الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
المسألة الثالثة : قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون : إن إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام ، ولو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض ، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزهاً عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولا إثبات قيام المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلّم ، ولا إثبات أن قيام المعجز كيف يدل على الصدق والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح ، ولا يقال : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة ، بل إنما كانوا جاهلين بالتفاصيل إلا أنه ليس من شرط كون الإنسان مستدلاً كونه عالماً بهذه التفاصيل ، لأنا نقول : ءن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ، فإن الدليل إذا كان مثلاً مركباً من عشر مقدمات ، فمن علم تسعة / منها ، وكان في المقدمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة لأن فرع التقليد أولى أن يكون تقليداً وإن كان عالماً بمجموع تلك المقدمات العشرة استحال كون غيره أعرف منه بذلك الدليل/ لأن تلك الزيادة إن كانت جزأً معتبراً في دلالة هذا الدليل لم تكن المقدمات العشرة الأولى تمام الدليل ، فإنه لا بد معها من هذه المقدمة الزائدة ، وقد كنا فرضنا تلك العشرة كافية ، وإن لم تكن الزيادة معتبرة في دلالة ذلك الدليل كان ذلك أمراً منفصلاً عن ذلك الدليل غير معتبر في كونه دليلاً على ذلك المدلول ، فثبت أن العلم بكون الدليل دليلاً لا يقبل الزيادة والنقصان ، فأما أن يقال : إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذ عنهم من تلك المقدمات واحدة ، وذلك مكابرة أو ما كانوا كذلك. فحينئذ ثبت أنهم كانوا مقلدين ، ومما يؤكذ ما ذكرنا ما روى عن الحسن أنه قال : لما فتح رسول الله مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : إذا ظفر بأهل الحرم وجب أن يكون على الحق ، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ، وكل من أرادهم بسوء ثم أخذوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال ، هذا ما رواه الحسن ، ومعلوم أن الاستدلال بأنه لما ظفر بأهل مكة وجب أن يكون على الحق ليس بجيد ، فعلمنا أنهم ما كانوا مستدلين بل مقلدين.
جزء : 32 رقم الصفحة : 351
المسألة الرابعة : دين الله هو الإسلام لقوله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } ولقوله : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} وللدين أسماء أخرى ، منها الإيمان قال الله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} ومنها الصراط قال تعالى : {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَه مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } ومنها كلمة الله ، ومنها النور : {لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ} ومنها الهدي لقوله : {يَهْدِى بِه مَن يَشَآءُ} ومنها العروة : {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } ومنها الحبل : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} ومنها صبغة الله ، وفطرة الله ، وإنما قال : {فِى دِينِ اللَّهِ} ولم يقل : في دين الرب ، ولا سائر الأسماء لوجهين الأول : أن هذا الاسم أعظم الأسماء لدلالته على الذات والصفات ، فكأنه يقول : هذا الدين إن لم يكن له خصلة سوى أنه دين الله فإنه يكون واجب القبول والثاني : لو قال : دين الرب لكان يشعر ذلك بأن هذا الدين إنما يجب عليك قبوله لأنه رباك ، وأحسن إليك وحينئذ تكن طاعتك له معللة بطلب النفع ، فلا يكون الإخلاص حاصلاً ، فكأنه يقول أخلص الخدمة بمجرد أني إله لا لنفع يعود إليك.
المسألة الخامسة : الفوج : الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً وإثنين إثنين ، وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم فقيل له : ما يبكيك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : "دخل الناس في دين الله أفواجاً ، وسيخرجون منه أفواجاً" نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
جزء : 32 رقم الصفحة : 351
352
قوله تعالى : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه إِنَّه كَانَ تَوَّابَا } فيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار ، ولهذا الترتيب فوائد :
(1/4879)

الفائدة الأولى : اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمداً كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ولم سلطت هؤلاء الكفرة علي فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح ، أما على قولنا : فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئاً بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه الله عن أن يستحق عليه أحد شيئاً ، وأما على قول المعتزلة : ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق ، ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه الله عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر ، ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه الوجه الثاني : أن للسائرين طريقين فمنهم من قال : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله بعده ، ومنهم من قال : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ، ولا شك أن هذا الطريق أكمل ، أما بحسب المعالم الحكمية ، فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر ، وأما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود ، فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة ، ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل ، وإذا ثبت هذا فنقول : الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولاً من الخالق أمرين أحدهما : التسبيح والثاني : التحميد ، ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق.
