى غير ذلك من الامثلة التي ترد في مناسبات مختلفة، جارى فيها من سبقه من المفسرين الذين ينقلون عن الاسرائيليات ولا يتحرون الدقة في المعلومات الكونية، خصوصا في الكلام على خلق السموات والارض، وتأويل الايات التي تتعرض للظواهر الطبيعية، أو تشير إلى المسائل العلمية. وللمؤلف في ذلك كثير من العذر، لانه - رحمه الله - تابع فيه ثقافة عصره، وما تجري به ألسنة العلماء في ذلك الزمان. وقد رأت الدار - بعد أن تحققت حاجة الناس إلى هذا الكتاب، ورغبة الكثير من العلماء في الاقطار الاسلامية في ذيوعه - أن تقرر إعادة طبعها تعميما للفائدة. هذا وسيرى القارئ أننا حرصنا على أن تكون هذه الطبعة موافقة لسابقتها في أجزائها وصفحاتها وأرقامها، إلا في تفاوت يسير، يستطيع القارئ أن يدركه في الصفحة التالية أو السابقة. كما أننا نبهنا في هذه الطبعة إلى أمر لم يكن في سابقتها، فعندما يذكر المؤلف عبارة: (على ما يأتي بيانه) نوضح ذلك في الهامش، مبينين موضعه من الكتاب حتى يسهل على القارئ متابعة الدراسة، وربط الكلام بعضه ببعض، دون جهد أو عناء. ولا يفوتني أن أنوه بفضل حضرات الزملاء الذين اشتركوا معي في تصحيح هذا الكتاب في طبعته الاولى بعد جزئه الرابع، وهم السادة: الشيخ إبراهيم اطفيش، والشيخ بشندي خلف الله، والشيخ محمد محمد حسنين. والله المسئول أن ينفع بهذا التفسير الجليل، وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء، وأن يعين القائمين بنشر التراث الاسلامي من أمثال هذا الكتاب العظيم. وأن يوفق " الدار " في تأدية رسالتها حتى تنهض بهذا العبء الكبير، وتقدم للعالم أجمع خير تراث تركه الاقدمون. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصخابته أجمعين. مصححه أحمد عبد العليم البردوني 16 من المحرم سنة 1372 (6 من أكتوبر سنة 1952).
[ 5 ]
ترجمة أبي عبد الله القرطبي مؤلف هذا التفسير (1) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح (بإسكان الراء وبالحاء المهملة)، الانصاري الخزرجي الاندلسي القرطبي المفسر، كام من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين، الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الاخرة. أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف. مؤلفاته - جمع في تفسير القرآن كتابا كبيرا في اثني عشر مجلدا، سماه كتاب " الجامع لاحكام القرآن، والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان " وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، واستنباط الادلة، وذكر القراءات والاعراب والناسخ والمنسوخ (وهو هذا التفسير). وله كتاب " الاسنى، في شرح أسماء الله الحسنى ". وكتاب " التذكار، في أفصل الاذكار ". وضعه على طريقة التبيان للنووي، لكن هذا أتم منه وأكثر علما. وكتاب " التذكرة، بأمور الاخرة ". وكتاب " شرح التقصي ". وكتاب " قمع الحرص بالزهد والقناعة، ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعة ". قال ابن فرحون: لم أقف على تأليف أحسن منه في بابه. وله " أرجوزة جمع فيها أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ". وله تواليف وتعاليق مفيدة غير هذا. وكان مطرحا للتكلف، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية. قال صاحب نفح الطيب: إنه من الراحلين من الاندلس. (1) عن الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (مذهب مالك) لابن فرحون، ونفح الطيب للمقري. (*)
[ 6 ]
شيوخه - سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي بعض شرحه " المفهم، لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ". وحدث عن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد البكري، وحدث أيضا عن الحافظ أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي وغيرهما. وكان مستقرا بمنية ابن خصيب، وتوفي ودفن بها في ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة 671، رحمه الله ورضي عنه.
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. قال الشيخ الفقيه الامام العالم العامل العلامة المحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر فرح الانصاري الخزرجي الاندلسي ثم القرطبى، رضى الله عنه: الحمد لله المبتدئ بحمد نفسه قبل ان يحمده حامد، واشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريكه له، الرب الصمد الواحد، الحى القيوم الذى لا يموت، ذو الجلال والاكرام، والمواهب العظام، والمتكلم بالقرآن، والخالق للانسان، و المنعم عليه بالايمان، والمرسل رسوله بالبيان، محمدا صلى الله عليه وسلم ما اختلف الملوان (1)، وتعاقب الجديدان، ارسله بكتابه المبين، الفارق بين الشك واليقين، الذى اعجزت الفصحاء معارضته، وأعيت الألباء مناقضته، وأخرست البلغاء مشاكلته، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. جعل أمثاله عبرا لمن تدبرها، وأ. امره هدى لمن استبصرها، وشرح فيه واجبات الأحكام، وفرق فيه بين الحلال والحرام، وكرر فيه المواعظ والقصص للافهام، وضرب فيه الأمثال، وقص فيه غيب الأخبار، فقال تعالى " ما فرطنا في الكتاب من شئ (12) ". وخاطب به أولياءه ففهموا، وبين لهم فيه مراده فعلموا. فقرءة القرآن حمله سر الله المكنون، وحفظة علمه المخزون، وخلفاء أنبيائه وأمناؤه، وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه، قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: " إن لله أهلين منا (3) " قالوا: يارسول الله، من هم ؟ قال: " هم أهل القرآن أهل الله وخاصته " أخرجه ابن ماجه في سننه، وأبو بكر البزار في مسنده. فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه، ويتذكر (1) المللون: الليل والنهار. (2) آيه 38 سورة الأنعام. (3) في سنن ابن ماجه: " من الناس ". (*)
[ 2 ]
ما شرح له فيه، ويخشى الله ويتقيه، ويراقبه ويستحييه. فانه حمل أعباء الرسل، وصار شهيدا في القيامة على من خالف من أهل الملل، قال الله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمه وسطا لتكونوا شهداء على الناس (1) ". ألا وإن الحجه على من علمه فأغفله، أوكد منها على من قصر عنه وجهله. ومن أوتى علم القرآن فلم ينتفع، وزجرته نواهيه فلم يرتدع، وارتكب من المآثم قبيحا، ومن الجرائم فضوحا، كان القرآن حجه عليه، وخصما لديه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القرآن حجه لك أو عليك " خرجه مسلم. فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه أن يتلوه حق تلاوته، ويتدبر حقائق عبارته، ويتفهم عجائبه، ويتبين غرائبه، قال الله تعالى: " كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته (2) ". وقال الله تعالى: " افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (3) ". جعلنا الله ممن يرعاه حق رعايته، ويتدبره حق تدبره، ويقوم بقسطه، ويفى بشرطه، ولا يلتمس الهدى في غيره، وهدانا لأعلامه الظاهره، وأحكامه القاطعة الباهرة، وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة، فانه أهل التقوى وأهل المغفرة. ثم جعل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بيان ما كان منه مجملا، وتفسير ما كان منه مشكلا، وتحقيق ما كان منه محتملا، ليكون له مع تبليغ الرسالة ظهور الاختصاص به، ومنزلة التفويض إليه، قال اله تعالى: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (4) ". ثم جعل إلى العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباط مانبه على معانيه، وأشار إلى أصوله ليتوصلوا باجتهاد فيه إلى علم المراد، فيمتازوا بذلك عن غيرهم، ويختصوا بثواب اجتهادهم، قال الله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (5) ". فصار الكتاب أصلا والسنة له بيانا، واستنباط العلماء له إيضاحا وتبيانا. فالحمد لله الذي جعل صدورنا أوعية كتابه، وآذاننا موارد سنن نبيه، وهممنا مصروفة إلى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما، طالبين بذلك رضا رب العالمين، ومتدرجين به إلى علم الملة والدين. (وبعد * فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع، الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء الى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ (1) آية 143 سورة البقرة. (2) آية 29 سورة ص. (3) آية 24 سورة القتال. (4) آية 44 سورة النحل. (5) آية 11 سورة المجادلة. (*)
[ 3 ]
فيه منتى (1)، بأن أكتب تعليقا وجيزا، يتضمن نكتا من التفسير واللغات، والاعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيهما، ومبينا ما أشكل منهما، بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف. وعملته تذكرة لنفسي، وذخيرة ليوم رمسي، وعملا صالحا بعد موتي. قال الله تعالى: " ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر (2) ". وقال تعالى: " علمت نفس ما قدمت وأخرت (3) ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ". وشرطي في هذا الكتاب: إضافة الأقوال الى قائليها، والأحاديث الى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول الى قائله. وگثيرا ما يجئ الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما، لايعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث، فيبقى من لاخبرة له بذلك حائرا، لايعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم، فلا يقبل منه الاحتجاج به، ولا الاستدلال حتى يضيفه الى من خرجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام. ونحن نشير الى جمل من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا مالا بد منه ولا غنى عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الاحكام، بمسائل تفسير عن معناها، وترشد الطالب الى مقتضاها، فضمنت كل آية لتضمن حكما أو حكمين فما زاد، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب والحكم، فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل، هكذا الى آخر الكتاب. وسميته ب (الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان)، جعله الله خالصا لوجهه، وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه، إنه سميع الدعاء، قريب مجيب، آمين. (1) المنة (بالضم): القوة. (2) آية 13 سورة القيامة. (3) آية 5 سورة الانفطار. (*)
[ 4 ]
باب ذكر جمل من فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه وقارئه ومستمعه والعامل به اعلم أن هذا الباب واسع كبير، ألف فيه العلماء كتبا كثيرة، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله، وما أعده الله لأهله، إذا أخلصوا الطلب لوجهه. وعملوا به. فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين، غير مخلوق، كلام من ليس كمثله شئ، وصفة من ليس له شبيه ولا ند، فهو من نور ذاته جل وعز، وأن القراءة أصوات القراء ونغماتهم، وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجابا في بعض العبادات، وندبا في كثير من الأوقات، ويزجرون (1) عنها إذا أجنبوا، ويثابون عليها ويعاقبون على تركها. وهذا مما أجمع عليه المسلمون أهل الحق، ونطقت به الآثار، ودل عليها المستفيض من الأخبار، ويتعلق الثواب والعقاب إلا بما هو من أكتساب العباد، على ما يأتي بيانه. ولولا أنه - سبحانه - جعل في قلوب عباده من القوة على حمله ما جعله، ليتدبروه وليعتبروا به، وليتذكروا ما فيه من طاعته وعبادته، يقول - تعالى جده - وقوله الحق: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله (2) ". فأين قوت القلوب من قوة الجبال ! ولكن الله تعالى رزق عباده من القوة على حمله ما شاء أن يرزقهم، فضلا منه ورحمة. وأما ما جاء من الآثار في هذا الباب - فأول ذلك ما خرجه الترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الرب تبارك وتعالى من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته ما أعطي السائلين - قال: - وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ". قال: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو محمد الدارمي السمرقندي في مسنده عن عبد الله قال: السبع الطول مثل التوراة، والمئون مثل الإنجيل، والمثاني مثل الزبور، وسائر القرآن بعد فضل. وأسند عن الحارث (1) في نسخة: ويؤجرون عنها إذا أجيبوا. (2) آية 21 سورة الحشر. (*)
[ 5 ]
عن على رضي الله عنه وخرجه الترمذي قال: سمعت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستكون فتن كقطع الليل المظلم. قلت يارسول الله وما المخرج منها ؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أصله الله هو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع من العلماء ولا يمله الأتقياء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا من علم علمه سبق ومن قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور (2) ". " الحارث " رماه الشعبي بالكذب وليس بشئ، ولم يبن من الحارث كذب، وإنما نقم عليه إفراطه في حب على وتفضيله له على غيره. ومن هاهنا - والله أعلم - كذبه الشعبي، لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبي بكر، وإلى أنه أول من أسلم. قال أبو عمر عبد البر: وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني: حدثني الحارث وكان أد الكذابين. وأسند أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري النحوي اللغوي في كتاب " الرد على من خالف مصحف عثمان " عن عبد الله بن مسعود قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل اللع وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة من تمسك به ونجاة من اتبعه لايعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعيب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشرة حسنات أما إني لاأقول الم حرف ولا ألفين أحدكم واضعا إحدى رجليه يدع أن يقرأ سورة البقرة فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت من الخير البيت الصفر من كتاب الله ". وقال أبو عبيد في غريبة عن عبد الله قال: إن هذا القرآن مأدبة (1) ورد هذا الحديث في صحيح الترمذي (ج 2 ص 149 طبع بولاق) مع اختلاف في بعض كلماته. زيادة ونقص. (2) قوله: يا أعور: لقب الحارث بن عبد اله المذكور ف يسند هذا الحديث (*)
[ 6 ]
الله فمن دخل فيه فهو آمن. قال: وتأويل الحديث أنه مثل، شبه القرآن بصنيع صنعه الله عزوجل للناس، لهم فيه الخير ومنافع، ثم دعاهم إليه. يقال: مأدبة ومأدبة، فمن قال: مأدبة، أراد الصنيع يصنعه الإنسان فيدعو إليه الناس. ومن قال: مأدبة، فأنه يذهب به إلى الأدب، يجعله مفعلة من الأدب، ويحتج بحديثه الآخر: " إن هذا القرآن مأدبة الله عزوجل فتعلموا من مأدبته ". وكان الأحمر يجعلها لغتين بمعنى واحد، ولم أسمع أحدا يقول هذا غيره. [ قال: ] والتفسير الأول أعجب إلى. وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه ". وروى مسلم عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل امؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لاريح لهاا وطعمها حلو ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لايقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا يرح لها وطعمها مر ". وفي رواية: " مثل الفاجر " بدل المنافق ". وقال البخاري: " مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لايقرأ القرآن كمثل التمرة... " وذكر الحديث. وذكر أبو بكر الأنباري: وقد أخبرنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم (1)، ح. وأنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب: أن أبا عبد الرحمن (1) جرت العادة بالاقتصار على الرمز في حدثنا وأخبرنا، واستمر الاصطلاح عليه من قديم الأعصار الى زماننا، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى، فيكتبون من حدثنا " ثنا " وهي الثاء والنون والألف، وربما حذفوا الثاء. ويكتبون من أخبرنا " أنا " ولا تحسن زيادة الباء قبل " نا "، وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد الى إسناد " ح " وهي حاء مهملة، والمختار أنها. مأخوذة من التحول، لتحوله من إسناد الى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها: " ح " ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز، لكونها حالت بين الاسنادين وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشئ، بل وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز الى قوله: " الحديث ". وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا، وهي كثيرة في صحيح مسلم، قليلة في صحيح البخاري. (عن مقدمة النووي على صحيح مسلم). (*)
[ 7 ]
السلمى كان إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له: يا هذا، اتق الله ! فما أعرف أحدا خيرا منك إن عملت بالذي علمت. وروى الدارمي عن وهب الذماري قال: من آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، وعمل بما فيه ومات على طاعة، بعثه الله يوم القيامة مع السفرة والأحكام. قال سعيد (2 1): السفرة الملائكة، والأحكام (2) الأنبياء. وروى مسلم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ". التتعتع: التردد في الكلام عيا وصعوبة، وإنما كان له أجران من حيث التلاوة ومن حيث المشقة، ودرجات الماهر فوق ذلك كله، لأنه قد كان القرآن متعتعا عليه، ثم ترقى عن ذلك إلى أن شبه بالملائكة. والله أعلم. وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ". قال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روى موقوفا. وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال: " أيكم يحب أن بغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين (3) في غير إثم ولاقطع رحم " فقلنا: يارسول الله، كلنا نحب ذلك، قال: " أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم (4) أو يقرأ آيتين من كتاب الله عزوجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل ". وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه (1) سعيد هذا، هو سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي، أحد رجال سند هذا الحديث. وفي الأصول: " سعد " وهو تحريف. (2) هكذا في نسخ الأصل وسنن الدارمي. ولعل الغرض وذوو الأحكام، أو هو جمع حكيم كشريف وأشرف أو حكم كبطل وأبطال. (3) " كوماوين " تثنية كوماء، أي مشرفة السنام عاليته. (4) قوله: فيعلم. ضبط بنصب الفعل ورفعه وبتشديد اللام من التعلم، وبتخفيفها من العلم (*)
[ 8 ]
في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له شريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن أبطأ به علمه لم يسره به نسبه ". وروى أبو داود والنسائي والدارمي والترمذي عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ". قال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجئ القرآن (1) يوم القيامة فيقول يا رب حله فيلبس تارج الكرامة ثم يقول يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال له اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة ". قال: حديث صحيح. وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ". وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شئ معه ". وأسند أبو بكر الأنباري عن أبي أمامة الحمصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعطى ثلث القرآن فقد أعطى ثلث النبوة ومن أعطى ثلثي القرآن أعطى ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله فقد أعطى النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق فيقرأ آية ويصعد درجة حتى ينجز ما معه من القرآن ثم يقال له اقبض فيقبض ثم يقال له اتدري ما في يديك فإذا في يده اليمنى الخلد وفي اليسرى النعين ". حدثنا إدريس بن خلف حدثنا إسماعيل بن عياش عن تمام عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أخذ ثلث القرآن وعمل به فقد أخذ ثلث النبوة ومن أخذ * (هامش) (1) الذي في نسخ الأصل: " يجئ صاحب القرآن ". والتصويب عن سنن الترمذي. (*)
[ 9 ]
نصف القرآن وعمل به فقد أخذ نصف النبوة ومن أخذ القرآن كله فقد أخذ النبوة كلها. قال: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي أنبأنا محمد وهو ابن سعدان حدثنا الحسن بن محمد عن حفص عن كثير بن زياد عن عاصم بن ضمرة عن علي رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن وتلاه وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كل قد وجبت له النار ". وقالت أو الدرداء: دخلت على عائشة رضى الله عنه فقلت لها: ما فضل من قرأ القرآن على من لم يقرأه ممن دخل الجنة ؟ فقالت عائشة رضى الله عنه: إن عدد اي القرآن على عدد درج الجنة، فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن. ذكره أبو محمد مكي. وقال ابن عباس: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله تبارك وتعالى يقول " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى (1) ". قال ابن عباس: فضمن الله لمن اتبع القرآن ألايضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وذكره مكي أيضا. وقال الليث يقال ماالرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن، لقول الله جل ذكره: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (2) ". و " لعل " من الله واجبة. وفي مسند أبي داود الطيالسي - وهو مستند ألف في الإسلام - عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قالم بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين " والآثار في معنى هذ الباب كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية، والله الموفق للهداية. (1) آية 123 سورة طه. (2) آية 204 سورة الاعراف. (3) قوله: " وهو أول مسند " الخ. قال صاحب الظنون: " والذي حمل قائل هذا القول تقدم عصره على أعصار من صنف المسانيد، وظن أنه هو الذي صنفه وليس كذلك، فانه ليس من تصنيف أبي داود، وإنما بعض الحفاظ الخراسانيين جمع فيه ما رواه يوسف بن حبيب خاصة عن أبي داود. ولأبي داود من الأحاديث التي لم تدخل هذا المسند قدره أو أكثر، كما ذكره البقاعي في حاشية الألفية ". وقد توفي الطيالسي سنة 204 ه. (*)
[ 10 ]
باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك روى البخاري عن قتادة قال: سألت رسول الله صلى عليه وسلم فقال: كان يمد مدا [ إذا ] قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم. وروى الترمذي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته يقول: " الحمد لله رب العالمين " ثم يقف " الرحمن الرحيم " ثم يقف، وكان يقرؤها " ملك يوم الدين ". قال: حديث غريب. وأخرجه أبو داود بنحوه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أحسن الناس صوتا من إذا قرأ رأيته (1) يخشى الله تعالى ". وروى عن زياد النميري أنه جاء مع القراء ألى أنس بن مالك فقيل له: اقرأ. فرقع صوته وطرب، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء فقلا: يا هذا، ما هكذا كانوا يفعلون ! وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الخرقة عن وجهه. وروى عن قيس بن عبادة أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الذكر. وممن روى عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن سعيد ين المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين والنخعي وغيرهم، وكرهه مالك بن أنس وأحمد بن حنبل، كلهم كره رفع الص. ت بالقرآن والتطريب فيه. روى عن سعيد بن المسيب أنه سمع عمر بن عبد العزيز ئ م الناس فطرب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله ! إن الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد. وروى عن القاسم بن محمد: أن رجلا قرأ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فطرب، فأنكر ذلك القاسم وقال يقول الله عزوجل: " وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (2) " الآية. وروى عن مالك أنه سئل عن النبر في قراءة القرآن في الصلاة، فأنكر وكرهه كراهة شديدة، وأنكر رفع الصوت به. وروى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الألحان في الصلاة (1) رأي هنا بمعنى علم، وفي بعض النسخ: " رأيته " بالبناء للمجهول، ومعناه الظن. (2) آية 41، 42 سورة فصلت (*)
[ 11 ]
فقال: لا يعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به، وذلك لأنه إذا حسن الصوت به كان أوقع في النف. س وأسمع في القلوب، واحتجوا بقوله عليه السلام: " زينوا القرآن بأصواتكم " رواه البراء بن عازب. أخرجه أبو داود والنسائي. وبقوله عليه السالم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أخرجه مسلم. وبقول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أعلم أنك تستمع لقراؤتي لحبرته لك تحبيرا. وبما رواه عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له سورة " الفتح " على راحلته فرجع في قراءته. وممن ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وابن المبارك والنظر بن شميل، وهو اختيار أبي جعفر الطبري وأبي الحسن بن بطال والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. قلت: القول الأول أصح لما ذكرناه ويأتي. وأما ما احتجو به من الحديث الأول فليس على ظاهره وإنما هو من باب المقلوب، أي زينوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطابي: وكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث: زينوا أصواتكم بالقرآن، وقالوا هو من باب المقلوب، كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة، وإنما هو عرضت الناقة على الحوض. قال: ورواه معمر عن منصور عن طلحة، فقدم الأصوات على القرآن، وهو صحيح. قال الخطابي: ورواه طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " زينوا القرآن بأصواتكم " أي الهجوا بقراءته واشغلوا به أصواتكم. اتخذوه شعارا وزينة، وقيل: معناه الحض على قراءة القرآن والدءوب عليه. وقد روى عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " زينوا أصواتكم بالقرآن ". وروى عن عمر أنه قال: " حسنوا أصولتكم بالقرآن ". قلت: وإلى هذا المعنى يرجع قوله عيله السلام: " وليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي ليس منا من لم يحسن صوته بالقرآن، كذلك تأوله عبد الله بن أبي مليكة. قال عبد الجبار ابن الورد: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عبد الله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لبابة فاتبعناه
[ 12 ]
حتى دخل بيته، فإذا رجل رث الهيئة، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، " ليس منا من لم يتغن بالقرآن ". قال فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ؟ قال: يحسنه ما استطاع. ذكره أبو داود، وإليه يرجع أيضا قول أبي موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحسنت صوتي بالقرآن، وزينته ورتلته. وهذا يدل [ على ] أنه كان يهذ (1) في قراءته مع حسن الصوت الذي جبل عليه. والتحبير: التزيين والتحسين، فلو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعه لمد في قراءته ورتلها، كما كان يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك زيادة في حسن صوته بالقراءة. ومعاذ الله أن يتأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن القرآن يزين بالأصوات أو بغيرها، فمن تأول هذا فقد واقع أمرا عظيما أن يحوج القرآن إلى من يزينه، وهو النور والضياء والزين الأعلى لمن ألبس بهجته واستنار بضيائه. وقد قيل: إن الامر بالتزيين اكتساب القراءات وتزيينها بأصواتنا وتقدير ذلك، أي زينو القراءة بأصواتكم، فيكون القرآن بمعنى القراءة، كما قال تعال " وقران الفجر (2) " أي قراءة الفجر، وقوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (3) " أي قراءته. وكما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: إن في البحر شياطين مسجونه أوثقها سليمان عليه السلام، ويوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا، أي قراءة. وقال الشاعر (4) في عثمان رضى الله عنه: ضحوا بأشمط (5) عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحا وقرآنا أي قراءة فيكون معناه على هذا التأويل صحيحا إلا أن يخرج القراءة التي هي التلاوة عن حدها - على ما نبينه - فيمتنع. وقد قيل: إن معنى يتغنى به، يستغنى به من الاستغناء الذي هو ضد الافتقار، لا من الغناء، يقال: تغنيت وتغانيت بنعنى استغنيت. وفي الصحاح: تغنى (1) الهذ والهذذ: سزعة القطع وسرعة القراءة. (2) آية 78 سورة الإسراء. (3) آية 18 سورة القيامة. (4) هو حسان بن ثابت رضى الله عنه. (5) الشمط بالتحريك: بياض شعر الرأس يخالطه سواده. وقيل: الشمط في الرجل شيب اللحية. (*)
[ 13 ]
الرجل بمعنى استغنى، واغناه الله. وتغانوا أي استغنى بعضهم عن بعض. قال المغيرة بن حبناء التميمي: كلانا غنى عن أخيه حياته * ونحن إذا متنا أشد تغانيا وإلى هذا التأويل ذهب سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح، ورواه سفيان عن سعد بن أبى وقاص. وقد روى عن سفيان أيضا وجه آخر ذكره إسحاق بن راهويه، أي يستغني به عما سواه من الاحاديث. والى هذا التأويل ذهب البخاري محمد بن إسماعيل لإتباعه الترجمة بقوله تعالى " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم (1) ". والمراد الاسستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم، قاله أهل التأويل. وقيل: إن معنى يتغنى به، يتحزن به، أي يظهر على قارئه الحزن الذي هو ضد السرور عند قراءته وتلاوته، وليس من الغنية، لأنه لو كان من الغنية لقال: يتغانى به، ولم يقل يتغنى به ذهب إلى هذا جماعة من العلماء: منهم الإمام أبو محمد ابن حبان البستي، واحتجوا بما رواه مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. الأزيز (بزايين): صوت الرعد وغليان القدر. قالوا: ففي هذا الخبر بيان واضح على أن المراد بالحديث التحزن، وعضدوا هذا أيضا بما رواه الأئمة عن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اقرأ على " فقرأت عليه سورة " النساء " حتى إذا بلغت " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هولاء شهيدا " فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان. فهذه أربع تأويلات، ليس فيها ما يدل على القراءة بالألحان والترجيع فيها. وقال أبو سعيد بن الأعرابي في قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " قال: كانت العرب تولع بالغناء والنشيد في أكثر أقوالها، فلما نزل القرآن أحبوا أن يكون القرآن هجيراهم (3) مكان الغناء، فقلا: " ليس منا من لم يتغت بالقرآن ". التأويل الخامس - ما تأوله من استدل به على الترجيع والتطريب، فذكر عمر بن شبة قال: ذكرت لأبي عاصم النبيل تأول ابن عيينة في قوله: " يتغن " يستغنى، فقال: (1) آية 51 سورة العنكبوت. (2) آية 41 سورة النساء. (3) هجيراهم: دأبهم وعادتهم. (*)
[ 14 ]
لم يضع ابن عيينة شيئا. وسئل الشافعي عن تأويل ابن عيينة فقال: نحن أعلم بهذا، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغناء لقال: من لم يستغن، ولكن قال " يتغن " علمنا أنه أراد التغني. قال الطبري: المعروف عندنا في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع. وقال الشاعر: تغن بالشعر مهما كنت قائله * إن الغناء بهذا الشعر مضمار قال: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فيس في كلام العرب وأشعارها، ولا نعلم أحد من أهل العلم قاله، وأما احتجاجه بقول الاعشى: وكنت امرأ زمنا بالعراق * عفيف المناخ طويل التغن وزعم أنه أراد الاستغناء فإنه غلط منه، وإنما عنى الأعشى في هذا الموضع الإقامة، من قول العرب: غني فلان بمكان كذا أي أقام، ومنه قوله تعالى: " كأن لم يغنوا فيه (1) " وأما استشهاده بقوله: * ونحن إذا متنا أشد تغانيا * فإنه إغفال منه، وذلك أن التغاني تفاعل من نفسين إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه، كما يقال: تضلرب الرجلان، إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه. ومن قال هذا في فعل الاثنين لم يجز أن يقول مثله في الواحد، فغير جائز أن يقال: تغانى زيد وتضارب عمرو، وكذلك غير جائز أن يقال: تغنى بمعنى استغنى. قلت: ما ادعاه الطبري من أنه لم يرد في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى، فقد ذكره الجوهري كما ذكرنا، وذكره الهروي أيضا. وأما قوله: إن صيغة فاعل إنما تكون من اثنين فقد جاءت من واحد في ماضيع كثيرة، منها قول ابن عمر: وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام. وتقول العرب: طارقت النعل وعاقبت اللص وداويت العليل، وهو كثير، فيكون تغاني منها. وإذا احتمل قوله عليه الصلاة والسلام: " يتغن " الغناء والاستغناء فليس حمله على أحدهاما بأولى من الآخر، بل حمله على الاستغناء أولى لو لم يكن لنا تأويل غيره، لأنه مروي عن (1) آية 92 سورة الأعراف. (*)
[ 15 ]
صحابي كبير كما ذكر سفيان. وقد قال ابن وهب في حق سفيان: ما رأيت أعلم بتأويل الأحاديث من سفيان بن عيينة، ومعلوم أنه رأى الشافعي وعاصره. وتأويل سادس - وهو ما جاء من الزيادة في صحيح مسلم عن أبي هريرة حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ". قال الطبري ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى. قلنا قوله: " يجهر به " لا يخلو أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو من قول أبي هريرة أو غيره، فإن كان الأول وفيه بعد، فهو دليل على عدم التطريب والترجيع، لأنه لم يقل: يطرب به، وإنما قال: يجهر به: أي يسمع نفسه ومن يليه، بدليل قوله عليه السلام للذي سمعه وقد رفع صوته بالتهليل: " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا.... " الحديث، وسيأتي. وكذلك إن كان من صحابي أو غيره فلا حجة فيه على ما راموه، وقد اختار هذا التأويل بعض علمائنا فقال: وهذا أشبه، لأن العرب تسمي كل من رفع صوته ووالى به غانبا، وفعله ذلك غناء وإن لم يلحنه بتلحين الغناء. قال: وعلى هذا فسره الصحابي، وهو أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد احتج أبو الحسن لمذهب الشافعي فقال: وقد رفع الإشكال في هذه المسألة ما رواه ابن أبي شيبة قال حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا القرآن وغنوا به واكتبوه فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا (3) من المخاض من العقل ". قال علمائنا: وهذا الحديث وإن صح سنده فيرده ما يعلم على القطع والبتات من أقراءة القرآن بلغتنا متواترة عن كافة المشايخ، جبيلا فجيلا إلى العصر الكريم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيها تلحين (1) قوله: ما أذن.... الخ قال المناوي: يعني ما رضى الله من المسموعات شيئا هو أرضى عنده ولا أحب إليه من قول نبي يتغنى بالقرآن، أي يجهر به ويحسن صوته بالقراءة بخشوع وتحزن، وأراد بالقران ما يقرأ من الكتب المنزلة. (2) قوله: " اربعوا " أي كفوا وارفقوا. (3) التفصي: التقلب والخروج. (*)
[ 16 ]
ولاتطريب، نع كثرة المتعمقين في مخارج الحروف وفئ المد والإدغام والإظهار وغير ذلك من كيفية القراءات. ثم إن في الترجيع والتطريب همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود، فترجيع الألف الواحدة ألفات والواو الواحدة واوات والشبة (1) الواحدة شبهات، فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك ممنوع، وإن وافق ذلك موضع نبر وهمز صيروها نبرات وهمزات، والنبرة حيثما وقعت من الحروف فإنما هي همزة واحدة لاغير، إما ممدودة وإما مقصورة. فإن قيل: فقد روى عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسوئل الله صلى الله عليه وسلم في مسير له سورة " الفتح " على راحلته فرجع في قراءته، وذكره البخاري وقال في صفة الترجيع: آء آء آء، ثلاث مرات. قلنا: ذلك محمول على إشباع المد فئ موضعه، ويحتمل أن يكون صوته عند هز الراحلة، كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبا من اضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب، وإذا احتمل هذا فلاحجة فيه. وقد خرج أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال: كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ليس فيها ترجيع وروى ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الأذان سهل سمح فإذا كان أذانك سمحا سهلا وإلا فلا تؤذن ". أخرجه الدارقطنئ في سننه فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد منع ذلك في الأذان فأحرى ألا يجوزه في القرآن الذي حفظه الرحمن، فقال وقوله الحق: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (2) ". وقال تعالى: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (3) ". قلت: وهذا الخلاف إنما هو ما لم يفهم معنى القرآن بترديد الأصوات وكثرة الترجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك لا يفهم معناه فذلك حرام باتفاق، كما يفعل القراء بالديار المصرية الذين يقرءون أمام الملوك والجنائز، ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضل سعيهم، وخاب * (هامش) (1) سيذكر المؤلف في باب (ذكر معنى الصورة والآية) الخ: أن الشبهات هي الحروف، ولم أر هذا التعبير لغيره. (2) آية 9 سورة الحجر. (3) آية 42 سورة فصلت. (*)
[ 17 ]
عملهم، فسيحتلون بذلك تغيير كتاب الله، ويهونون على أنفسهم الاجتراء على الله بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه، جهلا بدينهم، ومروقا عن سنة نبيهم، ورفضا لسير الصالحين فيه من سلفهم، ونزوعا إلى ما يزين لهم الشيطان من أعمالهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فهم في غيهم يترددون، وبكتاب الله يتلاعبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! لكن أخبر الصادق أن ذلك يكون، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. ذكر الامام الحافظ أبو الحسين رزين وأبو عبد الله الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " من حديث حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق ولحون أهل الكتابين وسيجئ بعدي قوم يرجعون بالفرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز جناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ". اللحون: جمع لحن، وهو التطريب وترجيع الصوت وتحسينه بالقراءة والشعر والغناء. قال علمائنا: ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ وفي المجالس من اللحون الأعجمية التي يقرءون بها، ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والترجيع في القراءة: ترديد الحرف كقراءة النصارى. والترتيل في القراءة هو التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل، وهو المشبه بنور الاقحوان، وهو المطلوب في قراءة القرآن، قال الله تعالى: " ورتل القرآن ترتيلا (1) ". وسئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، فقالت: مالكم وصلاته ! [ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح (2)، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا. أخرجه النسائي وأبو دائد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. باب تحير أهل القرآن والعلم من الرياء وغيره قال الله تعالى: " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا (4) ". روى مسلم عن أبي هريرة (1) آية 4 سورة المزمل. (2) الزيادة عن سنن الترمذي وأبي داود. (3) آية 36 سورة النساء. (4) آية 110 سورة الكهف. (*)
[ 18 ]
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال علام وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أنصاف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ". ئقال الترمذي في هذا الحديث: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: " يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ". أبو هريرة اسمه عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقال: كنيت أبا هريرة لأني حملت هرة في كمي، فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما هذه " ؟ قلت: هرة، فقال: " يا أبا هريرة ". قال ابن عبد البر: وهذا الحديث فيمن لم يرد بعمله وعلمه وجه الله تعالى. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار ". وخرج ابن المبارك في رقائقه عن العباس بن عبد المطلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يهظر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى نحاض ابحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرءون القرآن فإذا قرءوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا " ثم التفت إلى أصحابه فقال: " هل ترون في أولئكم من خير " قالوا: لا. قال: " أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار ". وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعلم علما مما يبتغي به وجه لله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ". يعني ريحها. قال الترمذي: حديث
[ 19 ]
حسن. وروى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعوذوا بالله من جب الحزن " قالوا: يارسول الله وما جب الحزن ؟ قال: " واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم مائة مرة " قيل: يارسول الله ومن يدخله ؟ قال: " القراء المراءون بأعملهم " قال: هذا حديث غريب. وفي كتاب أسد بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن في جهنم لواديا إن جهنم لتتعوذ من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن في ذلك الوادي لجبا إن جهنم وذلك الوادي ليتعوذون بالله من شر ذلك الجب وإن فط الجب لحية وإن جهنم والوادي والجب ليتعوذون بالله من شر تلك الحية سبع مرات أعدها الله للاشقياء من حملة القرآن الذين يعصون الله ". فيجب على حامل القرآن وطالب العلم أن يتقي الله في نفسه ويخلص العمل لله، فإن كان تقدم له شئ مما يكره فليبادر التوبة التوبة والإنابة، وليبتدئ الإخلاص في الطلب. عمله. فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أكثر مما يلزم غيره، كما أن له من الأجر ما ليس لغيره. وروى الترمذي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل اله في بعض الكتب - أوأوحى - إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخر يلبسون للناس مسوك (1) الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزئون لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران ". وخرج الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء جدثنا المحاربي عن عمرو بن عامر البجلي عن ابن صدقة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو من حدثه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر ". قالوا يارسول الله، وكيف يخادع الله ؟ قال: " تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره واتقوا الرياء فإنه الشرك وإن المرائي يدعى يوم القيامة على رءوس الأشهاد بأربعة أسماء ينسب إليها يا كافر يا خاسر يا غادر يا فاجر ضل عملك وبطل (1) المسوك (جمع مسك، بفتح ثم سكون): الجلد.
[ 20 ]
أجرك فلا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع. وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: كيف أنتم ! لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم الكبير، وتتخذ سنة مبتدعة يجري عليها الناس فإذا غير منها شئ قيل: غيرت السنة. قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: إذا كثر قراؤكم. قل فقهائكم، وكثر أمراؤكم، وقل أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين. وقال سفيان بن عيينة: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: لو إن حملة القرآن أخذوه بحقه وما ينبغي لأحبهم الله، ولكن ي لبوا به الدنيا فأبغضهم الله، وهانوا على الناس. وروى عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى: " فكبكبوا (1) فيها هم والغاوون " قال: قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره.. سيأتي لهذا الباب مزيد بيان في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى. باب ما ينبغي لصاحب القرآن إن يأخذ نفسه به ولا يغفل عنه فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله عزوجل كما ذكرنا، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن في ليله ونهاره، في الصلاة أو في غير الصلاة لئلا ينساه. وروى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه وينبغي له أن يكون لله حامدا، ولنعمه شاكرا، وله ذاكرا، وعليه متوكلا، وبه مستعينا وإليه راغبا، وبه معتصما، وللموت مستعدا. وينبغي له أن يكون خائفا من ذنبه، راجيا عفو ربه، ويكون الخوف في صحته أغلب عليه، إذا لا يعلم بما يختم له، ويكون الرجاء عند حضور أجله أقوى في نفسه، لحسن الظن بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن ". أي أنه يرحمه ويغفر له. وينبغي له أن يكون عالما بأهل زمانه، متحفظا من سلطانه، ساعيا في خلاص نفسه، ونجاة مهجته، مقدما بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه، مجاهدا لنفسه في ذلك ما استطاع. وينبغي له أن يكون أهم أموره عنده الورع في دينه، واستعمال تقوق الله ومراقبته فيما أمره به ونهاه عنه. (1) آية 94 سورة الشعراء. (*)
[ 21 ]
وقال ابن مسعود: يبنغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مستيقضون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخضوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون. وقال عبد الله بن عمرو: لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن، لأن في جوفه كلام الله تعالى. وينبغي له أن يأخذ نفسه بالتصاون عن طرق الشبهات، ويقل الضحك والكلام في مجالس القرآن وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار. وينبغي له أن يتواضع للفقراء، ويتجنب التكبر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب. وينبغي له أن يكون ممن يؤن شره، ويرجى خيره ويسلم من ضره، وألايسمع ممن نم عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق ويزينه ولا يشينه، وينبغي له أن يتعلم أحكام القرآن، فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه، فينتفع بما يقرأ ويعمل بما يتلو، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه، وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه ولايدريه، فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا. وينبغي له أن يعرف المكي من المدني ليفرق بذلك بين ما خاي ب الله به عباده في أول الإسلام، وماندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أول الإسلام، وما زاد عليه من الفرائض في آخره. فالمدني هو الناسخ للمكي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني، لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل الناسخ له. ومن كماله أن يعرف الإعراب والغريب، فذلك مما يسهل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشك فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبيري سمعت الجرمي يقول: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه. قال محمد بن يزيد: وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير. ثم في السنن المأثورة الثابته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
[ 22 ]
فيما يصل إلى مراد الله عزوجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا، وقد قال الضحاك في قوله تعالى: " ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب (1) ". قال: حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها. وذكر ابن أبي الجوزي قال: أتينا فضيل بن عياض سنة خمس وثمانين ومائة ونحن جماعة، فوقفنا على الباب فلم يأذن لنا بالدخول، فقال بعض القوم: إن كان خارجا لشئ فسيخرج لتلاوة القرآن، فأمرنا قارئا فقرأ فاطلع علينا من كوة، فقلنا: السلام عليك ورحمة الله، فقال وعليكم السلام، فقلنا: كيف أنت يا أبا علي، وكيف حالك ؟ فقال: أنا من الله في عافية ومنكم في أذى، وإن ما أنتم فيه حديث في الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! ما هكذا كنا نطلب العلم، ولكنا كنا نأتي المشيخة فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم، فنجلس دونهم ونسترق السمع، فإذا مر الحديث سألناهم إعادته وقيدناه، وأنتم تطلبون العلم بالجهل، وقد ضيعتم كتاب الله، ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون، قال: قلنا قد تعلمنا القرآن، قال: إن في تعلمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم، قلنا: كيف يا أبا علي ؟ قال: لن تعلموا القرآن حتى تعرف. ا إعرابه، ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه، إذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة،، ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم " يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ئرحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (2) ". قلت: فإذا حصلت هذه المراتب لقارئ القرآن كان ماهرا بالقرآن، وعالما بالفرقان، وهو قريب على من قربه عليه، ولا ينتفع بشئ مما ذكرنا حتى يخلص النية فيه لله جل ذكره عند طلبه أو بعد طلبه كما تقدم. فقد يبتدئ الطالب للعلم يريد به المباهاة والشرف في الدنيا، فلا يزال به فهم العلم حتى يتبين أنه على خطأ في اعتقاده فيتوب من ذلك ويخلص النية لله تعالى فينتفع بذلك ويحسن حاله. قال الحسن: كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة. وقاله سفيان الثوري. وقال بن أبي ثابت: طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد. (1) آية 79 سورة آل عمران. (2) ايتا 57، 58 سورة يونس. (*)
[ 23 ]
باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا قال أبو بكر الأنباري: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن اصحابه وتابعيهم رضوان الله عليهم - من تفضيل إعراب القرآن، والحصن على تعليمه، وذم اللحن وكراهيته - ما وجب به على قراء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه. من ذلك ما حدثنا يحيى بن سليمان الضبي قال حدثنا محمد - يعني ابن سعيد - قال حدثنا أبو معاوية عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ". حدثني أبي قال حدثنا إبراهيم ابن الهيثم قال حدثنا آدم - يعني ابن إياس - قال حدثنا أبو الطيب المروزي قال حدثنا عبد الغزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فلم يعربه وكل به ملك يكتب له كما أنزل بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه وكل به ملكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة فإن أعربه وكل به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة ". وروى جويبر عن الضحاك قال قال عبد الله ابن مسعود: جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، واعربوه فإنه عربي، والله يحب ان يعرب به. وعن مجاهد عن ابن عمر قال: أعربوا القرآن. وعن محمد بن عبد الرحمن ابن زيد قال قال أبو بكر وعمر رضى الله عنهما: لبعض إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ حروفه. وعن الشعبي قال قال عمر رحمه الله: من قرأ القرآن فأعربه كان له عند الله اجر شهيد. وقال مكحول: بلغني أن من قرأ بإعراب كان له من الأجر ضعفان ممن قرأ بغير إعراب. وروى ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي ". وروى شفيان عن أبي حمزة قال قيل للحسين في قوم يتعلمون العربية قال: أحسنوا، يتعلموا لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم. وقيل للحسن: إن لنا أماما يلحن، قال: أخروه.
[ 24 ]
وعن ابن أبي مليكه قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: من يقرئني مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: فأقرأه رجل " براءة "، فقال: " إن الله برئ من المشركين ورسوله ". بالجر فقال الأعرابي: أوقد برئ الله من رسوله ؟ فإن يكن الله برئ من رس. له فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر مقالة الأعرابي: فدعاه فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة ولاعلم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فاقرأني هذا سورة " براءة " فقال: " إن الله برئ من المشركين ورسوله "، فقلت أو قد برئ الله من رسوله، أن يكن الله برئ من رسوله فأنا إبرأ منه، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي، قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين ؟ قال " أن الله برئ من المشركين ورسوله " فقال الأعرابي: وأنا أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ابن الخطاب رضى الله عنه ألايقرئ الناس إلا عالم باللغة، وأمر أبا الاسود (1) فوضع النحو. وعن علي بن الجعد قال سمعت شعبة يقول: مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية مثل الحمار عليه مخلاة لاعلف فيها. وقال حماد بن سلمة: من طلب الحديث ولم يعلم النحو - أو قال العربية - فهو كمثل الحمار تعلق عليه مخلاة ليس فيها شعير. قال ابن عطية: إعراب القرآن أصل في الشريعة، لأن بذلك تقوم معانيه التي هي الشرع. قال ابن الأنباري: وجاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم رضوان الله عليهم، من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله باللغة والشعر ما بين صحة مذهب النحويين في ذلك، وأوضح فساد مذهب من أنكر ذلك عليهم. من ذلك ما حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزتز قال حدثنا ابن أبي مريم قال: أنبأنا ابن فروخ قال أخبرني أسامة قال أخبرني عكرمة أن ابن عباس قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب. وحدثنا إدريس بن عبد الكريم قال حدثنا خلف قال حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان قال سمعت سعيد بن جبير ويوسف بن مهران يقولان: سمعنا ابن عباس يسال عن الشئ بالقرآن، فيقول فيه هكذا وهكذا، أما سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا. وعن عكرمة (1) يجوز أن يكون أمر أبي الأسود بوضع النحو تكرر من عمر ومن علي. (*)
[ 25 ]
عن ابن عباس، وسأله رجل عن قول الله عزوجل: " وثيابك فطهر (1) " قال: لا تلبس ثيابك على غدر، وتمثل بقول غيلان الثقفي: فإني بحمد الله لاثوب غادر * لبست ولامن سوءة اتقنع (2) وسأل رجل عكرمة عن الزنيم قال: هو ولد الزنى، وتمثل ببيت شعر: زنيم ليس يعرف من أبوه * بغى الأم ذو حسب لئيم وعنه أيضا الزنيم: الداعي الفاحش اللئيم، ثم قال: زنيم تداعاه الرجال زيادة * كما زيد في عرض الأديم الأكارع (3). وعنه في قوله تعالى: " ذواتا أفنان (4) " قال: ذواتا ظل وأغصان، ألم تسمع إلى قول الشاعر: ما هاج شوقك من هديل حمامة * تدعو على فنن الغصون حماما - تدعو أبا فرخين صادف طائرا * ذا مخلبين من الصقور قطاما وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: " فإذا هم بالساهرة (5) " قال: الأرض، قاله ابن عباس. وقال أمية بن أبي الصلت، " عندهم (6) لحم بحر ولحم ساهرة ". قال ابن الأنباري: والرواة يروون هذا البيت: وفيها لحم ساهرة وبحر * وما فاهوا به لهم مقيم وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قول الله عزوجل: " لا تأخذه سننة ولانوم " ما السنة ؟ قال: النعاس، قال زهير بن أبي سلمى: لاسنة في طول الليل تأخذه * ولا ينام ولا في أمره فند (7) (1) آية 4 سورة المدثر. (2) أورد المؤلف في تفسيز سورة المدثر ج 19 ص 62 هذا البيت برواية أخرى هكذا: فاني بحمد الله لاثوب فاجر * لبست ولامن غدرة أتقنع. (3) كذا في اللسان والكامل للمبرد. وفي الأصول: أكارعه ". (4) آية 48 سورة الرحمن. (5) آية 14 سورة النازعات. (6) كذا في الأصول، ولعل ابن عباس يريد ما تضمنه البيت الذي قاله أمية والذي ذكره ابن الأنباري فيما يلي، وسيأتي للمصنف في تفسير سورة النازعات ج 19 ص 197 هذا البيت. (7) الفند (بالتحريك): ضعف الرأي من الكبر، وقد يستعمل في غير الكبر. (*)
[ 26 ]
باب ما جاء في فضل تفسير القرآن وأهله قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين، فمن ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداءك ! تصف جابر بالعلم وأنت أنت ! فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد (1) ". وقال مجاهد: أحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن: والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أنزلت وما يعني بها. وقال الشهبي: رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام: فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة في قوله عزوجل: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله (2) " طلبت اسم هذا الرجل [ الذي خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله (3) ] أربع عشرة سنة حتى وجدته. وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب، وسيأتي. وقال ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى اله عليه وسلم، ما يمنعني إلا مهابته، فسألته فقال: هي حفصة وعائشة. وقال أياس بن معاوية: مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرءوا ما في الكتاب. باب ما جاء في حامل القرآن ومن هو، وفيمن عاداه قال أبو عمر: روى من وجوه فيها لين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة: الإمام المقسط وذي الشيبة وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه ". وقال أبو عمر: وحملة القرآن هم العلمون بأحكامه، وحلاله وحرامه، والعاملون بما فيه. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القرآن أفضل من كل شئ فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن استخف بالقرآن استخف بحق الله تعالى حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله المعظمون كلام الله الملبسون نور الله فمن والهم فقد والى اللع ومن عاداهم فقد استخف بحق الله تعالى ". (1) آية 85 سورة القصص. (2) آية 100 سورة النساء. (3) الزيادة من تفسير قطب الدين الشيرازي. (*)
[ 27 ]
باب ما يلزم قارئ القرآن وحامله من تعظيم القرآن وحرمته قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول: " فمن حرمة القرآن ألا يمسه إلاطاهرا. ومن حرمتة أن يقرأه على طهارة. ومن حرمته أن يستاك ويتحلل فيطيب فاه، إذ هو طريقه. - قال يزيد بن أبي مالك: إن أفواهكم طرق من طرق القرآن، فطهروها ونظفوها ما استطعتم. - ومن حرمته أن يتلبس (1) كما يتلبس للدخول على الأمير لأنه مناج. ومن حرمته أن يستقبل القبلة لقراءته. - وكان أبو العالية إذا قرأ اعتم ولبس وآرتدى واستقبل القبلة. - ومن حرمته أن يتمضمض كلما تنخع (2). روى شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس: أنه كان يكون بين يديه تور (3) إذا تنخع مضمض، ثم أخذ في الذكر، وكان كلما تنخع مضمض. ومن حرمته إذا تثائب أن يمسك عن القراءة لأنه أذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج، والتثاؤب من الشيطان. - قال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن تعظيما حتى يذهب تثاؤبك. وقاله عكرمة. يريد أن في ذلك الفعل إجلالا للقرآن -. ومن حرمته أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم، ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إن كان ابتدأ قراءته من أول السورة أو من حيث بلغ. ومن حرمته إذا أخذ في القرءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميين من غير ضرورة. ومن حرمته أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه، لأنه إذا فعل ذلك زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء. ومن حرمته أن يرأه على تؤدة وترسيل وترتيل. ومن حرمته أن يستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل مايخاطب به. ومن حرمته أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه. ومن حرمته أن يقف على أمثاله فيتمثلها. ومن حرمته أن يلتمس غرائبه (4). ومن حرمته أن يؤدي لكل حرف حقه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماما، فإن بكل حرف عشر حسنات. ومن حرمته إذا انتهت قراءته أن يصدق ربه، ويشهد بالبلاغ (1) يقال: تلبس بالثوب بمعنى لبسه. (2) تنخع كتنخم وزنا ومعنى. (3) التور، إناء يشرب فيه. (4) في نوادر الأصول: " إعرابه ". وكلاهما مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه " رواه الحاكم والبيهقي. (*)
[ 28 ]
لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويشهد على ذلك أنه حق، فيقول: صدقت ربن وبلغت رسلك، ونحن على ذلك من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، ثم يدعو بدعوات. ومن حرمته إذا قرأه ألا يلتقظ الآي من كل سورة فيقرأها، فإنه روى لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه مر ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئا، فأمره أن يقرأ السورة كلها أو كما قال عليه السلام. ومن حرمته إذا وضع المصحف الايتركه منشورا، وألايضع فوقه شيئا من الكتب حتى يكون أبدا عاليا لسائر الكتب، علما كان أو غيره. ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأه أو على شئ بين يديه ولا يضعه بالارض. ومن حرمته ألا يمحوه من اللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء. ومن حرمته إذا غسل بالماء أن يتوقى النجاسات من المواضع، والماقع التي توطأ، فإن لتلك الغسالة حرمة، وكان من قبلنا من السلف منهم من يستشفى بغسالته. ومن حرمته ألا يتخذ الصحيفة إذا بليت ودرست وقاية للكتب، فإن ذلك جفاء عظيم، ولكن يمحوها بالماء. ومن حرمته ألا يخلى يوما من أيامه من النظر في المصحف مرة، وكان أبو موسى يقول: إني لأستحيى ألا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة. ومن حرمته أن يعطي عينيه حظهما من، فإن العين نؤدي إلى النفس، وبين النفس والصدر حجاب، والقرآن في الصدر، فإذا قرأه عن ظهر قلب فانما يسمع أذنه فتؤدى إلى النفس، فأذا نظر في الخط كانت العين والاذن قد اشتركتا في الأداء وذلك أوفر للأداء، وكان قد أخذت العين حظها كاالأذن. روى زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطوا أعينكم حظها من العبادة " قالوا: يارسول الله وما حظها من العبادة ؟ قال: " النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه ". وروى مكحول عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نطرا ". ومن حرمته ألا يتأوله عندما يعرض له شئ من أمر ادنيا. - حدثنا عمرو بن زياد الحنظلي قال حدثنا هشيم بن بشير عن المغيرة عن إبراهيم قال: كان يكره أن يتأول شي من القرآن عند ما يعرض له شئ من أمر الدنيا، - والتأويل مثل قولك للرجل إذا جاءك: جئت على قدر
[ 29 ]
يا موسى، ومثل قوله تعالى: " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (1) " هذا عند حضور الطعام وأشباه هذا. وومن حرمته الايقال: سورة كذا، كقولك: سورة النحل وسورة البقرة والنساء، ولكن يقال: السورة التي يذكر فيها كذا. - قلت: هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه " خرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود. - و. من حرمته ألايتلى منكوسا كفعل معلمي الصبيان، يلتمس أحدهم بذلك أن يرى الحذق من نفسه والمهارة، فإن تلك مخالفة. ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين المتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفا، فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه. ومن حرمته ألا يقرأه بألحان الغناء إلحون أهل الفسق، ولابترجيع النصارى ولانوح الرهبانية، فإن ذلك كله زيغ وقد تقدم. ومن حرمته أن يجلل تخطيطه إذا خطه. وعن أبي حكيمة أنه كان يكتب المصاحف بالكوفة، فمر علي رضى الله عنه فنظر إلى كتابته فقال له: أجل قلمك، فأخذت القلم فقططته من طرفه قطا، ثم كتبت وعلي رضى الله قائم ينظر إلى كتابني، فقال: هكذا، نوره كما نوره الله عزوجل. ومن حرمته ألايجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد عليه حتى يبغض إليه ما يسمع ويكون كهيئة المغالبة. ومن حرمته ألايمارى ولا يجادل فيه في القراءات، ولا يقول لصتحبه: ليس هكذل هو، ولعله أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن، فيكون قد جحد كتاب الله. ومن حرمته ألا يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراما، هذا لمروره بنفسه، فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو ومجمع السفهاء. ومن حرمته ألا يتوسد المصحف ولا يعتمد عليه، ولايرمي به ألى صاحبه إذا أراد أن يناوله. ومن حرمته ألا يصغر المصحف، روى الأعمش عن إبراهيم عن علي رضى الله عنه قال: لا يصغر المصحف. قلت: وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه رأى مصحفا في يد رجل فقال: من كتبه ؟ قال: أنا، فضربه بالدرة، وقال: عظموا القرآن. وروى عن رسول * 0 هامش) * (1) اية 24 سورة الحاقة. (*)
[ 30 ]
الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال: مسيجد أو مصيحف. - ومن حرمته ألا يخلي فيه مليس منه. ومن حرمته ألا يحلى بالذهب ولا يكتب بالذهب فتخلط به زينة الدنيه: وروى مغيرة عن إبراهيم: أنه كان يكره أن يحلى المصحف أو يكتب بالذهب أو يعلم عند رئوس الآى أو يصغر. وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدبار (1) عليكم ". وقال ابن عباس وقد رأى مصحفا زين بفضة: تغرون به السارق وزينته في جوفه. ومن حرمته ألا يكتب على الأرض ولا على حائط كما يفعل به في المساجد المحدثة. حدثنا محمد بن علي الشقبقي عن أبيه عن عبد الله بن المبارك عن سفيان عن محمد بن الزبير قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يحدث قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب في أرض، فقال لشاب من أهل هذيل: " ماهذا: قال: من كتاب الله كتبه يهودي، فقال: " لعن الله من فعل هذا لا تضعوا كتاب الله إلا موضعه ". قال محمد بن الزبير: رأى عمر بن عبد العزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط فضربه. ومن حرمته أنه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم ألا يصبه على كناسة، ولا في موضع نجاسة، ولا على موضع يوطأ، ولكن ناحية من الأرض في بقعة لايطؤه الناس، أو يحفر حفيرة في موضع طاهر حتى ينصب من جسده في تلك الحفيرة ثم يكبسها، أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري. ومن حزمته أن يفتتحه كلما ختمه حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ختم يقرأ من أول القرآن قدر خمس آيات، لئلا يكون في هيئة المهجور. وروى ابن عباس قال جاء رجل فقال: يارسول الله، أي العمل أفضل ؟ قال: " عليك بالحال المرتحل " قال: وما الحال المرتحل ؟ قال: " صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره ثم يضرب في أوله كلما حل ار تحل ". - قلت: ويستحب له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله. وذكر أبو بكر لأنباري أنبأنا إدريس حدثنا حلف حدثنا وكع عم معسر عن قتادة: أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع. (1) الدبار: الهلاك. وفي نوادر الأصول: " فالدمار " بالميم بدل الباء الموحد. (*)
[ 31 ]
اهله ودعا. واخبرنا ادريس حدثنا جرير عن منصور عن الحكم قال: كان مجاهد وعبدة بن لبابة وقوم يعرضون المصاحف، فإذا ارادوا ان يختموا وجهوا الينا: احضرونا، فإن الرحمة تنزل عند ختم القران. واخبرنا ادريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام عن ابراهيم التيمي قال: من ختم القران اول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسى ومن ختم اول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، قال: فكانوا يستحبون ان يختموا اول الليل واول النهار. - ومن حرمته الا يكتب التعاويذ منه ثم يدخل به في الخلاء الا ان يكون في غلاف من ادم أو فضة أو غيره، فيكون كأنه في صدرك ومن حرمته إذا كتبه وشربه سمى الله على كل نفس وعظم النية فيه فان الله يؤتيه على قدر نيته. روى ليث عن مجاهد قال: لا بأس ان تكتب القرآن ثم تسقيه المريض. وعن ابي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة فليكتب " يس " في جام بزعفران ثم يشربه. قلت: ومن حرمته الا يقال: سورة صغيرة وكره أبو العالية ان يقال: سورة صغيرة أو كبيرة وقال لمن سمعه قالها: انت اصغر منها، واما القران فكله عظيم، ذكره مكى رحمه الله. قلت: وقد روى أبو داود ما يعارض هذا من حديث عمر بن شعيب عن ابيه عن جده انه قال: مامن المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة الا قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة. باب ما جاء من الوعيد في تفسير القران بالرأى، والجرأة على ذلك، ومراتب المفسرين روى عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من كتاب الله الا ايا بعدد: علمه اياهن جبريل. قال ابن عطية: ومعنى هذا الحديث في مغيبات القران، وتفسير مجمله ونحوا هذا، مما لا سبيل إليه الا بتوفيق من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به، كوقت قيام الساعة ونحوها مما يستقرى من الفاظه، كعدد
[ 32 ]
النفخات في الصور، وكربتة خلق خلق السموات والارض. روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الحديث على الا ما علمتم فمن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وروى ايضا عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القران برأيه فأصاب فقد اخطأ. قال: هذا حديث غريب. واخرجه أبو داود وتكلم في احد رواته. (1) وزاد رزين: ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر. قال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الانباري النحوي اللغوي في كتاب الرد: فسر حديث ابن عباس تفسيرين، احدهما - من قال في مشكل القران بما لا يعرف من مذهب الاوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله. والجواب الاخر - وهو اثبت القولين واصحهما معنى -: من قال القران قولا يعلم ان الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار. ومعنى يتبوأ: ينزل ويحل، قال الشاعر: وبوئت في صميم معشرها * فتم في قومها مبوؤها (2) وقال في حديث جندب: فحمل بعض اهل العلم هذا الحديث على ان الرأى معنى به الهوى، من قال في القران قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن ائمة السلف فأصاب فقد اخطأ، لحكمه على القران بما لا يعرف اصله، ولا يقف على مذهب اهل الأثر والنقل فيه. وقال ابن عطية: " ومعنى هذا ان يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عزوجل فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء، واقتضته قوانين العلم كالنحو والاصول، وليس يدخل في هذا الحديث ان يفسر اللغويون لغته والنحويون نحوه والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبنى على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه ". (1) قوله: احد رواته. هو سهيل بن ابي حزم واسمه مهران ويقال: عبد الله. (2) جاء في لسان العرب مادة بوأ تفسيرا لهذا البيت: " اي نزلت من الكرم في صميم النسب ". (3) قوله: فيتسور عليه. تسور الحائط. هجم مثل اللص. ويغنى به هنا التهجم والاقدام بغير بصيرة ولا تدبر. (*)
[ 33 ]
قلت: هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإن من قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالاصول فهو مخطئ، وان من استنبط معناه بحمله على الاصول المحكمة المتفق على معناها فهو ممدوح. وقال بعض العلماء: ان التفسير موقوف على السماع، لقوله تعالى: " فإن تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول " (1) وهذا فاسد لأن النهي عن تفسير القران لا يخلو: اما ان يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به امرا اخر. وباطل ان يكون المراد به الا يتلكم احد في القران الا بما سمعه، فإن الصحابة رضى الله عنهم قد قرءوا القران واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، فان كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك ! وهذا بين لا اشكال فيه، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " النساء " ان شاء الله تعالى، وانما النهي يحمل على احد وجهين: احدهما - ان يكون له في الشئ رأي، واليه ميل من طبعه وهواه، فيتأول القران على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأى والهوى لكان لا يلوح له من القران ذلك المعنى. وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القران على تصحيح بدعته، وهو يعلم ان ليس المراد بالاية ذلك، ولكن مقصوده ان يلبس على خصمه، وتارة يكون مع الجهل، وذلك إذا كانت الاية محتملة فيميل فهمه الى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسر برأيه اي رأيه حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وتارة يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القران ويستدل عليه بما يعلم انه ما اريد به، كمن يدعو الى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله تعالى: " اذهب الى فرعون انه طغى " (2) ويشير الى قلبه، ويومئ الى انه المراد بفرعون، هذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسينا للكلام وترغيبا للمستمع، وهو ممنوع لانه قياس في اللغة، وذلك غير جائز. وقد تستعمله (1) اية 59 سورة النساء. (2) اية 24 سورة طه. (*)
[ 34 ]
الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم الى مذاهبهم الباطلة، فينزلون القران على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعا انها غير مرادة. فهذه الفنون احد وجهى المنع من التفسير بالرأى. الوجه الثاني - ان يتسارع الى تفسير القران بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القران وما فيه من الالفاظ المبهمة والمبدلة (1)، وما فيه من الاختصار والحذف والاضمار والتقديم والتأخير، فمن لم يحكم ظاهر التفسير وبادر الى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القران بالرأى، والنقل والسماع لا بدله منه في ظاهر التفسير اولا ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم الا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصل الى الباطن قبل احكام الظاهر، الا ترى ان قوله تعالى: " واتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " (2) معناه آية مبصرة فظلموا انفسهم بقتلها، فالناظر الى ظاهر العربية يظن ان المراد به ان الناقة كانت مبصرة، ولا يدري بماذا ظلموا، وانهم ظلموا غيرهم وانفسهم، فهذا من الحذف والاضمار، وامثال هذا في القران كثير، وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهى إليه. والله اعلم. قال ابن عطية: " وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون تفسير القران ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لانفسهم مع ادراكهم وتقدمهم ". قال أبو بكر الانباري: وقد كان الائمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القران، فبعض يقدر ان الذي يفسره لا يوافق مراد الله عزوجل فيحجم عن القول. وبعض يشفق من ان يجعل في التفسير اماما يبني على مذهبه ويقتفى طريقه. فلعل متأخرا ان يفسر حرفا برأيه ويخطئ فيه ويقول: امامى في تفسير القران رضي الله عنه عن تفسير حرف من القران فقال: اي سماء تظلني، واي ارض تقلني ! وأين أذهب ! كيف أصنع ! إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما اراد تبارك وتعالى. (1) هكذا في كل النسخ التي بأيدينا. (2) آية 59 سورة الاسراء. (*)
[ 35 ]
قال ابن عطية " وكان جلة من السلف كثير عددهم يفسرون القران وهم ابقوا (1) على المسلمين في ذلك رضي الله عنهم، فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن ابي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبد الله بن عباس وهو تجرد للامر وكمله، وتبعه العلماء عليه كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما، والمحفوظ عنه في ذلك اكثر من المحفوظ على على ". وقال ابن عباس: ما اخذت من تفسير القران لعن على بن ابي طالب. وكان على رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الاخذ عنه، وكان ابن عباس يقول: نعم ترجمان القران عبد الله بن عباس. وقال عنه على رضي الله عنه: ابن عباس كأنما ينظر الى الغيب من ستر رقيق. ويتلوه عبد الله ابن مسعود وابي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص. وكل ما اخذ عن الصحابة فحسن مقدم لشهودهم التنزيل ونزوله بلغتهم. وعن عامر بن واثلة قال: شهدت على بن ابي طالب رضي الله عنه يخطب فسمعته يقول في خطبته: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شئ يكون الى يوم القيامة الا حدثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية الا انا اعلم أبليل نزلت اما بنهار، ام في سهل نزلت ام في جبل، فقام إليه ابن الكواء (2) فقال: يا امير المؤمنين، ما الذاريات ذروا ؟ وذكر الحديث. وعن المنهال بن عمرو قال قال عبد الله ابن مسعود: لو اعلم احدا اعلم بكتاب الله منى تبلغه المطى لأتيته، فقال له الرجل: اما لقيت علي بن ابي طالب ؟ فقال: بلى، قد لقيته. وعن مسروق قال: وجدت اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل الاخاذ يروى الواحد والاخاذ يروى الاثنين، والاخاذ لو ورد عليه الناس اجمعون لاصدرهم، وان عبد الله بن مسعود من تلك الاخاذ (3). ذكر هذه المناقب أبو بكر الانباري في كتاب الرد، وقال: الاخاذ عند العرب: الموضع الذي يحبس الماء كالغدير. قال أبو بكر: حدثنا احمد بن الهيثم بن خالد حدثنا احمد بن عبد الله بن يونس حدثنا سلام عن (1) من قولهم: ابقيت على فلان إذا اشفقت عليه روحمته. (2) اسمه عبد الله بن ابي أو في اليشكري كما في تاريخ الطبري في عدة مواضع. (3) قوله: من تلك الآخاذ. يعني ان فيهم والكبير، والعالم والاعلم. (*)
[ 36 ]
زيد العمى (1) عن ابي الصديق الناجي عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارحم امتي بها أبو بكر واقواهم في دين الله عمر واصدقهم حياء عثمان واقضاهم علي وافرضهم زيد واقرؤوهم لكتاب الله عزوجل ابي بن كعب واعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن جبل وامين هذه الامة أبو عبيدة بن الجرح وابو هريرة وعاء من العلم وسلمان بحر من علم لا يدرك وما اظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء - أو قال البطحاء - من ذي لهجة اصدق من ابي ذر ". قال ابن عطية: " ومن المبرزين في التابعين الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعلقمة. قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهم ووقوف عند كل آية، ويتلوهم عكرمة والضحاك وان كان لم يلق ابن عباس، وانما اخذ عن ابن جبير، واما السدى فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى ابى صالح، لانه يراهما مقصرين في النظر ". قلت: وقال يحيى بن معين: الكلبي ليس بشئ. وعن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان قال قال الكلبي قال أبو صالح: كل ما حدثتك كذب. وقال حبيب بن ابي ثابت: كنا نسميه الدروغ زن (2) - يعني ابا صالح مولى ام هانئ - والدروغ زن: هو الكذاب بلغة الفرس. ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف، كما قال صلى الله عليه وسلم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ". خرجه أبو عمر وغيره. قال الخطيب أبو بكر احمد بن على البغدادي: وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم اعلام الدين وائمة المسلمين لحفظهم الشريعة من التحريف، والانتحال للباطل، ورد تأويل الابله الجاهل، وانه يجب الرجوع إليهم، والمعول في امر الدين عليهم، رضي الله عنهم. (1) جاء في حاشية بهامش الاصل: انه سمى زيدا العمى لانه كان ينادى من رآه بياعم. وجاء في تهذيب التهذيب عند الكلام على اسم زيد المذكور: انه زيد بن الحوارى أبو الحوارى العمى، وهو مولى زياد بن ابيه ولقب بذلك لأنه كان إذا سئل عن الشئ يقول: حتى اسأل عمي. (2) اسمه باذام، وقيل: باذان، بمعجمة بين الفين. يروي عن علي وابن عباس ومولاته ام هاني، كما في تهذيب التهذيب. (*)
[ 37 ]
قال ابن عطية: " وألف الناس فيه كعبد الرزاق والمفضل وعلي بن ابي طلحة والبخاري وغيرهم. ثم ان محمد بن جرير - رحمه الله - جمع على الناس اشتات التفسير، وقرب البعيد منها وشفى في الاسناد ومن المبرزين من المتأخرين أبو اسحاق الزجاج وابو علي الفارسي، واما أبو بكر النقاش وابو جعفر النحاس فكثير ما استدرك الناس عليهما. وعلى سننهما مكى بن ابي طالب رضي الله عنه. وابو العباس المهدوي متقن التأليف، وكلهم مجتهد مأجور رحمهم الله، ونضر وجوههم ". باب تبيين الكتاب بالسنة، وما جاء في ذلك قال الله تعالى: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم " (1). وقال تعالى: " فليحذر الذين يخلفون عن امره ان تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم " (2). وقال تعالى: " وانك لتهدى الى صراط مستقيم " (3) وفرض طاعته في غير آية من كتابه وقرنها بطاعته عزوجل، وقال تعالى: " وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " (4) ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم له عن عبد الرحمن بن زيد: انه رأى محرما عليه ثيابه فنهى المحرم، فقال: ايتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، قال: فقرأ عليه " وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ". وعن هشام بن حجير قال: كان طاوس يصلى ركعتين بعد العصر، فقال ابن عباس: اتركهما، فقال: انما نهى عنهما ان تتخذا سنة، فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر، فلا ادري اتعذب عليهما ام تؤجر، لان الله تعالى قال: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم " (5). وروى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: " الا واني قد اوتيت الكتاب ومثله معه الا يوشك رجل شعبان على اريكته يقول عليكم بهذا القران فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه (1) اية 44 سورة النحل. (2) آية 63 سورة النور. (3) آية 52 سورة الشورى. (4) آية 7 سورة الحشر. (5) آية 36 سورة الاحزاب. (*)
[ 38 ]
الا يحل لكم الحمار الاهلى ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد الا ان يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم ان يقروه فإن لم يقروه فله ان يعقبهم بمثل قراه ". قال الخطابي: قوله " اوتيت الكتاب ومثله معه " يحتمل وجهين من التأويل: احدهما - ان معناه انه اوتى من الوحى الباطن غير المتلو، مثل ما اعطى من الظاهر المتلو. والثاني - انه اوتى الكتاب وحيا يتلى، واوتى من البيان مثله، اي اذن له ان يبين ما في الكتاب فيعم ويخص ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القران. وقوله: " يوشك رجل شبعان " الحديث. يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له في القران ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فانهم تعلقوا بظاهر القران وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب، قال: فتحيروا وضلوا، قال والاريكة: السرير، ويقال: انه لا يسمى اريكة حتى يكون في حجلة (1)، قال: وانما اراد بالاريكة اصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت لم يطلبوا العلم من مظانه. وقوله: " الا ان يستغنى عنها صاحبها " معناه ان يتركها صاحبها لمن اخذها استغناء عنها، كقوله: " فكفروا وتولوا واستغنى الله (2) معناه تركهم الله استغناء عنهم. وقوله: " فله ان يعقبهم بمثل قراه هذا في حال المضطر الذي لا يجد طعاما ويخاف التلف على نفسه، فله ان يأخذ من مالهم بقدر قراه عوض ما حرموه من قراه. " ويعقبهم " يروى مشددا ومخففا من المعاقبة، ومنه قوله تعالى: " وان عاقبتم " (3) اي فكانت الغلبة لكم فغنتم منهم، وكذلك لهذا ان يغنم من اموالهم بقدر قراه. قال: وفي الحديث دلالة على انه لا حاجة بالحديث الى ان يعرض على الكتاب، فانه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه، قال: فأما ما رواه بعضهم انه قال: " إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فخذوه وان لم يوافقه فردوه " فانه حديث لا اصل له. ثم البيان منه صلى الله عليه وسلم على ضربين: بيان لمجمل في الكتاب، كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر احكامها، وكبيانه لمقدار الزكاة ووقتها وما الذي (1) الحجلة: مثل القبة. (2) آية 6 سورة التغابن. (3) آية 126 سورة النحل.
[ 39 ]
تؤخذ منه من الاموال، وبيانه لمناسك الحج، قال صلى الله عليه وسلم إذ حج بالناس: " خذوا عنى مناسككم ". وقال: " صلوا كما رأيتموني اصلي ". اخرجه البخاري. وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين انه قال لرجل احمق، اتجد الظهر في الكتاب الله اربعا لا يجهر فيها بالقراءة ! ثم عدد عليه الصلاة الزكاة ونحو هذا، ثم قال: اتجد هذا في كتاب الله مفسرا ! ان كتاب الله تعالى ابهم هذا، وان السنة تفسر هذا. وروى الاوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك. وروى سعيد بن منصور: حدثنا عيسى ابن يونس عن الاوزاعي عن مكحول قال: القران احوج الى السنة من السنة الى القران. وبه عن الاوزاعي قال قال يحيى بن ابي كثير: السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة. قال الفضل بن زياد: سمعت ابا عبد الله - يعني احمد بن حنبل - وسئل عن هذا الحديث الذي روى ان السنة قاضية على الكتاب فقال: ما اجسر على هذا ان اقوله، ولكني اقول: ان السنة تفسر الكتاب وتبينه. وبيان اخر وهو زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم الحمر الاهلية وكل ذي ناب من السباع، والقضاء باليمين مع الشاهد وغير ذلك، على ما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى. باب كيفية التعلم والفقه لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما جاء انه سهل على من تقدم العمل به دون حفظه ذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له بإسناده عن عثمان وابن مسعود وابى: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها الى عشر اخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمنا القران والعمل جميعا. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عطاء ابن السائب عن ابي عبد الرحمن السلمى قال: كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القران لم نتعلم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وامرها ونهيها. وفى موطإ مالك: انه بلغه ان عبد الله
[ 40 ]
ابن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها. وذكر أبو بكر احمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمى (1) " اسماء من روى عن مالك ": عن مرداس بن محمد ابى بلال الاشعري قال: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورا. وذكر أبو بكر الانباري: حدثني محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الاسود حدثنا عبيد الله بن موسى عن زياد بن ابي مسلم ابي عمرو عن زياد بن مخراق قال قال عبد الله بن مسعود: انا صعب علينا حفظ الفاظ القران، وسهل علينا العمل به، وان من بعدنا يسهل عليهم حفظ القران، ويصعب عليهم العمل به. حدثنا ابراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا الفضل بن دكين حدثنا اسماعيل ابن ابراهيم بن المهاجر عن ابيه عن مجاهد عن ابن عمر قال: كان الفضل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الامة لا يحفظ من القران الا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقران، وان اخر هذه الامة يقرءون القران منهم الصبي والاعمى ولا يرزقون العمل به. حدثنى حسن بن عبد الوهاب أبو محمد بن ابي العنبر حدثنا أبو بكر بن حماد المقرئ قال: سمعت خلف بن هشام البزار يقول: ما اظن القران الا عارية في ايدينا، وذلك انا روينا ان عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشرة سنة، فلما حفظها نحر جزورا شكرا لله، وان الغلام في دهرنا هذا يجلس بين يدي فيقرأ ثلث القران لا يسقط منه حرفا، فما احسب القران الا عارية في ايدينا. وقال اهل العلم بالحديث: لا ينبغي لطالب الحديث ان يقتصر على سماع الحديث وكتبه، دون معرفته وفهمه، فيكون قد اتعب نفسه من غير ان يظفر بطائل، ولكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الليالي والايام. وممن ورد عنه ذلك من حفاظ الحديث شعبة وابن علية ومعمر، قال معمر: سمعت الزهري يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة، وانما يدرك العلم حديثا وجديثين، والله اعلم. وقال معاذ بن جبل: اعلموا ما شئتم ان تعلموا فلن يأجركم بعلمه حتى تعلموا. وقال ابن عبد البر: وروى النبي صلى الله عليه وسلم (1) في الاصول: " المسمي في ذكر اسماء... الخ ". (*)
[ 41 ]
مثل قول معاذ من رواية عباد بن عبد الصمد، وفيه زيادة: ان العلماء همتهم الدراية، وان السفهاء همتهم الرواية. وروى موقوفا وهو اولى من رواية من رواه مرفوعا، وعباد بن عبد الصمد ليس ممن يحتج به. ولقد احسن القائل في نظمه في فضل العلم وشرف الكتاب العزيز والسنة والغراء: ان العلوم وان جلت محاسنها * فتاجها ما به الايمان قد وجبا هو الكتاب العزيز الله يحفظه * وبعد ذلك علم فرج الكربا فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه * نور النبوة سن الشرع والادبا وبعد هذا علوم لا انتهاء لها * فاختر لنفسك يامن آثر الطلبا والعلم كنز نجده في معادنه * يأيها الطالب ابحث وانظر الكتبا واتل بفهم كتاب الله فيه اتت * كل العلوم تدبره تر العجبا واقرأ هديت حديث المصطفى وسلن * مولاك ما تشتهى يقضى لك الاربا من ذاق طعما لعلم الدين سربه * إذا تزيد منه قال واطربا باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ان هذا القران انزل على سبعة احرف فاقرءوا ما تيسر منه " روى مسلم عن ابي بن كعب: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان عند اضاة (1) بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ان الله يأمرك ان تقرأ امتك القران على حرف، فقال: " اسأل الله معافاته ومغفرته وان امتي لا تطيق ذلك ". ثم اتاه الثانية فقال: ان الله يأمرك ان تقرأ امتك القران على حرفين، فقال: " اسأل الله معافاته ومغفرته وان امتي لا تطيق ذلك ". ثم جاءه الثالثة فقال: ان الله يأمرك ان تقرأ القران على ثلاثة احرف، فقال: " اسأل الله معفاته ومغفرته وان امتي لا تطيق ذلك ". ثم جاءه الرابعة فقال: ان الله يأمرك (1) الاضاء (كحضاة): غدير صغير وقيل: هو مسيل الماء الغدير وهو موضع قريب من مكة فوق سرف. وغفار: قبيلة من كنانة. (*)
[ 42 ]
ان تقرأ امتك القران على سبعة احرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد اصابوا. وروى الترمذي عنه فقال: لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: " يا جبريل بعثت الى امة امية منهم العجوز والشيخ والكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط فقال لي يا محمد ان القران انزل على سبعة احرف ". قال هذا: حديث صحيح. وثبت في الامهات: البخاري ومسلم والموطإ وابي داود والنسائي وغيرها من المصنفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم، وسيأتي بكماله في اخر الباب مبينا ان شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في المراد بالاحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة اقوال: الاول - وهو الذي عليه اكثر اهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري والطحاوي وغيرهم: ان المراد سبعة اوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو اقبل وتعال وهلم. قال الطحاوي: وابين ما ذكر في ذلك حديث ابي بكرة قال: جاء جبريل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استرده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استرده، حتى بلغ الى سبعة احرف، فقال: اقرأ فكل شاف كاف الا ان تخلط اية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، على نحو هلم وتعال واقبل واذهب واسرع وعجل. وروى ورقاء عن ابن ابي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن ابي بن كعب ان كان يقرأ " للذين امنوا انظرونا " (1): للذين آمنوا امهلونا، للذين آمنوا اخرونا، للذين آمنوا ارقبونا. وبهذا الاسناد عن ابي انه كان يقرأ " كلما اضاء لهم مشوا فيه " (2): مروا فيه، سعوا فيه. وفي البخاري ومسلم قال الزهري: انما هذه الاحرف في الامر الواحد ليس يختلف في حلال ولا حرام. قال الطحاوي: انما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن اخذ القران على غير لغاتهم، لانهم كانوا اميين لا يكتب الا القليل منهم، فلما كان يشق على كل ذي لغة ان يتحول الى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له الا بمشقة عظيمة، فوسع لهم (1) آية 13 سورة الحديد. (2) آية 20 سورة البقرة. (*)
[ 43 ]
في اختلاف الالفاظ إذ كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم الى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدروا بذلك على تحفظ الفاظه، فلم يسعهم حينئذ ان يقرءوا بخلافها. قال ابن عبد البر: فبان بهذا ان تلك السبعة الاحرف انما كان في وقت خاص لضرورة دعت الى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الاحرف، وعاد ما يقرأ به القران على حرف واحد. روى أبو داود عن ابي قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا ابي اني اقرئت القران فقيل لي على حرف أو حرفين فقال الملك الذي معي قل على حرفين فقيل لي على حرفين أو ثلاثة فقال الملك الذي معي قل على ثلاثة حتى بلغ سبعة احرف ثم قال ليس منها الاشاف كاف ان قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب ". واسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من كلام ابن مسعود نحوه. قال القاضي ابن الطيب (1): وإذا ثبت هذه الرواية - يريد حديث ابي - حمل على ان هذه كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس ان يبدلوا اسما الله تعالى في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالف. القول الثاني - قال قوم: هي سبع لغات في القران على لغات العرب كلها، يمنها ونزارها، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد اوتى جوامع الكلم، وليس معناه ان يكون في الحرف الواحد سبعة اوجه، ولكن هذه اللغات السبع متفرقة في القران، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن. قال الخطابي: على ان في القران ما قد قرئ بسبعة اوجه، وهو قوله: " وعبد الطاغوت " (2). وقوله: " ارسله معنا غدا يرتع ويلعب " (3) وذكر وجوها، كأنه يذهب الى ان بعضه انزل على سبعة احرف لا كله. والى هذا القول - بأن القران انزل على سبعة احرف، على سبع لغات - ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام واختاره ابن عطية. قال أبو عبيد: وبعض الاحياء (1) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاضي أبو بكر الباقلاني. (2) آية 60 سورة المائدة. (3) آية 12 سورة يوسف. (*)
[ 44 ]
اسعد واكثر حظا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب عن انس ان عثمان قال لهم حين امرهم ان يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فانه نزل بلغتهم. ذكره البخاري وذكر حديث ابن عباس قال: نزل القران بلغة الكعبين، كعب قريش وكعب خزاعة. قيل: وكيف ذلك ؟ قال: لأن الدار واحدة. قال أبو عبيد: يعني ان خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم. قال القاضي ابن الطيب رضي الله عنه: معنى قول عثمان نزل بلسان قريش، يريد معظمه واكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على ان القران بأسره منزل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات وحروف هي خلاف لغة قريش، وقد قال الله تعالى: " انا جعلناه قرانا عربيا " (1) ولم يقل قرشيا، هذا يدل على انه منزل بجميع لسان العرب، وليس لاحد ان يقول: انه اراد قريشا من العرب دون غيرها، كما انه ليس له ان يقول: اراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر، لان اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا. وقال ابن عبد البر: قول من قال ان القران نزل بلغة قريش معناه عندي في الاغلب والله اعلم، لان غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها، وقريش لا تهمز. وقال ابن عطية: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " انزل القران على سبعة احرف " اي فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القران، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك بحسب الافصح والاوجز في اللفظ، الا ترى ان " فطر " معناه عند غير قريش: ابتدأ (خلق الشئ وعمله) (2) فجاءت في القران فلم تتجه لابن عباس، حتى اختصم إليه اعرابيان في بئر فقال احدهما: انا فطرتها، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ موضع قوله تعالى " فاطر السموات والارض ". وقال ايضا: ما كنت ادري معنى حينئذ موضع قوله تعالى " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) (3) حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: " تعال افاتحك، اي احاكمك. وكذلك قال عمر بن الخطاب وكان لا يفهم معنى قوله تعالى " أو يأخذهم على تخوف " (4) اي على تنقص لهم. وكذلك اتفق لقطبة بن مالك إذ (1) آية 3 سورة الزخرف. (2) زيادة عن ابن عطية. (3) آية 89 سورة الاعراف. (4) آية 47 سورة النحل. (*)
[ 45 ]
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: " والنخل باسقات " (1) ذكره مسلم في باب (القراءة في صلاة الفجر) الى غير ذلك من الامثلة. القول الثالث: ان هذه اللغات السبع انما تكون في مضر، قاله قوم، واحتجوا بقول عثمان: نزل القران بلغة مضر، وقالوا: جائز ان يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لاسد، ومنها لهذيل، ومنها لتيم، ومنها لضبة، ومنها لقيس، قالوا: هذه قبائل مصر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود يحب ان يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر. وانكر اخرون ان تكون كلها من مضر، وقالوا: في مضر شواذ لا يجوز ان يقرأ القرأن بها، مثل كشكشة قيس وتمتمة تميم، فأما كشكشة قيس فانهم يجعلون كاف المؤنث شينا فيقولون في " جعل ربك تحتك سريا " (2): جعل ربش تحتش سريا، واما تمتمة تميم فيقولون في الناس: النات، وفي اكياس. قالوا: هذه لغات يرغب عن القران بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شئ. وقال آخرون: اما ابدال الهمزة عينا وابدال حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ به الجلة، واحتجوا بقراءة ابن مسعود: ليسجننه عتى حين، ذكرها أبو داود، وبقول ذي الرمة: فعناك عيناها وجيدك جيدها * ولونك الا عنها غير طائل يريد الا انها. القول الرابع: ما حكاه صاحب الدلائل عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا: منها ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: " هن اطهر لكم " واطهر، " ويضيق صدري " ويضيق. ومنها مالا تتغير صورته ويتغير معناه بالاعراب، مثل: " ربنا باعد بين اسفارنا " وباعد. ومنها ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله: " ننشزها " وننشرها. ومنها ما تتغير صورته ويبقى معناه: " كالعهن المنفوش " وكالصوف المنفوش. (1) آية 10 سورة ق. (2) آية 24 سورة مريم. (*)
[ 46 ]
ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل: " وطلح منضود " وطلع منضود. ومنها بالتقديم والتأخير كقوله: " وجاءت سكرة الموت بالحق " وجاءت (سكرة الحق) الحق بالموت. ومنها بالزيادة والنقصان، مثل قوله: تسع وتسعون نعجة انثى، وقوله: واما الغلام فكان كافرا وكان ابواه مؤمنين، وقوله: فان الله من بعد اكراههن لهن غفور رحيم. القول الخامس: ان المراد بالاحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى، وهي امر ونهي ووعد ووعيد وقصص ومجادلة وامثال. قال ابن عطية وهذا ضعيف لان هذا لا يسمى احرفا، وايضا فالاجماع على ان التوسعة لم تقع في تحليل حلال ولا في تغير شئ من المعاني. وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ولكن ليست هذه هي التي اجاز لهم القراءة بها، وانما الحرف في هذه بمعنى الجهة والطريقة، منه قوله تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " (1) فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل وتحريم وغير ذلك. وقد قيل: ان المراد بقوله عليه السلام " انزل القران على سبعة احرف " القراءات السبع التي قرأ بها القراء السبعة، لانها كلها صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بشئ لظهور بطلانه على ما يأتي. (فصل) قال كثير من علمائنا كالداودي وابن ابي صفرة وغيرهما: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة، ليست هي الاحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وانما هي راجعة الى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف، ذكره ابن النحاس وغيره. وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات اولئك الائمة القراء، وذلك ان كل واحد منهم اختار فيما روى وعلم وجهه من القراءات ما هو الاحسن عنده والاولى، فالتزمه طريقة ورواه واقرأ به واشتهر عنه، وعرف به ونسب إليه، فقيل: حرف نافع، وحرف ابن كثير، ولم يمنع واحد منهم اختار الاخر ولا انكره بل سوغه وجوزه، وكل واحد من هؤلاء السبعة روى عنه اختار ان أو اكثر، وكل صحيح. وقد اجمع المسلمون في هذه الاعصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الائمة مما رووه ورأوه من القراءات وكتبوا (1) آية 11 سورة الحج. (*)
[ 47 ]
في ذلك مصفنات، فاستمر الاجماع على الصواب، وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب، وعلى هذا الائمة المتقدمون والفضلاء المحققون كالقاضي ابي بكر بن الطيب والطبري وغيرهما. قال ابن عطية: ومضت الاعصار والامصار على قراءة السبعة وبها يصلى لانها ثبتت بالاجماع، واما شاذ القراءات فلا يصلى له لانه لم يجمع الناس عليه، اما ان المروى منه عن الصحابة رضى الله عنهم وعن علماء التابعين فلا يعتقد فيه الا انهم رووه، واما ما يؤثر عن ابي السمال (1) ومن قارنه فانه لا يوثق به. قال غيره: اما شاذ القراءة عن المصاحف المتواترة فليست بقران، ولا يعمل بها على انها منه، واحسن محاملها ان تكون بيان تأويل مذهب من نسبت إليه كقراءة ابن مسعود: فصيام ثلاثة ايام متتابعات. فأما لو صرح الراوي بسماعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختلف العلماء في العمل بذلك على قولين: النفي والاثبات، وجه النفي ان الراوي لم يروه في معرض الخبر بل في معرض القران، ولم يثبت فلا يثبت. والوجه الثاني انه وان لم يثبت كونه قرانا فقد ثبت كونه سنة، وذلك يوجب العمل كسائر اخبار الاحاد. فصل في ذكر معنى حديث عمر وهشام. قال ابن عطية: اباح الله تعالى لنبيه عليه السلام هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل عليه السلام في عرضاته على الوجه الذي فيه الاعجاز وجودة الرصف، ولم تقع الاباحة في قوله عليه السلام: " فأقرءوا ما تيسر منه " بأن يكون كل واحد من الصحابة إذا اراد ان يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا لذهب اعجاز القران، وكان معرضا ان يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله، وانما وقعت الاباحة في الحروف السبعة للنبي صلى الله عليه وسلم ليوسع بها على امته، فأقرأ مرة لابي بما عارضه به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه به ايضا، وعلى هذا تجئ قراءة عمر بن الخطاب لسورة " الفرقان " وقراءة (1) أبو السمال (بفتح السين وتشديد الميم وباللام): هو قعنب بن ابي قعنب العدوى البصري، له اختيار في القراءات شاذ عن العامة. وقد ذكر في الطبعة الاولى في هذا الموضع وفي ص 368 محرفا، والتصويب عن طبقات القراء. (*)
[ 48 ]
هشام بن حكيم لها، والا فكيف يستقيم ان يقول النبي صلى الله عليه وسلم في كل قراءة منهما وقد اختلفا: " هكذا اقرأني جبريل " هل ذلك الا انه اقرأه مرة بهذه ومرة بهذه، وعلى هذا يحمل قول انس حين قرأ: " ان ناشئة الليل هي اشد وطأ واصوب قيلا " فقيل له: انما نقرأ " واقوم قيلا ". فقال انس: واصوب قيلا، واقوم قيلا وأهيأ، واحد، فإنما معنى هذا انها مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، والا فلو كان هذا لاحد من الناس ان يضعه لبطل معنى قوله تعالى: " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون " (1). روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب: قال سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة " الفرقان " على غير ما اقرؤها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت ان اعجل عليه، ثم امهلته حتى انصرف ثم لببته (2) بردائه، فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله، اني سمعت هذا يقرأ سورة " الفرقان " على غير ما اقرأتنيها ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارسله اقرأ " (3) فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هكذا انزلت " ثم قال لي: " اقرأ " فقرأت فقال: " هكذا انزلت ان هذا القران انزل على سبعة احرف فاقرءوا ما تيسر منه ". قلت: وفى معنى حديث عمر هذا، ما رواه مسلم عن ابي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلى، قراءة انكرتها عليه، ثم دخل اخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ان هذا قرأ قراءة انكرتها عليه، ودخل اخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من الكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني، ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما انظر الى الله تعالى فرقا، فقال لي: " يا ابي ارسل الى ان اقرأ القران على حرف فرددت إليه ان هون على امتي فرد الى الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه ان هون على امتي (1) اية 9 سورة الحجر. (2) قوله: لببته بردائه. اي جمعت ثيابه عند صدره ونحره ثم جررته. (3) ارسل الشئ: اطلقه. (*)
[ 49 ]
فرد الى الثالثة اقرأه على سبعة احرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة فقلت اللهم اغفر لامتي اللهم اغفر لامتي واخرت الثالثة ليوم يرغب الى فيه الخلق كلهم حتى ابراهيم عليه السلام ". قول ابي رضي الله عنه: " فسقط في نفسي " معناه اعترتني حيرة ودهشة، اي اصابته نزعة من الشيطان ليشوش عليه حاله، ويكدر عليه وقته، فأنه عظم عليه من اختلاف القراءات ما ليس عظيما في نفسه، والا فأي شئ يلزم من المحال والتكذيب من اختلاف القراءات ولم يلزم ذلك والحمد لله في النسخ الذي هو اعظم، فكيف بالقراءة ! ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما اصابه من ذلك الخاطر نبهه بأن ضربه في صدره، فأعقب ذلك بأن نشرح صدره وتنور باطنه، حتى آل به الكشف والشرح الى حالة المعاينة، ولما ظهر له قبح ذلك الخاطر من الله تعالى وفاض بالعرق استحياء من الله تعالى، فكان هذا الخاطر من قبيل ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم - حين سألوه: انا نجد في انفسنا ما يتعاظم احدنا ان يتكلم به - قال: " وقد وجدتموه " ؟: نعم، قال: " ذلك صريح الايمان ". اخرجه مسلم من حديث ابي هريرة. وسيأتي الكلام عليه في سورة " الاعراف " ان شاء الله تعالى. باب ذكر جمع القران، وسبب كتب عثمان المصاحف واحراقه ما سواها، وذكر من حفظ القران من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان القران في مدة النبي صلى الله عليه وسلم متفرقا في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد وفي لحاف وظرر وفي خزف وغير ذلك - قال الاصمعي: اللخاف: حجارة بيض رقاق، واحدتها. والظرر: حجر له حد كحد السكين، والجمع ظرار، مثل رطب ورطاب، وربع ورباع، وظران ايضا مثل صرد وصردان - فلما استحتر (1) القتل (1) قوله: استحر، اي اشتد وكثر.
[ 50 ]
بالقراءة يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة، اشار عمر بن الخطاب على ابي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القران مخافة ان يموت اشياخ القراء، كابي وابن مسعود وزيد، فندبا زيد بن ثابت الى ذلك، فجمعه غير مرتب السور، بعد تعب شديد، رضي الله عنه. روى البخاري عن زيد بن ثابت قال: ارسل الى أبو بكر مقتل اهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: ان عمر اتاني فقال ان القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وانى اخشى ان يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القران الا ان تجمعوه، واني لأرى ان تجمع القران، قال أبو بكر: فقلت لعمر كيف افعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلم، فقال لي أبو بكر: انك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القران، فاجمعه، فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان اثقل على مما امرني به من جمع القران، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: هو الله خير، فلم ازل اراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر ابي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القران اجمعه من الرقاع والاكتاف (1) والعسب (2) وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة " التوبة " آيتين مع خزيمة الانصاري لم اجدهما مع غيره " لقد جاءكم رسول من انفسكم " الى اخرها. فكانت الصحف التي جمع فيها القران عند ابي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بن عمر. وقال الليث حدثني عبد الرحمن ابن غالب عن ابن شهاب وقال: مع ابي خزيمة الانصاري. وقال أبو ثابت حدثنا ابراهيم وقال: مع خزيمة أو ابي خزيمة " فإن تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ". (1) الاكتاف: جمع كتف وهو عظم عريض يكون في اصل كتف الحيوان كانوا يكشبون فيه لقلة القراطيس عندهم. (2) العسب: جمع عسيب وهو جريد النخل إذا نزع منه خوصه. (*)
[ 51 ]
وقال الترمذي في حديثه عنه: فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت " لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم. فإن تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ". قال: حديث حسن صحيح. وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة " الاحزاب " كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم اجدها مع احد الا مع خزيمة الانصاري (1) - الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين - " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ". وقال الترمذي عنه: فقدت آية من سورة " الاحزاب " كنت اسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر " فالتمستها فوجدتها عند خزيمة بن ثابت أو أبى خزيمة، فألحقتها في سورتها. قلت: فسقطت الاية الاولى من اخر " براءة " في الجمع الاول، على ما قاله البخاري والترمذي، وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة " الاحزاب ". وحكى الطبري: ان آية " براءة " سقطت في الجمع الاخير، والاول اصح والله اعلم. فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر الى ذلك وفرغ منه، قيل له: ان عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، الا ترى كيف ارسل الى حفصة: ان ارسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها اليك، على ما يأتي. وانما فعل ذلك عثمان لان الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الامر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم، ووقع بين اهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة رضي الله عنه. وذلك انهم اجتمعوا في غزوة ارمينية فقرأت كل طائفة بما روى لها، فاختلفوا وتنازعوا واظهر بعضهم اكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا، فأشفق حذيفة مما رأى منهم، فلما قدم حذيفة المدينة - فيما ذكر البخاري والترمذي - دخل الى عثمان قبل ان يدخل الى بيته، فقال: ادرك هذه الامة قبل ان تهلك ! قال: فيماذا ؟ قال: في كتاب الله، اني حضرت (1) خزيمة ذو الشهادتين غير ابي خزيمة بالكنية (القسطلاني). (*)
[ 52 ]
هذه الغزوة، وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز، فوصف له ما تقدم وقال: اني اخشى عليهم ان يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى. قلت: وهذا ادل دليل على بطلان من قال: امن المراد بالاحرف السبعة قراءات القراء السبعة، لأن الحق لا يختلف فيه، وقد روى سويد بن غفلة عن علي بن ابي طالب ان عثمان قال: ما ترون في المصاحف ؟ فان الناس قد اختلفوا في القراء حتى ان الرجل ليقول: قرءاتي خير من قراءتك، وقراءتي افضل من قراءتي. وهذا شبيه بالكفر، قلنا: ما الرأي عندك يا امير المؤمنين ؟ قال: الرأي رأيك يما امير المؤمنين، فأرسل عثمان الى حفصة: ان أرسلي الينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه فأمر زيد ابن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي وعبد الرحمن بن الحارث به هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شئ من القران فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة، وارسل الى كل افق بمصحف مما نسخوا، وامر بما سوى ذلك من القران في كل صحيفة أو مصحف ان يحرق. وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد ان جمع المهاجرين والانصار وجلة اهل الاسلام وشاورهم واطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موقفا، رحمة الله عليه وعليهم اجمعين. وقال الطبري فيما روى: ان عثمان قرن بزيد أبان بن سعيد بن العاصي وحده، وهذا ضعيف. وما ذكره البخاري والترمذي وغيرهما اصح. وقال الطبري ايضا: ان الصحف التي كانت عند حفصة جعلت اماما في هذا الجمع الاخير، وهذا صحيح. وقال ابن شهاب: واخبرني عبيد الله بن عبد الله ان عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال يا معشر المسلمين، اعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل،
[ 53 ]
والله لقد اسلمت وانه لفي صلب رجل كافر ! يريد زيد بن ثابت ولذلك قال عبد الله ابن مسعود: يأهل العراق، اكتموا المصاحف التى عندكم وغلوها فإن الله عزوجل يقول: " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " فالقوا الله بالمصاحف خرجه الترمذي. وسيأتي الكلام في هذا في سورة " آل عمران " (1) ان شاء الله تعالى. قال أبو بكر الانباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة ابي بكر وعمر وعثمان على عبد الله ابن مسعود في جمع القران، وعبد الله افضل من زيد، واقدم في الاسلام، واكثر سوابق، واعظم فضائل، الا لأن زيدا كان احفظ للقران من عبد الله إذ وعاه كله ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم نيف وسبعون سورة، ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي ختم القران وحفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي اولى بجمع المصاحف واحق بالايثار ولاختيار. ولا ينبغي ان يظن جاهل ان في هذا طعنا على عبد الله بن مسعود، لأن زيدا إذا كان احفظ للقران منه فليس ذلك موجبا لتقدمه عليه، لأن ابا بكر وعمر رضي الله عنهما كان زيد احفظ منهما للقران، وليس هو خيرا منهما ولا مساويا لهما في الفظائل والمناقب. قال أبو بكر: وما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك فشئ نتجه الغضب، ولا يعمل به ولا يؤخذ به، ولا يشك في ان رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقى على موافقتهم وترك الخلاف لهم. فالشائع الذائع المتعالم عند اهل الرواية والنقل: ان عبد الله بن مسعود تعلم بقية القران بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بعض الائمة: مات عبد الله بن مسعود قبل ان يختم القران. قال يزيد بن هارونه المعوذتان بمنزلة البقرة وآل عمران، من زعم انهما ليستا من القران فهو كافر بالله العظيم، فقيل له: فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال: لا خلاف بين المسلمين في ان عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القران كله. قلت: هذا فيه نظر، وسيأتي. وروى اسماعيل بن اسحاق وغيره قال حماد - اظنه عن انس بن مالك، قال: كانوا يختلفون في الآية فيقولون اقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) في آية 161 راجع ج 4 ص 256 (*)
[ 54 ]
فلان بن فلان، فعسى ان يكون من المدينة على ثلاث ليال فيرسل إليه فيجاء به، فيقال: كيف اقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا ؟ فيكتبون كما قال. قال ابن شهاب: واختلفوا يومئذ في التابوت، فقال زيد: التابوه. وقال ابن الزبير وسعيد بن العاصي: التابوت، فرفع اختلافهم الى عثمان فقال: اكتبوه بالتاء، فإنه نزل بلسان قريش. اخرجه البخاري والترمذي. قال ابن عطية: قرأه زيد بالهاء والقرشيون بالتاء، فأثبتوه بالتاء، وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدهر، ونسخ منها عثمان نسخا. قال غيره: قيل سبعة، وقيل اربعة وهو الاكثر، ووجه بها الى الافاق، فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات، فاتخذها قراء الامصار معتمد اختاراتهم، ولم يخالف احد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه، وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم فذلك لان كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه، إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض اشعارا بأن كل ذلك صحيح، وان القراء بكل منها جائزة. قال ابن عطية: ثم ان عثمان امر بما سواها من المصاحف ان تحرق أو تخرق، تروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى ثم تدفن، ورواية الحاء غير منقوطة احسن. وذكر أبو بكر الانباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن ابي طالب كرم الله وجه يقول: يا معشر الناس، اتقو الله ! واياكم والغلو في عثمان، وقولكم: حراق المصاحف، فو الله ما حرقها الا عن ملا منا اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وعن عمير بن سعيد قال قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان. قال أبو الحسن بن بطال: وفي امر عثمان بتحريق المصحف والمصاحف حين جمع القران جواز تحريق الكتب التي فيها اسماء الله تعالى، وان ذلك اكرام لها وصيانة عن الوطء بالاقدام، وطرحها في ضياع من الارض. روى معمر عن ابن طاوس عن ابيه: انه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم. وحرق عروة ابن الزبير وكتب فقه عنده يوم الحرة، وكره ابراهيم ان تحرق الصحف إذا كان فيها
[ 55 ]
ذكر الله تعالى، وقول من حرقها اولى بالصواب، وقد فعله عثمان. وقد قال القاضي أبو بكر لسان الامة: جائز للامام تحريق الصحف التي فيها القران، إذا اداه الاجتهاد الى ذلك. فصل - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وفي فعل عثمان رضي الله عنه رد على الحيلولة (1) والحشوية القائلين بقدم الحروف والاصوات، وان القراءة والتلاوة القديمة، وان الايمان قديم، الروح قديم، وقد اجمعت الامة وكل امة من النصارى واليهود والبراهمة يل كل ملحد وموحد ان القديم لا يفعل ولا تتعلق به قدرة قادر بوجه ولا بسبب، ولا يجوز العدم على القديم وان القديم لا يصير محدثا، والمحدث لا يصير قديما، وان القديم ما لا اول لوجوده، وان المحدث هو ماكان بعد ان لم يكن، وهذه الطائفة خرقت اجماع العقلاء من اهل الملل وغيرهم، فقالو: يجوز ان يصير المحدث قديما، وان العبد إذا قرأ كلام الله تعالى فعل كلاما لله قديما، وكذلك إذا نحت حروفا من الاجر والخشب، أو صاغ احرفا من الذهب والفضة، أو نسج ثوبا فنقش عليه اية من كتاب الله فقد فعل هؤلاء كلام الله قديما، وصار كلامه منسوجا قديما ومنحوتا قديما ومصوغا قديما، فيقال لهم: ما تقولون في كلام الله تعالى، ايجوز ان يذاب ويمحى ويحرق ؟ فان قالوا: نعم، فارقوا الدين، وان قالوا: لا، قيل لهم: فما قولكم في حروف مصورة آية من كتاب الله تعالى من شمع، أو ذهب أو فضه أو خشب أو كاغد فوقعت في النار فذابت واحترقت، فهل تقولون: ان كلام الله احترق ؟ فإن قالوا: نعم، تركوا قولهم، وان قالوا: لا، قيل لهم اليس قلتم، ان هذه الكتابة كلام الله وقد احترقت ! وقلتم: ان هذه الاحرف كلامه وقد ذابت، فإن قالوا: احترقت الحروف وكلامه تعالى باق، رجعوا الى الحق والصواب ودانوا بالجواب، وهو الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، منها على ما يقول اهل الحق: ولو كان القران في اهاب ثم وقع في النار ما احترق. وقال عزوجل: " أنزلت عليك كتابا لا يغسله تقرؤه نائما ويقظان " الحديث، اخرجه مسلم. فثبت بهذا (1) الحلولية: فرقة من المتصوفة تقول: ان الله حال في كل شي وفي كل جزء منه متحد بن حتى جوزوا ان يطلق على كل شئ انه الله. والحشوية: طائفة من المبتدعة تمسكوا بالظواهر وذهبوا الى التجسيم وغيره. (*)
[ 56 ]
ان كلامه سبحانه ليس بحرف ولا يشبه الحروف. والكلام في هذه المسأله يطول، ونتميمها في كتب الاصول، وقد بيناها في (الكتاب الاسنى، في شرح اسماء الله الحسنى). فصل - وقد طعن الرافضة - قبحهم الله تعالى - في القران، وقالوا: ان الواحد يكفى في نقل الاية والحرف كما فعلتم فإنكم اثبتم بقول رجل واحد وهو خزيمة بن ثابت وحده اخر سورة " براءة " وقوله: " من المؤمنين رجال ". فالجواب ان خزيمة رضى الله عنه لم جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفهما، ولذلك قال: فقدت ايتين من اخر سورة " التوبة ". ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا اولا، فالآية انما ثبتت بالاجماع لا بخزيمة وحده. جواب ثان - انما ثبتت بشهادة خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي قرينة تغني عن طلب شاهد آخر بخلاف آية " الأحزاب " فإن تلك ثبتت بشهادة زيد وأبي خزيمة لسماعهما إياها من النبي صلى الله عليه وسلم. قال معناه المهلب، وذكر أن خزيمة غير أبي خزيمة، وأن أبا خزيمة الذي وجدت معه آية التوبة معروف من الأنصار، وقد عرفه أنس وقال: نحن ورثناه، والتي في الأحزاب وجدت مع خزيمة بن ثابت فلا تعارض، والقضية غير القضية لا إشكال فيها ولا إلتباس. وقال ابن عبد البر " أبو خزيمة لا يوقف على صحة اسمه وهو مشهور بكنيته، وهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وتوفى في خلافة عثمان بن عفان، وهو أخو مسعود بن أوس. قال ابن شهاب عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت: وجدت آخر التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري وهو هذا، وليس بينه وبين الحارث بن خزيمة أبي خزيمة نسب إلا اجتماعهما في الأنصار، أحدهما أوسي والآخر خزرجي ". وفي مسلم والبخاري عن أنس بن مالك قال: جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد وقلت لأنس: من أبو زيد ؟ قال: أحد عمومتي. وفي البخاري أيضا عن أنس قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير إربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل،
[ 57 ]
وزيد، وأبو زيد، [ قال (1) ]: ونحن ورثناه. وفي أخرى قال: مات أبو زيد ولم يترك عقبا، وكان بدريا، وأسم أبي زيد سعد بن عبيد. قال ابن الطيب رضى الله عنه: لاتدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك، فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلي وتميم الداري وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن العاص. فقول أنس لم يجمع القرآن غير أربعة، يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينا من رسول صلى الله عليه وسلم غير تلك الجماعة، فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه من غيره، وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل سبقهم إلى الأسلام وإعظام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم. قلت: لم يذكر القاضي، عبد الله بن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة رضى الله عنهم فيما رأيت، وهما ممن جمع القرآن. روى جرير عن عبد الله بن يزيد الصهباني عن كميل قال قال عمر بن الخطاب: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ومن شاء الله، فمررنا بعبد الله بن مسعود وهو يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هذا الذي يقرأ القرآن ". فقيل له: هذا عبد الله بن أم عبد، فقال: " إن عبد الله يقرأ القرآن غضا كما أنزل " الحديث. قال بعض العلماء: معنى قوله: " غضا كما أنزل " أي إنه كان يقرأ الحرف الأول الذي أنزل عليه القرآن دون الحروف السبعة التي رخص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته عليها بعد معارضة جبريل عليه السلام القرآن إياه في كل رمضان. وقد روى وكيع وجماعة مع عن الأعمش عن أبي ظبيان قال قال لي عبد الله بن عباس: أي القراءتين تقرأ ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد، فقال لي: بل هي الآخرة، إن رسول الله صلى الله عليهم وسلم كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه عليه مرتين، فحضر ذلك عبد الله فعلم ما نسخ من (1) زيادة عن البخاري. وقوله: ونحن ورثناه. أي أبا زيد. (*)
[ 58 ]
ذلك وما بدل. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم علد - فبدأ به - ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة ". قلت: هذه الأخبار تدل على أن عبد الله جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما تقدم، والله أعلم. وقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: حدثنا محمد بن شهريار حدثنا حسين بن الأسود حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر عن أبي إسحاق قال قال عبد الله بن مسعود: قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين وسبعين سورة - أو ثلاثا وسبعين سورة - وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى " إن الله يجب التوابين ويحب المتطهرين (1) ". قال أبو إسحاق: وتعلم عبد الله بقية القرآن من مجمع بن حارثة الأنصاري. قلت: فإن صح هذا، الإجماع الذي ذكره يزيد بن هارون، فلذلك لم يذكره القاضي أبو بكر الأنباري: حدثني إبراهيم بن موسى (2) الخوزي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مالك بن اسماعيل حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال: سألت الأسود ما كان عبد الله يصنع بسورة الأعراف ؟ فقال: ما كان يعلمها حتس قدم الكوفة، قال وقد قال بعض أهلم العلم: مات عبد الله بم مسعود رحمة الله قبل أن يتعلم المعوذتين، فلهذه العلة لم توجدا في مصحفه، وقيل غير هذا على ما يأتي بيانه آخر الكتاب عند ذكر " المعوذتين " إن شاء الله تعالى. قال أبو بكر: والحديث الذي حدثناه إبراهيم بن موسى حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عمر بن هارون الخراساني عن ربيعة بن عثمان عن محمد بن كعب القرظي قال: كان ممن ختم القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، حديث ليس بصحيح هند أهل العلم، إنما هو مقصور على محمد بن كعب، فهو مقطوع لا يؤخذ به ولا يعول عليه. (1) اية 222 من السورة المذكورة. (2) كذا في الأصول. والذي في التهذيب وغيره: ابن زيد. (*)
[ 59 ]
قلت: قوله عليه السلام " خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد " يدل على صحته، ومما يبين لك ذلك أن أصحاب القراءات من أهل الحجاز والشام والعراق كا منهم عزا قراءته التى اختارها إلى رجل من الصحابة قرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يستثن من جملة القرآن شيئا، فأسند عاصم قراءته إلى علي وابن مسعود، وأسند ابن كثير قراءته إلى أبي، وكذلك إبو عمرو بن العلاء أسند قراءته إلى أبي، وأما عبد الله بن عامر فإنه أسند قراءته إلى ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ وهولاء كلهم يقولون: قرأنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسانيد هذه القراءات متصله ورجالها ثقات. قاله الخطابي. باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته، وسكله ونقطه، وتحزيبه وتعشيره، وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه قال ابن الطيب: إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن، فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها، وقدم المكي على المدني، ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد، ومنهم من جعل في أوله: " اقرأ باسم ربك " وهذا أول مصحف علي رضى الله عنه. وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله " مالك يوم الدين " ثم البقرة ثم النساء، على ترتيب مختلف. ومصحف أبي كان أوله: الحمد لله، ثم النساء ثم آل عمران ثم الأمعام ثم الأعراف ثم المائدة، ثم كذلك على اختلاف شديد. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ماهي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة. وذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة " براءة " وذكر أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأمر بذلك في أول سورة " براءة " تركت بلا بسملة، هذا أصح ما قيل في ذلك، وسيأتي (1). وذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة وإنما نزلتا بالمدينة ؟ فقال (1) راجع ج 8 ص 61. (*)
[ 60 ]
ربيعة: قال قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على علم بذلك، فهذا مما ننتهي إليه، ولا نسأل عنه. وقد ذكر سنيد قال حدثنا معتمر عن سلام بن مسكين عن قتادة قال قال ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، آختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصاحفنا كان عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ماروى من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام، عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: " ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن ". وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات. حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هشام حدثنا أبو بكر عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: اخر ما نزل من القرآن: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة (1) ". عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم (1) آخر سورة " النساء ". (*)
[ 61 ]
لا يظلمون ". فقال جبيريل للنبي عليهما السلام: يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة. قال أبو الحسن بن بطال: ومن قال بهذ القول لا يقول إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف، بل إنما يجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة، ولا يعلم أن أحدا منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه، وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف، الا ترى قول عائشة رضى الله عنها للذي سألها: لا يضرك أية قرأت قبل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التى تليها. وأما ماروى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ في القرآن منكوسا، وقالا: ذلك منكوس القلب، فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة، ويبتدئ من اخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ، وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن، لأنه إفساد لسورة ومخالفة لما قصد بها. ومما يدل على أنه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله ماصح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية، ألا ترى قول عائشة رضى الله عنه: وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده - تعني بالمدينة - وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور. قال أبو بكر الإنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال: نزل بالمدينة من القرآن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق،
[ 62 ]
ويأيها النبي لم تحرم إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، هؤلاء السور نزلن بالمدينة، وسائر القرآن بمكة. قال أبو بكر: فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة، لم يدر أين تقع الفاتحة، لاختلاف الناس في موضع نزولها، ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به، ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى. وقد قيل إن علة تقديم المدني على المكي هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتها، وماتعرف من أفانين خطابها ومحاورتها، فلما كان فن من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر وتأخير المقدم خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى الذي لو فقدوه من القرآن لقالوا: ما باله عرى من هذا الباب الموجود في كلاكنا المستحلى من نظامنا. قال عبيد بن الأبرص: أن بدلت منهم وحوشا * وغيرت حالها الخطوب - عيناك دمعهما سروب * كأن شأنيهما شعيب أراد عيناك دمعهما سروب لأن تبدلت من أهلها وحوشا، فقدم المؤخر وأخر المقدم، ومعنى سروب: منصب على وجه الأرض. ومنه للذاهب على وجهه في الأر، قال الشاعر (1): * أني سربت وكنت غير سروب * وقوله: شأنيهما، الشأن واحد الشئون، وهي مواصل الرأس وملتقاها، ومنها يجئ الدمع. شعيب: متفرق. (1) هو قيس بن الخطيم. وتمام البيت: * وتقرب الأحلام غير قريب * وفي اللسان مادة " سرب ": " قال ابن برى: ابن دريد " سربت " بباء موحدة لقوله: وكنت غير سروب ومن رواه " سريت " بالياء باثنتين فمعناه: كيف سربت ليلا، وأنت لاتسربين نهارا ". (*)
[ 63 ]
(فصل) - وأما شكل المصحف ونقطه فروى أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله، فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزينه، وأمر وهو والى العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك، وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ماروى من اختلاف الناس فيما وافق الخط، ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا، إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات. وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر. (فصل) - وأما وضع الأعشار فقال ابن عطية: مر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك، وقيل: إن الحجاج فعل ذلك. وذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له عن عبد الله بن مسعود أنه كره التعشير في المصحف، وأنه كان يحكه. وعن مجاهد أنه كره التعشير والطيب في المصحف. وقال أشهب: سمعت مالكا وسئل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان، فكره ذلك وقال: تعشير المصحف بالحبر لا بأس به، وسئل عن المصاحف يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية، قال: إني أكره ذلك في أمهات المصاحف ن يكتب فيها شئ أو يشكل، فأما ما يتعلم به الغلمان من المصاحف فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب: ثم أخرج إلينا مصحفا لجده، كتبه إذ كتب عثمان المصاحف، فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السط، ورأيته معجوم الآي بالحبر. وقال قتادة: بدؤافنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا. وقال يحيى بن أبي كثير كان القرآن مردا في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء، وقالوا: لا بأس به، هو نور له، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم. وعن أبي حمزة قال: رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا، فقال لي: امحه فإن عبد الله بن مسعود قال: لا تخلطوا في كتبا الله ما ليس فيه. وعن أبي بكر السراج قال قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا، قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه فيظنونه من القرآن.
[ 64 ]
قال الدانى رضى الله عنه: وهذه الأخبار كلها تؤذن بأن التعشير والتخميس وفواتح السور ورؤوس الآى من عمل الصحابة رضى الله عنهم، قادهم إلى عمله الاجتهاد، وأرى أن من كره ذلك منهم ومن غيرهم إنما كره أن يعمل بالألوان كلاحمرة والصفرة وغيرها، والحراج والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله. (فصل) - وأما عدد حروفه وأجزائه فروى سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتاب، فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو ؟. قال: وكنت فيهم، فحسبنا فأجمعنا على أن القرآن ثلثمائة ألف حرف وأربعون ألف حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا وقال: فأخبروني إلى أي حرف ينتهي نصف القرآن ؟ فإذا هو الكهف " وليتلطف " في الفاء. قال: فأخبروني بأثلاثه، فإذا الثلث الأول رأس مائة من براءة، والثلث الثاني رأس مائة أو إحدى ومائة من طسم الشعراء، والثلث الثالث ما بقى من القرآن. قال فأخبروني بأسباعه على الحرف، فإذا أول سبع في النساء " فمنهم من آمن به ومنهم من صد " في الدال، والسبع الثاني في الأعراف " أولئك حبطت " في التاء، والسبع الثالث في الرعد " أكلها دائم " في الألف من آخر أكلها، والسبع الرابع في الحج " ولكل أمة جعلنا منسكا " في الألف، والسبع الخامس في الأحزاب " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة " في الهاء، والسبع السادس في الفتح " الظانين بالله ظن السوء " في الواو، والسبع السابع ما بقي من القرآن. قال سلام أبو محمد: علمناه في أربعة أشبر، وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربعا، فأول ربعه خاتمة الأنعام. والربع الثاني في الكهف " وليتلطف "، والربع الثالث خاتمة الزمر، والربع الرابع ما بقي من القرآن. وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب البيان لأبي عمرو الداني، من أراد الوقوف عليه وجده هناك. (فصل) - وأما عدد القرآن في المدني الأول، فقال محمد بن عيسى: جمع عدد آى القرآن في المدني ستة آلاف آية. قال عمرو: وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة، ولم يسموا في ذلك أحد بعينه يسندونه إليه.
[ 65 ]
وأما المدني الأخير فهو قول إسماعيل بن جعفر: ستة ألاف آية ومئتان آية وأربع عشرة آية. وقال الفضل: عدد أي القرآن في قول المكيين ستة آلاف ومئتا آية وتسع عشرة آية. قال محمد بن عيسى: وجميع عدد آى القرآن في قول الكوفيين ستة آلاف آية ومئتا آية وثلاثون وست آيات، وهو العدد الذي رواه سليم (1) والكسائي عن حمزة، وأسنده الكسائي إلى على رضى الله عنه. قال محمد: وجميع عدد آى القرآن في عدد البصريين ستة ألاف ومئتان وأربع آيات، وهو العدد الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن. وأما عدد أهل الشام فقال يحيى بن الحارث الذماري: ستة آلاف ومئتان وست وعشرون. في رواية ستة آلاف ومئتان ومئتان وخمس وعشرون، نقص آية. قال ابن ذكوان: فظنت أن يحيى لم يعد " بسم الله الرحمن الرحيم ". قال أبو عمرو: فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا، ويعدون بها في سائر الآفاق قديما وحديثا. وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان: جميع كلمات القرآن - في قول عطاء بن يسار - سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وحروفه ثلثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا. قلت: هذا يخالف ما تقدم عن الحماني قبل هذا. وقال عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: هذا ماأحصينا من القرآن، وهو ثلثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا، وهذا يخالف ما ذكره قبل هذا الحماني من عد حروفه. باب ذكر معنى السورة والآية والكلمة والحرف معنى السورة في كلام العرب الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها، وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة. قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزل الملوك. وقيل سميت لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور. وقيل سميت بذلك لإن قارئها يشرف على ما لم يكن (1) في الأصول: " مسلم " والراوي عن حمزة هو سليم بن عيسى الكوفي وهو أخص أصحاب حمزة به (طبقات القراء). (*)
[ 66 ]
عنده كسور الباناء بغير همزة. وقيل سميت بذلك، لأنها قطعت من القرآن على حد، من قول العرب للبقية: سؤر، وجاء أسآر الناس أي بقاياهم، فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمزة ثم خففت فأبدلت واوا لانظمام ما قبلها. وقيل سميت بذلك لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة: سورة، وجمع سورة سور بفتح الواو. وقال الشاعر (1): * سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويجوز أن يجمع على سورات وسورات. وأما الآية فهي العلامة: بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام قبلها من الذي بعدها وانفصاله، آى هي بائنة من أختها ومنفردة. وتقول العرب: بيني وبين فلان آية، أي علامة، ومن ذلك قوله تعالى " إن آية ملكه (2) ". وقال النابغة: توهمت آيات لها فعرفته * لستة أعوام وذا العام سابع وقيل: سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآياتهم أي بجماعتهم. قال برج بن مسهر الطائي: خرجنا من النقبين لاحى مثلنا * بآياتنا نطجى اللقاح المطافلا وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها. واختلف النحويون في أصل آية، فقال سيبويه: أييه على فعله مثل أكمه وشجرة، فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها انقلبت ألفا فصارت آيه بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائي: أصلها آيية على وزن فاعلة مثل آمنة فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتباسها بالجمع. وقال الفراء: أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت ألفا كراهة التشديد فصارت آية وجمعها آى وآيات وآياء (3). وأنشد أبو زيد: لم يبق الدهر من آيائه * غير أثافيه وأرمدائه (1) هو الراعي. وصدر البيت: * هن الحرائر ربات أخمرة * (2) آية 248 سورة " البقرة ". (3) قال في اللسان مادة (أيا) جمع الجمع نادر. (*)
[ 67 ]
وأما الكلمة فهي الصورة القائمة بجميع مايختلط بها من الشبهات (1) أي الحروف، وأطول الكلم في كتاب الله عزوجل ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله تعالى: " ليستخلفنهم (2) ". و " أنلزمكموها (3) " وشبههما، فأما قوله " فأسقيناكموه (4) " فهو عشرة أحرف (5) في الرسم وأحد عشر في اللفظ. وأقصرهن ما كان على حرفين نحو ما ولا وله، وما أشبه ذلك. ومن حروف المعاني ما هو على كلمة واحدة، مثل همزة الاستفهام وواو العطف، إلا أنه لا ينطق به مفردا. وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة نحو قوله تعالى: " والفجر ". " والضحى ". " والعصر ". وكذلك " آلم ". و " المص ". و " طه ". و " يس ". و " حم " في قول الكوفيين، وذلك ف يفواتح السور، فأما ما في حشوهن فال. قال أبو عمرو الداني: ولا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله في الرحمن " مدهامتان (6) " لاغير. وقد أتت كلمتان متصلتان وهما آيتان، وذلك في قوله تعالى " حم عسق " على قول الكوفيين لاغير. وقد تكون الكلمة في غير هذا: الآية التامة، والكلام القائم بنفسه، وإن كان أكثر أو أقل، قال الله عزوجل: " وتمت (7) كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا " قيل: إنما يعني بالكلمة هاهنا قوله تبارك وتعالى: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا (8) في الأرض " إلى آخر الآيتين، وقال عزوجل " وألزمهم (9) كلمة التقوى ". قال مجاهد لا إله إلا الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ". وقد تسمى العرب القصيدة بأسرها، والقصة كلها، كلمة فيقولون: قال قس في كلمته كذا، أي في خطبته، وقال زهير في كلمته كذا، أي في قصيدته، وقال فلان في كلمته يعني في رسالته، فتسمى جملة الكلام كلمة إذ كانت الكلمة منها، على عادتهم في تسميتهم الشئ بإسم ما هو منه وما قاربه وجاوره، وكان بسبب منه، مجازا اواتساعا. وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة، وقد يسمى الحرف كلمة والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع والمجاز. قال أبو عمرو الداني: فإن قيل فكيف يسمى ما جاء من (1) لم نر هذا التعبير لغير المؤلف، وقد سبق التعبير به في ص 16 من هذا الجزء. (2) سورة النور آية 55. (3) سورة هود آية 28. (4) سورة الحجر آية 22. (5) كأنه اعتبر هاء الضمير كلمة أخرى في الرسم فقط. (6) سورة الرحمن آية 64. (7) سورة الأعراف آية 137. (8) سورة القصص اية 5. (9) سورة الفتح آية 26. (*)
[ 68 ]
حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد نحو " ص " و " ن " حرفا أو كلمة ؟ قلت: كلمة لا حرفا، ولذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه، ولا ينفرد وحده في الصورة ولا ينفصل مما يختلط به، وهذه الحروف مسكوت عليها منفردة منفصلة كانفراد الكلم وانفصالها، فلذلك سميت كلمات لاحروفا. قال أبو عمرو: وقد يكون الحرف في غير هذا: المذهب والوجه، قال الله عزوجل " ومن الناس من يعبد الله على حرف " أي على وجه ومذهب، وم ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف " أي سبعة أوجه من اللغات، والله أعلم. باب هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب أولا لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب، وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير العرب، كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط. واختلفوا هل وقع فيه إلفاظ غير أعلام مفردة من كلام غير العرب، فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه، وأن القرآن عربي صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم، وذهب بعضهم إلى وجودها فيه، وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا، ولارسول الله عن كونه متكلما بلسان قومه، فالمشكاة: الكوة وونشأ: قام من الليل، ومنه " إن ناشئة الليل " و " يؤتكم كفلين " أي ضعفين. و " فرت من قسورة " أي الأسد، كله بلسان الحبشة. والغساق: البارد المنتن بلسان الترك. والقسطاس: الميزان، بلغة الروم. والسجيل: الحجارة والطين بلسان الفرس. والطور الجبل. واليم البحر بالسريانية. والتنور: وجه الأرض بالعجمية. قال ابن عطية: " فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه. وقد كان العرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة تحارت، وبرحلتى قريش، وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام،
[ 69 ]
وكفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى ألى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن. فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس معنى " فاطر " إلى غير ذلك. قال ابن عطية: " وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل والاخرى فرع في الأكثر، لأنا لاندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا ". قال غيره: والأول أصح. وقوله: هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم، ليس بأولى من العكس، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطب بها أولا، فإن كان الأول فهي من كلامهم، إذا لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة. فإن قيل: ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه. قلنا: ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها، فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية، وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون، وحينئذ لا يكون القرآن عربيا نبينا، ولايكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم، والله أعلم. باب ذكر في إعجاز القرآن وشرائط المعجزة وحقيقتها المعجزة واحدة معجزات الأنبياء الدالة على صدقهم صلوات الله عليهم، وسميت معجزة لأن البشر يعجزون عن الأتيان بمثلها، وشرائطها خمسة فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة. (1) في الأصول: " والأخرى فرع، لاأنا ندفع... الخ ". والزيادة والتصويب عن ابن عطية. (*)
[ 70 ]
فالشرط الأول من شروطها أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه. وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة لأنه أتى آت في زمان يصح فيه مجئ الرسل وادعى الرسالة وجعل معجزته أت يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد لم يكن هذا الذي ادعاه معجزه له، ولا دالا على صدقه لقدرة الخلق على مثله، وإنما يجب أن تكون المعجزات كفلق البحر، وانشقاق القمر، وما شاكلها مما لا يقدر عليها البشر. والشرط الثاني هو أن تخرق العادة. وإنما وجب اشتراط ذلك لأنه لو قال المدعى للرسالة: آيتى مجئ الليل بعد النهار وطلوع الشمس من مشرقها، لم يكن فيما ادعا معجزة، لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلا الله، فلم تفعل من أجله، وقد كانت قبل دعواه على ماهى عليه في حين دعواه، ودعواه في دلالتها على نبوته كدعوى غيره، فبان أنه لاوجه له يدل على صصدقه، والذي يستشهد به الرسول عليه السلام له وجه يدل على صدقه، وذلك أن يقول: الدليل على صدقي أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواى عليه الرسالة، فيقلب هذه العصا ثعبانا، ويشق الحجر ويخرج من وسطه ناقة، أو ينبع الماء من بين أصابعي كما ينبعه من العين، أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادات، التي ينفرد بها جبار الأرض والسموات، فتقوم له هذه العلامات مقام قول الرب سبحانه، لو أسمعنا كلامه العزيز وقال: صدق، أنا بعثته و. مثال هذا المسألة - ولله ولرسوله المثل الأعلى - ما لو كانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض، وقال أحد رجاله وهو بمرأى منه والملك يسمعه: الملك يأمركم أيها الجماعة بكذا وكذا، ودليل ذلك أن الملك يصدقني بفعل م أفعاله، وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصدا بذلك تصديقي، فإذا سمع الملك كلامه لهم ودعواه فيهم، ثم عمل ما استشهد به على صدقه، قام ذلك مقام قوله لو قال: صدق فيما ادعاه على. فكذلك إذا عمل عملا لا يقدر عليه إلا هو، وخرق به العادة على يد الرسول، قام ذلك الفعل مقام كلامة تعالى لو أسمعناه وقال: صدق عبدي في دعواى الرسالة، وأنا أرسلته إليكم فاسمعوا له وأطيعوا.
[ 71 ]
والشرط الثالث هو أن يستشهد بها مدعى الرسالة على الله عزوجل، فيقول: آيتى أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا أو يحرك الأرض عند قولي لها، تزلزلي، فإذا فعل الله سبحانه ذلك حصل المتحدي به. الشرط الرابع هو أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له، وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعى للرسالة: آية نبوتي ودليل حجتي أن تنطق يدى أو هذه الدابة فنطقت يده أو الدابة بأن قالت: كذب وليس هو نبي فإن هذا الكلام الذي خلقه الله تعالى دال كذب المدعى للرسالة، لأن ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه. وكذلك ما يروى أن مسيلمة الكذاب لعنه الله تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وذهب ما كان فيها من الماء، فما فعل الله سبحانه من هذا، كان من الآيات المكذبة لمن ظهرت على يديه، لأنها وقعت على خلاف ما أراده المتنبئ الكذاب. والشرط الخامس من شروط المعجزة ألايأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة، فإن تم الأمر المتحدي به المستشهد به على النبوة على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة فهي معجزة داله على نبوة من ظهرت على يده، فإن أقام الله تعالى من يعارضه حتى يأتي بمثل ما أتى به ويعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيا، وخرج عن كونه معجزا ولم يدل على صدقه، ولهذا قال المولى سبحانه: " فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين " وقال: " أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات ". كأنه يقول: إن ادعيتم أن هذا القرآن من نظم محمد صلى الله عليه وسلم وعمله فاعملوا عشر سور من جنس نظمه، فإذا عجزتم بأسركم عن ذلك فاعلموا أنه ليس من نظمه ولا من عمله. لا يقال، إن المعجزات المقيدة بالشروط الخمسة لا تظهر إلا على أيدى الصادقين، وهذا المسيخ الدجال فيما رويتم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم يظهر على يديه من الآيات العظام، والأمور الجسام، ما هو معروف مشهور، فإنا نقول: ذلك يدعى الرسالة، وهذا يدعى الربوبية وبينهما من الفرقان مابين البصراء والعميان، وقد قام الدليل العقلي على أن بعثه بعض الخلق
[ 72 ]
إلى بعض غير ممتنعة ولا مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله تعالى الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة. ودلت الأدلة العقلية أيضا على أن المسيخ الدجال فيه التصوير والتغيير من حال الى حال، وثبت أن هذه الصفات لا تليق إلا بالمحدثات، تعالى رب البريات عن أن يشبه شيئا أو يشبهه شئ ليس كمثله شئ وهو السميع البصير. فصل - إذا ثبت هذا فاعلم أن المعجزات على ضربين: الأول - ماشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني - ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله، واستفاضت بثبوته ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة، ومن شروطه أن يكون الناقلون له: خلقا كثيرا وجما غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا، وأن يستوى في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الأمة رضى الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلة المعجزات، والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عزوجل، فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه، لكثرة العدد ولذلك وقع لنا العلم الضرورى بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به. ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان، كالبصرة والشام والعراق وخراسان والمدينة ومكة، وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة المتواترة، فالقران معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كلى نبي انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل والتغير، كالتوراة والإنجيل.
[ 73 ]
ووجوه إعجاز القرآن عشرة: منها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفى غيرها، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شئ، وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له ". وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس ؟ قال يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء (1) الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر، والله إنه لصادق ئإنهم لكاذبون. وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا بشعر لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حم " فصلت، على ما يأتي بيانه هناك (2)، فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان وموشعه من الفصاحة والبلاغة، بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا باعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه. ومنها: الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب. ومنها: الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، وتأمل ذلك في سورة " ق والقرآن المجيد (3) " إلى آخرها، وقوله سبحانه: " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة (4) " إلى آخر السوره، وكذلك قوله سبحانه: " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون (5) " إلى آخر السورة. قال ابن الحصار: فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره،. لا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول: " لمن الملك اليوم (6) " ولا أن يقول: " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء (7) ". قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كل سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدي والتعجيز، ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة، من غير أن (1) أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره وأنحاؤه. (2) راجع ج 15 ص 337. (3) راجع ج 17 ص 1. (4) راجع ج 15 ص 277. (5) راجع ج 9 ص 376. (6) راجع ج 15 ص 300. (7) راجع ج 9 ص 296. (*)
[ 74 ]
ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشر: فهذه سورة " الكوثر " ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين: أحدهما - الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل. والثاني - الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد، على ما يقتضيه قوله الحق: " ذرني ومن خلقت وحيدا. وجعلت له مالا ممدودا. وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا (1) " ثم أهلك الله - سبحان - ماله وولده، وانقطع نسله. ومنها التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه. ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أؤل الدنيا إلى وقت تزوله من أمي ماكان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيميه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصص أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم - وهو أمي من أمة أمية، ليس لها بذلك علم - بما عرفوا من الكتب السالفة صحته، فتحققوا صدقه. قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة - أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة، الأخبار، والا مترددا إلى المتعلم منهم، ولا كان منن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ومنها: الوفاء بالوعد، المدرك بالحسن في العيان، في كل ما وعد الله سبحان، وينقسم: إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله عليه السلام، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه. وإلى وع مقيد بشرط، كقوله: " ومن يتوكل على الله فهم حسبه (2) " " ومن يؤمن بالله يهد قلبه (3) " " ومن يتق الله يجعل له مخرجا (4) " و " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مائتين (5)، وشبه ذلك ومنها: الإخبار عن المغيبات في المستقبل التى لا يطلع عليها إلا بالوحي، فمن ذلك: (1) راجع ج 19 ص 70. (2) راجع ج 18 ص 161. (3) راجع ج 18 ص 139. (4) راجع ج 18 ص 157. (5) راجع ج 8 ص 44. (*)
[ 75 ]
ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق (1) " الآية. ففعل ذلك. وكان أبو بكر رضى الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه، ولثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك: فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، برا وبحرا، قال الله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم (2) " وقال: " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ". وقال " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم (4) " وقال: " الم. غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (5) ". فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين، أو من أوقفه عليها رب العالمين، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه. ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام. ومنها الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي. ومنها: التناسب في جميع ماتصمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف: قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير اله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (6) ". قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم، ووجه حادى عشر قاله النظام وبعض القدرية: أن وجه الإعجاز هو المنع من معارته، والصرفة عند التحدي بمثله. وأن المنه والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أن الله تعال صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله. وهذا فاسد، لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز، فلوا قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن كونه معجزا، وذلك خلاف الإجماع، وإذ كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذا الصرفة هامش) * (1) راجع ج 8 ص 121. (2) راجع ج 12 ص 297. (3) راجع ج 16 ص 289. (4) راجع ج 7 ص 369. (5) راجع ج 14 ص 1. (6) راجع ج 5 ص 290 (*)
[ 76 ]
على قولين: أحدهما: - أنهم صرفوا على القدرة عليه، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه. الثاني - أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. قال ابن عطية: " وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه. ووجه إعجازه: أن الله تعالى قد أحاط بكل شئ علما، وأحاط بالكلام كله علما، فعلم بإحاطته أي لفظه تصلح أن تلى الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط، بهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة. وبهذا النظر يبطل قوال من قال: إن العرب كان في قدرتها إن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك، وعجزوا عنه. والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيع = ها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامه فيبدل فيها وينقح، ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضيع للنظر والبدل، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظه، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد ". ومن فصاحة القرآن أن اله تعالى جل ذكره، ذكر في آية واحدة أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين وهو قوله تعالى: " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه (1) الآية. وكذلك فاتحة سورة المائدة: أمر بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن حكمته وقدرته، وذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، وأنبأ سبحانه عن الموت، وحسرة الفوت، والدار الآخرة وثوابها وعقابها، وفوز الفائزين، وتردى المجرمين، والتحذير من الاغترار بالدنيا، ووصفها بالقلة بالاضافة إلى دار البقاء بقئله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة (2) " الآية. وأنبأ أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين، وعواقب المهلكين، في شطر آية وذلك في قوله تعالى: " فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم (1) آية 7 سورة القصص. (2) آية 185 سورة آل عمران. (*)
[ 77 ]
من أغرقنا (1) ". وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة، واستقرار السفينة واستوائها، وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عزوجل " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها " الى قوله: " وقيل بعدا للقوم الظالمين " إلى غير ذلك. فلما عجزت قريش عن الأتيان بمثله وقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم تقوله، أنزل الله عتالى: " أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (2) ". ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال: " أم يقولون افتراه قل فاتوا لعشر سور مثله مفتريات (3) ". فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار، إلى مثل سورة من السور القصار، فقال جل ذكره: " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله (4) ". فأفحموا عن الجواب، وتقطعت بهم الأسباب، وعدلوا ألى الحروب والعناد، وآثروا سبي الحريم والاولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا، وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا. هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن (5)، وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن (6). فبلاغة القرآن في آعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإياز والبيان، بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أوتي من جوامع الكلم، واختص به من غرائب الحكم، إذا تأملت قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الجنان، وإن كان في نهاية الإحسان، وجدته منحطا عن رتبة القرآن، وذلك في قوله عليه السلام: " فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر فأين ذلك من قوله عزوجل " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ". وقوله " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ". هذا أعدل وزنا، وأحسن تركيبا، وأعذب لفظا، وأقل حروفا، على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو إطول آية، لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف، وضاق المقال على القاصر المتكلف، وبهذا قامت الحجة على العرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى (1) آية 40 سورة العنكبوت. (2) آية 33، 34 سوره الطور. (3) آية 13 سورة هود. (4) آية 23 سورة البقرة. (5) اللحن (بالتحريك): الفطنة واللغة. (6) اللسن (بالتحريك) الفصاحة. (*)
[ 78 ]
عليه السلام على السحرة، فإن الله سبحانه إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحرة في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته، وكذلك الطب في زمن عيسى عليه السلام، والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم. باب التنبيه على أحاديث وضعت في فضل سور القرآن وغيره لا التفات لما وضعه الواضعون، وغير ذلك من فضائل الأعمال، قد ارتكبها جماعة كثيره اختلفت أغراضهم ومقاصدهم في ارتكابها، فمن قوم من الزنادقة م ث ل: المغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، وغيرهما، وضعوا أحاديث وحدثوا بها ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس، فمما رواه محمد بن سعيد عن أنس بن مالك في قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا خاتم الأنبياء لانبي بعدي إلا ما شاء الله " فزاد هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة. قلت: وقد ذكر ابن عبد البر في كتاب (التمهيد) ولم يتكلم عليه، بل تأول الاستثناء على الرؤيا، فالله أعلم. ومنهم قوم وضعوا الحديث لهوى يدعون الناس إليه، قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا. ومنهم جماعة وضعوا الحديث حسبة كما زعموا، يدعون الناس إلى فضائل الأعمال، كما روى عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي، ومحمد بن عكاشة الكرماني، وأحمد بن عبد الله الجويباري، وغيرهم. قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة ؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة. قال أبو عمرو عثمان بن
[ 79 ]
الصلاح في كتاب (علوم الحديث) له: وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة سورة، وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر الوضع عليه لبين. وقد أخطا الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إداه تفاسيرهم. ومنهم قوم من السؤال والمكدين يقفون في الأسواق والمساجد، فيضعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد، قال جعفر بن محمد الطيالسي: صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهما قاص فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قلا أنبأنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه مرجان. وأخذ في قصته نحو من عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثته بهذا ؟ فقال: والله ما سمعت به إلا هذه الساعة، قال فسكتا جميعا حتى فرغ من قصصه، فقال له يحيى من حدثك بهذا الحديث ؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال أنا ابن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ولابد من الكذب فعلى غيرنا، فقال له: أنت يحيى بن معين ؟ قال: نعم، قال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين أحمق، وما علمته إلا هذه الساعة، فقال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق ؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا. قال فوضع أحمد كمه على وجهه وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما. فهولاء الطوائف كذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجرى مجراهم. يذكر أن الرشيد كان يعجبه الحمام واللهو به، فأهدى إليه حمام وعنده أبو البختري (1) (1) أبو البختري: هو وهب بن وهب بن وهب بن كثير. انتقل من المدينة إلى بغداد في خلافة هارون الرشيد فولاه القضاء بعسكر المهدى (المحلة المعروفة بالرصافة بالجانب الشرقي من بغداد) ثم عزله وولاه القضاء بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بكار الزبيري وجعل إليه ولاية حربها مع القضاء ثم عزله فقدم بغداد وأقام بها إلى أن توفى سنة مائتين (*)
[ 80 ]
القاضى فقال: روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاسبق إلا في خف أو حافر أو جناح " فزاد: أو جناح، وهي لفظة وضعها للرشيد، فأعطاه جائزة سنية، فلما خرج قال الرشيد: والله لقد علمت أنه كذاب، وأمر بالحمام أن يذبح، فقيل له: وما ذنب الحمام ؟ قال: من أجله كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترك العلماء حديثه لذلك، ولغيره من موضوعاته، فلا يكتب العلماء حديثه بحال. قلت: فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما من المصنفات التي تداولها العلماء، ورواها الأئمة الفقهاء، لكتن لهم في ذلك غنية، وخرجوا عن تحذيره صلى الله عليه وسلم حيث قال: " اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فممن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " الحديث. فتخويفه صلى الله عليه وسلم أمته بالنار على الكذب، دليل على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه. فحذار مما وضعه أعداء الدين، وزنادقة المسلمين، في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك، وأعظمهم ضررا أقوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم، ثقة منهم بهم، وركونا إليهم فضلوا وأضلوا. باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان لا خلاف بين الأمة ولابين الأئمة أهل السنة، أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له - على نحو ما تقدم - وأنه محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأة من الزيادة عليه أو نقصانا منه، فقد أبطل الإجماع، وبهت الناس، ورد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزل عليه ورد قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (1) " وأبطل آية رسوله (1) راجع ج 10 ص 326. (*)
[ 81 ]
عليه السلام، لأنه إذ ذاك يصير مقدورا عليه 7 حين شيب الباطل، ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية، وخرج عن أن كون معجزا. فاقائل: بأن القرآن فية زيادة ونقصان راد لكتاب الله ولما جاء به الرسول، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزويج تسع من النساء حلال، وفرض الله أياما مع ظهر رمضان، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين، فإذا رد هذا بالإجماع، كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد وألزم وأوجب. قال الإمام أبو بكر محمد بن القام بن بشار بن محمد الأنباري: ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلو منزلته، ما يوجبه الحق والإنصاف والديانة، وينفون عنه قول المبطلين، وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين، حتى نبع في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملة وهجم على الأئمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها، ويثبت أسها، وينمي فروعها، ويحرسها من معايب أولى الجنف والجور، ومكايد أهل العداوة والكفر. فزعم أن المصحف الذي جمعة عثمان رضى اله عنه - باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تصويبه فيما فعل - لا يشتمل على جمع القرآن، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف، قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيتها، فمنها: " والعصر ونوائب الدهر " فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين " ونوائب الدهر ". ومنها: " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها ". فادعى هذا الإنسان أنه سقط على أهل الأسلام من القرآن: " وما كان الله ليهلكها الإبذنوب أهلها "، وذكر مما يدعى حروفا كثيرة. وادعى أن عثمان والصحابة رضى الله عنهم زادوا في القرآن ما ليس فيه، فقرأ في صلاة الفرض والناس يسمعون: " الله الواحد الصمد " فأسقط من القرآن " قل هو " وغير لفظ
[ 82 ]
" أحد " وادعى أن هذا هو الصواب عليه الناس هو الباطل والمحال، وقرأ في صلاة الفرض " قل للذين كفروا لاأعبد ما تعبدون " وطعن في قراءة المسلمين. وادعى أن المصحف الذي ف يأيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيرة، منها: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (1) " فادعى أن الحكمة والعزة لايشاكلان المغفرة، وأن الصواب: " وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ". وترامى به الغى في هذا وأشكاله حتى ادعى أن المسلمين يصحفون: " وكان عند الله وجيها " والصواب الذي لم يغير عنده: " وكان عبدا لله وجيها "، وحتى قرأ في صلاة مفترضة على ما أخبرنا جماعة سمعوه وشهدوه: " لا تحرك به لسانك أن علينا جمعه وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به ". وحكى لنا آخرون عن آخرين أنهم سمعوه يقرأ: " ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة ". وروى هولاء أيضا لنا عنه قال: " هذا صراط على مستقيم ". وأخبرونا أنه أدخل في آية من القرآن مالا يضاهى فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في لسان قومه الذين قال الله عزوجل فيهم: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " فقرأ: " أليس قلت للناس " في موضع: " أأنت قلت للناس " وهذا لايعرف في نحو المعربين، ولا يحمل على مذاهب النحويين، لأن العرب لم تقل: ليس قمت، فأما: لست قمت، بالتاء فشاذ قبيح خبيث ردئ، لأن ليس لا تجحد الفعل الماضي، ولم يوجد مثل هذا إلا في قولهم: أليس قد خلق الله مثلهم، وهو لغة شاذة لا يحمل كتاب الله عليها. وادعى أن عثمان رضى اله عنه لما أسند جمع القرآن ألى زيد بن ثابت لم يصب، لأن عبد الله بن مسعود وأبى بن كعب كانا أولى بذلك من زيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أقرأ أمتى أبي بن كعب " ولقوله عليه السلام: " من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد ". وقال هذا القائل: لى أن أخالف محف عثمان كما خالفه أبو عمرو بن العلاء، فقرأ: " إن هذين (2) "، " فأصدق وأكون "، وبشر عبادي الذين " بفتح الياء، " فما أتانى الله " بفتح الياء. والذى في المصحف: " إن هذان (2) " بالألف، (1) آية 118 سورة المائدة. (2) بتشديد النون، قراءة نافع. (*)
[ 83 ]
" فأصدق وأكن " بغير واو، " فبشر عباد "، " فما أتان الله " بغير ياءين في الموضعين.. كما خالف ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي مصحف عثمان فقرءوا: " كذلك حقا علينا ننج المومنين " بإثبات نونين، يفتح الثانية بعضهم ويسكنها بعضهم، وفي المصحف نون واحدة (1)، وكما خالف حمزة المصحف فقرأ: " أتمدون بمال " بنون واحدة ووقف على الياء، وفي المصحف نونان ولاياء بعدهما، وكما خالف حمزة أيضا المصحف فقرأ: " ألا إن ثمودا كفروا ربهم " بغير تنوين، وإثبات الألف يوجب التنوين، وكل هذا الذي شنع به على القراء مايلزمهم به خلاف للمصحف. قلت: قد أشرنا إلى العد فيما تقدم مما اختلف فيه المصاحف، وسيأتي بيان هذه المواضع في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. قال أبو بكر: وذكر هذا الإنسان أن أبى بن كعب هو الذي قرأ " كأن لم تغن بالأمس وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها " وذلك باطل، لأن عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد، ومجاهد قرأ على ابن عباس، وابن عباس قرأ القرآن على أبي بن كعب " حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الايات "، في رواية وقرأ أبي القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد متصل بالرسول عليه السلام نقله أهل العدالة والصيانة، وإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لم يؤخذ بحديث يخالفه. وقال يحيى بن المبارك اليزيدي: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وقرأ أبي عمرو على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عباس، وقرأ ابن عباس على أبي بن كعب، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيها " وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها " فمن جحد أن هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيه عليه السلام فليس بكافر ولا آثم. حدثني أبي نبأنا نصر بن الصاغاني نبأنا أبو عبيد قال: ما يروى من الحروف التي تخالف المصحف الذي عليه الإجماع من الحروف التي يعرف أسانيدها الخاصة دون العامة فيما نقلوا عن أبي: " وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها "، وعن ابن عباس " ليس (1) يلاحظ أن الذي في المصحف نونان. (*)
[ 84 ]
عليكم جناح أن تبتغو فضلا من ربكم في مواسم الحج ". ومما يحكون عن عمر بن الخطاب أنه قرأ: " غير المغضوب عليهم وغير الضالين " مع نظائر لهذه الحروف كثيرة لم ينقلها أهل العلم على أن الصلاه بها تحل، ولا على أنها معارض بها مصحف عثمان، لأنها حروف لو جحدها جاحد أنها من القرآن لم يكن كافرا، والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له لو أنكر بعضه منكر كان كافرا، حكمه حكم المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وقال أبو عبيد: لم يزل صنيع عثمان رضى الله عنه في جمعه القرآن يعتد له بأنه من مناقبه العظام، وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ فانكشف عواره، ووضحت فضائحه. قال أبو عبيد: وقد حدثت عن يزيد بن زريع عن عمران بن جرير عن أبى مجلز قال: طعن قوم على عثمان رحمه الله - بحمقهم - جمع القرآن، ثم قرءوا بما نسخ. قال أبو عبيد: يذهب أبو مجلز إلى أن عثمان أسقط الذي أسقط بعلم كما أثبت الذي أثبت بعلك. قال أبو بكر: وفي قوله تعالى " أنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " دلالة على كفر هذا الإنسان، لأن الله عزوجل قد حفظ القرآن من التغيير والتبديل، والزيادة والنقصان، فإذا قرأ قارئ: " تبت يدا أبي لهب وقد تب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب ومريته حمالة الحطب في جيدها حبل من ليف " فقد كذب على الله جل وعلا وقوله ما لم يقل، وبدل كتابه وحرفه، وحاول ما قد حفظه منه ومنع من اختلاطه به، وفي هذا الذي أتاه توطئة الطريق لأهل الإلحاد، ليدخلوا في القرآن مايحلون به عر الإسلام، وينسبونه إلى قوم كهولاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم. وفيه إبطال الإجماع الذى به يحرس الإسلام، وبثباتة تقام الصوات، وتؤدي الزكوات وتتحرى المتعبدات. وفي قول الله تعالى: " الر كتاب أحكمت آياته " دلالة على بدعة هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر، لأن معنى " أحكمت آياته ": منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها أو يعارضوها بمثلها، وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها: وكفى الله المؤمنين القتال بعلى وكان الله قويا عزيزا. فقال في القرآن هجرا، وذكر عليا في مكان لو سمعه يذكره فيه لأمضى عليه الحد، وحكم عليه بالقتل. وأسقط من كلام الله
[ 85 ]
" قل هو " وغير " أحد " فقرأ: الله الواحد الصمد. وإسقاط ما أسقطه نفي له وكفر، ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله وأبطل معنى الآية، لأن أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك، أمن ذهب أم من نحاس أم من صفر ؟ فقال الله جل وعز ردا عليهم: " قل هو الله أحد " ففي " هو " دلالة على موضع الرد ومكان الجواب، فإذا سقط بطل معنى الآية، ووضح الافتراء على الله عزوجل، والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال لهذا الإنسان ومن ينتحل نصرته: أخبرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولامن كان قبلنا من أسلافنا سواه، هل هو مشتمل على جميع القرآن من أوله إلى آخره، صحيح الألفاظ والمعاني عار عن الفساد والخلل ؟ أم هو واقع على بعض القرآن والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين من أهل ملتنا ؟ فإن أجابوا بأن القرآن الذي معنا مشتمل على جميع القرآن لا يسقط منه شئ، صحيح اللفظ والمعاني، سليمها من كل زلل وخلل، فقد قضوا على أنفسهم بالكفر حين زادوا فيه " فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم " فأي زيادة في القرآن أوضح من هذه، وكيف تخلط بالقرآن وقد حرسه الله منها ومنع كل مفتر ومبطل من أن يلحق به مثلها، وإذا تؤملت وبحث عن معناها وجدت فاسدة غير صحيحة، لا تشاكل كلام الباري تعالى ولا تخلط به، ولا توافق معناه، وذلك أن بعدها " لا يأكله إلاالخاطئون " فكيف يؤكل الشراب، والذي أتى به قبلها: فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا من غسلين من عين تجري من تحت الجحيم لا يأكله إلا الخاطئون. فهذا متناقض يفسد بعضه بعضا، لأن الشراب لا يؤكل، ولا تقول العرب: أكلت الماء، لكنهم يقولون: شربته وذقته وطعمته، ومعناه فيما أنزل الله تبارك وتعالى على الصحة في القرآن الذي من خالف حرفا منه كفر. " ولاطعام إلا من غسلين " لا يأكل الغسلين إلا الخاطئون أو لا يأكل الطعام إلا الخاطئون. والغسلين: مايخرج من أجوافهم من شحم وما يتعلق به من الصديد وغيره، فهذا طعام يؤكل عند البلية والنقمة، والشراب محال أن
[ 86 ]
يؤكل. فإن ادعى هذا الإنسان أن الباطل الذي زاده من قوله " من عين تجري من تحت الجحيم " ليس بعدها " لا يأكله إلا الخاطئون " ونفى هذه الآية من القرآن لتصح له زيادته، فقد كفر لما جحد آية من القرآن. وحسبك بهذا لقوله ردا لقوله، وخزيا لمقاله. وما يؤثر عن الصحابة والتابعين أنهم قرءوا بكذا وكذا أنما ذلك على جهة البيان والتفسير، لا أن ذلك قرآن يتلى، وكذلك ما نسخ لفظه وحكمه أولفظه دون حكمه ليس بقرآن، على ما يأتي بيانه عند قوله تعالى: " ما ننسخ من اية (1) إن شاء الله تعالى. القول في الاستعاذة وفيها اثنتا عشرة مسألة: الأولى - أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " أي إذا أردت أن تقرأ، فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر: وإني لآتيكم لذكرى الذي مضى * من الود واستئناف ما كان في غد أذاد ما يكون في غد، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت، كما قال تعالى: " ثم دنى فتدلى " المعنى فتدلى ثم دنى، ومثله: " اقتربت الساعة وانشق القمر " وهو كثير. الثانية - هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة. واختلفوا فيه في الصلاة. حكى النقاش عن عطاء: أن الاستعاذة واجبة. وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان. الثالثة - أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه (1) راجع ج 2 ص 61. (*)
[ 87 ]
لفظ كتاب الله تعالى. وروى عن ابن مسعود أنه قال: قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " يابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم ". الرابعة - روى أبو داود وابن ماجة ف يسننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو (1): لا أدري أي صلاة هي ؟ فقال: " الله اكبر كبيرا الله أكبر كبيرا - ثلاثا - الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا - ثلاثا - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثا - أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه ". قال عمرو همزه المؤتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر. وقال ابن ماجة، المؤتة يعني الجنون. والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه. والكبر: التيه. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل گبر ثم يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول: - لا إله إلا الله - ثلاثا ثم يقول: - الله أكبر كبيرا - ثلاثا - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه "، ثم يقرأ. وروى سليمان بن سالم عن ابن القاسم (2) رحمه الله أن الاستعاذة: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هم السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم، قال ابن عطية: " وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى، كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد، من الشيطان المريد، ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقوا: إنه لا يجوز ". الخامسة - قال المهدوي: أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة " الحمد " إلا حمزة فإنه أسرها.. روى السدي (2) عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتحون القراءة بالبسملة. وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض، فإذا نسيه (1) لعه عمرو بن مرة المذكور في سند هذا الحديث (انظر سنن ابن ماجة ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر). (2) في بعض النسخ: " أبي القاسم ". (3) في بعض النسخ: " المسي ". (*)
[ 88 ]
القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ، ثم ابتدأ من أوله. وبعضهم يقول: يستعسذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه، وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق، وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر. السادسة - حكى الزهراوي قال: نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض. قال غيره: كانت فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ثم تأسينا به. السابعة - روى عن أبى هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة، وقاله داود. قال أبو بكر بن العربي: " انتهى العى بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ". وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة، وهذا نص وفإن الفائدة في لاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة ؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر، ليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمرا أو اجتنابها نهيا، وقد قيل: فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة، كما قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته (1) ". قال ابن العربي: " ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الظيطان الرجيم (2) " قال: ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر، ولا يعضده نظر، فإن كان هذا كما قال بعض الناس: إن الاستعاذة بعد القراءة كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة، ولاتشبه أصل مالك ولافهمه، فالله أعلم بسر هذه الرواية ". الثامنة - في فضل التعوذ. روى مسلم عن سليمان بن صرد قال: آستتب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". فقام إلى الرجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدري ما قال (1) آية 52 سورة الحج. (2) آية 98 سورة النحل. (*)
[ 89 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا ؟ قال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". فقال له الرجل: أمجنونا تراني ! أخرجه البخاري أيضا. وروى مسلم أيضا عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله، إن الشيطان قد حلا بينى وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك شيطان يقال له خنزب (1) فإذا أحسسته فتعوذ منه واتفل عن يسارك ثلاثا " قال: ففعلت فأذهبه الله عني. وروى أبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال: " يأرص ربي وربك الله إعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد. وروت خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شئ حتى يرتحل ". وأخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح. ومايتعوذ منه كثيرا ثابت في الأخبار، والله المستعان. التاسعة - معنى الاستعاذة في كلام العرب، الستجارة والتحيز إلى الشئ على، معنى الامتناع به من المكروه، يقال: عذت بفلان واستعذت به، أي لجأت إليه. وهو عياذي، أي ملجئ. وأعذت غيرى به وعوذته بمعنى. ويقال: عوذ بالله منك، أي أعوذ بالله منك، قال الراجز: قالت وفيها حيدة وذعر * عوذ بربي منكم وحجر والعرب تقول عند الأمر [ تنكره (2) ]: حجرا له (بالضم) أي دفعا، وهو استعاذة من الأمر. والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى. وأصل أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت. (1) قوله: يقال له خنزب. في نهايه ابن الأثير: " قال أبو عمرو: وهو لقب له، والخنزب (بالفتح): قطعة لحم منتنة ويروى بالكسر والضم ". (2) الزيادة عن لسان العرب مادة (حجر). (*)
[ 90 ]
العاشرة - الشيطان واتحد الشياطين، على التكسير والنون أصلية، لأنه من شطن إذا بعد عن الخير. وشطنت داره أي بعدت، قال الشاعر (1): نأت بسعاد عنك نوى شطون * فبانت والفؤاد بها رهين وبئر شطون أي بعيدة القعر. والشطن: الحبل، سمى به لبعد طرفيه وامتداده. ووصف أعرابي فرسا [ لا يحفى (2) ] فقال: كأنه شيطان في أشطان. وسمى الشيطان شيطانا لبعده عن الحق وتمره، وذلك أن كل عات متمرد من الجين والإنس والدواب شيطان، قال جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزل * وهن يهوينني إذ كنت شيطانا وقيل: إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك (3)، فلنون زائدة. وشاط إذا احترق. وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنصحه. واشتاط الرجل إذا احتد غضبا. وناقة مشياط التي يطير فيها السمن. واشتاط إذا هلك، قال الأعشى: قد نضخب العير من مكنون فائله (4) * وقد يشيط على أرماحنا البطل أي يهلك. ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول: تشيطن فلان أذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بين إنه تفعيل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ويرد عليهم أيضا بيت أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عكاه (5) * ورماه في السجن والأغلال فهذا شاطن من شطن لاشك فيه. الحادية عشر - الرجيم أي المبعد من الخير المهان. وأصل الرجم الرمي باحجارة، وقد رجمته أرجمه، فهو رجيم ومرجوم. والرجم: القتل واللعن والطرد والشتم، وقد قيل هذا كله ف يقوله تعالى: " لئن تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ". وقول أبي إبراهيم: " لئن لم تنته لأرجمنك ". وسيأتي (6) إن شاء اله تعالى. (1) هو النابغة الذبياني، كما في لسان العرب مادة (شطن). (2) الزيادة عن لسان العرب مادة (شطن). (3) في الأصول: " إذا بطل " والتصويب عن اللسان. (4) الفائل: عرق في الفخذين يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين. (5) عكاه في الحديد والوثاق إذا اشده. (6) راجع ج 1 ص 111 وج 13 ص 121. (*)
[ 91 ]
الثانية عشر - روى الأعمش عن أبي وائل عن علدالله قال قال علي بن أبي طالب عليه السلام: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه، قلت: ومن هذا الذي تلعنه يارسول الله ؟ قال: " هذا الشيطان الرجيم " فقلت: يا عدو الله: والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك، قال: ماهذا جزائي منك، قلت: وما جزاؤك مني يا عدو الله ؟ قال: والله ما أبغضك أحد قط إلا شركت أباه في رحم أمه. البسملة وفيها سبع وعشرون مسألة: الأولى - قال العلماء: " بسم الله الرحمن الرحيم " قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أوفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و " بسم الله الرحمن الرحيم " مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام. وقال بعض العلماء: إن " بسم الله الرحمن الرحيم " تضمنت جميع الشرع، لانها تدل على الذات وعلى الصفات، وهذا صحيح. الثانية - قال سعيد بن أبي سكينة: بلغني أن علي بن أبي طالب رضى الله عنه نظر إلى رجل يكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال له: جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سيعد: وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه " بسم الله الرحمن الرحيم " فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها بسم الله وطيبها طيب اسمه (1)، ذكره القشيري. وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله (1) نص القصة كما في وفيات الأعيان والرسالة القشيرية: "... وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة مكتوبا فيها اسم الله عزوجل وقد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدراهم كانت معه غالية فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلا يقول له: يابشر، طيبت اسمي لأطيبنك في الدنيا والآخرة فلما انتبه من نومه تاب. (*)
[ 92 ]
صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى مثل الذباب ". وقال على بن الحسين ف يتفسير قوله تعالى " بسم الله الرحمن الرحيم ". وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله ابن مسعود قل: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: " عليها تسعة عشر " وهم يقولون في كل أفعالهم: " بسم الله الرحمن الرحيم " فمن هناك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية: ونظير هذا قولهم في ليلة القدر: إنها ليلة سبع وعشرين، مراعاة للفظة " هي " من كلمات سورة " إنا أنزلناه " ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول ". قال ابن عطية: وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم. الثالثة - روى الشعبي ولأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب " باسمك اللهم " حتى أمر أن يكتب " بسم الله " فكتبها، فلما نزلت: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " كتب " بسم الله الرحمن " فلما نزلت: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " كتبها. وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة: إن النبي صلى اله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة " النمل ". الرابعة - روى عن جعفر الصادق رضى الله عنه أنه قال: البسملة تيجان السور. قلت: وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولاغيرها. وقد اختلف العلماء في هذا (1) راجع ج 10 ص 271. (*)
[ 93 ]
(الأول) ليست بآية من الفاتحة ولاغيرها، وهو قول مالك. (الثاني) أنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك. (الثالث) قال الشافعي: هي آية ف يالفاتحة، وتردد قوله في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا ف يالفاتحة وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل. واحتج الشافعي بمارواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد (1) بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها ". رفع هذا الحديث عبد الحميد ابن جعفر، وعبد الحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين، وأبو احاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثوري يضعه ويحمل عليه. ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور. وحجة ابن المبارك وأحد ق. لي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى أغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يارسول الله ؟ قال: " نزلت على آنفا سورة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم: إنا أعطياك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر ". وذكر الحديث، وسيأتي بكماله ف يسورة الكوثر إن شاء الله تعالى (2). الخامسة - الصحيح من هذه الأقوال قول ماك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار لآحاد وإنما طريقة التواتر القطعي الذى لا يختلف فيه. قال ابن العربي: " ويكفيك أنها (1) ورد هذا الحديث مضطربا في الأصول والتصويب عن سنن الدارقطني وتهذيب التهذيب. وعبد الحميد بن جعفر هذا، يكنى أبا الفضل، ويقال: أبو حفص، وليس من كنيته أبو بكر. وروى عنه أبو بكر الحنفي. راجع تهذيب التهذيب. (2) راجع 20 ص 216. (*)
[ 94 ]
ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه ". والأخبار الصحاح التى لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولاغيرها إلا في النمل وحدها. روى مسلم عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول: " قال الله عزوجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال " الحمد لله رب العالمين " قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال العبد " الرحمن الرحيم " قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال العبد " مالك يوم الدين " قال مجدني عبدي - وقال مرة ف. ض إلى عبدي - فإذا قال " إياك نعبد وإياك نستعين " قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ". فقوله سبحانه: " قسمت الصلاة " يريد الفاتحة، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع ايات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: " هولاء لعبدي " أخرجه مالك، ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن " أنعمت عليهم " آية. قال ابن بكير قال مالك: " أنعمت عليهم " آية، ثم الآية السابعة إلى آخرها. فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي: " كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة " قال: فقرأت " الحمد لله رب العالمين " حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة، وأكثر القراء عدوا " أنعمت عليهم " اية، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال: الآية السادسة " أنعمت عليهم ". وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها " بسم الله الرحمن الرحيم " ولم يعدوا " أنعمت عليهم ". فإن قيل: فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت، كما نقلت في النمل، وذلك متواتر عنهم وقلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآنا، أو لكونها فاصلة بين السور
[ 95 ]
كما روى عن الصحابة: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم " أخرجه أبو داود - أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتابتها في أوائل الكتب والرسائل ؟ كل ذلك محتمل. وقد قال الجريري (1): سئل الحسن عن " بسم الله الرحمن الرحيم " قال: في صدور الرسائل. وقال الحسن أيضا: لم تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم " في شئ من القرآن إلا في " طس " " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ". والفيصل أن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري. ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة، والحمد لله. فإن قبل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا: لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات. روت عائشة في صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، الحديث. وسيأتي بكماله. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " لافي أول قراءة ولا في آخرها. ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول، وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط " بسم الله الرحمن الرحيم " اتباعا للسنة، وهذا يرد أحاديثكم. بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل، وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أول على السعة في ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضا. (1) الجريري (بضم الجيم وفتح الراء وكسر الثانية وسكون ياء بينهما، نسبة الى جرير بن عباد بن ضبيعة): وهو سعيد بن أياس الجريري أبو مسعود البصري. (*)
[ 96 ]
وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولاغيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولافي غيرها سرا ولا جهرا، ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السور في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لابد فيها من " بسم الله الرحمن الرحيم " منهم ابن عمر، وابن شهاب، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لاقطعية، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين، وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور، والحمد لله. وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة، منهم أبو حنيفة والثوري، وروى ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير، وهو قول الحكم وحماد، وبه قال أحمد ابن حنبل وأبو عبيد، وروى عن الاوزاعي مثل ذلك، حكاه أبو عمر بن عبد البر في (الاستذكار). واحتجوا من الاثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة " بسم الله الرحمن الرحيم ". وما رواه عمار بن رزيق (1) عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر، فلم أسمع أحد منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. قلت: هذا قول حسن، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولاتتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة. وقد روى عن سعيد بن جبير قال: كان المشركون يحضرون بالمسجد، فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم " قالوا: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزل: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت به ". قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله: فبقى ذلك إلى يومنا هذا على (1) كذا في تهذيب التهذيب وفي الأصول: " عمار عن رزيق " وهو خطأ ". (*)
[ 97 ]
ذلك الرسم وإن زالت العله، كما بقى الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة. السادسة - اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كتاب من كتب العلم والرسائل، فإن كان الكتاب ديوان شعر فر. ى مجالد عن الشعبي قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر " بسم الله الرحمن الرحيم ". وقال الزهري: مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر " بسم الله الرحمن الرحيم ". وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين. قال أبو بكر الخطيب: هو الذي نختاره ونستحبه. السابعة - قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله: مبسمل، وهي لغة مولدة، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة: لقد بسملت ليلى غذاة لقيتها * فيا حبذا ذلك الحبيب المبسمل قلت: المشهور عن أهل اللغة بسمل. قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل، إذا قال: بسم الله. يقال: قد أكثرت من البسملة، أي من قول بسم الله. ومثله حوقل الرجل، إذا قال: لاحول ولا قوة إلا بالله. وهلل، إذا قال: لاأله إلا الله. وسبحل، إذا قال: سبحان الله. وحمدل، إذا قال: الحمد لله. وحيصل، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك. وحيفل، إذا قال: حي على الفلاح. ولم يذكر المطرز: الحيصلة، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال أدام الله عزك. الثامنة - ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل، كالأكل والشرب والنحر، والجماع والطهارة وركوب البحر، وإلى غير ذلك من الأفعال، قال الله تعالى: " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ". " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها ". وقال رسول الله صلى الله
[ 98 ]
عليه وسلم: " أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر (1) إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله ". وقال: " لو أن أحدكم أذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا ". وقال لعمر بن أبي سلمة: " يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك " وقال " إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه " وقال: " من لم يذبح فليذبح باسم الله ". وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ". هذا كله ثابت في الصحيح. وروى ابن ماجة والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ستر مابين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله ". وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى، ثم يفرغ الماء على يديه. التاسعة - قال علماؤنا: وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع لاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك، كما ذكرنا. فمعنى " بسم الله "، أي بالله. ومعنى " بالله " أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وقال بعضهم: معنى قوله " بسم الله " يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته، وهذا تعليم من الله تعالى عباده، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز. العاشرة - ذهب أبو عبيد معمر بن المثني إلى أن " اسم " صلة زائدة واستشهد بقول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (1) التخمير: التغطية. والوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة والكيس وغيرهما. أي شدوا رموس الأسقية بالوكاء لئلا يدخلها حيوان أو يسقط فيها شئ. (*)
[ 99 ]
فذكر " اسم " زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما. وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى. وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره، إ ن شاء الله تعالى. الحادية عشر - اختلف في معنى زيادة " اسم " فقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه. وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك، لإن أصل الكلام: بالله. الثانية عشر - اختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه، هل دخلت على معنى الأمر ؟ والتقدير: ابدا بسم الله. أو على معنى الخبر ؟ والتقدير: ابتدأت بسم الله، قولان: الأول للقراء، والثاني للزجاج. ف " بسم الله " في موضع نصب على التأويلين. وقيل: المعنى ابتدائي بسم الله، ف " بسم الله " في موضع رفع خبر الابتداء. وقيل: الخبر محذوف، أي ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله، فإذا أظهرته كان " بسم الله " في موضع نصب بثابت أو مستقر، وكان بمنزلة قولك: زيد في الدار. وفي التنزيل " فلما راه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي " ف " عنده " في موضع نصب، روى هذا عن نحاة أهل البصرة. وقيل التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت، ف " باسم " في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي. الثالثة عشر - " بسم الله "، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله: " اقرأ باسم ربك " فإنها تحذف لقلة الاستعمال.. اختلفوا في حذفها مع الرحمن والقاهر، فقال الكسائي وسعيد الأخفش: تحذف الألف. وقال يحيى بن وثاب: لا تحذف إلا مع " بسم الله " فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه. الرابعة عشر - واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان، فقيل: ليناسب لفظها عملها. وقيل لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض
[ 100 ]
الذي لا يكون إلا في الأسماء. الثالث: ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما، نحو الكاف في قول الشاعر (1): * ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا * أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله. الخامسة عشر - ايم، وزنه افع، والذاهب منه الواو لأنه من سموت، وجمعه اسماء، وتصغيره سمى. واختلف في تقدير أصله، فقيل: فعل، وقيل: فعل. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن، وهو مثل جذع وأجذع، وقفل وأقفال، وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات: اسم بالكسر، واسم بالضم. قال أحمد بن يحيى: من ضم الألف أخذه من سموت أسمو، ومن كسر أخذ من سمت أسمى. ويقال: سم وسم، وينشد: والله أسماك سما مباركا * اثرك الله به إيثاركا وقال آخر: وعامنا أعجبنا مقدمه * يدعي أبا السمح وقرضاب سمه - مبتركا (2) لكل عظم يلحمه قرصب الرجل: إذا أكل شيئا يابسا، فهو قرضاب. " سمه " باضم والكسر جميعا. ومنه قول الآخر: * باسم الذي في كل سورة سمه * وسكنت السين من " باسم " اعتلالا (3) على غير قياس، وألفه ألف وصل، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة، كقول الأحوص: وما أنا بالمخسوس في جذم مالك * ولامن تسمى ثم يلتزم الإسما (4) (1) هو امر القيس. وتمام البيت وشرحه يأتي في ص 211 من هذا الجزء. (2) رجل مبترك: معتمد على الشئ ملح. ويلحمه: ينزع عنه اللحم. (3) كان الأصل اسم نقاب حركة الهمزة إلى السين ثم حذفت الهمزة ولما وصلت الباء به سكنت السين تخفيفا. (4) المخسوس: المرذول. وجذم كل شئ: أصله. ومالك: جد أعلى للشاعر. (*)
[ 101 ]
السادسة عشر - تقول العرب في النسب إلى الاسم: سموى، وإنشئت اسمى، تركته على حاله، وجمعه أسماء وجمع الأسماء إسام. وحكى الفراء: أعيذك بأسماوات الله. السابعة عشر - اختلفوا في استقاق الاسم على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل إنما سمى الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام: الحرف والفعل، والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل، فلعلوه عليهما سمى اسما فهذه ثلاثة أقوال. وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا " وسم ". والأول أصح، لأنه يقال في التصغير سمى وفي الجمع أسماء، والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها، فلا يقال: وسيم ولا أوسام. ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي: الثامنة عشر - فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول: لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته، وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول: كان الله في الأزل بال اسم ولا صفة، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فإذا أفناهم بقى بال اسم ولا صفة، وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وهو أعظم في الخطإ من قولهم: إن كلامه مخلوق، تعالى الله عن ذلك ! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى وهي: التاسعة عشر - فذهب أهل الحق - فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب - إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم، فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق، فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل.