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال ، والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له ، وهي صفات الإكرام ، ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام ، ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس ، وفيه رؤية جود الحق ، وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس ، ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير الله يبقى محروماً عن مطالعة حضرة جلال الله ، فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد الوجه الثالث : أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية ، وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل / متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل : آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } فقوله ههنا : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} وقوله ههنا : {وَاسْتَغْفِرْه } إشارة إلى قوله تعالى : {وَنُقَدِّسُ لَكَ } لأنهم فسروا قوله : {وَنُقَدِّسُ لَكَ } أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك والاستغفار يرجع معناه أيضاً إلى تقديس النفس ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم ، وأما أنت فسبح بحمدي واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني/ ويحتمل أن يقال : الملائكة كما قالوا : في حق أنفسهم : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال الله في حقهم : {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا} فأنت يا محمد استغفر للذين جاؤوا أفواجاً كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون : {وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} الوجه الرابع : التسبيح هو التطهير ، فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة من الأصنام وكسرها ثم قال : {بِحَمْدِ رَبِّكَ} أن ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك ، وإعانته وتقويته ، ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتياً بالطاعة اللائقة به ، بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة ، فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته والوجه الخامس : كأنه تعالى يقول يا محمد إما أن تكون معصوماً أو لم تكن معصوماً فإن كنت معصوماً فاشتغل بالتسبيح والتحميد ، وإن لم تكن معصوماً فاشتغل بالاستغفار فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
(1/4880)

المسألة الثانية : في المراد من التسبيح وجهان الأول : أنه ذكر الله بالتنزه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن فقال تنزيه الله عن كل سوء وأصله من سبح فإن السابح يسبح في الماء كالطير في الهواء ويضبط نفسه من أن يرسب فيه فيهلك أو يتلوث من مقر الماء ومجراه والتشديد للتبعيد لأنك تسبحه أي تبعده عما لا يجوز عليه ، وإنما حسن استعماله في تنزيه الله عما لا يجوز عليه من صفات الذات والفعل نفياً وإثباتاً لأن السمكة كما أنها لا تقبل النجاسة فكذا الحق سبحانه لا يقبل مالا ينبغي البتة فاللفظ يفيد التنزيه في الذات والصفات والأفعال والقول الثاني : أن المراد بالتسبيح الصلاة لأن هذا اللفظ وارد في القرآن بمعنى الصلاة قال تعالى : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وقال : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} والذي يؤكده أن هذه السورة من آخر ما نزل ، وكان عليه السلام في آخر مرضه يقول : "الصلاة وما ملكت أيمانكم" جعل يلجلجها في صدره وما يقبض بها لسانه ، ثم قال بعضهم : عني به صلاة الشكر صلاها يوم الفتح ثمان ركعات" وقال آخرون : هي صلاة الضحى ، وقال آخرون : صلي ثمان ركعات أربعة للشكر وأربعة الضحى وتسمية الصلاة بالتسبيح لما أنها لا تنفك عنه وفيه تنبيه : على أنه يجب تنزيه صلاتك عن أنواع النقائص في الأقوال والأفعال ، واحتج / أصحاب القول الأول بالأخبار الكثيرة الواردة في ذلك ، روت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك ، وقالت أيضاً : كان الرسول يقول كثيرا في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي وعنها أيضاً كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلى قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من قولة سبحان الله وبحمده قال : إني أمرت بها ، وقرأ : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} وعن ابن مسعود : "لما نزلت هذه السورة كان عليه السلام يكثر أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور" وروى أنه قال : "إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة".
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
المسألة الثانية : الآية تدلى على فضل التسبيح والتحميد حيث جعل كافياً في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح ، ولم لا يكون كذلك وقوله : "الصوم لي" من أعظم الفضائل للصوم فإنه أضافه إلى ذاته ، ثم إنه جعل صدف الصلاة مساوياً للصوم في هذا التشريف : {وَأَنَّ الْمَسَـاجِدَ لِلَّهِ} فهذا يدل على أن الصلاة أفضل من الصوم بكثير/ ثم إن الصلاة صدف للأذكار ولذلك قال : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } وكيف لا يكون كذلك ، والثناء عليه مما مدحه معلوم عقلاً وشرعاً أما كيفية الصلاة فلا سبيل إليها إلا بالشرع ولذلك جعلت الصلاة كالمرصعة من التسبح والتكبير. فإن قيل : عدم وجوب التسبيحات يقتضي أنها أقل درجة من سائر أعمال الصلاة. قلنا الجواب عنه من وجوه : أحدها : أن سائر أفعال الصلاة مما لا يميل القلب إليه فاحتيج فيها إلى الإيجاب أما التسبيح والتهليل فالعقل داع إليه والروح عاشق عليه فاكتفى بالحب الطبيعي ولذلك قال : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} ، وثانيها : أن قوله : {فَسَبِّحْ} أمر والأمر المطلق للوجوب عند الفقهاء ، ومن قال : الأمر المطلق للندب قال : إنه ههنا للوجوب بقرينة أنه عطف عليه الاستغفار والاستغفار واجب ومن حق العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه وثالثها : أنها لو وجبت لكان العقاب الحاصل بتركها أعظم إظهاراً لمزيد تعظيمها فترك الإيجاب خوفاً من هذا المحذور.