[ 102 ]
قال ابن الحصار: من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات، ولذلك يقولون الاسم غير المسمى، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولات هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الاسماء عندهم. وسيأتي لهذه مزيد بيان في " البقرة " و " الأعراف " إن شاء الله تعالى. الموفية عشرين - قوله: " الله " هذا الاسم أكبر أسمائة سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، لذلك لم يثن ولم يجمع، وهو أحد تأويلي قوله تعالى " هل تعلم له سميا " أي من تسمى باسمه الذي هو " الله ". فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه. وقيل: معناه الذي يسنحق أن يعبد. وقيل: معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال، والمعنى واحد. الحادية والعشرون - واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم ؟. فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله، فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس. وقيل: أصل الكلمة " لاه " وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد: لاه ابن عمك لاأفضلت في حسب * عني ولا أنت دياني فتخزوني كذا الرواية: فتخزوني، الخاء المعجمة ومعناه: تسوسني. وقال الكسائي والفراء: معنى " بسم الله " بسم الإله، فخذوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة، كما قال عزوجل: " لكنا هو الله ربي " ومعناه، لكن أنا، كذلك قرأها الحسن. ثم قيل: هو مشتق من " وله " إذا تحير، والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل وله وامرة والهة وواله، وماء موله (1): أرسل في الصحاري. فالله سبحانه تتحير (1) قوله، ماء موله. هو بضم الميم وتخفيف اللام، وتشدد وتفتح الواو. (*)
[ 103 ]
الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل " إلاه " " ولاه " وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح، وإسادة ووسادة، وروى عن الخليل. وروى عن الضحاك أنه قال: إنما سمى " الله " إلها لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه (بنصب اللام) ويألهون أيضا (بكسرها) وهما لغتان. وقيل إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شئ مرتفع: لاها فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت. وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تنسك، ومن ذلك قوله تعالى: " ويذرك وإلاهتك " على هذه القراءة، فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك. قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: لا إله إلا الله، معناه لا معبود غير الله. و " إلا " في الكلمة بمعنى غير، لا بمعنى الاستثناء. وزعم بعضهم أن الأصل فيه " الهاء " التي هي الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجدا في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار " له " ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما وتفخيما. القول الثاني: ذهب إليه جماعة من العلماء أيضا منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم، وروى عن الخليل وسيبويه: أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفها منه. قال الخطابي: والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم، ولم يدخلا للتعريف، ألا ترى أنك لا تقول: ياالرحمن ولا ياالرحيم، كما تقول: يا لله، فدل على أنهما من بنية الاسم. والله أعلم. الثانية والعشرون - واختلفوا أيضا في اشتقاق اسمه الرحمن، فقال بعضهم: لااشتقق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقا من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فحاز أن يقال: الله رحمن بعباده، كما يقال: رحيم بعباده. وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة
[ 104 ]
لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد قال الله عزوجل: " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن " الآية. ولما كتب على رضى الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم " قال سهيل بن عمرو: أما " بسم الله الرحمن الرحيم " فما ندري ما " بسم الله الرحمن الرحيم " ! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، الحديث. قال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، واستدل على ذلك بقولهم: وما الرحمن ؟ ولم يقولوا: ومن الرحمن ؟ قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الاية الأخرى: " وهم يكفرون بالرحمن ". وذهب الجمهور من الناس إلى أن " الرحمن " مشتق من الرحمة مبني على المبالغة، ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثني ولايجمع كما يثنى " الرحيم " ويجمع. قال ابن الحصار: ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عزوجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ". وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له. الثالثة والعشرون - زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب " الزاهر " له: أن " الرحمن " اسم عبراني فجاء معه ب " الرحيم ". وأنشد (1): لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم * بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا - أو تتركون (2) إلى القسين هجرتكم * ومسحكم صلبهم رحمان قربانا قال أبو إسحاق الزجاح في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: " الحيم " عربي و " الرحمان " عبراني، فلهذا جمع بينهما. وهذا القول مرغوب عنه. وقال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير الشاعر. وروى مطرف عن قتادة في قوله عزوجل: " بسم الله الرحمن الرحيم " قال: مدح نفسه. قال أبو إسحاق: (1) قائله جرير، والينبوت: ضرب من الشجر. (2) انظر شرح القاموس واللسان مادة " رحم ". (*)
[ 105 ]
وهذا قول حسن. وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن، وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ماقاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله. الرابعة والعشرون - واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟ فقيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للمتلئ غضبا. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال علمس (1): فأما إذا عضت بك الحرب عضة * فإنك معطوف عليك رحيم ف " الرحمن " خاص الاسم عام الفعل. و " الرحيم " عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور. قال أبو على الفارسي: " الرحمن " اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله. " والرحيم " إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى " وكان بالمؤمنين رحيما ". وقال العرزمي (2): " الرحمن " بجميع خلقه في المصار ئنعن الحواس والنعم العامة، و " الرحيم " بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم. وقال ابن المبارك: " الرحمن " إذا سئل أعطى، و " الرحيم " إذا لم يسأل غضب. وروى ابن ماجة في سننه والترمذي في جلامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يسأل الله يغضب عليه " لفظ الترمذي. وقال ابن ماجة: " من لم يدع الله سبحانه غضب عليه ". وقال: سألت أبازراعة عن أبي صالح هذا، فقال: هو الذي يقال له: الفارسي وهو خوزي (3) ولا أعرف اسمه. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: (1) هو عملس بن عقيل، كما في هامش بعض نسخ الأصل ولسان العرب مادة رحم. (2) هو عبد الملك ابن أبي سليمان العرزمي، كما في الخلاصة. (3) نسبة إلى خوزستان بلاد بين فارس والبصرة. (*)
[ 106 ]
الله يغضب إن تركت سؤله * وبني آدم حين يسأل يغضب وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة. قال الخطابي: وهذا مشكل، لأن الرقة لامدخل لها في شئ من صفات الله تعالى. وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهم من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شئ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عزوجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف ". الخامسة والعشرون - أكثر العلماء على أن " الرحمن " مختص بالله عزوجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألاتراه قال: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن (1) " فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره. وقال: " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (2) " فأخبر أن " الرحمن " هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وإن كان كل كافر كاذبا، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به، ألزمه الله إياه. وقد قيل في اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم، ذكره ابن العربي. السادسة والعشرون - ا " الرحيم " صفة للمخلوقين، ولما في " الرحمن " من العموم " قدم في كلامنا على " الرحيم " مع موافقة التنزيل، قاله المهدوي. وقيل: إن معنى " الرحيم " أي بالرحيم وصلتم إلى الله، ف " الرحيم " نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نعته تعالى بذلك فقال: " رؤف رحيم " فكأن المعنى أن يقول: بسم الله الرحمن وبالرحيم، أي وبمحمد صلى الله عليه وسلم وصلتم إلى، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي، والله أعلم. (1) آية 110 سورة الإسراء ج 10 ص 342. (2) آية 45 سورة الزخرف ج 16 ص 95. (*)
[ 107 ]
السابعة والعشرون - روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله " بسم الله " إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما " الرحمن " فهو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما " الرحيم " فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا. وقد فسره بعضهم على الحروف، فروى عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسر " بسم اللهالرحمن الرحيم " فقال: " أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر منخلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة ". وروى عن كعب الأحبار أنه قال: الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شئ أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شئ قدير فلا شئ يعازه. وقد قيل أن كل حرف هو افتتاح اسم من اسمائه، فالباء مفتاح اسمه بصير، والسين مفتاح اسمه سميع، والميم مفتاح اسمه مليك، والألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والهاء مفتاح اسمه هادي، والراء مفتاح اسمه رازق، والحاء مفتاح اسمه حلم، والنون مفتاح اسمه نور، ومعنى هذا كله دعاء الله تعلى عند افتتاح كل شئ. الثامنة والعشرون - واختلف في وصل " الرحيم " ب " الحمد لله "، فروى عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الرحيم. أالحمد " يسكن الميم ويقف عليها، ويبتدئ بألف مقطوعة. وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس: " الرحيم آلحمد "، تعرب " الرحيم " بالخفض وبوصل الألف من " الحمد ". وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ " الرحيم الحمد " بفتح الميم وصلة الألف، كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حزكتها على الميم وحذفت. قال ابن عطية: ولم ترو هذة القراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: " الم الله ".
[ 108 ]
تفسير سورة الفاتحة " بحول الله وكرمه " وفيها أربعة أبواب: الباب الاول - في فضائلها وأسمائها وفيه سبع مسائل الاولى: روى الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الانجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة (1) بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل). أخرج مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب: أن أبا سعيد مولي [ عبد الله بن ] عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه سلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي، فذكر الحديث. قال ابن عبد البر: أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة، روايته عن أبي هريرة وحديثه هذا مرسل، وقد روى هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه أيضا، رواه عنه حفص بن عاصم، وعبيد بن حنين. قلت: كذا قال في التمهيد: (لا يوقف له على اسم). وذكر في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه. والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلي قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: (ألم يقل الله " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم " (2) [ الانفال: 24 ] - ثم قال - (إني لاعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لاعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال: (الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). قال ابن عبد البر وغيره: أبو سعيد بن المعلي (1) أي وقال الله هي مقسومة. (2) راجع ج 7 ص 389 (*)
[ 109 ]
من جلة الانصار، وسادات الانصار، تفرد به البخاري، واسمه رافع، ويقال: الحارث بن نفيع بن المعلى، ويقال: أوس بن المعلى، ويقال: أبو سعيد بن أوس بن المعلى، توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين (1) [ سنة ]، وهو أول من صلى إلى القبلة حين حولت، وسيأتي (2). وقد أسند حديث بن أبي يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي، فذكر الحديث بمعناه. وذكر ابن الانباري في كتاب الرد له: حدثني أبي حدثني أبو عبيد الله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال: إن إبليس - لعنه الله - رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط من الجنة، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة. الثانية: اختلف العلماء في تفصيل بعض السور والآي على بعض، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض، فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض، لان الكل كلام الله، وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها. ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الاشعري، والقاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، وجماعة من الفقهاء. وروى معناه عن مالك. قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها. وقال عن مالك في قول الله تعالى: " نأت بخير منها أو مثلها " [ البقرة: 106 ] قال: محكمة مكان منسوخة. وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك. واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الافضل يشعر بنقص المفضول، والذاتية في الكل واحدة، وهي كلام الله، وكلام الله تعالى لا نقص فيه. قال البستي: ومعنى هذه اللفظة (ما في التوراة ولا في الانجيل مثل أم القرآن): أن الله تعالى لا يعطى لقارئ التوراة والانجيل من الثواب مثل (1) قال ابن حجر في الاصابة: (وهو خطأ فإنه يستلزم أن تكون قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وسياق الحديث يأبى ذلك). (2) راجع ج 2 ص 149 (*)
[ 110 ]
ما يعطي لقارئ أم القرآن، إذ الله بفضله فضل هذه الامة على غيرها من الامم، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه، وهو فضل منه لهذه الامة. قال ومعنى قوله: (أعظم سورة) أراد به في الاجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض. وقال قوم بالتفضيل، وأن ما تضمنه قوله تعالى " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " [ البقرة: 163 ] وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الاخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في " تبت يدا أبي لهب " [ المسد: 1 ] وما كان مثلها. والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها، لا من حيث الصفة، وهذا هو الحق. وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه (1) وغيره من العلماء والمتكلمين، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار، لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم) قال فقلت: " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة: 255 ]. قال: فضرب في صدري وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر) أخرجه البخاري ومسلم. قال ابن الحصار: عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص. وقال ابن العربي: قوله: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الانجيل ولا في القرآن مثلها) وسكت عن سائر الكتب، كالصحف المنزلة والزبور وغيرها، لان هذه المذكورة أفضلها، وإذا كان الشئ أفضل الافضل، صار أفضل الكل. كقولك: زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس. وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها، حتى قيل: إن جميع القرآن فيها. وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن. ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده، ولا تصح القربة إلا بها، ولا يلحق عمل بثوابها، وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم، (1) ضبطه ابن خلكان فقال: (بفتح الراء بعد الالف هاء ساكنة ثم واو مفتوحة وبعدها ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها هاء ساكنة، وقيل فيها أيضا: راهويه بضم الهاء وسكون الواو وفتح الياء). (*)
[ 111 ]
كما صارت " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن، إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ، و " قل هو الله أحد " فيها التوحيد كله، وبهذا المعنى وقع البيان في قوله عليه السلام لابي. (أي آية في القرآن أعظم) قال: " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " [ البقرة: 255 ]. وإنما كانت أعظم آية لانها توحيد كلها كما صار قوله: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) أفضل الذكر، لانها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد، والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير، ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى. الثالثة: روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وشهد الله أنه لا إله إلا هو، وقل اللهم مالك الملك، هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب). أسنده أبو عمرو الداني في كتاب البيان له. الرابعة: في أسمائها، وهي اثنا عشر اسما: (الاول): الصلاة (1)، قال الله تعالى (2): (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) الحديث. وقد تقدم. (الثاني): [ سورة ] الحمد، لان فيها ذكر الحمد، كما يقال: سورة الاعراف، والانفال، والتوبة، ونحوها. (الثالث): فاتحة الكتاب، من غير خلاف بين العلماء، وسميت بذلك لانه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا، وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا، وتفتتح بها الصلوات. (الرابع): أم الكتاب، وفي هذا الاسم خلاف، جوزه الجمهور، وكرهه أنس والحسن وابن سيرين. قال الحسن: أم الكتاب الحلال والحرام، قال الله تعالى: " آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " [ آل عمران: 7 ]. وقال أنس وابن سيرين: أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ. قال الله تعالى: " وإنه في أم الكتاب ". [ الزخرف: 4 ]. (1) في تفسير الآلوسي وغيره: سورة الصلاة. (2) أي في الحديث القدسي. (*)
[ 112 ]
(الخامس): أم القرآن، واختلف فيه أيضا، فجوزه الجمهور، وكرهه أنس وابن سيرين، والاحاديث الثابتة ترد هذين القولين. روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني) قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري قال: وسميت أم الكتاب لانه يبتدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وقال يحيى بن يعمر: أم القرى: مكة، وأم خراسان: مرو، وأم القرآن: سورة الحمد. وقيل: سميت أم القرآن لانها أوله ومتضمنة لجميع علومه، وبه سميت مكة أم القرى لانها أول الارض ومنها دحيت، ومنه سميت الام أما لانها أصل النسل، والارض أما، في قول أمية بن أبي الصلت: فالارض معقلنا وكانت أمنا * فيها مقابرنا وفيها نولد ويقال لراية الحرب: أم، لتقدمها واتباع الجيش لها. وأصل أم أمهة، ولذلك تجمع على أمهات، قال الله تعالى: " وأمهاتكم ". ويقال أمات بغير هاء. قال: * فرجت الظلام بأماتكا * وقيل: إن أمهات في الناس، وأمات في البهائم، حكاه ابن فارس في المجمل. (السادس): المثاني، سميت بذلك لانها تثنى في كل ركعة. وقيل: سميت بذلك لانها استثنيت لهذه الامة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها. (السابع): القرآن العظيم، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن، وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عزوجل بأوصاف كماله وجلاله، وعلى الامر بالعبادات والاخلاص فيها، والاعتراف بالعجز عن القيام بشئ منها إلا بإعانته تعالى، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم، وكفاية أحوال الناكثين، وعلى بيانه عاقبة الجاحدين. (الثامن): الشفاء، روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاتحة الكتاب شفاء من كل سم) (1). (1) الذي في مسند الدارمي عن عبد الملك بن عمير: قال قال رسول الله (في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء). (*)
[ 113 ]
(التاسع): الرقية، ثبت ذلك من حديث أبى سعيد الخدري وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل، الذي رقى سيد الحي: (ما أدراك أنها رقية) فقال: يا رسول الله شئ ألقى في روعي، الحديث. خرجه الائمة، وسيأتي بتمامه. (العاشر): الاساس، شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب، سمعت ابن عباس يقول: لكل شئ أساس، وأساس الدنيا مكة، لانها منها دحيت، وأساس السموات عريبا (1)، وهي السماء السابعة، وأساس الارض عجيبا، وهي الارض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن، وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة، وأساس النار جهنم، وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات، وأساس الخلق آدم، وأساس الانبياء نوح، وأساس بني إسرائيل يعقوب، وأساس الكتب القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى (2). (الحادي عشر): الوافية، قاله سفيان بن عيينة، لانها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة، ونصفها الآخر في ركعة لاجزأ، ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز. (الثاني عشر): الكافية، قال يحيى بن أبي كثير: لانها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. يدل عليه ما روى محمد بن خلاد الاسكندراني قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضا). الخامسة: قال المهلب: إن موضع الرقية منها إنما هو " إياك نعبد وإياك نستعين " [ الفاتحة: الآية 5 ]. وقيل: السورة كلها رقية، لقوله عليه السلام للرجل لما أخبره: (وما أدراك أنها رقية) ولم يقل: أن فيها رقية، فدل هذا على أن السورة بأجمعها رقية، لانها فاتحة الكتاب ومبدؤه، ومتضمنة لجميع علومه، كما تقدم والله أعلم. (1) وفي بعض الاصول: غريبا (بالغين المعجمة). (2) كذا في نسخ الاصل. ولو كان جوابا للامر لكان (تشف) مجزوما. (*)
[ 114 ]
السادسة: ليس في تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، قال الله عزوجل: " كتابا متشابها مثاني " [ الزمر: 23 ] فأطلق على كتابه: مثاني، لان الاخبار تثنى فيه. وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني، لان الفرائض والقصص تثنى فيها. قال ابن عباس: أوتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني، قال: السبع الطول. ذكره النسائي، وهي من " البقرة " إلى " الاعراف " ست، واختلفوا في السابعة، فقيل: يونس، وقيل: الانفال والتوبة، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير. وقال أعشى همدان: فلجوا المسجد وادعوا ربكم * وادرسوا هذي المثاني والطول وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " الحجر " (1) إن شاء الله تعالى. السابعة: المثاني جمع مثنى، وهي التي جاءت بعد الاولى، والطول جمع أطول. وقد سميت الانفال من المثاني لانها تتلو الطول في القدر. وقيل: هي التي تزيد آياتها على المفصل وتنقص عن المئين. والمئون: هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية. [ الباب الثاني - في نزولها وأحكامها، وفيه عشرون مسألة الاولى: أجمعت الامة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات، إلا ما روى عن حسين الجعفي: أنها ست، وهذا شاذ. وإلا ما روى عن عمرو بن عبيد أنه جعل " إياك نعبد " آية، وهي على عدة ثماني آيات، وهذا شاذ. وقول تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " [ الحجر: 87 ]، وقوله: (قسمت الصلاة) الحديث، يرد هذين القولين. وأجمعت الامة أيضا على أنها من القرآن. فإن قيل: لو كانت قرآنا لاثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه، فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن، كالمعوذتين عنده. فالجواب ما ذكره أبو بكر الانباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الاشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الاعمش قال: أظنه عن إبراهيم قال: (1) راجع ج 15 ص 249 (*)
[ 115 ]
قيل لعبدالله بن مسعود: لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك ؟ قال: لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة. قال أبو بكر: يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها، فقال: اختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لها، ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سورة، إذ كانت تتقدمها في الصلاة. الثانية: اختلفوا أهي مكية أم مدنية ؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رفيع - وغيرهم: هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم: هي مدنية. ويقال: نزل نصفها بمكة، ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره. والاول أصح لقوله تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم " [ الحجر: 87 ] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الاسلام قط صلاة بغير " الحمد لله رب العالمين "، يدل على هذا قوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب). وهذا خبر عن الحكم، لا عن الابتداء، والله أعلم. وقد ذكر القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن، فقيل: المدثر، وقيل: اقرأ، وقيل: الفاتحة. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: (إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا) قالت: معاذ الله ! ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الامانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة حديثه له، قالت: يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: أنطلق بنا إلى ورقة، فقال: (ومن أخبرك). قال: خديجة، فانطلقا إليه فقصا عليه، فقال: (إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الارض) فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد، قل " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين -
[ 116 ]
حتى بلغ - ولا الضالين "، قل: لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى بن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، وإن يدركني ذلك لاجاهدن معك. فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لانه آمن بي وصدقني) يعني ورقة. قال البيهقي رضي الله عنه: هذا منقطع. يعني هذا الحديث، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزل عليه " اقرأ باسم ربك " [ العلق: 1 ] و " يا أيها المدثر " [ المدثر: 1 ]. الثالثة: قال ابن عطية: ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا (1) من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الارض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. قال ابن عطية: وليس كما ظن، فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلما به وبما ينزل معه، وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها، والله أعلم. قلت: الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بشئ من ذلك. وقد بينا أن نزولها كان بمكة، نزل بها جبريل عليه السلام، لقوله تعالى: " نزل به الروح الامين " [ الشعراء: 193 ] وهذا يقتضي جميع القرآن، فيكون جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة، ونزل الملك بثوابها بالمدينة. والله أعلم. وقد قيل: إنها مكية مدنية، نزل بها جبريل مرتين، حكاه الثعلبي. وما ذكرناه أولى. فإنه جمع بين القرآن والسنة، ولله الحمد والمنة. (1) النقيض: الصوت. (*)
[ 117 ]
الرابعة: قد تقدم أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح، وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن يصله بالفاتحة ولا يسكت، ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا لحديث عائشة وأنس المتقدمين وغيرهما، وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت، قال بها جماعة من العلماء، فروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا افتتحا الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وكان الشافعي يقول بالذي روى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: (وجهت وجهي) الحديث، ذكره مسلم، وسيأتي بتمامه في آخر سورة الانعام، وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله (1). قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ يقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الابيض من الدنس اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) واستعمل ذلك أبو هريرة. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للامام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة. وكان الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب. الخامسة: واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فقال مالك وأصحابه: هي متعينة للامام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز منداد البصري المالكي: لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، فقال مرة: يعيد الصلاة، وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك. قال ابن خويز منداد وقد قيل: إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام. قال ابن عبد البر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها، كمن (1) راجع ج 7 ص 153. (*)
[ 118 ]
أسقط سجدة سهوا. وهو اختيار ابن القاسم. وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة، لانها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن، وهي تامة لقوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) وهذا قد قرأ بها. قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة، وهو الصحيح على ما يأتي. ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم. وقال أبو حنيفة والثوري والاوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه، على اختلاف عن الاوزاعي في ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: أقله ثلاث، آيات أو آية طويله كآية الدين. وعن محمد بن الحسن أيضا قال: أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة، نحو: " الحمد لله " ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما. وقال الطبري: يقرأ المصلى بأم القرآن في كل ركعة، فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آيها وحروفها. قال ابن عبد البر: وهذا لا معنى له، لان التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها، ومحال أن يجئ بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها، وإنما عليه أن يجئ بها ويعود إليها، كسائر المفروضات المتعينات في العبادات. السادسة - وأما المأموم فإن أدرك الامام راكعا فالامام يحمل عنه القراءة، لاجماعهم على أنه إذا أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ، وهي المسألة: السابعة - ولا ينبغي لاحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر، فإن فعل فقد أساء، ولا شئ عليه عند مالك وأصحابه. وأما إذا جهر الامام وهي المسألة: الثامنة - فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور من مذهب مالك، لقول الله تعالى: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الاعراف: 204 ]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لي أنازع القرآن)، وقوله في الامام: (إذا قرأ فأنصتوا)، وقوله: (من كان له إمام فقراءة الامام له قراءة).
[ 119 ]
وقال الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل: لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، إماما كان أو مأموما، جهر إمامه أو أسر. وكان الشافعي بالعراق يقول في المأموم: يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر، كمشهور مذهب مالك. وقال بمصر: فيما يجهر فيه الامام بالقراءة قولان: أحدهما أن يقرأ والآخر يجزئه إلا يقرأ ويكتفي بقراءة الامام. حكاه ابن المنذر. وقال ابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وابن حبيب والكوفيون: لا يقرأ المأموم شيئا، جهر إمامه أو أسر، لقوله عليه السلام: (فقراءة الامام له قراءة) وهذا عام، ولقول جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الامام. التاسعة: الصحيح من هذه الاقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر، وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب)، وقوله: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القران فهي خداج) ثلاثا. وقال أبو هريرة: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه: (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد) أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى، فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها، وبه قال عبد الله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي، وروي مثله عن الاوزاعي، وبه قال مكحول. وروى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبى أيوب الانصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وهو قول ابن عمر والمشهور من مذهب الاوزاعي، فهؤلاء الصحابة بهم القدوة، وفيهم الاسوة، كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة. وقد أخرج الامام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال فقال: حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن فضيل، وحدثنا سويد بن سعيد
[ 120 ]
حدثنا علي بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها). وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال للذي علمه الصلاة: (وأفعل ذلك في صلاتك كلها) وسيأتي. ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الانصاري قال: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن، فلما انصرف قلت لعبادة: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر ؟ قال: أجل ! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: (هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة) فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال: (فلا. وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرءوا بشئ من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن). وهذا نص صريح في المأموم. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه، وقال: حديث حسن. والعمل على هذا الحديث في القراءة خلق الامام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، يرون القراءة خلف الامام. وأخرجه أيضا الدارقطني وقال: هذا إسناد حسن، ورجاله كلهم ثقات، وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء (1)، وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت المقدس. وقال أبو محمد عبد الحق: ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم، ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا. وقال فيه أبو عمر: مجهول. وذكر الدارقطني عن يزيد بن شريك قال: سألت عمر عن القراءة خلف الامام، فأمرني أن أقرأ، قلت: وإن كنت أنت ؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت ؟ قال: وإن جهرت. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. وروى عن جابر بن عبد الله (1) إيلياء: اسم مدينة بيت المقدس. (*)
[ 121 ]
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الامام ضامن فما صنع فاصنعوا). قال أبو حاتم: هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الامام، وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن يقرأ بها في نفسه حين قال له: إني أحيانا أكون وراء الامام، ثم استدل بقول تعالى: (1) (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين) الحديث. العاشرة - أما ما استدل به الاولون بقوله عليه السلام: (وإذا قرأ فأنصتوا) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الاشعري، وقال: وفى حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة (وإذا قرأ فأنصتوا) قال الدارقطني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفاظ من أصحاب قتادة فلم يذكروها، منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة. قال الدارقطني: فإجماعهم يدل على وهمه. وقد روى عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي، ولكن ليس هو بالقوي، تركه القطان. وأخرج أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديت أبي هريرة وقال: هذه الزيادة (إذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة. وذكر أبو محمد عبد الحق: أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال: هو عندي صحيح. قلت: ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم يجمعوا عليها. وقد صححها الامام أحمد بن حنبل وابن المنذر. وأما قول تعالى: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " [ الاعراف: 204 ] فإنه نزل بمكة، وتحريم الكلام في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها، فإن المقصود كان المشركين، على ما قال سعيد بن المسيب. وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في رفع الصوت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة. وقال: عبد الله بن عامر ضعيف. وأما قوله عليه السلام: (ما لي أنازع القرآن) فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي، واسمه فيما قال مالك: عمرو، (1) أي في الحديث القدسي. (*)
[ 122 ]
وغيره يقول عامر، وقيل يزيد، وقيل عمارة، وقيل عباد، يكني أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة، لم يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد، وهو ثقة، وروى عنه محمد بن عمرو وغيره. والمعنى في حديثه: لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج، اقرءوا في أنفسكم. يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين. فلو فهم المنع جملة من قوله: (ما لي أنازع القرآن) لما أفتى بخلافه، وقول الزهري في حديث ابن أكيمة: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بالحمد على ما بينا، وبالله توفيقنا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الامام له قراءة) فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك، وأبو حنيفة (1) وهو ضعيف، كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر. أخرجه الدارقطني وقال: رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل ابن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الاحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وغيرهم، عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وأما قول جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الامام، فرواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قوله. قال ابن عبد البر: ورواه يحيى ابن سلام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ. وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن، وهو يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وفيه أيضا أن الامام قراءته لمن خلفه قراءة، وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره. (1) قد ترجمه ابن حجر في التهذيب وابن خلكان في الوفيات ولم يذكروا عنه ضعفا في الحديث ولكن ابن سعد في الطبقات قد وصفه بذلك. (*)
[ 123 ]
الحادية عشرة - قال ابن العربي: لما قال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) واختلف الناس في هذا الاصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال، أو على الاجزاء ؟ اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر، ولما كان الاشهر في هذا الاصل والاقوى أن النفي على العموم، كان الاقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت. ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة، فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعل ذلك في صلاتك كلها) لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود. والله أعلم. الثانية عشرة - ما ذكرناه في هذا الباب من الاحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين قولهم في أن الفاتحة لا تتعين، وأنها وغيرها من أي القرآن سواء. وقد عينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه، وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله: " وأقيموا الصلاة ". وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. فدل هذا الحديث على أن قوله عليه السلام للاعرابي: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ما زاد على الفاتحة، وهو تفسير قوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر منه " [ المزمل: 20 ] وقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القران - زاد في رواية - فصاعدا ". وقوله عليه السلام: (هي خداج - ثلاثا - غير تمام) أي غير مجزئة بالادلة المذكورة. والخداج: النقص والفساد. قال الاخفش: خدجت الناقة، إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق. والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة، لانها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها كما أمر، على حسب حكمها. ومن أدعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل، ولا سبيل إليه من وجه يلزم، والله أعلم. الثالثة عشرة - روى عن مالك أن القراءة لا تجب في شئ من الصلاة، وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن نسيها، ثم رجع عن هذا بمصر فقال: لا تجزئ صلاة من يحسن
[ 124 ]
فاتحة الكتاب إلا بها، ولا يجزئه أن ينقص حرفا منها، فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ بغيرها. وهذا هو الصحيح في المسألة وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها، فذكر ذلك له فقال: كيف كان الركوع والسجود قالوا: حسن، قال: لا بأس إذا، فحديث منكر اللفظ منقطع الاسناد، لانه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه، وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه، لانه رماه مالك من كتابه بأخرة (1)، وقال ليس عليه العمل لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة، وهو الصحيح عنه. روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة. قال ابن عبد البر: وهذا حديث متصل شهده همام من عمر، روي ذلك من وجوه. وروى أشهب عن مالك قال: سئل مالك عن الذي نسي القراءة، أيعجبك ما قال عمر ؟ فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال: يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به ! أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا. الرابعة عشرة: أجمع العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة، على ما تقدم من أصولهم في ذلك. وأجمعوا على أن لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب، إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا سورة واحدة لانه الاكثر مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال مالك: وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الاوليين بأم القرآن وسورة، وفي الاخريين بفاتحة الكتاب. وقال الاوزاعي: يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القرآن وقرأ بغيرها أجزأه، وقال: وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد. وقال الثوري: يقرأ في الركعتين الاوليين بفاتحة الكتاب وسورة، ويسبح في الاخريين إن شاء، وإن شاء قرأ، وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت (1) أي بتأخر وبعد عن الخير. (*)
[ 125 ]
صلاته، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: اقرأ في الاوليين وسبح في الاخريين، وبه قال النخعي. قال سفيان: فإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لانه لا تجزئه قراءة ركعة. قال: وكذلك إن نسي أن يقرأ في ركعة من صلاة الفجر. وقال أبو ثور: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة، كقول الشافعي المصري، وعليه جماعة أصحاب الشافعي وكذلك قال ابن خويز منداد المالكي، قال: قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وهذا هو الصحيح في المسألة. روى مسلم عن أبى قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الاوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانا، وكان يطول في الركعة الاولى من الظهر ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح. وفي رواية: ويقرأ في الركعتين الاخريين بفاتحة الكتاب، وهذا نص صريح وحديث صحيح لما ذهب إليه مالك، ونص في تعين الفاتحة في كل ركعة، خلافا لمن أبى ذلك، والحجة في السنة لا فيما خالفها. الخامسة عشرة - ذهب الجمهور إلى أن ما زاد على الفاتحة من القراءة ليس بواجب، لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: في كل صلاة قراءة، فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى منا أخفينا منكم، فمن قرأ بأم القرآن فقد أجزأت عنه، ومن زاد فهو أفضل. وفي البخاري: وإن زدت فهو خير. وقد أبى كثير من أهل العلم ترك السورة لضرورة أو لغير ضرورة، منهم عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وخوات بن جبير ومجاهد وأبو وائل وابن عمر وابن عباس وغيرهم، قالوا: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشئ معها من القرآن، فمنهم من حد آيتين، ومنهم من حد آية، ومنهم من لم يحد، وقال: شئ من القرآن معها، وكل هذا موجب لتعلم ما تيسر من القرآن على كل حال مع فاتحة الكتاب، لحديث عبادة وأبي سعيد الخدري وغيرهما. وفي المدونة: وكيع عن الاعمش عن خيثمة قال: حدثني من سمع عمر بن الخطاب يقول: لا تجزئ صلاة من لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشئ معها. واختلف المذهب في قراءة السورة على ثلاثة أقوال: سنة، فضيلة، واجبة.
[ 126 ]
السادسة عشرة: من تعذر ذلك عليه بعد بلوغ مجهوده فلم يقدر على تعلم الفاتحة أو شئ من القرآن ولا علق منه بشئ، لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صلى وحده أو مع إمام فيما أسر فيه الامام، فقد روى أبو داود وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: (قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله)، قال: يا رسول الله، هذا لله، فما لي ؟ قال: (قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني). السابعة عشرة: فإن عجز عن إصابة شئ من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الامام جهده، فالامام يحمل ذلك عنه إن شاء الله، وعليه أبدا أن يجهد نفسه في تعلم فاتحة الكتاب فما زاد، إلى أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله. الثامنة عشرة: من لم يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الاعجمين وغيرهم ترجم له الدعاء العربي بلسانه الذي يفقه لاقامة صلاته، فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى. التاسعة عشرة: لا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية وهو يحسن العربية في قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: تجزئه القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية، لان المقصود إصابة المعنى. قال ابن المنذر: لا يجزئه ذلك، لانه خلاف ما أمر الله به، وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاف جماعات المسلمين. ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال. الموفية عشرين: من افتتح الصلاة كما أمر وهو غير عالم بالقراءة، فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة، ويتصور ذلك بأن يكون سمع من قرأها فعلقت بحفظه من مجرد السماع فلا يستأنف الصلاة، لانه أدى ما مضى على حسب ما أمر به، فلا وجه لابطاله. قاله في كتاب ابن سحنون.
[ 127 ]
الباب الثالث - في التأمين، وفيه ثمان مسائل الاولى: ويسن لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون " ولا الضالين ": آمين، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن. الثانية: ثبت في الامهات من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الامام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فترتبت المغفرة للذنب على مقدمات أربع تضمنها هذا الحديث، الاولى: تأمين الامام، الثانية: تأمين من خلفه، الثالثة: تأمين الملائكة، الرابعة: موافقة التأمين، قيل في الاجابة، وقيل في الزمن، وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء، لقوله عليه السلام: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالاجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه). الثالثة - روى أبو داود عن أبى مصبح المقرائي قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري وكان من الصحابة، فيحدث أحسن الحديث، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين، فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير: ألا أخبركم عن ذلك، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوجب إن ختم) فقال له رجل من القوم: بأي شئ يختم ؟ قال: (بآمين فإنه ختم بآمين فقد أوجب) فانصرف الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى الرجل فقال له: اختم يا فلان وأبشر. قال ابن عبد البر: أبو زهير النميري اسمه يحيى بن نفير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الاعظم). وقال وهب بن منبه: آمين أربعة أحرف يخلق الله من كل حرف ملكا يقول: اللهم اغفر من قال آمين. وفي الخبر (لقنني جبريل آمين عند
[ 128 ]
فراغي من فاتحة الكتاب وقال إنه كالخاتم على الكتاب) وفي حديث آخر: (آمين خاتم رب العالمين). قال الهروي قال أبو بكر: معناه أنه طابع الله على عباده، لانه يدفع [ به عنهم ] (1) الآفات والبلايا، فكان كخاتم الكتاب الذي يصونه، ويمنع من إفساده وإظهار ما فيه. وفي حديث آخر (آمين درجة في الجنة). قال أبو بكر: معناه أنه حرف يكتسب به قائله درجة في الجنة. الرابعة: معنى آمين عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب لنا، وضع موضع الدعاء. وقال قوم: هو اسم من أسماء الله، روي عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح، قاله ابن العربي. وقيل معنى آمين: كذلك فليكن، قاله الجوهري. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين ؟ قال: (رب افعل). وقال مقاتل: هو قوة للدعاء، واستنزال للبركة. وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا. الخامسة: وفي آمين لغتان: المد على وزن فاعيل كياسين. والقصر على وزن يمين. قال الشاعر في المد: يا رب لا تسلبني حبها أبدا * ويرحم الله عبدا قال آمينا وقال آخر: آمين آمين لا أرضى بواحدة * حتى أبلغها ألفين آمينا وقال آخر في القصر: تباعد مني فطحل إذ سألته * أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وتشديد الميم خطأ، قال الجوهري. وقد روي عن الحسن وجعفر الصادق التشديد، وهو قول الحسين بن الفضل، من أم إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك، ومنه قوله: " ولا آمين (1) الزيادة عن اللسان مادة (أمن). (*)
[ 129 ]
البيت الحرام " [ المائدة: 2 ]. حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري. قال الجوهري: وهو مبني على الفتح مثل أين وكيف، لاجتماع الساكنين. وتقول منه: أمن فلان تأمينا. السادسة - اختلف العلماء هل يقولها الامام وهل يجهر بها، فذهب الشافعي ومالك في رواية المدنيين إلى ذلك. وقال الكوفيون وبعض المدنيين: لا يجهر بها. وهو قول الطبري، وبه قال ابن حبيب من علمائنا. وقال ابن بكير: هو مخير. وروى ابن القاسم عن مالك أن الامام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه، وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك. وحجتهم حديث أبي موسى الاشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: (إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله) وذكر الحديث، أخرجه مسلم. ومثله حديث سمي عن أبي هريرة، وأخرجه مالك. والصحيح الاول لحديث وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ " ولا الضالين " قال: " آمين " يرفع بها صوته، أخرجه أبو داود والدارقطني، وزاد " قال أبو بكر: هذه سنة تفرد بها أهل الكوفة، هذا صحيح والذي بعده ". وترجم البخاري " باب جهر الامام بالتأمين ". وقال عطاء: " آمين " دعاء، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجة (1). قال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين لا يخفيها. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. وفى الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " آمين ". وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال: ترك الناس آمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: " آمين " حتى يسمعها أهل الصف الاول فيرتج بها المسجد. وأما حديث أبي موسى وسمي فمعناهما التعريف بالموضع الذي يقال فيه آمين، وهو إذا قال الامام: " ولا الضالين " ليكون قولهما معا، ولا يتقدموه بقول: آمين، (1) اللجة: الصوت. (*)
[ 130 ]
لما ذكرناه، والله أعلم. ولقوله عليه السلام: (إذا أمن الامام فأمنوا). وقال ابن نافع في كتاب ابن الحارث: لا يقولها المأموم إلا أن يسمع الامام يقول: " ولا الضالين ". وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل. وقال ابن عبدوس: يتحرى قدر القراءة ويقول: آمين. السابعة - قال أصحاب أبي حنيفة: الاخفاء بآمين أولى من الجهر بها لانه دعاء، وقد قال الله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفيه " [ الاعراف: 5 ]. قالوا: والدليل عليه ما روي في تأويل قول تعالى: " قد أجيبت دعوتكما " [ يونس: 89 ]. قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فسماهما الله داعيين. الجواب: أن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لما يدخله من الرياء. وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر، وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره، وقد ندب الامام إلى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها، فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه، وهذا بين. الثامنة - كلمة آمين لم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام. ذكر الترمذي الحكيم في (نوادر الاصول): حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال حدثنا أبي قال حدثنا رزين مؤذن مسجد هشام بن حسان قال حدثنا أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهو تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون) قال أبو عبد الله: معناه أن موسى دعا على فرعون، وأمن هارون، فقال الله تبارك اسمه عندما ذكر دعاء موسى في تنزيله: " قد أجيبت دعوتكما " [ يونس: 89 ] ولم يذكر مقالة هارون، وقال موسى: ربنا، فكان من هارون التأمين، فسماه داعيا في تنزيله، إذ صير ذلك منه دعوة. وقد قيل: إن آمين خاص لهذه الامة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حسدتكم اليهود على شئ ما حسدتكم على السلام والتأمين) أخرجه ابن ماجه من حديث حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال....، الحديث. وأخرج أيضا من
[ 131 ]
حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حسدتكم اليهود على شئ ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين). قال علماؤنا (1) رحمة الله عليهم: إنما حسدنا أهل الكتاب لان أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة، ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم، ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين. الباب الرابع - فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والاعراب وفضل الحامدين، وفيه ست وثلاثون مسألة الاولى - قوله سبحانه وتعالى: (الحمد لله) روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي). وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها). وقال الحسن: ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها. وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ). وفي (نوادر الاصول) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك). قال أبو عبد الله: معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا، ثم أعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها، لان الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات، قال [ الله تعالى: " والباقيات الصالحات ] (2) خير عند ربك ثوابا وخير أملا " [ مريم: 76 ]. وقيل في بعض الروايات: لكان ما أعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاء من العبد، والدنيا أخذا من الله، فهذا (1) هذا حمل منهم للحديث على الفاتحة مع آمين في آخرها. (2) زيادة عن نوادر الاصول. (*)
[ 132 ]
في التدبير (1). كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد، والدنيا من الله، وكلاهما من الله في الاصل، الدنيا منه والكلمة منه، أعطاه الدنيا فأغناه، وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة. وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: (أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله عزوجل وهو أعلم بما قال عبده ماذا قال عبدي قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها). قال أهل اللغة: أعضل الامر: اشتد واستغلق، والمعضلات (بتشديد الضاد): الشدائد. وعضلت المرأة والشاة: إذا نشب ولدها فلم يسهل مخرجه، بتشديد الضاد أيضا، فعلى هذا يكون: أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء. والله أعلم. وروي عن مسلم عن أبي مالك الاشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الايمان والحمد لله تملا الميزان وسبحان الله والحمد لله تملان أو تملا ما بين السماء والارض) وذكر الحديث. الثانية - اختلف العلماء أيما أفضل، قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله ؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل، لان في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط. وقالت طائفة: لا إله إلا الله أفضل، لانها تدفع الكفر والاشراك، وعليها يقاتل الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له). (1) في بعض نسخ الاصل: (في التذكير). (*)
[ 133 ]
الثالثة - أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه، وأن مما أنعم الله به الايمان، فدل على أن الايمان فعله وخلقه، والدليل على ذلك قوله: " رب العالمين ". والعالمون جملة المخلوقات، ومن جملتها الايمان، لا كما قال القدرية: إنه خلق لهم، على ما يأتي بيانه. الرابعة - الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل، والالف واللام لاستغراق الجنس من المحامد، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الاسماء الحسنى والصفات العلا، وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر: وأبلج محمود الثناء خصصته * بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد. والحمد أعم من الشكر، والمحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر: * إلى الماجد القرم الجواد المحمد * وبذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر: (1) فشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد والمحمدة: خلاف المذمة. وأحمد الرجل: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حمدة - مثل همزة - يكثر حمد الاشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحمدة النار - بالتحريك -: صوت التهابها. الخامسة - ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليس بمرضى. وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب " الحقائق " له عن جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله، إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله شكرا. قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه، لان قولك شكرا، إنما خصصت به الحمد، لانه على نعمة من النعم. وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد، لانه باللسان وبالجوارح (1) هو حسان بن ثابت رضى الله عنه. (*)
[ 134 ]
والقلب، والحمد إنما يكون باللسان خاصة. وقيل: الحمد أعم، لان فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر، لان الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمه كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام: " فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين " (1) وقال إبراهيم عليه السلام: " الحمد لله الذي وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحق " (2). وقال في قصة داود وسليمان: " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " (3). وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " (4). وقال أهل الجنة: " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " (5). " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " (6). فهي كلمة كل شاكر. قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الاحسان (7). وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لان الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا، فصار الحمد أعم في الآية لانه يزيد على الشكر. ويذكر الحمد بمعنى الرضا، يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قول تعالى: " مقاما محمودا " (8). وقال عليه السلام: (أحمد إليكم غسل الاحليل) أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله " الحمد لله ": من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لان الحمد جاء وميم ودال، فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله. وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير " الحمد لله " قال: هو على ثلاثة أوجه: أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد. (1) آية 28 سورة المؤمنون. (2) آية 39 سورة إبراهيم. (3) آية 15 سورة النمل. (4) آية 111 سورة الاسراء. (5) آية 34 سورة فاطر. (6) آية 10 سورة يونس. (7) عقب ذلك ابن عطية في تفسيره قوله: فالحامد من الناس قسمان: الشاكر والمثنى بالصفات. وبه يتضح كلام المؤلف. (8) آية 79 سورة الاسراء. (*)
[ 135 ]
السادسة - أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " (1). وقال عليه السلام: (احثوا في وجوه المداحين التراب) رواه المقداد. وسيأتي القول فيه في " النساء " (2) إن شاء الله تعالى. فمعنى " الحمد لله رب العالمين " أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمدني أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الازل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده، حمد نفسه بنفسه لنفسه في الازل، فاستفراغ طوق عباده هو محل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: (لا أحصى ثناء عليك). وأنشدوا: إذا نحن أثنينا عليك بصالح * فأنت كما نثني وفوق الذي نثني وقيل: حمد نفسه في الازل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم، لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل المنة. السابعة - وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من " الحمد لله ". وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج: " الحمد لله " بنصب الدال، وهذا على إضمار فعل. ويقال: " الحمد لله " بالرفع مبتدأ وخبر، وسبيل الخبر أن يفيد، فما الفائدة في هذا ؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدا، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله. وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال. وفي الحديث: (من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). وقيل: إن مدحه عزوجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده، فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: " الحمد لله " (1) آية 32 سورة النجم. (2) راجع ج 5 ص 246 (*)
[ 136 ]
ثناء أثنى به على نفسه، وفى ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد لله، وعلى هذا يجئ قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر: وأعلم أنني سأكون رمسا * إذا سار النواعج (1) لا يسير فقال السائلون لمن حفرتم * فقال القائلون لهم وزير المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير. وروي عن ابن أبي عبلة: " الحمد لله " بضم الدال واللام على إتباع الثاني الاول، وليتجانس اللفظ، وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم، نحو: أجوءك، وهو منحدر من الجبل، بضم الدال والجيم. قال: * أضرب الساقين أمك هابل * بضم النون لاجل ضم الهمزة. وفي قراءة لاهل مكة " مردفين " بضم الراء إتباعا للميم، وعلى ذلك " مقتلين " بضم القاف. وقالوا: لامك، فكسروا الهمزة اتباعا للام، وأنشد للنعمان بن بشير: ويل أمها في هواء الجو طالبة * ولا كهذا الذي في الارض مطلوب (2) الاصل: ويل لامها، فحذفت اللام الاولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للام ثم أتبع اللام الميم. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: " الحمد لله " بكسر الدال على اتباع الاول الثاني. الثامنة - قوله تعالى: رب العالمين (2) أي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك. وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالاضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك، قال الحارث بن حلزة: وهو الرب والشهيد على يو * م الحيارين (3) والبلاء بلاء (1) النواعج من الابل: السراع. (2) وصف عقابا تتبع ذئبا لتصيده. وهذا البيت نسبه سيبويه في كتابه مرة للنعمان (ج 2 ص 272) وأخرى لآمرئ القيس (ج 1 ص 353). ونسبه البغدادي في خزانة الادب في الشاهد 266 لآمرئ القيس أيضا. وقد ورد في ديوانه: * لا كالذي في هواء الجو... * وعلى هذا لا شاهد فيه. (3) الحياران: موضع غزا أهله المنذر بن ماء السماء. (*)
[ 137 ]
والرب: السيد، ومنه قوله تعالى: " اذكرني عند ربك " (1). وفي الحديث: (أن تلد الامة ربتها) أي سيدتها، وقد بيناه في كتاب (التذكرة). والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شئ وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: (هل لك من نعمة تربها عليه) أي تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود، ومنه قول الشاعر: أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب ويقال على التكثير (2): رباه ورببه وربته، حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنى أي رباه. والمربوب: المربى. التاسعة - قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الاعظم، لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن، كما في آخر " آل عمران " (3) وسورة " إبراهيم " (4) وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال. واختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم، ومنه قوله تعالى: " وربائبكم اللاتي في حجوركم " (5). فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات. العاشرة - متى أدخلت الالف واللام على " رب " اختص الله تعالى به، لانها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد، وزيد رب الدار، فالله سبحانه رب الارباب، يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورزقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما (1) آية 42 سورة يوسف. (2) في النحاس: (على التكبير). (3) راجع ج 4 ص 313. (4) راجع ج 9 ص 368 (5) آية 23 سورة النساء. (*)
[ 138 ]
يملك شيئا دون شئ، وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين. الحادية عشرة - قوله تعالى - (العالمين) اختلف أهل التأويل في " العالمين " اختلافا كثيرا، فقال قتادة: العالمون جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل، لقول تعالى: " أتأتون الذكران من العالمين " أي من الناس. وقال العجاج: * فخندف هامة هذا العالم (2) * وقال جرير بن الخطفي: تنصفه البرية وهو سام * ويضحي العالمون له عيالا وقال ابن عباس: العالمون الجن والانس، دليله قوله تعالى: " ليكون للعالمين نذيرا " (3) ولم يكن نذيرا للبهائم. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الانس والجن والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالم، لان هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة. قال الاعشى: * ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا * وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس أيضا: كل ذي روح دب على وجه الارض. وقال وهب بن منبه: إن لله عزوجل ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها. وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر. وروى الربيع ابن أنس عن أبي العالية قال: الجن عالم، والانس عالم، وسوى ذلك للارض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم، خلقهم لعبادته. (1) سورة الشعراء آية 165. (2) خندف اسم قبيلة من العرب، وذكر العلامة الشنقيطي أن العجاج كان ينشد: العالم، بالهمز والاسكان. (3) سورة الفرقات آية 1 (*)
[ 139 ]
قلت: والقول الاول أصح هذه الاقوال، لانه شامل لكل مخلوق وموجود، دليله قوله تعالى: " قال فرعون وما رب العالمين (1). قال رب السموات والارض وما بينهما " [ الشعراء: 23 ] ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة، لانه يدل على موجده. كذا قال الزجاج قال: العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشئ، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا، وهذا واضح. وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد: الحمد لله، فقال له: أتمها كما قال الله، قل: رب العالمين، فقال الرجل: ومن العالمين حتى تذكر مع الحق ؟ قال: قل يا أخي ؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر. الثانية عشرة - يجوز الرفع والنصب في " رب " فالنصب على المدح، والرفع على القطع، أي هو رب العالمين. الثالثة عشرة - قوله تعالى: الرحمن الرحيم (3) وصف نفسه تعالى بعد " رب العالمين "، بأنه " الرحمن الرحيم "، لانه لما كان في اتصافه ب " - رب العالمين " ترهيب قرنه ب " - الرحمن الرحيم "، لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال: " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (2). وأن عذابي هو العذاب الاليم ". وقال: " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول " (3). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد). وقد تقدم ما في هذين الاسمين من المعاني، فلا معنى لاعادته. الرابعة عشرة - قوله تعالى: مالك يوم الدين (4) قرأ محمد بن السميقع بنصب مالك، وفيه أربع لغات: مالك وملك وملك - مخففة من ملك - ومليك. قال الشاعر: (4) وأيام لنا غر طوال * عصينا الملك فيها أن ندينا (1) آية 23 سورة الشعراء. (2) آية 49 - 50 سورة الحجر. (3) آية 3 سورة غافر. (4) هو عمرو بن كلثوم. (*)
[ 140 ]
وقال آخر: (1) فاقنع بما قسم المليك فإنما * قسم الخلائق بيننا علامها الخلائق: الطبائع التي جبل الانسان عليها. وروي عن نافع إشباع الكسرة في " ملك " فيقرأ " ملكي " على لغة من يشبع الحركات، وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره. الخامسة عشرة - اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك ؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي، فقيل: " ملك " أعم وأبلغ من " مالك " إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، ولان أمر الملك نافذ على المالك في ملكه، حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك، قال أبو عبيدة والمبرد. وقيل: " مالك " أبلغ، لانه يكون مالكا للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم، إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك. وقال أبو علي: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب " - ملك " أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شئ بقوله: " رب العالمين " فلا فائدة في قراءة من قرأ " مالك " لانها تكرار. قال أبو على: ولا حجة في هذا، لان في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله: " هو الله الخالق البارئ المصور " فالخالق يعم. وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة، وكما قال تعالى: " وبالآخرة هم يوقنون " بعد قوله: " الذين يؤمنون بالغيب ". والغيب يعم الآخرة وغيرها، ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال: " الرحمن الرحيم " فذكر " الرحمن " الذي هو عام وذكر " الرحيم " بعده، لتخصيص المؤمنين به في قوله: " وكان بالمؤمنين رحيما ". وقال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من " ملك "، و " ملك " أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة (1) هو لبيد بن ربيعة العامري. (*)
[ 141 ]
أوجه، الاول: أنك تضيفه إلى الخاص والعام، فتقول: مالك الدار والارض والثوب، كما تقول: مالك الملوك. الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير، وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا. والثالث: أنك تقول: مالك الملك، ولا تقول: ملك الملك. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك لان المراد من " مالك " الدلالة على الملك - بكسر الميم - وهو لا يتضمن " الملك " - بضم الميم - و " ملك " يتضمن الامرين جميعا فهو أولى بالمبالغة. ويتضمن أيضا الكمال، ولذلك استحق الملك على من دونه، ألا ترى إلى قوله تعالى: " إن الله اصطفاه (1) عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم "، ولهذا قال عليه السلام: (الامامة في قريش) وقريش أفضل قبائل العرب، والعرب أفضل من العجم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار وذلك أمر ضروري في الملك، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته، ويتضمن البطش والامر والنهي والوعد والوعيد، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام: " ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لاعذبنه عذابا شديدا " (2) إلى غير ذلك من الامور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك. قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لان فيه زيادة حرف، فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك. قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك، وفيه من المعنى ما ليس في مالك، على ما بينا والله أعلم. السادسة عشرة - لا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الارض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الارض) وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الاملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا الله عزوجل) قال سفيان (3): " مثل: شاهان شاه. وقال (1) سورة البقرة آية 247. (2) سورة النمل آية 20، 21. (3) سفيان هذا، أحد رواة سند هذا الحديث. (*)
[ 142 ]
أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع، فقال: أوضع. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل [ كان ] يسمى ملك الاملاك لا ملك إلا الله سبحانه). قال ابن الحصار: وكذلك " ملك يوم الدين " و " مالك الملك " لا ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الاملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك وهي: السابعة عشرة - فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما، قال الله العظيم: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا " (1). وقال صلى الله عليه وسلم: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج (2) هذا البحر ملوكا على الاسرة أو مثل الملوك على الاسرة). الثامنة عشرة - إن قال قائل: كيف قال " مالك يوم الدين " ويوم الدين لم يوجد بعد، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده قيل له: اعلم أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا، أي سيضرب زيدا. وكذلك: هذا حاج بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل، أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد، وإنما أريد به الاستقبال، فكذلك قوله عزوجل: " مالك يوم الدين " على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر. ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجعا إلى القدرة، أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه، لان المالك للشئ هو المتصرف في الشئ والقادر عليه، والله عزوجل مالك الاشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شئ. والوجه الاول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها، قال أبو القاسم الزجاجي. (1) سورة البقرة آية 247 (2) ثبج البحر: وسطه ومعظمه. (*)
[ 143 ]
ووجه ثالث: فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره ؟ قيل له: لان في الدنيا كانوا منازعين في الملك، مثل فرعون ونمروذ وغيرهما، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له، كما قال تعالى: " لمن الملك اليوم " (1) فأجاب جميع الخلق: " لله الواحد القهار " فلذلك قال: مالك يوم الدين، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره، سبحانه لا إله إلا هو. التاسعة عشرة - إن وصف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله. الموفية العشرين - اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه، قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " (2) وجمع يوم أيام، وأصله أيوام فأدغم، وربما عبروا عن الشدة باليوم، يقال: يوم ايوم، كما يقال: ليلة ليلاء. قال الراجز: (3) * نعم أخو الهيجاء في اليوم اليمي * (4) وهو مقلوب منه، أخر الواو وقدم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا، كما قالوا: أدل في جمع دلو. الحادية والعشرون - الدين: الجزاء على الاعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق " (5) أي حسابهم. وقال: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " [ غافر: 17 ] و " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " (6) وقال: " أئنا لمدينون " (7) أي مجزيون محاسبون. وقال لبيد: (1) سورة غافر آية 16. (2) سورة المائدة آية 3. (3) هو أبوالاخزر الحماني كما في اللسان مادة " يوم ". (4) قوله: " وهو " أي اليمي. (5) سورة النور آية 25. (6) سورة الجاثية آية 28. (7) سورة الصافات آية 53. (*)
[ 144 ]
حصادك يوما ما زرعت وإنما * يدان الفتى يوما كما هو دائن آخر: إذا ما رمونا رميناهم * ودناهم مثل ما يقرضونا آخر: وأعلم يقينا (1) أن ملكك زائل * وأعلم بأن كما تدين تدان وحكى أهل اللغة: دنته بفعله دينا (بفتح الدال) ودينا (بكسرها) جزيته، ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي، وفي الحديث: (الكيس من دان نفسه) أي حاسب. وقيل: القضاء. روي عن ابن عباس أيضا، ومنه قول طرفة: لعمرك ما كانت حمولة (2) معبد * على جدها (3) حربا لدينك من مضر ومعاني هذه الثلاثة متقاربة. والدين أيضا: الطاعة، ومنه قول عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غر طوال * عصينا الملك فيها أن ندينا فعلى هذا هو لفظ مشترك وهي: الثانية والعشرون - قال ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عز، ودان إذا ذل، ودان إذا قهر، فهو من الاضداد. ويطلق الدين على العادة والشأن، كما قال: * كدينك من أم الحويرث قبلها * وقال المثقب [ يذكر ناقته ]: تقول إذا درأت لها وضيني (4) * أهذا دينه أبدا وديني (1) في اللسان مادة (دين): " قال خويلد بن نوفل الكلابي للحارث بن أبي شمر الغساني وكان قد اغتصبه ابنته: ياحار أيقن أن ملكك زائل *.... " الخ (2) الحمولة: الابل التي يحمل عليها. (3) الجد (بالضم): البئر الجيدة الموضع من الكلا. والخطاب لعمرو بن هند وقد أغار على إبل معبد أخي طرفة. (4) درأت وضين البعير: إذا بسطته على الارض ثم أبركته عليه لتشده به. والوضين: بطان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير. (*)
[ 145 ]
والدين: سيرة الملك. قال زهير: لئن حللت بجو في بني أسد * في دين عمرو وحالت بيننا فدك (1) أراد في موضع طاعة عمرو. والدين: الداء، عن اللحياني. وأنشد: * يا دين قلبك من سلمى وقد دينا * الثالثة والعشرون - قوله تعالى: " إياك نعبد " رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين، لان من أول السورة إلى هاهنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه، كقوله " وسقاهم (2) ربهم شرابا طهورا ". ثم قال: " إن هذا كان لكم جزاء ". وعكسه: " حتى إذا كنتم (3) في الفلك وجرين بهم " [ يونس: 22 ] على ما يأتي. و " نعبد " معناه نطيع، والعبادة الطاعة والتذلل. وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين، قاله الهروي. ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. " وإياك نستعين " أي نطلب العون والتأييد والتوفيق. قال السلمي في حقائقه: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني يقول: من أقر ب " إياك نعبد وإياك نستعين " فقد برئ من الجبر والقدر. الرابعة والعشرون - إن قيل: لم قدم المفعول على الفعل ؟ قيل له: قدم اهتماما، وشأن العرب تقديم الاهم. يذكر أن أعرابيا سب آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له الساب: إياك أعني: فقال له الآخر: وعنك أعرض، فقدما الاهم. وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز نعبدك ونستعينك، ولا نعبد إياك ونستعين إياك، فيقدم الفعل على كناية المفعول، وإنما يتبع لفظ القرآن. وقال العجاج: إياك أدعو فتقبل ملقي * واغفر خطاياي وكثر ورقي (1) جو (بالجيم) كما في الاصول والديوان. قال البكري في معجمه: " انه موضع في ديار بني أسد " واستشهد ببيت زهير هذا. وفي القاموس وشرحه في مادة الخو - بالخاء المعجمة -: (ويوم خو لبني أسد، قال زهير - وذكر البيت - قال أبو محمد الاسود ومن رواه بالجيم فقد أخطأه وكان هذا اليوم لهم على بني يربوع..) وفدك: موضع بخيبر. (2) راجع ج 19 ص 145. (3) راجع ج 8 ص 324. (*)
[ 146 ]
ويروى: وثمر. وأما قول الشاعر (1): * إليك حتى بلغت إياكا * فشاذ لا يقاس عليه. والورق بكسر الراء من الدراهم، وبفتحها المال. وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونستعين غيرك. الخامسة والعشرون - الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من " إياك " في الموضعين. وقرأ عمرو بن قائد: " إياك " بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن المعنى يصير: شمسك نعبد أو ضوءك، وإياة الشمس (بكسر الهمزة): ضوءها، وقد تفتح. وقال: سقته إياة الشمس إلا لثاته * أسف فلم تكدم عليه بإثمد فإن أسقطت الهاء مددت. ويقال: الاياة للشمس كالهالة للقمر، وهي الدارة حولها. وقرأ الفضل الرقاشي: " أياك " (بفتح الهمزة) وهي لغة مشهورة. وقرأ أبو السوار الغنوي: " هياك " في الموضعين، وهي لغة، قال: فهياك والامر الذي إن توسعت * موارده ضاقت عليك مصادره السادسة والعشرون - " وإياك نستعين " (5) عطف جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وثاب والاعمش: " نستعين " بكسر النون، وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة، ليدل على أنه من استعان، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل. وأصل " نستعين " نستعون، قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر (1) هو حميد الارقط. والمعنى: سارت هذه الناقة إليك حتى بلغتك. (2) قائله طرفة بن العبد. والهاء في (سقته) و (لثاته) يعود على الثغر، وكذا المضمر الذي في (أسف). ومعنى سقته: حسنته وبيضته وأشربته حسنا. و (أسف): ذر عليه. و (فلم تكدم عليه): أي لم تعضض عظما فيؤثر في ثغرها. (عن شرح المعلقات). (*)
[ 147 ]
استعانة، والاصل استعوان، قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الالف الثانية لانها زائدة، وقيل الاولى لان الثانية للمعنى، ولزمت الهاء عوضا. السابعة والعشرون - قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم (6) اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به [ الداعي ] لان هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: (ليس شئ أكرم على الله من الدعاء). وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك، وقيل: الاصل فيه الامالة، ومنه قوله تعالى: " إنا هدنا إليك (1) " [ الاعراف: 156 ] أي ملنا، وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين اثنين، أي يتمايل. ومنه الهدية، لانها تمال من ملك إلى ملك. ومنه الهدي للحيوان الذي يساق إلى الحرم، فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق. وقال الفضيل بن عياض: " الصراط المستقيم " طريق الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية في قوله عز وجل " اهدنا الصراط المستقيم ": هو دين الله الذي لا يقبل من العبادة غيره. وقال عاصم الاحول عن أبي العالية: " الصراط المستقيم " رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: " الصراط المستقيم " رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه، قال: صدق ونصح. الثامنة والعشرون - أصل الصراط في كلام العرب الطريق، قال عامر بن الطفيل: شحنا أرضهم بالخيل حتى * تركناهم أذل من الصراط وقال جرير: أمير المؤمنين على صراط * إذا أعوج الموارد مستقيم وقال آخر: * فصد عن نهج الصراط الواضح * (1) راجع ج 7 ص 296 (*)
[ 148 ]
وحكى النقاش: الصراط الطريق بلغة الروم، قال ابن عطية: وهذا ضعيف جدا. وقرئ: السراط (بالسين) من الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يسترط من يسلكه. وقرئ بين الزاي والصاد. وقرئ بزاي خالصة والسين الاصل. وحكى سلمة عن الفراء قال: الزراط بإخلاص الزاي لغة لعذرة وكلب وبني القين، قال: وهؤلاء يقولون [ في أصدق ]: أزدق. وقد قالوا: الازد والاسد ولسق به ولصق به. و " الصراط " نصب على المفعول الثاني، لان الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر، قال الله تعالى: " فاهدوهم (1) إلى صراط الجحيم ". [ الصافات: 23 ]. وبغير حرف كما في هذه الآية. " المستقيم " صفة ل " - لصراط "، وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ومنه قوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما (2) فاتبعوه " [ الانعام: 153 ] وأصله مستقوم، نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. التاسعة والعشرون - صراط الذين أنعمت عليهم. صراط بدل من الاول بدل الشئ من الشئ، كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: (3) أدم هدايتنا، فإن الانسان قد يهدي إلى الطريق ثم يقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله عزوجل والفهم عنه، قال جعفر بن محمد. ولغة القرآن " الذين " في الرفع والنصب والجر، وهذيل تقول: اللذون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو (4)، ومنهم من يقول الذي (5) وسيأتي. وفي " عليهم " عشر لغات، قرئ بعامتها: " عليهم " بضم الهاء وإسكان الميم. " وعليهم " بكسر الهاء وإسكان الميم. و " عليهمي " بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و " عليهمو " بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و " عليهمو " بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم و " عليهم " بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الاوجه الستة مأثورة عن الائمة من القراء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء: (1) راجع ج 15 ص 73 (2) راجع ج 7 ص 137 (3) أي قوله تعالى: (أهدنا وما بعده. (4) قال أبو حيان في البحر: واستعماله بحذف النون جائز. كذا في اللسان. (5) أي إفرادا أو جمعا في الرفع والنصب والجر، كما يؤخذ من لسان العرب. (*)
[ 149 ]
" عليهمي " بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، حكاها الحسن (1) البصري عن العرب. و " عليهم " بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و " عليهم " بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و " عليهم " بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب، قاله ابن الانباري. الموفية الثلاثين - قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما " صراط من أنعمت عليهم ". واختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (2) " [ النساء: 69 ]. فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد، وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الاقوال والله المستعان. الحادية والثلاثون - وفي هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والامامية، لانهم يعتقدون أن إرادة الانسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعة كانت أو معصية، لان الانسان عندهم خالق لافعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الامر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة، وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه، وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: " صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " [ الفاتحة: الآية ]. فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا (3) " [ آل عمران: 8 ] الآية. الثانية والثلاثون - غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7) اختلف في " المغضوب عليهم " و " الضالين " من هم فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في جامعه. وشهد لهذا التفسير (1) في بعض نسخ الاصل: (الاخفش البصري) وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة. (2) راجع ج 5 ص 271. (3) راجع ج 4 ص 19. (*)
[ 150 ]
أيضا قوله سبحانه في اليهود: " وباءوا بغضب من الله " [ البقرة: 61 وآل عمران: 112 ]. وقال: " (1) وغضب الله عليهم " [ الفتح: 6 ] وقال في النصارى: " قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (2) " [ المائدة: 77 ]. وقيل: " المغضوب عليهم " المشركون. و " الضالين " المنافقون. وقيل: " المغضوب عليهم " هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة، و " الضالين " عن بركة قراءتها. حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره، وليس بشئ. قال الماوردي: وهذا وجه مردود، لان ما تعارضت فيه الاخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: " المغضوب عليهم " باتباع البدع، و " الضالين " عن سنن الهدى. قلت: وهذا حسن، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن. و " عليهم " في موضع رفع، لان المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدة. ورجل غضوب أي شديد الخلق. والغضوب: الحية الخبيثة لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها. ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته، أو نفس العقوبة، ومنه الحديث: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب) فهو صفة فعل. الثالثة والثلاثون - " ولا الضالين " الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق، ومنه: ضل اللبن في الماء أي غاب. ومنه: " أئذا ضللنا في الارض " [ السجدة: 10 ] أي غبنا بالموت وصرنا ترابا، قال: ألم تسأل فتخبرك الديار * عن الحي المضلل أين ساروا والضلضلة: حجر أملس يردده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفة لونه، قال: * أو غضبة في هضبة ما أمنعا * الرابعة والثلاثون - قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب " غير المغضوب عليهم وغير الضالين " وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين، فالخفض على البدل من " الذين " (1) راجع ج 16 ص 265 (2) راجع ج 6 ص 252 (*)
[ 151 ]
أو من الهاء والميم في " عليهم "، أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام، فالكلام بمنزلة قولك: إني لامر بمثلك فأكرمه، أو لان " غير " تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحي غير الميت، والساكن غير المتحرك، والقائم غير القاعد، قولان: الاول للفارسي، والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعنى، وحكى عن الخليل. الخامسة والثلاثون - " لا " في قوله " ولا الضالين " اختلف فيها، فقيل هي زائدة، قاله الطبري. ومنه قوله تعالى: " ما منعك ألا تسجد (1) " [ الاعراف: 12 ]. وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكي والمهدوي. وقال الكوفيون: " لا " بمعنى غير، وهي قراءة عمر وأبي، وقد تقدم. السادسة والثلاثون - الاصل في " الضالين ": الضاللين حذفت حركة اللام الاولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الالف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختياني: " ولا الضألين " بهمزة غير ممدودة، كأنه فر من التقاء الساكنين وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد - يقرأ: " فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان " [ الرحمن: 39 ] فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير: * إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت (3) نجز تفسير سورة الحمد، ولله الحمد والمنة. (1) راجع ج 7 ص 170 (2) راجع ج 17 ص 174 (3) كذا ورد هذا الشطر في جميع نسخ الاصل وتفسير ابن عطية وأبي حيان والبيت كما في ديوانه واللسان مادة (جنن): وأنت ابن ليلى خير قومك مشهدا * إذا ما احمأرت بالعبيط العوامل وهو من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن مروان. وعوالي الرماح: أسنتها واحدتها عالية. والعبيط: الدم الطري. واحمر الشئ واحمأر بمعي. (*)
[ 152 ]
تفسير سورة البقرة (بحول الله وكرمه، لا رب سواه) وأول مبدوء به الكلام في نزولها وفضلها وما جاء فيها، وهكذا كل سورة إن وجدنا لها ذلك، فنقول: سورة البقرة مدنية، نزلت في مدد شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت بالمدينة، إلا قوله تعالى: " واتقوا يوما ترجعون فيه (1) إلى الله " [ البقرة: 281 ] فإنه آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن. وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها جسيم. ويقال لها: فسطاط القرآن، قاله خالد بن معدان. وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبد الله في ثماني سنين كما تقدم. قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة، وقال له: (اذهب فأنت أميرهم) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه. وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة)، قال معاوية: (2) بلغني أن البطلة: السحرة. وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة). وروى الدارمي عن عبد الله قال: ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط. وقال: إن لكل شئ سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شئ لبابا وإن لباب القرآن المفصل. قال أبو محمد الدارمي. اللباب: الخالص. وفي صحيح البستي (1) راجع ج 3 ص 375 (2) معاوية هذا، هو أحد رواة سند هذا الحديث. (*)
[ 153 ]
عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شئ سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام). قال أبو حاتم البستي: قوله صلى الله عليه وسلم: (لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام) أراد: مردة الشياطين. وروى الدارمي في مسنده عن الشعبي قال قال عبد الله: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربعا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثا خواتيمها، أولها: " لله ما في السموات " [ البقرة: 284 ]. وعن الشعبي عنه: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شئ يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وقال المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبد الله -: لم ينس القرآن. وقال إسحاق بن عيسى: لم ينس ما قد حفظ. قال أبو محمد الدارمي: منهم من يقول: المغيرة بن سميع. وفي كتاب الاستيعاب لابن عبد البر: وكان لبيد بن ربيعة [ بن عامر (1) ] بن مالك بن جعفر ابن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الاسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في الاسلام، وسأله عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لاقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الاخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الاسلام إلا قوله: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي * حتى اكتسيت من الاسلام سربالا قال ابن عبد البر: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي، وهو أصح عندي. وقال غيره: بل البيت الذي قاله في الاسلام: ما عاتب المرء الكريم كنفسه * والمرء يصلحه القرين الصالح وسيأتي ما ورد في آية الكرسي وخواتيم البقرة (2)، ويأتي في أول سورة آل عمران (3) زيادة بيان لفضل هذه السورة، إن شاء الله تعالى. (1) الزيادة عن كتاب الاستيعاب (ج 1 ص 235) طبع الهند. (2) راجع ج 3 ص 268، 431 (3) راجع ج 4 ص 2 (*)
[ 154 ]
بسم الله الرحمن الرحيم (رب يسر وأعن) قوله تعالى: آلم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب (1) أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عزوجل بها. قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الانباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم (2) قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما أستأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون (3) به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عزوجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الاعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبد الله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: " الذين يؤمنون بالغيب " [ البقرة: 3 ]. (1) في نسخة من الاصل: (ولا يجوز أن نتكلم فيها... وتمر كما) الخ. وفي نسخة: (وتقر كما جاءت). (2) قال صاحب تهذيب التهذيب: (في التقريب الربيع بن خثيم، بضم المعجمة وفتح المثلثة. ولكن في الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة. (3) في نسخة من الاصل: (تجزون به). (*)
[ 155 ]
قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في (آل عمران) إن شاء الله تعالى (1). وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الاعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: " الم " و " المص " استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه (2) " [ فصلت: 26 ] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الالف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الالف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد. وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: " الم " قال: أنا الله أعلم، " الر " أنا الله أرى، " المص " أنا الله أفصل. فالالف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله: * فقلت لها قفي فقالت قاف * أراد: قالت وقفت. وقال زهير: * بالخير خيرات وإن شرا فا * ولا أريد الشر إلا أن تا أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء. (1) راجع ج 4 ص 9 (2) راجع ج 15 ص 356 (*)
[ 156 ]
وقال آخر: نادوهم ألا الجموا ألا تا * قالوا جميعا كلهم ألا فا أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: أق، كما قال عليه السلام (كفى بالسيف شا) معناه: شافيا. وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لان القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد ها هنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: " لا ريب فيه " فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون " لا " جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح. فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم ؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده. وقال بعضهم: " الم " أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال قتادة في قوله: " الم " قال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الاحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس. وقيل غير هذا من الاقوال، فالله أعلم. والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الاعراب ؟ فقيل: لا، لانها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه.
[ 157 ]
ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه " الم "، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل. وقال ابن كيسان النحوي: " الم " في موضع نصب، كما تقول: اقرأ " الم " أو عليك " الم ". وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها. قوله تعالى: (ذلك الكتاب) قيل: المعنى هذا الكتاب. و " ذلك " قد تستعمل في الاشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للاشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الاخبار عن نفسه جل وعز: " ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (1) "، ومنه قول خفاف بن ندبة: أقول له والرمح يأطر (2) متنه * تأمل خفافا إنني أنا ذلكا أي أنا هذا. ف " ذلك " إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: " وتلك حجتنا آتيناها (3) إبراهيم " " تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق (4) " أي هذه، لكنها لما أنقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك. وفي البخاري " وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن ". " هدى للمتقين " بيان ودلالة، كقوله: " ذلكم حكم الله يحكم بينكم " (5) هذا حكم الله. قلت: وقد جاء " هذا " بمعنى " ذلك "، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام: (يركبون ثبج (6) هذا البحر) أي ذلك البحر، والله أعلم. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب. واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة، فقيل: " ذلك الكتاب " أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والاجل والرزق لا ريب فيه، أي لا مبدل له. وقيل: ذلك الكتاب، أي الذي كتبت على نفسي في الازل (أن رحمتي سبقت غضبي). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي) في رواية: (سبقت). وقيل: (1) سورة السجدة آية 6. (2) يأطر: يثنى. (3) سورة الانعام آية 83. (4) سورة البقرة آية 252 (5) سورة الممتحنة آية 10 (6) ثبج البحر: وسطه ومعظمه. (*)
[ 158 ]
إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الارض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لابتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان) الحديث. وقيل: الاشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة. وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة: " إنا سنلقي عليك (1) قولا ثقيلا " لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا لانجاز هذا الوعد من ربه عزوجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: " الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه " [ البقرة: 1 - 2 ] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة. وقيل: إن " ذلك " إشارة إلى ما في التوراة والانجيل. و " الم " اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والانجيل، يعني أن التوراة والانجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما. وقيل: إن " ذلك الكتاب " إشارة إلى التوراة والانجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذلك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر ب " - ذلك " عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: " إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك " [ البقرة: 68 ] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر، وسيأتي (2). وقيل: إن " ذلك " إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال الكسائي: " ذلك " إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا، فالاشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: " الم " الحروف التي تحديتكم بالنظم منها. والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها. وتكتبت الخيل صارت كتائب. وكتبت البغلة: إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير، قال: لا تأمنن فزاريا حللت به * على قلوصك واكتبها بأسيار (1) سورة المزمل آية 5 (2) آية 68 راجع ص 448 من هذا الجزء. (*)
[ 159 ]
والكتبة (بضم الكاف): الخرزة، والجمع كتب. والكتب: الخرز. قال ذو الرمة: وفراء غرفية أثأى خوارزها * مشلشل ضيعته بينها الكتب (1) والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر: تؤمل رجعة مني وفيها * كتاب مثل ما لصق الغراء والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجعدي: يا بنة عمي كتاب الله أخرجني * عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا قوله تعالى: (لا ريب) نفي عام، ولذلك نصب الريب به. وفي الريب ثلاثة معان: أحدها - الشك، قال عبد الله بن الزبعري: ليس في الحق يا أميمة ريب * إنما الريب ما يقول الجهول وثانيها - التهمة، قال جميل: بثينة قالت يا جميل أربتني * فقلت كلانا يا بثين مريب وثالثها: الحاجة، قال: (2) قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجمعنا السيوفا فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار. وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا. وتقول: رابني هذا الامر إذا أدخل عليك شكا وخوفا. وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب. ورابني أمره. وريب الدهر: صروفه. قوله تعالى: (فيه هدى للمتقين) فيه ست مسائل: (1) قوله: (وفراء) أي واسعة. و (غرقية): مدبوغة بالغرف، وهو نبت تدبغ به الجلود. والثأى والثأى (بسكون الهمزة وفتحها): خرم خرز الاديم. والمشلشل: الذي يكاد يتصل قطره وسيلانه لتتابعه. (2) هو كعب بن مالك الانصاري، كما في اللسان مادة (ريب). (*)
[ 160 ]
الاولى - قوله تعالى: " فيه " الهاء في " فيه " في موضع خفض بفي، وفيه خمسة أوجه، أجودها: فيه هدى ويليه فيه هدى (بضم الها بغير واو (1)) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر. ويليه فيهي هدى (بإثبات الياء) وهي قراءة ابن كثير. ويجوز فيهو هدى (بالواو). ويجوز فيه هدى (مدغما) وارتفع " هدى " على الابتداء والخبر " فيه ". والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي فيه كشف لاهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى. الثانية - الهدى هديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: " ولكل قوم هاد (2) " [ الرعد: 7 ]. وقال: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (3) " [ الشورى: 52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " إنك لا تهدي (4) من أحببت " [ القصص: 56 ] فالهدى على هذا يجئ بمعنى خلق الايمان في القلب، ومنه قوله تعالى: " أولئك على هدى من ربهم " [ البقرة: 5 ] وقوله: " ويهدي من يشاء " [ فاطر: 8 ] والهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الارشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: " فلن يضل أعمالهم (5). سيهديهم " [ محمد: 4 - 5 ] ومنه قوله تعالى: " فاهدوهم إلى صراط الجحيم (6) " [ الصافات: 23 ] معناه فاسلكوهم إليها. الثالثة - الهدى لفظ مؤنث قال الفراء: بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول: هذه هدى حسنة. وقال اللحياني: هو مذكر، ولم يعرب لانه مقصور والالف لا تتحرك، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في " الفاتحة (7) "، تقول: هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار، أي عرفته. الاولى لغة أهل الحجاز، والثانية حكاها الاخفش. وفي التنزيل: " اهدنا الصراط المستقيم (7) " و " الحمد لله الذي هدانا لهذا (8) " [ الاعراف: 43 ] وقيل: إن الهدى اسم من أسماء النهار، لان الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم، ومنه قول ابن مقبل: (1) أي بعد الهاء من (فيه). (2) راجع ج 9 ص 285 (3) راجع ج 16 ص 60 (4) راجع ج 13 ص 299 (5) راجع ج 16 ص 230 (6) راجع ج 15 ص 73 (7) راجع ص 146 من هذا الجزء. (8) راجع ج 7 ص 208 (*)
[ 161 ]
[ (1) حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة * يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا ] الرابعة - قوله تعالى: " للمتقين " خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم، لانهم آمنوا وصدقوا بما فيه. وروي عن أبى روق أنه قال: " هدى للمتقين " أي كرامة لهم، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم. وأصل " للمتقين ": للموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الاولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين. الخامسة: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام، حكاه ابن فارس. قلت: ومنه الحديث: (التقي ملجم والمتقي فوق المؤمن والطائع) وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه، كما قال النابغة: سقط النصيف (2) ولم ترد إسقاطه * فتناولته واتقتنا باليد وقال آخر: فألقت قناعا دونه الشمس واتقت * بأحسن موصولين كف ومعصم وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال قال يوما لابن أخيه: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم ؟ قلت: بلى، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم. وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله. وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات. وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق. قال ابن عطية: وهذا فاسد، لانه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال: نعم، (1) هذا البيت ساقط في جميع الاصول، والزيادة من اللسان مادة (هدى) والبحر المحيط في هذا الموضوع. (2) النصيف: ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمى نصيفا لانه نصف بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها. (*)
[ 162 ]
قال فما عملت فيه ؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه: خل الذنوب صغيرها * وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أر * ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة * إن الجبال من الحصى السادسة - التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الاولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الانسان، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شئ، فقال: يريد المرء أن يؤتى مناه * ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي * وتقوى الله أفضل ما استفادا وروى ابن ماجه في سننه عن أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله). والاصل في التقوى: وقوى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله وقي، وكذلك تقاة كانت في الاصل وقاة، كما قالوا: تجاه وتراث، والاصل وجاه ووراث. قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون (3) فيها ست وعشرون مسألة: الاولى - قوله: (الذين) في موضع خفض نعت " للمتقين "، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. (يؤمنون) يصدقون. والايمان في اللغة: التصديق، وفي التنزيل: " وما أنت (1) بمؤمن لنا " أي بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم (2) " " فما آمن لموسى (3) " وروى حجاج بن حجاج (1) سورة يوسف آية 17 (2) سورة آل عمران آية 73 (3) سورة يونس آية 83 (*)
[ 163 ]
الاحول - ويلقب بزق العسل - قال سمعت قتادة يقول: يا بن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السآمة والفترة والملة، ولكن المؤمن هو المتحامل (1)، والمؤمن هو المتقوي، والمؤمن هو المتشدد، وإن المؤمنين هم العجاجون (2) إلى الله الليل والنهار، والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية. الثانية - قوله تعالى: (بالغيب) الغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء، يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الارض، والغيابة: الاجمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الارض: الغيب، لانه غاب عن البصر. الثالثة - واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعفه ابن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الاقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها. قلت: وهذا هو الايمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الايمان. قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). قال: صدقت. وذكر الحديث. وقال عبد الله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: " الذين يؤمنون بالغيب " [ البقرة: 3 ]. قلت: وفي التنزيل: " وما كنا غائبين (3) " وقال: " الذين يخشون ربهم بالغيب (4) ". فهو سبحانه غائب عن الابصار، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، (1) تحامل في الامر وبه: تكلفه على مشقة وإعياء. (2) العج: رفع الصوت بالتلبية. (3) سورة الاعراف آية 7. (4) سورة الانبياء آية 49. (*)
[ 164 ]
فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الاعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم باطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض، والحمد لله. وقيل: " بالغيب " أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن. وقال الشاعر: وبالغيب أمنا وقد كان قومنا * يصلون للاوثان قبل محمد الرابعة - قوله تعالى: (ويقيمون الصلاة) معطوف جملة على جملة. وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشئ أي دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت، قال الشاعر: * وقامت الحرب بنا على ساق * وقال آخر: وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا * حتى تقيم الخيل سوق طعان وقيل: " يقيمون " يديمون، وأقامه أي أدامه، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. الخامسة - إقامة الصلاة معروفة، وهي سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الاوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الاعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروى عن مالك، واختاره ابن العربي قال: لان في حديث الاعرابي (وأقم) فأمره بالاقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء. قال: فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الاقامة فرض. قال ابن عبد البر قوله صلى الله عليه وسلم: (وتحريمها التكبير) دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم، فما كان قبل الاحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شئ فيسلم للاجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك. وقال بعض علمائنا: من تركها عمدا أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن، والله أعلم.
[ 165 ]
السادسة - واختلف العلماء فيمن سمع الاقامة هل يسرع أولا ؟ فذهب الاكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا). رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمشي وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك). وهذا نص. ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر (1) فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع. وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فوات الركعة، وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس، وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب، لان الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي. قلت: واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار، لانه في صلاة ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبره، فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه. ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وما خرجه الدارمي في مسنده قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة). فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الاسراع وجعله كالمصلي، وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى: " فاسعوا إلى ذكر الله " (2) وأنه ليس المراد به الاشتداد على الاقدام، وإنما عنى العمل والفعل، هكذا فسره مالك. وهو الصواب في ذلك والله أعلم. (1) البهز (بالضم): تتابع النفس من الاعياء. (2) سورة الجمعة آية 9 (*)
[ 166 ]
السابعة - واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) وقوله: (واقض ما سبقك) هل هما بمعنى واحد أو لا ؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى: " فإذا قضيت الصلاة " (1) وقال: " فإذا قضيتم (2) مناسككم ". وقيل: معناهما مختلف وهو الصحيح، ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو أخرها ؟ فذهب إلى الاول جماعة من أصحاب مالك - منهم ابن القاسم ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة، فيكون بانيا في الافعال قاضيا في الاقوال. قال ابن عبد البر: وهو المشهور من المذهب. وقال ابن خويز منداد: وهو الذي عليه أصحابنا، وهو قول الاوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود ابن علي. وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وأنه يكون قاضيا في الافعال والاقوال، وهو قول الكوفيين. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: وهو مشهور مذهب مالك. قال ابن عبد البر: من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الاحرام، لانه لا يكون إلا في أول الصلاة، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في أخرها، فمن هاهنا قالوا: إن ما أدرك فهو أول صلاته، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله: (فأتموا) والتمام هو الآخر. واحتج الآخرون بقوله: (فاقضوا) والذي يقضيه هو الفائت، إلا أن رواية من روى " فأتموا " أكثر، وليس يستقيم على قول من قال: إن ما أدرك أول صلاته ويطرد، إلا ما قاله عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الامام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه، وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها، فهؤلاء أطرد على أصلهم قولهم وفعلهم، رضي الله عنهم. الثامنة - الاقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) خرجه مسلم وغيره، فأما إذا شرع في نافلة (1) سورة الجمعة آية 10. (2) سورة البقرة آية 200 (*)
[ 167 ]
فلا يقطعها، لقوله تعالى: " ولا تبطلوا أعمالكم " (1) وخاصة إذا صلى ركعة منها. وقيل: يقطعها لعموم الحديث في ذلك. والله أعلم. التاسعة - واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فقال مالك: يدخل مع الامام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شئ من أفنية المسجد - التي تصلي فيها الجمعة - اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الاولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب، ولان يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الامام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الامام وكذلك قال الاوزاعي، إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الاخيرة. وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد. وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان: إذا أخذ المقيم في الاقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر. وقال الشافعي: من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الامام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد. وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك، وهو الصحيح في ذلك، لقوله عليه السلام. (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة). وركعتا الفجر إما سنة، وإما فضيلة، وإما رغيبة، والحجة عند التنازع حجة السنة. ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والامام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة، ثم إنه صلى مع الامام. ومن حجة الثوري والاوزاعي ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل المسجد. وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة (2) في المسجد ركعتي الفجر، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما. قالوا: (وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن (1) سورة محمد آية 33 (2) الاسطوانة: العامود. (*)
[ 168 ]
المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد)، روى مسلم عن عبد الله بن مالك ابن بحينة (1) قال: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي والمؤذن يقيم، فقال: (أتصلي الصبح أربعا) وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والامام يصلي، ويمكن أن يستدل به أيضا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت، لانه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك، والله أعلم. العاشرة - الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، ومنه قوله عليه السلام: (إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل) أي فليدع. وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف، والاول أشهر وعليه من العلماء الاكثر. ولما ولدت أسماء عبد الله بن الزبير أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أسماء: ثم مسحه وصلى عليه، أي دعا له. وقال تعالى: " وصل عليهم " (2) أي ادع لهم. وقال الاعشى: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا * يا رب جنب أبي الاوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوما فإن لجنب المرء مضطجعا وقال الاعشى أيضا: وقابلها الريح في دنها * وصلى على دنها وارتسم ارتسم الرجل: كبر ودعا، قاله في الصحاح. وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لانه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت الصلاة منه، إما لانها جاءت ثانية للايمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لان الراكع تثنى صلواه. والصلاة: مغرز الذنب من الفرس، (1) (بحينة): أمه، وهي بنت الحارث بن عبد المطلب. وأبوه مالك بن القشب بن فضلة الازدي. (2) سورة التوبة آية 103. (*)
[ 169 ]
والاثنان صلوان. والمصلي: تالي السابق، لان رأسه عند صلاه. وقال علي رضي الله عنه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه صلي بالنار إذا لزمها، ومنه " تصلى نارا حامية " [ الغاشية: 4 ]. وقال الحارث بن عباد: لم أكن من جناتها علم الل * - ه وإني بحرها اليوم صال أي ملازم لحرها، وكأن المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به. وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد ممدود، فإن فتحت الصاد قصرت، فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع، قال الخارزنجي: (2) فلا تعجل بأمرك واستدمه * فما صلى عصاك كمستديم (3) والصلاة: الدعاء والصلاة: الرحمة، ومنه: (اللهم صل على محمد) الحديث. والصلاة: العبادة، ومنه قوله تعالى: " وما كان صلاتهم عند البيت " (4) [ الانفال: 35 ] الآية، أي عبادتهم. والصلاة: النافلة، ومنه قوله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة " (5) [ طه: 132 ]. والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: " فلولا أنه كان من المسبحين " (6) [ الصافات: 143 ] أي من المصلين. ومنه سبحة الضحى. وقد قيل في تأويل " نسبح بحمدك " (7) [ البقرة: 30 ] نصلي. والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك " (8) [ الاسراء: 110 ] فهي لفظ مشترك. والصلاة: بيت يصلي فيه، قاله ابن فارس. وقد قيل: إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة، فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرع من صلاة، حكاه أبو نصر القشيري. قلت: فعلى هذا القول لا اشتقاق لها، وعلى قول الجمهور وهي: - الحادية عشرة - اختلف الاصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الايمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والاحكام، أو (1) سورة الغاشية آية 4. (2) كذا في جميع الاصول وفي اللسان والتاج مادة (صلا): (.. قيس بن زهير). (3) كذا في جميع الاصول. وفي اللسان: (عصاه). (4) سورة الانفال آية 35. (5) سورة طه آية 132. (6) سورة الصافات آية 143. (7) سورة البقرة آية 30. (8) سورة الاسراء آية 110. (*)
[ 170 ]
هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع. هنا اختلافهم والاول أصح، لان الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين، ولكن للعرب تحكم في الاسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع تحكم في الاسماء، والله أعلم. الثانية عشرة - واختلف في المراد بالصلاة هنا، فقيل: الفرائض. وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لان اللفظ عام والمتقي يأتي بهما. الثالثة عشرة - الصلاة سبب للرزق، قال الله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة " [ طه: 132 ] الآية، على ما يأتي بيانه في " طه " (1) إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره، روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: هجر (2) النبي صلى الله عليه وسلم فهجرت فصليت ثم جلست، فالتفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أشكمت درده) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (قم فصل فإن في الصلاة شفاء). في رواية: (أشكمت درد) يعني تشتكي بطنك بالفارسية، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه (3) أمر فزع إلى الصلاة. الرابعة عشرة - الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض، فمن شروطها: الطهارة، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء (4) والمائدة (5). وستر العورة، يأتي في الاعراف (6) القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الاحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه. والاصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لما أخل بها، فقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع (1) راجع ج 11 ص 263 (2) التهجير: التبكير إلى كل شئ والمبادرة إليه. (3) حزبه الامر: نابه واشتد عليه، وقيل: ضغطه. (4) راجع ج 5 ص 204 فما بعد. (5) راجع ج 6 ص 80 فما بعد. (6) راجع ج 7 ص 182 فما بعد. (*)
[ 171 ]
حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) خرجه مسلم. ومثله حديث رفاعة بن رافع، أخرجه الدارقطني وغيره. قال علماؤنا: فبين قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة، وسكت عن الاقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات، وعن التسبيح في الركوع والسجود، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد وعن الجلسة الاخيرة وعن السلام. أما الاقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما (1). وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء، لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع. وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الاحرام. وقال بعض أصحابه: الرفع عند الاحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب، وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة، وهو قول الحميدي، ورواية عن الاوزاعي. واحتجوا بقوله عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أخرجه البخاري. قالوا: فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل، لانه المبلغ عن الله مراده. وأما التكبير ما عدا تكبيرة الاحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور. وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول: من أسقط من التكبيرة في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، وإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو، فإن لم يفعل في شئ عليه، وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها. وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه. وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم: ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شئ إذا كبر تكبيرة الاحرام، فإن تركه ساهيا سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شئ عليه، ولا ينبغي لاحد أن يترك التكبير عامدا، لانه سنة من سنن الصلاة، فإن فعل فقد أساء ولا شئ عليه وصلاته ماضية. قلت: هذا هو الصحيح، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الامصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم. وقد ترجم البخاري (1) راجع ص 117، 164 من هذا الجزء. (*)
[ 172 ]
رحمه الله (باب إتمام التكبير في الركوع والسجود) وساق حديث مطرف بن عبد الله قال: صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. وحديث عكرمة قال: رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أم لك (1) ! فدلك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم. روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الاشعري قال: صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمدا. قلت: أتراهم أعادوا الصلاة ! فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته ! ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض، والشئ إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه، وبالله التوفيق. الخامسة عشرة - وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور، وأوجبه إسحاق بن راهويه، وأن من تركه أعاد الصلاة، لقوله عليه السلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم). السادسة عشرة - وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك، فقال مالك وأصحابه: الجلوس الاول والتشهد له سنتان. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الاول وقالوا: هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا (2) من المزابنة (3)، والقراض (4) من الاجارات، وكالوقوف بعد الاحرام لمن وجد الامام راكعا. واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان (1) قوله: لا أم لك. في النهاية ابن الاثير: (هو ذم وسب. أي أنت لقيط لا تعرف لك أم. وقيل: قد يقع مدحا بمعنى التعجب منه وفيه بعد). (2) العرايا: نخل كانت توهب ثمارها للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها رخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر. (3) المزابنة: بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر كيلا، وبيع الزبيب بالكرم. (4) القراض (بالكسر): إجارة على التجر في مال بجزء من ربحه. (*)
[ 173 ]
العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة. احتج من لم يوجبه بأن قال: لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به، كما لو ترك سجدة أو ركعة، ويراعى فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة، ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما. وفي حديث عبد الله بن بحينة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائما فقاموا، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم، فلو كان الجلوس فرضا لم يسقطه النسيان والسهو، لان الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم. واختلفوا في حكم الجلوس الاخير في الصلاة وما الغرض من ذلك. وهي: - السابعة عشرة - على خمسة أقوال: أحدها: أن الجلوس فرض والتشهيد فرض والسلام فرض. وممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية، وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة، وبه قال داود. قال الشافعي: من ترك التشهد الاول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه. وإذا ترك التشهد الاخير ساهيا أو عامدا أعاد. واحتجوا بأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض، لان أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان إلا ما خرج بدليل وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). القول الثاني: أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب، وإنما ذلك كله سنة مسنونة، هذا قول بعض البصريين، وإليه ذهب إبراهيم بن علية، وصرح بقياس الجلسة الاخيرة على الاولى، فخالف الجمهور وشذ، إلا أنه يرى الاعادة على من ترك شيئا من ذلك كله. ومن حجتهم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رفع الامام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته) وهو حديث لا يصح على ما قاله أبو عمر، وقد بيناه في كتاب المقتبس (1). وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس. (1) في بعض الاصول: (المفتين). (*)
[ 174 ]
القول الثالث: إن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا. قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين. واحتجوا بحديث ابن المبارك عن الافريقي عبد الرحمن بن زياد وهو ضعيف، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته). قال ابن العربي: وكان شيخنا فخر الاسلام ينشدنا في الدرس: ويرى الخروج من الصلاة بضرطة * أين الضراط من السلام عليكم قال ابن العربي: وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين، أما أحدهما: فروى عبد الملك عن عبد الملك أن من سلم من ركعتين متلاعبا، فخرج البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه، وهذا مذهب أهل العراق بعينه. وأما الثاني: فوقع في الكتب المنبوذة أن الامام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقيل السلام أنه يجزئ من خلفه، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى، وإن عمرت به المجالس للذكرى. القول الرابع: إن الجلوس فرض والسلام فرض، وليس التشهد بواجب. وممن قال هذا مالك بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية. واحتجوا بأن قالوا: ليس شئ من الذكر يجب إلا تكبيرة الاحرام وقراءة أم القرآن. القول الخامس: أن التشهد والجلوس واجبان، وليس السلام بواجب، قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه، واحتج إسحاق بحديث ابن مسعود حين علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وقال له: (إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك). قال الدارقطني: قوله (إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك) أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وشبابة ثقة. وقد تابعه غسان بن الربيع على ذلك، جعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
[ 175 ]
الثامنة عشرة - واختلف العلماء في السلام، فقيل: واجب، وقيل: ليس بواجب. والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث علي الصحيح خرجه أبو داود والترمذي ورواه سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق. قال عبد الرحمن بن مهدي: لو افتتح رجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله عز وجل ولم يكبر تكبيرة الاحرام لم يجزه، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه، وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث علي، وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه. وحسبك به ! وقد اختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح وهي: التاسعة عشرة - فقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب والاوزاعي وعبد الرحمن وطائفة: تكبيرة الاحرام ليست بواجبة. وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول، والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الاحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة، وهو الصواب وعليه الجمهور، وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة. الموفية عشرين - واختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة، فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء: لا يجزئ إلا التكبير، لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد. هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين، ولا يجزئ عند مالك إلا " الله أكبر " لا غير ذلك. وكذلك قال الشافعي وزاد: ويجزئ " الله الاكبر " و " الله الكبير " والحجة لمالك حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة ب " - الحمد لله رب العالمين ". وحديث علي: وتحريمها التكبير. وحديث الاعرابي: فكبر. وفي سنن ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا: حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي
[ 176 ]
يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال: " الله أكبر " وهذا نص صريح وحديث صحيح في تعيين لفظ التكبير، قال الشاعر: رأيت الله أكبر كل شئ * محاولة وأعظمه جنودا ثم إنه يتضمن القدم، وليس يتضمنه كبير ولا عظيم، فكان أبلغ في المعنى، والله أعلم. وقال أبو حنيفة: إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه، وإن قال: اللهم اغفر لي لم يجزه، وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: لا يجزئه إذا كان يحسن التكبير. وكان الحكم ابن عتيبة يقول: إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه. قال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من أحسن القراءة فهلل وكبر ولم يقرأ أن صلاته فاسدة، فمن كان هذا مذهبه فاللازم له أن يقول لا يجزيه مكان التكبير غيره، كما لا يجزئ مكان القراءة غيرها. وقال أبو حنيفة: يجزئه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية. قال ابن المنذر: لا يجزيه لانه خلاف ما عليه جماعات المسلمين، وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته، ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال. والله أعلم. الحادية والعشرون - واتفقت الامة على وجوب النية عند تكبيرة الاحرام إلا شيئا روي عن بعض أصحابنا يأتي الكلام عليه في آية الطهارة، وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به على الوجه المطلوب منه. قال ابن العربي: والاصل في كل نية أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنوي بها، أو قبل ذلك بشرط استصحابها، فإن تقدمت النية وطرأت غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها، كما لا يعتد بالنية إذا وقعت بعد التلبس بالفعل، وقد رخص في تقديمها في الصوم لعظم الحرج في اقترانها بأوله. قال ابن العربي: وقال لنا أبو الحسن القروي بثغر عسقلان: سمعت إمام الحرمين يقول: يحضر الانسان عند التلبس بالصلاة النية، ويجرد النظر في الصانع وحدوث العالم والنبوات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة، قال: ولا يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وإنما يكون ذلك في أوحى (1) لحظة، لان (1) أوحى: أسرع. (*)
[ 177 ]
تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان الطويل، وتذكارها يكون في لحظة، ومن تمام النية أن تكون مستصحبة على الصلاة كلها، إلا أن ذلك لما كان أمرا يتعذر عليه سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها. سمعت شيخنا أبا بكر الفهري بالمسجد الاقصى يقول قال محمد بن سحنون: رأيت أبي سحنونا ربما يكمل الصلاة فيعيدها، فقلت له ما هذا ؟ فقال: عزبت نيتي في أثنائها فلاجل ذلك أعدتها. قلت: فهذه جملة من أحكام الصلاة، وسائر أحكامها يأتي بيانها في مواضعها من هذا الكتاب بحول الله تعالى، فيأتي ذكر الركوع وصلاة الجماعة والقبلة والمبادرة إلى الاوقات، وبعض صلاة الخوف في هذه السورة، ويأتي ذكر قصر الصلاة وصلاة الخوف، في " النساء " (1) والاوقات في " هود (2) وسبحان (3) والروم (4) " وصلاة الليل في " المزمل (5) " وسجود التلاوة في " الاعراف (6) " وسجود الشكر في " ص (7) " كل في موضعه إن شاء الله تعالى. الثانية والعشرون - قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) رزقناهم: أعطيناهم، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن الحرام ليس برزق لانه لا يصح تملكه، وإن الله لا يرزق الحرام وإنما يرزق الحلال، والرزق لا يكون إلا بمعنى الملك. قالوا: فلو نشأ صبي مع اللصوص ولم يأكل شيئا إلا ما أطعمه اللصوص إلى أن بلغ وقوي وصار لصا، ثم لم يزل يتلصص ويأكل ما تلصصه إلى أن مات، فإن الله لم يرزقه شيئا إذ لم يملكه، وإنه يموت ولم يأكل من رزق الله شيئا. وهذا فاسد، والدليل عليه أن الرزق لو كان بمعنى التمليك لوجب ألا يكون الطفل مرزوقا، ولا البهائم التي ترتع في الصحراء، ولا السخال من البهائم، لان لبن أمهاتها ملك لصاحبها دون السخال. ولما اجتمعت الامة على أن الطفل والسخال والبهائم مرزوقون، وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين علم أن الرزق هو الغذاء ولان الامة مجمعة على أن العبيد والاماء مرزوقون، (1) راجع ج 5 ص 351 فما بعد. (2) راجع ج 9 ص 109 فما بعد. (3) راجع ج 10 ص 303 فما بعد. (4) راجع ج 14 ص 14 فما بعد. (5) راجع ج 19 ص 51 فما بعد. (6) راجع ج 7 ص 357 فما بعد. (7) راجع ج 15 ص 183. (*)
[ 178 ]
وأن الله تعالى يرزقهم مع كونهم غير مالكين، فعلم أن الرزق ما قلناه لا ما قالوه. والذي يدل على أنه لا رازق سواه قوله الحق: " هل من خالق غير الله يرزقكم (1) من السماء والارض " [ فاطر: 3 ] وقال: " إن الله هو الرزاق (2) ذو القوة المتين " [ الذاريات: 58 ] وقال: " وما من دابة (3) في الارض إلا على الله رزقها " [ هود: 6 ] وهذا قاطع، فالله تعالى رازق حقيقة وابن آدم رازق تجوزا، لانه يملك ملكا منتزعا كما بيناه في الفاتحة (4)، مرزوق حقيقة كالبهائم التي لا ملك لها، إلا أن الشئ إذا كان مأذونا له في تناوله فهو حلال حكما، وما كان منه غير مأذون له في تناوله فهو حرام حكما، وجميع ذلك رزق. وقد خرج بعض النبلاء من قوله تعالى: " كلوا من رزق ربكم (5) واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور " [ سبأ: 15 ] فقال: ذكر المغفرة يشير إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام. الثالثة والعشرون - قوله تعالى: " ومما رزقناهم " الرزق مصدر رزق يرزق رزقا ورزقا، فالرزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وجمعه أرزاق، والرزق: العطاء. والرازقية: ثياب كتان [ بيض ] (6). وارتزق الجند: أخذوا أرزاقهم. والرزقة: المرة الواحدة، هكذا قال أهل اللغة. وقال ابن السكيت: الرزق بلغة أزد شنوءة: الشكر، وهو قوله عزوجل: " وتجعلون (7) رزقكم أنكم تكذبون " [ الواقعة: 82 ] أي شكركم التكذيب. ويقول: رزقني أي شكرني. الرابعة والعشرون - قوله تعالى: " ينفقون " ينفقون: يخرجون. والانفاق: إخراج المال من اليد، ومنه نفق البيع: أي خرج من يد البائع إلى المشتري. ونفقت الدابة: خرجت روحها، ومنه النافقاء لجحر اليربوع الذي يخرج منه إذا أخذ من جهة أخرى. ومنه المنافق، لانه يخرج من الايمان أو يخرج الايمان من قلبه. ونيفق السراويل معروفة وهو مخرج الرجل منها. ونفق الزاد: فنى وأنفقه صاحبه. وأنفق القوم: فني زادهم، ومنه قوله تعالى: " إذا لامسكتم خشية الانفاق (8) " [ الاسراء: 100 ]. (1) راجع ج 14 ص 321 فما بعد. (2) راجع ج 17 ص 55 (3) راجع ج 9 ص 6 فما بعد. (4) راجع ص 140 فما بعدها من هذا الجزء. (5) راجع ج 14 ص 284 (6) الزيادة عن اللسان مادة (رزق). (7) ج 17 ص 228 فما بعد. (8) راجع ج 10 ص 335 (*)
[ 179 ]
الخامسة والعشرون - واختلف العلماء في المراد بالنفقة هاهنا، فقيل: الزكاة المفروضة - روي عن ابن عباس - لمقارنتها الصلاة. وقيل: نفقة الرجل على أهله - روي عن ابن مسعود - لان ذلك أفضل النفقة. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك). وروي عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله عزوجل ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله) قال أبو قلابة (1): وبدأ بالعيال [ ثم ] قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم. وقيل: المراد صدقة التطوع - روي عن الضحاك نظرا إلى أن الزكاة لا تأتي إلا بلفظها المختص بها وهو الزكاة، فإذا جاءت بلفظ غير الزكاة احتملت الفرض والتطوع، فإذا جاءت بلفظ الانفاق لم تكن إلا التطوع. قال الضحاك: كانت النفقة قربانا يتقربون بها إلى الله عزوجل على قدر جدتهم حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات (2) في " براءة ". وقيل: إنه الحقوق الواجبة العارضة في الاموال ما عدا الزكاة، لان الله تعالى لما قرنه بالصلاة كان فرضا، ولما عدل عن لفظها كان فرضا سواها. وقيل: هو عام وهو الصحيح، لانه خرج مخرج المدح في الانفاق مما رزقوا، وذلك لا يكون إلا من الحلال، أي يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وغيرها مما يعن في بعض الاحوال مع ما ندبهم إليه. وقيل: الايمان بالغيب حظ القلب. وإقام الصلاة حظ البدن. ومما رزقناهم ينفقون حظ المال، وهذا ظاهر. وقال بعض المتقدمين في تأويل قوله تعالى: " ومما رزقناهم ينفقون " أي مما علمناهم يعلمون، حكاه أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري. (1) أبو قلابة: أحد رواة سند هذا الحديث. (2) مثل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) الآية. ج 8 ص 244 فقد قال ابن العربي إنها ناسخة لآية (والذين يكنزون الذهب والفضة) الآية انظر صفحة 381 من الجزء الاول من تفسيره المطبوع بمصر سنة 1331 ه. وكذلك روى الجصاص نسخها بها عن عمر بن عبد العزيز. (*)
[ 180 ]
قوله تعالى: والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون (4) قيل: المراد مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وفيه نزلت، ونزلت الاولى في مؤمني العرب. وقيل: الآيتان جميعا في المؤمنين، وعليه فإعراب " الذين " خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف أي وهم الذين. ومن جعلها في صنفين فإعراب " الذين " رفع بالابتداء، وخبره " أولئك على هدى " ويحتمل الخفض عطفا. قوله تعالى: (بما أنزل إليك) يعني القرآن (وما أنزل من قبلك) يعني الكتب السالفة، بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله: " وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله (1) قالوا نؤمن بما أنزل علينا " [ البقرة: 91 ] الآية. ويقال: لما نزلت هذه الآية: " الذين يؤمنون بالغيب " قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب، فلما قال: " ويقيمون الصلاة " [ البقرة: 3 ] قالوا: نحن نقيم الصلاة، فلما قال " ومما رزقناهم ينفقون " قالوا: نحن ننفق ونتصدق، فلما قال: " والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " نفروا من ذلك. وفي حديث أبي ذر قال قلت: يا رسول الله كم كتابا أنزل الله ؟ قال: (مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوخ (2) ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والانجيل والزبور والفرقان). الحديث أخرجه الحسين الآجري وأبو حاتم البستي. وهنا مسألة: إن قال قائل: كيف يمكن الايمان بجميعها مع تنافي أحكامها ؟ قيل له فيه جوابان: أحدهما - أن الايمان بأن جميعها نزل من عند الله، وهو قول من أسقط التعبد بما تقدم من الشرائع. الثاني - أن الايمان بما لم ينسخ منها، وهذا قول من أوجب التزام الشرائع المتقدمة، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) أي وبالبعث والنشر هم عالمون. واليقين: العلم دون الشك، يقال منه: يقنت الامر (بالكسر) يقنا، وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى، (1) راجع ج 2 ص 29 (2) أخنوخ هو إدريس عليه السلام. (*)
[ 181 ]
وأنا على يقين منه. وإنما صارت الياء واوا في قولك: موقن، للضمة قبلها، وإذا صغرته رددته إلى الاصل فقلت مييقن والتصغير يرد الاشياء إلى أصولها وكذلك الجمع. وربما عبروا باليقين عن الظن، ومنه قول علمائنا في اليمين اللغو: هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا شئ عليه، قال الشاعر: (1) تحسب هواس وأيقن أنني * بها مفتد من واحد لا أغامره يقول: تشمم الاسد ناقتي، يظن أنني مفتد بها منه، وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير، وسيأتي. والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها، كما أن الدنيا مشتقة من الدنو، على ما يأتي. قوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) قال النحاس أهل نجد يقولون: ألاك، وبعضهم يقول: ألا لك، والكاف للخطاب. قال الكسائي: من قال أولئك فواحده ذلك، ومن قال ألاك فواحده ذاك، وألالك مثل أولئك، وأنشد ابن السكيت: ألا لك قومي لم يكونوا أشابة (2) * وهل يعظ الضليل إلا ألالكا وربما قالوا: أولئك في غير العقلاء، قال الشاعر: ذم المنازل بعد منزلة اللوى * ووالعيش بعد أولئك الايام وقال تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا (3) " [ الاسراء: 36 ] وقال علماؤنا: إن في قوله تعالى: " من ربهم " ردا على القدرية في قولهم: يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم ولو كان كما قالوا لقال: " من أنفسهم "، وقد تقدم الكلام فيه (4) وفي الهدى (5) فلا معنى لاعادة ذلك. (وأولئك هم المفلحون) " هم " يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وخبره " المفلحون "، والثاني وخبره خبر الاول، ويجوز أن تكون " هم " زائدة - يسميها البصريون فاصلة والكوفيون عمادا - و " المفلحون " خبر " أولئك ". (1) هو أبو سدرة الاسدي، ويقال: الهجيمي. (2) الاشابة من الناس: الاخلاط. والاشابة في الكسب: ما خالطه الحرام الذي لا خير فيه والسحت. (2) راجع ج 10 ص 259 (4) راجع المسألة الحادية والثلاثين ص 149. (5) راجع المسألة الثانية ص 160 من هذا الجزء. (*)
[ 182 ]
والفلح أصله في اللغة الشق والقطع، قال الشاعر: * إن الحديد بالحديد يفلح * أي يشق، ومنه فلاحة الارضين إنما هو شقها للحرث، قال أبو عبيد. ولذلك سمي الاكار (1) فلاحا. ويقال للذي شقت شفته السفلى أفلح، وهو بين الفلحة، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. وقد يستعمل في الفوز والبقاء، وهو أصله أيضا في اللغة، ومنه قول الرجل لامرأته: استفلحي بأمرك، معناه فوزي بأمرك، وقال الشاعر: لو كان حي مدرك الفلاح * أدركه ملاعب الرماح وقال الاضبط بن قريع السعدي في الجاهلية الجهلاء: لكل هم من الهموم سعه * والمسي والصبح لا فلاح معه يقول: ليس مع كر الليل والنهار بقاء. وقال آخر: نحل بلادا كلها حل قبلنا * ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير أي البقاء: وقال عبيد: أفلح بما شئت فقد يدرك بالض * - عف وقد يخدع الاريب أي أبق بما شئت من كيس وحمق فقد يرزق الاحمق ويحرم العاقل. فمعنى " وأولئك هم المفلحون ": أي الفائزون بالجنة والباقون فيها. وقال ابن أبي إسحاق: المفلحون هم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر مامنه هربوا، والمعنى واحد. وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث: حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وما الفلاح ؟ قال: السحور. أخرجه أبو داود. فكأن معنى الحديث أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سماه فلاحا. والفلاح (بتشديد اللام): المكاري في قول القائل: (2) لها رطل تكيل الزيت فيه * وفلاح يسوق لها حمارا ثم الفلاح في العرف: الظفر بالمطلوب، والنجاة من المرهوب. (1) الذي يحرث الارض. (2) هو عمرو بن أحمد الباهلي، كما في اللسان مادة (فلح). (*)
[ 183 ]
مسألة: إن قال قائل كيف قرأ حمزة: عليهم وإليهم ولديهم، ولم يقرأ من ربهم ولا فيهم ولا جنتيهم ؟ فالجواب أن عليهم وإليهم ولديهم الياء فيه منقلبة من ألف، والاصل علاهم ولداهم وإلاهم فأقرت الهاء على ضمتها، وليس ذلك في فيهم ولا من ربهم ولا جنتيهم، ووافقه الكسائي في " عليهم الذلة " و " إليهم اثنين " على ما هو معروف من القراءة عنهما. قوله تعالى: إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم. والكفر ضد الايمان وهو المراد في الآية. وقد يكون بمعنى جحود النعمة والاحسان، ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف: (ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء) قيل: بم يا رسول الله ؟ قال: (بكفرهن)، قيل أيكفرن بالله ؟ قال: (يكفرن العشير ويكفرن الاحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط) أخرجه البخاري وغيره. وأصل الكفر في كلام العرب: الستر والتغطية، ومنه قول الشاعر: * في ليلة كفر النجوم غمامها * أي سترها. ومنه سمي الليل كافرا، لانه يغطي كل شئ بسواده، قال الشاعر: (1) فتذكرا ثقلا رثيدا بعدما * ألقت ذكاء يمينها في كافر ذكاء (بضم الذال والمد): اسم للشمس، ومنه قول الآخر: فوردت قبل أنبلاج الفجر * وابن ذكاء كامن في كفر أي في ليل. والكافر أيضا: البحر والنهر العظيم. والكافر: الزارع، والجمع كفار، قال الله تعالى: " كمثل غيث أعجب الكفار نباته (2) " [ الحديد: 20 ]. يعني الزراع لانهم يغطون الحب. ورماد (1) هو ثعلبة بن صعيرة المازني، يصف الظليم والنعامة ورواحهما إلى بيضهما عند غروب الشمس. والثقل (بالتحريك) هنا: بيض النعام المصون. والرشيد: المنضد بعضه فوق بعض أو إلى جنب بعض. وألقت يمينها في كافر: أي بدأت في المغيب. اللسان مادة (كفر). (2) راجع ج 17 ص 255 (*)
[ 184 ]
مكفور: سفت الريح عليه التراب. والكافر من الارض: ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد، ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور. ويقال الكفور: القرى. قوله تعالى: (سواء عليهم) معناه معتدل عندهم الانذار وتركه، أي سواء عليهم هذا. وجئ بالاستفهام من أجل التسوية، ومثله قوله تعالى: " سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (1) " [ الشعراء: 136 ]. وقال الشاعر: (2) وليل يقول الناس من ظلماته * سواء صحيحات العيون وعورها قوله تعالى: (أأنذرتهم) الانذار الابلاغ والاعلام، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا، قال الشاعر: أنذرت عمرا وهو في مهل * قبل الصباح فقد عصى عمرو وتناذر بنو فلان هذا الامر إذا خوفه بعضهم بعضا. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الاشرف ونظراؤهما. وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الاحزاب، والاول أصح، فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر، وذلك داخل في ضمن الآية. قوله تعالى " لا يؤمنون " موضعه رفع خبر " إن " أي إن الذين كفروا لا يؤمنون. وقيل: خبر " إن " " سواء " وما بعده يقوم مقام الصلة، قاله ابن كيسان. وقال محمد بن يزيد: " سواء " رفع بالابتداء، " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " الخبر، والجملة خبر " إن ". قال النحاس: أي إنهم تبالهوا فلم تغن فيهم النذارة شيئا. واختلف القراء في قراءة " أأنذرتهم " فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو (1) راجع ج 13 ص 125. (2) هو أعشى قيس الملقب بالاعشى الاكبر. (*)
[ 185 ]
والاعمش وعبد الله بن أبي إسحاق: " أأنذرتهم " بتحقيق الاولى وتسهيل الثانية، واختارها الخليل وسيبويه، وهي لغة قريش وسعد بن بكر، وعليها قول الشاعر (1): أيا ظبية الوعساء بين جلاجل * وبين النقا أنت أم أم سالم هجاء " آنت " ألف واحدة. وقال آخر: تطاللت فاستشرفته فعرفته * فقلت له آنت زيد الارانب وروى عن ابن محيصن أنه قرأ: " أنذرتهم أم لم تنذرهم " بهمزة لا ألف بعدها، فحذف لالتقاء الهمزتين، أو لان أم تدل على الاستفهام، كما قال الشاعر: تروح من الحي أم تبتكر * وماذا يضيرك لو تنتظر أراد: أتروح، فاكتفى بأم من الالف. وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ: " أأنذرتهم " فحقق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم: ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخفف الثانية، وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين: " أأنذرتهم " وهو اختيار أبي عبيد، وذلك بعيد عند الخليل. وقال سيبويه: يشبه في الثقل ضننوا. قال الاخفش: ويجوز تخفيف الاولى من الهمزتين وذلك ردئ، لانهم إنما يخففون بعد الاستثقال، وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا. فهذه سبعة أوجه من القراءات، ووجه ثامن يجوز في غير القرآن، لانه مخالف للسواد (2). قال الاخفش سعيد: تبدل من الهمزة هاء تقول: هأنذرتهم، كما يقال هياك وإياك، وقال الاخفش في قوله تعالى: " ها أنتم " [ آل عمران: 66 ] إنما هو أاأنتم. قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشوة ولهم عذاب عظيم (7) فيها عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ختم الله) بين سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الايمان بقوله: " ختم الله ". والختم مصدر ختمت الشئ ختما فهو مختوم ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه (1) هو ذو الرمة كما في كتاب سيبويه، والمفصل للزمخشري. (2) السواد من الناس هم الجمهور الاعظم. (*)
[ 186 ]
التغطية على الشئ والاستيثاق منه حتى لا يدخله شئ، ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه. وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والانكار. فقال في الانكار: " قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (1) " [ النحل: 22 ]. وقال في الحمية: " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم (2) الحمية ". [ الفتح: 26 ] وقال في الانصراف: " ثم انصرفوا صرف (3) الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون " [ التوبة: 127 ]. وقال في القساوة: " فويل للقاسية (4) قلوبهم من ذكر الله " [ الزمر: 22 ]. وقال: " ثم قست قلوبكم (5) من بعد ذلك " [ البقرة: 74 ]. وقال في الموت: " أو من كان (6) ميتا فأحييناه " [ الانعام: 122 ]. وقال: " إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى (7) يبعثهم الله " [ الانعام: 36 ]. وقال في الرين: " كلا بل ران (8) على قلوبهم ما كانوا يكسبون ". [ المطففين: 14 ]. وقال في المرض: " في قلوبهم مرض ". [ محمد: 29 ] وقال في الضيق: " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا (9) حرجا ". [ الانعام: 125 ]. وقال في الطبع: " فطبع على قلوبهم (10) فهم لا يفقهون " [ المنافقون: 3 ]. وقال: " بل طبع الله عليها بكفرهم (11) " [ النساء: 155 ]. وقال في الختم: " ختم الله على قلوبهم ". [ البقرة: 7 ]. وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى. الثانية - الختم يكون محسوسا كما بينا، ومعنى كما في هذه الآية. فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق - سبحانه - مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته. وعلى الابصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم. الثالثة - في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال، والكفر والايمان، فاعتبروا أيها السامعون، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم، فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الايمان ولو جهدوا، (1) راجع ج 10 ص 95 (2) راجع ج 16 ص 288 (3) راجع ج 8 ص 300 (4) راجع ج 15 ص 248 (5) راجع ج 1 ص 462 (6) راجع ج 7 ص 78 (7) راجع ج 6 ص 418 (8) راجع ج 19 ص 257 (9) راجع ج 7 ص 81 (10) راجع ج 18 ص 124 (11) راجع ج 6 ص 7 (*)
[ 187 ]
وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم " ومن يضلل (1) الله فما له من هاد " ! [ الزمر: 23 ] وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعه حقا وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم. فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسمية والحكم والاخبار بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل. قلنا: هذا فاسد، لان حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعا مختوما، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما، لا التسمية والحكم. هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولان الامة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: " بل طبع الله عليها بكفرهم " [ النساء: 155 ]. وأجمعت الامة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الانبياء والمؤمنون، لانهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون، ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الايمان به، دليله قوله تعالى: " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (2). لا يؤمنون به " [ الحجر: 12 ]. وقال: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه (2) " [ الانعام: 25 ]. أي لئلا يفقهوه، وما كان مثله. الرابعة - قوله: (على قلوبهم) فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للانسان وغيره. وخالص كل شئ وأشرفه قلبه، فالقلب موضع الفكر. وهو في الاصل مصدر قلبت الشئ أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته. وقلبت الاناء: رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان، لسرعة الخواطر إليه، ولترددها عليه، كما قيل: ما سمي القلب إلا من تقلبه * فاحذر على القلب من قلب وتحويل (1) راجع ج 15 ص 250 (2) راجع ج 10 ص 7. 271. (*)
[ 188 ]
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله. روى ابن ماجه عن أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة). ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك). فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به، قال الله تعالى: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " [ الانفال: 24 ]. وسيأتي (1). الخامسة - الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب - وإن كان رئيسها وملكها - بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه) وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة: (أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه). قال: وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله: " كلا بل ران على (2) قلوبهم ما كانوا يكسبون " [ المطففين: 14 ]. وقال مجاهد: القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع، ثم يطبع. قلت: وفي قول مجاهد هذا، وقوله عليه السلام: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب -) دليل على أن الختم يكون حقيقيا، والله أعلم. وقد قيل: إن القلب يشبه الصنوبرة، وهو يعضد قول مجاهد، والله أعلم. وقد روى مسلم عن حذيفة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا (أن الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة). ثم حدثنا عن رفع الامانة قال: (ينام الرجل النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الامانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شئ - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الامانة حتى يقال إن (1) راجع ج 7 ص 390 (2) راجع ج 19 ص 257. (*)
[ 189 ]
في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه (1) وأما اليوم فما كنت لابايع منكم إلا فلانا وفلانا). ففي قوله: (الوكت) وهو الاثر اليسير. ويقال للبسر إذا وقعت فيه نكتة من الارطاب: قد وكت، فهو موكت. وقوله: (المجل)، وهو أن يكون بين الجلد واللحم ماء، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كجمر دحرجته) أي دورته على رجلك فنفط. (فتراه منتبرا) أي مرتفعا - ما يدل على أن ذلك كله محسوس في القلب يفعل فيه، وكذلك الختم والطبع، والله أعلم. وفي حديث حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والارض والآخر أسود مرباد (2) كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه...) وذكر الحديث (مجخيا): يعني مائلا. السادسة - القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر، قال الله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك (3) " [ الفرقان: 32 ] وقال: " ألم نشرح لك صدرك (4) " [ الشرح: 1 ] يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل، قال الله تعالى: " إن في ذلك لذكرى (5) لمن كان له قلب " [ ق: 37 ] أي عقل، لان القلب محل العقل في قول الاكثرين. والفؤاد محل القلب، والصدر محل الفؤاد، والله أعلم. السابعة - قوله تعالى: (وعلى سمعهم) استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه، وقال تعالى: " قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم (6) وأبصاركم " [ الانعام: 46 ]. وقال: " وجعل لكم (7) السمع والابصار والافئدة " [ السجدة: 9 ]. قال: والسمع يدرك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع. وقال أكثر المتكلمين (1) ساعيه: هو رئيسهم الذي يصدرون عن رأيه ولا يمضون أمرا دونه (النهاية). (2) ويروي: (مربد) أي اختلط سواده بكدرة. (3) راجع ج 13 ص 28 (4) راجع ج 20 ص 104 (5) راجع ج 17 ص 23 (6) راجع ج 6 ص 427 (7) راجع ج 10 ص 151 (*)
[ 190 ]
بتفضيل البصر على السمع، لان السمع لا يدرك به إلا الاصوات والكلام، والبصر يدرك به الاجسام والالوان والهيئات كلها. قالوا: فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل، وأجازوا الادراك بالبصر من الجهات الست. الثامنة - إن قال قائل: لم جمع الابصار ووحد السمع ؟ قيل له: إنما وحده لانه مصدر يقع للقليل والكثير يقال: سمعت الشئ أسمعه سمعا وسماعا، فالسمع مصدر سمعت، والسمع أيضا اسم للجارحة المسموع بها سميت بالمصدر. وقيل: إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة، كما قال الشاعر: (1) بها جيف الحسرى فأما عظامها * فبيض وأما جلدها فصليب إنما يريد جلودها فوحد، لانه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد. وقال آخر (2) في مثله: لا تنكر القتل وقد سبينا * في حلقكم عظم وقد شجينا يريد في حلوقكم، ومثله قول الآخر: كأنه وجه تركيين قد غضبا * مستهدف لطعان غير تذبيب وإنما يريد وجهين، فقال وجه تركيين، لانه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد، ومثله كثير جدا. وقرئ: " وعلى أسماعهم " ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم، لان السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقد يكون السمع بمعنى الاستماع، يقال: سمعك حديثي - أي استماعك إلى حديثي - يعجبني، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب: وقد توجس ركزا مقفر ندس * بنبأة الصوت ما في سمعه كذب (1) هو علقمة بن عبدة. وصف طريقا بعيدا شاقا على من سلكه. فجيف الحسرى وهو المعيبة من الابل مستقرة فيه. وقوله: فأما عظامها فبيض، أي أكلت السباع والطير ما عليها من اللحم فتعرت وبدا وضحها. وقوله: وأما جلدها الخ، أي محرم يائس لانه ملقى بالفلاة لم يدبغ، ويقال: الصليب هنا الودك، أي قد سال ما فيه من رطوبة لاحماء الشمس عليه. (عن شرح الشواهد للشنتمري). (2) هو المسيب بن زيد مناة الغنوي، كما في كتاب سيبويه. (*)
[ 191 ]
أي ما في استماعه كذب، أي هو صادق الاستماع. والندس: الحاذق. والنبأة: الصوت الخفي، وكذلك الركز. والسمع (بكسر السين وإسكان الميم): ذكر الانسان بالجميل، يقال: ذهب سمعه في الناس أي ذكره. والسمع أيضا: ولد الذئب من الضبع. والوقف هنا: " وعلى سمعهم ". و " غشاوة " رفع على الابتداء وما قبله خبر. والضمائر في " قلوبهم " وما عطف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش، وقيل من المنافقين، وقيل من اليهود، وقيل من الجميع، وهو أصوب، لانه يعم. فالختم على القلوب والاسماع. والغشاوة على الابصار. والغشاء: الغطاء. وهي: التاسعة - ومنه غاشية السرج، وغشيت الشئ أغشيه. قال النابغة: هلا سألت بنى ذبيان ما حسبي * إذا الدخان تغشى الاشمط (1) البرما وقال آخر (2): صحبتك إذ عيني عليها غشاوة * فلما انجلت قطعت نفسي ألومها قال ابن كيسان: فإن جمعت غشاوة قلت: غشاء بحذف الهاء. وحكى الفراء: غشاوى مثل أداوى. وقرئ: " غشاوة " بالنصب على معنى وجعل، فيكون من باب قوله: * علفتها تبنا وماء باردا * وقول الآخر (3): يا ليت زوجك قد غدا * متقلدا سيفا ورمحا المعنى وأسقيتها ماء، وحاملا رمحا، لان الرمح لا يتقلد. قال الفارسي: ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. قال: ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو. وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الاسماع والابصار، والوقف على " قلوبهم ". وقال آخرون: الختم في الجميع، والغشاوة هي الختم، فالوقف على هذا على " غشاوة ". وقرأ الحسن " غشاوة " بضم الغين، وقرأ أبو حيوة بفتحها، وروي عن (1) الاشمط: الذي خالطه الشيب. والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر ويأكل معهم من لحمه. (2) هو الحارث بن خالد المخزومي، كما في اللسان مادة (غشا). (3) هو عبد الله بن الزبعري، كما في الكامل للمبرد ص 189 طبع أوربا. (*)
[ 192 ]
أبي عمرو: غشوة، رده إلى أصل المصدر. قال ابن كيسان: ويجوز غشوة وغشوة وأجودها غشاوة، كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على الشئ، نحو عمامة وكنانة وقلادة وعصابة وغير ذلك. العاشرة - قوله تعالى: (ولهم) أي للكافرين المكذبين (عذاب عظيم) نعته. والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد، إلى غير ذلك مما يؤلم الانسان. وفي التنزيل: " وليشهد عذابهما طائفة (1) من المؤمنين " [ النور: 2 ] وهو مشتق من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعذبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه، ومنه سمي عذوبة الماء، لانها قد أعذبت. واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه، ومنه قول علي رضي الله عنه: أعذبوا نساءكم عن الخروج، أي أحبسوهن. وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال: أعذبوا عن ذكر النساء [ أنفسكم ] فإن ذلك يكسركم عن الغزو، وكل من منعته شيئا فقد أعذبته، وفي المثل: " لالجمنك لجاما معذبا " أي مانعا عن ركوب الناس. ويقال: أعذب أي امتنع. وأعذب غيره، فهو لازم ومتعد، فسمي العذاب عذابا لان صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها. قوله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) فيه سبع مسائل: الاولى - روى ابن جريج عن مجاهد قال: نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين، واثنتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. وروى أسباط عن السدي في قوله: " ومن الناس " قال: هم المنافقون. وقال علماء الصوفية: الناس اسم جنس، واسم الجنس لا يخاطب به الاولياء. الثانية - واختلف النحاة في لفظ الناس، فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة، على غير اللفظ، وتصغيره نويس. فالناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس أي تحرك، ومنه حديث أم زرع: " أناس من حلي أذني ". وقيل: أصله من نسي، فأصل (1) راجع ج 12 ص 166 (*)
[ 193 ]
ناس نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الالف واللام فقيل: الناس. قال ابن عباس: نسي آدم عهد الله فسمي إنسانا. وقال عليه السلام: (نسي آدم فنسيت ذريته). وفي التنزيل: " ولقد عهدنا إلى آدم (1) من قبل فنسي " [ طه: 115 ] وسيأتي. وعلى هذا فالهمزة زائدة، قال الشاعر: لا تنسين تلك العهود فإنما * سميت إنسانا لانك ناسي وقال آخر: فإن نسيت عهودا منك سالفة * فاغفر فأول ناس أول الناس وقيل: سمي إنسانا لانسه بحواء. وقيل: لانسه بربه، فالهمزة أصلية، قال الشاعر: وما سمي الانسان إلا لانسه * ولا القلب إلا أنه يتقلب الثالثة - لما ذكر الله جل وتعالى المؤمنين أولا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم، إذ الكفر والايمان طرفان. ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم، لنفي الايمان عنهم بقوله الحق: " وما هم بمؤمنين ". ففي هذا رد على الكرامية حيث قالوا: إن الايمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب، واحتجوا بقوله تعالى: " فأثابهم الله (2) بما قالوا " [ المائدة: 85 ]. ولم يقل: بما قالوا وأضمروا، وبقوله عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم). وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة من العمل مع القول والاعتقاد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الايمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالاركان). أخرجه ابن ماجه في سننه. فما ذهب إليه محمد بن كرام السجستاني وأصحابه هو النفاق وعين الشقاق، ونعوذ بالله من الخذلان وسوء الاعتقاد. الرابعة - قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالايمان، فالله محب له، موال له، راضي عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط (1) راجع ج 11 ص 251 (2) راجع ج 6 ص 260 (*)
[ 194 ]
عليه، معاد له، لا لاجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معاد له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالايمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لايمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: - الخامسة - بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة، ولاجل هذا قلنا: إن الله راضي عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الاصنام، ومزيد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لايمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به. وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطا على إبليس وقت عبادته، ولا راضيا عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به عمر رضي الله عنه فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطا على إبليس محبا لعمر. ويدل عليه إجماع الامة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار، بل هو ساخط عليه، وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنما الاعمال بالخواتيم) ولهذا قال علماء الصوفية: ليس الايمان ما يتزين به العبد قولا وفعلا، لكن الايمان جرى السعادة في سوابق الازل، وأما ظهوره على الهياكل فربما يكون عاريا، وربما يكون حقيقة. قلت: هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). فإن قيل وهي: -
[ 195 ]
السادسة - فقد خرج الامام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد المصري من حديث محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، وهو محمد بن أبي قيس، عن سليمان بن موسى وهو الاشدق، عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس أخبرنا أبو رزين العقيلي قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاشربن أنا وأنت يا أبا رزين من لبن لم يتغير طعمه) قال قلت: كيف يحيي الله الموتى ؟ قال: (أما مررت بأرض لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة) قلت: بلى. قال: (كذلك النشور) قال قلت: كيف لي أن أعلم أني مؤمن ؟ قال: (ليس أحد من هذه الامة - قال ابن أبي قيس: أو قال من أمتي - عمل حسنة وعلم أنها حسنة وأن الله جازيه بها خيرا أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازيه بها شرا أو يغفرها إلا مؤمن). قلت: وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ابن مسعود، فإن ذلك موقوف على الخاتمة، كما قال عليه السلام: (وإنما الاعمال بالخواتيم). وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال، والله أعلم. السابعة: قال علماء اللغة: إنما سمي المنافق منافقا لاظهاره غير ما يضمر، تشبيها باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء. وذلك أنه يخرق الارض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الارض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر. وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر، وقد تقدم هذا المعنى. قوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9) قال علماؤنا: معنى " يخادعون الله " أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الحسن وغيره. وجعل خداعهم لرسوله خداعا له، لانه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الايمان
[ 196 ]
خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين. وقال أهل اللغة: أصل المخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الاعرابي. وأنشد: أبيض اللون لذيذ طعمه * طيب الريق إذا الريق خدع (1) قلت: ف " - يخادعون الله " على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء. وكذا جاء مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي. وفي التنزيل: " يراءون الناس (2) ". [ النساء: 142 ] وقيل: أصله الاخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشئ، حكاه ابن فارس وغيره. وتقول العرب: أنخدع الضب في جحره. قوله تعالى: (وما يخادعون إلا أنفسهم) نفي وإيجاب، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم. ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه. وهذا صحيح، لان الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه. ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وقد تقدم من قوله عليه السلام أنه قال: (لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر) قالوا: يا رسول الله، وكيف يخادع الله ؟ قال: (تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره). وسيأتي بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى: " الله يستهزئ بهم " [ البقرة: 15 ]. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: " يخادعون " في الموضعين، ليتجانس اللفظان. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: " يخدعون " الثاني. والمصدر خدع (بكسر الخاء) وخديعة، حكى ذلك أبو زيد. وقرأ مورق العجلي: " يخدعون الله " (بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الدال) على التكثير. وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بضم الياء وإسكان الخاء وفتح الدال، على معنى وما يخدعون إلا عن أنفسهم، فحذف حرف الجر، كما قال تعالى: " واختار موسى قومه " [ الاعراف: 155 ] أي من قومه. (1) قاله سويد بن أبي كاهل. يصف ثغر امرأة. (2) راجع ج 5 ص 422 (*)
[ 197 ]
قوله تعالى: (وما يشعرون) أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم: " ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا " [ الحديد: 13 ] على ما يأتي (1). قال أهل اللغة: شعرت بالشئ أي فطنت له، ومنه الشاعر لفطنته، لانه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني. ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمت. قوله تعالى: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10) قوله تعالى: (في قلوبهم مرض) ابتداء وخبر. والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا. والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد. قال ابن فارس اللغوي: المرض كل ما خرج به الانسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في امر. والقراء مجمعون على فتح الراء من " مرض " إلا ما روى الاصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء. قوله تعالى: (فزادهم الله مرضا) قيل: هو دعاء عليهم. ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة، كما قال الشاعر: يا مرسل الريح جنوبا وصبا * إذ غضبت زيد فزدها غضبا أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لانهم شر خلق الله. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم، أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى: " فزادتهم رجسا إلى رجسهم (2) " [ التوبة: 125 ]. وقال أرباب المعاني: " في قلوبهم مرض " أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها. وقوله: " فزادهم الله مرضا " أي وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين. " ولهم عذاب أليم " بما يفنى عما يبقى. وقال الجنيد: علل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن. (1) راجع ج 17 ص 246 (2) راجع ج 8 ص 299 (*)
[ 198 ]
قوله تعالى: (ولهم عذاب أليم) " أليم " في كلام العرب معناه مؤلم أي موجع، مثل السميع بمعنى المسمع، قال ذو الرمة يصف إبلا: ونرفع من صدور شمردلات * يصك وجوهها وهج أليم (1) وآلم إذا أوجع. والايلام: الايجاع. والالم: الوجع، وقد ألم يألم ألما. والتألم: التوجع. ويجمع أليم على الماء مثل كريم وكرماء، وآلام مثل أشراف. قوله تعالى: (بما كانوا يكذبون) ما مصدرية، أي بتكذيبهم الرسل وردهم على الله عزوجل وتكذيبهم بآياته، قاله أبو حاتم. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف، ومعناه بكذبهم وقولهم آمنا وليسوا بمؤمنين. مسألة: واختلف العلماء في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال: القول الاول - قال بعض العلماء: إنما لم يقتلهم لانه لم يعلم حالهم أحد سواه. وقد اتفق العلماء على بكرة (2) أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإنما اختلفوا في سائر الاحكام. قال ابن العربي: وهذا منتقض، فقد قتل بالمجذر بن زياد الحارث بن سويد بن الصامت، لان المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث (3)، فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد فقتله، فأخبر به جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقتله به، لان قتله كان غيلة (4)، وقتل الغيلة حد من حدود الله. قلت: وهذه غفلة من هذا الامام، لانه إن ثبت الاجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر، لان الاجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي، فلا يحتج بها أو منسوخة بالاجماع. والله أعلم. (1) شمردلات: إبل طوال. ونرفع: نستحثها في السير. والوهج: الحر الشديد المؤلم. (2) قوله: (على بكرة أبيهم) هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفير العدد. (3) بعاث: موضع في نواحي المدينة، كانت به وقائع بين الاوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذ للاوس على الخزرج. (4) راجع هذه القصة في سيرة ابن هشام - ص 356، 579) طبع أوربا. (*)
[ 199 ]
القول الثاني: قال أصحاب الشافعي: إنما لم يقتلهم لان الزنديق وهو الذي يسر الكفر ويظهر الايمان يستتاب ولا يقتل. قال ابن العربي: وهذا وهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتبهم ولا نقل ذلك أحد، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق واجبة (1) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم مع علمه بهم. فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال: إن استتابة الزنديق جائزة (2) قال قولا لم يصح لاحد. القول الثالث: إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله لعمر: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي) أخرجه البخاري ومسلم. وقد كان يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا، وهذا هو قول علمائنا وغيرهم. قال ابن عطية. وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والابهري وابن الماجشون، واحتج بقوله تعالى: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض (3) " [ الاحزاب: 60 ] إلى قوله: " وقتلوا تقتيلا " [ الاحزاب: 61 ]. قال قتادة: معناه إذا هم أعلنوا النفاق. قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، وهو أحد قولي الشافعي. قال مالك: وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لامته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يشهد على المنافقين. قال القاضي إسماعيل: لم يشهد على عبد الله (4) ابن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجلاس (5) بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل. وقال الشافعي رحمه الله محتجا للقول الآخر: السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد (1) الذي في كتاب الاحكام لابن العربي: (... أن استتابة الزنديق غير واجبة). (2) كذا في الاصول وكاتب الاحكام لابن العربي. ولعل صواب العبارة: (إن استتابة الزنديق واجبة). (3) راجع ج 14 ص 245 (4) سيذكر الامام القرطبي قصته عند تفسير سورة (المنافقون). (5) كان متهما بالنفاق، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا) الآية. وستأتي قصته عند تفسير هذه الآية في سورة (براءة) إن شاء الله تعالى. وقد أوردها ابن هشام في سيرته ص 355 طبع أوربا، وابن عبد البر في الاستيعاب ج 1 ص 97 طبع الهند. (*)
[ 200 ]
وأعلن بالايمان وتبرأ من كل دين سوى الاسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه. وبه قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وغيرهم. قال الشافعي وأصحابه. وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الاسلام مع العلم بنفاقهم، لان ما يظهرونه يجب ما قبله. وقال الطبري: جعل الله تعالى الاحكام بين عباده على الظاهر، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لاحد أن يحكم بخلاف ما ظهر، لانه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لاحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله. وقد كذب الله ظاهرهم في قوله: " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " [ المنافقون: 1 ] قال ابن عطية: ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم فيها وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص (1) عليه بالنفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يقول: لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا. قلت: هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم ؟ فيقول له: لا. القول الرابع: وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تبقيتهم ضرر، وليس كذلك اليوم، لانا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا. قوله تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون (11) (إذا) في موضع نصب على الظرف والعامل فيها " قالوا "، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. قال الجوهري: " إذا " اسم يدل على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى (1) قوله: لكل مغموص. أي مطعون في دينه، منهم بالنفاق. (*)
[ 201 ]
جملة، تقول: أجيئك إذا أحمر البسر، وإذا قدم فلان. والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدم فلان، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة. وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا، فالفعل قولك: إن تأتني آتك. والفاء: إن تأتني فأنا أحسن إليك. وإذا كقوله تعالى: " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا (1) هم يقنطون " [ الروم: 36 ]. ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها * خطانا إلى أعدائنا فنضارب (2) فعطف " فنضارب " بالجزم على " كان " لانه مجزوم، ولو لم يكن مجزوما لقال: فنضارب، بالنصب. وقد تزاد على " إذا " " ما " تأكيدا، فيجزم بها أيضا، ومنه قول الفرزدق: فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم * وكان إذا ما يسلل السيف يضرب قال سيبويه: والجيد ما قال كعب بن زهير: وإذا ما تشاء تبعث منها * مغرب الشمس ناشطا مذعورا (3) يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا، كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان، لانها تضمنت جثة. وهذا مردود، لان المعنى خرجت فإذا حضور زيد، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم: " اليوم خمر وغدا أمر " فمعناه وجود خمر ووقوع أمر. قوله: (قيل) من القول وأصله قول، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء. ويجوز: " قيل لهم " بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين، لان الياء حرف مد ولين. قال الاخفش: ويجوز " قيل " بضم القاف والياء. وقال الكسائي: وبجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس وكذلك جئ وغيض وحيل وسيق وسئ (1) راجع ج 14 ص 34 (2) يقول: إذا قصرت أسيافنا في اللقاء عن الوصول إلى الاقران وصلناها بخطانا مقدمين عليهم حتى تنالهم. (3) وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كله، فشبهها في انبعاثها مسرعة بناشط قد ذعر من صائد أو سبع. والناشط: الثور يخرج من بلد إلى بلد، فذلك أوحش له وأذعر. (*)
[ 202 ]
وسيئت. وكذلك روى هشام عن ابن عباس (1)، ورويس (2) عن يعقوب. وأشم منها نافع سئ وسيئت خاصة. وزاد ابن ذكوان: حيل وسيق، وكسر الباقون في الجميع. فأما هذيل وبنود دبير من أسد وبني فقعس فيقولون: " قول " بواو ساكنة. قوله: (لاا تفسدوا) " لا " نهى. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشئ يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد. والمعنى في الآية: لا تفسدوا في الارض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقيل: كانت الارض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الارض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الارض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى: " ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها (3) " [ الاعراف: 56 ]. قوله: " في الارض " الارض مؤنثة، وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أرضات، لانهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عرسات. ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الالف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت. وقد تجمع على أروض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والاراضي أيضا على غير قياس، كأنهم جمعوا آرضا. وكل ما سفل فهو أرض. وأرض أريضة، أي زكية بينة الاراضة. وقد أرضت بالضم، أي زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أي معجبة للعين، ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أم لك. والارض: أسفل قوائم الدابة، قال حميد يصف فرسا: ولم يقلب أرضها البيطار * ولا لحبليه بها حبار (1) في نسخة: (ابن عامر). (2) رويس (كزبير) محمد بن المتوكل القارئ، راوي يعقوب ابن إسحاق. (3) راجع ج 7 ص 226 (*)
[ 203 ]
أي أثر والارض: النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال: زلزلت الارض بالبصرة، فقال ابن عباس: والله ما أدري ! أزلزلت الارض أم بي أرض ؟ أي أم بي رعدة، وقال ذو الرمة يصف صائدا: إذا توجس ركزا من سنابكها * أو كان صاحب أرض أو به الموم (1) والارض: الزكام. وقد آرضه الله إيراضا، أي أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض، وودية مستأرضة (بكسر الراء) وهو أن يكون له عرق في الارض، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والاراض (بالكسر): بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض، أي متواضع خليق للخير. قال الاصمعي يقال: هو آرضهم أن يفعل ذلك، أي أخلقهم. وشئ عريض أريض إتباع له، وبعضهم يفرده ويقول: جدي أريض أي سمين. قوله: " نحن " أصل " نحن " نحن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، قاله هشام بن معاوية النحوي. وقال الزجاج: " نحن " لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة " نحن " لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع في قوله عزوجل: " أولئك الذين اشتروا الضلالة " [ البقرة: 16 ] وقال محمد بن يزيد: " نحن " مثل قبل وبعد، لانها متعلقة بالاخبار عن اثنين وأكثر، ف " - أنا " للواحد " نحن " للتثنية والجمع، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله: نحن قمنا، قال الله تعالى: " نحن قسمنا (2) بينهم معيشتهم " [ الزخرف: 32 ]. والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر، تقول المرأة: قمت وذهبت، وقمنا وذهبنا، وأنا فعلت ذاك، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فأعلم. قوله تعالى: " مصلحون " اسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصلح الشئ (بضم اللام وفتحها) لغتان، قال ابن السكيت. والصلوح (بضم الصاد) مصدر صلح (بضم اللام)، قال الشاعر: (1) توجس: تسمع. الركز: الحس والصوت الخفي. سنابكها: حوافرها. الموم: البرسام وهو الخيل. وقيل: الموم الجدري الكثير المتراكب. ومعناه: أن الصياد يذهب نفسه إلى السماء ويفغر إليها أبدا لئلا يجد الوحش نفسه فينفر. وشبه بالمبرسم أو المزكوم لان البرسام مفغر والزكام مفغر. (عن اللسان). (2) راجع ج 16 ص 83 (*)
[ 204 ]
فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني * وما بعد شتم الوالدين صلوح وصلاح من أسماء مكة. والصلح (بكسر الصاد): نهر. وإنما قالوا ذلك على ظنهم، لان إفسادهم عندهم إصلاح، أي أن ممالاتنا للكفار إنما نريد بها الاصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره. قوله تعالى: ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12) قوله عزوجل: (ألا إنهم هم المفسدون) ردا عليهم وتكذيبا لقولهم. قال أرباب المعاني: من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى أن الله عزوجل يقول: " ألا إنهم هم المفسدون " وهذا صحيح. وكسرت " إن " لانها مبتدأة، قال النحاس. وقال علي بن سليمان. يجوز فتحها (1)، كما أجاز سيبويه: حقا أنك منطلق، بمعنى ألا. و " هم " يجوز أن يكون مبتدأ و " المفسدون " خبره والمبتدأ وخبره خبر " إن ". ويجوز أن تكون " هم " توكيدا للهاء والميم في " إنهم ". ويجوز أن تكون فاصلة - والكوفيون يقولون عمادا - و " المفسدون " خبر " إن "، والتقدير ألا إنهم المفسدون، كما تقدم في قوله: " وأولئك هم المفلحون " [ لقمان: 5 ]. قوله تعالى: (ولكن لا يشعرون) قال ابن كيسان يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم، قال: ففيه جوابان: أحدهما - أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم. والوجه الآخر: أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه. " ولكن " حرف تأكيد واستدراك ولا بد فيه من نفي وإثبات، إن كان قبله نفي كان بعده إيجاب، وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي. ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم واحد إذا تقدم الايجاب، ولكنك تذكر جملة (1) في العبارة غموض. ولعل المعنى المراد: يجوز فتحها كما أجاز سيبويه أما أنك منطلق على معنى حقا أنك منطلق. وأما بمعنى ألا، فإذا فتحت إن بعدهما كانتا بمعنى حقا أنك... وإذا كسرت كانتا أداتي استفتاح. راجع كتاب سيبويه ج 1 ص 462 طبع بولاق. (*)
[ 205 ]
مضادة لما قبلها كما في هذه الآية، وقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ، ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت، لانهم قد استغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن، وإنما يجوز ذلك إذا تقدم النفي كقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو. قوله تعالى: وإذا قيل لهم آمنوا كماءامن الناس قالوا أنومن كماءامن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13) قوله تعالى: " وإذا قيل لهم " يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. " آمنوا كما آمن الناس " أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، كما صدق المهاجرون والمحققون (1) من أهل يثرب. وألف " آمنوا " ألف قطع، لانك تقول: يؤمن، والكاف في موضع نصب، لانها نعت لمصدر محذوف، أي إيمانا كإيمان الناس. قوله تعالى: (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس. وعنه أيضا: مؤمنو أهل الكتاب. وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هي في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرين الذي على قلوبهم. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود، أي وإذا قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس: عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء يعني الجهال والخرقاء. وأصل السفه في كلام العرب: الخفة والرقة، يقال: ثوب سفيه إذا كان ردئ النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر: مالت به، قال ذو الرمة: مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم (2) (1) المحققون هنا هم الذين يكون إيمانهم مقرونا بالاخلاص خالصا عن شوائب النفاق كما قال الالوسي وغيره. (2) وصف نساء فيقول: إذا مشين اهتززن في مشيهن وتثنين فكأنهن رماح نصبت فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت. والنواسم: الخفيفة الهبوب. (*)
[ 206 ]
وتسفهت الشئ: استحقرته. والسفه: ضد الحلم. ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء (1) أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الاولى وتقلب الثانية واوا خالصة، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الاولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واوا خالصة. وإن شئت خففت الاولى وحققت الثانية. وإن شئت حققتهما جميعا. قوله تعالى: (ولكن لا يعلمون) مثل " ولكن لا يشعرون "، وقد تقدم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، تقول: علمت الشئ أعلمه علما عرفته، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه (بالضم في المستقبل). غلبته بالعلم. قوله تعالى: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14) قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) أنزلت هذه الآية في ذكر المنافقين. أصل لقوا: لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ محمد بن السميقع اليماني: " لاقوا الذين آمنوا ". والاصل لاقيوا، تحركت الياء وقبلها فتحة انقلبت ألفا، اجتمع ساكنان الاف والواو فحذفت الالف لالتقاء الساكنين ثم حركت الواو بالضم. وإن فيل: لم ضمت الواو في لاقوا في الادراج وحذفت من لقوا ؟ فالجواب: أن قبل الواو التي في لقوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على اللسان النطق بها فحذفت لثقلها، وحركت في لاقوا لان قبلها فتحة. قوله تعالى: (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) إن قيل: لم وصلت " خلوا " ب " إلى " وعرفها أن توصل بالباء ؟ قيل له: " خلوا " هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا، ومنه قول الفرزدق: كيف تراني قالبا مجنى * [ أضرب أمري ظهره لبطن ] (2) * قد قتل الله زيادا عني * (1) أي مع كلمة ألا التي بعدها. (2) الزيادة عن كتاب النقائض. وزياد، هو زياد بن أبيه. والمجن: الترس. (*)
[ 207 ]
لما أنزله منزلة صرف. وقال قوم: " إلى " بمعنى مع، وفيه ضعف. وقال قوم: " إلى " بمعنى الباء، وهذا يأباه الخليل وسيبويه. وقيل: المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ف " إلى " على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة (1). واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، فقال ابن عباس والسدي: هم رؤساء الكفر. وقال الكلبي: هم شياطين الجن. وقال جمع من المفسرين: هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الايمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم. قوله تعالى: (إنما نحن مستهزئون) أي مكذبون بما ندعى إليه. وقيل: ساخرون. والهزء: السخرية واللعب، يقال: هزئ به واستهزأ، قال الراجز: (2) قد هزئت مني أم طيسله * قالت أراه معدما لا مال له وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام، كما قال الآخر: قد أستهزءوا منهم بألفي مدجج * سراتهم وسط الصحاصح جثم (3) قوله تعالى: الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15) قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم) أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة. وقال (1) راجع ص 90 (2) هو صخر الغي الهلالي. والبيت كما ذكره القالي في أماليه (ج 2 ص 284) طبع دار الكتب المصرية: تهزأ مني أخت آل طيسله * قالت أراه مبلطا لا شئ له (3) الصحاصح (جمع صحصح): الارض ليس بها شئ ولا شجر ولا قرار للماء. والجاثم: اللازم مكانه لا يبرح. (*)
[ 208 ]
الله عزوجل: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " [ الشورى: 40 ]. وقال: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " [ البقرة: 194 ]. والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء، لانه حق وجب، ومثله: " ومكروا ومكر الله " [ آل عمران: 54 ]. و " إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا " [ الطارق: 15 - 16 ]. و " إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم " وليس منه سبحانه مكر ولا هزء ولا كيد، إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم، وكذلك " يخادعون الله وهو خادعهم " [ النساء: 142 ]. " فيسخرون منهم سخر الله منهم " [ التوبة: 79 ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا). قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا. وقيل المعنى وأنتم تملون. وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل. وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر، حسب ما روى: (إن النار تجمد كما تجمد الاهالة (1) فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم). وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا " هم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر - على ما تقدم قالوا: إنا معكم على دينكم " إنما نحن مستهزئون " بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. " الله يستهزئ بهم " في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الارائك - وهي السرر - في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله عزوجل: " الله يستهزئ بهم " أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الابواب، فذلك قوله تعالى: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون (2). على الارائك ينظرون " [ المطففين: 34 - 35 ] إلى أهل النار " هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " [ المطففين: 36 ]. وقال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الاحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راض عنهم، وهو تعالى (1) الاهالة: ما أذيب من الالية والشحم. وقيل: الدسم الجامد. (2) راجع ج 19 ص 266 (*)
[ 209 ]
قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع، ودل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتم الله عزوجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج). ثم نزع بهذه الآية: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (1) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " [ الانعام: 44 - 45 ]. وقال بعض العلماء في قوله تعالى: " سنستدرجهم من (2) حيث لا يعلمون ": [ الاعراف: 182 ] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة. قوله تعالى: (ويمدهم) أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال: " إنما نملي (3) لهم ليزدادوا إثما " [ آل عمران: 178 ] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد لهم في الشر، وأمد في الخير، قال الله تعالى: " وأمددناكم بأموال وبنين (4) ". [ الاسراء: 6 ]. وقال: " وأمددناهم بفاكهة (5) ولحم مما يشتهون " [ الطور: 22 ]. وحكى عن الاخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته. وعن الفراء واللحياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مد النهر [ النهر ] (6)، وفي التنزيل: " والبحر يمده (7) من بعده سبعة أبحر " [ لقمان: 27 ]. وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره، كقولك: أمددت الجيش بمدد، ومنه: " يمددكم (8) ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ". [ آل عمران: 125 ]. وأمد الجرح، لان المدة من غيره، أي صارت فيه مدة. قوله تعالى: (في طغيانهم) كفرهم وضلالهم. وأصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: " إنا لما طغى (9) الماء " [ الحاقة: 11 ] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخزان. وقوله في فرعون: " إنه طغى " (10) [ طه: 24 ] أي أسرف في الدعوى حيث قال: " أنا ربكم الاعلى " [ النازعات: 24 ]. والمعنى في الآية: يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم. قوله تعالى: (يعمهون) يعمون. وقال مجاهد: أي يترددون متحيرين في الكفر. وحكى أهل اللغة: عمه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار، ويقال رجل عامه (1) راجع ج 6 ص 426 وقد ذكر القرطبي هنالك الحديث برواية تختلف في بعض اللفظ، وفيه: ثم تلا (فلما نسوا) الآية بدل نزع (2) راجع ج 7 ص 329 (3) راجع ج 4 ص 287 (4) راجع ج 10 ص 217 (5) راجع ج 17 ص 68 (6) الزيادة عن اللسان مادة (مد). (7) راجع ج 14 ص 76 (8) راجع ج 4 ص 190 (9) راجع ج 18 ص 263 (10) راجع ج 19 ص 199 (*)
[ 210 ]
وعمه: حائر متردد، وجمعه عمه. وذهبت إبله العمهي إذا لم يدر أين ذهبت. والعمى في العين، والعمه في القلب وفي التنزيل: " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (1) " [ الحج: 46 ] قوله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) قال سيبويه: ضمت الواو في " اشتروا " فرقا بينها وبين الواو الاصلية، نحو: " وأن لو استقاموا على الطريقة ". [ الجن: 16 ]. وقال ابن كيسان: الضمة في الواو أخف من غيرها لانها من جنسها. وقال الزجاج: حركت بالضم كما فعل في " نحن ". وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر (2) بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وروى أبو زيد الانصاري عن قعنب أبي السمال العدوي أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان (3) ما قبلها مفتوحا. وأجاز الكسائي همز الواو وضمها كأدؤر. واشتروا: من الشراء. والشراء هنا مستعار. والمعنى استحبوا الكفر على الايمان، كما قال: " فاستحبوا العمى على الهدى " [ فصلت: 17 ] فعبر عنه بالشراء، لان الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه. فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا، لان المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم. وقال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الايمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا، لان الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشئ. قال أبو ذؤيب: فإن تزعميني كنت أجهل فيكم * فإني شريت (4) الحلم بعدك بالجهل (1) راجع ج 12 ص 77 (2) قال صاحب تهذيب التهذيب: (في التقريب بفتح التحتانية والميم وبينهما مهملة ساكنة. وفي المغني بفتح الميم وضمها). (3) في بعض الاصول: (وإن ما قبلها مفتوحا) وفي البعض الآخر: (وإن كان قبلها مفتوحا). (4) ويروي: (اشتريت) كما في ديوان أبي ذؤيب. ويقول: إن كنت تزعمين أنى كنت أجهل في هواى لكم وصبوني إليكم فقد شريت بذلك الجهل والصبا حلما وعقلا، ورجعت عما كنت عليه. (عن شرح الشواهد). (*)
[ 211 ]
وأصل الضلالة: الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة، قال عزوجل: " فعلتها إذا وأنا من الضالين " (1) [ الشعراء: 20 ] أي الناسين. ويسمى الهلاك ضلالة، كما قال عزوجل: " وقالوا أئذا ضللنا في الارض (2) " [ السجدة: 10 ]. قوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم) أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: ربحت وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك وصمت في نهارك، أي فما ربحوا في تجارتهم. وقال الشاعر: نهارك هائم وليلك نائم * كذلك في الدنيا تعيش البهائم ابن كيسان: ويجوز تجارة وتجائر، وضلالة وضلائل. قوله تعالى: (وما كانوا مهتدين) في اشترائهم الضلالة. وقيل: في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال، وقد تقدم (3). قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، فهي اسم، كما هي في قول الاعشى: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط * كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل (4) وقول أمرئ القيس: ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا * تصوب فيه العين طورا وترتقي (5) (1) راجع ج 13 ص 95 (2) راجع ج 14 ص 91 (3) راجع ص 160 من هذا الجزء. (4) المعنى: لا ينهى أصحاب الجور مثل طعن جائف، أي نافذ إلى الجوف، يغيب فيه الزيت والفتل. (عن خزانة الادب). (5) يقول رجعنا بفرس كانه ابن ماء (طير ماء) خفة وحسنا وطول عنق. وهو يجنب: أي يقاد فلا يركب. (*)
[ 212 ]
أراد مثل الطعن، وبمثل ابن الماء. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه. والمتماثلان: المتشابهان، هكذا قال أهل اللغة. قوله " الذي " يقع للواحد والجمع. قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد، كما قال: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد (1) وقيل في قول الله تعالى " والذي (2) جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " [ الزمر: 33 ]: إنه بهذه اللغة، وكذلك قوله: " مثلهم كمثل الذي " قيل: المعنى كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال: " ذهب الله بنورهم "، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. فأما قوله تعالى: " وخضتم كالذي (3) خاضوا " [ التوبة: 69 ] فإن الذي هاهنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا. وقيل: إنما وحد " الذي " و " استوقد " لان المستوقد كان واحدا من جماعة تولى الايقاد لهم، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعا فقال " بنورهم ". واستوقد بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الاخفش، ومنه قول الشاعر: (4) وداع دعا يا من يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي يجبه. واختلف النحاة في جواب لما، وفي عود الضمير من " نورهم "، فقيل: جواب لما محذوف وهو طفئت، والضمير في " نورهم " على هذا للمنافقين، والاخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة، كما قال تعالى: " فضرب بينهم بسور له باب (5) " [ الحديد: 13 ]. وقيل: جوابه " ذهب "، والضمير في " نورهم " عائد على " الذي "، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. والمعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين، (1) فلج (بفتح أوله وسكون ثانيه): موضع بين البصرة وضرية. وقيل هو واد بطريق البصرة إلى مكة، ببطنه منازل للحاج. قائله الاشهب بن رميلة ير ؟ ى قوما قتلوا في هذا الموضع (عن اللسان). (2) راجع ج 15 ص 256 (3) راجع ج 8 ص 201 (4) هو كعب بن سعد الغنوي ير ؟ ى أخاه أبا المغوار (عن اللسان). (5) راجع ج 17 ص 246 (*)
[ 213 ]
وذلك أن ما يظهرونه من الايمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والامن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها ورأى ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الاذى وبقي متحيرا، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الاسلام، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الاليم - كما أخبر التنزيل: " إن المنافقين (1) في الدرك الاسفل من النار " [ النساء: 145 ] - ويذهب نورهم، ولهذا يقولون: " انظرونا نقتبس (2) من نوركم " [ الحديد: 13 ]. وقيل: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها. وقيل غير هذا. قوله: " نارا " النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الاشراق. وهي من الواو، لانك تقول في التصغير: نويرة، وفي الجمع نور وأنوار ونيران، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها. وضاءت وأضاءت لغتان، يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضئ، يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: ضاءت بغير ألف، والعامة بالالف، قال الشاعر: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم * دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه (3) (ما حوله) " ما " زائدة مؤكدة. وقيل: مفعولة بأضاءت. و " حوله " ظرف مكان، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. و (ذهب) وأذهب لغتان من الذهاب، وهو زوال الشئ. (وتركهم) أي أبقاهم. (في ظلمات) جمع ظلمة. وقرأ الاعمش: " ظلمات " بإسكان اللام على الاصل. ومن قرأها بالضم فللفرق بين الاسم والنعت. وقرأ أشهب العقيلي: " ظلمات " بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لانها أخف. وقال الكسا ؟ ي: " ظلمات " جمع الجمع، جمع ظلم. (لا يبصرون) فعل مستقبل في موضع الحال، كأنه قال: غير مبصرين، فلا يجوز الوقف على هذا على " ظلمات ". قوله تعالى: صم بكم عمى فهم لا يرجعون (18) (1) راجع ج 5 ص 424 (2) راجع ج 17 ص 245 (3) الجزع (بفتح الجيم وكسرها): ضرب من الخرز. وقيل: هو الخرز اليماني، وهو الذي فيه بياض وسواد، فشبه به الاعين. (*)
[ 214 ]
قوله تعالى: (صم بكم عمى) " صم " أي هم صم، فهو خبر ابتداء مضمر. وفي قراءة عبد الله ابن مسعود وحفصة: صما بكما عميا، فيجوز النصب على الذم، كما قال تعالى: " ملعونين (1) أينما ثقفوا " [ الاحزاب: 61 ]، وكما قال: " وامرأته حمالة (2) الحطب " [ المسد: 4 ]، وكما قال الشاعر: (3) سقوني الخمر ثم تكنفوني * عداة الله من كذب وزور فنصب " عداة الله " على الذم. فالوقف على " يبصرون " على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صما ب " - تركهم "، كأنه قال: وتركهم صما بكما عميا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على " يبصرون ". والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة. وصممت القارورة إذا سددتها. فالاصم: من أنسدت خروق مسامعه. والابكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الاخرس. وقيل: الاخرس والابكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبكيم، أي أخرس بين الخرس والبكم، قال: فليت لساني كان نصفين منهما * بكيم ونصف عند مجرى الكواكب والعمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الامر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: " فعميت عليهم الانباء يومئذ (4) " [ القصص: 66 ]. وليس الغرض مما ذكرناه نفي الادراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما، تقول: فلان أصم عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال: * أصم عما ساءه سميع * وقال آخر: وعوراء الكلام صممت عنها * ولو أني أشاء بها سميع وقال الدارمي: أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الجدر (1) راجع ج 14 ص 247 (2) راجع ج 20 ص 239 (3) هو عروة بن الورد. وصف ما كان من فعل قوم آمرأته حين احتالوا عليه وسقوه الخمر حتى أجابهم إلى مفاداتها وكانت سبية عنده (عن شرح الشواهد). (4) راجع ج 13 ص 304 (*)
[ 215 ]
وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك: أدخل إذا ما دخلت أعمى * وأخرج إذا ما خرجت أخرس وقال قتادة: " صم " عن استماع الحق، " بكم " عن التكلم به، " عمى " عن الابصار له. قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل (وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الارض فذاك من أشراطها). والله أعلم. قوله تعالى: (فهم لا يرجعون) أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعا، ورجعه غيره، وهذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى: " يرجع بعضهم إلى بعض القول (1) " [ سبأ: 31 ] أي يتلاومون فيما بينهم، حسب ما بينه التنزيل في سورة " سبأ (1) ". قوله تعالى: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) قوله تعالى (أو كصيب من السماء) قال الطبري: " أو " بمعنى الواو، وقاله الفراء. وأنشد: وقد زعمت ليلى بأني فاجر * لنفسي تقاها أو عليها فجورها (2) وقال آخر: (3) نال الخلافة (4) أو كانت له قدرا * كما أتى ربه موسى على قدر أي وكانت. وقيل: " أو " للتخيير أي مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الامرين، والمعنى أو كأصحاب صيب. والصيب: المطر. واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل، قال علقمة: فلا تعدلي بيني وبين مغمر * سقتك روايا المزن حيث تصوب (5) (1) راجع ج 14 ص 302 (2) البيت من قصيدة لتوبة الخفاجي قالها في ليلى الاخيلية. (3) هو جرير بن عطية يمدح عمر بن عبد العزيز. (4) في ديوانه المخطوط: (إذ) بدل (أو). (5) المغمر والغمر: الجاهل الذي لم يجرب الامور، كأن الجهل غمره واستولى عليه. وروايا المزن: التي. تروى بكثرة مائها. (*)
[ 216 ]
وأصله: صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين. وقال بعض الكوفيين: أصله صويب على مثال فعيل. قال النحاس: " لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل (1) صيب ". قوله تعالى: " من السماء " السماء تذكر وتؤنث، وتجمع على أسمية وسموات وسمي، على فعول، قال العجاج: * تلفه الرياح والسمي (2) والسماء: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: المطر، سمي به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت: ديار من بني الحسحاس قفر * تعفيها الروامس والسماء وقال آخر: (3) إذا سقط السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا ويسمى الطين والكلا أيضا سماء، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلا والطين. ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه، قال: (4) وأحمر كالديباج أما سماؤه * فريا وأما أرضه فمحول والسماء: ما علا. والارض: ما سفل، على ما تقدم. قوله تعالى: " فيه ظلمات " ابتداء وخبر " ورعد وبرق " معطوف عليه. وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، وهو الغيم، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات (5) فلا معنى للاعادة، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى. (1) في الاصل: (... نارا أو كصيب). والتصويب عن كتاب إعراب القرآن للنحاس. (2) السمى: يريد الامطار. (3) هو معاوية بن مالك. (4) القائل هو طفيل الغنوي، كما في اللسان مادة (سما) (5) راجع ص 213 من هذا الجزء. (*)
[ 217 ]
واختلف العلماء في الرعد، ففي الترمذي عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ قال: (ملك من الملائكة [ موكل (1) بالسحاب ] معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله). فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال: (زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله) قالوا: صدقت. الحديث بطوله. وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. فالرعد: اسم الصوت المسموع، وقاله علي رضي الله عنه، وهو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته: فجعني الرعد والصواعق بال * - فارس يوم الكريهة النجد وروي عن ابن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت. واختلفوا في البرق، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب. قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي. وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب. وعنه أيضا البرق ملك يتراءى. وقالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب. والبرق ما ينقدح من اصطكاكها. وهذا مردود لا يصح به نقل، والله أعلم. ويقال: أصل الرعد من الحركة، ومنه الرعديد للجبان. وارتعد: اضطرب، ومنه الحديث: (فجئ بهما ترعد فرائصهما) الحديث. أخرجه أبو داود. والبرق أصله من البريق والضوء، ومنه البراق: دابة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به وركبها الانبياء عليهم السلام قبله. ورعدت السماء من الرعد، وبرقت من البرق. ورعدت المرأة وبرقت: تحسنت وتزينت. ورعد الرجل وبرق: تهدد وأوعد، قال ابن أحمر: يا جل ما بعدت عليك بلادنا * وطلابنا فابرق بأرضك وارعد (1) زيادة عن الترمذي. (*)
[ 218 ]
وأرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق. وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد، وأنكره الاصمعي. واحتج عليه بقول الكميت: أبرق وأرعد يا يزي * - د فما وعيدك لي بضائر فقال: ليس الكميت بحجة. فائدة: روى ابن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الاحبار، قال: فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفرق الناس. قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس. قال: وما ذاك ؟ قال: فحدثته حديث كعب. قال: سبحان الله ! أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم ! في رواية فإذا (1) بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به. وستأتي هذه الرواية في سورة " الرعد " (2) إن شاء الله. ذكر الروايتين أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك). قوله تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام، وذلك عندهم كفر والكفر موت. وفي واحد الاصابع خمس لغات: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال بفتحهما جميعا، وضمهما جميعا، وبكسرهما جميعا، وهي مؤنثة. وكذلك الاذن وتخفف وتثقل وتصغر، فيقال: أذينة. ولو سميت بها رجلا ثم صغرته قلت: أذين، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر. فأما قولهم: أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا، والجمع آذان. وتقول: أذنته إذا ضربت أذنه. ورجل أذن: إذا كان يسمع كلام كل أحد، يستوي فيه الواحد (1) البرد (بالتحريك): حب الغمام. (2) راجع ج 9 ص 295 (*)
[ 219 ]
والجمع. وأذاني: عظيم الاذنين. ونعجة أذناء، وكبش آذن. وأذنت النعل وغيرها تأذينا: إذا جعلت لها أذنا. وأذنت الصبي: عركت أذنه. قوله تعالى: (من الصواعق) أي من أجل الصواعق. والصواعق جمع صاعقة. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق. وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد. وحكى الخليل عن قوم: الساعقة (بالسين). وقال أبو بكر النقاش: يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد. وقرأ الحسن: من " الصواقع " (بتقديم القاف)، ومنه قول أبي النجم: يحكون بالمصقولة القواطع * تشقق البرق عن الصواقع قال النحاس: وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة. ويقال: صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال الله عزوجل: " فأخذتهم صاعقة (1) العذاب الهون " [ فصلت: 17 ] ويقال: صعق الرجل صعقة وتصعاقا، أي غشي عليه، وفي قوله تعالى: " وخر موسى صعقا (2) " [ الاعراف: 143 ] فأصعقه غيره. قال ابن مقبل: ترى النعرات الزرق تحت لبانه * أحاد ومثنى أصعقتها صواهله (3) وقوله تعالى: " فصعق (4) من في السموات ومن في الارض " [ الزمر: 68 ] أي مات. وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به. وقيل: مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الاشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق. والصواعق، (1) راجع ج 15 ص 349. (2) راجع ج 7 ص 279 (3) النعرة (مثال الهمزة): ذباب ضخم أزرق العين أخضر، له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحافر خاصة. واللبان: الصدر، وقيل: وسطه، وقيل: ما بين الثديين، ويكون للانسان وغيره. وأصعقتها صواهله: أي قتلها صهيله. (4) راجع ج 15 ص 279. (*)
[ 220 ]
مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل. وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما. قول: (حذر الموت) حذر وحذار بمعنى، وقرئ بهما. قال سيبويه: هو منصوب، لانه موقوع له أي مفعول من أجله، وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه: وأغفر عوراء الكريم ادخاره * وأعرض عن شتم اللئيم تكرما (1) وقال الفراء: هو منصوب على التمييز والموت: ضد الحياة. وقد مات يموت، ويمات أيضا، قال الراجز: بنيتي سيدة البنات * عيشي ولا يؤمن أن تماتي فهو ميت وميت، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون. والموات (بالضم): الموت. والموات (بالفتح): ما لا روح فيه. والموات أيضا: الارض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد. والموتان (بالتحريك): خلاف الحيوان، يقال: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان، أي اشتر الارضين والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب. والموتان (بالضم): موت يقع في الماشية، يقال: وقع في المال موتان. وأماته الله وموته، شدد للمبالغة. وقال: فعروة مات موتا مستريحا * فهأنذا أموت كل يوم وأماتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مميت ومميتة. قال أبو عبيد: وكذلك المرأة، وجمعها مماويت. قال ابن السكيت: أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون. والمتماوت من صفة الناسك المرائي وموت مائت، كقولك: ليل لائل، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به. والمستميت للامر: المسترسل له، قال رؤبة: (1) البيت لحاتم الطائي. يقول: إذا جهل علي الكريم احتملت جهله إبقاء عليه وادخارا له، وإن سبني اللئيم أعرضت عن شتمه. (*)
[ 221 ]
وزبد البحر له كتيت * والليل فوق الماء مستميت (1) المستميت أيضا: المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت، وفي الحديث: (أرى القوم مستميتين) وهم الذين يقاتلون على الموت. والموتة (بالضم): جنس من الجنون والصرع يعتري الانسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران. ومؤتة (بضم الميم وهمز الواو): اسم أرض (2) قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام. قوله تعالى: (والله محيط بالكافرين) ابتداء وخبر، أي لا يفوتونه. يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، قال الشاعر: أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا * بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم ومنه قول تعالى: " وأحيط (3) بثمره " [ الكهف: 42 ]. وأصله محيط، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت. فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، كما قال: " والارض جميعا قبضته يوم القيامة (4) " [ الزمر: 67 ]. وقيل: " محيط بالكافرين " أي عالم بهم. دليله: " وأن الله قد أحاط بكل شئ علما (5) " [ الطلاق: 12 ]. وقيل: مهلكهم وجامعهم. دليله قوله تعالى: " إلا أن يحاط بكم (6) " [ يوسف: 66 ] أي إلا أن تهلكوا جميعا. وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية. والله أعلم. قوله تعالى: يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير (20) * (امش) * (1) كذا في الاصول واللسان مادة (موت).. الذي في ديوانه المخطوط بدار الكتب المصرية برقم 516 أدب. وزبد البحر له كتيت * تراه والحوت له نئيت كلاهما مغتمس مغتوت * وكلكل الماء له مبيت والليل فوق الماء مستميت * يدفع عنه جوفه المسحوت الكتيت: الهدير. والنئيت والزحير والطحير والانيت كله الزحير (إخراج الصوت أو النفس عند عمل بأنين أو شدة). المغتوت: المغموم. والمسحوت: الذي لا يشبع. (2) وقيل إنها قرية من قرى البلقاء في حدود الشام. وقيل: إنها بمشارف الشام وعلى اثنى عشر ميلا من أذرح. راجع تاج العروس مادة (مأت). (3) راجع ج 10 ص 409 (4) راجع ج 15 ص 277 (5) راجع ج 18 ص 176 (6) راجع ج 9 ص 225 (*)
[ 222 ]
قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) " يكاد " معناه يقارب، يقال: كاد يفعل كذا إذا قارب ولم يفعل. ويجوز في غير القرآن: يكاد أن يفعل، كما قال رؤبة: * قد كاد من طول البلى أن يمصحا (1) مشتق من المصح وهو الدرس. والاجود أن تكون بغير " أن "، لانها لمقاربة الحال، و " أن " تصرف الكلام إلى الاستقبال، وهذا متناف، قال الله عزوجل: " يكاد سنا برقه (2) يذهب بالابصار " [ النور: 43 ]. ومن كلام العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميرا، لقربهما من تلك الحال. وكاد فعل متصرف على فعل يفعل. وقد جاء خبره بالاسم وهو قليل، قال: " وما كدت (3) آئبا ". ويجري مجرى كاد كرب وجعل وقارب وطفق، في كون خبرها بغير " أن "، قال الله عزوجل: " وطفقا (4) يخصفان عليهما من ورق الجنة " [ الاعراف: 22 ] لانها كلها بمعنى الحال والمقاربة، والحال لا يكون معها " أن "، فأعلم. قوله تعالى: " يخطف أبصارهم " الخطف: الاخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته. فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم. ويخطف ويخطف لغتان قرئ بهما. وقد خطفه (بالكسر) يخطفه خطفا، وهي اللغة الجيدة، واللغة الاخرى حكاها الاخفش: خطف يخطف. الجوهري: وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى " يكاد البرق يخطف أبصارهم " وقال النحاس: في " يخطف " سبعة أوجه، القراءة الفصيحة: يخطف. وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: يخطف بكسر الطاء، قال سعيد الاخفش: هي لغة. وقرأ الحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي بفتح الياء وكسر الخاء والطاء. وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بفتح الخاء. قال الفراء: وقرأ بعض أهل المدينة بإسكان الخاء وتشديد الطاء. قال الكسائي والاخفش والفراء: يجوز " يخطف " بكسر الياء والخاء والطاء. فهذه ستة أوجه موافقة للخط. (1) يمصح: يذهب ويدرس. (2) راجع ج 12 ص 290 (3) قائله تأبط شرا. والبيت بتمامه: فأبت إلى فهم وما كدت آئبا * وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (4) راجع ج 7 ص 180 (*)
[ 223 ]
والسابعة حكاها عبد الوارث قال: رأيت في مصحف أبي بن كعب " يتخطف "، وزعم سيبويه والكسائي أن من قرأ " يخطف " بكسر الخاء والطاء فالاصل عنده يختطف، ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: ومن فتح الخاء ألقى حركة التاء عليها. وقال الكسائي: ومن كسر الياء فلان الالف في اختطف مكسورة. فأما ما حكاه الفراء عن أهل المدينة من إسكان الخاء والادغام فلا يعرف ولا يجوز، لانه جمع بين ساكنين. قال النحاس وغيره. قلت: وروي عن الحسن أيضا وأبي رجاء " يخطف ". قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك بأن " خطف الخطفة (1) " لم يقرأه أحد بالفتح. " أبصارهم " جمع بصر، وهي حاسة الرؤية. والمعنى: تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تبهرهم. ومن جعل " البرق " مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. قوله تعالى: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) " كلما " منصوب لانه ظرف. وإذا كان " كلما " بمعنى " إذا " فهي موصولة والعامل فيه " مشوا " وهو جوابه، ولا يعمل فيه " أضاء "، لانه في صلة ما. والمفعول في قول المبرد محذوف، التقدير عنده: كلما أضاء لهم البرق الطريق. وقيل: يجوز أن يكون فعل وأفعل بمعنى، كسكت وأسكت، فيكون أضاء وضاء سواء فلا يحتاج إلى تقدير حذف مفعول. قال الفراء: يقال ضاء وأضاء، وقد تقدم. والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه " قاموا " أي ثبتوا على نفاقهم، عن ابن عباس. وقيل: المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم، عن ابن مسعود وقتادة. قال النحاس: وهذا قول حسن، ويدل على صحته: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه (2) " [ الحج: 11 ]. وقال علماء الصوفية: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم تصح له أحوال الارادة بدءا، فارتقى من (1) راجع ج 15 ص 67. (2) ج 12 ص 17. (*)
[ 224 ]
تلك الاحوال بالدعاوي إلى أحوال الاكابر، كأن تضئ عليه أحوال الارادة لو صححها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوي أذهب الله عنه تلك الانوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها. وروي عن ابن عباس أن المراد اليهود، لما نصر النبي صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية، فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا، وهذا ضعيف. والآية في المنافقين، وهذا أصح عن ابن عباس، والمعنى يتناول الجميع. قوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) " لو " حرف تمن وفيه معنى الجزاء، وجوابه اللام. والمعنى: ولو شاء الله لاطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الاسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا، أو لانهما أشرف ما في الانسان. وقرئ " بأسماعهم " على الجمع، وقد تقدم الكلام في هذا (1). قوله تعالى: (إن الله على كل شئ قدير) عموم، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه. وأجمعت الامة على تسمية الله تعالى بالقدير، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر. والقدير أبلغ في الوصف من القادر، قاله الزجاجي. وقال الهروي: والقدير والقادر بمعنى واحد، يقال: قدرت على الشئ أقدر قدرا وقدرا ومقدرة ومقدرة وقدرانا، أي قدرة. والاقتدار على الشئ: القدرة عليه. فالله عزوجل قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم. فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره. ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته. وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها، لانه تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والاخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك. والله أعلم. فهذه عشرون آية على عدد الكوفيين، أربع آيات في وصف المؤمنين، ثم تليها آيتان في ذكر الكافرين، وبقيتها في المنافقين. وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج، وقاله مجاهد أيضا. (1) راجع المسألة الثامنة ص 190 من هذا الجزء. (*)
[ 225 ]
قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) قوله سبحانه وتعالى: (يأيها الناس اعبدوا ربكم) قال علقمة ومجاهد: كل آية أولها " يأيها الناس " فإنما نزلت بمكة، وكل آية أولها " يأيها الذين آمنوا " فإنما نزلت بالمدينة. قلت: وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما يأيها الناس. وأما قولهما في " يأيها الذين آمنوا " [ النساء: 19 ] فصحيح. وقال عروة بن الزبير: ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الامم والعذاب فإنه نزل بمكة. وهذا واضح. و " يا " في قوله: " يأيها " حرف نداء " أي " منادى مفرد مبني على الضم، لانه منادي في اللفظ، و " ها " للتنبيه. " الناس " مرفوع صفة لاي عند جماعة النحويين، ما عدا المازني فإنه أجاز النصب قياسا على جوازه في: يا هذا الرجل. وقيل: ضمت " أي " كما ضم المقصود المفرد، وجاءوا ب " ها " عوضا عن ياء أخرى، وإنما لم يأتوا بياء لئلا ينقطع الكلام فجاءوا ب " ها " حتى يبقى الكلام متصلا. قال سيبويه: كأنك كررت " يا " مرتين وصار الاسم بينهما، كما قالوا: ها هو ذا. وقيل لما تعذر عليهم الجمع بين حرفي تعريف أتوا في الصورة بمنادي مجرد عن حرف تعريف، وأجروا عليه المعرف باللام المقصود بالنداء، والتزموا رفعه، لانه المقصود بالنداء، فجعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشرها النداء تنبيها على أنه المنادي، فاعلمه. واختلف من المراد بالناس هنا على قولين: أحدهما: الكفار الذين لم يعبدوه، يدل عليه قوله " وإن كنتم في ريب " [ البقرة: 23 ]. الثاني - أنه عام في جميع الناس، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة، وللكافرين بابتدائها. وهذا حسن. قوله تعالى: " اعبدوا " أمر بالعبادة له. والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه. وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبدة إذا كانت موطوءة بالاقدام.
[ 226 ]
قال طرفة: * وظيفا وظيفا فوق مور معبد * (1) والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك. وعبدت فلانا: اتخذته عبدا. قوله تعالى: (الذي خلقكم) خص تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعا لهم. وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم. وفي أصل الخلق وجهان: أحدهما: التقدير، يقال: خلقت الاديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع، قال الشاعر: (2) ولانت تفري ما خلقت وبع * - ض القوم يخلق ثم لا يفري وقال الحجاج: ما خلقت إلا فريت، ولا وعدت إلا وفيت. الثاني: الانشاء والاختراع والابداع، قال الله تعالى: " وتخلقون إفكا " (3) [ العنكبوت: 17 ]. قوله تعالى: (والذين من قبلكم) فيقال إذا ثبت عندهم خلقهم ثبت عندهم خلق غيرهم، فالجواب: أنه إنما يجري الكلام على التنبيه والتذكير ليكون أبلغ في العظة، فذكرهم من قبلهم ليعلموا أن الذي أمات من قبلهم وهو خلقهم يميتهم، وليفكروا فيمن مضى قبلهم كيف كانوا، وعلى أي الامور مضوا من إهلاك من أهلك، وليعلموا أنهم يبتلون كما ابتلوا. والله أعلم. قوله تعالى: (لعلكم تتقون) " لعل " متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لان من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي. وهذا وما كان مثله فيما ورد في كلام الله تعالى من قوله: " لعلكم تعقلون، لعلكم تشكرون، لعلكم تذكرون، لعلكم تهتدون " فيه ثلاث تأويلات. (1) صدر البيت: * تبارى عناقا ناجيات أتبعت * تبارى: تعارض، يقال: هما يتباريان في السير، إذا فعل هذا شيئا فعل هذا مثله. والعتاق: الكرام من الابل البيض. والناجيات: السراع. والوظيف: عظم الساق. وقوله: أتبعت وظيفا وظيفا، أي اتبعت هذه الناقة وظيف رجلها وظيف يدها، ويستحب من الناقة أن تجعل رجلها في موضع يدها إذا سارت. والمسور: الطريق (عن شرح المعلقات). (2) هو زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان. يقول: أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته. وغيرك يقدر ما لا يقطعه، لانه ليس بماضي العزم وأنت مضاء على ما عزمت عليه. (عن اللسان). (3) راجع ج 13 ص 335 (*)
[ 227 ]
الاول: أن " لعل " على بابها من الترجي والتوقع، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، فكأنه قيل لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا. هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان قال سيبويه في قوله عزوجل: " اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " (1) [ طه: 43 - 44 ] قال معناه: اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى. واختار هذا القول أبو المعالي. الثاني - أن العرب استعملت " لعل " مجردة من الشك بمعنى لام كي. فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا، وعلى ذلك يدل قول الشاعر: وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم * كلمع سراب في الملا متألق المعنى: كفوا الحروب لنكف، ولو كانت " لعل " هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق، وهذا القول عن قطرب والطبري. الثالث - أن تكون " لعل " بمعنى التعرض للشئ، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لان تعقلوا، أو لان تذكروا أو لان تتقوا. والمعنى في قوله " لعلكم تتقون " أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار. وهذا من قول العرب: اتقاه بحقه إذا استقبله به، فكأنه جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة، ومنه قول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أي جعلناه وقاية لنا من العدو. وقال عنترة: ولقد كررت المهر يدمى نحره * حتى اتقتني الخيل بابني حذيم قوله تعالى: الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22) (1) راجع ج 11 ص 199. (*)
[ 228 ]
قوله تعالى: (الذي جعل لكم الارض فراشا) فيه ست مسائل: الاولى - قوله تعالى: " الذي جعل " معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين: ويأتي بمعنى خلق، ومنه قوله تعالى: " جعل الله من (1) بحيرة ولا سائبة " [ المائدة: 103 ] وقوله: " وجعل الظلمات والنور " [ الانعام: 1 ] ويأتي بمعنى سمى، ومنه قوله تعالى: " حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه (2) قرآنا عربيا " [ الزخرف: 1 - 3 ]. وقوله: " وجعلوا (2) له من عباده جزءا " [ الزخرف: 15 ]. " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا (2) " [ الزخرف: 19 ] أي سموهم. ويأتي بمعنى أخذ، كما قال الشاعر: (3) وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة * لضغمهما ها يقرع العظم نابها وقد تأتي زائدة، كما قال الآخر: وقد جعلت أرى الاثنين أربعة * والواحد اثنين لما هدني الكبر وقد قيل في قوله تعالى " وجعل الظلمات والنور ": إنها زائدة. وجعل واجتعل بمعنى واحد، قال الشاعر: (4) ناط أمر الضعاف واجتعل اللي * - ل كحبل العادية الممدود " فراشا " أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها. وما ليس بفراش كالجبال والاوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها، لان الجبال كالاوتاد كما قال: " ألم نجعل (5) الارض مهادا. والجبال أوتادا " [ النبأ: 6 - 7 ]. والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال: " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " (6) [ البقرة: 164 ] الثانية - قال أصحاب الشافعي: لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الارض وجلس في الشمس لم يحنث، لان اللفظ لا يرجع إليهما عرفا. (1) راجع ج 6 ص 335. 386. (2) راجع ج 16 ص 61 و 69 و 71. (3) هو مغلس بن لقيط الاسدي. وصف شدة أصابه بها رجلان من قومه، فيقول: قد جعلت نفسي تطيب لاصابتهما بمثل الشدة التي أصاباني بها. وضرب الضغمة مثلا ثم وصف الضغمة فقال: يقرع العظم نابها. فجعل لها نابا على السعة. والمعنى: يصل الناب فيها إلى العظم فيقرعه. (عن شرح الشواد للشنتمزي). (4) هو أبو زبيد الطائي يرثى اللجلاج ابن أخته. يقول: جعل يسير الليل كله مستقيما كاستقامة حبل البئر إلى الماء. ناط: علق. والعادية: البئر القديمة. (عن اللسان). (5) راجع ج 19 ص 169. (6) راجع ج 2 ص 194. (*)
[ 229 ]
وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الايمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين، فإن عدم ذلك فالعرف. الثالثة - قوله تعالى: (والسماء بناء) السماء للارض كالسقف للبيت، ولهذا قال وقوله الحق " وجعلنا السماء سقفا محفوظا (1) " [ الانبياء: 32 ] وكل ما علا فأظل قيل له سماء، وقد تقدم القول (2) فيه والوقف على " بناء " أحسن منه على " تتقون "، لان قوله: " الذي جعل لكم الارض فراشا " نعت للرب. ويقال: بنى فلان بيتا، وبنى على أهله - بناء فيهما - أي زفها. والعامة تقول: بنى بأهله، وهو خطأ، وكأن الاصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها، فقيل لكل داخل بأهله: بان. وبنى (مقصورا) شدد للكثرة، وابتنى دارا وبنى بمعنى، ومنه بنيان الحائط، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت. وأصل الماء موه، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقلت ماه، فالتقى حرفان خفيان فأبدلت من الهاء همزة، لانها أجلد، وهي بالالف أشبه، فقلت: ماء، الالف الاولى عين الفعل، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء، وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين. قال أبو الحسن: لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين، وإن شئت بثلاث، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الاصل فقالوا: مويه وأمواه ومياه، مثل جمال وأجمال. الرابعة - قوله تعالى: (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) الثمرات جمع ثمرة. ويقال: ثمر مثل شجر. ويقال ثمر مثل خشب. ويقال: ثمر مثل بدن. وثمار مثل إكام جمع ثمر. وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الانعام " إن (3) شاء الله. وثمار السياط: عقد أطرافها. والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات، وأنواعا من النبات. " رزقا " طعاما لكم، وعلفا لدوابكم، وقد بين هذا قوله تعالى: " إنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الارض شقا. فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولانعامكم (4) " [ عبس: 25 - 32 ] وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى (5) والحمد لله. (1) راجع ج 11 ص 285 (2) راجع ص 216 من هذا الجزء. (3) راجع ج 7 ص 49 (4) راجع ج 19 ص 218 (5) راجع ص 177. 178 من هذا الجزء. (*)
[ 230 ]
فإن قيل: كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ؟ قيل له: لانها معدة لان تملك ويصح بها الانتفاع، فهي رزق. الخامسة - قلت: ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الانسان عن كل مخلوق، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى: (والله لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه). أخرجه مسلم. ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الاشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والامل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا. وقال علماء الصوفية: أعلم الله عزوجل في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن تجعل الارض وطاء والسماء غطاء، والماء طيبا والكلا طعاما، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عزوجل قد أتاح (1) لك ما لابد لك منه، من غير منة فيه لاحد عليك. وقال نوف البكالي: رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال: يا نوف، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الارض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام... وذكر باقي الخبر، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى: " أجيب دعوة الداع (2) " [ البقرة: 186 ] إن شاء الله تعالى. السادسة - قوله تعالى: (فلا تجعلوا) نهى. (لله أندادا) أي أكفاء وأمثالا ونظراء، واحدها ند، وكذلك قرأ محمد بن السميقع " ندا "، قال الشاعر: نحمد الله ولا ند له * عنده الخير وما شاء فعل وقال حسان: أتهجوه ولست له بند * فشركما لخيركما الفداء (1) في الاصول: (أباح) بالباء الموحدة، وهو تصحيف. (2) راجع ج 2 ص 308 (*)
[ 231 ]
ويقال: ند ونديد ونديدة على المبالغة، قال لبيد: ليكلا يكون السندري نديدتي * وأجعل أقواما عموما عماعما (1) وقال أبو عبيدة " أندادا " أضدادا. النحاس: " أندادا " مفعول أول، و " لله " في موضع الثاني. الجوهري: والند (بفتح النون): التل المرتفع في السماء. والند من الطيب ليس بعربي. وند البعير يند ندا وندادا وندودا: نفر وذهب على وجهه، ومنه قرأ بعضهم " يوم التناد (2) ". وندد به أي شهره وسمع به. السابعة - قوله تعالى: (وأنتم تعلمون) ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، والخطاب للكافرين والمنافقين، عن ابن عباس. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى. فالجواب من وجهين: أحدهما - " وأنتم تعلمون " يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الانداد. الثاني - أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والامكان لو تدبرتم ونظرتم، والله أعلم. وفي هذا دليل على الامر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد. وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد. قوله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب) أي في شك. (مما نزلنا) يعني القرآن، والمراد المشركون الذين تحدوا، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا: ما يشبه هذا كلام الله، (1) السندري: ابن يزيد الكلابي، شاعر كان مع علقمة بن علاثة، وكان لبيد مع عامر بن الطفيل، فدعى لبيد إلى مهاجاته فأبى وقال البيت. والعماعم: الجماعات المتفرقون. ومعنى الشطر الثاني: وأجعل أقواما مجتمعين فرقا. (عن شرح القاموس واللسان). (2) راجع ج 15 ص 311. (*)
[ 232 ]
وإنا لفي شك منه، فنزلت الآية. ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الاولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده. قوله: (على عبدنا) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل، فسمى المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه، قال طرفة: إلى أن تحامتني العشيرة كلها * وأفردت إفراد البعبر المعبد أي المذلل. قال بعضهم: لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط، سمى نبيه عبدا، وأنشدوا: يا قوم قلبي عند زهراء * يعرفه السامع والرائي لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي (فأتوا بسورة) الفاء جواب الشرط، ائتوا مقصور لانه من باب المجئ، قاله ابن كيسان. وهو أمر معناه التعجيز، لانه تعالى علم عجزهم عنه. والسورة واحدة السور. وقد تقدم الكلام فيها (1) وفي إعجاز (2) القرآن، فلا معنى للاعادة. " ومن " في قوله " من مثله " - زائدة، كما قال " فأتوا بسورة مثله " والضمير في " مثله " عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء، كقتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: يعود على التوراة والانجيل. فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه. وقيل: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى: من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ. فمن على هذين التأويلين للتبعيض والوقف على " مثله " ليس بتام، لان " وادعوا " نسق عليه. قوله تعالى: (وادعوا شهداءكم) معناه أعوانكم ونصراءكم. الفراء: آلهتكم. وقال ابن كيسان: فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا، أو ليخبروا بأمر شهدوه، وإنما قيل لهم: " فأتوا بسورة من مثله " ؟ فالجواب: أن (1) راجع ص 65 من هذا الجزء. (2) راجع ص 69 - 78 من هذا الجزء. (*)
[ 233 ]
المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم. قلت: هذا هو معنى قول مجاهد. قال مجاهد: معنى: " وادعوا شهداءكم " أي ادعوا ناسا يشهدون لكم، أي يشهدون أنكم عارضتموه. النحاس: " شهداءكم " نصب بالفعل جمع شهيد، يقال: شاهد وشهيد، مثل قادر وقدير. وقوله: (من دون الله) أي من غيره، ودون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفا. والدون: الحقير الخسيس، قال: إذا ما علا المرء رام العلاء * ويقنع بالدون من كان دونا ولا يشتق منه فعل، وبعضهم يقول منه: دان يدون دونا. ويقال: هذا دون ذاك، أي أقرب منه. ويقال في الاغراء بالشئ: دونكه. قالت تميم للحجاج: أقبرنا (1) صالحا - وكان قد صلبه - فقال: دونكموه. قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، لقولهم في آية أخرى: " لو نشاء لقلنا (2) مثل هذا " [ الانفال: 31 ] والصدق: خلاف الكذب، وقد صدق في الحديث. والصدق: الصلب من الرماح. ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق. ويقال: رجل صدق، كما يقال: نعم الرجل. والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود. قوله تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24) قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا) يعني فيما مضى (ولن تفعلوا) أي تطيقوا ذلك فيما يأتي. والوقف على هذا على " صادقين " تام. وقال جماعة من المفسرين: معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار. فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على " صادقين ". (1) أقبرنا، أي ائذن لنا في أن نقبره. وصالح: هو صالح بن عبد الرحمن مولى تميم، كان كاتبا للحجاج، ويرى رأى الخوارج. (2) راجع ج 7 ص 397 (*)
[ 234 ]
فإن قيل: كيف دخلت " إن " على " لم " ولا يدخل عامل على عامل ؟ فالجواب أن " إن " ها هنا غير عاملة في اللفظ فدخلت على " لم " كما تدخل على الماضي، لانها لا تعمل في " لم " كما لا تعمل في الماضي، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل. قوله تعالى " ولن تفعلوا " نصب بلن، ومن العرب من يجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة: * فلن (1) أعرض أبيت اللعن بالصفد * وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه: فقيل لي " لن ترع ". هذا على تلك اللغة. وفي قوله: " ولن تفعلوا " إثارة لهممهم، وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها. وقال ابن كيسان: " ولن تفعلوا " توقيفا لهم على أنه الحق، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر، وأنه أساطير الاولين، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله. وقوله: (فاتقوا النار) جواب " فإن لم تفعلوا " أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. وقد تقدم معنى التقوى (2) فلا معنى لاعادتها. ويقال: إن لغة تميم وأسد " فتقوا النار ". وحكى سيبويه: تقى يتقي، مثل قضى يقضي. " النار " مفعولة. " التي " من نعتها. وفيها ثلاث لغات: التي واللت (بكسر التاء) واللت (بإسكانها). وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة، ولا يجوز نزع الالف واللام منها للتنكير، ولا تتم إلا بصلة. وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا: اللتان واللتا (بحذف النون) واللتان (بتشديد النون). وفي جمعها خمس لغات: (1) رواية الديوان وهي المشهورة في مصادر الادب: (فلم أعرض). ويروي: (فما عرضت). وصدر البيت: * هذا الثناء فإن تسمع به حسنا * وقوله: أبيت اللعن. تحية كانوا يحيون بها الملوك. والصفد: العطاء، معناه: أبيت أن تأتي من الامور ما تلعن عليه وتذم. يقول: هذا الثناء الصحيح الصادق فمن الحق أن تقبله مني، فلم أمدحك متعرضا لعطائك، لكن امتدحتك إقرارا بفضلك. (عن شرح الديوان). (2) راجع ص 161 من هذا الجزء. (*)
[ 235 ]
اللاتي، وهي لغة القرآن. واللات (بكسر التاء بلا ياء). واللواتي. واللوات (بلا ياء)، وأنشد أبو عبيدة: من اللواتي واللتي واللاتي * زعمن أن قد كبرت لداتي واللوا (بإسقاط التاء)، هذا ما حكاه الجوهري. وزاد ابن الشجري: اللائي (بالهمز وإثبات الياء). واللاء (بكسر الهمزة وحذف الياء). واللا (بحذف الهمزة) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي وفي اللائي: اللوائي. قال الجوهري: وتصغير التي اللتيا (بالفتح والتشديد)، قال الراجز (1): بعد اللتيا واللتيا والتي * إذا علتها أنفس تردت وبعض الشعراء أدخل على " التي " حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الالف واللام إلا في قولنا: يا الله، وحده. فكأنه شبهها به من حيث كانت الالف واللام غير مفارقتين لها، وقال: من أجلك يا التي تيمت قلبي * وأنت بخيلة بالود عني ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما أسمان من أسماء الداهية. والوقود (بالفتح): الحطب. وبالضم: التوقد. و " الناس " عموم، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها، أجارنا الله منها. " والحجارة " هي حجارة الكبريت الاسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لانها تزيد على جميع الاحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالابدان، قوة حرها إذا حميت. وليس في قوله تعالى: " وقودها الناس والحجارة " دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها. وقيل: المراد بالحجارة الاصنام، لقوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب (2) جهنم " [ الانبياء: 98 ] أي حطب جهنم. وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار، وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس. (1) هو العجاج. وصف دواهي شنيعة. يقول: بعد الجهد والمشرف الذي أشرفت عليه. ومعنى تردت: سقطت هاوية وهلكت. (2) راجع ج 11 ص 343 (*)
[ 236 ]
وعلى التأويل الاول يكونون معذبين بالنار والحجارة. وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مؤذ في النار). وفي تأويله وجهان: أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار. الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة. والله أعلم. روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك ؟ قال: (نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح (1) - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الاسفل من النار). " وقودها " مبتدأ. " الناس " خبره. " والحجارة " عطف عليهم. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف: " وقودها " (بضم الواو). وقرأ عبيد بن عمير: " وقيدها الناس ". قال الكسائي والاخفش: الوقود (بفتح الواو): الحطب، و (بالضم): الفعل، يقال: وقدت النار تقد وقودا (بالضم) ووقدا وقدة [ ووقيدا (2) ووقدا ] ووقدانا، أي توقدت. وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا. والاتقاد مثل التوقد، والموضع موقد، مثل مجلس، والنار موقدة. والوقدة: شدة الحر، وهي عشرة أيام أو نصف شهر. قال النحاس: يجب على هذا ألا يقرأ إلا " وقودها " [ بفتح (3) الواو ] لان المعنى حطبها، إلا أن الاخفش قال: وحكى أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود بمعنى الحطب والمصدر. قال النحاس: وذهب إلى أن الاول أكثر، قال: كما أن الوضوء الماء، والوضوء المصدر. قوله تعالى: (أعدت للكافرين) ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالاحاديث الثابتة في الشفاعة، على ما يأتي. وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوفة، خلافا للمبتدعة في قولهم: إنها لم تخلق حتى الآن. وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الاندلسي. روى مسلم عن عبد الله (4) بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة (5)، (1) الضحضاح في الاصل: مارق من الماء على وجه الارض ما يبلغ الكعبين، واستعير للنار. (2) الزيادة عن هامش بعض نسخ الاصل. (3) الزيادة عن كتاب (إعراب القرآن للنحاس). (4) كذا في الاصول. وفي صحيح مسلم: (عن أبي هريرة). (5) الوجبة: صوت الشئ يسقط فيسمع له، كالهدة. (*)
[ 237 ]
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تدرون ما هذا) قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها). وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عزوجل لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها). وأخرجه مسلم (1) بمعناه. يقال: احتجت بمعنى تحتج، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود (2)، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف، ورأهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة، فلا معنى لما خالف ذلك. وبالله التوفيق. و " أعدت " يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة، وأضمرت معه قد، كما قال: " أو جاءوكم حصرت صدورهم (3) " [ النساء: 90 ] فمعناه قد حصرت صدورهم، فمع " حصرت " قد مضمرة لان الماضي لا يكون حالا إلا مع قد، فعلى هذا لا يتم الوقف على " الحجارة ". ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله، كما قال: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم (4) " [ فصلت: 23 ]. وقال السجستاني: " أعدت للكافرين " من صلة " التي " كما قال في آل عمران: " واتقوا النار التي أعدت للكافرين (5) " [ آل عمران: 131 ]. ابن الانباري: وهذا غلط، لان التي في سورة البقرة قد وصلت بقوله: " وقودها الناس " فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية، وفي آل عمران ليس لها صله غير " أعدت ". قوله تعالى: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25) (1) بمراجعة صحيحي البخاري ومسلم وجدنا أن الرواية لمسلم، وأخرجه البخاري بمعناه. (2) يلاحظ أن راوي الحديث المتقدم في صحيحي مسلم والبخاري أبو هريرة. (3) راجع ج 5 ص 309. (4) راجع ج 15 ص 353. (5) راجع ج 4 ص 202. (*)
[ 238 ]
قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا) فيه ثلاث مسائل: الاولى - لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا. والتبشير الاخبار بما يظهر أثره على البشرة - وهي ظاهر الجلد - لتغيرها بأول خبر يرد عليك، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا. ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى " فبشرهم بعذاب أليم " [ الانشقاق: 24 ]. ويقال: بشرته وبشرته - مخفف ومشدد - بشارة (بكسر الباء) فأبشر واستبشر. وبشر يبشر إذا فرح. ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة (بفتح الباء). والبشرى: ما يعطاه المبشر. وتباشير الشئ: أوله. الثانية - أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني. واختلفوا إذا قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الاول، فقال أصحاب الشافعي: نعم، لان كل واحد منهم مخبر. وقال علماؤنا: لا، لان المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالاول، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه. وفرق محمد ابن الحسن بين قوله: أخبرني، أو حدثني، فقال: إذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا، أو أعلمني بكذا وكذا فهو حر - ولا نية له - فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق، لان هذا خبر. وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق، لانه قال: أي غلام أخبرني فهو حر. ولو أخبروه كلهم عتقوا، وإن كان عنى - حين حلف - بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر. قال: وإذا قال أي غلام لي حدثني، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم. الثالثة - قوله تعالى: (وعملوا الصالحات) رد على من يقول: إن الايمان بمجرده يقتضي الطاعات، لانه لو كان ذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالايمان والعمل الصالح. وقيل: الجنة تنال بالايمان، والدرجات تستحق بالاعمال الصالحات. والله أعلم.
[ 239 ]
(أن لهم) في موضع نصب ب " - بشر " والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم، أو لان لهم، فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقال الكسائي وجماعة من البصريين: " أن " في موضع خفض بإضمار الباء. (جنات) في موضع نصب اسم " أن "، " وأن وما عملت فيه في موضع المفعول الثاني. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لانها تجن من فيها أي تستره بشجرها، ومنه: المجن والجنين والجنة. (تجرى) في موضع النعت لجنات وهو مرفوع، لانه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. (من تحتها) أي من تحت أشجارها، ولم يجر لها ذكر، لان الجنات دالة عليها. (الانهار) أي ماء الانهار، فنسب الجري إلى الانهار توسعا، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا، كما قال تعالى: " واسئل القرية (1) " [ يوسف: 82 ] أي أهلها. وقال الشاعر: (2) نبئت أن النار بعدك أوقدت * واستب بعدك يا كليب المجلس أراد: أهل المجلس، فحذف. والنهر: مأخوذ من أنهرت، أي وسعت، ومنه قول قيس ابن الخطيم: ملكت (3) بها كفي فأنهرت فتقها * يرى قائم من دونها ما وراءها أي وسعتها، يصف طعنة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه). معناه: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر. وجمع النهر: نهر وأنهار. ونهر نهر: كثير الماء، قال أبو ذؤيب: أقامت به فابتنت خيمة * على قصب وفرات نهر (4) (1) راجع ج 9 ص 246 (2) هو مهلهل أخو كليب. (3) ملكت: أي شددت وقويت. (4) قال الاصمعي: (قصب البطحاء مياه تجري إلى عيون الركايا (الآبار). يقول: أقامت بين قصب أي ركايا وماء عذب، وكل فرات فهو عذب). (عن اللسان وشرح الديوان). (*)
[ 240 ]
وروي: أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها. والوقف على " الانهار " حسن وليس بتام، لان قوله: (كلما رزقوا منها من ثمرة) من وصف الجنات. (رزقا) مصدره، وقد تقدم القول في الرزق (1). ومعنى (من قبل) يعني في الدنيا، وفيه وجهان: أحدهما - أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا. والثاني - هذا الذي رزقنا الدنيا، لان لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل: " من قبل " يعني في الجنة لانهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار، لان لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الاول. (وأتوا) فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الاعور " وأتوا " بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الاولى لاهل الجنة، وفي الثانية للخدام. (به متشابها) حال من الضمير في " به "، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شئ مما في الجنة سوى الاسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها. وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: " كتابا متشابها " [ الزمر: 23 ] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه، لان فيها خيارا وغير خيار. (ولهم فيها أزواج) ابتداء وخبر. وأزواج: جمع زوج. والمرأة: زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. قال الاصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة. وحكى الفراء أنه يقال: زوجة، وأنشد الفرزدق: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي * كساع إلى أسد الشرى يستبيلها (2) (1) راجع ص 177 من هذا الجزء. (2) الشرى: مأسدة جانب الفرات يضرب بها المثل. يتبيلها ؟: أي يأخذ بولها في يده. (*)
[ 241 ]
وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: والله إني لاعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم. ذكره البخاري، واختاره الكسائي. (مطهرة) نعت للازواج. ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات. ذكر عبد الرازق قال أخبرني الثوري عن ابن أبى نجيح عن مجاهد: " مطهرة " قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن. وقد أتينا على هذا كله في وصف أهل الجنة وصفة الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة. والحمد لله. (وهم فيها خالدون) " هم " مبتدأ. " خالدون " خبره، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال. والخلود: البقاء ومنه جنة الخلد. وقد تستعمل مجازا فيما يطول، ومنه قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه أي طوله. قال زهير: ألا لا أرى على الحوادث باقيا * ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة. قوله تعالى: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26) قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا) قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " [ البقرة: 17 ] وقوله: " أو كصيب من السماء " [ البقرة: 19 ] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الامثال، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: " وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه (1) منه " [ الحج: 73 ] وذكر كيد الآلهة (1) راجع ج 12 ص 97 (*)
[ 242 ]
فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شئ يصنع ؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية. و " ويستحيي " أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل في هذا: مستحي، والجمع مستحيون ومستحيين. وقرأ ابن محيصن " يستحي " بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة، وروى عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر ابن وائل، نقلت فيها حركة الياء الاولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء، واسم الفاعل مستح، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأولون في معنى " يستحيي " في هذه الآية فقيل: لا يخشى، ورجحه الطبري، وفي التنزيل: " وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه (1) " [ الاحزاب: 37 ] بمعنى تستحي. وقال غيره: لا يترك. وقيل: لا يمتنع. وأصل الاستحياء الانقباض عن الشئ والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره. قوله تعالى: " أن يضرب مثلا ما " " يضرب " معناه يبين، و " أن " مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. " مثلا " منصوب بيضرب " بعوضة " في نصبها أربعة أوجه: الاول - تكون " ما " زائدة، و " بعوضة " بدلا من " مثلا ". الثاني - تكون " ما " نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: " مثلا ". و " بعوضة " نعت لما، فوصفت " ما " بالجنس المنكر لابهامها لانها بمعنى قليل، قاله الفراء والزجاج وثعلب. (1) راجع ج 14 ص 190 (*)
[ 243 ]
الثالث - نصبت على تقدير إسقاط الجار، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة، فحذفت " بين " وأعربت بعوضة بإعرابها، والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفراء أيضا، وأنشد أبو العباس: يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم * ولا حبال محب واصل تصل أراد ما بين قرن، فلما أسقط " بين " نصب. الرابع - أن يكون " يضرب " بمعنى يجعل، فتكون " بعوضة " المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج " بعوضة " بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن " ما " اسم بمنزلة الذي، و " بعوضة " رفع على إضمار المبتدأ، التقدير: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: " تماما على الذي أحسن " أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل. قال النحاس: والحذف في " ما " أقبح منه في " الذي "، لان " الذي " إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال: إن معنى ضربت له مثلا، مثلت له مثلا. وهذه الابنية على ضرب واحد، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع. والبعوضة: فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال: بضع وبعض بمعنى، وقد بعضته تبعيضا، أي جزأته فتبعض. والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها. قاله الجوهري وغيره. قوله تعالى: (فما فوقها) قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى، ومن جعل " ما " الاولى صلة زائدة ف " - ما " الثانية عطف عليها. وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: معنى " فما فوقها " - والله أعلم - ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا ؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى. وقال قتادة وابن جريج: المعنى في الكبر. والضمير في " أنه " عائد على المثل أي أن المثل حق. (1) قال الدميري: (هو وهم). وذكر البعوض بأوصافها. ويدل على أن البعوض غير البق ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة.. " الحديث. (*)
[ 244 ]
والحق خلاف الباطل. والحق: واحد الحقوق. والحقة (بفتح الحاء) أخص منه، يقال: هذه حقتي، أي حقي. قوله تعالى: (وأما الذين كفروا) لغة بني تميم وبني عامر في " أما " أيما، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت * فيضحى وأيما بالعشي فيخصر (1) قوله تعالى: (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) اختلف النحويون في " ماذا "، فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شئ أراد الله، فيكون في موضع نصب ب " - أراد ". قال ابن كيسان: وهو الجيد. وقيل: " ما " اسم تام في موضع رفع بالابتداء، و " ذا " بمعنى الذي وهو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراده الله بهذا مثلا، ومعنى كلامهم هذا: الانكار بلفظ الاستفهام. و " مثلا " منصوب على القطع، التقدير: أراد مثلا، قاله ثعلب. وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال. قوله تعالى: (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا) قيل: هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى. وقيل: بل هو خبر من الله عزوجل، وهو أشبه، لانهم يقرون بالهدى أنه من عنده، فالمعنى: قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي يوفق ويخذل، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا: ومعنى " يضل به كثيرا " التسمية هنا، أي يسميه ضالا، كما يقال: فسقت فلانا، يعني سميته فاسقا، لان الله تعالى لا يضل أحدا. هذا طريقهم في الاضلال، وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة، لانه يقال: ضلله إذا سماه ضالا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالا، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم. ولا خلاف أن قوله: (1) الخصر (بالتحريك): البرد. (*)
[ 245 ]
" وما يضل به إلا الفاسقين " أنه من قول الله تعالى. و " الفاسقين " نصب بوقوع الفعل عليهم، والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لان الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام. وقال نوف البكالي: قال عزير فيما يناجي ربه عزوجل: إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل: يا عزير أعرض عن هذا ! لتعرضن (1) عن هذا أو لامحونك من النبوة، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. والضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: " أئذا ضللنا في الارض (2) " [ السجدة: 10 ] وقد تقدم في الفاتحة (3). والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشئ، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها. والفويسقة: الفأرة، وفي الحديث: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الابقع والفأرة والكلب العقور والحديا). روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم. وفي رواية (العقرب) مكان (الحية). فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لاذيتها، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا - عن الاخفش - فسقا وفسوقا، أي فجر. فأما قوله تعالى: " ففسق عن أمر ربه " فمعناه خرج. وزعم ابن الاعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم (4) فاسق. قال: وهذا عجب، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري. قلت: قد ذكر أبو بكر الانباري في كتاب " الزاهر " له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر: يذهبن في نجد وغورا (5) غائرا * فواسقا عن قصدها جوائرا (1) في نسخة من الاصل: أعرض عن هذا وإلا محوتك من النبوة. (2) راجع ج 14 ص 91 (3) راجع ص 150 (4) أي بمعنى الخارج من طاعة الله، وهو بهذا المعنى حقيقة شرعية. (5) غورا، منصوب بفعل محذوف، أي ويسلكن. (راجع كتاب سيبويه ج 1 ص 49 طبع بولاق). (*)
[ 246 ]
والفسيق: الدائم الفسق. ويقال في النداء: يا فسق ويا خبث، يريد: يأيها الفاسق، ويأيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عزوجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان. قوله تعالى: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون (27) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (الذين) " الذين " في موضع نصب على النعت للفاسقين، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتدا محذوف، أي هم الذين. وقد تقدم (1). الثانية - قوله تعالى: (ينقضون) النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنقاضة. ما نقض من حبل الشعر. والمناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه. والنقيضة في الشعر: ما ينقض به. والنقض: المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد، فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره. وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به. وقيل: بل نصب الادلة على وحدانيته بالسموات والارض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم ترك النظر في ذلك. وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده عزوجل ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك: " وإذ أخذ الله ميثاق (2) النبيين " [ آل عمران: 81 ] إلى قوله تعالى: " وأخذتم على ذلكم إصري " [ آل عمران: 81 ] أي عهدي. قلت: وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها. (1) راجع ص 162 من هذا الجزء. (2) راجع ج 4 ص 124 (*)
[ 247 ]
الثالثة - قوله تعالى: (من بعد ميثاقه) الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مفعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الاصل، لان أصل ميثاق موثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها - والمياثق والمياثيق أيضا، وأنشد ابن الاعرابي: حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا * ولا نسأل الاقوام عهد (1) المياثق والموثق: الميثاق. والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: " وميثاقه الذي واثقكم به ". الرابعة - قوله تعالى: (ويقطعون) القطع معروف، والمصدر - في الرحم - القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطع وقطعة، مثال همزة. وقطعت الحبل قطعا. وقطعت النهر قطوعا. وقطعت الطير قطوعا وقطاعا وقطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناس قطعة: إذا قلت مياههم. ورجل به قطع: أي انبهار (2). الخامسة - قوله تعالى: (ما أمر الله به أن يوصل) " ما " في موضع نصب ب " - يقطعون ". و " أن " إن شئت كانت بدلا من " ما " وإن شئت من الهاء في " به " وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل، أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشئ الذي أمر بوصله ؟ فقيل: صلة الارحام. وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم. وقيل: الاشارة إلى دين الله وعبادته في الارض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور، والرحم جزء من هذا. السادسة - قوله تعالى: (ويفسدون في الارض) أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الافعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد. (1) في اللسان وشرح القاموس مادة (وثق): (عقد الميثاق) والبيت لعياض بن درة الطائي. (2) البهر (بالضم): تتابع النفس من الاعياء. وقيل انقطاعه. (*)
[ 248 ]
(أولئك هم الخاسرون) ابتداء وخبر. و " هم " زائدة، ويجوز أن تكون " هم " ابتداء ثان، " الخاسرون " خبره، والثاني وخبره خبر الاول كما تقدم (1). والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره، قال جرير: إن سليطا في الخسار إنه * أولاد قوم خلقوا أقنه (2) يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وخسرت الشئ (بالفتح) وأخسرته نقصته. والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر، لانه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزله من الجنة. السابعة - في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى من نقض عهده. وقد قال: " أوفوا (3) بالعقود " [ المائدة: 1 ] وقد قال لنبيه عليه السلام: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " [ الانفال: 58 ] فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه (4) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) " كيف " سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب ب " - تكفرون "، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة، لان فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لاهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله ؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد (1) راجع ص 181 من هذا الجزء. (2) سليط. أبو قبيلة والقن: الذي ملك هو وأبواه. (3) راجع ج 6 ص 32 (4) راجع ج 8 ص 31 (*)
[ 249 ]
أشركوا، لانهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد. وقيل: " كيف " لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه ! قال الواسطي: وبخهم بهذا غاية التوبيخ، لان الموات والجماد لا ينازع صانعه في شئ، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية. قوله تعالى: (وكنتم أمواتا) هذه الواو واو الحال، وقد مضمرة. قال الزجاج: التقدير وقد كنتم، ثم حذفت قد. وقال الفراء: " أمواتا " خبر " كنتم ". " فأحياكم ثم يميتكم " هذا وقف التمام، كذا قال أبو حاتم. ثم قال: " ثم يحييكم " واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من موتة وحياة للانسان ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم - أي خلقكم - ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لاقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للاحياء في الدنيا، ثم للاماتة فيها قوي عليهم لزوم الاحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا. وقيل: لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا. وقيل: كنتم أمواتا في ظهر آدم، ثم أخرجكم من ظهره كالذر، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل: كنتم أمواتا - أي نطفا - في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم نقلكم من الارحام فأحياكم، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر، وهي الحياة التي ليس بعدها موت. قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فعلى هذا تجئ أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات. وموتة سادسة
[ 250 ]
للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار، لحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يأهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل). فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية (1). أخرجه مسلم. قلت: فقوله (فأماتهم الله) حقيقة في الموت، لانه أكده بالمصدر، وذلك تكريما لهم. وقيل: يجوز أن يكون (أماتهم) عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة، والاول أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وإنما هو على الحقيقة، ومثله: " وكلم الله موسى تكليما " [ النساء: 164 ] على ما يأتي بيانه (2) إن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذكركم، ثم يحييكم للبعث. قوله تعالى: (ثم إليه ترجعون) أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم. وقيل: إلى الحياة وإلى المسألة، كما قال تعالى: " كما بدأنا أول خلق نعيده (3) " [ الانبياء: 104 ] فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع. و " ترجعون " قراءة الجماعة. ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام ابن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت. قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم (29) (1) الذي في صحيح مسلم: (.. قد كان بالبادية). والضبائر: هم الجماعات في تفرقة، واحدتها ضبارة، مثل عمارة وعمائر، وكل مجتمع ضبارة. والحبة (بالكسر): بذور البقل. وقيل هو نبت صغير ينبت في الحشيش، فأما الحبة (بالفتح) فهي الحنطة والشعير ونحوهما. وحميل السيل: هو ما يجئ به السيل من الغثاء. (2) راجع ج 6 ص 18 (3) راجع ج 11 ص 348 (*)
[ 251 ]
قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا) فيه عشر مسائل: الاولى: " خلق " معناه اخترع وأوجد بعد العدم. وقد يقال في الانسان: " خلق " عند إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر: من كان يخلق ما يقو * ل فحيلتي فيه قليله وقد تقدم (1) هذا المعنى. وقال ابن كيسان: " خلق لكم " أي من أجلكم. وقيل: المعنى أن جميع ما في الارض منعم به عليكم فهو لكم. وقيل: إنه دليل على التوحيد والاعتبار. قلت: وهذا هو الصحيح على ما نبينه. ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الاشياء. الثانية - استدل من قال إن أصل الاشياء التي ينتفع بها الاباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله: " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه (2) " [ الجاثية: 13 ] الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا، فلا بد لها من منفعة. وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شئ من تلك الامور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لانا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لانه لا يجب عليه أصل المنفعة، بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين. ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر. وتوقف آخرون وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الاقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه (1) راجع ص 226 من هذا الجزء. (2) راجع ج 16 ص 160 (*)
[ 252 ]
المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الامور على ما هي عليه. قال ابن عطية: وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، ولا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به، أو لها حال تستصحب. قال: فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف. الثالثة - الصحيح في معنى قوله تعالى: " خلق لكم ما في الارض " الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الاحياء والاماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السموات والارض، لا تبعد منه القدرة على الاعادة. فإن قيل: إن معنى " لكم " الانتفاع، أي لتنتفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا. فان قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات، قلنا: قد يتذكر الانسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للايمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الاخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته. وقال أرباب المعاني في قوله: " خلق لكم ما في الارض جميعا " لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد. الرابعة - روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عندي شئ ولكن ابتع علي فإذا جاء شئ قضينا) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان
[ 253 ]
عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الانصار: يا رسول الله، * أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا * فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف السرور في وجهه لقول الانصاري. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بذلك أمرت). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الاقلال من سوء الظن بالله، لان الله تعالى خلق الارض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: " خلق لكم ما في الارض جميعا " " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه " [ الجاثية: 13 ]. فهذه الاشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الاقلال لانه يخلف عليه، كما قال تعالى: " وما أنفقتم من شئ فهو يخلقه وهو خير الرازقين (1) " [ سبأ: 39 ] وقال: " فإن ربي (2) غني كريم " [ النمل: 40 ]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: " سبقت رحمتي غضبي يا بن آدم أنفق أنفق عليك يمين الله ملاى (3) سحا لا يغيضها شئ الليل والنهار). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الائمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الاقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الاقلال من له مشيئة في الاشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئة في شئ خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الامر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (انفحي أو انضحي (4) أو أنفقي ولا تحصى فيحصى الله عليك ولا توعى (5) فيوعى عليك). وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي (1) راجع ج 14 ص 307 (2) راجع ج 13 ص 206 (3) أي دائمة الصب والهطل بالعطاء. (4) قال النووي: (والنفح والنضح العطاء، ويطلق النضح أيضا على الصب فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح). (5) الايعاء: جعل الشئ في الوعاء، أي لا ؟ تجمعي وتشحى بالنفقة فيشح عليك. (*)
[ 254 ]
سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت له بشئ ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريدين ألا يدخل بيتك شئ ولا يخرج إلا بعلمك) قلت: نعم، قال: (مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عزوجل عليك). الخامسة: قوله تعالى: " ثم استوى " " ثم " لترتيب الاخبار لا لترتيب الامر في نفسه. والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشئ، قال الله تعالى: " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك " [ المؤمنون: 28 ]، وقال " لتستووا على ظهوره " [ الزخرف: 13 ]، وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة * وقد حلق النجم اليماني فاستوى أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي، بمعنى علا. وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الائمة، وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: " الرحمن على العرش (1) استوى " [ طه: 5 ] قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء ! أخرجوه. وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة. وقال بعضهم: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها. وقال الفراء في قوله عزوجل: " ثم استوى إلى السماء فسواهن " قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين، أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان (2) فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني. على معنى أقبل إلي وعلي. فهذا معنى قوله: " ثم استوى إلى السماء " والله أعلم. قال وقد قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء صعد. وهذا كقولك: كان قاعدا فاستوى قائما، وكان قائما فاستوى قاعدا، وكل ذلك في كلام العرب جائز. وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين: قوله: (1) راجع ج 11 ص 169 (2) عبارة الاصول: (... كان مقبلا على يشاتمني وإلي سواء، على معنى.. الخ) وبها لا يستقيم المعنى. والتصويب عن اللسان وشرح القاموس وتفسير الطبري. (*)
[ 255 ]
" استوى " بمعنى أقبل صحيح، لان الاقبال هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الارادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة " ثم " تتعلق بالخلق لا بالارادة. وأما ما حكى عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف. وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله " ثم استوى إلى السماء ": قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول. وقيل: على دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري. ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر: (1) قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق قال ابن عطية: وهذا إنما يجئ في قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " [ طه: 5 ]. قلت: قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة " الاعراف (2) " إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة. السادسة - يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الارض قبل السماء، وكذلك في " حم السجدة (3) ". وقال في النازعات: " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (4) " [ النازعات: 27 ] فوصف خلقها، ثم قال: " والارض بعد ذلك دحاها " [ النازعات: 30 ]. فكأن السماء على هذا خلقت قبل الارض، وقال تعالى " الحمد لله الذي خلق السموات والارض (5) " [ الانعام: 1 ] وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أولا، حكاه عنه الطبري. وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتقع، فجعله سماء فصار خلق الارض قبل خلق السماء، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا (6) الارض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مدحوة. (1) هو الاخطل كما في شرح القاموس. (2) راجع ج 7 ص 219. (3) راجع ج 15 ص 343. (4) راجع ج 19 ص 201. (5) راجع ج 6 ص 384. (6) دحا الشئ: بسطه. (*)
[ 256 ]
قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الارض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الارض بعد ذلك. ومما (1) يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الارض ما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عزوجل: " هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " [ البقرة: 29 ] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الاحد والاثنين. فجعل الارض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: " ن والقلم (2) " [ القلم: 1 ] والحوت في الماء و [ الماء (3) ] على صفاة (4)، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الارض - فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الارض، فأرسل عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الارض، وذلك قوله تعالى: " وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم (5) " [ النحل: 15 ] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والاربعاء، وذلك حين يقول: " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (6) " [ فصلت: 9، 10 ] يقول: من سأل فهكذا الامر، " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لانه جمع (1) يلاحظ أن المؤلف رحمه الله خرج عما سنه في مقدمته لهذا الكتاب من إضرابه عن هذا القصص وأمثاله مما ملئت به كتب التفسير الاخرى والذي لا يتمشى مع روح الدين الاسلامي، فجل من له العصمة. (2) راجع ج 18 ص 223. (3) تكملة عن تفسير الطبري وتاريخه. (4) الصفاة: العريض من الحجارة الاملس. (5) راجع ج 10 ص 90. (6) راجع ج 15 ص 342. (*)
[ 257 ]
فيه خلق السموات والارض، " وأوحى في كل سماء أمرها " [ فصلت: 12 ] قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، قال فذلك حين يقول: " خلق السموات والارض في ستة أيام " [ الحديد: 4 ] ويقول: " كانتا رتقا ففتقناهما (1) " [ الانبياء: 30 ] وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى. وروى وكيع عن الاعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله عزوجل من شئ " القلم " فقال له اكتب. فقال: يا رب وما اكتب ؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال: ثم خلق النون فدحا الارض عليها، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات، واضطرب النون فمادت الارض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال تفخر على الارض إلى يوم القيامة. ففي هذه الرواية خلق الارض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان، خلاف الرواية الاولى. والرواية الاولى عنه وعن غيره أولى، لقوله تعالى: " والارض بعد ذلك دحاها (2) " [ النازعات: 30 ] والله أعلم بما فعل، فقد اختلفت فيه الاقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل. وذكر أبو نعيم عن كعب الاحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الارض كلها، فألقى في قلبه، فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الامم والشجر والدواب والناس والجبال ! لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع. قال: فهم لوثيا بفعل ذلك، فبعث الله دابة فدخلت في منخره، فعج إلى الله منها فخرجت. قال كعب: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشئ من ذلك عادت حيث كانت. السابعة - أصل خلق الاشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجه في سننه، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبى هريرة قال قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن كل شئ. قال: (كل شئ خلق من الماء) فقلت: أخبرني عن (1) راجع ج 11 ص 282 (2) راجع ج 19 ص 202 (*)
[ 258 ]
شئ إذا عملت به دخلت الجنة. قال: (أطعم الطعام وأفش السلام وصل الارحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام). قال أبو حاتم قول أبي هريرة: " أنبئني عن كل شئ " أراد به عن كل شئ خلق من الماء. والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال: (كل شئ خلق من الماء) وإن لم يكن مخلوقا. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول شئ خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شئ يكون) ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا. قال البيهقي: وإنما أراد - والله أعلم - أول شئ خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش " القلم ". وذلك بين في حديث عمران بن حصين، ثم خلق السموات والارض. وذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الاعرج عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله: مم خلق الخلق ؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء ؟ قال: لا أدري. قال: ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو. قال: فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله، فقال: مم خلق الخلق ؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء ؟ فتلا عبد الله بن عباس: " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه (1) " [ الجاثية: 13 ] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه، أي من خلقه وإبداعه واختراعه. خلق الماء أولا، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق، ثم جعله أصلا لما خلق بعد، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه، سبحانه عزوجل. الثامنة - قوله تعالى: " فسواهن سبع سموات " ذكر تعالى أن السموات سبع. ولم يأت للارض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: " ومن الارض مثلهن (2) " [ الطلاق: 12 ] وقد اختلف فيه، فقيل: ومن الارض مثلهن أي في العدد، لان الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والاخبار، فتعين العدد. وقيل: " ومن الارض مثلهن " أي في غلظهن (1) راجع ج 16 ص 160 (2) راجع ج 18 ص 174 (*)
[ 259 ]
وما بينهن. وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض، قال الداودي. والصحيح الاول، وأنها سبع كالسموات سبع. روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبرا من الارض ظلما طوقه إلى سبع أرضين). وعن عائشة رضي الله عنها مثله، إلا أن فيه " من " بدل " إلى ". ومن حديث أبي هريرة: (لا يأخذ أحد شبرا من الارض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين [ يوم القيامة (1) ] ". وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والارضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله). وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون ما هذا) فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (هذا العنان هذه روايا الارض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها الرقيع (2) سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (بينكم وبينها [ مسيرة (3) ] خمسمائة عام - ثم قال: - هل تدرون ما فوق ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ([ فإن فوق (3) ذلك ] سماءين بعد ما بينهما [ مسيرة (3) ] خمسمائة سنة) ثم قال كذلك حتى عد سبع سموات ما بين كل سماءين ما بين السماء والارض. ثم قال: (هل تدرون ما فوق ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال (فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال: - هل تدرون ما الذي تحتكم) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها الارض - ثم قال: - هل تدرون ما تحت ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن تحتها الارض الاخرى (1) الزيادة من صحيح مسلم. (2) الرقيع: اسم سماء الدنيا. (3) زيادة عن صحيح الترمذي. (*)
[ 260 ]
بينهما مسيرة خمسمائة سنة) حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: (والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الارض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم). قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [ علم الله وقدرته وسلطانه (1) ] في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه. قال: هذا حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. والآثار بأن الارضين سبع كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية. وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال: " الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن " [ الطلاق: 12 ] قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لابي الضحى عليه دليلا (2)، والله أعلم. التاسعة - قوله تعالى: " هو الذي خلق لكم ما في الارض " ابتداء وخبر. " ما " في موضع نصب. " جميعا " عند سيبويه نصب على الحال " ثم استوى " أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء، وأهل الحجاز يفخمون. " سبع " منصوب على البدل من الهاء والنون، أي فسوى سبع سموات. ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سموات، كما قال الله عزوجل: " واختار موسى قومه سبعين رجلا " [ الاعراف: 155 ] أي من قومه، قال النحاس. وقال الاخفش: انتصب على الحال. " وهو بكل شئ عليم " ابتداء وخبر. والاصل في " هو " تحريك الهاء، والاسكان استخفاف. والسماء تكون واحدة مؤنثة، مثل عنان، وتذكيرها شاذ، وتكون جمعا لسماوة في قول الاخفش، وسماءة في قول الزجاج، وجمع الجمع سماوات وسماءات. فجاء " سواهن " إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس. ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالاملاس. وقيل: جعلهن سواء. (1) زيادة عن صحيح الترمذي. (2) في نسخة من الاصل: (متابعا). (*)
[ 261 ]
العاشرة - قوله تعالى: (وهو بكل شئ عليم) أي بما خلق وهو خالق كل شئ، فوجب أن يكون عالما بكل شئ، وقد قال: " ألا يعلم من خلق (1) " [ الملك: 14 ] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية. وقالت الجهمية: عالم بعلم قائم لا في محل، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات، والرد على هؤلاء في كتب الديانات. وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: " أنزله بعلمه والملائكة يشهدون (2) " [ النساء: 166 ]، وقال: " فاعلموا أنما أنزل بعلم الله " [ هود: 14 ]، وقال: " فلنقصن عليهم بعلم " [ الاعراف: 7 ]، وقال: " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " [ فاطر: 11 ]، وقال: " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " [ الانعام: 59 ] الآية. وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (4) " [ البقرة: 185 ] إن شاء الله تعالى. وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من: هو وهي، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم. وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من " أن يمل هو " والباقون بالتحريك. قوله تعالى: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة) فيه سبع عشرة مسألة: الاولى: قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة " إذ وإذا حرفا توقيت، فإذ للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الاخرى. وقال المبرد: إذا جاء " إذ " مع مستقبل كان معناه ماضيا، نحو قوله: " وإذ يمكر بك " [ الانفال: 30 ] " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " [ الاحزاب: 37 ] معناه إذ مكروا، وإذ قلت. وإذا جاء " إذا " مع الماضي كان معناه مستقبلا، كقوله تعالى: " فإذا جاءت الطامة " [ النازعات: 34 ] " فإذا جاءت الصاخة " [ عبس: 33 ] و " إذا جاء نصر الله " [ النصر: 1 ] (1) راجع ج 18 ص 214 (2) راجع ج 6 ص 19 (3) راجع ج 7 ص 1 (4) راجع ج 2 ص 301 (*)
[ 262 ]
أي يجئ. وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة: " إذ " زائدة، والتقدير: وقال ربك، واستشهد بقول الاسود بن يعفر: فإذ (1) وذلك لا مهاة لذكره * والدهر يعقب صالحا بفساد وأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين. قال النحاس: وهذا خطأ، لان " إذ " اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد. وقال الزجاج: هذا اجترام من أبي عبيدة، ذكر الله عزوجل خلق الناس وغيرهم، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام، كما قال: فإن المنية من يخشها * فسوف تصادفه أينما يريد أينما ذهب. ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال. وقيل: هو مردود إلى قوله تعالى: " اعبدوا ربكم الذي خلقكم " [ البقرة: 21 ] فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الازل بشرط وجودهم وفهمهم. وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الاشعري، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي. وقد أتينا عليه في كتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلى. والرب: المالك والسيد والمصلح والجابر، وقد تقدم (2) بيانه. الثانية: قوله تعالى " للملائكة " الملائكة واحدها ملك. قال ابن كيسان وغيره: وزن ملك فعل من الملك. وقال أبو عبيدة، هو مفعل من لاك إذا أرسل. والالوكة والمألكة والمألكة: الرسالة، قال لبيد: وغلام أرسلته أمه * بألوك فبذلنا ما سأل وقال آخر (3): أبلغ النعمان عني مالكا * إنني قد طال حبسي وانتظاري (1) يلاحظ أن رواية البيت: (فإذا) ولا يستقيم الوزن إلا به. (2) راجع المسألة الثامنة وما بعدها ص 136 من هذا الجزء. (3) هو عدى بن زيد، كما في اللسان مادة (ألك). ويروي (إنه) بدل: (إنني) (*)
[ 263 ]
ويقال: ألكني أي أرسلني، فأصله على هذا مالك، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا: ملاك، ثم سهلوه فقالوا ملك. وقيل أصله ملاك من ملك يملك، نحو شمال من شمل، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضا، وقد تأتي في الشعر على الاصل، قال الشاعر: فلست لانسي ولكن لملاك * تنزل من جو السماء يصوب وقال النضر بن شميل. لا اشتقاق للملك عند العرب. والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة. والصلادم: الخيل الشداد، واحدها صلدم. وقيل: هي للمبالغة، كعلامة ونسابة. وقال أرباب المعاني: خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس، ثم ردهم إلى قيمتهم، فقال عزوجل: " اسجدوا لآدم " [ البقرة: 34 ]. الثالثة: قوله تعالى: " إني جاعل في الارض خليفة " " جاعل " هنا بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد، وقد تقدم. والارض قيل إنها مكة. روى ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دحيت الارض من مكة) ولذلك سميت أم القرى، قال: وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. و " خليفة " يكون بمعنى فاعل، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الارض، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روى. ويجوز أن يكون " خليفة " بمعنى مفعول أي مخلف، كما يقال: ذبيحة بمعنى مفعولة. والخلف (بالتحريك) من الصالحين، وبتسكينها من الطالحين، هذا هو المعروف، وسيأتي له مزيد بيان في " الاعراف (1) " إن شاء الله. و " خليفة " بالفاء قراءة الجماعة، إلا ما روي عن زيد بن علي فإنه قرأ " خليقة " بالقاف. والمعنى بالخليفة هنا - في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل - آدم عليه السلام، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره، لانه أول رسول إلى الارض، كما في حديث أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله أنبيا كان مرسلا ؟ قال: (نعم) الحديث ويقال: لمن كان رسولا ولم يكن (1) راجع ج 7 ص 310 (*)
[ 264 ]
في الارض أحد ؟ فيقال: كان رسولا إلى ولده، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، كما قال الله تعالى: " خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء (1) " [ النساء: 1 ]. وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. وعاش تسعمائة وثلاثين سنة، هكذا ذكر أهل التوراة. وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة، والله أعلم. الرابعة - هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الامة ولا بين الائمة إلا ما روي عن الاصم (2) حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الامة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفئ والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك. ودليلنا قول الله تعالى: " إني جاعل في الارض خليفة " [ البقرة: 30 ]، وقوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض " [ ص: 26 ]، وقال: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض " [ النور: 55 ] أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآي. وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والانصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الانصار: منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش. فلو كان فرض الامامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الامامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير (1) راجع ج 4 ص 2 (2) الاصم: من كبار المعتزلة واسمه أبو بكر. (*)
[ 265 ]
واجب علينا ولا عليك، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين، والحمد لله رب العالمين. وقالت الرافضة: يجب نصبه عقلا، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل، فأما معرفة الامام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل. وهذا فاسد، لان العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل، وهذا واضح. فإن قيل وهي: الخامسة - إذا سلم أن طريق وجوب الامامة السمع، فحبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الامام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، أم من جهه اختيار أهل الحل والعقد له، أم بكمال خصال الائمة فيه، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه ؟. فالجواب أن يقال: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت الامامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف به الامام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه. وعندنا: النظر طريق إلى معرفة الامام، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضا إليه، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شئ أصلا، وأبطلوا القياس أصلا وفرعا. ثم اختلفوا على ثلاث فرق: فرقة تدعي النص على أبي بكر، وفرقة تدعي النص على العباس، وفرقة تدعي النص على علي بن أبى طالب رضي الله عنهم. والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الامة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك، لاستحالة تكليف الامة بأسرها طاعة الله في غير معين، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الامامة لشخص معين، وكذلك ليس في الحبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين، لان ذلك الخبر إما أن يكون تواترا أوجب العلم ضرورة أو استدلالا، أو يكون من أخبار الآحاد، ولا يجوز أن يكون
[ 266 ]
طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه، كما أن كل مكلف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات، وصوم رمضان، وحج البيت ونحوها، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة، فبطلت هذه الدعوى، وبطل أن يكون معلوما بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به. وأيضا فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الامام بأي وجه كان، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس، لان لكل واحد منهما قوما ينقلون النص صريحا في إمامته، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد - على ما يأتي بيانه - كذلك الواحد، إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر. وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد. فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضا في جملتها مقام النص، ثم لا شك في تصميم من عدا الامامية على نفي النص، وهم الخلق الكثير والجم الغفير. والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الامامية، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الاقصى وغيرهما. السادسة - في رد الاحاديث التي احتج بها الامامية في النص على علي رضي الله عنه، وأن الامة كفرت بهذا النص وارتدت، وخالفت أمر الرسول عنادا، منها قوله عليه السلام: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه). قالوا: والمولى في اللغة بمعنى أولى، فلما قال: (فعلي مولاه) بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله " مولى " أنه أحق وأولى. فوجب أن يكون أراد بذلك الامامة وأنه مفترض الطاعة، وقوله عليه السلام لعلي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). قالوا: ومنزلة هارون معروفة، وهو أنه كان مشاركا له في النبوة ولم يكن ذلك لعلي، وكان أخا له ولم يكن ذلك لعلي، وكان خليفة، فعلم أن المراد به الخلافة، إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
[ 267 ]
والجواب عن الحديث الاول: أنه ليس بمتواتر، وقد اختلف في صحته، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله). قالوا: فلو كان قد قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) لكان أحد الخبرين كذبا. جواب ثان - وهو أن الخبر وإن كان صحيحا رواه ثقة عن ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته، وإنما يدل على فضيلته، وذلك أن المولى بمعنى الولي، فيكون معنى الخبر: من كنت وليه فعلي وليه، قال الله تعالى: " فإن الله هو مولاه " [ التحريم: 4 ] أي وليه. وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه، وذلك فضيلة عظيمة لعلي. جواب ثالث - وهو أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك أن أسامة وعليا اختصما، فقال علي لاسامة: أنت مولاي. فقال: لست مولاك، بل أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه). جواب رابع: وهو أن عليا عليه السلام لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الافك في عائشة رضي الله عنها: النساء سواها كثير. شق ذلك عليها، فوجد أهل النفاق مجالا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقال ردا لقولهم، وتكذيبا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعلي عليه السلام. وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام - على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة " المائدة (1) " - وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون، فلو أراد بقوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) الخلافة لقال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة (1) راجع ج 6 ص 131 (*)
[ 268 ]
ربه. وقد قيل: إن هذا الحديث خرج على سبب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه، فأرجف به أهل النفاق وقالوا: إنما خلفه بغضا وقلى له، فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن المنافقين قالوا كذا وكذا ! فقال: (كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون). وقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى). وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليا في هذه الفضيلة غيره، لان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غزاة غزاها رجلا من أصحابه، منهم: ابن أم مكتوم، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد. وروي في مقابلته لابي بكر وعمر ما هو أولى منه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له: ألا تنفذ أبا بكر وعمر ؟ فقال: (إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس). وقال: (هما وزيراي في أهل الارض). وروي عنه عليه السلام أنه قال: (أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى). وهذا الخبر ورد ابتداء، وخبر علي ورد على سبب، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالامامة، والله أعلم. السابعة: واختلف فيما يكون به الامام إماما وذلك في ثلاث طرق، أحدها: النص، وقد تقدم الخلاف فيه، وقال به أيضا الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالاشارة، وأبو بكر على عمر. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق، أو على جماعة كما فعل عمر، وهو الطريق الثاني، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم [ في تعيين (1) عثمان بن عفان رضي الله عنه ]. الطريق الثالث: إجماع أهل الحل والعقد، وذلك أن الجماعة في مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الامام وموضعه إماما لانفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الامام، إذا لم يكن الامام معلنا بالفسق والفساد، لانها دعوة (1) الزيادة في تفسير العلامي نقلا عن القرطبي. (*)
[ 269 ]
محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل (1) عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الامر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة). الثامنة: فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافا لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لابي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، ولانه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود. قال الامام أبو المعالي: من انعقدت له الامامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال: وهذا مجمع عليه. التاسعة: فإن تغلب من له أهلية الامامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقا رابعا، وقد سئل سهل بن عبد الله التستري: ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام ؟ قال: تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه، ولا تنكر فعاله ولا تفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه. وقال ابن خويز منداد: ولو وثب على الامر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة، والله أعلم. العاشرة: واختلف في الشهادة على عقد الامامة، فقال بعض أصحابنا: إنه لا يفتقر إلى الشهود، لان الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع، وليس ها هنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة. ومنهم من قال: يفتقر إلى شهود، فمن قال بهذا احتج بأن قال: لو لم تعقد فيه الشهادة أدى إلى أن يدعى كل مدع (2) أنه عقد له سرا، وتؤدي إلى الهرج والفتنة، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان، خلافا للجبائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له، لان عمر حيث جعلها شورى (3) في ستة دل على ذلك. ودليلنا أنه لا خلاف بيننا (1) روى (لا يغل) بضم الياء وكسر الغين، أي لا يكون معها في قلبه غش ودغل ونفاق. وروى (لا يغل) بفتح الياء، أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق. (2) في تفسير العلامي: (مبتدع). (3) الستة: هم الذين نصح عمر - رضي الله عنه - للمسليمن أن يختاروا واحدا منهم لولاية الامر بعده حين طلب إليه أن يعهد عهدا. وهم: علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة ابن عبيدالله. راجع قصة الشورى في تاريخ ابن الاثير (ج 3 ص 50) طبع أوروبا. (*)
[ 270 ]
وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر. الحادية عشرة: في شرائط الامام، وهي أحد عشر: الاول: أن يكون من صميم قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الائمة من قريش). وقد اختلف في هذا الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه. الثالث: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة (1) وردع الامة والانتقام من الظالم والاخذ للمظلوم. الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الابشار. والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم، لانه لا خلاف بينهم أنه لا بد من أن يكون ذلك كله مجتمعا فيه، ولانه هو الذي يولي القضاة والحكام، وله أن يباشر الفصل والحكم، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالما بذلك كله قيما به. والله أعلم. الخامس: أن يكون حرا، ولا خفاء باشتراط حرية الامام وإسلامه وهو السادس. السابع: أن يكون ذكرا، سليم الاعضاء وهو الثامن. وأجمعوا على أن المراة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه. التاسع والعاشر: أن يكون بالغا عاقلا، ولا خلاف في ذلك. الحادي عشر: أن يكون عدلا، لانه لا خلاف بين الامة أنه لا يجوز أن تعقد الامامة لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم، لقوله عليه السلام: (أئمتكم شفعاؤكم فانظروا (1) بيضة الاسلام: جماعتهم. (*)
[ 271 ]
بمن تستشفعون). وفي التنزيل في وصف طالوت: " إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم (1) " [ البقرة: 247 ] فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الاعضاء. وقوله: " اصطفاه " معناه اختاره، وهذا يدل على شرط النسب. وليس من شرطه أن يكون معصوما من الزلل والخطأ، ولا عالما بالغيب، ولا أفرس الامة ولا أشجعهم، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش، فإن الاجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعثمان وليسوا من بني هاشم. الثانية عشرة: يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الامة، وذلك أن الامام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الاموال لبيت المال وقسمتها على أهلها. فإذا خيف بإقامة الافضل الهرج والفساد وتعطيل الامور التي لاجلها ينصب الامام كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر الامة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم، والله أعلم. الثالثة عشر: الامام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لانه قد ثبت أن الامام إنما يقام لاقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الايتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الامور والنهوض بها. فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لاجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لاجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله. وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شئ من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة: (وألا ننازع الامر أهله [ قال (2) ] إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان). (1) راجع ج 3 ص 246 (2) الزيادة عن صحيح مسلم (ج 6 ص 17) طبع الآستانة. و (بواحا) أي جهارا، من باح بالشئ يبوح به إذا أعلته. (*)
[ 272 ]
وفي حديث عوف بن مالك: (لا ما أقاموا فيكم الصلاة) الحديث. أخرجهما مسلم. وعن أم سلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع - قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال: - لا ما صلوا). أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. أخرجه أيضا مسلم. الرابعة عشرة: ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الامامة. فأما إذا لم يجد نقصا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره ؟ اختلف الناس فيه، فمنهم من قال: ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته. ومنهم من قال: له أن يفعل ذلك. والدليل على أن الامام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني. وقول الصحابة: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك ! رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك ! فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لانكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له: ليس لك أن تقول هذا، وليس لك أن تفعله. فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للامام أن يفعل ذلك، ولان الامام ناظر للغيب (1) فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم، والوكيل إذا عزل نفسه. فإن الامام هو وكيل الامة ونائب عنها، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شئ له أن يعزل نفسه، وكذلك الامام يجب أن يكون مثله. والله أعلم. الخامسة عشرة: إذا انعقدت الامامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر، لئلا تفترق كلمة المسلمين. وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الاول وقتل الآخر، واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته. والاول أظهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). رواه أبو سعيد الخدري أخرجه مسلم. (1) في بعض الاصول: (للغير). (*)
[ 273 ]
وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول: (ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه أن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوه عنق الآخر). رواه مسلم أيضا، ومن حديث عرفجة: (فاضربوه بالسيف كائنا من كان). وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين، ولان ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم، لكن إن تباعدت الاقطار وتباينت كالاندلس وخراسان جاز ذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. السادسة عشرة: لو خرج خارجي على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده، فإن كان الامام فاسقا والخارجي مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الاول، وذلك أن كل من طلب مثل هذا الامر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف ما أظهر. السابعة عشرة: فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعا لما ذكرنا. قال الامام أبو المعالي: ذهب أصحابنا إلى منع عقد الامامة لشخصين في طرفي العالم، ثم قالوا: لو اتفق عقد الامامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر. قال: والذي عندي فيه أن عقد الامامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف (1) غير جائز وقد حصل الاجماع عليه. فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الامامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع. وكان الاستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم. وذهبت الكرامية إلى جواز نصب إمامين من غير تفصيل، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد، وصاروا إلى أن عليا ومعاوية كانا إمامين. قالوا: وإذا كانا اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه وأضبط لما يليه، ولانه (1) المخاليف: الاطراف والنواحي. (*)
[ 274 ]
لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الامامة أولى، ولا تؤدي ذلك إلى إبطال الامامة. والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه، لقوله: (فاقتلوا الآخر منهما) ولان الامة عليه. وأما معاوية فلم يدع الامامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الائمة. ومما يدل على هذا إجماع الامة في عصرهما على أن الامام أحدهما، ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام. فإن قالوا: العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه. وقلنا: أقوى السمع الاجماع، وقد وجد على المنع. قوله تعالى: (قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها) قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لان قوله: " لا يسبقونه بالقول " خرج على جهة المدح لهم، فكيف قالوا: " أتجعل فيها من يفسد فيها " ؟ فقيل: المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الاصلاح وترك الفساد، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم: " إني أعلم " وحقق ذلك بأن علم آدم الاسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه. وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء. وذلك لان الارض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال، فمن حينئذ دخلته العزة. فجاء قولهم: " أتجعل فيها " على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب. وقال ابن زيد وغيره. إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الارض ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والاكبار للفصلين جميعا: الاستخلاف والعصيان. وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الارض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء، فسألوا حين قال تعالى: " إني جاعل في الارض خليفة " أهو الذي أعلمهم أم غيره.
[ 275 ]
وهذا قول حسن، رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله " أتجعل فيها من يفسد فيها " قال: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الارض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فلذلك قالوا: " أتجعل فيها من يفسد فيها ". وفي الكلام حذف على مذهبه، والمعنى إني جاعل في الارض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا، فقالوا: أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره ؟ والقول الاول أيضا حسن جدا، لان فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الالفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء، وما بين القولين حسن، فتأمله. وقد قيل: إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله: (كيف تركتم عبادي) - على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره - إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال: أتجعل فيها، وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم: " إني أعلم ما لا تعلمون ". قوله: " من يفسد فيها " " من " في موضع نصب على المفعول بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه " فيها ". " يفسد " على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى. وفي التنزيل: " ومنهم من يستمع إليك " [ الانعام: 25 ] على اللفظ، " ومنهم من يستمعون " على المعنى. (ويسفك) عطف عليه، ويجوز فيه الوجهان. وروى أسيد عن الاعرج أنه قرأ: " ويسفك الدماء " بالنصب، يجعله جواب الاستفهام بالواو كما قال (1): ألم أك جاركم وتكون بيني * وبينكم المودة والاخاء والسفك: الصب. سفكت الدم أسفكه سفكا: صببته، وكذلك الدمع، حكاه ابن فارس والجوهري. والسفاك: السفاح، وهو القادر على الكلام. قال المهدوي: ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وقد يستعمل في نثر الكلام يقال سفك الكلام إذا نثره. وواحد الدماء دم، محذوف اللام. وقيل: أصله دمي. وقيل: دمي، ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه، والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الاصل، قال الشاعر: فلو أنا على حجر ذبحنا * جرى الدميان بالخبر اليقين (1) القائل هو الحطيئة. (*)
[ 276 ]
قوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك) أي ننزهك عما لا يليق بصفاتك. والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر أي براءة من علقمة. وروى طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال: (هو تنزيه الله عزوجل عن كل سوء). وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب، قال الله تعالى: " إن لك في النهار سبحا (1) طويلا " [ المزمل: 7 ] فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء. وقد تقدم الكلام في " نحن " (2)، ولا يجوز إدغام النون في النون لئلا يلتقي ساكنان. مسألة: واختلف أهل التأويل في تسبيح الملائكة، فقال ابن مسعود وابن عباس: تسبيحهم صلاتهم، ومنه قول الله تعالى: " فلولا أنه كان من المسبحين (3) " [ الصافات: 143 ] أي المصلين. وقيل: تسبيحهم رفع الصوت بالذكر، قاله المفضل، واستشهد بقول جرير: قبح الاله وجوه تغلب كلما * سبح (4) الحجيج وكبروا إهلالا وقال قتادة: تسبيحهم: سبحان الله، على عرفه في اللغة، وهو الصحيح لما رواه أبو ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل ؟ قال: (ما اصطفى الله لملائكته [ أو لعباده (5) ] سبحان الله وبحمده). أخرجه مسلم. وعن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به سمع تسبيحا في السموات العلا: سبحان العلي الاعلى سبحانه وتعالى ذكره البيهقي. (1) راجع ج 19 ص 41 (2) راجع ص 203 من هذا الجزء. (3) راجع ج 15 ص 123 (4) في ديوان جرير: (شبح). وفسر الشبح بأنه رفع الايدي بالدعاء. راجع اللسان مادة (شبح) وديوان جرير المخطوط المحفوظ بدار الكتب المصرية رقم 1 أدب ش. (5) زيادة عن صحيح مسلم (ج 8 ص 86 طبع الآستانة). (*)
[ 277 ]
قوله تعالى: " بحمدك " أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به. والحمد: الثناء، وقد تقدم (1). ويحتمل أن يكون قولهم: " بحمدك " اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالو: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك. والله أعلم. قوله تعالى: (ونقدس لك) أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون، قال مجاهد وأبو صالح وغيرهما. وقال الضحاك وغيره: المعنى نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك وقال قوم منهم قتادة: " نقدس لك " معناه نصلي. والتقديس: الصلاة. قال ابن عطية: وهذا ضعيف. قلت: بل معناه صحيح، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح). روته عائشة أخرجه مسلم. وبناء " قدس " كيفما تصرف فإن معناه التطهير، ومنه قوله تعالى: " ادخلوا الارض المقدسة (2) " [ المائدة: 21 ] أي المطهرة. وقال: " الملك القدوس (3) " [ الحشر: 23 ] يعني الطاهر، ومثله: " بالواد المقدس (4) طوى " [ طه: 12 ] وبيت المقدس سمي به لانه المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب أي يتطهر، ومنه قيل للسطل: قدس، لانه يتوضأ فيه ويتطهر، ومنه القادوس. وفي الحديث: (لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها). يريد لا طهرها الله، أخرجه ابن ماجه في سننه. فالقدس: الطهر من غير خلاف، وقال الشاعر: (5) فأدركنه يأخذن بالساق والنسا * كما شبرق الولدان ثوب المقدس أي المطهر. فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب، والمصلي يدخلها على أكمل الاحوال لكونها أفضل الاعمال، والله أعلم. (1 راجع المسألة الرابعة ص 133 من هذا الجزء. (2) راجع ج 6 ص 125 (3) راجع ج 18 ص 45 (4) راجع ج 11 ص 175 (5) هو امرؤ القيس. والهاء في (أدركنه) ضمير الثور، والنون ضمير الكلاب. والنسا: عرق في الفخذ. والشبرقة: تقطيع الثوب وغيره. والمقدس (بكسر الدال وتشديدها): الراهب. وبالفتح: المبارك. يقول: أدركت الكلاب الثور يأخذن بساقه وفخذه: وشبرقت جلده كما شبرق ولدان النصارى ثوب الراهب المسبح لله عزوجل إذا نزل من صومعته فقطعوا ثيابه تبركا به. (عن شرح الديوان واللسان). (*)
[ 278 ]
قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) " أعلم " فيه تأويلان، قيل: إنه فعل مستقبل. وقيل: إنه اسم بمعنى فاعل، كما يقال: الله أكبر، بمعنى كبير، وكما قال (1): لعمرك ما أدري وإني لاوجل * على أينا تعدو المنية أول فعلى أنه فعل تكون " ما " في موضع نصب بأعلم، ويجوز إدغام الميم في الميم. وإن جعلته اسما بمعنى عالم تكون " ما " في موضع خفض بالاضافة. قال ابن عطية: ولا يصح فيه الصرف بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في " أفعل " إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والاخفش يصرفه. قال المهدوي: يجوز أن تقدر التنوين في " أعلم " إذا قدرته بمعنى عالم، وتنصب " ما " به، فيكون مثل حواج بيت الله. قال الجوهري: ونسوة حواج بيت الله، بالاضافة إذا كن قد حججن، وإن لم يكن حججن قلت: حواج بيت الله، فتنصب البيت، لانك تريد التنوين في حواج. قوله تعالى " ما لا تعلمون " اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى: " ما لا تعلمون ". فقال ابن عباس: كان إبليس - لعنه الله - قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه، فاعتقد أن ذلك لمزية له، فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام. وقالت الملائكة: " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " [ البقرة: 30 ] وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، فقال الله تعالى لهم: " إني أعلم ما لا تعلمون " [ البقرة: 30 ]. وقال قتادة: لما قالت الملائكة " أتجعل فيها " [ البقرة: 30 ] وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الارض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم " إني أعلم ما لا تعلمون ". قلت: ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن، فهو عام. (1) القائل هو معن بن أوس. كان له صديق وكان معن متزوجا بأخته، فاتفق أنه طلقها وتزوج غيرها، فآلى صديقه ألا يكلمه أبدا، فأنشأ معن يستعطف قلبه عليه ويسترقه له. (عن أشعار الحماسة). (*)
[ 279 ]
قوله تعالى: وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وعلم آدم الاسماء كلها) " علم " معناه عرف. وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة. ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السلام على ما يأتي. وقرئ: " وعلم " غير مسمى الفاعل. والاول أظهر، على ما يأتي. قال علماء الصوفية: علمها بتعليم الحق إياه وحفظها بحفظه عليه ونسي ما عهد إليه، لان وكله فيه إلى نفسه فقال: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (1) ". [ طه: 115 ]. وقال ابن عطاء: لو لم يكشف لآدم علم تلك الاسماء لكان أعجز من الملائكة في الاخبار عنها. وهذا واضح. وآدم عليه السلام يكنى أبا البشر. وقيل: أبا محمد، كنى بمحمد خاتم الانبياء صلوات الله عليهم، قاله السهيلي. وقيل: كنيته في الجنة أبو محمد، وفي الارض أبو البشر. وأصله بهمزتين، لانه أفعل إلا أنهم لينوا الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واوا فقلت: أوادم في الجمع لانه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن الاخفش. واختلف في اشتقاقه، فقيل: هو مشتق من أدمة الارض وأديمها وهو وجهها، فسمى بما خلق منه، قال ابن عباس. وقيل: إنه مشتق من الادمة وهي السمرة. واختلفوا في الادمة، فزعم الضحاك أنها السمرة، وزعم النضر أنها البياض، وأن آدم عليه السلام كان أبيض، مأخوذ من قولهم: ناقة أدماء، إذا كانت بيضاء. وعلى هذا الاشتقاق جمعه أدم وأوادم، كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه. وعلى أنه مشتق من الادمة جمعه آدمون، ويلزم قائلو هذه المقالة صرفه. قلت: الصحيح أنه مشتق من أديم الارض. قال سعيد بن جبير: إنما سمي آدم لانه خلق من أديم الارض، وإنما سمي إنسانا لانه نسي، ذكره ابن سعد في الطبقات. وروى (1) راجع ج 11 ص 251 (*)
[ 280 ]
السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال: فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الارض ليأتيه بطين منها، فقالت الارض: أعوذ بالله منك أن تنقص (1) مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها. فبعث مكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الارض وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين - ولذلك سمي آدم لانه أخذ من أديم الارض - فصعد به، فقال الله تعالى له: (أما رحمت الارض حين تضرعت إليك) فقال: رأيت أمرك أوجب من قولها. فقال: (أنت تصلح لقبض أرواح ولده) قبل التراب حتى عاد طينا لازبا، اللازب: هو الذي يلتصق بعضه ببعض، ثم ترك حتى أنتن، فذلك حيث يقول: " من حمإ مسنون " [ الحجر: 26 ] قال: منتن. ثم قال للملائكة: " إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (2) " [ ص: 71 - 72 ]. فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه. يقول: أتتكبر عما خلقت بيدي ولم أتكبر أنا عنه ! فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة، فذلك حين يقول: " من صلصال كالفخار (3) " [ الرحمن: 14 ]. ويقول لامر ما خلقت !. ودخل من فمه وخرج من دبره، فقال إبليس للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ولئن سلطت عليه لاهلكنه. ويقال: إنه كان إذا مر عليه مع الملائكة يقول: أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون ! قالوا: نطيع أمر ربنا فأسر إبليس في نفسه لئن فضل علي فلا أطيعه، ولئن فضلت عليه لاهلكنه، فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح (1) في نسخة. (أن تقبض مني أو تسيئني). وفي تاريخ الطبري (ص 87 قسم أول طبع أوربا): (أن تنقص مني شيئا وتشينني). (2) راجع ج 15 ص 227 (3) راجع ج 17 ص 160 (*)
[ 281 ]
قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: رحمك ربك، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: " خلق الانسان من عجل (1) " [ الانبياء: 37 ] " فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (2) " [ الحجر: 30 - 31 ] وذكر القصة. وروى الترمذي عن أبي موسى الاشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عزوجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض فجاء منهم الاحمر والابيض والاسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. أديم: جمع أدم، قال الشاعر: الناس أخياف (3) وشتى في الشيم * وكلهم يجمعهم وجه الادم فآدم مشتق من الاديم والادم لا من الادمة، والله أعلم. ويحتمل أن يكون منهما جميعا. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في خلق آدم في " الانعام (4) " وغيرها إن شاء الله تعالى. و " آدم " لا ينصرف. قال أبو جعفر النحاس: " آدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين، لانه على أفعل وهو معرفة، ولا يمتنع شئ من الصرف عند البصريين إلا لعلتين. فإن نكرته ولم يكن نعتا لم يصرفه الخليل وسيبويه، وصرفه الاخفش سعيد، لانه كان نعتا وهو على وزن الفعل، فإذا لم يكن نعتا صرفه. قال أبو إسحاق الزجاج: القول قول سيبويه، ولا يفرق بين النعت وغيره لانه هو ذاك بعينه ". اثانية - قوله تعالى: " الاسماء كلها " " الاسماء " هنا بمعنى العبارات، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى، كقولك: زيد قائم، والاسد شجاع. وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك: أسد ثلاثة أحرف، ففي الاول يقال: الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى، وفي الثاني لا يراد به المسمى، وقد يجرى اسم في اللغة مجرى ذات العبارة وهو الاكثر من (1) راجع ج 11 ص 288 (2) راجع ج 10 ص 25 (3) الاخياف: المختلفون في الاخلاق والاشكال. (4) راجع ج 6 ص 387 وج 7 ص 168 (*)
[ 282 ]
استعمالها، ومنه قوله تعالى: " وعلم آدم الاسماء كلها " [ البقرة: 31 ] على أشهر التأويلات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما). ويجري مجرى الذات، يقال: ذات ونفس وعين واسم بمعنى، وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى: " سبح اسم ربك الاعلى (1) " [ الاعلى: 1 ] " تبارك اسم ربك " [ الرحمن: 78 ] " إن هي إلا أسماء سميتموها " [ النجم: 23 ]. الثالثة - واختلف أهل التأويل في معنى الاسماء التي علمها لآدم عليه السلام، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير: علمه أسماء جميع الاشياء كلها جليلها وحقيرها. وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن علي قال: كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط، قال ابن عباس: " وعلم آدم الاسماء كلها ". قلت: وقد روي هذا المعنى مرفوعا على ما يأتي، وهو الذي يقتضيه لفظ " كلها " إذ هو اسم موضوع للاحاطة والعموم، وفي البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ) الحديث. قال ابن خويز منداد: في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا. وكذلك قال ابن عباس: علمه أسماء كل شئ حتى الجفنة والمحلب. وروى شيبان عن قتادة قال: علم آدم من الاسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شئ باسمه وأنحى (2) منفعة كل شئ إلى جنسه. قال النحاس: وهذا أحسن ما روي في هذا. والمعنى علمه أسماء الاجناس وعرفه منافعها، هذا كذا، وهو يصلح لكذا. وقال الطبري: علمه أسماء الملائكة وذريته، واختار هذا ورجحه بقوله: (ثم عرضهم على الملائكة). وقال ابن زيد: علمه أسماء ذريته، كلهم. الربيع ابن خثيم (3): أسماء الملائكة خاصة. القتبي: أسماء ما خلق في الارض. وقيل: أسماء الاجناس والانواع. قلت: القول الاول أصح، لما ذكرناه آنفا ولما نبينه إن شاء الله تعالى. (1) راجع ج 20 ص 13 (2) أنحى: صرف. وفي الطبري: (ألجأ). (3) في التقريب بضم المعجمة وفتح المثلثلة. وفي الخلاصة (خيثم) بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة. (*)
[ 283 ]
الرابعة - واختلف المتأولون أيضا هل عرض على الملائكة أسماء الاشخاص أو الاسماء دون الاشخاص، فقال ابن مسعود وغيره: عرض الاشخاص لقوله تعالى: " عرضهم " وقوله: " أنبئوني بأسماء هؤلاء ". وتقول العرب: عرضت الشئ فأعرض، أي أظهرته فظهر. ومنه: عرضت الشئ للبيع. وفي الحديث (إنه عرضهم أمثال الذر). وقال ابن عباس وغيره: عرض الاسماء. وفي حرف ابن مسعود: " عرضهن "، فأعاد على الاسماء دون الاشخاص، لان الهاء والنون أخص بالمؤنث. وفي حرف أبي: " عرضها ". مجاهد: أصحاب الاسماء. فمن قال في الاسماء إنها التسميات فاستقام على قراءة أبي: " عرضها ". وتقول في قراءة من قرأ " عرضهم ": إن لفظ الاسماء يدل على أشخاص، فلذلك ساغ أن يقال للاسماء: " عرضهم ". وقال في " هؤلاء " المراد بالاشارة: إلى أشخاص الاسماء، لكن وإن كانت غائبة فقد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها. قال ابن عطية: والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الاسماء وعرضهن عليه مع تلك الاجناس بأشخاصها، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها، ثم إن آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا. وقال الماوردي: وكان الاصح توجه العرض إلى المسمين. ثم في زمن عرضهم قولان: أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم. الثاني - أنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم. الخامسة - واختلف في أول من تكلم باللسان العربي، فروي عن كعب الاحبار: أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها وتكلم بالالسنة كلها آدم عليه السلام. وقاله غير كعب الاحبار. فإن قيل: قد روي عن كعب الاحبار من وجه حسن قال: أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام، ورواه ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن كعب. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين). وقد روى أيضا: أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقد روي غير ذلك. قلنا: الصحيح أن
[ 284 ]
أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام، والقرآن يشهد له قال الله تعالى: " وعلم آدم الاسماء كلها " [ البقرة: 31 ] واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة، قال صلى الله عليه وسلم: (وعلم آدم الاسماء كلها حتى القصعة والقصيعة) وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام. وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا والله أعلم. وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم، والله أعلم. قوله تعالى: (هؤلاء) لفظ مبني على الكسر. ولغة تميم وبعض قيس وأسد فيه القصر، قال الاعشى: هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي * - ت نعالا محذوة بمثال ومن العرب من يقول: هؤلاء، فيحذف الالف والهمزة (1). السادسة - قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) شرط، والجواب محذوف تقديره: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الارض فانبئوني، قاله المبرد. ومعنى " صادقين " عالمين، ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: " سبحانك " ! حكاه النقاش قال: ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الانباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: " كم لبثت " فلم يشترط عليه الاصابة، فقال ولم يصب ولم يعنف، وهذا بين لا خفاء فيه. وحكى الطبري وأبو عبيد: أن بعض المفسرين قال إن معنى " إن كنتم ": إذ كنتم، وقالا: هذا خطأ. و " أنبئوني " معناه أخبروني. والنبأ: الخبر، ومنه النبئ بالهمز، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (2). السابعة - قال بعض العلماء: يخرج من هذا الامر بالانباء تكليف ما لا يطاق لانه علم أنهم لا يعلمون. وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما (1) في البحر لابي حيان (بحذف ألف ها وهمزة أولاء وإقرار الواو التي بعد تلك الهمزة). (2) في قوله تعالى: (ويقتلون النبيين بغير الحق....) راجع ص 431 من هذا الجزء. (*)
[ 285 ]
هو على جهة التقرير والتوقيف. وسيأتي القول في تكليف ما لا يطاق - هل وقع التكليف به أم لا - في آخر السورة (1) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) فيه ثلاث مسائل: الاولى: قوله تعالى: " سبحانك " أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك. وهذا جوابهم عن قوله: " أنبئوني " فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا. و " ما " في " ما علمتنا " بمعنى الذي، أي إلا الذي علمتنا، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا. الثانية - الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والانبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون. وأما ما ورد من الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي (2) في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي البقاع شر ؟ قال: (لا أدرى حتى أسأل جبريل) فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وشرها الاسواق. وقال الصديق للجدة: ارجعي حتى أسأل الناس. وكان علي يقول: وأبردها على الكبد، ثلاث مرات. قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل. قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به ! ذكره الدارمي في مسنده. وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل (1) راجع ج 3 ص 428 (2) في نسخة (النسائي). (*)
[ 286 ]
يحيى بن المتوكل صاحب بهية (1) قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شئ من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج، أو علم ولا مخرج ؟ فقال له القاسم: وعم ذاك ؟ قال: لانك ابن إمامي هدى: ابن أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه. وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري. وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. قلت: ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الانصاف في العلم. قال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه الانصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم. روى يونس بن عبد الاعلى قال سمعت ابن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شئ أقل من الانصاف. قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام ! وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الاقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى. أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس (3) فقالت: ما ذلك لك ! (1) بهية (بالتصغير): مولاة أبي بكر رضى الله عنه، تروى عن عائشة. وروى عنها أبو عقيل المذكور. (2) القاسم هذا، هو ابن عبيدالله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وأم القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضى الله عنه، فأبو بكر جده الاعلى لامه، وعمر جده الاعلى لابيه، وابن عمر جده الحقيقي لابيه. رضي الله عنهم أجمعين. (عن شرح النووي على صحيح مسلم). (3) الفطس (بالتحريك): انخفاض قصبة الانف وتطامنها وانتشارها. (*)
[ 287 ]
قال: ولم ؟ قالت لان الله عزوجل يقول: " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " [ النساء: 20 ] فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ! وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي: أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم. وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر ابن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي (1) التمار) فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالاندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا ! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان في المسجد - فإن له بمثل هذا علما، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار، كما قلت. وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة (2)، جيوبهم أمامهم. والنمار جمع نمرة (3). فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف. وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن: إذا ما تحدثت في مجلس * تناهى حديثي إلى ما علمت ولم أعد علمي إلى غيره * وكان إذا ما تناهى سكت الثانية: قوله تعالى: " سبحانك " " سبحان " منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا. وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف. و (العليم) فعيل للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى. و " الحكيم " معناه الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة. وقيل معناه المحكم ويجئ الحكيم على هذا من صفات الفعل، صرف عن مفعل إلى فعيل، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم، قاله ابن (1) مشققة مخططة. (2) مجتابى النمار، أي لابسها. يقال: اجتبت القميص والظلام دخلت فيهما. (3) وهي كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كانما أخذت من لون النمر. (*)
[ 288 ]
الانباري. وقال قوم: (الحكيم) المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لانها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد. قال جرير: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا أي امنعوهم من الفساد. وقال زهير: القائد الخيل منكوبا دوابرها (1) * قد أحكمت حكمات القد والابقا القد: الجلد. والابق: القنب (2). والعرب تقول: أحكم اليتيم عن كذا وكذا، يريدون منعه. والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها، والحكمة من هذا، لانها تمنع صاحبها من الجهل. ويقال: أحكم الشئ إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد. فهو محكم وحكيم على التكثير. قوله تعالى: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33) قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: " أنبئهم بأسمائهم " أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم. الثانية - في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله، وفي الحديث: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم) أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك (3) لاهل العلم خاصة (1) النكب: أن ينكب الحجر ظفرا أو حافرا. والدوابر. أواخر الحوافر. يقول: يقود الخيل في الغزو ويبعد بها حتى تنكب دوابرها، أي تأكلها الارض وتؤثر فيها. (2) القنب (بكسر القاف وضمها): ضرب من الكتان. (3) في نسخة من الاصل: (لاجل). (*)
[ 289 ]
من بين سائر عيال (1) الله، لان الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الادب. فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله، ورضا منهم (2) بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالاحبار فيهم والربانيين منهم ! جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم. الثالثة - اختلف العلماء من هذا الباب، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين: فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والاولياء من البشر أفضل من الاولياء من الملائكة. وذهب آخرون إلى أن الملا الاعلى أفضل. احتج من فضل الملائكة بأنهم " عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " [ الانبياء: 26 - 27 ] " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " [ التحريم: 6 ]. وقوله: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون (3) " [ النساء: 172 ] وقوله: " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك (4) " [ الانعام: 50 ]. وفي البخاري: (يقول الله عزوجل: " من ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم). وهذا نص. احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة (5) " [ البينة: 7 ] بالهمز، من برأ الله الخلق. وقوله عليه السلام: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم) الحديث. اخرجه أبو داود، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالافضل، والله أعلم. وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الانبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لان طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الامة، وليس ها هنا شئ من ذلك، خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا: الملائكة أفضل. قال: وأما من قال من أصحابنا والشيعة: إن الانبياء أفضل لان الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فيقال لهم: المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والانبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الانبياء خير من الكعبة باتفاق الامة. ولا خلاف أن السجود (1) في نسخ من الاصل: (عمال الله). (2) في نسخة: (ورضى الله عنهم... الخ). (3) راجع ج 6 ص 26 (4) راجع ج 6 ص 429 (5) راجع ج 20 ص 145 (*)
[ 290 ]
لا يكون إلا لله تعالى، لان السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد وهذا واضح. وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا. الرابعة - قوله تعالى: (إنى أعلم غيب السموات والارض) دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالانبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى، فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة. وسيأتي بيان هذا في " الانعام (1) " إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: " وعند مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " الخامسة - قوله تعالى: (وأعلم ما تبدون) أي من قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها " حكاه مكي والماوردي. وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم. (وما كنتم تكتمون) قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية. قال ابن عطية: وجاء " تكتمون " للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (2) " [ الحجرات: 4 ] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الاقرع. وقالت طائفة: الابداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع. وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة ؟ قال: إن الله عزوجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شئ، قال: ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، [ فقالوا (3): و ] ما يهمكم من هذا المخلوق ! إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه. و " ما " في فوله: " ما تبدون " يجوز أن ينتصب ب " - أعلم " على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به " ما " فيكون مثل حواج بيت الله، وقد تقدم. (4) (1) راجع ج 7 ص 1 (2) راجع ج 16 ص 309 (3) زيادة عن تفسير الطبري. (4) راجع ص 278 (*)
[ 291 ]
قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34) فيه عشر مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإذ قلنا) أي واذكر. وأما قول أبى عبيدة: إن " إذ " زائدة فليس بجائز، لان إذ ظرف وقد تقدم (1). وقال " قلنا " ولم يقل قلت لان الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره. والملائكة جمع ملك، وقد تقدم (2). وتقدم القول أيضا في آدم واشتقاقه (3) فلا معنى لاعادته. وروي عن أبي جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة إتباعا لضم الجيم في " اسجدوا ". ونظيره " الحمد لله ". الثانية - قوله تعالى (اسجدوا) السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، قال الشاعر: يجمع تضل البلق في حجراته * ترى الاكم فيها سجدا للحوافر الاكم: الجبال الصغار. جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها. وعين ساجدة، أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالارض. قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل. والاسجاد: إدامة النظر. قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال: (4) فضول أزمتها أسجدت * سجود النصارى لاحبارها قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد: * وقلن له أسجد لليلى فأسجدا * يعني البعير إذا طأطأ رأسه. ودراهم الاسجاد: دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها، قال: * وافى بها كدراهم الاسجاد * (1) راجع المسألة الاولى ص 261 (2) راجع المسألة الثانية ص 262 (3) راجع المسألة الاولى ص 279 (4) هو حميد بن ثور يصف نساء. يقول: لما ارتحلن ولوين فضول أزمة جمالهن على معاصمهن أسجدت - طأطأت رؤوسها - لهن. (عن اللسان وشرح القاموس). (*)
[ 292 ]
الثالثة - استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم ". قالو: وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم. والجواب أن معنى " اسجدوا لآدم " اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم. وهو كقوله تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " [ الاسراء: 78 ] أي عند دلوك الشمس وكقوله: " ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " [ ص: 72 ] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة. فإن قيل: فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الامر بالسجود له ؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها " لما قال لهم: " إني جاعل في الارض خليفة " [ البقرة: 30 ] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: " إني خالق بشرا من طين " [ ص: 71 ] وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. والمعنى: ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل: فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (1) " [ الحجر: 72 ]. وأمنه من العذاب بقوله: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (2) " [ الفتح: 2 ]. وقال للملائكة: " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم (3) " [ الانبياء: 29 ]. قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل: لعمري. وأقسم بالسماء والارض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سبحانه: " ومن يقل منهم إني إله من دونه " [ الانبياء: 29 ] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " [ الزمر: 65 ] فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم. (1) راجع ج 10 ص 39 (2) راجع ج 16 ص 62 (3) راجع ج 11 ص 282 (*)
[ 293 ]
الرابعة - واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور: كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الارض، كالسجود المعتاد في الصلاة، لانه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا. ومعنى " لآدم ": إلى آدم، كما يقال صلى للقبلة، أي إلى القبلة. وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الارض ولكنه مبقى على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل. (فسجدوا) أي امتثلوا ما أمروا به. واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام، لقوله تعالى: " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا (1) " [ يوسف: 100 ] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين ؟ والذي عليه الاكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: (لا ينبغي أن يسجد لاحد إلا لله رب العالمين). روى ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا) فقال: يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: (فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشئ لامرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه). لفظ البستي. ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب (2) عند الولادة. وفي بعض طرق معاذ: ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة. (1) راجع ج 9 ص 264 (2) القتب. رحل صغير على قدر السنام. (*)
[ 294 ]
قلت: وهذا السجود المنهى عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للاقدام (1) لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم. الخامسة - قوله: (إلا إبليس) نصب على الاستثناء المتصل، لانه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر الآية. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الاجنحة الاربعة ثم أبلس بعد. روى سماك ابن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا. وحكى الماوردي عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال سعيد بن جبير: إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر (2) الملائكة من نور. وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا: إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا، وروى نحوه عن ابن عباس وقال: اسمه الحارث. وقال شهر ابن حوشب وبعض الاصوليين: كان من الجن الذين كانوا في الارض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى: " ما لهم به من علم إلا اتباع الظن " [ النساء: 157 ] وقوله: " إلا ما ذكيتم " [ المائدة: 3 ] في أحد القولين، وقال الشاعر: ليس عليك عطش ولا جوع * إلا الرقاد والرقاد ممنوع واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله عزوجل وصف الملائكة فقال: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " [ التحريم: 6 ]، وقوله تعالى: " إلا إبليس كان من الجن " [ الكهف: 50 ] والجن غير الملائكة. أجاب أهل المقالة الاولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة. وقول من قال: إنه كان من جن الارض فسبي، (1) في نسخ من الاصل: " للاقدم ". (2) في نسخ: " معاشر ". (*)
[ 295 ]
فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الارض مع جند من الملائكة، حكاه المهدوي وغيره. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الارض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والارض، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كبرا. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، وفي التنزيل: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا (1) " [ الصافات: 158 ]، وقال الشاعر (2) في ذكر سليمان عليه السلام: وسخر من جن الملائك تسعة * قياما لديه يعملون بلا أجر وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها، والله أعلم. وإبليس وزنه إفعيل، مشتق من الابلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى. ولم ينصرف، لانه معرفة ولا نظير له في الاسماء فشبه بالاعجمية، قاله أبو عبيدة وغيره. وقيل: هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف، قاله الزجاج وغيره. السادسة - قوله تعالى: (أبى) معناه امتنع من فعل ما أمر به، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة [ فسجد (3) ] اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي رواية: يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار). خرجه مسلم. يقال: أبى يأبى إباء، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق، وقد قيل: إن الالف مضارعة لحروف الحلق. قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: القول (1) راجع ج 15 ص 134 (2) هو أعشى قيس، كما في تفسير الطبري وأبي حيان. (3) الزيادة من صحيح مسلم. (*)
[ 296 ]
عندي أن الالف مضارعة لحروف الحلق. قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف. السابعة - قوله تعالى: (واستكبر) الاستكبار: الاستعظام فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لامر الله وحكمته. وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله: (لا يدخل الجنة من [ كان (1) ] في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر). في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: (إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس). أخرجه مسلم. ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. ويروى: " وغمص " بالصاد المهملة، والمعنى واحد، يقال: غمصه يغمصه غمصا واغتمصه، أي استصغره ولم يره شيئا. وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها. وغمصت عليه قولا قاله، أي عبته عليه. وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (2) " [ ص: 76 ]. " أأسجد لمن خلقت طينا " [ الاسراء: 61 ]. " لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون " [ الحجر: 33 ] فكفره الله بذلك. فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر، حسد إبليس آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة. وقال قتادة: حسد إبليس آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكبر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه. الثامنة - قوله تعالى: (وكان من الكافرين) قيل: كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى: " فكان من المغرقين ". وقال الشاعر: (3) بتيهاء قفر والمطي كأنها * قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (1) زيادة عن صحيح مسلم. (2) راجع ج 7 ص 170 (3) هو ابن أحمر كما في اللسان مادة " كون ". (*)
[ 297 ]
أي صارت. وقال ابن فورك. " كان " هنا بمعنى صار خطأ ترده الاصول. وقال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لان الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة. قلت: وهذا صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (وإنما الاعمال بالخواتيم). وقيل: إن إبليس عبد الله تعالى ثمانين ألف سنة، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج، كما أعطى المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أعطي بلعام (1) الاسم الاعظم على طرف لسانه، فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده، فلذلك قال: أنا خير منه، ولذلك قال الله عزوجل: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين (2) " [ ص: 75 ] أي استكبرت ولا كبر لك، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي ! فلذلك قال: " وكان من الكافرين ". [ ص: 74 ]. وكان أصل خلقته من نار العزة، ولذلك حلف بالعزة فقال: " فبعزتك لاغوينهم أجمعين " [ ص: 82 ] فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام. وعن أبي صالح قال: خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة. التاسعة - قال علماؤنا - رحمة الله عليهم -: ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه ولي، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر. ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى، لان الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالايمان. ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالايمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالايمان، علم أن ذلك ليس (1) في تاريخ ابن الاثير والطبري إنه بلعم بن باعور من ولد لوط، كان في عهد موسى عليه السلام، وهو من أهل كنعان. راجع تاريخ ابن الاثير ج 1 ص 140، وتاريخ الطبري قسم أول ص 508 طبع أوربا. (2) راجع ج 15 ص 228 (*)
[ 298 ]
يدل على ولايته لله. قالوا: ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه، قال الشيخ أبو الحسن الاشعري وغيره. وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذى كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. العاشرة - واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا ؟ فقيل: لا، وإن إبليس أول من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الارض. واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال إنه كفر جهلا قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر [ عنادا (1) ] مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء. قوله تعالى: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى -: (وقلنا يا آدم اسكن) لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسكن، أي لازم الاقامة واتخذها مسكنا، وهو محل السكون. وسكن إليه يسكن سكونا. والسكن: النار، قال الشاعر: * قد قومت بسكن وأدهان * والسكن: كل ما سكن إليه. والسكين معروف سمي به لانه يسكن حركة المذبوح، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته. وسكان (2) السفينة عربي، لانه يسكنها عن الاضطراب. (1) زيادة عن تفسير ابن عطية. (2) السكان (بالضم): ذنب السفينة التي به تعدل. (*)
[ 299 ]
الثانية - في قوله تعالى: " اسكن " تنبيه على الخروج، لان السكنى لا تكون ملكا، ولهذا قال بعض العارفين: السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة (1). قلت: وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء: إن من أسكن رجلا مسكنا له أنه لا يملكه بالسكنى، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الاسكان. وكان الشعبي يقول: إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات. ونحو من السكنى العمرى، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى. وسيأتي الكلام في العمرى في " هود (2) " إن شاء الله تعالى. قال الحربي: سمعت ابن الاعرابي يقول: لم يختلف العرب في أن هذه الاشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والافقار والاخبال والمنحة والعرية والسكنى والاطراق. وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شئ من العطايا إلا المنافع دون الرقاب، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط. والعمرى: هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره. ومثله الرقبى: وهو أن يقول: إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك، وهي من المراقبة. والمراقبة: أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها، فأجازها أبو يوسف والشافعي، وكأنها وصية عندهم. ومنعها مالك والكوفيون، لان كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه. وفي الباب حديثان أيضا بالاجازة والمنع ذكرهما ابن ماجه في سننه، الاول رواه جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها) ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم. الثاني رواه ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته). قال: والرقبى أن (1) في بعض الاصول: " لا دخول ثواب ". (2) راجع ج 9 ص 57 (*)
[ 300 ]
يقول هو للآخر: مني ومنك موتا. فقوله: (لا رقبى) نهي يدل على المنع، وقوله: (من أرقب شيئا فهو له) يدل على الجواز، وأخرجهما أيضا النسائي. وذكر عن ابن عباس قال: العمرى والرقبى سواء. وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها). فقد صحح الحديث ابن المنذر، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء. وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد، وأنها لا ترجع إلى الاول أبدا، وبه قال إسحاق. وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث. والافقار مأخوذ من فقار الظهر. أفقرتك ناقتي: أعرتك فقارها لتركبها. وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه. ومثله الاخبال، يقال: أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه، قال زهير: هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا * وإن يسئالوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا والمنحة: العطية. والمنحة: منحة اللبن. والمنيحة: الناقه أو الشاة يعطيها الرجل آحر يحتلبها ثم يردها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم). رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما، وهو صحيح. والاطراق: إعارة الفحل، استطرق فلان فلانا فحله: إذا طلبه ليضرب في إبله، فأطرقه إياه، ويقال: أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي. وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها. وطروقة الفحل: أنثاه، يقال: ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل. الثالثة - قوله تعالى: (أنت وزوجك) " أنت " تأكيد للمضمر الذي في الفعل، ومثله " فاذهب أنت وربك ". ولا يجوز اسكن وزوجك، ولا اذهب وربك، إلا في ضرورة الشعر، كما قال: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى * كنعاج الملا تعسفن رملا (1) (1) قائله عمر بن أبي ربيعة. و " زهر " جمع زهراء، وهي البيضاء المشرقة. والتهادي: المشى الرويد الساكن. والنعاج: بقر الوحش. " تعسفن ": ركبن. (*)
[ 301 ]
ف " زهر " معطوف على المضمر في " أقبلت " ولم يؤكد ذلك المضمر. ويجوز في غير القرآن على بعد: قم وزيد. الرابعة - قوله تعالى: " وزوجك " لغة القرآن " زوج " بغير هاء، وقد تقدم القول فيه (1). وقد جاء في صحيح مسلم: " زوجة " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال: (يا فلان هذه زوجتي فلانة): فقال يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم). وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه (2) من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته، فلما انتبه قيل له: من هذه ؟ قال: امرأة قيل: وما اسمها ؟ قال: حواء، قيل: ولم سميت امرأة ؟ قال: لانها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء ؟ قال: لانها خلقت من حي. روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه، وأنهم قالوا له: أتحبها يا آدم ؟ قال: نعم، قالوا لحواء: أتحبينه يا حواء ؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه. قالوا: فلو صدقت أمرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء. وقال ابن مسعود وابن عباس: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الايسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها فقال: من أنت ؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وهو معنى قوله تعالى: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها " (3) [ الاعراف: 189 ]. قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لانها خلقت من أعوج وهو الضلع. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية: وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه - لن تستقيم (1) راجع ص 240 من هذا الجزء. (2) الضلع كعنب وجذع. (3) راجع ج 7 ص 337 (*)
[ 302 ]
لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت [ بها ] (1) وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها). وقال الشاعر: هي الضلع العوجاء ليست تقيمها * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى * أليس عجيبا ضعفها واقتدارها ومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال من الحية والثدي والمبال بنقص الاعضاء. فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل - روي ذلك عن علي رضي الله عنه - لخلق حواء من أحد أضلاعه، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى (2). الخامسة - قوله تعالى: (الجنة) الجنة: البستان، وقد تقدم القول (3) فيها. ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن. واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله يقول: " لا لغو فيها (4) ولا تأثيم " [ الطور: 23 ] وقال " لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا (5) " [ النبأ: 35 ] وقال: " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما (6) " [ الواقعة: 25 - 26 ]. وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: " وما هم منها بمخرجين (7) " [ الحجر: 48 ]. وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها. وقد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما. قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى ؟ فالجواب: أن الله تعالى عرف الجنة بالالف واللام، ومن قال: أسأل الله الجنة، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الالف واللام ليدل على أنها جنة الخلد (1) الزيادة عن صحيح مسلم. (2) راجع ج 5 ص 65 (3) راجع ص 239 من هذا الجزء. (4) راجع ج 17 ص 68. (5) راجع ج 19 ص 182 (6) راجع ج 17 ص 206 (7) راجع ج 10 ص 34 (*)
[ 303 ]
المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عزوجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها. وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا. وأما قولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الارض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس. قال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم. وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، فيعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء ! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي. السادسة - قوله تعالى: (وكلا منها رغدا حيث شئتما) قراءة الجمهور " رغدا " بفتح الغين. وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها. والرغد: العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه، قال: بينما المرء تراه ناعما * يأمن الاحداث في عيش رغد (1) ويقال: رغد عيشهم ورغد (بضم الغين وكسرها). وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف، وحيث وحيث وحيث، وحوث وحوث وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره. (1) القائل هو امرؤ القيس، كما في تفسير أبي حيان والطبري. (*)
[ 304 ]
السابعة - قوله تعالى: " ولا تقربا هذه الشجرة " أي لا تقرباها بأكل، لان الاباحة (1) فيه وقعت. قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النضر [ بن شميل ] (2) يقول: إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان (بضم الراء) فإن معناه لا تدن منه. وفي الصحاح: قرب الشئ يقرب قربا أي دنا. وقربته (بالكسر) أقربه قربانا أي دنوت منه. وقربت أقرب قرابة - مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب. قال الاصمعي: قلت لاعرابي: ما القرب ؟ فقال: سير الليل لورد الغد. وقال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الاكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب. قال ابن عطية: وهذا مثال بين في سد الذرائع. وقال بعض أرباب المعاني قوله: " ولا تقربا " إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه فيها لا يدوم، لان المخلد لا يحظر عليه شئ ولا يؤمر ولا ينهى. والدليل على هذا قوله تعالى " إني جاعل في الارض خليفة " [ البقرة: 30 ] فدل على خروجه منها. الثامنة - قوله تعالى: " هذه الشجرة " الاسم المبهم ينعت بما فيه الالف واللام لا غير، كقولك: مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة. وقرأ ابن محيصن: " هذي الشجرة " بالياء وهو الاصل، لان الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها، وذلك لان أصلها الياء. (1) أي من غير تلك الشجرة. (2) في الاصول: (مجلس النظر يقول). والتصويب والزيادة عن كتاب البحر لابي حيان. وقد عقب عليه بقوله: (وفي هذه الحكاية عن ابن العربي من التخطيط ما يتعجب من حاكيها، وهو قوله: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل، وبين النضر والشاشي من السنين مئون إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر بن شميل فيمكن). والشاشي هنا هو محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر المعروف بأبي بكر الشاشي ولد بميافارقين سنة 429 ه وتوفى سنة 507 ه (راجع طبقات الشافعية ج 4 ص 57). أما النصر بن شميل فقد توفى سنة ثلاث وقيل أربع ومائتين (راجع بغية الوعاة ووفيات الاعيان). وولد أبو بكر بن العربي سنة 468 وتوفى سنة 543 ه (راجع طبقات المفسرين). (*)
[ 305 ]
والشجرة والشجرة والشيرة، ثلاث لغات وقرئ " الشجرة " بكسر الشين. والشجرة والشجرة: ما كان على ساق من نبات الارض. وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الاشجار، وواد شجير، ولا يقال: واد أشجر. وواحد الشجراء شجرة، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة: شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء. وكان الاصمعي يقول في واحد الحلفاء: حلفة، بكسر اللام مخالفة لاخواتها. وقال سيبويه: الشجراء واحد وجمع، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء. والمشجرة: موضع الاشجار. وأرض مشجرة، وهذه الارض أشجر من هذه أي أكثر شجرا، قال الجوهري. التاسعة - واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة: هي السنبلة، والحبة منها ككلى البقر، أحلى من العسل وألين من الزبد، قاله وهب بن منبه. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: هي شجرة التين، وكذا روى سعيد (1) عن قتادة، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها، ذكره السهيلي. قال ابن عطية: وليس في شئ من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الاكل منها. وقال القشيري أبو نصر: وكان الامام والدي رحمه الله يقول: يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة. العاشرة - واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى: " فتكونا من الظالمين "، فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره [ بالاخذ ] (2) بالظاهر قال ابن العربي: وهي أول معصية عصى الله بها على هذا القول. قال: " وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث. وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حنث فيه. وقال (1) في نسخة: (شعبة) وكلاهما يروى عن قتادة. (2) الزيادة من ابن العربي. (*)
[ 306 ]
مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها، فحمل القول على اللفظ دون المعنى. وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين، قال في الكتاب: يحنث، لانها هكذا تؤكل. وقال ابن المواز: لا شئ عليه، لانه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها ". وفيما اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف. وقال آخرون: تأولا النهي على الندب. قال ابن العربي: وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك ها هنا، لقوله: " فتكونا من الظالمين " [ البقرة: 35 ] فقرن النهي بالوعيد، وكذلك قوله سبحانه: " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " (1) [ طه: 117 ]. وقال ابن المسيب: إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله. وكذلك قال يزيد بن قسيط، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل. قال ابن العربي: وهذا فاسد نقلا وعقلا، أما النقل فلم يصح بحال، وقد وصف الله عزوجل خمر الجنة فقال: " لا فيها غول ". وأما العقل فلان الانبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الاخلال بالفرائض واقتحام الجرائم. قلت: قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى: " فلما أنبأهم بأسمائهم " [ البقرة: 33 ] فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عزوجل. وقيل: أكلها ناسيا، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد. قلت: وهو الصحيح لاخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (1) " [ طه: 115 ]. ولكن لما كان الانبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا، أي مخالفا. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تعالى: " ولم نجد له عزما ". (1) راجع ج 11 ص 251 وص 253 (*)
[ 307 ]
قلت: قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم. وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا. وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الانبياء. والله أعلم. قلت: والقول الاول أيضا حسن، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال: (هذان حرامان على ذكور أمتي). وقال في خبر آخر: (هذان مهلكان أمتي). وإنما أراد الجنس لا العين. الحادية عشرة - يقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لانها وسواس المخدة، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال: ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لانه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد، فأتاهما من حيث أحبا - " حبك الشئ يعمي ويصم " - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد، فألح على حواء وألحت حواء على آدم، إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شئ سلمت أنت، فأكلت فلم يضرها، فأتت آدم فقالت: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، لقول الله تعالى: " ولا تقربا هذه الشجرة " فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا، وخفيت على آدم هذه المسألة، ولهذا قال بعض العلماء: إن من قال لزوجتيه أو أمتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان، إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما. وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول، حملا على هذا الاصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ. وقاله سحنون. وقال ابن القاسم مرة أخرى: تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما، لان بعض الحنث حنث، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه بحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما. وقال أشهب: تعتق وتطلق التي دخلت وحدها، لان دخول
[ 308 ]
كل واحدة منهما شرطا في طلاقها أو عتقها. قال ابن العربي: وهذا بعيد، لان بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا. قلت: الصحيح الاول، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما، لانك إذا قلت: لا تدخلا الدار، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما، لان قول الله تعالى " ولا تقربا هذه الشجرة " [ البقرة: 35 ] نهي لهما " فتكونا من الظالمين " [ البقرة: 35 ] جوابه، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا، فلما أكلت لم يصبها شئ، لان المنهي عنه ما وجد كاملا. وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " [ طه: 115 ] وقيل: نسي قوله: " إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " [ طه: 117 ]. والله أعلم. الثانية عشرة - واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الانبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا - بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رزيلة فيها شين ونقص إجماعا عند القاضي أبي بكر (1)، وعند الاستاذ أبي إسحاق (2) أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم -، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم. خلافا للرافضة حيث قالوا: إنهم معصومون من جميع ذلك، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث، وهذا ظاهر لا خفاء فيه. وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها، لانا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والاباحة أو الحظر أو المعصية، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الاصوليين. قال (1) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم أبو بكر الباقلاني. (2) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الاستاذ أبو إسحاق الاسفرايني. وفي الاصول: (عند الاستاذ أبي بكر) وهو تحريف. (راجع الكلام في عصمة الانبياء في شرح المواقف). (*)
[ 309 ]
الاستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: واختلفوا في الصغائر، والذي عليه الاكثر أن ذلك غير جائز عليهم، وصار بعضهم إلى تجويزها، ولا أصل لهذه المقالة. وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الاول: الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم، وإنما تلك الامور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات، [ بالنسبة ] إلى مناصبهم وعلو أقدارهم، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالامن والامان والسلامة. قال: وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الابرار سيئات المقربين. فهم - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليهم وسلامه. الثالثة عشرة - قوله تعالى: (فتكونا من الظالمين) الظلم أصله وضع الشئ في غير موضعه. والارض المظلومة: التي لم تحفر قط ثم حفرت. قال النابغة. وقفت فيها أصيلا لا وأسائلها * عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الاواري لايا ما أبينها * والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (1) ويسمى ذلك التراب الظليم. قال الشاعر: فأصبح في غبراء بعد إشاحة (2) * على العيش مردود عليها ظليمها (1) الاواري (واحدها آرى) حبل تشد به الدابة في محسبها. واللاى: المشقة والجهد. والنؤى: حفرة حول البيت لئلا يصل إليه الماء. والجلد (بالتحريك): الارض الصلبة. راجع خزانة الادب في إعرابه. (2) الاشاحة: الحذر والخوف لمن حاول أن يدفع الموت. قال صاحب اللسان: (يعني حفرة القبر يرد ترابها عليه بعد دفن الميت فيها). (*)
[ 310 ]
وإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم، ومنه: *... ظلامون للجزر (1) * ويقال: سقانا ظليمة طيبة، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه. وقد ظلم (2) وطبه، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده. واللبن مظلوم وظليم. قال: وقائلة ظلمت لكم سقائي * وهل يخفى على العكد الظليم (3) ورجل ظليم: شديد الظلم. والظلم: الشرك، قال الله تعالى: " إن الشرك لظلم عظيم " (4) [ لقمان: 13 ]. قوله تعالى: (وكلا منها رغدا) حذفت النون من (كلا) لانه أمر وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وحذفها شاذ. قال سيبويه: من العرب من يقول أؤكل، فيتم. يقال منه: أكلت الطعام أكلا ومأكلا. والاكلة (بالفتح): المرة الواحدة حتى تشبع. والاكلة (بالضم): اللقمة تقول: أكلت أكلة واحدة، أي لقمة وهي القرصة أيضا. وهذا الشئ أكلة لك أي طعمة لك. والاكل أيضا ما أكل. ويقال: فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع. (رغدا) نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا. قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. وقال مجاهد: (رغدا) أي لا حساب عليهم. والرغد في اللغة: الكثير الذي لا يعنيك ويقال: أرغد القوم إذا وقعوا في خصب وسعة. وقد تقدم (5) هذا المعنى. و (حيث) مبنية على الضم لانها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت. قال الكسائي: لغة قيس وكنانة الضم ولغة تميم الفتح. قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب قال الله تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (6) وتضم وتفتح. (ولا تقربا هذه الشجرة) الهاء من (هذه) بدل من ياء الاصل لان الاصل هذى. قال النحاس: ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها (1) عجز بيت لابن مقبل وهو بتمامه: عاد الاذلة في دار وكان بها * هرت الشقاشق ظلامون للجزر (2) الوطب (بفتح فسكون): الزق الذى يكون فيه السمن واللبن. (3) ظلمت سقائي: سقيتهم إياه قبل أن يروب. والعكد (بضم العين وفتحها وفتح الكاف جمع العكدة والعكدة): أصل اللسان. (4) راجع ج 14 ص 62 (5) راجع المسألة السادسة ص 303 من هذا الجزء. (6) آية 182 سورة الاعراف. و 44 سورة القلم. (*)
[ 311 ]
إلا هاء (هذه). ومن العرب من يقول: هاتا هند ومنهم من يقول: هاتي هند. وحكى سيبويه: هذه هند بإسكان الهاء. وحكى الكسائي عن العرب: ولا تقربا هذى الشجرة. وعن شبل بن عباد قال: كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في (هذه) في جميع القرآن. وقراءة الجماعة (رغدا) بفتح الغين. وروى عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكنا الغين. وحكى سلمة عن الفراء قال يقال: هذه فعلت وهذى فعلت فإثبات ياء بعد الذال. وهذا فعلت بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء. وهاتا فعلت. قال هشام ويقال: تافعلت. وأنشد: خليلي لولا ساكن الدار لم أقم * بتا الدار إلا عابر ابن سبيل قال ابن الانباري: وتا بإسقاط ها بمنزله ذى بإسقاط ها من هذى وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه. وقد قال الفراء: من قال هذه قامت لا يسقط ها لان الاسم لا يكون على ذال واحدة. " فتكونا " عطف على " تقربا " فلذلك حذفت النون. وزعم الجرمي (1) أن الفاء هي الناصبة، وكلاهما جائز. قوله تعالى: فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين (36) قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) فيه عشر مسائل: الاولى: قوله تعالى: " فأزلهما الشيطان عنها " قرأ الجماعة " فأزلهما " بغير ألف، من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما وأوقعهما فيها. وقرأ حمزة " فأزالهما " بألف، من التنحية، أي نحاهما. يقال: أزلته فزال. قال ابن كيسان: فأزالهما من الزوال، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية. قلت: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى. يقال منه: أزللته فزل. ودل على هذا قوله تعالى: " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا (2) " [ آل عمران: 155 ]، وقوله: (1) الجرمي (بفتح الجيم وسكون الراء): صالح بن إسحاق أبو عمر مولى جرم، لغوي مشهور. (عن بغية الوعاة). (2) راجع ج 4 ص 243 (*)
[ 312 ]
" فوسوس لهما الشيطان " والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان إنما قدرته [ على ] إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه. وقد قيل: إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال. قال امرؤ القيس: يزل الغلام الخف عن صهواته * ويلوي بأثواب العنيف المثقل (1) وقال أيضا: كميت يزل اللبد عن حال متنه * كما زلت الصفواء بالمتنزل (2) الثانية - قوله تعالى: " فأخرجهما مما كانا فيه " إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله: " فأخرجهما " تأكيد وبيان للزوال، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، وليس كذلك، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الارض، لانهما خلقا منها، وليكون آدم خليفة في الارض. ولم يقصد إبليس - لعنه الله - إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخنة (3) عين وغيظ نفس وخيبة ظن. قال الله جل ثناؤه: " ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " (4) [ طه: 122 ] فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره، فكم بين الخليفة والجار ! صلى الله عليه وسلم. ونسب ذلك إلى إبليس، لانه كان بسببه وإغوائه. ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم، واختلف في الكيفية، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " والمقاسمة ظاهرها المشافهة. وقال بعضهم، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن منبه،: دخل الجنة في فم الحية وهى ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض (1) الخف (بالكسر): الخفيف. والصهوة: موضع اللبد من ظهر الفرس. ويلوى بها: يذهب بها من شدة عدوه. والعنيف: الذى لا يحسن الركوب، وليس له رفق بركوب الخيل. والمثقل: الثقيل. (2) الكميت: لون ليس بأشقر ولا أدهم. والحال: موضع اللبد من ظهر الفرس. والصفواء (جمع صفاة): الصخرة الملساء. والمتنزل: الذي ينزل عليها فيزلق عنها. (3) سخنت عينه: نقيض قرت. (4) راجع ج 11 ص 257 (*)
[ 313 ]
نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها ! فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها. ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: أين أنت ؟ فقال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج ؟ قال أستحي منك يا رب، قال: أهبط إلى الارض التي خلقت منها. ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بقتلها، على ما يأتي بيانه. وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش: وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). والله أعلم. وسيأتي في الاعراف (1) أنه لما أكل بقي عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الاشجار وبكتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التين، فأخذ من ورقه فاستتر به، فبلي بالعري دون الشجر. والله أعلم. وقيل: إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا. الثالثة: يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب، وقيل لها: أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك. روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس يقتلهن المحرم) فذكر الحية فيهن. وروي أن إبليس قال لها: أدخليني الجنة وأنت في ذمتي، فكان ابن عباس يقول: أخفروا (2) ذمة إبليس. وروت ساكنة بنت الجعد عن سراء (3) بنت نبهان الغنوية قالت: سمعت (1) راجع ج 7 ص 181. (2) أي انقضوا عهده وذمامه. (3) في التقريب: (بفتح أولها وتشديد الراء المهملة مع المد). وفي أسد الغابة: (بفتح السين وإمالة الراء المشددة، وآخره ياء ساكنة). (*)
[ 314 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقتلوا) الحيات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا). قال علماؤنا: وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده، فلذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا). أخرجه مسلم وغيره. الرابعة - روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة (1) بن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: بمنى فمرت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتلوها) فسبقتنا إلى حجر فدخلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا). قال علماؤنا: وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى، قالوا: فلم (2) يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر. فإن قيل: قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثلة. قيل له: يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الاثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل على الاثر الذي جاء: (لا تعذبوا بعذاب الله) فكان على هذا سبيل العمل عنده. فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه: " والمرسلات عرفا " [ المرسلات: 1 ] فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: (اقتلوها)، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقاها الله شركم كما وقاكم شرها). فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها. قيل له: يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان. والله أعلم. وقوله: (وقاها الله شركم) أي قتلكم إياها (كما وقاكم شرها) أي لسعها. (1) كذا في جميع نسخ الاصل. وفي غيرها من التفاسير: (عن عبد الله بن مسعود). ويبدوا أن الاصل: (عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله) الخ. (2) الضمير للحديث، أي لم يبق هذا الحديث الخ. (*)
[ 315 ]
الخامسة: الامر بقتل الحيات من باب الارشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، لقوله: (اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين (1) والابتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل). فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما. وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الامر العام، ولان نوع الحيات غالبه الضرر، فيستصحب ذلك فيه، ولانه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية). فشجع على قتلها. وقال فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا: (اقتلوا الحيات [ كلهن ] (2) فمن خاف ثأرهن فليس مني). والله أعلم. السادسة: ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام، لقوله عليه السلام: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام). وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لاسلام الجن بها، قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا، قاله ابن نافع. وقال مالك: نهى عن قتل جنان (3) البيوت في جميع البلاد. وهو الصحيح، لان الله عزوجل قال: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " (4) [ الاحقاف: 29 ] الآية. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن) وفيه: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، الحديث. وسيأتي بكماله في سورة " الجن " (5) إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شئ منها حتى يحرج (6) عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (1) ذو الطفيتين: حية لها خطان أسودان كالطفيتين أي الخوصتين. (2) الزيادة عن سنن أبي داود. (3) جنان (بتشديد النون الاولى، جمع جان): ضرب من الحيات الدقيق الخفيف يضرب إلى الصفرة ليس بسام، وهو كثير في بيوت الناس. (4) راجع ج 16 ص 210 (5) راجع ج 19 ص 1 فما بعد. (6) في هامش نسخة من الاصل: (التحريج هو أن يقول لها: أنت في حرج - أي في ضيق - إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتل). وكذلك هو في نهاية ابن الاثير واللسان. (*)
[ 316 ]
السابعة: روى الائمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لاقتلها، فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت ؟ فقلت نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة). فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ! فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا، الحية أم الفتى ! قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه [ لنا ] (1)، فقال: (استغفروا لاخيكم (2) - ثم قال: - إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان). وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لهذه البيوت عوامر (3) فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر - وقال لهم: - اذهبوا فادفنوا صاحبكم). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا، لانه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة، إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالاولى (1) الزيادة عن صحيح مسلم. (2) في صحيح مسلم: (لصاحبكم). (3) العوامر: الحيات التي تكون في البيوت، واحدها عامر وعامرة. (*)
[ 317 ]
أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما. وقد قتلت سعد ابن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا: قد قتلنا سيد الخز * رج سعد بن عباده ورميناه بسهمي * - ن فلم نخط فؤاده وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا) ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم. روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها: لقد قتلت مسلما، فقالت: لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله. وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة، فتصدقت وأعتقت رقابا. وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي، وعن علقمة نحوه. الثامنة - في صفة الانذار، قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار، وإن ظهر في اليوم مرارا. ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام. وقيل: يكفي ثلاث مرار، لقوله عليه السلام: (فليؤذنه ثلاثا)، وقوله: (حرجوا عليه ثلاثا) ولان ثلاثا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى، لقوله عليه السلام: (ثلاثة أيام). وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الايام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الانذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح
[ 318 ]
عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه. قلت: وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الاذن مرة واحدة، والحديث يرده. والله أعلم. وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان - عليه السلام - ألا تؤذيننا وألا تظهرن علينا). التاسعة - روى جبير عن نفير عن أبي ثعلبة الخشني - واسمه جرثوم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون). وروى أبو الدرداء - واسمه عويمر - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الارض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الانس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها وإذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله). العاشرة - ما كان من الحيوان أصله الاذاية فإنه يقتل ابتداء، لاجل إذايته من غير خلاف، كالحية والعقرب والفأر والوزغ، وشبهه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم...). وذكر الحديث. فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به. وقال لها إبليس أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال: (اقتلوها ولو كنتم في الصلاة) يعني الحية والعقرب. والوزغة (1) نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت. وهذا من نوع ما يروى في الحية. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل وزغة فكأنما (1) الوزغة (بالتحريك): هي التي يقال لها سام أبرص. (*)
[ 319 ]
قتل كافرا). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك) وفي راوية أنه قال: (في أول ضربة سبعون حسنة). والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها. وروى عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة). واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها. والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الارض فترك أمره وأقبل على جيفة. هذا كله في معنى الحية، فلذلك ذكرناه. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في " المائدة " (1) وغيرها إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وقلنا اهبطوا بعضكم البعض عدو) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى " وقلنا اهبطوا " حذفت الالف من " اهبطوا " في اللفظ لانها ألف وصل. وحذفت الالف من " قلنا " في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها. وروى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في " اهبطوا "، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والاكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل. والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان، في قول ابن عباس. وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة. وقال مجاهد والحسن أيضا: بنو آدم وبنو إبليس. والهبوط: النزول من فوق إلى أسفل، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له " بوذ " (2) ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلا ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتي بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع، فأورث ولده الصلع. وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله آدم (1) راجع ج 6 ص 303 (2) في اللسان والقاموس ومعجم البلدان ومروج الذهب: (راهون). (*)
[ 320 ]
وطوله ستون ذراعا) الحديث وأخرجه مسلم وسيأتي. وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالابلة (1)، والحية ببيسان (2)، وقيل: بسجستان (3). وسجستان أكثر بلاد الله حيات، ولولا العربد (4) الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لاخليت سجستان من أجل الحيات، ذكره أبو الحسن المسعودي. الثانية - قوله تعالى " بعضكم لبعض عدو " " بعضكم " مبتدأ، " عدو " خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم. وحذفت الواو من و " بعضكم " لان في الكلام عائدا، كما يقال: رأيتك السماء تمطر عليك. والعدو: خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم. وذئب عدوان: يعدو على الناس. والعدوان: الظلم الصراح. وقيل: هو مأخوذ من المجاوزة، من قولك: لا يعدوك هذا الامر، أي لا يتجاوزك. وعداه إذا جاوزه، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشئ، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز. قلت: وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: " بعضكم لبعض عدو " [ البقرة: 36 ] على الانسان نفسه، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى. يدل عليه قوله عليه السلام: (إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا). فإن قيل: كيف قال " عدو " ولم يقل أعداء، ففيه جوابان أحدهما: أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى، وذلك في القرآن، قال الله تعالى: " وكلهم آتيه (5) يوم القيامة فردا " [ مريم: 95 ] على اللفظ، وقال تعالى: " وكل أتوه داخرين " (6) [ النمل: 87 ] على المعنى. والجواب الآخر: أن عدوا يفرد في موضع الجمع، قال الله عزوجل: " وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا " (7) [ الكهف: 50 ] بمعنى أعداء، وقال تعالى: " يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو " (8) [ المنافقون: 4 ]. وقال ابن فارس: العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث، وقد يجمع. (1) الابلة (بضم أوله وثانيه وتشديد اللام وفتحها): البلد المعروف قرب البصرة من جانبها البحري. (2) بيسان: بلدة بمرو وبالشام وموضع باليمامة. (3) سجستان (بكسر أوله وثانيه وقد يفتح أوله): اسم مدينة من مدن خراسان. (عن شرح القاموس). (4) العربد (بكسر العين وسكون الراء وفتح الباء وكسرها وتشديد الدال): حية تنفخ ولا يؤذي. (5) راجع ج 11 ص 160 (6) راجع ج 13 ص 241 (7) راجع ج 10 ص 420 (8) راجع ج 18 ص 125 (*)
[ 321 ]
الثالثة - لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لانه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة. والصحيح في إهباطه وسكناه في الارض ما قد ظهر من الحكمة الازلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الاخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الاكلة سبب إهباطه من الجنة. ولله أن يفعل ما يشاء. وقد قال " إني جاعل في الارض خليفة ". وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الاشارة إليها مع أنه خلق من الارض. وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: " قلنا أهبطوا " وسيأتي (1). الرابعة - قوله تعالى: (ولكم في الارض مستقر) ابتداء وخبر، أي موضع استقرار. قاله أبو العالية وابن زيد. وقال السدي: " مستقر " يعني القبور. قلت: وقول الله تعالى: " جعل لكم الارض (2) قرارا " [ غافر: 64 ] يحتمل المعنيين. والله أعلم. الخامسة - قوله تعالى: (ومتاع) المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت متعة النكاح لانها يتمتع بها. وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر أبنه أيوب إثر دفنه: وقفت على قبر غريب بقفرة * متاع قليل من حبيب مفارق السادسة - قوله تعالى: (إلى حين) اختلف المتأولون في الحين على أقوال، فقالت فرقة إلى الموت وهذا قول من يقول: المستقر هو المقام في الدنيا. وقيل: إلى قيام الساعة، وهذا قول من يقول: المستقر هو القبور وقال الربيع: " إلى حين " إلى أجل والحين: الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن قال خويلد: كأبى (3) الرماد عظيم القدر جفنته * حين الشتاء كحوض المنهل اللقف لقف الحوض لقفا، أي تهور من أسفله واتسع. وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة: العاطفون تحين ما من عاطف * والمطعمون زمان أين المطعم (1) ص 327 (2) راجع ج 15 ص 328 (3) كابي الرماد: أي عظيم الرماد. (*)
[ 322 ]
والحين أيضا: المدة ومنه قوله تعالى: " هل أتى على الانسان حين من الدهر " (1) [ الانسان: 1 ] والحين: الساعة قال الله تعالى: " أو تقول حين ترى العذاب " (2) [ الزم 58 ] قال ابن عرفة: الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها. وقوله " فذرهم في غمرتهم حتى حين (3) " [ المؤمنون: 54 ] أي حتى تفنى آجالهم وقول تعالى " تؤتي أكلها كل حين " (4) [ إبراهيم: 25 ] أي كل سنة وقيل: بل كل ستة أشهر وقيل: بل غدوة وعشيا قال الازهري: الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الازمان كلها طالت أو قصرت. والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة. قال: والحين يوم القيامة. والحين: الغدوة والعشية قال الله تعالى " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون " (5) [ الروم: 17 ] ويقال: عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا. وحان حين كذا أي قرب. قالت بثينة: وإن سلوى عن جميل لساعة * من الدهر ما حانت ولا حان حينها السابعة - لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم فقال الفراء: الحين حينان: حين لا يوقف على حده والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه: " تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " (5) [ إبراهيم: 25 ] ستة أشهر قال ابن العربي: الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الاحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة. ومالك يرى في الاحكام والايمان أعم الاسماء والازمنة. والشافعي يرى الاقل. وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر. ولا معنى لقوله لان المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لانه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر. وقال مالك وأصحابه: أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه: أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أو لا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال: واتفقوا في الاحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أولا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه (1) راجع ج 19 ص 116 (2) راجع ج 15 ص 272 (3) راجع ج 12 ص 130 (4) راجع ج 9 ص 360 (5) راجع ج 14 ص 14 (*)
[ 323 ]
قلت: هذا الاتفاق إنما هو في المذهب قال مالك رحمه الله: من حلف ألا يفعل شيئا إلى حين أو زمان أو دهر، فذلك كله سنة. وقال عنه ابن وهب: إنه شك في الدهر أن يكون سنة وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن: أن الدهر ستة أشهر. وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى. " تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها " [ إبراهيم: 25 ] أنه ستة أشهر. وقال الاوزاعي وأبو عبيد الحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا. وقال: لانحنثه أبدا، والورع أن يقضيه قبل أنقضاء يوم وقال أبو ثور وغيره الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال: قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم. قال الكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لانه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين. وقال بعض العلماء في قول تعالى: " إلى حين " فائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (3) قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات " تلقى قيل معناه: فهم وفطن. وقيل: قبل وأخذ وكان عليه السلام يتلقى الوحى أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه تقول: خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم وقيل: معنى تلقى تلقن. وهذا في المعنى صحيح ولكن لا يجوز أن يكون التلقي من التلقن في الاصل لان أحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا مثل تظنى من تظنن وتقصى من تقصص ومثله تسريت من تسررت وأمليت من أمللت وشبه ذلك ولهذا لا يقال: تقبى من تقبل ولا تلقى من تلقن فاعلم وحكى مكي أنه ألهمها فانتفع بها وقال الحسن: قبولها تعلمه لها وعمله بها
[ 324 ]
الثانية - واختلف أهل التأويل في الكلمات فقال ابن عباس والحسن وسعيد ابن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (1) " [ الاعراف: 23 ]. وعن مجاهد أيضا: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. وقالت طائفة: رأى مكتوبا على ساق العرش " محمد رسول الله " فتشفع بذلك فهي الكلمات وقالت طائفة: المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء. وقيل الندم والاستغفار والحزن قال ابن عطية: وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيا إلا الاستغفار المعهود. وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: " ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية وقال موسى " رب أنى ظلمت نفسي فاغفر لي " (2) [ القصص: 16 ] وقال يونس " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " (3) [ الانبياء: 87 ]. وعن ابن عباس ووهب بن منبه: أن الكلمات " سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لى إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " وقال محمد بن كعب هي قوله " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين " وقيل: الكلمات قوله حين عطس: " الحمد لله ". والكلمات جمع كلمة والكلمة تقع على القليل والكثير. وقد تقدم (4). الثالثة - قوله تعالى: (فتاب عليه) أي قبل توبته، أو وفقه للتوبة. وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وتاب العبد: رجع إلى طاعة ربه وعبد تواب: كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال: تاب وثاب وآب وأناب: رجع. (1) راجع ج 7 ص 181 (2) راجع ج 13 ص 261 (3) راجع ج 11 ص 333 (4) راجع ص 67 من هذا الجزء. (*)
[ 325 ]
الرابعة - إن قيل: لم قال " عليه " لم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال: " ولا تقربا هذه الشجرة " [ البقرة: 35 ] و " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا " [ الاعراف: 23 ] فالجواب: أن آدم عليه السلام لما خوطب في أول القصة بقوله: " أسكن " خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده. وأيضا فلان المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: " وعصى آدم ربه فغوى " [ طه: 121 ]. وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الامر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله: " ألم أقل لك " [ الكهف: 75 ]. وقيل: إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء قاله الحسن. وقيل: إنه مثل قوله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا (1) إليها " [ الجمعة: 11 ] أي التجارة لانها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب. وقال الشاعر: (2) رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريئا ومن فوق (3) الطوي رماني وفي التنزيل " والله ورسوله أحق أن يرضوه " (4) [ التوبة: 62 ] فحذف إيجازا واختصارا الخامسة - قوله تعالى: (إنه هو التواب الرحيم) وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر في القرآن معرفا ومنكرا واسما وفعلا. وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (5) " [ البقرة: 222 ]. قال ابن العربي: ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال أحدها: أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول. وقال آخرون: هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة. وقال آخرون توبة الله على العبد قبول توبته وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى: قبلت توبتك وأن يرجع إلى خلقه الانابة والرجوع في قلب المسئ وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة (1) راجع ج 18 ص 109. (2) هو عمرو بن أحمر الباهلي. (3) الذي في شرح شواهد سيبويه: (ومن أجل الطوي). والطوي: البئر المطوية بالحجارة. قال الشنتمري: (وصف في البيت رجلا كانت بينه وبينه مشاجرة في بئر فذكر أنه رماه بأمر يكرهه ورمى أباه بمثله على برأتهما منه من أجل المشاجرة التي كانت بينهما). (4) راجع ج 8 ص 193. (5) راجع ج 3 ص 91. (*)
[ 326 ]
السادسة - لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى: تائب اسم فاعل من تاب يتوب لانه ليس لنا أن نطلق عليه من الاسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين وإن كان في اللغة محتملا جائزا. هذا هو الصحيح في هذا الباب على ما بيناه في (الكتاب الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى). قال الله تعالى: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار " (1) [ التوبة: 117 ] وقال: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " (2) [ التوبة: 104 ]. وإنما قيل لله عزوجل: تواب لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه. السابعة - اعلم أنه ليس لاحد قدرة على خلق التوبة لان الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الاعمال خلافا للمعتزلة ومن قال بقولهم. وكذلك ليس لاحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه. قال علماؤنا: وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الاصل العظيم في الدين " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " [ التوبة: 31 ] عزوجل وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه " افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين " (3) [ الانعام: 140 ]. الثامنة - قرأ ابن كثير: " فتلقى آدم من ربه كلمات ". والباقون برفع " آدم " ونصب " كلمات ". والقراءتان ترجعان إلى معنى لان آدم إذا تلقي الكلمات فقد تلقته. وقيل: لما كانت الكلمات هي المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبول إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعلة وكأن الاصل على هذه القراءة " فتلقت آدم من ربه كلمات " ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث. وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلام إذا جاء فعل المؤنث بغير علامة ومنه قولهم: حضر القاضي اليوم أمرأة. وقيل: إن الكلمات لما لم يكن تأنيثه حقيقيا حمل على معنى الكلم فذكر. وقرأ الاعمش: " آدم من ربه " مدغما. وقرأ أبو نوفل بن أبي عقرب: " أنه " بفتح الهمزة على معنى لانه وكسر الباقون على الاستئناف. وأدغم الهاء في الهاء أبو عمرو وعيسى وطلحة فيما حكى أبو حاتم عنهم. وقيل: لا يجوز (1) راجع ج 8 ص 277 (2) راجع ج 16 ص 26 (3) راجع ج 7 ص 96 (*)
[ 327 ]
لان بينهما واوا في اللفظ لا في الخط. قال النحاس: أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد: له زجل كأنه صوت حاد * إذا طلب الوسيقة أو زمير (1) فعلى هذا يجوز الادغام وهو رفع بالابتداء " التواب " خبره والجملة خبر " إن ". ويجوز أن يكون " هو " توكيدا للهاء ويجوز أن تكون فاصلة، على ما تقدم. وقال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الارض لم يكن فيها شئ غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال: يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الارض شئ يمشى على رجليه ويبطش بيديه ! فقال الحوت: لئن كنت صادقا مالى منه في البحر منجى ولا لك في البر منه مخلص !. قوله تعالى: قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) قوله تعالى: (قلنا اهبطوا) كرر الامر على جهة التغليظ وتأكيده، كما تقول لرجل: قم قم. وقيل: كرر الامر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالاول العداوة وبالثاني إتيان الهدى. وقيل: الهبوط الاول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الارض. وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الاسراء على ما يأتي. (2) (جميعا) نصب على الحال. وقال وهب بن منبه: لما هبط آدم عليه السلام إلى الارض قال إبليس للسباع: إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب (1) البيت للشماخ. وصف حمار وحش هائجا فيقول: إذا طلب وسيقته - وهي انثاه التي يضمها - صوت بها وكأن صوته لما فيه من الزجل والحنين ومن حسن الترجيع والتطريب صوت حاد بإبل يتغنى ويطربها أو صوت مزمار. والزجل: صوت فيه حنين وترنم. (عن شرح الشواهد). (2) راجع ج 10 ص 205 (*)
[ 328 ]
وقالوا: أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له: امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا. واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقى معه ومع أولاده. وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الارض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم (1) على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم. ويموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمى بمدر ولى هاربا ثم يعود إلفا لهم. ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ولهثه (2) على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في " الاعراف " (3) إن شاء الله تعالى. ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه. قوله تعالى: (فإما يأتينكم منى هدى) اختلف في معنى قوله " هدى " فقيل: كتاب الله قاله السدي. وقيل: التوفيق للهداية. وقالت فرقة: الهدى الرسل وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبى ذر وخرجه الآجري. وفى قوله " منى " إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم (4) وقرأ الجحدري " هدى " وهو لغة هذيل يقولون: هدي وعصي ومحيي. وأنشد النحويون لابي ذؤيب يرثي بنيه سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم * فتخرموا ولكل جنب مصرع (5) (1) أشلاهم: أغراهم. (2) لهث الكلب: إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش. (3) راجع ج 7 ص 323 (4) راجع المسألة الثالثة ص 186 من هذا الجزء. (5) (هوي): يريد هواى أي ماتوا قبلي وكنت أحب أن أموت قبلهم. (وأعنقوا لهواهم) جعلهم كأنهم هووا الذهاب إلى المنية لسرعتهم إليها وهم لم يهووها. (فتخرموا) أي أخذوا واحدا واحدا. (*)
[ 329 ]
قال النحاس: وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الاضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الالف أبدلت ياء وأدغمت و " ما " في قوله " إما " زائدة على " إن " التي للشرط وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله " فمن تبع ". و " من " في موضع رفع بالابتداء و " تبع " في موضع جزم بالشرط. " فلا خوف " جوابه. قال سيبويه: الشرط الثاني وجوابه هما جواب الاول. وقال الكسائي: " فلا خوف عليهم " جواب الشرطين جميعا. قوله تعالى: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل. وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف: التنقص ومنه قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف " (1) [ النحل: 47 ]. وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب: " فلا خوف " بفتح الفاء على التبرئة. والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لان الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لان " لا " لا تعمل في معرفة فاختاروا في الاول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد. ويجوز أن تكون " لا " في قولك: فلا خوف بمعنى ليس. والحزن والحزن: ضد السرور ولا يكون إلا على ماض. وحزن الرجل (بالكسر) فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بنى عليه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما. واحتزن وتحزن بمعنى. والمعنى في الآية: فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وقيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا. والله أعلم قوله تعالى: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39) (1) راجع ج 10 ص 109 (*)
[ 330 ]
قوله تعالى: " والذين كفروا " أي أشركوا، لقوله: (وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار " الصحبة: الاقتران بالشئ في حالة ما في زمان ما فان كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة وهكذا هي صحبة أهل النار لها. وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة على ما نبينه في " براءة " (1) إن شاء الله. وباقي ألفاظ الآية تقدم معناها والحمد لله. قوله تعالى: يا بني إسراءيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياى فارهبون (40) قوله تعالى: (يا بني إسرائيل) نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للاضافة. الواحد ابن والاصل فيه بنى وقيل: بنو فمن قال: المحذوف منه واو احتج بقولهم: البنوة. وهذا لا حجة فيه لانهم قد قالوا: الفتوة وأصله الياء. وقال الزجاج: المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت. الاخفش: اختار أن يكون المحذوف منه الواو لان حذفها أكثر لثقلها. ويقال: ابن بين البنوة والتصغير بنى. قال الفراء: يقال: يا بنى ويا بني لغتان مثل يا أبت ويا أبت وقرئ بهما. وهو مشتق من البناء وهو وضع الشئ على الشئ والابن فرع للاب وهو موضوع عليه. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. قال أبو الفرج الجوزي: وليس في الانبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن له أسماء كثيرة. ذكره في كتاب " الآثار " له. قلت: وقد قيل في المسيح أنه اسم علم لعيسى عليه السلام غير مشتق وقد سماه الله روحا وكلمة، وكانوا يسمونه أبيل الابيلين ذكره الجوهري في الصحاح. وذكر البيهقي في " دلائل النبوة " عن الخليل بن أحمد: خمسة من الانبياء ذوو أسمين محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى والمسيح وإسرائيل ويعقوب ويونس وذو النون وإلياس وذو الكفل صلى الله عليهم وسلم (1) راجع ج 8 ص 148 (*)
[ 331 ]
قلت: ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فله أسماء كثيرة بيانها في مواضعها. وإسرائيل: اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف وهو في موضع خفض بالاضافة. وفيه سبع لغات: إسرائيل وهي لغة القران وإسرائيل بمدة مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ عن ورش. وإسراييل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الاعمش وعيسى بن عمر وقرأ الحسن والزهري بغير همز ولا مد. وإسرائيل بغير ياء بهمزة مكسورة. وإسراءل بهمزة مفتوحة. وتميم يقولون: إسرائين بالنون. ومعنى إسرائيل: عبد الله. قال ابن عباس: إسرا بالعبرانية هو عبد وإيل هو الله. وقيل: إسرا هو صفوة الله وإيل هو الله. وقيل: إسرا من الشد فكأن إسرائيل الذي شده الله وأتقن خلقه ذكره المهدوي وقال السهيلي سمي إسرائيل لانه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا فيكون بعض الاسم عبرانيا وبعضه موافقا للعرب والله أعلم قوله تعالى: (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) الذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان والذكر باللسان ضد الانصات. وذكرت الشئ بلساني وقلبي ذكرا. وأجعله منك على ذكر (بضم الذال) أي لا تنسه قال الكسائي: ما كان بالضمير فهو مضموم الذال وما كان باللسان فهو مكسور الذال. وقال غيره: هما لغتان يقال: ذكر وذكر، ومعناهما واحد. والذكر (بفتح الذال) خلاف الانثى والذكر أيضا الشرف ومنه قوله: " وإنه لذكر لك ولقومك (1) " [ الزخرف 44 ]. قال ابن الانباري: والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر أكتفاء بذكر النعمة وقيل: إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن. والنعمة هنا اسم جنس فهي مفرده بمعنى الجمع قال الله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها (2) " [ إبراهيم: 34 ] أي نعمه. ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم (1) راجع ج 16 ص 93 (2) راجع ج 9 ص 367 (*)
[ 332 ]
من الحجر الماء إلى ما أستودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته. والنعم على الآباء نعم على الابناء لانهم يشرفون بشرف آبائهم. تنبيه - قال أرباب المعاني: ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى ذكره فقال " اذكروني (1) أذكركم " [ البقرة 1 52 ] ليكون نظر الامم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النعمة. قوله تعالى: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) أمر وجوابه. وقرأ الزهري " أوف " (بفتح الواو وشد الفاء) للتكثير. واختلف في هذا العهد ما هو فقال الحسن عهده قوله " خذوا ما آتيناكم بقوة " (2) [ البقرة: 63 ] وقوله: " ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا " (3) [ المائدة: 12 ]. وقيل هو قوله: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه (4) " [ آل عمران: 187 ]. وقال الزجاج: " أوفوا بعهدي " الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم " أوف بعهدكم " بما ضمنت لكم على ذلك إن أوفيتم به فلكم الجنة. وقيل: " أوفوا بعهدي " في أداء الفرائض على السنة والاخلاص " أوف " بقبولها منكم ومجاراتكم عليها. وقال بعضهم: " أوفوا بعهدي " في العبادات " أوف بعهدكم " أي أوصلكم إلى منازل الرعايات. وقيل " أوفوا بعهدي " في حفظ آداب الظواهر " أوف بعهدكم " بتزيين سرائركم وقيل: هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة وغيره. هذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح. وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة. قلت: وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا قال الله تعالى: " أوفوا بالعقود " [ المائدة: 1 ] " أوفوا بعهد الله " [ النحل: 91 ]، وهو كثير. ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له بل ذلك تفضل منه عليهم. قوله تعالى: (وإياي فارهبون) أي خافون. والرهب والرهب والرهبة الخوف. ويتضمن الامر به معنى التهديد. وسقطت الياء بعد النون لانها رأس أية. وقرأ ابن (1) راجع ج 2 ص 171 (2) راجع ص 437 من هذا الجزء (3) راجع ج 6 ص 112 (4) راجع ج 4 ص 304 (*)
[ 333 ]
أبي إسحاق " فارهبوني " بالياء وكذا " فاتقوني " على الاصل. " وإياي " منصوب بإضمار فعل وكذا الاختيار في الامر والنهي والاستفهام التقدير: وإياي أرهبوا فارهبون. ويجوز في الكلام وأنا فارهبون على الابتداء والخبر. وكون " فارهبون " الخبر على تقدير الحذف المعنى وأنا ربكم فارهبون. قوله تعالى: وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بأياتي ثمنا قليلا وإياى فاتقون (41) قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت) أي صدقوا، يعني بالقرآن. (مصدقا) حال من الضمير في " أنزلت "، التقدير بما أنزلته مصدقا، والعامل فيه أنزلت. ويجوز أن يكون حالا من ما والعامل فيه آمنوا التقدير امنوا بالقرآن مصدقا. ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال. (لما معكم) يعني من التوراة. قوله تعالى: (ولا تكونوا أول كافر به) الضمير في " به " قيل هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية. وقال ابن جريج: هو عائد على القرآن إذ تضمنه قوله: " بما أنزلت ". وقيل: على التوراة، إذ تضمنها قوله: " لما معكم ". فإن قيل: كيف قال " كافر " ولم يقل كافرين قيل: التقدير ولا تكونوا أول فريق كافر به. وزعم الاخفش والفراء أنه محمول على معنى الفعل لان المعنى أول من كفر به. وحكى سيبويه هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتى وأجمله. وقال: " أول كافر به " وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لانهم حجة مظنون بهم علم. و " أول " عند سيبويه نصب على خبر كان. وهو مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل عينه وفاؤه واو. وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتل من جهتين: العين والفاء وهذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: هو من وأل إذا نجا فأصله أوأل ثم خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت
[ 334 ]
فقيل أول كما تخفف همزة خطيئة. قال الجوهري: " والجمع الاوائل والاولى أيضا على القلب. وقال قوم: أصله وول على فوعل فقلبت الواو الاولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع ". وقيل: هو أفعل من آل يئول فأصله أول قلب فجاء أعفل مقلوبا من أفعل فسهل وأبدل وأدغم. مسألة - لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب، وهم الكوفيون ومن وافقهم، لان المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولا وآخرا، وخص الاول بالذكر لان التقدم (1) فيه أغلظ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحدا، وهذا واضح. قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) فيه أربع مسائل: الاولى: قوله تعالى: " ولا تشتروا " معطوف على قوله: " ولا تكونوا ". نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشى. وكان الاحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قاله قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره. وقيل: كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك. وقيل: إن الاحبار كانوا يعلمون دينهم بالاجرة فنهوا عن ذلك. وفى كتبهم: يابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة قاله أبو العالية. وقيل: المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والثمن الذي هو نزر لا خطر له فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لانهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا. وقد تقدم هذا المعنى. وقال الشاعر: إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به * فما أصبت بترك الحج من ثمن قلت: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم. فمن أخذ رشوة على تغير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه (1) في نسخة من الاصل. (... لان النقل منه أعظم). (*)
[ 335 ]
وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية. والله أعلم. وقد روى أبو داود عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عزوجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعنى ريحها. الثانية - وقد اختلف العلماء في أخذ الاجرة على تعليم القرآن والعلم - لهذه الآية وما كان في معناها - فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز أخذ الاجرة على تعليم القرآن لان تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والاخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام. وقد قال تعالى: " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ". وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين) روى أبو هريرة قال: قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين ؟ قال: (درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء) وروى عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها). وأجاز أخذ الاجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس - حديث الرقية -: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله). أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه. وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد لانه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الاجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن. قال ابن المنذر: وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم فيجوز الاجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة.
[ 336 ]
وأما الجواب عن الآية - فالمراد بها بنو إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا، فيه خلاف، وهو لا يقول به. جواب ثان - وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا. فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الاجرة بدليل السنة في ذلك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته. ويجب على الامام أن يعين لاقامة الدين إعانته وإلا فعلى المسلمين لان الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال: ومن أين أنفق على عيالي ! فردوه وفرضوا له كفايته. وأما الاحاديث فليس شئ منها يقوم على ساق ولا يصح منها شئ عند أهل العلم بالنقل. أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة عنه وسعيد متروك. وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن سلمة عن أبى جرهم عنه وأبو جرهم مجهول لا يعرف ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبوجرهم وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك الحديث أيضا وهو حديث لا أصل له. وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الاسود بن ثعلبة عنه والمغيرة معروف عند (1) أهل العلم ولكنه له مناكير هذا منها قاله أبو عمر. ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لانه روي عن عبادة من وجهين وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي وهو منقطع. وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل لانه جائز أن يكون علمه لله ثم أخذ عليه أجرا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الناس وخير من يمشي على جديد الارض المعلمون كلما خلق الدين جددوه أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فان المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبى وبراءة للمعلم وبراءة لابويه من النار) (1) في نسخة: (معروف بحمل العلم). (*)
[ 337 ]
الثالثة: واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة فروي أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من أستؤجر في رمضان يقوم للناس فقال: أرجو ألا يكون به بأس وهو أشد كراهة له في الفريضة. وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور: لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه. وقال الاوزاعي: لا صلاة له. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدم. قال ابن عبد البر: وهذه المسألة معلقة من التي قبلها واصلها واحد. قلت: ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في " براءة " إن شاء الله تعالى. وكره ابن القاسم أخذ الاجرة على تعليم الشعر والنحو. وقال ابن حبيب: لا بأس بالاجارة على تعليم الشعر والرسائل وأيام العرب ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء. قال أبو الحسن اللخمي: ويلزم على قوله أن يجيز الاجارة على كتبه ويجيز بيع كتبه. وأما الغناء والنوح فممنوع على كل حال الرابعة: روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا محمد ابن عمر بن الكميت قال حدثنا على بن وهب الهمداني قال أخبرنا الضحاك بن موسى قال: مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة - وهو يريد مكة - فأقام بها أياما فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا له: أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء ؟ قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين وأي جفاء رأيت منى ؟ قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني ! قال يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك ! قال: فالتفت إلى محمد ابن شهاب الزهري فقال: أصاب الشيخ وأخطأت. قال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت ؟ ! قال: لانكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب قال أصبت يا أبا حازم فكيف القدوم غدا على الله تعالى ؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسئ فكالآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان وقال: ليت شعري ! ما لنا عند الله ؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله. قال: وأي مكان أجده ؟ قال:
[ 338 ]
" إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " (1) [ الانفطار: 13 - 14 ]. قال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم ؟ قال أبو حازم: رحمة الله قريب من المحسنين قال له سليمان: يا أبا حازم فأي عباد الله أكرم ؟ قال: أولو المروءة والنهى. قال له سليمان: فأي الاعمال أفضل ؟ قال أبو حازم أداء الفرائض مع اجتناب المحارم. قال سليمان: فأي الدعاء أسمع ؟ قال دعاء المحسن إليه للمحسن. فقال: أي الصدقة أفضل ؟ قال: للسائل البائس وجهد المقل (2) ليس فيها من ولا أذى. قال: فأي القول أعدل ؟ قال: قول الحق عند من تخافه أو ترجوه. قال: فأى المؤمنين أكيس ؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها. قال: فأي المؤمنين أحمق ؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال له سليمان: أصبت فما تقول فيما نحن فيه ؟ قال يا أمير المؤمنين أو تعفيني ؟ قال له سليمان: لا ! ولكن نصيحة تلقيها إلي. قال: يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوه وما قيل لهم !. فقال له رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم ! قال أبو حازم: كذبت إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا تكتمونه. قال له سليمان: فكيف لنا أن نصلح ؟ قال: تدعون الصلف وتمسكون بالمرؤة وتقسمون بالسوية. قال له سليمان: فكيف لنا بالمأخذ به ؟ قال أبو حازم: تأخذه من حله وتضعه في أهله. قال له سليمان: هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك ؟ قال أعوذ بالله ! قال له سليمان: ولم ذاك ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات. قال له سليمان ارفع إلينا حوائجك قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة. قال له سليمان: ليس ذاك إلي ! قال له أبو حازم: فما لى إليك حاجة غيرها. قال: فادع لي. قال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى قال له سليمان قط ! قال أبو حازم: قد أوجزت وأكثرت (1) راجع ج 19 ص 247 (2) جهد المقل: أي قدر ما يحتمله حال القليل المال. (*)
[ 339 ]
إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر قال له سليمان أوصني قال سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب [ إليه ] (1) أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير قال فردها عليه وكتب إليه يا أمير المومنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بذلا (2) وما أرضاها لك فكيف [ أرضاها ] (1) لنفسي ! إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان [ فسألهما فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ] (1) فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وذلك أنه كان جائعا خائفا لا يأمن فسأل ربه ولم يسأل الناس فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله. فقال أبوهما وهو شعب عليه السلام هذا رجل جائع. فقال إحداهما: اذهبي فادعيه. فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فشق على موسى حين ذكرت " أجر ما سقيت لنا " ولم يجد بدا من أن يتبعها لانه كان بين الجبال جائعا مستوحشا. فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجيزتها - وكانت ذات عجز - وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى فلما عيل صبره ناداها: يا أمة الله كوني خلفي وأريني السمت بقولك. فلما دخل على شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب اجلس يا شاب فتعشى فقال له موسى عليه السلام أعوذ بالله ! فقال له شعيب: لم ؟ أما أنت جائع ؟ قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بمل ء الارض ذهبا فقال له شعيب لا يا شاب. ولكنها عادتي وعادة آبائي: نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل فإن كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه وإن كان لحق في بيت المال فلي فيها نظراء فان ساويت بيننا وإلا فليس لى فيها حاجة (1) الزيادة عن مسند الدارمي. (2) بذلا: أي راجيا بذلك وعطاءك. (*)
[ 340 ]
قلت: هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والانبياء انظروا إلى هذا الامام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عوضا ولا على وصيته بدلا ولا على نصيحته صفدا (1) بل بين الحق وصدع ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان). وفي التنزيل " يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " (2) [ المائدة 54 ]. قوله تعالى: (وإياي فاتقون) قد تقدم معنى التقوى (3) وقرئ " فاتقوني " بالياء وقد تقدم. وقال سهل بن عبد الله قوله " وإياي فاتقون " قال موضع علمي السابق فيكم. " وإياي فارهبون " قال موضع المكر والاستدراج (4) لقول الله تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " (5) [ الاعراف: 182 ] وقوله: " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " (5) [ الاعراف: 99 ] فما استثنى نبيا ولا صديقا. قوله تعالى: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42) قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل) اللبس: الخلط. لبست عليه الامر ألبسه، إذا مزجت بينه بمشكلة وحقه بباطله قال الله تعالى " وللبسنا عليهم ما يلبسون " (6) [ الانعام: 9 ]. وفى الامر لبسة أي ليس بواضح. ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقالت الخنساء: ترى الجليس يقول الحق تحسبه * رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا صدق مقالته واحذر عداوته * والبس عليه أمورا مثل ما لبسا (1) الصفد (بالتحريك): العطاء. (2) راجع ج 6 ص 220 (3) راجع ص 161 وما بعدها. (4) العبارة هاهنا غير واضحة. والذي في البحر لابي حيان: (وقال سهل: (وإياي فارهبون) موضع االيقين بمعرفته (وإياي فاتقون) موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج). (5) راجع ج 7 ص 329 وص 254. (6) راجع ج 6 ص 394. (*)
[ 341 ]
وقال العجاج: لما لبسن الحق بالتجني * غنين واستبدلن زيدا مني روى سعيد عن قتادة في قوله: " ولا تلبسوا الحق بالباطل " [ البقرة: 42 ]، يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالاسلام وقد علمتم أن دين الله - الذي لا يقبل غيره ولا يجزئ إلا به - الاسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله. والظاهر من قول عنترة: * وكتيبة لبستها بكتيبة * أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون من اللباس. وقد قيل هذا في معنى الآية، أي لا تغطوا. ومنه لبس الثوب يقال لبست الثوب ألبسه ولباس الرجل زوجته وزوجها لباسها قال الجعدي إذا ما الضجيع ثنى جيدها * تثنت عليه فكانت لباسا وقال الاخطل: وقد لبست لهذا الامر أعصره * حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا واللبوس: كل ما يلبس من ثياب ودرع قال الله تعالى " وعلمناه صنعة لبوس لكم " (1) [ الانبياء: 80 ]. ولابست فلانا حتى عرفت باطنه وفي فلان ملبس أي مستمتع قال: ألا إن بعد العدم للمرء قنوة (2) * وبعد المشيب طول عمر وملبسا ولبس الكعبة والهودج ما عليهما من لباس (بكسر اللام). قوله تعالى " بالباطل " الباطل في كلام العرب خلاف الحق ومعناه الزائل قال لبيد * ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وبطل الشئ يبطل بطلا وبطولا وبطلانا [ ذهب ضياعا وخسرا ] (3) وأبطله غيره. ويقال ذهب دمه بطلا أي هدرا والباطل الشيطان والبطل الشجاع سمي بذلك لانه يبطل شجاعة صاحبه. قال النابغة: لهم لواء بأيدي ماجد بطل * لا يقطع الخرق إلا طرفه سامي (1) راجع ج 11 ص 320 (2) القنوة (بكسر الاول وضمه): الكسبة. (3) الزيادة عن اللسان. (*)
[ 342 ]
والمرأة بطلة. وقد بطل الرجل (بالضم) يبطل بطولة وبطالة (1) أي صار شجاعا وبطل الاجير (بالفتح) بطالة أي تعطل فهوة بطال واختلف أهل التأويل في المراد بقوله " الحق بالباطل " فروي عن ابن عباس وغيره لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل. وقال أبو العالية قالت اليهود محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل وقال ابن زيد المراد بالحق التوراة والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره وقال مجاهد لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالاسلام. وقاله قتادة وقد تقدم. قلت: وقول ابن عباس أصوب لانه عام فيدخل فيه جميع الاقوال والله المستعان قوله تعالى: (وتكتموا الحق) يجوز أن يكون معطوفا على " تلبسوا " فيكون مجزوما ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن التقدير لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه. قال ابن عباس: يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه. وقال محمد بن سيرين: نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم وهم مؤمنون مصدقون بنبوته فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الابناء وأبناء الابناء فأدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه وهو معنى قوله تعالى " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " (2) [ البقرة: 89 ] قوله تعالى: (وأنتم تعلمون) جملة في موضع الحال أي أن محمدا عليه السلام حق فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل. وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى " أتأمرون الناس بالبر " (3) [ البقرة: 44 ] الآية قوله تعالى: وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأركعوا مع الراكعين (43) فيه أربع وثلاثون مسألة: (1) في تاج العروس: (والبطالة بالكسر والضم لغتان في البطالة بالفتح بمعنى الشجاعة. الكسر نقله الليث والضم حكاه بعض ونقله صاحب المصباح). (2) راجع ج 2 ص 26 (3) ص 365. (*)
[ 343 ]
الاولى - قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) أمر معناه الوجوب ولا خلاف فيه، وقد تقدم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها (1)، والحمد لله. الثانية - قوله تعالى: (وآتوا الزكاة) أمر أيضا يقتضي الوجوب والايتاء الاعطاء. أتيته: أعطيته قال الله تعالى " لئن آتانا من فضله لنصدقن " [ التوبة: 75 ]. وأتيته - بالقصر من غير مد - جئته فإذا كان المجئ بمعنى الاستقبال مد ومنه الحديث: (ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاخبرنه) وسيأتي. الثالثة - الزكاة مأخوذة من زكا الشئ إذا نما وزاد يقال زكا الزرع والمال يزكو إذا كثر وزاد. ورجل زكي أي زائد الخير. وسمي الاخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالاجر الذي يثاب به المزكي ويقال زرع زاك بين الزكاء. وزكأت الناقة بولدها تزكأ به إذا رمت به من بين رجليها. وزكا الفرد إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا قال الشاعر: كانوا خسا أو زكا من دون أربعة * لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج جمع جد وهو الحظ والبخت تعتلج أي ترتفع. اعتلجت الارض طال نباتها فخسا الفرد وزكا: الزوج. وقيل: أصلها الثناء الجميل ومنه زكى القاضي الشاهد. فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير كما يقال: زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والاغفال (2) فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس وقد قال تعالى " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " (3) [ التوبة: 103 ] الرابعة - واختلف في المراد بالزكاة هنا فقيل: الزكاة المفروضة لمقارنتها بالصلاة وقيل: صدقة الفطر قاله مالك في سماع ابن القاسم (1) راجع ص 164 - 177 من هذا الجزء. (2) في نسخة: (أو الانفال) وكذا في تفسير ابن عطية. (3) راجع ج 8 ص 244. (*)
[ 344 ]
قلت: فعلى الاول وهو قول أكثر العلماء - فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم فروى الائمة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق (1) ولا فيما دون خمس ذود (2) صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة) وقال البخاري (خمس أواق من الورق) وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا (3) العشر وما سقي بالنضح (4) نصف العشر) وسيأتي بيان هذا الباب في " الانعام " (5) إن شاء الله تعالى. ويأتي في " براءة " زكاة العين والماشية وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى " خذ من أموالهم صدقة " (6) [ التوبة: 103 ] وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأوله مالك هنا وقوله تعالى " قد أفلح من تزكى (7) وذكر اسم ربه فصلى " [ الاعلى: 15 ]. والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة " الاعلى "، ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام لان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان الحديث. وسيأتي فأضافها إلى رمضان. الخامسة - قوله تعالى: (واركعوا) الركوع في اللغة الانحناء بالشخص وكل منحن راكع. قال لبيد. أخبر أخبار القرون التي مضت * أدب كأني كلما قمت راكع وقال ابن دريد: الركعة الهوة في الارض لغة يمانية وقيل الانحناء يعم الركوع والسجود ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة قال ولا تعاد الضعف علك أن * تركع يوما والدهر قد رفعه (1) الوسق (بالفتح): ستون صاعا وهو ثلثمائه وعشرون رطلا عند أهل الحجاز. (2) الذود من الابل: ما بين الثنتين إلى التسع. وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر. واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها. (3) العثري (بفتح المهملة والثاء المثلثة المخففة وكسر الراء وتشديد الياء). قال ابن الاثير: (هو من النخيل الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة. وقيل: هو العذى (الزرع الذي لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده من المياه وقيل فيه غير ذلك). وقيل: هو ما يسقى سيحا والاول أشهر). (4) النضح (بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة): ما سقى من الآبار. (5) راجع ج 7 ص 99. (6) راجع ج 8 ص 244. (7) راجع ج 20 ص 21. (*)
[ 345 ]
السادسة - واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر فقال قوم: جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة قلت: وهذا ليس مختصا بالركوع وحده فقد جعل الشرع القراءة [ عبارة ] (1) عن الصلاة والسجود عبارة عن الركعة بكمالها فقال " وقرآن الفجر " أي صلاة الفجر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة. وقيل إنما خص الركوع بالذكر لان بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع. وقيل: لانه كان أثقل عل القوم في الجاهلية حتى لقد قال بعض من أسلم أظنه عمران بن حصين للنبي صلى الله عليه وسلم: على ألا أخر إلا قائما. فمن تأويله على ألا أركع فلما تمكن الاسلام من قلبه أطمأنت بذلك نفسه وأمتثل ما أمر به من الركوع السابعة - الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه (2) ولكن بين ذلك. وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر (3) ظهره الحديث. الثامنة - الركوع فرض، قرآنا وسنة، وكذلك السجود لقوله تعالى في آخر الحج " اركعوا واسجدوا " (4) [ الحج: 77 ]. وزادت السنة الطمأنينة فيهما والفصل بينهما وقد تقدم القول في ذلك وبينا صفة الركوع آنفا. وأما السجود فقد جاء مبينا من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الارض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه. خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وروى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه (1) زيادة يقتضيها السياق. (الاشخاص: الرفع والتصويب: الخفض. (3) هصر ظهره: إي ثناه إلى الارض. (4) راجع ج 12 ص 98 (*)
[ 346 ]
أنبساط الكلب). وعن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك). وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى بيديه - يعني جنح حتى يرى وضح إبطيه من ورائه - وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى. التاسعة - واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته، فقال مالك: يسجد على جبهته وأنفه، وبه قال الثوري وأحمد، وهو قول النخعي. قال أحمد: لا يجزئه السجود على أحدهما دون الآخر، وبه قال أبو خيثمة (1) وابن أبي شيبة. قال إسحاق: إن سجد على أحدهما دون الآخر فصلاته فاسدة. وقال الاوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي ليلى كلهم أمر بالسجود على الانف. وقالت طائفة: يجزئ أن يسجد على جبهته دون أنفه، هذا قول. عطاء وطاوس وعكرمة وابن سيرين والحسن البصري، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال ابن المنذر: وقال قائل: إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء وصلاته تامة، هذا قول النعمان. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه. قلت: الصحيح في السجود وضع الجبهة والانف، لحديث أبي حميد، وقد تقدم. وروى البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت (2) الثياب والشعر). وهذا كله بيان لمجمل الصلاة فتعين القول به. والله أعلم وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه، كقول عطاء والشافعي. والمختار عندنا قوله الاول ولا يجزئ عند مالك إذا لم يسجد على جبهته. (1) كذا في بعض نسخ الاصل وتفسير العلامي نقلا عن القرطبي. وفي نسخة: (أبو حنيفة). (2) قوله: (ولا نكفت): أي لا نضمها ونجمعها. يريد جمع الثوب باليدين عند الركوع والسجود. (*)
[ 347 ]
العاشرة - ويكره السجود على كور العمامة، وإن كان طاقة أو طاقتين مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس، والافضل مباشرة الارض أو ما يسجد عليه. فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخوله في الصلاة، فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة. وروى مسلم عن معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال (إن كنت فاعلا فواحدة) وروي عن أنس بن مالك قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الارض بسط ثوبه فسجد عليه. الحادية عشرة - لما قال تعالى: " اركعوا واسجدوا " [ الحج: 77 ] قال بعض علمائنا وغيرهم يكفي منها ما يسمى ركوعا وسجودا، وكذلك من القيام. ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك فأخذوا بأقل الاسم في ذلك وكأنهم لم يسمعوا الاحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة. قال ابن عبد البر: ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا. وهو الصحيح في الاثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهى رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الفصل وسقوط الطمأنينة وهو وهم عظيم لان النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلمها. فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد أنتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم ! روى النسائي والدارقطني وعلي بن عبد العزيز عن رفاعة بن رافع قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلى، فلما قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل) وجعل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها فلما جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (وعليك أرجع فصل فانك لم تصل). قال همام (1): فلا ندري أمره بذلك مرتين أو ثلاثا فقال له الرجل: (1) همام هذا أحد رجال سند هذا الحديث. (*)
[ 348 ]
ما ألوت فلا أدري ما عبت علي من صلاتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله تعالى ويثني عليه ثم يقرأ أم القرآن وما أذن له فيه وتيسر ثم يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائما حتى يقيم صلبه ويأخذ كل عظيم مأخذه ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه - قال همام: وربما قال: جبهته - من الارض حتى تطمئن مفاصله ويسترخى ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه - فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال - لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك) ومثله حديث أبي هريرة خرجه مسلم وقد تقدم. قلت: فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبي عليه السلام وتبليغه إياها جميع الانام فمن لم يقف عند هذا البيان وأخل بما فرض عليه الرحمن ولم يمتثل ما بلغه عن نبيه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " [ مريم: 59 ] على ما يأتي بيانه هناك (1) إن شاء الله تعالى روى البخاري عن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع ولا السجود فقال: ما صليت ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم) الثامنة عشرة - قوله تعالى: (مع الراكعين) " مع " تقتضي المعية والجمعية ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إن الامر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة فأمرهم بقوله " مع " شهود الجماعة وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة. وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضا على الكفاية قال ابن عبد البر: وهذا قول صحيح لاجماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة لقوله عليه السلام (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ (2) بسبع وعشرين درجة) أخرجه مسلم من حديث ابن عمر. وروى عن أبى هريرة رضي الله (1) راجع ج 11 ص 121. (2) الفذ: المنفرد. (*)
[ 349 ]
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا). وقال داود: الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة واحتج بقوله عليه السلام: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثور وغيرهم. وقال الشافعي: لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر حكاه ابن المنذر. وروى مسلم عن أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لى قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: " [ هل ] (1) تسمع النداء بالصلاة " قال نعم قال (فأجب) وقال أبو داود في هذا الحديث (لا أجد لك رخصة). خرجه من حديث ابن أم مكتوم وذكر أنه كان هو السائل وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر - قالوا: وما العذر ؟ قال خوف أو مرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى). قال أبو محمد عبد الحق: هذا يرويه مغراء العبدي والصحيح موقوف على ابن عباس (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له) على أن قاسم بن أصبغ ذكره في كتابه فقال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) وحسبك بهذا الاسناد صحة ومغراء العبدي روى عنه أبو إسحاق وقال ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. وقال عليه السلام (بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما) قال ابن المنذر ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا (من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له) منهم ابن مسعود وأبو موسى الاشعري. وروى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول (1) الزيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 350 ]
الله صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن امر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثم أتى قوما يصلون في بيوتهم ليست لهم علة فأحرقها عليهم). هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضا وهى ظاهرة في الوجوب وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة بدليل حديث ابن عمر وأبى هريرة وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه (لا صلاة له) على الكمال والفضل وكذلك قوله عليه السلام لابن أم مكتوم (فأجب) على الندب. وقوله عليه السلام (لقد هممت) لا يدل على الوجوب الحتم لانه هم ولم يفعل وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة. يبين هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبد الله قال (من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين (1) حتى يقام في الصف). فبين رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سنة من سنن الهدى وتركه ضلال، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض: اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن، هل يقاتل عليها أولا، والصحيح قتالهم، لان في التمالؤ عليها إماتتها. قلت: فعلى هذا إذا أقيمت السنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحت. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه (2) إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة (1) معناه: يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما. (2) النهز: الدفع. أي لا يقيمه من موضعه وهو بمعنى قوله بعده: " لا يريد إلا الصلاة ". (*)
[ 351 ]
وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم أرحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه). قيل لابي هريرة: ما يحدث ؟ قال: يفسو أو يضرط. الثالثة عشرة - واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة هل لاجل الجماعة فقط حيث كانت أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث قولان والاول أظهر لان الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم والله أعلم وما كان من إكثار الخطا إلى المساجد وقصد الاتيان إليها والمكث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة والله أعلم الرابعة عشرة - واختلفوا أيضا هل تفضل جماعة جماعة بالكثرة وفضيلة الامام ؟ فقال مالك: لا. وقال ابن حبيب نعم لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله) رواه أبى بن كعب وأخرجه أبو داود وفي إسناده لين الخامسة عشرة - واختلفوا أيضا فمن صلى في جماعة هل يعيد صلاته تلك في جماعة أخرى ؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الامام من صلى وحده في بيته وأهله أو في غير بيته وأما من صلى في جماعة وإن قلت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي: جائز لمن صلى في جماعة ووجد جماعة أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لانها نافلة وسنة. وروي ذلك عن حذيفة بن اليمان وأبي موسى الاشعري وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبي والنخعي وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب. احتج مالك بقوله صلى الله عليه وسلم (لا تصلى صلاة في يوم مرتين) ومنهم من يقول لا تصلوا رواه سليمان بن يسار عن ابن عمر واتفق أحمد وإسحاق على أن معنى
[ 352 ]
هذا الحديث أن يصلي الانسان الفريضة ثم يقوم فيصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى فأما إذا صلاها مع الامام على أنها سنة أو تطوع فليس بإعادة الصلاة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة (إنها لكم نافلة) من حديث أبي ذر وغيره السادسة عشرة - روى مسلم عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) وفي رواية (سنا) مكان (سلما) وأخرجه أبو داود وقال: قال شعبة: فقلت لاسماعيل ما تكرمته ؟ قال: فراشه وأخرجه الترمذي وقال: حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم قالوا: أحق الناس بالامامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة وقالوا صاحب المنزل أحق بالامامة وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي به. وكرهه بعضهم وقالوا: السنة أن يصلي صاحب البيت. قال ابن المنذر روينا عن الاشعث ابن قيس أنه قدم غلاما وقال إنما أقدم القرآن وممن قال يؤم القوم أقرؤهم ابن سيرين والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي قال ابن المنذر بهذا نقول لانه موافق للسنة وقال مالك يتقدم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة وإن للسن حقا وقال الاوزاعي يؤمهم أفقههم وكذلك قال الشافعي وأبو ثور إذا كان يقرأ القرآن وذلك لان الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة وتأولوا الحديث بأن الاقرأ من الصحابة كان الافقه لانهم كانوا يتفقهون في القرآن وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء واستدلوا بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أبا بكر لفضله وعلمه. وقال إسحاق إنما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ليدل على أنه خليفته بعده ذكره أبو عمر في التمهيد. وروى أبو بكر البزار بإسناد حسن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
[ 353 ]
عليه وسلم (إذا سافرتم فليؤمكم أقرؤكم وإن كان أصغركم وإذا أمكم فهو أميركم) قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية أبي هريرة بهذا الاسناد. قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئا ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن سلمة قال: كنا بماء (1) ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا ! أوحى إليه كذا ! فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر (2) في صدري وكانت العرب تلوم (3) بإسلامها فيقولون أتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبي الله حقا، قال: (صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرانا). فنظروا فلم يكن أحد أكثر منى قرآنا لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني ببن أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون (4) عنا است قارئكم ! فاشتروا فقطعوا لى قميصا فما فرحت بشئ فرحي بذلك القميص. وممن أجاز إمامة الصبي غير البالغ الحسن البصري وإسحاق بن راهويه واختاره ابن المنذر إذا عقل الصلاة وقام بها لدخوله في جملة قوله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم) ولم يستثن ولحديث عمرو ابن سلمة وقال الشافعي في أحد قوليه يؤم في سائر الصلوات ولا يؤم في الجمعة وقد كان قبل يقول ومن أجزأت إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الاعياد غير أنى أكره فيها إمامة غير الوالي وقال الاوزاعي: لا يؤم الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم إلا أن يكون قوم ليس معهم من القرآن شئ فإنه يؤمهم الغلام المراهق وقال الزهري إن اضطروا إليه أمهم. ومنع ذلك جملة مالك والثوري وأصحاب الرأي. السابعة عشرة - الاتمام بكل إمام بالغ مسلم حر على استقامة جائز من غير خلاف إذا كان يعلم حدود الصلاة ولم يكن يلحن في أم القرآن لحنا يخل بالمعنى مثل أن يكسر الكاف (1) بتشديد الراء مجرورة صفة لماء، ويجوز فتحها أي موضع مرورهم. (2) يقر (بقاف مفتوحة) من القرار. وفي رواية (يقرا) بألف مقصورة أي يجمع، أو بهمزة من القراءة. وفي رواية (يغري) أي يلصق. (3) تلوم: تنتظر. (4) في الاصول: (ألا تغطوا...) بحذف النون ولا مقتضى له. (*)
[ 354 ]
من " إياك نعبد " [ الفاتحة: 5 ] ويضم التاء في " أنعمت " ومنهم من راعى تفريق الطاء من الضاد وإن لم يفرق بينهما لا تصح إمامته لان معناهما يختلف. ومنهم من رخص في ذلك كله إذا كان جاهلا بالقراءة وأم مثله ولا يجوز الاتمام بامرأة ولا خنثى مشكل ولا كافر ولا مجنون ولا أمي ولا يكون واحد من هؤلاء إماما بحال من الاحوال عند أكثر العلماء على ما يأتي ذكره إلا الامي لمثله قال علماؤنا: لا تصح إمامة الامي الذي لا يحسن القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره وكذلك قال الشافعي. فإن أم أميا مثله صحت صلاتهم عندنا وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة إذا صلى الامي بقوم يقرءون وبقوم أميين فصلاتهم كلهم فاسدة. وخالقه أبو يوسف فقال صلاة الامام ومن لا يقرأ تامة وقالت فرقة صلاتهم كلهم جائزة لان كلا مؤد فرضه وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء والمصلي قاعدا يصلي بقوم قيام صلاتهم مجزئة في قول من خالفنا لان كلا مؤد فرضي نفسه. قلت: وقد يحتج لهذا القول بقول عليه السلام (ألا ينظر المصلي [ إذا صلى ] (1) كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه) أخرجه مسلم وإن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الامام والله أعلم وكان عطاء بن أبي رباح يقول إذا كانت امرأته تقرأ كبر هي وتقرأ هي فإذا فرغت من القراءة كبر وركع وسجد وهى خلفه تصلى وروي هذا المعنى عن قتادة. الثامنة عشرة - ولا بأس بإمامة الاعمى والاعرج والاشل والاقطع والخصى والعبد إذا كان كل واحد منهم عالما بالصلاة وقال ابن وهب لا أرى أن يؤم الاقطع والاشل لانه منتقص عن درجه الكمال وكرهت إمامته لاجل النقص. وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح لانه عضو لا يمنع فقده فرضا من فروض الصلاة فجازت الامامة الراتبة مع فقده كالعين وقد روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى،) وكذا الاعرج والاقطع والاشل والخصى قياسا ونظرا والله أعلم وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في الاعمى: (وما حاجتهم إليه ! وكان ابن عباس وعتبان ابن مالك يؤمان وكلاهما أعمى، وعليه عامة العلماء. (1) الزيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 355 ]
التاسعة عشرة - واختلفوا في إمامة ولد الزنى فقال مالك أكره أن يكون إماما راتبا وكره ذلك عمر بن عبد العزيز وكان عطاء بن أبي رباح يقول له أن يؤم إذا كان مرضيا وهو قول الحسن البصري والزهري والنخعي وسفيان الثوري والاوزاعي وأحمد وإسحاق وتجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي وغيره أحب إليهم وقال الشافعي أكره أن ينصب إماما راتبا من لا يعرف أبوه ومن صلى خلفه أجزأه وقال عيسى بن دينار لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شئ ونحوه قال ابن عبد الحكم إذا كان في نفسه أهلا للامامة قال ابن المنذر يؤم لدخوله في جملة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم) وقال أبو عمر ليس في شئ من الآثار الواردة في شرط الامامة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيها دلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين الموفية عشرين - وأما العبد فروى البخاري عن ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الاولون العصبة - موضع بقباء - قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا. وعنه قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يوؤ المهاجرين الاولين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر ابن ربيعة وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف. قال ابن المنذر: وأم أبو سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حذيفة وأبو مسعود. ورخص في إمامة العبد النخعي والشعبي والحسن البصري والحكم والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وكره ذلك أبو مجلز. وقال مالك لا يؤمهم إلا أن يكون العبد قارئا ومن معه من الاحرار لا يقرءون إلا أن يكون في عيد أو جمعة فان العبد لا يؤمهم فيها ويجزئ عند الاوزاعي إن صلوا وراءه قال ابن المنذر العبد داخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم (يؤم القوم أقرؤهم). الحادية والعشرون - وأما المرأة فروى البخاري عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال (لن يفلح قوم ولوا أمرهم
[ 356 ]
أمرأة). وذكر أبو داود عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقه بنت عبد الله قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها قال وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا. قال ابن المنذر: والشافعي يوجب الاعادة على من صلى من الرجال خلف المرأة. وقال أبو ثور لا إعادة عليهم. وهذا قياس قول المزني. قلت: وقال علماؤنا لا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء. وروى ابن (1) أيمن جواز إمامتها للنساء. وأما الخنثى المشكل فقال الشافعي: لا يؤم الرجال ويؤم النساء. وقال مالك: لا يكون إماما بحال، وهو قول أكثر الفقهاء. الثانية والعشرون - الكافر المخالف للشرع كاليهودي والنصراني يؤم المسلمين وهم لا يعلمون بكفره. وكان الشافعي وأحمد يقولان لا يجزئهم ويعيدون وقاله مالك وأصحاب لانه ليس من أهل القربة. وقال الاوزاعي: يعاقب. وقال أبو ثور والمزنى لا إعادة على من صلى خلفه ولا يكون بصلاته مسلما عند الشافعي وأبي ثور. وقال أحمد: يجبر على الاسلام الثالثة والعشرون - وأما أهل البدع من أهل الاهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرهما فذكر البخاري عن الحسن صل وعليه بدعته وقال أحمد: لا يصلي خلف أحد من أهل الاهواء إذا كان داعية إلى هواه وقال مالك ويصلى خلف أئمة الجور ولا يصلي خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم. وقال ابن المنذر كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة ولا يجوز تقديم من هذه صفته. الرابعة والعشرون - وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر ونحو ذلك فاختلف المذهب فيه فقال ابن حبيب من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدا إلا أن يكون الوالي الذي تؤدي إليه الطاعة فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذ سكران. قاله (1) في نسخة: " ابن أبي أيمن ". (*)
[ 357 ]
من لقيت من أصحاب مالك وروي من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر (لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤمن أعرابي مهاجرا ولا يؤمن فاجر برا إلا أن يكون ذلك ذا سلطان) قال أبو محمد عبد الحق هذا يرويه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب والاكثر يضعف علي بن زيد وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن سركم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم) في إسناده أبو الوليد خالد بن إسماعيل المخزومي وهو ضعيف قال الدارقطني. وقال فيه أبو أحمد بن عدي كان يضع الحديث على ثقات المسلمين وحديثه هذا يرويه عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وذكر الدارقطني عن سلام بن سليمان عن عمر عن محمد بن واسع عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفد فيما بينكم وبين الله) قال الدارقطني عمر هذا هو عندي عمر بن يزيد قاضى المدائن وسلام بن سليمان أيضا مدائني ليس بالقوي قاله عبد الحق. الخامسة والعشرون - روى الائمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنما جعل الامام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون) وقد اختلف العلماء فيمن وكع أو خفض قبل الامام عامدا على قولين: أحدهما: أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها وهو قول أهل الظاهر وروى عن ابن عمر. ذكر سنيد قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الورد الانصاري قال صليت إلى جنب ابن عمر فجعلت أرفع قبل الامام وأضع قبله فلما سلم الامام أخذ ابن عمر بيدي فلو اني وجذبني فقلت مالك ! قال من أنت ؟ قلت: فلان بن فلان قال: أنت من أهل بيت صدق ! فما يمنعك أن تصلى ؟ قلت: أوما رأيتني إلى جنبك ! قال: قد رأيتك ترفع قبل الامام وتضع قبله وإنه لا صلاة لمن خالف الامام. وقال الحسن بن حي فيمن ركع أو سجد قبل الامام ثم رفع من ركوعه أو سجوده قبل أن يركع الامام أو يسجد:
[ 358 ]
لم يعتد بذلك ولم يجزه. وقال أكثر الفقهاء: من فعل ذلك فقد أساء ولم تفسد صلاته لان الاصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها بالائمة سنة حسنة فمن خالفها بعد أن أدى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها لانه لو شاء أن ينفرد فصلى قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه وبئس ما فعل في تركه الجماعة قالوا: ومن دخل في صلاة الامام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يكن في ركعة وإمامه في أخرى فقد اقتدى وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله لانه بركوعه يركع وبسجوده يسجد ويرفع وهو في ذلك تبع له إلا أنه مسئ في فعله ذلك لخلافه سنة المأموم المجتمع عليها. قلت: ما حكاه ابن عبد البر عن الجمهور ينبئ على أن صلاة المأموم عندهم غير مرتبطة بصلاة الامام لان الاتباع الحسى والشرعي مفقود وليس الامر هكذا عند أكثرهم والصحيح في الاثر والنظر القول الاول فإن الامام إنما جعل ليؤتم به ويقتدى به بأفعاله ومنه قوله تعالى " إنى جاعلك للناس إماما " (1) [ البقرة: 124 ] أي يأتمون بك على ما يأتي بيانه هذا حقيقة الامام لغة وشرعا فمن خالف إمامه لم يتبعه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين فقال: (إذا كبر فكبروا) الحديث. فأتى بالفاء التي توجب التعقيب وهو المبين عن الله مراده. ثم أوعد من رفع أو ركع قبل وعيدا شديدا فقال (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الامام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار) أخرجه الموطأ والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم وقال أبو هريرة إنما ناصيته بيد شيطان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني مردود فمن تعمد خلاف إمامه عالما بأنه مأمور باتباعه منهم عن مخالفته فقد استخف بصلاته وخالف ما أمر به فواجب ألا تجزي عنه صلاته تلك والله أعلم. السادسة والعشرون - فإن رفع رأسه ساهيا قبل الامام فقال مالك رحمه الله: السنة فيمن سها ففعل ذلك في ركوع أو في سجود أن يرجع راكعا أو ساجدا وينتظر الامام وذلك خطأ ممن فعله لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنما جعل الامام ليؤتم به (1) راجع ج 2 ص 107 (*)
[ 359 ]
فلا تختلفوا عليه) قال ابن عبد البر: ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الاعادة على من فعله عامدا لقوله: " وذلك خطاء ممن فعله "، لان الساهي عنه موضوع. السابعة والعشرون - وهذا الخلاف إنما هو فيما عدا تكبيرة الاحرام والسلام أما السلام فقد تقدم القول فيه. وأما تكبيرة الاحرام فالجمهور على أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الامام إلا ما روي عن الشافعي في أحد قوليه: أنه إن كبر قبل إمامه تكبيرة الاحرام أجزأت عنه لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى الصلاة فلما كبر انصرف وأومأ إليهم - أي كما أنتم - ثم خرج ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم فلما انصرف قال: (إني كنت جنبا فنسيت أن أغتسل). ومن حديث أنس (فكبر وكبرنا معه) وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: " ولا جنبا " في " النساء (1) " [ النساء: 43 ] إن شاء الله تعالى. الثامنة والعشرون - وروى مسلم عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول (أستووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الاحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافا. زاد من حديث عبد الله (وإياكم وهيشات (2) الاسواق). وقوله (استووا) أمر بتسوية الصفوف وخاصة الصف الاول وهو الذي يلي الامام على ما يأتي بيانه في سورة " الحجر (3) " إن شاء الله تعالى. وهناك يأتي الكلام على معنى هذا الحديث بحول الله تعالى. التاسعة والعشرون - واختلف العلماء في كيفية الجلوس في الصلاة لاختلاف الآثار في ذلك فقال مالك وأصحابه: يفضي المصلي بأليتيه إلى الارض وينصب رجله اليمنى ويثنى رجله اليسرى، لما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الايسر ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. (1) راجع ج 5 ص 204 (2) الهيشة (مثل الهوشة): الاختلاط والمنازعة وارتفاع الاصوات. (3) راجع ج 10 ص 20 (*)
[ 360 ]
قلت: وهذا المعنى قد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقبة (1) الشيطان وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه أفتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم. قلت: ولهذا الحديث - والله أعلم - قال ابن عمر: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي: ينصب اليمنى ويقعد على اليسرى)، لحديث وائل بن حجر، وكذلك قال الشافعي وأحمد وإسحاق في الجلسة الوسطى. وقالوا في الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء كقول مالك لحديث أبي حميد الساعدي رواه البخاري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع أستوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما وأستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الاخرى وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته. قال الطبري: إن فعل هذا فحسن كل ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. الموفية الثلاثين - مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبد الرحمن المعاوي أنه قال: رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة، فلما انصرف نهاني فقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قال: كان (إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه (1) عقبة الشيطان: قال ابن الاثير: (هو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهو الذي يجعله بعض الناس الاقعاء. وقيل: هو أن يترك عقبيه غير مغسولين في الوضوء). (*)
[ 361 ]
كلها وأشار بأصبعه التي تلي الابهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال: هكذا كان يفعل). قال ابن عبد البر: وما وصفه ابن عمر من وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الاصابع، كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجمع عليه لا خلاف علمته بين العلماء فيها وحسبك بهذا إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة فمنهم من رأى تحريكها ومنهم من لم يره وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميعه مباح والحمد لله. وروى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم بمعنى ما رواه مالك وزاد فيه: قال سفيان وكان يحيى بن سعيد حدثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه قال (هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه ويقول هكذا). قلت: روى أبو داود في حديث ابن الزبير أنه عليه السلام كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها. وإلى هذا ذهب بعض العراقيين فمنع من تحريكها وبعض علمائنا رأوا أن مدها إشارة إلى دوام التوحيد وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك وغيرهم إلى تحريكها إلا أنهم اختلفوا في الموالاة بالتحريك على قولين تأول من والاه بأن قال إن ذلك يذكر بموالاة الحضور في الصلاة وبأنها مقمعة ومدفعة للشيطان على ما روى سفيان ومن لم يوال رأى تحريكها عند التلفظ بكلمتي الشهادة وتأول في الحركة كأنها نطق بتلك الجارحة بالتوحيد والله أعلم الحادية والثلاثون - واختلفوا في جلوس المرأة في الصلاة فقال مالك هي كالرجل ولا تخالفه فيما بعد الاحرام إلا في اللباس والجهر وقال الثوري: تسدل المرأة جلبابها من جانب واحد ورواه عن إبراهيم النخعي وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها. وهو قول الشعبي تقعد كيف تيسر لها. وقال الشافعي تجلس بأستر ما يكون لها.
[ 362 ]
روى مسلم عن طاوس قال قلنا لابن عباس في الاقعاء على القدمين، فقال: هي السنة فقلنا له إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس: [ بل ] (1) هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء في صفة الاقعاء ما هو فقال أبو عبيد: الاقعاء جلوس الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع. قال ابن عبد البر وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يختلف العلماء فيه وهذا تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه. وقال أبو عبيد وأما أهل الحديث فإنهم يجعلون الاقعاء أن يجعل أليتيه على عقبيه ببن السجدتين قال القاضي عياض والاشبه عندي في تأويل الاقعاء الذي قال فيه ابن عباس إنه من السنة الذي فسر به الفقهاء من وضع الاليتين على العقبين بين السجدتين وكذا جاء مفسرا عن ابن عباس من السنة أن تمس عقبك إلى أليتك رواه إبراهيم بن مسرة عن طاوس عنه ذكره أبو عمر قال القاضي: وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه ولم يقل بذلك عامة فقهاء الامصار وسموه إقعاء. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه رأى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير يقعون بين السجدتين. الثالثة والثلاثون - لم يختلف من قال من العلماء بوجوب التسليم وبعدم وجوبه أن التسليمة الثانية ليست بفرض إلا ما روى عن الحسن بن حي أنه أوجب التسليمتين معا. قال أبو جعفر الطحاوي: لم نجد عن أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن االثانية من فرائضها غيره. قال ابن عبد البر: من حجة الحسن بن صالح في أيجابه التسليمتين جميعا - وقوله: إن من أحدث بعد الاولى وقبل الثانية فسدت صلاته - قوله صلى الله عليه وسلم: " تحليلها التسليم ". ثم بين كيف التسليم فكان يسلم عن يمينه وعن يساره. ومن حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية قوله صلى الله عليه وسلم: " تحليلها التسليم " قالوا: والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم. (1) الزيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 363 ]
قلت هذه المسألة مبنية على الاخذ بأقل الاسم أو بآخره ولما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بأجماع فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة إلا أنه تواردت (1) السنن الثابتة من حديث ابن مسعود - وهو أكثرها تواترا - ومن حديث وائل بن حجر الحضرمي وحديث عمار وحديث البراء بن عازب وحديث ابن عمر وحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين. روى ابن جريج وسليمان بن بلال وعبد العزيز ابن محمد الدراوردي كلهم عن عمرو بن يحيى المازني عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال قلت لابن عمر: حدثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت ؟ فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما خفضه وذكر السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله عن يساره. قال ابن عبد البر: وهذا إسناد مدني صحيح والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لانه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا. وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين ومتوارث عندهم أيضا. وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالاذان وكذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار االتسليمتين بل ذلك عندهم معروف وحديث التسليمة الواحدة رواه سعد بن أبي وقاص وعائشة وأنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث. الرابعة والثلاثون - روى الدارقطني عن ابن مسعود أنه قال: من السنة أن يخفى التشهد. وأختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو. التحيات لله الزكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده وروسله. وأختار الشافعي وأصحابه والليث بن سعد تشهد ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات (1) في نسخة: (تواترت). (*)
[ 364 ]
لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) واختار الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث تشهد ابن مسعود الذي رواه مسلم أيضا قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله السلام على فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم (إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإذا قالها أصابت كل عبد [ لله ] (1) صالح في السماء والارض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخير من المسألة ما شاء) وبه قال أحمد وإسحاق وداود. وكان أحمد بن خالد بالاندلس يختاره ويميل إليه وروي عن أبي موسى الاشعري مرفوعا وموقوفا نحو تشهد ابن مسعود وهذا كله اختلاف في مباح ليس شئ منه على الوجوب والحمد لله وحده. فهذه جملة من أحكام الامام والمأموم تضمنها قوله عزوجل " واركعوا مع الراكعين " [ البقرة: 43 ]. وسيأتي القول في القيام في الصلاة عند قوله تعالى " وقوموا لله قانتين " (2) [ البقرة: 238 ]. ويأتي هناك حكم الامام المريض وغيره من أحكام الصلاة ويأتي في " آل عمران " حكم صلاة المريض غير الامام ويأتي في " النساء " (4) في صلاة الخوف حكم المفترض خلف المتنفل ويأتي في سورة " مريم " (5) حكم الامام يصلي أرفع من المأموم إلى غير ذلك من الاوقات والاذان والمساجد وهذا كله بيان لقوله تعالى " وأقيموا الصلاة " وقد تقدم في أول السورة جملة من أحكامها والحمد لله على ذلك. قوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) فيه تسع مسائل: (1) الزيادة عن مسلم. (2) راجع ج 3 ص 213 (3) راجع ج 4 ص 311 (4) راجع ج 5 ص 351 (5) راجع ج 11 ص 85 (*)
[ 365 ]
الاولى - قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر) هذا استفهام معناه التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود. قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمدا صلى الله عليه وسلم فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه. وعن ابن عباس أيضا: كان الاحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن جريج كان الاحبار يحضون في طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي وقالت فرقة كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون والمعنى متقارب وقال بعض أهل الاشارات المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها ! الثانية - في شدة عذاب من هذه صفته روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليلة أسرى بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا (1) يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون) وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم (2) في نار جهنم فيقال لهم من أنتم ؟ فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا). قلت: وهذا الحديث وإن كان فيه لين، لان في سنده الخصيب بن جحدر كان الامام أحمد يستضعفه وكذلك ابن معين يرويه عن أبي غالب عن أبى أمامة صدى بن عجلان الباهلي وأبو غالب هو فيما حكى يحيى بن معين حزور القرشي مولى خالد بن عبد الله ابن أسيد وقيل: مولى باهلة وقيل: مولى عبد الرحمن الحضرمي كان يختلف إلى (1) كذا في مسند الامام أحمد بن حنبل (ج 3 ص 120) وتفسير الفخر الرازي (ج 1 ص 496). وفي الاصول: (من أمتك). (2) سيأتي معنى (القصب). (*)
[ 366 ]
الشام في تجارته. قال يحيى بن معين: هو صالح الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار [ بالرحى ] (1) فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم [ تكن ] (1) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه). القصب (بضم القاف) المعى وجمعه أقصاب. والاقتاب: الامعاء واحدها قتب. ومعنى " فتندلق ": فتخرج بسرعة. وروينا " فتنفلق ". قلت: فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وانما ذلك لانه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه). أخرجه ابن ماجه في سننه. الثالثة - اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الامر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال " أتأمرون الناس بالبر " الآية. وقال منصور الفقيه فأحسن: إن قوما يأمرونا * بالذي لا يفعلونا لمجانين وإن هم * لم يكونوا يصرعونا وقال أبو العتاهية: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى * وريح الخطايا من ثيابك تسطع (1) الزيادة من صحيح مسلم. (*)
[ 367 ]
وقال أبو الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم وابدأ بنفسك فانهها عن غيها * فإن انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى * بالقول منك وينفع التعليم وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئا ؟ فأنشأ يقول: وغير تقي يأمر الناس بالتقى * طبيب يداوي والطيب مريض قال: فارتفعت الاصوات بالبكاء والضجيج. الرابعة - قال إبراهيم النخعي: إني لاكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر " [ البقرة: 44 ] الآية، وقوله: " لم تقولون ما لا تفعلون " (1) [ الصف: 2 ]، وقوله: " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " (2) [ هود: 88 ]. وقال سلم بن عمرو (3): ما أقبح التزهيد من واعظ * يزهد الناس ولا يزهد لو كان في تزهيده صادقا * أضحى وأمسى بيته المسجد إن رفض الدنيا فما باله * يستمنح الناس ويسترفد والرزق مقسوم على من ترى * يناله (4) الابيض والاسود وقال الحسن لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله ! وأينا يفعل ما يقول ! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ، ما أمر (1) راجع ج 18 ص 77 (2) راجع ج 9 ص 89 (3) كذا في الاصول. والصحيح أن الابيات للجماز، وهو ابن أخت سلم بن عمرو الخاسر. يراجع الاغاني (ج 4 ص 76) طبع دار الكتب المصرية. (4) كذا في الاغاني. وفي الاصول: (يسعى له). (*)
[ 368 ]
أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه (1) شئ !. الخامسة - قوله تعالى: (بالبر) البر هنا الطاعة والعمل الصالح. والبر: الصدق. والبر: ولد الثعلب. والبر: سوق الغنم، ومنه قولهم: " لا يعرف هرا من بر " أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها. فهو مشترك، وقال الشاعر: لا هم رب إن بكرا (2) دونكا * يبرك الناس ويفجرونكا أراد بقوله " يبرك الناس ": أي يطيعونك. ويقال: إن البر الفؤاد في قوله: أكون مكان البر منه ودونه (3) * واجعل ما لي دونه وأوامره والبر (بضم الباء) معروف، و (بفتحها) الاجلال والتعظيم، ومنه ولد بر وبار، أي يعظم والديه ويكرمهما. السادسة - قوله تعالى: (وتنسون أنفسكم) أي تتركون. والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى: " نسوا الله فنسيهم " (4) [ التوبة: 67 ]، وقوله: " فلما نسوا ما ذكروا به " (5) [ الانعام: 44 ]، وقوله: " ولا تنسوا الفضل بينكم " (6) [ البقرة: 237 ]. ويكون خلاف الذكر والحفظ، ومنه الحديث: (نسي آدم فنسيت ذريته). وسيأتي. يقال: رجل نسيان (بفتح النون): كثير النسيان للشئ. وقد نسيت الشئ نسيانا، ولا تقل نسيانا (بالتحريك)، لان النسيان إنما هو تثنية نسا العرق. وأنفس: جمع نفس، جمع قلة. والنفس: الروح، يقال: خرجت نفسه، قال أبوخراش: نجا سالم والنفس منه بشدقه * ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا أي بجفن سيف ومئزر. ومن الدليل في أن النفس الروح قوله تعالى: " الله يتوفى الانفس حين موتها " (7) [ الزمر: 42 ] يريد الارواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي. وذلك (1) في نسخة: (عليه). (2) كذا في البحر المحيط لابي حيان. وفي الاصول: (بكوا) بالواو. وفي تفسير الشوكاني: (إن يكونوا). (3) كذا في الاصول واللسان مادة (برر). وفي شرح القاموس: * يكون مكان البر مني ودونه * (4) راجع ج 8 ص 199 (5) راجع ج 6 ص 426 (6) راجع ج 3 ص 208 (7) راجع ج 15 ص 260 (*)
[ 369 ]
بين في قول بلال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم (إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا). رواهما مالك وهو أولى ما يقال به. والنفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر (1): تسيل على حد السيوف (2) نفوسنا * وليست على غير الظبات تسيل وقال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه. والنفس أيضا الجسد قال الشاعر (3): نبئت أن بني سحيم أدخلوا * أبياتهم تامور نفس المنذر والتامور أيضا: الدم. السابعة - قوله تعالى: (وأنتم تتلون الكتاب) توبيخ عظيم لمن فهم. " وتتلون ": تقرءون. " الكتاب ": التوراة. وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم وأصل التلاوة الاتباع ولذلك استعمل في القراءة لانه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه يقال: تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتلية والتلاوة (بضم التاء): البقية يقال: تليت لي من حقي تلاوة وتلية أي بقيت. وأتليت: أبقيت. وتتليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه قال أبو زيد: تلى الرجل إذا كان بآخر رمق. الثامنة - قوله تعالى: (أفلا تعقلون) أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل: المنع ومنه عقال البعير لانه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لانه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني ومنه اعتقال البطن واللسان ومنه يقال للحصن: معقل. والعقل. نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج قال علقمة: عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه * كأنه من دم الاجواف مدموم (1) هو السموءل. (2) في اللسان: (حد الظبات). (3) هو أوس بن حجر يحرض عمرو بن هند على بني حنيفة وهم قتلة أبيه المنذر بن ماء السماء. أي حملوا دمه إلى أبياتهم. (عن اللسان). (*)
[ 370 ]
المدموم (بالدال المهملة) الاحمر وهو المراد هنا. والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره ويقال: هما ضربان من البرود. قال ابن فارس: والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم. وقال الزجاج: العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل. التاسعة - اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لانه لو كان معدوما لما اختص بالانصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى. وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات. ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب. ثم اختلفوا في محله فقالت طائقة منهم: محله الدماغ لان الدماغ محل الحس. وقالت طائفة أخرى محله القلب لان القلب معدن الحياة ومادة الحواس. وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا. وقيل: إن العقل هو المدرك للاشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني. وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الادراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا وقال الشيخ أبو الحسن الاشعري والاستاذ أبو إسحاق الاسفرايني وغيرهما من المحققين العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت وقال القاضي أبو بكر العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو اختيار أبى المعالي في الارشاد واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال العقل غريزة وحكى الاستاذ
[ 371 ]
أبو بكر عن الشافعي وأبي عبد الله بن مجاهد أنهما قالا العقل آلة التمييز وحكى عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الاقوال وحملها على محامل فقال والاولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فان الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة (1) واستعمالها في الاعراض مجاز. وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي. والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الانوار والبصائر وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية (2) التوحيد إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) الصبر: الحبس في اللغة وقتل فلان صبرا أي امسك وحبس حتى أتلف وصبرت نفسي على الشئ حبستها. والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت وهي المجثمة. وقال عنترة فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع الثانية - أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال " واصبروا " يقال فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل قال النحاس: ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنما يقال صابر على كذا. فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى " إنما يوفى الصابرون أجوهم بغير حساب (3) " [ الزمر: 10 ] الثالثة - قوله تعالى: " والصلاة " خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها وكان عليه السلام إذا حزبه (4) أمر فزع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد الله (1) في بعض نسخ الاصل: (في الآلة المبنية). (2) راجع ج 2 ص 191. (3) راجع ج 15 ص 241 (4) حزبه: أي نزل به مهم أو أصابه غم. (*)
[ 372 ]
ابن عباس نعي له أخوه قثم - وقيل بنت له - وهو في سفر فاسترجع وقال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر ساقه الله. ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم أنصرف إلى راحلته وهو يقرأ: " واستعينوا بالصبر والصلاة ") فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية. وقال قوم: هي الدعاء على عرفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى " إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله " [ الانفال 45 ] لان الثبات هو الصبر والذكر هو الدعاء وقول ثالث قال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم. الرابعة - الصبر على الاذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الانبياء والصالحين قال يحيى بن اليمان الصبر ألا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك. وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد قال الطبري وصدق علي رضي الله عنه وذلك أن الايمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الايمان بالاطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للانسان الذي لا تمام له إلا به. الخامسة - وصف الله تعالى جزاء الاعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " (1) [ الانعام 160 ] وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة " (2) [ البقرة: 261 ] الآية. وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " [ الزمر: 10 ] وقال " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور " (3) [ الشورى: 43 ] وقد قيل: أن المراد بالصابرين في قوله " إنما يوفى الصابرون " [ الزمر: 10 ] أي الصائمون لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام لى وأنا أجزى به) فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر. والله أعلم. (1) راجع ج 7 ص 150. (2) راجع ج 3 ص 302. (3) راجع ج 16 ص 44. (*)
[ 373 ]
السادسة - من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس أحد أو ليس شئ أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم) أخرجه البخاري. قال علماؤنا: وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وانما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قاله ابن فورك وغيره. وجاء في أسمائه " الصبور " للمبالغة في الحلم عمن عصاه. السابعة - قوله تعالى: (وإنها لكبيرة) اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله: " وإنها "، فقيل: على الصلاة وحدها خاصة لانها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم والصبر هنا: الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات. فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الاشياء عما منع. والمصلى يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات. وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال " وإنها لكبيرة " وقيل: عليهما ولكنه كنى عن الاغلب وهو الصلاة كقوله " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " (1) [ التوبة: 34 ] وقوله: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " (2) [ الجمعة: 11 ] فرد الكناية إلى الفضة لانها الاغلب والاعم وإلى التجارة لانها الافضل والاهم وقيل: إن الصبر لما كان داخل في الصلاة أعاد عليها كما قال " والله ورسوله أحق أن يرضوه " (3) [ التوبة: 62 ] ولم يقل: يرضوهما لان رضا الرسول داخل في رضا الله عزوجل ومنه قول الشاعر (4): إن شرخ الشباب والشعر الاس * - ود ما لم يعاص كان جنونا (1) راجع ج 8 ص 123 - 127 (2) راجع ج 18 ص 109 (3) راجع ج 8 ص 193 (4) هو حسان بن ثابت. (*)
[ 374 ]
ولم يقل يعاصيا رد إلى الشباب لان الشعر داخل فيه. وقيل: رد الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصارا قال الله تعالى " وجعلنا ابن مريم وأمه آية (1) " [ المؤمنون: 50 ] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر (2): فمن يك أمسى بالمدينة رحله * فإني وقيار بها لغريب وقال آخر: (3) لكل هم من الهموم سعه * والصبح والمسي لا فلاح معه أراد: لغريبان، لا فلاح معهم وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل: على المصدر وهى الاستعانة التي يقتضيها قوله " واستعينوا " وقيل على أجابة محمد عليه السلام لان الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه وقيل على الكعبة لان الامر بالصلاة أنما هو إليها " وكبيرة " معناه ثقيلة شاقة خبر " إن " ويجوز في غير القرآن: وانه لكبيرة " إلا على الخاشعين " فإنها خفيفة عليهم. قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الازل بخصائص الاجتباء والهدى. الثامنة - قوله تعالى: (على الخاشعين) الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع. والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع. وقال قتادة: الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الاقواء هذا هو الاصل قال النابغة: رماد ككحل العين لايا أبينه * ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع ومكان خاشع: لا يهتدى له. وخشعت الاصوات أي سكنت. وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا. وخشع ببصره إذا غضه. والخشعة: قطعة من الارض رخوة وفي الحديث: (كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد (4)) وبلدة خاشعة: مغبرة لا منزل (1) راجع ج 12 ص 126 (2) هو ضابئ البرجمي كما في اللسان مادة (قير) والكامل للمبرد (ج 1 ص 181 طبع أوربا. (3) هو الاضبط بن قريع السعدي عن اللسان مادة (مسا). (4) الذي في نهاية ابن الاثير مادة (خشع): (كانت الكعبة خشعة على الماء فدحيت منها الارض). (*)
[ 375 ]
بها قال سفيان الثوري سألت الاعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ! سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال: أعيمش ! تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ! ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس ! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنئ في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض أفترض عليك ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا ! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب. وقال علي بن أبي طالب: الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك. وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " (1) [ المؤمنون: 1 - 2 ] فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا علو نقاق قال سهل بن عبد الله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " (2) [ الزمر: 23 ]. قلت: هذا هو الخشوع المحمود لان الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والاجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الانسان. روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه. وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الخاشعون هم المؤمنون حقا. قوله تعالى: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون (46) قوله تعالى: (الذين يظنون) " الذين " في موضع خفض على النعت للخاشعين، ويجوز الرفع على القطع. والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى " إني ظننت أني ملاق حسابيه " (3) [ الحاقة: 20 ] وقوله: " فظنوا أنهم مواقعوها " (4) [ الكهف: 53 ]. قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد (1) راجع ج 12 ص 102 (2) راجع ج 15 ص 248 (3) رجع ج 18 ص 270 (4) راجع ج 11 ص 3 (*)
[ 376 ]
وقال أبو داود: رب هم فرجته بغريم * وغيوب كشفتها بظنون وقد قيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي قال ابن عطية: وهذا تعسف. وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون. وأصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر وكقوله تعالى " فظنوا أنهم مواقعوها " وقد يجئ اليقين بمعنى الظن وقد تقدم بيانه أول السورة وتقول سؤت به ظنا وأسأت به الظن يدخلون الالف إذا جاءوا بالالف واللام. ومعنى (ملاقو ربهم) جزاء ربهم. وقيل: جاء على المفاعلة وهو من واحد، مثل عافاه الله. (وأنهم) بفتح الهمزة عطف على الاول ويجوز " وإنهم " بكسرها على القطع. (إليه) أي إلى ربهم وقيل إلى جزائه. (راجعون) إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الاعلى. قوله تعالى: يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47) قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) تقدم (1) و (وأني فضلتكم على العالمين) يريد على عالمي زمانهم، وأهل كل زمان عالم. وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الانبياء وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم. قوله تعالى: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48) (1) راجع ص 330 من هذا الجزء. (*)
[ 377 ]
قوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) أمر معناه الوعيد وقد مضى الكلام في التقوى (1). " يوما " يريد عذابه وهوله وهو يوم القيامة. وانتصب على المفعول ب " - أتقوا " ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزى على الاضافة. وفى الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف. قال البصريون: التقدير يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ثم حذف فيه كما قال: * يوما شهدناه سليما وعامرا (2) * أي شهدنا فيه وقال الكسائي هذا خطأ لا يجوز حذف " فيه " ولكن التقدير واتقوا يوما لا تجزيه نفس ثم حذف الهاء وإنما يجوز حذف الهاء لان الظروف عنده لا يجوز حذفها قال لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت ولا رأيت رجلا أرغب وانت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد. وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والاخفش والزجاج ومعنى " لا تجزي نفس عن نفس شيئا ": أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول جزى عني هذا الامر يجزي كما تقول قضى عني واجتزأت بالشئ اجتزاء إذا اكتفيت به قال الشاعر: فإن الغدر في الاقوام عار * وأن الحر يجزأ بالكراع أي يكتفي بها. وفي حديث عمر (إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك) يريد إذا صببت الماء على البول في الارض فجرى عليه طهر المكان ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس وفي صحيح الحديث عن أبي بردة بن نيار في الاضحية: (لن تجزي عن أحد بعدك) أي لن تغني فمعنى لا تجزي: لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شئ فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني (1) راجع ص 161 من هذا الجزء. (2) سليم وعامر: قبيلتان من قيس عيلان (*)
[ 378 ]
بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كانت عنده مظلمة لاخيه من عرضه أو شئ فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه). خرجه البخاري. ومثله حديثه الآخر في المفلس وقد ذكرناه في التذكرة خرجه مسلم (1). وقرى " تجزئ " بضم التاء والهمز. ويقال: جزى وأجزى بمعنى واحد. وقد فرق بينهما قوم فقالوا جزى بمعنى قضى وكافأ وأجزى بمعنى أغنى وكفى أجزأني الشئ يجزئني أي كفاني قال الشاعر: وأجزأت أمر العالمين ولم يكن * ليجزئ إلا كامل وابن كامل الثالثة (2) - قوله تعالى: (ولا يقبل منها شفاعة) الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان تقول كان وترا فشفعته شفعا والشفعة منه لانك تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة وناقة شافع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها تقول منه: شفعت الناقة شفعا وناقة شفوع وهي التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة. واستشفعته إلى فلان: سألته أن يشفع لي إليه. وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع. الرابعة - مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب. والاخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين. وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين أحدهما الاخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى. والثاني الاجماع من السلف على تلقي هذه الاخبار بالقبول ولم يبد من (1) راجع صحيح مسلم باب تحريم الظلم (ج 2 ص 283) طبع بولاق. (2) يلاحظ أن جميع نسخ الاصل التي بأيدينا لم تذكر المسألة الاولى والثانية في هذه الآية. (*)
[ 379 ]
أحد منهم في عصر من الاعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الاخبار مثل قوله " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " [ غافر: 18 ]. قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقال: " من يعمل سوءا يجز به " (1) [ النساء: 123 ] " ولا يقبل منها شفاعة " [ البقرة: 48 ] قلنا ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الاخبار الواردة في ذلك وأيضا فان الله تعالى أثبت شفاعة لاقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " (2) [ المدثر: 48 ] وقال " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " (3) [ الانبياء: 28 ] وقال " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " (4) [ سبأ: 23 ]. فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى " واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة " النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الاخبار التي رويناها وبدليل قوله " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " (5) [ النساء: 48 ] وقوله " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " [ يوسف: 87 ]. فإن قالوا: فقد قال تعالى " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال " لمن ارتضى " ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون بدليل قوله " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (6) " [ مريم 87 ]. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عهد الله مع خلقه قال (أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا). وقال المفسرون: إلا من قال لا إله إلا الله. فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالانابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم وقال " فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " [ غافر: 7 ] وكذلك شفاعة الانبياء عليهم السلام إنما هي لاهل التوبة دون أهل الكبائر قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة (1) راجع ج 5 ص 396 (2) راجع ج 19 ص 86 (3) راجع ج 11 ص 281 (4) راجع ج 14 ص 295 (5) راجع ج 5 ص 245 (6) راجع ج 11 ص 153 (*)
[ 380 ]
فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله " فاغفر للذين تابوا " أي من الشرك " واتبعوا سبيلك " أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء: 48 ] فإن قالوا جميع الامة يرغبون في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت لاهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم. قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قاسم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صلى الله عليه وسلم (لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل ولا أنت يا رسول الله ؟ فقال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) الخامسة - قوله تعالى: " ولا يقبل " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " تقبل " بالتاء لان الشفاعة مؤنثة. وقرأ الباقون بالياء على التذكير لانها بمعنى الشفيع. وقال الاخفش: حسن التذكير لانك قد فرقت كما تقدم في قوله " فتلقى آدم من ربه كلمات " (1) [ البقرة: 37 ] السادسة - قوله تعالى: (ولا يؤخذ منها عدل) أي فداء والعدل (بفتح العين) الفداء و (بكسرها) المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر ويقال عدل الشئ هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل (بالكسر) هو الذي يساوي الشئ من جنسه وفى جرمه وحكى الطبري: أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية فأما واحد الاعدال فبالكسر لا غير قوله تعالى: (ولا هم ينصرون) أي يعانون. والنصر العون والانصار الاعوان ومنه قوله " من أنصاري إلى الله " (2) [ آل عمران: 52 ] أي من يضم نصرته إلى نصرتي وأنتصر الرجل: أنتقم والنصر: الاتيان يقال: نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر (3): (1) راجع ص 326 (2) راجع ج 18 ص 89 (3) هو الراعي يخاطب خيلا (عن اللسان). (*)
[ 381 ]
إذا دخل الشهر الحرام فودعي * بلاد تميم وانصري أرض عامر والنصر المطر يقال نصرت الارض مطرت والنصر العطاء قال: إني وأسطار سطرن سطرا * لقائل يانصر نصرا نصرا وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا أباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل قيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فدية. وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر لانها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فان الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي قوله تعالى: وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنائكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49) فيه ثلاث عشرة مسألة: الاولى - قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون) " إذ " في موضع نصب عطف على " اذكروا نعمتي ". وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الانبياء فيكم والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية " (1) [ الحاقة: 11 ] أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال " نجيناكم " لان نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين ومعنى " نجيناكم " ألقيناكم على نجوة من الارض وهي ما ارتفع منها هذا هو الاصل ثم سمى كل فائز ناجيا. فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرئ " وإذ نجيتكم " على التوحيد. الثانية - قوله تعالى: (من آل فرعون) " آل فرعون " قومه وأتباعه وأهل دينه. وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الاعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه خلافا للرافضة حيث قالت إن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة (1) راجع ج 18 ص 263 (*)
[ 382 ]
والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى " وأغرقنا آل فرعون " [ البقرة: 50 ] " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " (1) [ غافر: 46 ] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة. ولانه لا خوف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولاجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ولاجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " (2) [ هود: 46 ]. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول [ ألا ] (3) إن آل أبي - يعني فلانا (4) ليسوا [ لي ] (3) بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين) وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال (قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم الاهل معلوم والآل الاتباع والاول أصح لما ذكرناه ولحديث عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال (اللهم صل عليهم) فأتاه أبي بصدقته فقال (اللهم صل على آل أبي أوفى) الثالثة - اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا ؟ فقال الكسائي إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة. قال الاخفش إنما يقال في الرئيس الاعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لانه رئيسهم في الضلالة. قال وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة. (1) راجع ج 15 ص 319 (2) راجع ج 9 ص 46 (3) الزيادة عن صحيح مسلم. (4) قوله: يعني فلانا. وروى " ألا إن آل أبي فلان ". قال النووي: (هذه الكناية هي من بعض الرواة خشى أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة... قال القاضي عياض: قيل إن المكنى عنه هاهنا هو الحكم بن أبي العاص ". والحكم هذا من النفر الذين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته. راجع سيرة ابن هشام (ج 1 ص 276) طبع أوربا. (*)
[ 383 ]
الرابعة - واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا ؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال: أهله. وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لان السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبد المطلب: لا هم إن العبد يمن * - ع رحله فامنع حلالك (1) وانصر على آل الصلي * - ب وعابديه اليوم آلك وقال ندبة: أنا الفارس الحامي حقيقة والدي * وآلي كما تحمي حقيقة آلكا الحقيقة (بقافين): ما يحق على الانسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته. الخامسة - واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت: أهيل. وقال المهدوي: أصله أول. وقيل: أهل قلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا. وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي. وحكى غيره أهيل وقد ذكرناه عن النحاس. وقال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت ألا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال. السادسة - قوله تعالى: (فرعون) " فرعون " قيل إنه اسم ذلك الملك بعينه. وقيل اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب أسمه الوليد ابن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون. وكان فارسيا من أهل اصطخر. قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. قال الجوهري: فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفر عن (1) الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون. يريد بهم سكان الحرم. (*)
[ 384 ]
وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفى الحديث (أخذنا فرعون هذه الامة). " وفرعون " في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته السابعة - قوله تعالى: (يسومونكم) قيل: معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه. وقال أبو عبيدة: يولونكم يقال: سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو ابن كلثوم إذا ما الملك سام الناس خسفا * أبينا أن نقر الخسف فينا وقيل: يديمون تعذيبكم. والسوم: الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي. قال الاخفش: وهو في موضع رفع على الابتداء (1) وإن شئت كان في موضع نصب غلى الحال أي سائمين لكم. الثامنة - قوله تعالى: (سوء العذاب) مفعول ثان ل " يسومونكم " ومعناه أشد العذاب. ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب. وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا. فروى أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الاعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب التاسعة - قوله تعالى: (يذبحون أبناءكم) " يذبحون " بغير واو على البدل من قومله " يسومونكم " كما قال أنشده سيبويه متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا قال الفراء وغيره " يذبحون " بغير واو على التفسير لقوله " يسومونكم سوء العذاب " [ البقرة: 49 ] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره: " ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب " (2) [ الفرقان: 68 - 69 ] وفي سورة إبراهيم " ويذبحون " بالواو لان المعنى (1) يريد أنها مستأنفة. وعبارة البحر لابي حيان: (يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة وهي حكاية حال ماضية ويحتمل أن تكون في موضع الحال أي سائميكم). (2) راجع ج 13 ص 76. (*)
[ 385 ]
يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله " ويذبحون أبناءكم " جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله. والله أعلم. قلت: قد يحتمل أن يقال: إن الواو زائدة بدليل سورة " البقرة " والواو قد تزاد كما قال: * فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * أي قد انتحى وقال آخر: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير العاشرة - قوله تعالى: (يذبحون) قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيضن " يذبحون " بفتح الباء. والذبح: الشق. والذبح: المذبوح. والذباح: تشقق في أصول الاصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح: أحد السعود. والمذابح: المحاريب. والمذابح: جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الارض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الاطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمال وقالت طائفة " يذبحون أبناءكم " يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك وأستدل هذا القائل بقوله " نساءكم " والاول أصح لانه الاظهر والله أعلم. الحادية عشرة - نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله. قال الطبري ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به. قلت: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقاله الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي: إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الامام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الامام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الامام القود وفى المأمور
[ 386 ]
قولان أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالاب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع: لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالاكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس. وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا: يقتل السيد. وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما. وقال علي ويستودع العبد السجن. وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة: يقتلان جميعا. وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة. كذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاة أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك لا يقتل واحد منهما عنده والله أعلم الثانية عشرة - قرأ الجمهور " يذبحون " بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن " يذبحون " بالتخفيف والاولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب.
[ 387 ]
الثالثة عشرة - قوله تعالى: (وفي ذلكم) إشارة إلى جملة الامر إذ هو خبر فهو كمنفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و " بلاء " نعمة ومنه قوله تعالى: " وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا " [ الانفال: 17 ] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عزوجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الاشارة ب " ذلكم " إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور: الاشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى: وفى الذبح مكروه وامتحان. وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد جزى الله بالاحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (1) فجمع بين اللغتين والاكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفى الاختبار أبتليته وبلوته قاله النحاس. قوله تعالى: وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50) قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم) " إذ " في موضع نصب و " فرقنا " فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم. وأصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لانه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه " فالفارقات فرقا " (2) [ المرسلات: 4 ] يعنى الملائكة تنزل بالفرق ببن الحق والباطل ومنه " يوم الفرقان " (3) [ الانفال: 41 ] ] يعنى يوم بدر كان فيه فرق ببن الحق والباطل ومنه " وقرآنا فرقناه " (4) [ الاسراء: 106 ] أي فصلناه وأحكمناه وقرأ الزهري: " فرقنا " بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى " بكم " أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه " فانفلق " (1) قائله زهير (2) راج ج 19 ص 153 (3) راجع ج 8 ص 20 (4) راجع ج 10 ص 339 (*)
[ 388 ]
قوله تعالى: (البحر) البحر معروف سمي بذلك لاتساعه. ويقال: فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره. ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبى طلحة (وإن وجدناه لبحرا) والبحر: الماء الملح. ويقال: أبحر الماء: ملح قال نصيب: وقد عاد ماء الارض بحرا فزادني * إلى مرضى أن أبحر المشرب العذب والبحر: البلدة يقال: هذه بحرتنا أي بلدتنا. قاله الاموي. والبحر: السلال (1) يصيب الانسان. ويقولون: لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا. وفى الخبر عن كعب الاحبار قال: إن لله ملكا يقال له: صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم عن ثور ابن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب قوله تعالى: (فأنجيناكم) أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة وأنجيت غيري ونجيته وقرئ بهما " وإذ نجيناكم " " فأنجيناكم ". قوله تعالى: (وأغرقنا آل فرعون) يقال: غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم: * من بين مقتول وطاف غارق (2) * وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق. ولجام مغرق بالفضة أي محلى. والتغريق: القتل قال الاعشى: * ألا ليت قيسا غرقته القوابل * وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة (1) السلال (كغراب): قرحة تحدث في الرئة أو زكام ونوازل أو سعال طويل وتلزمها حمى هادئة. (عن القاموس). (2) صدر البيت: * فأصبحوا في الماء والخنادق * (3) المراد به قيس بن مسعود الشيباني. وصدر البيت: * أطورين في عام غزاة ورحلة * (*)
[ 389 ]
إذا غرقت أرباضها ثنى بكرة * بتيهاء لم تصبح رءوما سلوبها والارباض: الحبال. والبكرة: الناقة الفتية وثنيها: بطنها الثاني وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحى إليه أن يسري من مصر ببنى إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الاتباع مشرقين كما قال تعالى " فأتبعوهم مشرقين " (1) [ الشعراء: 60 ]. وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف. وقيل: إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الاناث وقيل دخل إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر: لقد استكبرت يا موسى ! وهل فرقت لاحد من ولد آدم فأفرق لك ! قال: ومع موسى رجل على حصان له قال فقال له ذلك الرجل أين أمرت يا نبي الله ؟ قال ما أمر ت إلا بهذا الوجه قال: فأقحم فرسه فسبح فخرج. فقال أين أمرت يا نبي الله ؟ قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال: والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمرت يا نبي الله ؟ فقال ما أمرت (1) راجع ج 13 ص 105. (*)
[ 390 ]
إلا بهذا الوجه قال: والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه " أن اضرب بعصاك البحر " [ الاعراف 160 ] فضربه موسى بعصاه " فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم " [ الشعراء 63 ] فكان فيه أثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون. وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه (1) أبا خالد. ذكره ابن أبي شيبة أيضا. وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة " يونس والشعراء " (2) زيادة بيان أن شاء الله تعالى فصل - ذكر الله تعالى الانجاء والاغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما هذا اليوم الذي تصومونه) فقالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فنحن أحق وأولى بموسى منكم) فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن أبن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه (أنتم أحق بموسى منهم فصوموا). مسألة - ظاهر هذه الاحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبر به اليهود وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم (1) أي كنى موسى البحر. (2) راجع ج 8 ص 377 وج 12 ص 105. (*)
[ 391 ]
فإن قيل يحتمل أن تكون قريش إنما صامته بإخبار اليهود لها لانهم كانوا يسمعون منهم لانهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال (نحن أحق وأولى بموسى منكم) فصامه أتباعا لموسى (وأمر بصيامه) أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار. قلنا: هذه شبهة من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في " الانعام (1) " عند قول تعالى " فبهداهم اقتده " [ الانعام: 90 ]. مسألة: اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر ؟ فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الاعرج قال: أنتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما. قلت: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال نعم خرجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن ثم أردفه: أنبأنا قتيبة أنبأنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر. قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. قال غيره وقول ابن عباس للسائل: (فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما) ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جمع بين الاحاديث. وقول ابن عباس للحكم لما قال له: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه ؟ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم صام التاسع قط. يبينه ما خرجه ابن ماجه في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لاصومن اليوم التاسع). (1) راجع ج 7 ص 35. (*)
[ 392 ]
فضيلة - روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) أخرجه مسلم والترمذي وقال لا نعلم في شئ من الروايات أنه قال (صيام يوم عاشوراء كفارة سنة) إلا في حديث أبي قتادة. قوله تعالى: (وأنتم تنظرون) جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة وقد قيل إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل المعنى " وأنتم تنظرون " أي ببصائركم الاعتبار لانهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالابصار وقيل المعنى وانتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الامر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والاول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالى عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق ! حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه. ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا ! قال فلما أن سمع (1) الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما أطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه. ثم أمرهم أن يسيروا إلى الارض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون. وكانت الارض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين ! فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال " يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم " [ المائدة: 21 ] إلى قول " قاعدون " حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام على ما يأتي بيانه ثم سار موسى إلى طور سيناء (1) في نسخة: (فلم يعد أن سمع الله...) الخ. (*)
[ 393 ]
ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل - على ما يأتي بيانه (1) - ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سجدا وقولوا حطه على ما يأتي وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا: إنه آدر (2). فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول يا حجر ثوبي ! فذلك قول تعالى " يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذو موسى فبرأه الله مما قالوا " [ الاحزاب: 69 ] على ما يأتي بيانه (3) ثم لما مات هارون قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه - وسيأتي في المائدة (4) - ثم سألوه أن يعلموا أية في قبول قربانهم فجعلت نار تجئ من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب (عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك) يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم. وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بني إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم أتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) فيه ست مسائل: (1) راجع ج 7 ص 273 (2) الادرة (بالضم): نفخة في الخصية. (3) راجع ج 14 ص 250 (4) راجع ج 6 ص 130 (*)
[ 394 ]
الاولى - قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) قرأ أبو عمرو " وعدنا " بغير ألف، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر " واعدنا " قال: لان المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله عزوجل فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن، كقوله عزوجل: " وعدكم وعد الحق " (1) (إبراهيم: 22) وقوله: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " (2) (الفتح: 29) وقوله: " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم " [ الانفال: 7 ]. قال مكي: وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق. قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا " وعدنا " بغير ألف، لان المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع. قال مكي: المواعدة أصلها من آثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا، فتكون القراءتان بمعنى واحد. والاختبار " واعدنا " بالالف لانه بمعنى " وعدنا " في أحد معنييه، ولانه لابد لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس: وقراءة " واعدنا " بالالف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والاعرج وابن كثير ونافع والاعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله عزوجل: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " من هذا في شئ، لآن " واعدنا موسى " إنما هو من باب الموافاة، وليس هذا من الوعد والوعيد في شئ، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال أبو إسحاق الزجاج: " واعدنا " ها هنا بالالف جيد، لان الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله عزوجل وعد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجح أبو عبيدة " وعدنا " وليس بصحيح، لان قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة. (1) راجع ج 9 ص 356 (2) راجع ج 12 ص 297 (*)
[ 395 ]
الثانية - قوله تعاى: (موسى) موسى اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف. والقبط على - ما يروي - يقولون للماء: مو، وللشجر: شا (1). فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمى موسى. قال السدي: لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليم - كما أوحى الله إليها - فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه، فسمي باسم المكان. وذكر النقاش وغيره: أن اسم الذي التقطته صابوث. قال ابن إسحاق: وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث ابن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله (2) بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. الثاثة - قوله تعالى: " أربعين ليلة " أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف قال الاخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال " واسئل القرية " والاربعون كلها داخلة في الميعاد. والاربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا فيما ذكر المفسرين عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله ونهاهم هارون وقال " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " (3) (طه: 90). فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا أثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الالواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة (1) كذا في بعض نسخ الاصل وفي بعضها: (سا) بالسين المهملة. وفي القاموس وشرحه: (... وسا الشجر كذا في سائر النسخ وقال ابن الجواليقي: هو بالشين المعجمة). (2) كذا في الاصول واسم الجلالة زائد ولا يبعد أن يكون الاصل: عبد الله وهو معنى إسرائيل. راجع ص 331 من هذا الجزء. (3) راجع ج 11 ص 236. (*)
[ 396 ]
وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى: " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم " [ البقرة: 54 ] فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى أرتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من أستقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا: يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل ! فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي. الرابعة - إن قيل لم خص الليالي بالذكر دون الايام ؟ قيل له: لان الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والايام تبع لها. الخامسة - قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لانه تعالى لو ذكر الايام لامكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي أقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها. قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الامام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول أين حال موسى في القرب من الله ! ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم " آتنا غداءنا " [ الكهف: 62 ]. قلت: وبهذا أستدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما. وسيأتي الكلام في الوصال في أي الصيام (1) من هذه السورة إن شاء الله تعالى. ويأتي في " الاعراف " (2) زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " [ الاعراف: 142 ] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخواره وفي " طه " (3) إن شاء الله تعالى. السادسة - قوله تعالى: (ثم أتخذتم العجل من بعده) أي اتخذتموه إلها من بعد موسى. وأصل اتخذتم ائتخذتم من الاخذ ووزنه أفتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ (1) راجع ج 2 ص 329 (2) راجع ج 7 ص 274 وص 284 (3) راجع ج 11 ص 235 (*)
[ 397 ]
فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم أجلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى " قل اتخذتم عند الله عهدا " [ البقرة: 80 ] فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر: (1) استحدث الركب عن أشياعهم خبرا * أم راجع القلب من أطرابه طرب ونحوه في القرآن " أطلع الغيب " [ مريم: 78 ] " أصطفى البنات " [ الصافات: 153 ] " أستكبرت أم كنت " [ ص: 75 ]. ومذهب أبي علي الفارسي أن " اتخذتم " من تخذلا من أخذ. (وأنتم ظالمون) جملة في موضع الحال. وقد تقدم معنى الظلم (2). والحمد لله. قوله تعالى: ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم) العفو: عفو الله عزوجل عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة. وكل من أستحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو: محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك: عفت الريح الاثر أي أذهبته وعفا الشئ كثر فهو من الاضداد ومنه قوله تعالى " حتى عفوا ". [ الاعراف 95 ]. الثانية - قوله تعالى: (من بعد ذلك) أي من بعد عبادتكم العجل. وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته. والله أعلم. والعجل ولد البقرة. والعجول مثله والجمع العجاجيل والانثى عجلة. عن أبي الجراح. الثالثة - قوله تعالى: (لعلكم تشكرون) كي تشكروا عفو الله عنكم. وقد تقدم معنى لعل (3). وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الانسان بمعروف يوليكه. كما تقدم (1) هو ذو الرمة. (2) راجع ص 309 (3) راجع ص 227 من هذا الجزء. (*)
[ 398 ]
في الفاتحة (1) قال الجوهري: الشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال: شكرته وشكرت له وباللام أفصح. والشكران: خلاف الكفران. وتشكرت له مثل شكرت له. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) قال الخطابي هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عزوجل وترك الشكر له. والوجه الآخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذ كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الامرين بالآخر. الرابعة - في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبد الله: الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية وقالت فرقة أخرى: الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى " اعملوا آل داود شكرا " (2) [ سبأ: 13 ] فقال داود: كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك ! قال: الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال يا داود تنفس فتنقس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار. وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله ! فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني وقال الجنيد حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي يا غلام ما الشكر ؟ فقلت ألا يعصى الله بنعمه فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي. وقال الشبلي الشكر التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الارض والسموات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالاحسان والافضال (1) راجع ص 133 من هذا الجزء. (2) راجع ج 14 ص 276 (*)
[ 399 ]
قوله تعالى: وإذءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53) " إذا " اسم للوقت الماضي و " إذا " اسم للوقت المستقبل و " آتينا " أعطينا. وقد تقدم جميع هذا (1). والكتاب: التوراة بإجماع من المتأولين. واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب: المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس: هذا خطاء الاعراب والمعنى أما الاعراب فإن المعطوف على الشئ مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشئ خلافه. وأما المعنى فقد قال تعالى " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ". قال أبو إسحاق الزجاج: يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره ياسمين تأكيدا. وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر: وقدمت (2) الاديم لراهشيه * وألفى قولها كذبا ومينا وقال أخر (3): ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها النأي والبعد فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ومنه قول عنترة حييت من طلل تقادم عهده * أقوى وأقفر بعد أم الهيثم قال النحاس وهذا إنما يجئ في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه. وقال ابن زيد: الفرقان أنفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا. وقيل: الفرقان الفرج من الكرب لانهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى: " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " [ الانفال: 29 ] أي فرجا ومخرجا. وقيل: إنه الحجة والبيان. قاله ابن بحر. وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد: إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (1) راجع ص 261 ص 343 (2) الرواية المشهورة في البيت: (فقددت الاديم) وهو لعدى بن زيد. والقد: القطع. والاديم: الجلد. والراهشان: عرفان في باطن الذراع. (3) هو الحطيئة. (*)
[ 400 ]
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عزوجل: " ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ " (1) [ الانعام: 154 ] أي بين الحرام والحلال والكفر والايمان والوعد والوعيد وغير ذلك. وقيل: الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك. ونظيره: " يوم الفرقان ". فقيل: يعنى به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه. (لعلكم تهتدون) لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم. (2) قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم بأتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54) قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه) القوم: الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى " لا يسخر قوم من قوم " [ الحجرات: 11 ] ثم قال " ولا نساء من نساء " [ الحجرات: 11 ] وقال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء وقال تعالى " ولوطا إذ قال لقومه " [ الاعراف: 80 ] أراد الرجال دون النساء. وقد يقع القوم على الرجال والنساء قال الله تعالى " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه " [ نوح: 1 ] وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا قوله تعالى: (يا قوم) منادى مضاف وحذفت الياء في " يا قوم " لانه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول يا قومي لانها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت يا قوميه. وإن شئت أبدلت منها ألفا لانها أخف فقلت يا قوما وإن شئت قلت يا قوم بمعنى يأيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع. والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى. (1) راجع ج 7 ص 142 (2) راجع ص 160 من هذا الجزء. (*)
[ 401 ]
قوله تعالى: (إنكم ظلمتم أنفسكم) أستغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى " ثلاثة قروء " " البقرة: 228 ] وقال " وفيها ما تشتهيه الانفس " [ الزخرف: 71 ]. ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأت إلى نفسك. وأصل الظلم وضع الشئ في غير موضعه. ثم قال تعالى: (بأتخاذكم العجل) قال بعض أرباب المعاني عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه. والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله قوله تعالى: (فتوبوا إلى بارئكم) لما قال لهم: فتوبوا إلى بارئكم قالوا: كيف ؟ قال " فاقتلوا أنفسكم " قال أرباب الخواطر: ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات. والصحيح أنه قل على الحقيقة هنا. والقتل: إماتة الحركة. وقتلت الخمر: كسرت شدتها بالماء. قال سفيان بن عيينة: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الامة دون غيرها من الامم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري لما قيل لهم " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم " قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبه للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا إذ لم يعبدوا العجل من عبد العجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم يعنى من قتل وأقبل الرجل يقتل من يليه. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم على القول الاول لانهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما أعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع. روى جرير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من قوم يعمل فيهم
[ 402 ]
بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب). أخرجه ابن ماجه في سننه. وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى. فلما أستحر (1) فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لانهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الامة نعمة بعد الاسلام هي أفضل من التوبة. وقرأ قتادة: فأقيلوا أنفسكم من الاقالة أي استقبلوها من العثرة بالقتل. قوله تعالى: " بارئكم " البارئ: الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث. والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال. والبرية الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو " بارئكم " بسكون الهمزة ويشعركم وينصركم ويأمركم. واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمة والكسرة في الوصل وذلك في الشعر. وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الاعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الائمة وأنشدوا: إذا اعوججن قلت صاحب قوم * بالدو أمثال السفين العوم (2) وقال امرؤ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل (3) وقال آخر: * قالت سليمى أشتر لنا سويقا * وقال الآخر: رحت وفي رجليك ما فيهما * وقد بدا هنك من المئزر (1) استحز: اشتد وكثر. (2) الدو (بفتح الدال وتشديد الواو): الصحراء. وأراد بأمثال السفين رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفن البحر. (3) المستحقب: المتكسب. والواغل: الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه. يقول هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به فلما أدرك ثأره حلت له بزعمه فلا يأثم بشربها إذ وفى بنذره فيها. (*)
[ 403 ]
فمن أنكر التسكين في حرف الاعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للاعراب. قال أبو على: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات. وأصل برأ من تبري الشئ من الشئ وهو انفصاله منه. فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ومنه برأت من المرض برءا (بالفتح) كذا يقول أهل الحجاز. وغيرهم يقول برئت من المرض برءا (بالضم) وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ومنه المبارأة للمرأة. وقد بارأ شريكه وامرأته قوله تعالى: (فتاب عليكم) في الكلام حذف تقديره ففعلتم فتاب عليكم أي فتجاوز عنكم أي على الباقين منكم. (أنه هو التواب الرحيم) تقدم (1) معناه والحمد لله. قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) فيه خمس مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإذ قلتم) معطوف " يا موسى " نداء مفرد " لن نؤمن لك " أي نصدقك " حتى نرى الله جهرة " قيل: هم السبعون الذين اختارهم موسى وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك " لن نؤمن لك " [ البقرة: 55 ] والايمان بالانبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم فأرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى " ثم بعثناكم من بعد موتكم " [ البقرة: 56 ] وستأتي قصة السبعين في الاعراف (2) إن شاء الله تعالى قال ابن فورك يحتمل أن تكون معاقبتهم لاخراجهم طلب الرؤية عن طريقة بقولهم لموسى " أرنا الله جهرة " [ النساء: 153 ] وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام. وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والآخرة. وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية (1) راجع ص 103 فما بعدها وص 325 (2) راجع ج 7 ص 294 (*)
[ 404 ]
محالا وقد سألها موسى عليه السلام وسيأتي الكلام في الرؤية في " الانعام " و " الاعراف " (1) إن شاء الله تعالى الثانية - قوله تعالى: (جهرة) مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس. وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها. والمجاهرة بالمعاصي: المظاهرة بها. ورأيت الامير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشئ وقرأ ابن عباس " جهرة " بفتح الهاء. وهما لغتان مثل زهرة وزهرة. وفي الجهر وجهان: أحدهما - أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: واذ قلتم جهرة يا موسى. الثاني - أنه صفة لما سألوه من رؤية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير. وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام. الثالثة - قوله تعالى: (فأخذتكم الصاعقة) قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة (2) وقرأ عمر وعثمان وعلي " الصعقة " وهي قراءة ابن محيصن في جميع القرآن. (وأنتم تنظرون) جملة في موضع الحال. ويقال: كيف يموتون وهم ينظرون ؟ فالجواب أن العرب تقول: دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا وقيل المعنى " تنظرون " أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة. الرابعة - قوله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم) أي أحييناكم قال قتادة ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ودوا لاستيفاء آجالهم قال النحاس وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا والمعنى " لعلكم تشكرون " ما فعل بكم من البعث بعد الموت وقيل ماتوا موت همود يعتبر به الغير ثم أرسلوا وأصل البعث الارسال. وقيل: بل أصله إثارة الشئ من محله يقال: بعثت الناقة: أثرتها أي حركتها قال أمرؤ القيس: (1) راجع ج 7 ص 54 وص 278 (2) راجع ص 219 من هذا الجزء. (*)
[ 405 ]
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة (1) * فقاموا جميعا بين عاث ونشوان وقال عنترة: وصحابة شم الانوف بعثتهم * ليلا وقد مال الكرى بطلاها (2) وقال بعضهم " بعثناكم من بعد موتكم " [ البقرة: 56 ] علمناكم من بعد جهلكم. قلت: والاول أصح لان الاصل الحقيقة، وكان موت عقوبة ومنه قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " على ما يأتي (3) [ البقرة: 243 ]. الخامسة - قال الماوردي: واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الاحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما - بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد. الثاني: سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار. قلت: والاول أصح فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الايمان وبقاء التكليف ثابت عليهم ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلفين. والله أعلم. قوله تعالى: وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57) فيه ثماني مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام) أي جعلناه عليكم كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الاخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لانها تغم السماء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغم الهلال (1) السحرة (بضم أوله): السحر. وقيل: أعلى السحر. وقيل: هو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر. (2) الطلى (بضم ففتح): الاعناق. (3) راجع ج 3 ص 230 (*)
[ 406 ]
إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قوله عليه السلام: (إنه ليغان على قلبي). قال صاحب العين: غين عليه: غطى عليه. والغين: شجر ملتف. وقال السدي: الغمام السحاب الابيض. وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيئوا بالقمر ليلا. وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى " فاذهب أنت وربك فقاتلا " (1) [ المائدة: 24 ]. فعوقبوا في ذلك الفحص (2) أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة. روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام ! فأنزل الله عليهم المن والسلوى. قالوا: من لنا من حر الشمس ! فظلل عليهم الغمام. قالوا: فبم نستصبح ! فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم وذكر مكي عمود من نار. قالوا من لنا بالماء ! فأمر موسى بضرب الحجر قالوا من لنا باللباس ! فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان. والله أعلم. الثانية - قوله تعالى: (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال فقيل الترنجبين (3) - بتشديد الراء وتسكين النون ذكره النحاس ويقال الطرنجبين بالطاء وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل صمغة حلوة وقيل عسل: وقيل شراب حلو. وقيل: خبز الرقاق عن وهب بن منبه. وقيل: " المن " مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين) في رواية (من المن الذي أنزل الله على موسى) رواه مسلم قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بنى إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في التيه. قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمن لانه لا مؤونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه أي من جنس من (1) راجع ج 6 ص 128 (2) الفحص: كل موضع يسكن. وفي حديث كعب: (إن الله بارك في الشام وخص بالتقديس من فحص الاردن إلى رفح...) وفحصه ما بسط منه وكشف من نواحيه. (عن القاموس والنهاية). (3) الترنجبين: طل يقع من السماء وهو ندى شبيه بالعسل جامد متحبب (عن مفردات ابن البيطار). (*)
[ 407 ]
بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف. روى أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه فإن ادخر منه شيئا فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لان يوم السبت يوم عبادة وما كان ينزل عليهم يوم السبت شئ. الثالثة - لما نص عليه السلام على أن ماء الكمأة شفاء للعين قال بعض أهل العلم بالطب: أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة واما لغير ذلك فمركبة مع غيرها. وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتا في جميع مرض العين. وهذا كما أستعمل أبو وجزة العسل في جميع الامراض كلها حتى في الكحل على ما يأتي بيانه في سورة " النحل " (1) إن شاء الله تعالى. وقال أهل اللغة: الكم ء واحد وكمأن أثنان وأكمؤ ثلاثة فإذا زادوا قالوا - كمأة - بالتاء - على عكس شجرة وشجر. والمن اسم جنس لا واحد له من لفظه الخير والشر قاله الاخفش. الرابعة - قوله تعالى: (والسلوى) اختلف في السلوى فقيل هو السماني بعينه قاله الضحاك. قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي (2) فقال: وقاسمها بالله جهدا لانتم * ألذ من السلوى إذا ما نشورها ظن السلوى العسل. قلت: ما أدعاه من الاجماع لا يصح وقد قال المؤرج (3) أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل وأستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سمى به لانه يسلى به ومنه عين السلوان (4)، وأنشد: لو أشرب السلوان ما سليت * ما بي غنى عنك وإن غنيت (5) (1) راجع ج 10 ص 136 (2) هو خالد بن زهير. (3) هو مؤرج بن عمر السدوسي ويكنى أبا فيد. كان من أصحاب الخليل بن أحمد مات سنة خمس وتسعين ومائة. (4) عين السلوان: عين نضاخة يتبرك بها ويستشفى منها بالبيت المقدس. (عن معجم ياقوت). (5) البيت لرؤبة. (*)
[ 408 ]
وقال الجوهري: والسلوى العسل وذكر بيت الهذلي: * ألذ من السلوى إذا ما نشورها * ولم يذكر غلطا. والسلوانة (بالضم): خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال: شربت على سلوانة ماء مزنة * فلا وجديد العيش يامي ما أسلو واسم ذلك الماء السلوان. وقال بعضهم: السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والاطباء يسمونه المفرح. يقال: سليت وسلوت لغتان. وهو في سلوة من العيش أي في رغد عن أبى زيد. الخامسة - واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد فقال الاخفش: جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته كما قالوا: دفلى (1) للواحد والجماعة وسماني وشكاعي (2) في الواحد والجميع. وقال الخليل: واحده سلواة وأنشد: وإني لتعروني لذكرك هزة (3) * كما أنتفض السلواة من بلل القطر وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى. السادسة - " السلوى " عطف على " المن " ولم يظهر فيه الاعراب لانه مقصور. ووجب هذا في المقصور كله لانه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والالف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته. وقال الفراء: لو حركت الالف صارت همزة. السابعة - قوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) " كلوا " فيه حذف تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظاهر عليه. والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ. (1) الدفلى (كذكري): شجر مر أخضر حسن المنظر يكون في الاودية. (2) الشكاعي (كحباري وقد تفتح) من دق النبات وهي دقيقة العيدان صغيرة خضراء والناس يتداوون بها. (3) في الاصول: (سلوة) وهو تحريف. (*)
[ 409 ]
الثامنة - قوله تعالى: (وما ظلمونا) يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر. (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) لمقابلتهم النعم بالمعاصي. قوله تعالى: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58) فيه تسع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) حذفت الالف من " قلنا " لسكونها وسكون الدال بعدها والالف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لانه من يدخل. الثانية - قوله تعالى: (هذه القرية) أي المدينة سميت بذلك لانها تقرت أي اجتمعت ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى (بكسر القاف) مقصور. وكذلك ما قري به الضيف قاله الجوهري. والمقراة للحوض. والقري لمسيل الماء. والقرا للظهر ومنه قوله (1): * لاحق بطن بقرا سمين * والمقاري: الجفان الكبار قال: * عظام المقاري ضيفهم لا يفزع * وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز. والقرية (بكسر القاف) لغة اليمن. واختلف في تعيينها فقال الجمهور: هي بيت المقدس. وقيل: أريحاء من بيت المقدس. قال عمر بن شبة: كانت قاعدة ومسكن ملوك. ابن كيسان الشام. الضحاك: الرملة والاردن وفلسطين وتدمر. وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه. (1) هو حميد الارقط. وصف فرسا بضمور البطن ثم نفى أن تكون ضمره من هزال فقال: (بقرا سمين). واللاحق الضامر. (عن شرح الشواهد). (*)
[ 410 ]
الثالثة - قوله تعالى (فكلوا) إباحة. و (رغدا) كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغد. ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال " رغدا " الرابعة - قوله تعالى: (وأدخلوا الباب سجدا) الباب يجمع أبوابا وقد قالوا: أبوبة للازدواج قال الشاعر (1): هتاك أخبية ولاج أبوبة * يخلط بالبر منه الجد واللينا ولو أفرده لم يجز. ومثله قول عليه السلام: (مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا ندامى). وتبوبت بوابا اتخذته وأبواب مبوبة كما قالوا أصناف مصنفة. وهذا شئ من بابتك أي يصلح لك. وقد تقدم معنى السجود (2) فلا معنى لاعادته. والحمد لله. والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم ب " - باب حطه " عن مجاهد وغيره. وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و " سجدا " قال ابن عباس: منحنين ركوعا. وقيل متواضعين خشوعا لا على هية متعينة. الخامسة - قوله تعالى: (وقولوا) عطف على أدخلوا. (حطة) بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية. قال الاخفش: وقرئت " حطة " بالنصب على معنى أحطط عنا ذنوبنا حطة. قال النحاس: الحديث (3) عن ابن عباس أنه قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة تفسير للنصب أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال قل خيرا والائمة من القراء على الرفع وهو أولى في اللغة لما حكى عن العرب في معنى بدل قال أحمد بن يحيى: يقال بدلته أي غيرته ولم أزل عينه. وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال: (4) * عزل الامير للامير المبدل * (1) هو القلاخ بن جناب. وقيل: هو ابن مقبل. (عن اللسان) (2) راجع ص 345. (3) في الاصول: (قال النحاس جاء الحديث...) والتصويب عن إعراب القرآن للنحاس. و (الحديث) مبتدأ وخبره (تفسير). (4) هو أبو النجم. (عن إعراب القرآن للنحاس). (*)
[ 411 ]
وقال الله عزوجل " قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله " [ يونس: 15 ]. وحديث (1) ابن مسعود قالوا " حطة " تفسير على الرفع. هذا كله قول النحاس. وقال الحسن وعكرمة: " حطه " بمعنى حط ذنوبنا أمروا أن يقولوا: لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم وقال ابن جبير: معناه الاستغفار. أبان بن تغلب: التوبة قال الشاعر: فاز بالحطة التي جعل الل * - ه بها ذنب عبده مغفورا وقال ابن فارس في المجمل " حطة " كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم. وقاله الجوهري أيضا في الصحاح. قلت: يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه وهو الظاهر من الحديث روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم [ فبدلوا ] (2) فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة). وأخرجه البخاري وقال (فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة). في غير الصحيحين " حنطة في شعر ". وقيل: قالوا هطاسمهاثا. وهي لفظة عبرانية تفسيرها: حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد. وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزءوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب. وقال ابن زيد: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا. وروي أن الباب جعل قصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم. والله أعلم. السادسة - استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الاقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله. وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه. (1) في الاصل: (ولحديث ابن مسعود). والتصويب عن النحاس. (2) الزيادة عن صحيح مسلم. (*)
[ 412 ]
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكمال وهو قول الجمهور. ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة. وقال مجاهد: انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاء والياء ونحو هذا. وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه. وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال قال عمر بن الخطاب: من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم. وروى نحوه عن عبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ. وذلك هو الاحوط في الدين والاتقى والاولى ولكن أكثر العلماء على خلافه والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الاحاديث ولا كتبها وروي عن واثلة بن الاسقع أنه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم حسبكم المعنى. وقال قتادة عن زرارة بن أوفى: لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى. وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك. وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا قلت لكم إنى أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى. وقال وكيع رحمه الله إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والالغاء
[ 413 ]
والزيادة والنقصان وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلان يجوز بالعربية أولى. احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (نضر الله امرا سمع مقالتي فبلغها كما سمعها) وذكر الحديث. وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه (آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت) فقال الرجل: ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ونبيك الذي أرسلت). قالوا: أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال: (فأداها كما سمعها). قيل لهم: أما قوله (فأداها كما سمعها) فالمراد حكمها لا لفظها لان اللفظ غير معتد به. ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله (فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الالفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة لكن الاغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل دليل على الجواز. وأما رده عليه السلام الرجل من قوله (ورسولك إلى قوله ونبيك) لان لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الانبياء عليهم السلام ! وإنما فضل المرسلون من الانبياء لانهم جمعوا النبوة والرسالة. فلما قال: (ونبيك) جاء بالنعت الامدح ثم قيده بالرسالة بقوله (الذي أرسلت). وأيضا فإن نقله من قوله: (ورسولك إلى قوله ونبيك) ليجمع بين النبوة والرسالة. ومستقبح في الكلام أن تقول: هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لانك تجتزئ بقولك: رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الاول. وإنما يحسن أن تقول: هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالامس أو في وقعة كذا. والله ولي التوفيق.
[ 414 ]
فإن قيل: إذا جاز للراوي الاول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغير ألفاظ الاول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها. قيل له: الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز. قال ابن العربي: الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق. والله أعلم. قال بعض علمائنا: لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصل أحد من الاصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم لو قال: المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله أعلم. السابعة - قوله تعالى: (نغفر لكم خطاياكم) قراءة نافع بالياء مع ضمها. وابن عامر بالتاء مع ضمها وهى قراءة مجاهد. وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لان قبلها " وإذ قلنا ادخلوا " فجرى " نغفر " على الاخبار عن الله تعالى والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ولان بعده " وسنزيد " بالنون. و " خطاياكم " أتباعا للسواد وأنه على بابه. ووجه من قرأ بالتاء أنه أنث لتأنيث لفظ الخطايا لانها جمع خطيئة على التكسير. ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله " فتلقى آدم من ربه كلمات " [ البقرة: 37 ]. وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله " وإذ قلنا " لانه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة. الثامنة - واختلف في أصل خطايا جمع خطيئة بالهمزة فقال الخليل: الاصل في خطايا أن يقول: خطايئ ثم قلب فقيل: خطائي بهمزة بعدها ياء ثم تبدل من الياء ألفا بدلا لازما فتقول: خطاءا فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الالف صرت كأنك جمعت بين ثلاث ألفات فأبدلت من الهمزة ياء فقلت: خطايا. وأما سيبويه فمذهبه أن الاصل مثل الاول خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول:
[ 415 ]
خطائئ ولا تجتمع همزتان في كلمة فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطائي ثم عملت كما عملت في الاول. وقال الفراء: خطايا جمع خطية بلا همز، كما تقول: هدية وهدايا. قال الفراء: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت: خطاءا. وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت: دواب. التاسعة - قوله تعالى: (وسنزيد المحسنين) أي في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد. ويقال: يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الاحسان المتقدم عندهم وهو اسم فاعل من أحسن. والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره. وفى حديث جبريل عليه السلام (ما الاحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت) وذكر الحديث. خرجه مسلم. قوله تعالى: فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا) " الذين " في موضع رفع أي فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم. وذلك أنه قيل لهم: قولوا حطة فقالوا حنطة على ما تقدم فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء مالقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر. هذا في تغيير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود ! هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل. الثانية - قوله تعالى: (فبدل) تقدم معنى بدل وأبدل وقرئ " عسى ربنا أن يبدلنا " على الوجهين. قال الجوهري: وأبدلت الشئ بغيره. وبدله الله من الخوف
[ 416 ]
أمنا. وتبديل الشئ أيضا تغييره وإن لم يأت ببدل. واستبدل الشئ بغيره وتبدله به إذا أخذه مكانه. والمبادلة التبادل. والابدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. قال ابن دريد: الواحد بديل. والبديل: البدل. وبدل الشئ: غيره يقال: بدل وبدل لغتان مثل شبه وشبه ومثل ومثل ونكل ونكل قال أبو عبيد (1): لم يسمع في فعل وفعل غير هذه الاربعة الاحرف. والبدل: وجع يكون في اليدين والرجلين. وقد بدل (بالكسر) يبدل بدلا الثالثة - قوله تعالى: (فأنزلنا على الذين ظلموا) كرر لفظ " ظلموا " ولم يضمره تعظيما للامر. والتكرير يكون على ضربين أحدهما استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " [ البقرة: 79 ] ثم قال بعد " فويل لهم مما كتبت أيديهم " ولم يقل مما كتبوا وكرر الويل تغليظا لفعلهم ومنه قول الخنساء: تعرقني الدهر نهسا وحزا (2) * وأوجعني الدهر قرعا وغمزا أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغرياتها. والضرب الثاني: مجئ تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى " الحاقة. ما الحاقة " [ الحاقة: 1 - 2 ] و " القارعة. ما القارعة " [ القارعة: 1 - 2 ] كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم: الحاقة ما هي والقارعة ما هي ومثله " فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ". كرر " أصحاب الميمنة " تفخيما لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ " أصحاب المشأمة " لما ينالهم من أليم العذاب. ومن هذا الضرب قول الشاعر: ليت الغراب غداة ينعب دائبا * كان الغراب مقطع الاوداج وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال: (1) في الاصل: (أبو عبيدة) والتصويب عن اللسان وصحاح الجوهري. (2) في بعض الاصول: (نهشا) بالشين المعجمة. والنهش: أن يتناول المرء الشئ بفمه لبعضه فيؤثر فيه ولا يجرحه. والنهس: القبض على اللحم ونتره أي جذبه. (*)
[ 417 ]
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فكرر لفظ الموت ثلاثا وهو من الضرب الاول ومنه قول الآخر: ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها الناي والبعد فكرر ذكر محبوبته ثلاثا تفخيما لها الرابعة - قوله تعالى: (رجزا) قراءة الجماعة " رجزا " بكسر الراء وابن محيصن بضم الراء. والرجز: العذاب (بالزاي) و (بالسين): النتن والقذر ومنه قول تعالى " فزادتهم رجسا إلى رجسهم، [ التوبة: 125 ] أي نتنا إلى نتنهم قال الكسائي. وقال الفراء: الرجز هو الرجس قال أبو عبيد كما يقال السدغ والزدغ وكذا رجس ورجز بمعنى. قال الفراء: وذكر بعضهم أن الرجز (بالضم) اسم صنم كانوا يعبدونه وقرئ بذلك في قول تعالى " والرجز فاهجر " (1) والرجز (بفتح الراء والجيم): نوع من الشعر وأنكر الخليل أن يكون شعرا. وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الابل في أعجازها فإذا ثارت أرتعشت أفخاذها. (بما كانوا يفسقون) أي بفسقهم. والفسق الخروج وقد تقدم (2). وقرأ ابن وثاب والنخعي: " يفسقون " بكسر السين. قوله تعالى: وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين (60) فيه ثمان مسائل: الاولى - قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه) كسرت الذال لالتقاء الساكنين. والسين سين السؤال مثل: أستعلم واستخبر واستنصر ونحو ذلك أي طلب وسأل السقي لقومه. والعرب تقول: سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال: (3) (1) راجع ج 19 ص 65 (2) يراجع ص 245 من هذا الجزء. (3) هو لبيد (كما في اللسان). (*)
[ 418 ]
سقى قومي بني مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال وقيل: سقيته من سقى الشفة وأسقيته دللته على الماء. الثانية - الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به ! فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقى ! لكن قد قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا) الحديث. وسيأتي بكماله إن شاء الله. الثالثة - سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى - على الصفة التي ذكرنا - والخطبة والصلاة وبهذا قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنته صلاة ولا خروج وإنما هو دعاء لا غير. واحتج بحديث أنس الصحيح أخرجه البخاري ومسلم. ولا حجة له فيه فإن ذلك كان دعاء عجلت إجابته فاكتفي به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنة ولما قصد البيان بين بفعله حسب ما رواه عبد الله بن زيد المازني قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين. رواه مسلم. وسيأتي من أحكام الاستسقاء زيادة في سورة " هود " (1) إن شاء الله. الرابعة - قوله تعالى: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) العصا: معروف وهو اسم مقصور مؤنث وألفه منقلبة عن واو، قال: (2) * على عصويها (3) سابري مشبرق * (1) لم يذكر المصنف شيئا عن الاستسقاء في سورة (هود) وإنما هو مذكور في سورة (نوح) ج 18 ص 302 (2) هو ذو الرمة. وصدر البيت: * فجاءت بنسج العنكبوت كأنه * (3) عصويها: عرقوتي الدلو وهما الخشبتان اللتان يعترضان على الدلو كالصليب. والسابري: الدقيق من الثياب. والمشبرق: المخرق. (*)
[ 419 ]
والجمع عصى وعصى، وهو فعول وإنما كسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعص أيضا مثله مثل زمن وأزمن وفي المثل " العصا من العصية " أي بعض الامر من بعض. وقولهم " ألقى عصاه " أي أقام وترك الاسفار وهو مثل. قال: فألقت عصاها وأستقر بها النوى * كما قر عينا بالاياب المسافر وفى التنزيل " وما تلك بيمينك يا موسى. قال هي عصاي أتوكأ عليها " [ طه: 17 - 18 ]. وهناك (1) يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى قال الفراء أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي. وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع والافتراق ومنه يقال في الخوارج: قد شقوا عصا المسلمين أي اجتماعهم وائتلافهم. وانشقت العصا أي وقع الخلاف قال الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سيف مهند أي يكفيك ويكفي الضحاك. وقولهم: لا ترفع عصاك عن أهلك براد به الادب. والله أعلم. والحجر معروف وقياس جمعه في أدنى العدد أحجار وفي الكثير حجار وحجارة والحجارة نادر. وهو كقولنا: جمل وجمالة وذكر وذكارة كذا قال ابن فارس والجوهري. قلت: وفي القرآن " فهي كالحجارة " [ البقرة: 74 ]. " وإن من الحجارة " [ البقرة: 74 ]. " قل كونوا حجارة " [ الاسراء: 50 ]. " ترميهم بحجارة " [ الفيل: 4 ]. " وأمطرنا عليهم حجارة " [ الحجر: 74 ] فكيف يكون نادرا إلا أن يريدا أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح. والله أعلم. قوله تعالى: (فانفجرت) في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت. وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن يربط المسببات بالاسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد. والانفجار: الانشقاق ومنه انشق الفجر. وانفجر الماء أنفجارا أنفتح. والفجرة: موضع تفجر الماء والانبجاس أضيق من الانفجار لانه يكون أنبجاسا ثم يصير انفجارا. وقيل: أنبجس وتبجس وتفجر وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره (1) راجع ج 11 ص 186. (*)
[ 420 ]
الخامسة - قوله تعالى: (اثنتا عشرة عينا) " اثنتا " في موضع رفع ب " - انفجرت " وعلامة الرفع فيها الالف وأعربت دون نظائرها لان التثنية معربة أبدا لصحة معناها. " عينا " نصب على البيان. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى " عشرة " بكسر الشين وهى لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر لان سبيلهم التخفيف. ولغة أهل الحجاز " عشرة " وسبيلهم التثقيل. قال جميعه النحاس. والعين من الاسماء المشتركة يقال: عين الماء وعين الانسان وعين الركبة (1) وعين الشمس. والعين: سحابة تقبل من ناحية القبلة. والعين: مطر يدوم خمسا أو ستا لا يقلع. وبلد قليل العين أي قليل الناس وما بها عين محركة الياء (2) والعين: الثقب في المزادة. والعين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج الدمع من عين الحيوان. وقيل: لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبهت به عين الماء لانها أشرف ما في الارض. السادسة - لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجرا قبل: مربعا طوريا (من الطور) على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الاولى وهذا أعظم في الآية والاعجاز. وقيل: إنه أطلق له اسم الحجر ليضرب موسى أي حجر شاء وهذا أبلغ في الاعجاز. وقيل: إن الله تعالى أمره أن يضرب حجرا بعينه بينه لموسى عليه السلام ولذلك ذكر بلفظ التعريف. قال سعيد بن جبير هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل وفر بثوبه حتى برأه الله مما رماه به قومه. قال ابن عطية: ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون. (1) كذا في بعض نسخ الاصل. وعين الركبة (براء مضمومة وباء موحدة): نقرة في مقدمها عند الساق ولكل ركبة عينان على التشبيه بنقرة العين الحاسة. وفي البعض الآخر: (عين الركية) (براء مفتوحة وياء مثناة من تحت) وهي مفجر ماء البئر ومنبعها. (2) الذي في القاموس أن الياء تحرك وتسكن في العين بهذا المعنى. (*)
[ 421 ]
قلت: ما أوتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الاحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم يخرج الماء من بين لحم ودم ! روى الائمة الثقات والفقهاء الاثبات عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد ماء فأتي بتور (1) فأدخل يده فيه: فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول (حي على الطهور). قال الاعمش: فحدثني سالم بن أبي الجعد قال قلت لجابر كم كنتم يومئذ ؟ قال: ألفا وخمسمائة. لفظ النسائي. السابعة - قوله تعالى: (قد علم كل أناس مشربهم) يعني أن لكل سبط منهم عينا قد عرفها لا يشرب من غيرها. والمشرب موضع الشرب. وقيل: المشروب. والاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وهم ذرية الاثنى عشر أولاد يعقوب عليه السلام وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها. قال عطاء: كان للحجر أربعة أوجه يخرج من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواهم. وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف مقاتل سوى خيلهم ودوابهم. قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي المرأة على الحجر فيعرق أولا ثم يسيل. الثامنة - قوله تعالى: (كلوا واشربوا) في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى وأشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل. (ولا تعثوا) أي لا تفسدوا. والعيث: شدة الفساد نهاهم عن ذلك. يقال: عث يعثى عثيا وعثا يعثو عثوا وعاث يعيث عيثا وعيوثا ومعاثا والاول لغة القرآن. ويقال: عث يعث في المضاعف: أفسد ومنه العثة وهي السوسة التي تلحس الصوف. و (مفسدين) حال وتكرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ. وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها والتقدم في المعاصي والنهي عنها. (1) التور (بالتاء المثناة): إناء من صفرا وحجارة يشرب منه أو يتوضأ. (*)
[ 422 ]
قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذك بأنهم كانوا يكفرون بأيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61) قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الاول بمصر. قال الحسن: كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم (1) عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: لن نصبر على طعام واحد. وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما أثنان لانهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا: طعام واحد. وقيل: لتكرارهما في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة هو على أمر واحد لملازمته لذلك. وقيل المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه. وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم. قوله تعالى: (على طعام) الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى " ومن لم يطعمه فإنه منى " وقال " ليس على الذين امنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " [ المائدة: 93 ] أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه (2). وإن كان السلوى العسل - كما حكى المؤرج - فهو مشروب أيضا. وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبى سعيد الخدري قال: كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من (1) العكر (بكسر أوله وسكون ثانيه): الاصل. وقيل: العادة والديدن. والعكر (بالتحريك): دردي كل شئ. (2) راجع ج 6 ص 293. (*)
[ 423 ]
شعير، الحديث. والعرف جار بأن القائل: ذهبت إلى سوق الطعام فليس يقهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يشرب. والطعم (بالفتح) هو ما يؤديه الذوق يقال طعمه مر. والطعم أيضا: ما يشتهى منه يقال ليس له طعم وما فلان بذي طعم إذا كان غثا. والطعم (بالضم): الطعام قال أبوخراش: أرد شجاع البطن لو (1) تعلمينه * وأوثر غيري من عيالك بالطعم وأغتبق الماء القراح فأنتهى * إذا الزاد أمسى للمزلج (2) ذا طعم أراد بالاول الطعام وبالثاني ما يشتهى منه وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى " ومن لم يطعمه فإنه مني " [ البقرة: 249 ] أي من لم يذقه. وقال " فإذا طعمتم فانتشروا " [ الاحزاب: 53 ] أي أكلتم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم (إنها طعام طعم وشفاء سقم) (3). وأستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه. وفي الحديث (إذا استطعمكم الامام فأطعموه). يقول: إذا أستفتح فافتحوا عليه. وفلان ما يطعم النوم إلا قائما. وقال الشاعر: نعاما بوجرة صفر الخدو * د ما تطعم النوم إلا صياما (4) قوله تعالى: (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض) لغة بني عامر " فادع " بكسر العين لالتقاء الساكنين يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف. و " يخرج " مجزوم في معنى سله وقل له: أخرج يخرج. وقيل: هو على معنى الدعاء على تقدير حذف (1) في ديوان الهذليين واللسان مادة (طعم): (قد تعلمينه). (2) المزلج: من معانيه البخيل. والملزق بالقوم وليس منهم. وكلاهما محتمل. (3) أي يشبع الانسان إذا شرب ماءها كما يشبع من الطعام. (4) كذا في نسخ الاصل. ووجرة (بفتح فسكون): موضع بين مكة والبصرة. والذي في كتب اللغة ومعاجم البلدان: نعاما بخطمة صعر الخدر * دلا تطعم الماء إلا صياما وقبله: فأما بنو عامر بالنسار * غداة لقونا فكانوا نعاما وهو لبشر بن أبي خازم. وخطمة (بفتح فسكون): موضع أعلى المدينة. وفي اللسان بعد البيت: (يقول: هي صائمة منه لا تطعمه قال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه). (*)
[ 424 ]
اللام وضعفه الزجاج و " من " في قوله " مما " زائدة في قول الاخفش وغير زائدة في قول سيبويه لان الكلام موجب قال النحاس وإنما دعا الاخفش إلى هذا لانه لم يجد مفعولا ل " يخرج " فأراد أن يجعل " ما " مفعولا والاولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام التقدير: يخرج لنا مما تنبت الارض مأكولا. ف " من " الاولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص. و (من بقلها) بدل من " ما " بإعادة الحرف. والبقل (وقثائها) عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه. والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق والشجر: ما له ساق. والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهى قراءة يحيى بن وثاب وطلحة ابن مصرف لغتان والكسر أكثر وقيل في جمع قثاء قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول: أقثأت القوم أي أطعمتهم ذلك. [ وقثأت (1) القدر سكنت غليانها بالماء قال الجعدي: تفور علينا قدرهم فنديمها * ونفثئوها عنا إذا حميها غلا وقثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه. وعدا حتى أفثأ أي أعيا وانبهر. وأفثأ الحر أي سكن وفتر. ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم: إن الرثيئة تفثأ في الغضب ". وأصله أن رجلا كان غضب على قوم وكان مع غضبه جائعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم. الرثيئة: اللبن المحلوب على الحامض ليخثر رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر والاسم الرثيئة. ورتثأ اللبن خثر ]. وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة. وهذا إسناد صحيح. (1) الكلام الموضوع بين المربعين نقله المؤلف من معاجم اللغة سهوا على أنه من مادة (قثأ) بالقاف والواقع أنه من مادة (فثأ) بالفاء. (*)
[ 425 ]
قوله تعالى: (وفومها) اختلف في الفوم فقيل هو الثوم لانه المشاكل للبصل. رواه جويبر عن الضحاك. والثاء تبدل من الفاء كما قالوا مغافير ومغاثير (1). وجدث وجدف للقبر. وقرأ ابن مسعود " ثومها " بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس. وقال أمية ابن أبي الصلت: كانت منازلهم إذ ذال ظاهرة * فيها الفراديس والفومان والبصل الفراديس واحدها فرديس. وكرم مفردس أي معرش. وقال حسان: وأنتم أناس لئام الاصول * طعامكم الفوم والحوقل يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل. وقيل: الفوم الحنطة روى عن ابن عباس أيضا وأكثر المفسرين واختاره النحاس قال: وهو أولى ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الاول لابدال العرب الفاء من الثاء والابدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب. وأنشد ابن عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح: قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا * وود المدينة عن زراعة فوم وقال أبو إسحاق الزجاج وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء ! وقال الجوهري أبو نصر الفوم الحنطة وأنشد الاخفش قد كنت أحسبني كأغنى واجد * نزل المدينة عن زراعة فوم (2) وقال ابن دريد: الفومة السنبلة وأنشد: وقال ربيئهم (3) لما أتانا * بكفه فومة أو فومتان (1) المغافير: قيل: هو صمغ يسيل من شجر العرفط رائحته ليست بطيبة. (2) في الاغاني (ج 21 ص 211) طبع أوربا: (عن زراعة فول). وقيل البيت: ولقد نظرت إلى الشموس ودونها * حرج من الرحمن غير قليل وعلى هذا فالقافية لامية. (3) في بعض الاصول: (وقال رئيسهم). الربى. (ومثله الربيئة): العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه. (*)
[ 426 ]
والهاء في " كفه " غير مشبعة وقال بعضهم الفوم الحمص لغة شامية وبائعه فامي، مغير عن فومى لانهم قد يغيرون في النسب، كما قالوا سهلي ودهري. ويقال: فوموا لنا أي اختبزوا. قال القراء: هي لغة قديمة. وقال عطاء وقتادة: الفوم كل حب يختبز. مسألة - اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول. فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك، للاحاديث الثابتة في ذلك. وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا - إلى المنع، وقالوا: كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به. واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة، والله عزوجل قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث. ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ببدر فيه (1) خضرات من بقول فوجد لها ريحا، قال: فاخبر بما فيها من البقول، فقال (قربوها) إلى بعض أصحابه كان معه فلما رأه كره أكلها، قال: (كل فإني أناجي من لا تناجي). أخرجه مسلم وأبو داود. فهذا بين في الخصوص له والاباحة لغيره. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لم يأكل. ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ولكني أكرهه). قال فإني أكره ما تكره أو ما كرهت، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى (يعني يأتيه الوحي) فهذا نص على عدم التحريم. وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها: (أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها). فهذه الاحاديث تشعر بان الحكم خاص به، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك. لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال: (من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة: من أكل البصل والثوم (1) في الاصول: (بقدر). والتصويب عن سنن أبي داود. يعنى بالبدر الطبق شبه بالبدر لاستدارته. (*)
[ 427 ]
والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول: إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فاخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا. خرجه مسلم. قوله تعالى: (وعدسها وبصلها) العدس معروف. والعدسة: بثرة تخرج بالانسان، وربما قتلت. وعدس: زجر للبغال، قال: عدس ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق (1) والعدس: شدة الوطئ، والكدح أيضا، يقال: عدسه. وعدس في الارض: ذهب فيها. وعدست إليه المنية أي سارت، قال الكميت: أكلفها هول الظلام ولم أزل * أخا الليل معدوسا إلي وعادسا أي يسار إلي بالليل. وعدس: لغة في حدس، قاله الجوهري. ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث على أنه قال: (عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم)، ذكره الثعلبي وغيره. وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت، ويوما بلحم (2)، ويوما بعدس. قال الحليمي: والعدس والزيت طعام الصالحين، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية. وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة، ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم. والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة. وقد روي أن النبي صلى الله (1) البيت ليزيد بن مفرغ. (2) في بعض نسخ الاصل: (بملح). (*)
[ 428 ]
عليه وسلم لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عزوجل. قوله تعالى: (قال اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) الاستبدال: وضع الشئ موضع الآخر، ومنه البدل، وقد تقدم. و " أدنى " مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة، من قولهم: ثوب مقارب، أي قليل الثمن. وقال علي بن سليمان: هو مهموز من الدنئ البين الدناءة بمعنى الاخس، إلا أنه خفف همزته. وقيل: هو مأخوذ من الدون أي الاحط، فأصله أدون، أفعل، قلب فجاء أفلع، وحولت الواو ألفا لتطرفها. وقرئ في الشواذ " أدنى " (1). ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير. واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشئ الذي طلبوه وهى خمسة: الاول - أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل، قاله الزجاج. الثاني - لما كان المن والسلوى طعاما من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في أستدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه. الثالث - لما كان ما من الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة. الرابع - لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجئ إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى. الخامس - لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، الحبوب والارض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه. (1) كذا في نسخ الاصل. والذي في كتب الشواذ: (أدنا بالهمز وهي قراءة زهير الفرقبي). (*)
[ 429 ]
مسألة: في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب، وسيأتي هذا المعنى في " المائدة " (1) و " النحل " (2) إن شاء الله مستوفى. قوله تعالى: (اهبطو مصرا) تقدم معنى الهبوط (3)، وهذا أمر معناه التعجيز، كقوله تعالى: " قل كونوا حجارة أو حديدا " [ الاسراء: 50 ] لانهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم. وقيل: إنهم أعطوا ما طلبوه. و " مصرا " بالتنوين منكرا قراءة الجمهور، وهو خط المصحف. قال مجاهد وغيره: فمن صرفها أراد مصرا من الامصار غير معين. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: " أهبطوا مصرا " قال: مصرا من هذه الامصار. وقالت طائفة ممن صرفها أيضا: أراد مصر فرعون بعينها. استدل الاولون بما أقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه. واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار ال فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها. قال الاخفش والكسائي: لخفتها وشبهها بهند ودعد، وأنشد: لم تتلفع بفضل مئزرها * دعد ولم تسق دعد في العلب فجمع بين اللغتين. وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا، لانك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف. وقال غير الاخفش: أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة: " مصر " بترك الصرف. وكذلك هي في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود. وقالوا: هي مصر فرعون. قال أشهب قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، ذكره ابن عطية والمصر أصله في اللغة الحد. ومصر الدار: حدودها. قال ابن فارس ويقال: إن أهل هجر يكتبون في شروطهم " أشترى فلان الدار بمصورها " أي حدودها، قال عدي: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به * بين النهار وبين الليل قد فصلا (1) راجع ج 6 ص 263. (2) راجع ج 10 ص 136. (3) راجع ص 319. (4) البيت لجرير. والعلب: أقداح من جلود يحلب فيها اللبن ويشرب. يقول هي حضرية رقيقة العيش لا تلبس لبس الاعراب ولا تتغذى غذاءهم. (شرح الشواهد). (*)
[ 430 ]
قوله تعالى: (فإن لكم ما سألتم) " ما " نصب بإن، وقرأ ابن وثاب والنخعي " سألتم " بكسر السين، يقال: سألت وسلت بغير همز. وهو من ذوات الواو، بدليل قولهم: يتساولون. ومعنى (ضربت عليهم الذلة والمسكنة) أي ألزموهما وقضى عليهم بهما، مأخوذ من ضرب القباب، قال الفرزدق في جرير: ضربت عليك العنكبوت بنسجها * وقضى عليك به الكتاب المنزل وضرب الحاكم على اليد، أي حمل وألزم. والذلة: الذل والصغار. والمسكنة: الفقر. فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته. وقيل: الذلة فرض الجزية، عن الحسن وقتادة. والمسكنة الخضوع، وهى مأخوذة من السكون، أي قلل الفقر حركته، قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة: الذلة الصغار. والمسكنة مصدر المسكين. وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس: " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " قال: هم أصحاب القبالات (1). قوله تعالى: (وباءوا) أي انقلبوا ورجعوا، أي لزمهم ذلك. ومنه قول عليه السلام في دعائه ومناجاته: (أبوء بنعمتك علي) أي أقر بها وألزمها نفسي. وأصله في اللغة الرجوع، يقال باء بكذا، أي رجع به، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع. والبواء: الرجوع بالقود. وهم في هذا الامر بواء، أي سواء، يرجعون فيه إلى معنى واحد. وقال الشاعر: (2) ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي * محارمنا لا يبؤؤ الدم بالدم أي لا يرجع الدم بالدم في القود. وقال: فأبوا بالنهاب وبالسبايا * وأبنا بالملوك (3) مصفدينا أي رجعوا ورجعنا. وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة (4). (1) في تفسير ابن كثير: (.... القبالات يعني الجزية). (2) هو جابر بن جبير التغلبي (عن شرح الشواهد). (3) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي ولا شاهد فيه إذ الرواية فيه: (فآبوا... وأبنا) ومادة (آب) غير مادة (باء) وإن كان معنى المادتين واحدا. (4) راجع ص 149. (*)
[ 431 ]
قوله تعالى: (ذلك) " ذلك " تعليل. (بأنهم كانوا يكفرون) أي يكذبون - بآيات الله) أي بكتابه ومعجزات أنبيائه، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام. (ويقتلون النبيين) معطوف على " يكفرون ". وروي عن الحسن " يقتلون " وعنه أيضا كالجماعة. وقرأ نافع " النبيئين " بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين: في سورة الاحزاب: " إن وهبت نفسها للنبي إن أراد " (1) [ الاحزاب. 50 ]. و " لا تدخلوا بيوت النبي إلا " [ الاحزاب: 53 ] فإنه قرأ بلا مد ولا همز. وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين. وترك الهمز في جميع ذلك الباقون. فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخبر، واسم فاعله منبئ. ويجمع نبئ أنبياء، وقد جاء في جمع نبي نباء، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: يا خاتم النبآء إنك مرسل * بالحق كل هدى السبيل هداكا هذا معنى قراءة الهمز. واختلف القائلون بترك الهمز، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز، ثم سهل الهمز. ومنهم من قال: هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر. فالنبي من النبوة وهو الارتفاع، فمنزلة النبي رفيعة. والنبي بترك الهمز أيضا الطريق، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق، قال الشاعر: (2) لاصبح رتما دقاق الحصى * مكان النبي من الكاثب رتمت الشئ: كسرته، يقال: رتم أنفه ورثمه، بالتاء والثاء جميعا. والرتم أيضا المرتوم أي المكسور. والكاثب اسم جبل. فالانبياء لنا كالسبل في الارض. ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا نبئ الله، وهمز. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لست بنبئ الله - وهمز - ولكني نبي الله) ولم يهمز. قال أبو علي: ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح: * يا خاتم النبآء... * ولم يؤثر في ذلك إنكار. (1) ج 14 ص 210 وص 223 (2) هو أوس بن حجر (كما في اللسان). (*)
[ 432 ]
قوله تعالى: (بغير الحق) تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه. فإن قيل: هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق، ومعلوم أن الانبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به. قيل له: ليس كذلك، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن يقتل على الحق، فصرح قوله: " بغير الحق " عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يأت نبي قط بشئ يوجب قتله. فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الانبياء ؟ قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن: لم يقتل نبي قط من الانبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر. قوله تعالى: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) " ذلك " رد على الاول وتأكيد للاشارة إليه. والباء في " بما " باء السبب. قال الاخفش: أي بعصيانهم. والعصيان: خلاف الطاعة. واعتصت النواة إذا أشتدت. والاعتداء: تجاوز الحد في كل شئ، وعرف في الظلم والمعاصي. قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) فيه ثماني مسائل: الاولى قوله تعالى: (إن الذين آمنوا) أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان: المراد المنافقون. كأنه قال: الذين آمنوا في ظاهر أمرهم، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم. الثانية - قوله تعالى: (والذين هادوا) معناه صاروا يهودا، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام، فقلبت العرب الذال دالا، لان الاعجمية إذا عربت غيرت
[ 433 ]
عن لفظها. وقيل: سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل. هاد: تاب. والهائد: التائب، قال الشاعر: * إني امرؤ من حبه هائد * أي تائب. وفى التنزيل: " إنا هدنا إليك " [ الاعراف: 156 ] أي تبنا. وهاد القوم يهودون هودا وهيادة إذا تابوا. وقال ابن عرفة: " هدنا إليك " أي سكنا إلى أمرك. والهوادة السكون والموادعة. قال: ومنه قول تعالى: " إن الذين أمشوا والذين هادوا ". وقرأ أبو السمال: " هادوا " بفتح الدال. الثالثة - قوله تعالى: (والنصارى) جمع واحده نصراني. وقيل: نصران بإسقاط الياء، وهذا قول سيبويه. والانثى نصرانة، كندمان وندمانة. وهو نكرة يعرف بالالف واللام، قال الشاعر (1): صدت كما صد عما لا يحل له * ساقي نصارى قبيل الفصح (2) صوام فوصفه بالنكرة. وقال الخليل: واحد النصارى نصري، كمهري ومهارى. وأنشد سيبويه شاهدا على قوله: تراه إذا دار العشا متحنفا * ويضحى لديه وهو نصران شامس وأنشد: فكلتاهما خرت وأسجد رأسها * كما أسجدت نصرانة لم تحنف (3) يقال: أسجد إذا مال. ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياءي النسب، لانهم قالوا: رجل نصراني وامرأة نصرانية. ونصره: جعله نصرانيا. وفى الحديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه). وقال عليه السلام: (لا يسمع بى أحد من هذه الامة يهودي ولا نصراني (1) هو النمر بن تولب. يصف ناقة عرض عليها الماء فعافته. (2) في نسخ الاصل: (الصبح) بالباء. والتصويب عن كتاب سيبويه. والفصح. فطر النصارى وهو عيد لهم. (3) البيت لابي الاخرز الحمائي يصف ناقتين طأطأتا رؤوسهما من الاعياء. فشبه رأس الناقة برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. (عن شرح القاموس واللسان). (*)
[ 434 ]
ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها، وقياسه النصرانيون. ثم قيل: سموا بذلك لقرية تسمى " ناصرة " كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى، قاله ابن عباس وقتادة. وقال الجوهري: ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى، ويقال ناصرة. وقيل: سموا بذلك لنصرة بعضهم بعضا، قال الشاعر: لما رأيت نبطا أنصارا * شمرت عن ركبتي الازارا * كنت لهم من النصارى جارا * وقيل: سموا بذلك لقوله: " من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله " [ آل عمران: 52 ]. الرباعة - قوله تعالى: (والصابئين) جمع صابئ، وقيل: صاب، ولذلك اختلفوا في همزه، وهمزه الجمهور إلا نافعا. فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت، وصأبت ثنية الغلام إذا خرجت. ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال. فالصابئ في اللغة: من خرج ومال من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ. فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب. الخامسة - لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولاجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم - على ما يأتي بيانه في المائدة (1) - وضرب الجزية عليهم، على ما يأتي في، سورة " براءة " (2) إن شاء الله. وأختلف في الصابئين، فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر وقال إسحاق: لا بأس بذبائح الصابئين لانهم طائفة من أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم. وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام. وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. وقال الحسن أيضا وقتادة هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد (1) راجع ج 6 ص 76. (2) راجع ج 8 ص 110. (*)
[ 435 ]
ابن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة. والذي تحصل من مذهبهم - فيما ذكره بعض علمائنا - أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة، ولهذا أفتى أبو سعيد الاصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم. السادسة - قوله تعالى: (من آمن) أي صدق. و " من " في قوله: " من آمن " في موضع نصب بدل من " الذين ". والفاء في قوله " فلهم " داخلة بسبب الابهام الذي في " من ". و " لهم أجرهم " أبتداء وخبر في موضع خبر إن. ويحسن أن يكون " من " في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط. و " آمن " في موضع جزم بالشرط، والفاء الجواب. و " لهم أجرهم " خبر " من "، والجملة كلها خبر " إن "، والعائد على " الذين " محذوف، تقديره من آمن منهم بالله. وفي الايمان بالله واليوم الآخر أندارج الايمان بالرسل والكتب والبعث. السابعة - إن قال قائل: لم جمع الضمير في قول تعالى: " لهم أجرهم " و " آمن " لفظ مفرد ليس بجمع، وإنما كان يستقيم لو قال: له أجره. فالجواب أن " من " يقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يرجع الضمير مفردا ومثنى ومجموعا، قال الله تعالى: " ومنهم من يستمعون إليك " [ يونس: 42 ] على المعنى. وقال: " ومنهم من يستمع إليك " على اللفظ. وقال الشاعر: ألما بسلمى عنكما إن عرضتما * وقولا لها عوجي على من تخلفوا وقال الفرزدق: تعال فإن عاهدتني لا تخونني * نكن مثل من يا ذئب يصطحبان فحمل على المعنى ولو حمل على اللفظ لقال: يصطحب وتخلف. وقال تعالى: " ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات " فحمل على اللفظ. ثم قال: " خالدين " فحمل على المعنى، ولو راعى اللفظ لقال: خالدا فيها. وإذا جرى ما بعد " من " على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية. وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ لان الالباس يدخل في الكلام. وقد مضى الكلام في قوله تعالى: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1). والحمد لله. (1) راجع ص 329 من هذا الجزء. (*)
[ 436 ]
الثامنة - روى عن ابن عباس أن قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا " [ الحج: 17 ] الآية. منسوخ بقوله تعالى: " يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه " [ آل عمران: 85 ] الآية. وقال غيره: ليست بمنسوخة. وهى فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام. قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64) قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " (1) [ الاعراف: 171 ]. قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال: وكل شئ قلعته فرميت به فقد نتقته. وقيل: نتقناه رفعناه. قال ابن الاعرابي: الناتق الرافع، والناتق الباسط، والناتق الفاتق. وامرأة ناتق ومنتاق: كثيرة الولد. وقال القتبي: أخذ ذلك من نتق السقاء، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه. قال وقوله: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " قال: قلع من أصله. واختلف في الطور، فقيل: الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره، رواه ابن جريج عن ابن عباس. وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت. وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان. إلا أن مجاهدا قال: هو اسم لكل جبل بالسريانية، وقاله أبو العالية. وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام في مقدمة الكتاب (2). والحمد لله. وزعم البكري أنه سمى بطور بن إسماعيل عليه السلام، والله تعالى أعلم. القول في سبب رفع الطور وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بنى إسرائيل من عند الله بالالواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزموها. فقالوا: لا ! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك. فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم: خذوها. فقالوا لا. فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله (1) راجع ج 7 ص 313 (2) راجع ص 68 من هذا الجزء. (*)
[ 437 ]
فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق. وكان سجودهم على شق، لانهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده، فأمروا سجودهم على شق واحد. قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الايمان [ في قلوبهم ] (1) لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك. قوله تعالى: (خذوا) أي فقلنا خذوا، فحذف. (ما آتيناكم) أعطيناكم. (بقوة) أي بجد واجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدي. وقيل: بنية وإخلاص. مجاهد: القوة العمل بما فيه. وقيل: بقوة، بكثرة درس. (وأذكروا ما فيه) أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيعوه. قلت: هذا هو المقصود من الكتب، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها، على ما قاله الشعبي وابن عيينة، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى: " نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب " (2) [ البقرة: 101 ]. وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من شر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شئ منه). فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا. وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا. قال الله تعالى: " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " (3) [ الزمر: 55 ] فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقضاه، لكن تركنا ذلك، كما تركت اليهود والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا، لغلبة الجهل وطلب الرياسة وأتباع الاهواء. روى الترمذي عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: (هذا أوان (1) زيادة عن تفسير ابن عطية. (2) راجع ج 2 ص 41 (3) راجع ج 15 ص 270 (*)
[ 438 ]
يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شئ). فقال زياد بن لبيد الانصاري: كيف يختلس منا وقد قرآنا القرآن ! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا. فقال: (ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لاعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم) وذكر الحديث، وسيأتي. وخرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الاشجعي من طريق صحيحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد: (ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى). وفي الموطأ عن عبد الله بن مسعود قال لانسان: " إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يبدءون فيه أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم ". وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا. وقد قال يحيى: سألت ابن نافع عن قوله: يبدءون أهواءهم قبل أعمالهم ؟ قال يقول: يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم. وتقدم القول في معنى قوله: " لعلكم تتقون " (1). فلا معنى لاعادته. قوله تعالى: (ثم توليتم) تولى تفعل، وأصله الاعراض والادبار عن الشئ بالجسم، ثم استعمل في الاعراض عن الاوامر والاديان والمعتقدات اتساعا ومجازا. وقوله: (من بعد ذلك) أي من بعد البرهان، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل. وقوله: (فلولا فضل الله عليكم) " فضل " مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره، لان العرب أستغنت عن إظهاره، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاءوا بأن، فإذا جاءوا بها لم يحذفوا الخبر. والتقدير فلولا فضل الله تدارككم. (ورحمته) عطف على " فضل " أي (1) راجع ص 227 من هذا الجزء. (*)
[ 439 ]
لطفه وإمهاله. (لكنتم) جواب " لولا ". (من الخاسرين) خبر كنتم. والخسران: النقصان، وقد تقدم (1). وقيل: فضله قبول التوبة، و " رحمته " العفو. والفضل: الزيادة على ما وجب. والافضال: فعل ما لم يجب. قال ابن فارس في المجمل: الفضل الزيادة والخير، والافضال: الاحسان. قوله تعالى: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فيه سبع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) " علمتم " معناه عرفتم أعيانهم. وقيل: علمتم أحكامهم. والفرق بينهما أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى. والعلم متوجه إلى أحوال المسمى. فإذا قلت: عرفت زيدا، فالمراد شخصه. وإذا قلت: علمت زيدا، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص. فعلى الاول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وهو قول سيبويه: " علمتم " بمعنى عرفتم. وعلى الثاني إلى مفعولين. وحكى الاخفش: ولقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه. وفي التنزيل: " لا تعلمونهم الله يعلمهم " [ الانفال: 60 ]. كل هذا بمعنى المعرفة، فاعلم. " الذين اعتدوا منكم في السبت " [ البقرة: 65 ] صلة " الذين ". والاعتداء. التجاوز، وقد تقدم (2). الثانية - روى النسائي عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال له صاحبه: لا تقل نبي لو سمعك ! فإن له أربعة أعين. (3) فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: (لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت). فقبلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبي. قال: (فما (1) راجع ص 248 (2) راجع ص 432 (3) الذي في نسخة النسائي: (لو سمعك كان له أربعة أعين) مع تأنيث العدد أيضا. (*)
[ 440 ]
يمنعكم أن تتبعوني) !. قالوا: إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود. وخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وسيأتي لفظه في سورة " سبحان " (1) إن شاء الله تعالى. الثالثة - (في السبت) معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت. والاول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال. وروى أشهب عن مالك قال: زعم أبن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة (2) وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الاحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى، حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الاسواق، وأعلن الفسقة بصيده. فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الانس، ولا يعرف الانس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الانس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم ! فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. وسيأتي في " الاعراف " (3) قول من قال: إنهم كانوا ثلاث فرق. وهو أصح من قول من قال: إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين. والله أعلم. والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع، فقيل: إن الاشياء فيه سبتت وتمت خلقتها. وقيل: هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة. واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين. قال الزجاج: قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم. واختاره القاضي أبو بكر بن العربي. وقال الجمهور: الممسوخ لا ينسل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا (1) راجع ج 10 ص 335 (2) الوهق (بالتحريك وتسكن الهاء): الحبل في طرفيه أنشوطة تطرح في عنق الدابة أو الانسان حتى تؤخذ. والانشوطة عقدة يسهل أنحلالها كعقدة التكة عند جذبها. راجع ج 7 ص 306 (3) راجع ج 7 ص 307 (*)
[ 441 ]
ولم يبق لهم نسل، لانه قد أصابهم السخط والعذاب، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام. قال ابن عباس: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. قلت: هذا هو الصحيح من القولين. وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الاول من قوله صلى الله عليه وسلم: (فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الابل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته). رواه أبو هريرة أخرجه مسلم، وبحديث الضب رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر، قال جابر: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال: (لا أدري لعله من القرون التي مسخت) فمتأول على ما يأتي. قال ابن العربي: وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال: رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها، وثبت في نص الحديث " قد زنت " وسقط هذا اللفظ عند بعضهم. قال ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمرو ؟ قلنا: نعم كذلك كان، لان اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم (1) حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحجارهم ومسوخهم (1)، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصى ما يبدلون وما يغيرون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام وهم لا ينصرون. قلت: هذا كلامه في الاحكام، ولا حجة في شئ منه. وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الاودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال: رأيت في الجاهلية قردة أجتمع عليها قردة (1) في الاصول: (ممسوخهم). والتصويب عن أحكام القرآن لابن العربي. (*)
[ 442 ]
فرجموها فرجمتها معهم. كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها، فذكر في كتاب أيام الجاهلية. وليس في رواية النعيمي عن الفربري أصلا شئ من هذا الخبر في القردة، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري. والذي قال البخاري في التاريخ الكبير: قال: لي نعيم بن حماد أخبرنا هشيم عن أبى بلج وحصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم. وليس فيه " قد زنت ". فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية. وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبد الله " معدود في كبار التابعين من الكوفيين، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك، لان رواته مجهولون. وقد ذكره البخاري عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الاودي مخصترا قال: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها - يعنى القردة - فرجمتها معهم. ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصرا. وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما. وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم. ولو صح لكانوا من الجن، لان العبادات في الانس والجن دون غيرهما ". وأما قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: (ولا أراها إلا الفأر) وفى الضب: (لا أدري لعله من القرون التي مسخت) وما كان مثله، فإنما كان ظنا وخوفا لان يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ، وكان هذا حدسا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير: هي مما مسخ ؟ فقال: (إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك). وهذا نص صريح صحيح رواه عبد الله بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القدر. وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر،
[ 443 ]
فدل على صحة ما ذكرنا. وبالله توفيقنا. وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة. ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم، والله أعلم. قوله تعالى: (فقلنا لهم كونوا قردة) " قردة " خبر كان. " خاسئين " نعت، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان، أو حالا من الضمير في " كونوا ". ومعناه مبعدين. يقال: خسأته فخسأ وخسئ، وانخسأ أي أبعدته فبعد. وقوله تعالى: " ينقلب إليك البصر خاسئا " (1) [ الملك: 4 ] أي مبعدا. وقوله: " اخسئوا فيها " (2) [ المؤمنون: 108 ] أي تباعدوا. تباعد سخط. قال الكسائي: خسأ الرجل خسوءا، وخسأته خسأ. ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القمئ. يقال: قمؤ الرجل قماء وقماءة صار قميئا، وهو الصاغر الذليل. وأقمأته: صغرته وذللته، فهو قمئ على فعيل قوله تعالى: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66) قوله تعالى: (فجعلناها نكالا) نصب على المفعول الثاني. وفى المجعول نكالا أقاويل، قيل: العقوبة. وقيل: القرية، إذ معنى الكلام يقتضيها. وقيل: الامة التي مسخت. وقيل: الحيتان، وفيه بعد. والنكال: الزجر والعقاب. والنكل والانكال: القيود. وسميت القيود أنكالا لانها ينكل بها، أي يمنع. ويقال للجام الثقيل: نكل (3) ونكل، لان الدابة تمنع به. ونكل عن الامر ينكل، ونكل ينكل إذا أمتنع. والتنكيل: إصابة الاعداء بعقوبة تنكل من وراءهم، أي تجبنهم. وقال الازهري: النكال العقوبة. ابن دريد: والمنكل: الشئ الذي ينكل بالانسان، قال: (4) * فارم على أقفائهم بمنكل * (1) راجع ج 18 ص (2) راجع ج 12 ص 153 (3) هذه الكلمة موجودة في بعض نسخ الاصل، ومعاجم اللغة لا تؤيده. والذي بها إنما هو بالكسر لا غير. (4) القائل رياح المؤملي. وقيله: * يا رب أشقاني بنو مؤمل * وبعده: * بصخرة أو عرض جيش جحفل * (عن شرح القاموس). (*)
[ 444 ]
قوله: (لما بين يديها) قال ابن عباس والسدي: لما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم. (وما خلفها) لمن يعمل مثل تلك الذنوب. قال الفراء: جعلت المسخة نكالا لما مضى من الذنوب، ولما يعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم. قال ابن عطية: وهذا قول جيد، والضميران للعقوبة. وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس: لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم. واختاره النحاس، قال: وهو أشبه بالمعنى، والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا: " لما بين يديها وما خلفها " من القرى. وقال قتادة: " لما بين يديها " من ذنوبهم " وما خلفها " من صيد الحيتان. قوله تعالى: (وموعظة للمتقين) عطف على نكال، ووزنها مفعلة من الاتعاظ والانزجار. والوعظ: التخويف. والعظة الاسم. قال الخليل: الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الماوردي: وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين. قال ابن عطية: واللفظ يعم كل متق من كل أمة. وقال الزجاج " وموعظة للمتقين " لامة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حرم الله عزوجل ما نهاهم عنه، فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم. قوله تعالى: وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (إن الله يأمركم) حكي عن أبي عمرو أنه قرأ " يأمركم " بالسكون، وحذف الضمة من الراء لثقلها. قال أبو العباس المبرد: لا يجوز هذا لان الراء حرف الاعراب، وإنما الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة. " أن تذبحوا " في موضع نصب ب " يأمركم " أي بأن تذبحوا. " بقره " نصب ب " تذبحوا ". وقد تقدم (1) معنى الذبح فلا معنى لاعادته. (1) راجع المسألة العاشرة ص 385 من هذا الجزء. (*)
[ 445 ]
الثانية - قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) مقدم في التلاوة وقوله: " قتلتم نفسا " مقدم في المعنى على جميع ما أبتدأ به من شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله: " قتلتم " في النزول مقدما، والام بالذبح مؤخرا. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويكون " وإذ قتلتم " مقدما في المعنى على القول الاول حسب ما ذكرنا، لان الواو لا توجب الترتيب. ونظيره في التنزيل في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله: " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين " إلى قوله " إلا قليل " (1) [ هود: 40 ]. فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله: " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها " [ هود: 41 ]. فذكر الركوب متأخرا في الخطاب، ومعلوم أن ركوبهم كال قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى: " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما " (2) [ هود: 19 ]. وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله في القرآن كثير. الثالثة - لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الابل، والتخير في البقر. وقيل: الذبح أولى، لانه الذي ذكره الله، ولقرب المنحر من المذبح. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح مما ينحر. وكره مالك ذلك. وقد يكره المرء الشئ ولا يحرمه. وسيأتي في سورة " المائدة " أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى: " إلا ما زكيتم " [ المائدة: 3 ] مستوفى (3) إن شاء الله تعالى. قال الماوردي: وإنما أمروا - والله أعلم - بذبح بقرة دون غيرها، لانها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة، وليس بعلة في جواب السائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الاشياء من أضدادها. الرابعة - قوله تعالى: (بقرة) " بقرة " البقرة اسم للانثى، والثور اسم للذكر مثل ناقة وجمل وامرأة ورجل. وقيل: البقرة واحد البقر، الانثى والذكر سواء. وأصله من قولك: (1) راجع ج 9 ص 33 (2) راجع ج 10 ص 346 (3) راجع ج 6 ص 54 (*)
[ 446 ]
بقر بطنه، أي شقه، فالبقرة تشق الارض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لابي جعفر محمد بن علي زين العابدين، لانه بقر العلم وعرف أصله، أي شقه. والبقيرة: ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين. وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد (فبقر الارض). قال شمر: بقر نظر موضع الماء، فرأى الماء تحت الارض. قال الازهري: البقر اسم للجنس وجمعه (1) باقر. ابن عرفة: يقال بقير وباقر وبيقور. وقرأ عكرمة وابن يعمر " إن الباقر ". والثور: واحد الثيران. والثور: السيد من الرجال. والثور القطعة من القط. والثور: الطحلب. وثور: جبل. وثور: قبيلة من العرب. وفي الحديث: (ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق) يعنى أنتشاره، يقال: ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الافق. وفي الحديث: (من أراد العلم فليثور القرآن). قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به. قوله تعالى: (قالوا أتتخذنا هزوا) هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال لهم: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " [ البقرة: 67 ] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل: أسمه عاميل - وأشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسول الله بين أظهرنا، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة (2) في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله - فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده، قالوا: أتتخذنا هزؤا ؟ والهزء: اللعب والسخرية، وقد تقدم (3). وقرأ الجحدري " أيتخذنا " بالياء، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله: " أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " [ البقرة: 67 ] لان الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه السلام، لانها صفة تنتفي عن الانبياء. والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل، كما جهلوا في قولهم: أتتخذنا هزؤا، (1) في لسان العرب: فأما بقر وباقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة فأسماء للجميع. (2) سيتكلم المؤلف رحمه الله على القسامة وحكمها عند قوله تعالى: (فقلنا اضربوه ببعضها) راجع ص 457 من هذا الجزء. (3) راجع ص 207. (*)
[ 447 ]
لمن يخبرهم عن الله تعالى، وظاهر هذا القول يدل على فساد أعتقاد من قاله. ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته، - وقال: إن الله يأمرك بكذا -: أتتخذنا هزؤا ؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الآخر: اعدل يا محمد. وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدين. قوله تعالى: " هزوا " مفعول ثان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة. وجعلها حفص واوا مفتوحة، لانها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل، كقوله: " السفهاء ولكن ". ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد، فتقول: هزؤا، كما قرأ أهل الكوفة، وكذلك " ولم يكن له كفؤا أحد ". وحكى الاخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل، نحو العسر واليسر والهزء. ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب، ورسل ورسل، وعون وعون. وأما قوله تعالى: " وجعلوا له من عباده جزءا " [ الزخرف: 15 ] فليس مثل هزء وكف ء، لانه على فعل من الاصل. على ما يأتي في موضعه (1) إن شاء الله تعالى. مسألة: في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد. وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والائمة بعده. قال ابن خويز منداد: وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيدالله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيد الله فقال: جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش ؟ فقال له: لا تجهل أيها القاضي ! فقال له عبيدالله: وأين وجدت المزاج جهلا ! فتلا عليه هذه الآية، فأعرض عنه عبيد الله، لانه رأه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء، وليس أحدهما من الآخر بسبيل. (1) راجع ج 16 ص 69 (*)
[ 448 ]
قوله تعالى: قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك) هذا تعنيت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الامر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ونحو ذلك روى الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولغة بنى عامر " ادع ". وقد تقدم (1). و (يبينن) مجزوم على جواب الامر (ما هي) ابتداء وخبر. وماهية الشئ: حقيقته وذاته التي هو عليها. قوله تعالى: (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، لانه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الاول بغيره، كما لو قال: في ثلاثين من الابل بنت مخاض، ثم نسخه بابنة لبون أو حقة. وكذلك ها هنا لما عين الصفة صار ذلك نسخا للحكم المتقدم. والفارض: المسنة. وقد فرضت تفرض فروضا، أي أسنت. ويقال للشئ القديم فارض، قال الراجز: شيب أصداغي فرأسي أبيض * محامل (2) فيها رجال فرض يعنى هرمى، قال آخر: لعمرك (3) قد أعطيت جارك فارضا * تساق إليه ما تقوم على رجل أي قديما، وقال آخر: يا رب ذي ضغن على فارض * له قروء كقروء الحائض (1) راجع ص 423 (2) في الصحاح للجوهري: (محافل) بالفاء وفيه رواية أخرى رواها ابن الاعرابي هي: * محامل بيض وقوم فرض * يريد أنهم ثقال كالمحامل. راجع اللسان مادة (فرض). (3) رواية اللسان: (لعمري لقد) وذكر أنه لعلقمة بن عوف، وقد عنى بقرة هرمة. (*)
[ 449 ]
أي قديم. و " لا فارض " رفع على الصفة لبقرة. " ولا بكر " عطف. وقيل: " لا فارض " خبر مبتدأ مضمر، أي لا هي فارض وكذا " لا ذلول "، وكذلك " لا تسق الحرث " وكذلك " مسلمة " فاعلمه. وقيل: الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك، لان معنى الفارض في اللغة الواسع، قاله بعض المتأخرين. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل. وحكى القتبي أنها التي ولدت. والبكر: الاول من الاولاد، قال: يا بكر بكرين ويا خلب الكبد * أصبحت منى كذراع من عضد والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم: ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء. وبفتحها الفتى من الابل. والعوان: النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه، بخلاف الخيل، قال الشاعر يصف فرسا: كميت بهيم اللون ليس بفارض * ولا بعوان ذات لون مخصف فرس أخصف: إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه. وقال مجاهد: العوان من البقرة هي التي قد ولدت مرة بعد مرة. وحكاه أهل اللغة. ويقال: إن العوان النخلة الطويلة، وهي فيما زعموا لغه يمانية. وحرب عوان: إذا كان قبلها حرب بكر، قال زهير: إذا لقحت حرب عوان مضرة * ضروس تهر (1) الناس أنيابها عصل أي لا هي صغيرة ولا هي مسنة، أي هي عوان، وجمعها " عون " بضم العين وسكون الواو وسمع " عون " بضم الواو كرسل. وقد تقدم. وحكى الفراء من العوان عونت تعوينا. قوله تعالى: (فافعلوا ما تؤمرون) تجديد للامر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت فما تركوه. وهذا يدل على أن مقتضى الامر الوجوب كما تقوله الفقهاء، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه، وعلى أن الامر على الفور، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضا. ويدل على صحة ذلك أنه تعالى أستقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال: (1) في الاصول: (تهز) بالزاي. والتصويب عن شرح الديوان. ومعنى (تهز الناس) أي تصيرهم يهزونها، أي يكرهونها. ولقحت: اشتدت. ومضرة: ملحة. وضروس: عضوض سيئة الخلق. وعصل: كالحة معوجة. (*)
[ 450 ]
" فذبحوها وما كادوا يفعلون " [ البقرة: 71 ]. وقيل: لا، بل على التراخي، لانه لم يعنقهم على التأخير والمراجعة في الخطاب. قال ابن خويز منداد. قوله تعالى: قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قوله تعلى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) " ما " استفهام مبتدأة و " لونها " الخبر. ويجوز نصب " لونها " ب " - يبين "، وتكون " ما " زائدة. واللون واحد الالوان وهو هيئة كالسواد والبياض والحمرة. واللون: النوع. وفلان متلون: إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، قال: كل يوم تتلون * غير هذا بك أجمل ولون البسر تلوينا: إذا بدا فيه أثر النضج. واللون: الدقل، وهو ضرب من النخل. قال الاخفش: هو جماعة، واحدها لينة. قوله: (صفراء) جمهور المفسرين أنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة. قال مكي عن بعضهم: حتى القرن والظلف. وقال الحسن وابن جبير: كانت صفراء القرن والظلف فقط. وعن الحسن أيضا: " صفراء " معناه سوداء، قال الشاعر: (1) تلك خيلي منه وتلك ركابي * هن صفر أولادها كالزبيب قلت: والاول أصح لانه الظاهر، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الابل، قال الله تعالى: " كأنه جمالة صفر " [ المرسلات: 33 ] وذلك أن السود من الابل سوادها صفرة. ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع، وذلك نعت مختص بالصفرة، وليس يوصف السواد بذلك تقول العرب: أسود حالك وحلكوك وحلكوك، ودجوجي وغربيب، وأحمر قانئ، وأبيض ناصع ولهق ولهاق ويقق، وأخضر ناضر، وأصفر فاقع، هكذا نص نقلة اللغة عن العرب. قال (1) القائل هو الاعشى كما في اللسان. (*)
[ 451 ]
الكسائي: يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته. والافقاع: سوء الحال. وفواقع الدهر بوائقه. وفقع بأصابعه إذا صوت، ومنه حديث ابن عباس: نهى عن التفقيع في الصلاة، وهي الفرقعة، وهي غمز الاصابع حتى تنقض (1). ولم ينصرف " صفراء " في معرفة ولا نكرة، لان فيها ألف التأنيث وهى ملازمة فخالفت الهاء، لان ما فيه الهاء ينصرف في النكرة، كفاطمة وعائشة. قوله تعالى: (فاقع لونها) يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها. (تسر الناظرين) قال وهب: كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، ولهذا قال ابن عباس: الصفرة تسر النفس. وحض على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش. وقال علي ابن أبى طالب رضي الله عنه: من لبس نعلي جلد أصفر قل همه، لان الله تعالى يقول: " صفراء فاقع لونها تسر الناظرين " حكاه عنه الثعلبي. ونهى ابن الزبير ومحمد بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لانها تهم. ومعنى " تسر " تعجب. وقال أبو العالية: معناه في سمتها ومنظرها فهي ذات وصفين، والله أعلم. قوله تعالى: قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون (70) قوله تعالى: (إن البقر تشابه علينا) سألوا سؤالا رابعا، ولم يمتثلوا الامر بعد البيان. وذكر البقر لانه بمعنى الجمع، ولذلك قال: " إن البقر تشابه علينا " فذكره للفظ تذكير البقر. قال قطرب: جمع البقرة باقر وباقور وبقر. وقال الاصمعي: الباقر جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على باقورة، حكاه النحاس. وقال الزجاج: المعنى إن جنس البقر. وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس، والاعرج فيما ذكر الثعلبي " إن البقر تشابه " بالتاء وشد الشين، جعله فعلا مستقبلا وأنثه. والاصل تتشابه، ثم أدغم التاء في الشين. وقرأ مجاهد " تشبه " كقراءتهما، (1) كل صوت لمفصل وأصبع فهو نقيض. (*)
[ 452 ]
إلا أنه بغير ألف. وفى مصحف أبي " تشابهت " بتشديد الشين. قال أبو حاتم: وهو غلط، لان التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة. وقرأ يحيى بن يعمر " إن الباقر يشابه " جعله فعلا مستقبلا، وذكر البقر وأدغم. ويجوز " إن البقر تشابه " بتخفيف الشين وضم الهاء، وحكاها الثعلبي عن الحسن. النحاس: ولا يجوز " يشابه " بتخفيف الشين والياء، وإنما جاز في التاء لان الاصل تتشابه فحذفت لاجتماع. التائين. والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى، والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في " تشابه ". وقيل: إنما قالوا: " إن البقر تشابه علنا " لان وجوه البقر تتشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر (فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر). يريد أنها يشبه بعضها بعضا. ووجوه البقر تتشابه، ولذلك قالت بنو إسرائيل: إن البقر تشابه علينا. قوله تعالى: (وإنا إن شاء الله لمهتدون) استثناء منهم، وفي استثنائهم في هذا السؤال الاخير إنابة ما وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الامر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا) (1). وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به. و " شاء " في موضع جزم بالشرط، وجوابه عند سيبويه الجملة " إن " وما عملت فيه. وعند أبي العباس المبرد محذوف. قوله تعالى: قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71) قوله تعالى: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) قرأ الجمهور " لا ذلول " بالرفع على الصفة لبقرة. قال الاخفش: " لا ذلول " نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " لا ذلول " بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول، لا هي تسقى الحرث، هي مسلمة. ومعنى " لا ذلول " لم يذللها العمل، يقال: بقرة مذللة بينة الذل (بكسر الذال). ورجل ذليل بين الذل (بضم الذال). أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل. (1) في نسخة من الاصل: (لولا) وروى الحديث من طرق بلفظ: (لو لم يستثنوا). (*)
[ 453 ]
قوله تعالى: (تثير الارض) " تثير " في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة. قال الحسن: وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الارض ولا تسقى الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها. والوقف ها هنا حسن. وقال قوم: " تثير " فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقى. والوقف على هذا التأويل " لا ذلول " والقول الاول أصح لوجهين: أحدهما: ما ذكره النحاس عن علي بن سليمان أنه قال: لا يجوز أن يكون " تثير " مستأنفا، لان بعده " ولا تسقي الحرث "، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و " لا ". الثاني أنها لو كانت تثير الارض لكانت الاثارة قد ذللتها، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله: " لا ذلول ". قلت: ويحتمل أن تكون " تثير الارض " في غير العمل مرحا ونشاطا، كما قال أمرؤ القيس: يهيل ويذري تربه ويثيره * إثارة نباث (1) الهواجر مخمس فعلى هذا يكون " تثير " مستأنفا، " ولا تسقي " معطوف عليه، فتأمله. وإثارة الارض: تحريكها وبحثها، ومنه الحديث: (أثيروا القرآن فإنه (2) علم الاولين والآخرين) وفي رواية أخرى: (من أراد العلم فليثور القرآن) وقد تقدم (3). وفي التنزيل: " وأثاروا الارض " [ الروم: 9 ] أي قلبوها للزراعة. والحرث: ما حرث وزرع. وسيأتي. مسألة: في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والاوزاعي والليث والشافعي. وكذلك كل ما يضبط بالصفة، لوصف الله تعالى البقرة في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها). أخرجه مسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول. وهو يرد قول (1) قوله (نبات الهواجر) يعني الرجل الذي إذا اشتد عليه الحر هال التراب ليصل إلى ثراه. والعسر: صاحب الابل التي ترد خمسا. (2) في نهاية ابن الاثير: (فإن فيه). (3) راجع ص 449. (*)
[ 454 ]
الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا: لا يجوز السلم في الحيوان. وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبد الرحمن بن سمرة، لان الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشى وحركة، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته. وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين (1)، إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (مسلمة) أي هي مسلمة. ويجوز أن يكون وصفا، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب، قاله قتادة وأبو العالية. ولا يقال: مسلمة من العمل لنفى الله العمل عنها. وقال الحسن: يعنى سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل. قوله تعالى: (لاشية فيها) أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد، كما قال: " فاقع لونها ". وأصل " شية " وشي حذفت الواو كما حذفت من يشى، والاصل يوشى، ونظيره الزنة والعدة والصلة. والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين. وثور موشى: في وجهه وقوائمه سواد. قال ابن عرفة: الشية اللون. ولا يقال لمن نم: واش، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء. والوشي: الكثرة. ووشى بنو فلان: كثروا. ويقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، وثور أشيه. كل ذلك بمعنى البلقة، هكذا نص أهل اللغة. وهذه الاوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الانبياء وغيرهم من العلماء مذموم، نسأل الله العافية. وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها: أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال: اللهم إنى أستودعك هذه العجلة لهذا الصبى. ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها: إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها، فساموه فاشتط عليهم. وكان قيمتها على (1) راجع ج 3 ص 377 فما بعدها. (*)
[ 455 ]
ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة. السدي: بوزنها عشر مرات. وقيل: بمل ء مسكها دنانير. وذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الارض فالله أعلم. قوله تعالى: (قالوا الآن جئت بالحق) أي بينت الحق، قاله قتادة. وحكى الاخفش: " قالوا الآن " قطع ألف الوصل، كما يقال: يا ألله. وحكى وجها آخر " قالوا لان " بإثبات الواو. نظيره قراءة أهل المدينة وأبى عمرو " عادا لولى " وقرأ الكوفيون " قالوا الآن " بالهمز. وقراءة أهل المدينة " قال لان " بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: " الآن " مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الالف واللام، لان الالف واللام دخلتا لغير عهد، تقول: أنت إلى الآن هنا، فالمعنى إلى هذا الوقت. فبنيت كما بنى هذا، وفتحت النون لالتقاء الساكنين. وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل. قوله تعالى: (وما كادوا يفعلون) أجاز سيبويه: كاد أن يفعل، تشبيها بعسى. وقد تقدم أول السورة (1). وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله. وقال القرظي محمد بن كعب: لغلاء ثمنها. وقيل: خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب بن منبه. قوله تعالى: وإذ قتلتم نفسا فأدارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفسا فأدارأتم فيها) هذا الكلام مقدم على أول القصة، التقدير: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. فقال موسى: إن الله يأمركم بكذا. وهذا كقوله: " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما " [ الكهف: 1 - 2 ] أي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله كثير، وقد بيناه أول القصة. (1) راجع ص 222 من هذا الجزء. (*)
[ 456 ]
وفي سبب قتله قولان: أحدهما: لابنة له حسناء احب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. الثاني: قتله طلبا لميراثه، فإنه كان فقيرا وأدعى قتله على بعض الاسباط. قال عكرمة: كان لبنى إسرائيل مسجد له أثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه، فوجدوا قتيلا في سبط من الاسباط، فادعى هؤلاء على هؤلاء، وأدعى هؤلاء على هؤلاء، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال: " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " [ البقرة: 67 ] الآية. ومعنى " ادارأتم " [ البقرة: 72 ] الآية. اختلفتم وتنازعتم، قاله مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال، ولا يجوز الابتداء بالمدغم، لانه ساكن فزيد ألف الوصل. " والله مخرج " ابتداء وخبر. " ما كنتم " في موضع نصب ب " مخرج "، ويجوز حذف التنوين على الاضافة. " تكتمون " جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه. وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ، قاله عبيدة السلماني. قال ابن عباس: قتل هذا الرجل عمه ليرثه. قال ابن عطية: وبمثله جاء شرعنا. وحكى مالك رحمه الله في " موطئه " أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الاسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والاوزاعي وأبي ثور والشافعي، لانه لا يهتم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في قول له آخر: لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية. وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي. ورواه الشعبي عن عمر وعلي وزيد قالوا: لا يرث القاتل عمدا ولا خطا شيئا. وروي عن مجاهد القولان جميعا. وقالت طائفة من البصريين: يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا، حكاه أبو عمر. وقول مالك أصح، على ما يأتي بيانه في آية المواريث (1) إن شاء الله تعالى. (1) راجع ج 5 ص 55 فما بعدها. (*)
[ 457 ]
قوله تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73) قوله تعالى: (فقلنا اضربوه ببعضها) قيل: باللسان لانه آلة الكلام. وقيل: بعجب الذنب، إذ فيه يركب خلق الانسان. وقيل: بالفخذ. وقيل: بعظم من عظامها، والمقطوع به عضو من أعضائها، فلما ضرب به حيى وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان. مسألة: استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول: دمى عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، قالوا: وهو الصحيح، لان قول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم ممنوع إباحته إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، فبطل اعتبار قول المقتول دمى عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الاخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله أحتمال، فافترقا. قال ابن العربي: المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد. وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا: كيف يقبل قوله في الدم وهؤلاء لا يقبل قوله في درهم. مسألة: اختلف العلماء في الحكم بالقسامة، فروي عن سالم وأبى قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عيينة (1) التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري، لانه أتى بحديث القسامة في غير موضعه. وقال الجمهور: الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها، فقالت طائفة: يبدأ فيها المدعون بالايمان فإن حلفوا ] استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرءوا. هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة، خرجه الائمة مالك وغيره. وذهبت (1) في نسخة: (الحكم بن عتيبة). (*)
[ 458 ]
طائفة إلى أنه يبدأ بالايمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرءون. روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير ابن يسار، وفيه: فبدأ بالايمان المدعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن رجال من الانصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم: (أيحلف منكم خمسون رجلا). فأبوا، فقال للانصار: (أستحقوا) فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله ! فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود، لانه وجد بين أظهرهم. وبقوله عليه السلام: (ولكن اليمين على المدعى عليه) فعينوا (1). قالوا: وهذا هو الاصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه (2) رد عليهم أهل المقالة الاولى فقالوا: حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث، وقد أخرجه النسائي وقال: ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل، فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال أبو محمد الاصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من إبل الصدقة، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الاحاديث الصحاح المتصلة، وأجابوا عن التمسك بالاصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، والحكم بظاهر ذلك يجب، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكما في شئ من الاشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر. فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمى به المقذوف وخص (1) هذه الكلمة ساقطة في بعض النسخ. (2) كذا ورد هذا الحديث في بعض نسخ الاصل وصحيح مسلم. قال ابن الملك: إنما ذكر اليمين فقط لانها هي الحجة في الدعوى آخرا وإلا فعلى المدعى إقامة البينة أولا. (*)
[ 459 ]
من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات. ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة. وقد روي ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة). خرجه الدارقطني. وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه كفاية، فتأمله هناك. مسالة: واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم). وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بالقسامة من بنى نضر بن مالك. قال الدارقطني: نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة، وكذلك أبو عمر بن عبد البر يصحح حديث عمرو بن شعيب، ويحتج به، وقال البخاري: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قاله الدارقطني في السنن. وقالت طائفة: لا قود بالقسامة، وإنما توجب الدية. روي هذا عن عمر وابن عباس، وهو قول النخعي والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون الشافعي وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للانصار: (إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب). قالوا: وهذا يدل على الدية لا على القود، قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: (وتستحقون دم صاحبكم) دية دم قتيلكم لان اليهود ليسوا بأصحاب لهم، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه، لان الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم. مسألة: الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه. واللوث: أمارة تغلب على الظن صدق مدعى القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحط (1) في دمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل. وقد اختلف في اللوث والقول به، فقال مالك: هو قول المقتول دمى عند فلان. والشاهد العدل لوث. كذا في رواية ابن القاسم عنه. (1) يتشحط في دمه: إي يتخبط فيه ويضطرب ويتمرغ. (*)
[ 460 ]
وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة. قال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافا كثيرا، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي. قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم. وروي عن عبد الملك بن مروان: أن المجروح أو المضروب إذا قال دمى عند فلان ومات كانت القسامة. وبه قال مالك والليث بن سعد. واحتج مالك بقتيل بنى إسرائيل أنه قال: قتلني فلان. وقال الشافعي: اللوث الشاهد العدل، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شئ إلا أن تقوم البينة على واحد. وقال سفيان: وهذا مما أجمع عليه عندنا، وهو قول ضعيف خالقوا فيه أهل العلم، ولا سلف لهم فيه، وهو مخالف للقرآن والسنة، ولان فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم. وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا، لان القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الاسباب التي شرطوها في وجوب القسامة. وقد قال عمر بن عبد العزيز: هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضى الله فيه يوم القيامة. مسأله: قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي: لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه ؟ قال النسائي: أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. قال ابن أبي زيد: وأصل هذا في قصة بنى إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال: قتلني فلان، وبأن العداوة لوث. قال الشافعي: ولا نرى قول المقتول لوثا، كما تقدم. قال الشافعي:
[ 461 ]
إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الانصار واليهود، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه. مسألة: واختلفوا في القتيل بوجد في المحلة التي أكراها أربابها، فقال أصحاب الرأي: هو على أهل الخطة وليس على السكان شئ، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شئ، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شئ. ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال: القسامة والدية على السكان في الدور. وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم. قال الثوري ونحن نقول: هو على أصحاب الاصل، يعني أهل الدور. وقال أحمد: القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية. وقال الشافعي: وذلك كله سواء، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم، أو ما يوجب القسامة فيقسم الاولياء. قال ابن المنذر: وهذا أصح. مسالة: ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، لقوله عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة: (يقسم خمسين منكم على رجل منهم). فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الايمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من أثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الاولياء ومن يستعين بهم الاولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب مالك والليث والثوري والاوزاعي وأحمد وداود. وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنقسهم، وهو قول الشافعي. قال الشافعي: لا يقسم إلا وارث، كان القتل عمدا أو خطأ. ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أو من جعل الله له الملك من الورثة، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم. وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح، لان من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين. ثم مقصود هذه
[ 462 ]
الايمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه برئ. وقال مالك في الخطأ: يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر أستحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا، فإن جاء من غاب حلف من الايمان ماكان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه، وقد روى عنه أنه لا يرى في الخطأ قسامة. وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق. مسألة: في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا، وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه، وإليه مال الشافعي، وقد قال الله: " فبهداهم اقتده " [ الانعام: 90 ] على ما يأتي (1) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (كذلك يحيى الله الموتى) أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيى الله كل من مات فالكاف في موضع نصب، لانه نعت لمصدر محذوف. (ويريكم آياته) أي علاماته وقدرته. (لعلكم تعقلون) كى تعقلوا. وقد تقدم (2). أي تمتنعون من عصيانه. وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل: الحصون. وقوله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74) قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) القسوة: الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الانابة والاذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: (1) راجع ج 7 ص 35 (2) راجع ص 226 من هذا الجزء (*)
[ 463 ]
المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لانهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي). وفى مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة من الشقاء جمود العين وقساء (1) القلب وطول الامل والحرص على الدنيا). قوله تعالى: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) " أو " قيل: هي بمعنى الواو كما قال: " آثما أو كفورا " [ الانسان: 24 ]. " عذرا أو نذرا " وقال الشاعر: * نال الخلافة أو كانت له قدرا * أي وكانت. وقيل: هي بمعنى بل، كقوله تعالى: " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " (2) [ الصافات: 147 ] المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * وصورتها أو أنت في العين أملح (3) أي بل أنت وقيل: معناها الابهام على المخاطب، ومنه قول أبي الاسود الدؤلي أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة أو عليا فإن يك حبهم رشدا أصبه * ولست بمخطئ إن كان غيا ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الابهام. وقد قيل لابي الاسود حين قال ذلك: شككت ! قال: كلا، ثم استشهد بقوله تعالى: " وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " (4) [ سبأ: 24 ] وقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا ! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة (1) القساء (بالفتح والمد): مصدر مثل القسوة والقساوة. (2) راجع 15 ص 130 (3) راجع البيت في خزانة الادب في الشاهد 895 (4) راجع ج 14 ص 298 (*)
[ 464 ]
تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. وقيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة ؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: " إلى مائة الف أو يزيدون " [ الصافات: 147 ]. وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر،. وفيهم من قلبه أشد من الحجر. فالمعنى هم فرقتان. قوله تعالى: (أو أشد) " أشد " مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله " كالحجارة "، لان المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد. ويجوز أو " أشد " بالفتح عطف على الحجارة. و " قسوة " نصب على التمييز. وقرأ أبو حيوة " قساوة " والمعنى واحد. قوله تعالى: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) قد تقدم معنى الانفجار (1). ويشقق أصله يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مصرف " ينشقق " بالنون، وقرأ " لما يتفجر " " لما يتشقق " بتشديد " لما " في الموضعين. وهي قراءة غير متجهة. وقرأ مالك بن دينار " ينفجر " بالنون وكسر الجيم. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء، لانه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الانهار، وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لان المعنى وأن منها لحجارة تتشقق، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشق واحد الشقوق، فهو في الاصل مصدر، تقول: بيد فلان ورجليه شقوق، ولا تقل: شقاق، إنما الشقاق داء يكون بالدواب، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما أرتفع إلى وظيفها (2)، عن يعقوب. والشق: الصبح. و " ما " في قوله: (1) راجع ص 419 من هذا الجزء. (2) الوظيف: مستدق الذراع والساق. وقيل: ما فوق الرسغ إلى الساق. (*)
[ 465 ]
" لما يتفجر " في موضع نصب، لانها اسم إن واللام للتأكيد. " منه " على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى، وكذلك " وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ". وقرأ قتادة " وإن " في الموضعين، مخففة من الثقيلة قوله تعالى: (وإن منها لما يهبط من خشية الله) يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج. وقال بعض المتكلمين في قوله: " وإن منها لما يهبط من خشية الله ": البرد الهابط من السحاب. وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما أستعيرت الارادة للجدار في قوله: " يريد أن ينقض " وكما قال زيد الخيل: (1) لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: " وإن منها " راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله. قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والاول صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلمأ تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال: (إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية (1) نسب هذا البيت في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد في ترجمة الزبير بن العوام وفي كتاب سيبويه إلى جرير. المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلمأ تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال: (إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية (1) نسب هذا البيت في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد في ترجمة الزبير بن العوام وفي كتاب سيبويه إلى جرير. ويلاحظ أن زيد الخيل توفى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في آخر خلافة عمر رضى الله عنه. فوفاته إذا قبل وفاة الزبير. وقد وصف مقتل الزبير بن العوام حين أنصرف يوم الجمل وقتل في الطريق غيلة. يقول: لما وافى خبره المدينة (مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم) تواضعت هي وجبالها وخشعت حزنا له. (*)
[ 466 ]
إني لاعرفه الآن). وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال لي ثبير (1) اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله). فناداه حراء: إلي يارسول الله. وفى التنزيل: " إنا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال " (2) [ الاحزاب: 72 ] الآية. وقال: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " (3) [ الحشر: 21 ] يعني تذللا وخضوعا، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة " سبحان " (4) إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وما الله بغافل عما تعملون) " بغافل " في موضع نصب على لغه أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد. " عما تعملون " أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " (5) [ الزلزلة: 7، 8 ]. ولا تحتاج " ما " إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم، أي عن الذي تعملونه. وقرأ ابن كثير " يعملون " بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام. (1) ثبير: جبل معروف عند مكة. (2) راجع ج 14 ص 253 (3) راجع ج 18 ص 44 (4) راجع ج 10 ص 267 (5) راجع ج 20 ص 150 تم الجزء الاول من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني، وأوله قوله تعالى: (افتطمعون أن يؤمنوا لكم) الآية.