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
(1/4881)

المسألة الرابعة : أما الحمد فقد تقدم تفسيره ، وأما تفسير قوله : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فذكروا فيه وجوهاً : أحدها : قال صاحب الكشاف أي قل : {سُبْحَـانَ اللَّهِ} متعجباً مما أراك من عجيب أنعامه أي اجمع بينهما تقول : شربت الماء باللبن إذا جمعت بينهما خلطاً وشرباً وثانيها : أنك إذا حمدت الله فقد سبحته لأن التسبيح داخل في الحمد لأن الثناء عليه والشكر له لا بد وأن يتضمن تنزيهه عن النقائص لأنه لا يكون مستحقاً للثناء إلا إذا كان منزهاً عن النقص ولذلك جعل مفتاح القرآن بالحمد لله وعند فتح مكة قال : الحمد لله الذي نصر عبده ، ولم يفتتح كلامه بالتسبيح فقوله : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} معناه سبحه بواسطة أن تحمده أي سبحه بهذا الطريق وثالثها : / أن يكون حالاً ، ومعناه سبح حامداً كقولك : اخرج بسلاحك أي متسلحاً ورابعها : يجوز أن يكون معناه سبح مقدراً أن تحمد بعد التسبيح كأنه يقول : لا يتأتى لك الجمع لفظاً فاجمعهما نية كما أنك يوم النحر تنوي الصلاة مقدراً أن تنحر بعدها ، فيجتمع لك الثوابان في تلك الساعة كذا ههنا وخامسها : أن تكون هذه الباء هي التي في قولك : فعلت هذا بفضل الله ، أي سبحه بحمد الله وإرشاده وإنعامه ، لا بحمد غيره ، ونظيره في حديث الإفك قول عائشة : "بحمد الله لا بحمدك" والمعنى : فسبحه بحمده ، فإنه الذي هداك دون غيره ، ولذلك روى أنه عليه السلام كان يقول : "الحمد لله على الحمد لله" وسادسها : روى السدي بحمد ربك ، أي بأمر ربك وسابعها : أن تكون الباء صلة زائدة ، ويكون التقدير : سبح حمد ربك ، ثم فيه احتمالات أحدها : اختر له أطهر المحامد وأزكاها والثاني : طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة ، والتوسل بذكرها إلى الأغراض الدنيوية الفاسدة والثالث : طهر محامد ربك عن أن تقول : جئت بها كما يليق به. وإليه الإشارة بقوله : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } وثامنها : أي ائت بالتسبيح بدلاً عن الحمد الواجب عليك ، وذلك لأن الحمد إنما يجب في مقابلة النعم ، ونعم الله علينا غير متناهية ، فحمدها لا يكون في وسع البشر ، ولذلك قال : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } فكأنه تعالى يقول : أنت عاجز عن الحمد ، فأت بالتسبيح والتنزيه بدلاً عن الحمد وتاسعها : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الثاني ، ولا يتصور أيضاً أن يؤتى بهما معاً ، فنظيره من ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب ، وجب أن يقول : اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع ، كذا قال : {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ليقعا معاً ، فيصير حامداً مسبحاً في وقت واحد معاً وعاشرها : أن يكون المراد سبح قلبك/ أي طهر قلبك بواسطة مطالعة حمد ربك ، فإنك إذا رأيت أن الكل من الله ، فقد طهرت قلبك عن الالتفات إلى نفسك وجهدك ، فقوله : {فَسَبِّحْ} إشارة إلى نفي ما سوى الله تعالى ، وقوله : {بِحَمْدِ رَبِّكَ} إشارة إلى رؤية كل الأشياء من الله تعالى.
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
(1/4882)

المسألة الخامسة : في قوله : {وَاسْتَغْفِرْه } وجوهأحدها : لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه ، ويسأل الله أن ينصره ، فلما سمع : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} استبشر ، لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة ، فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين الله وأمره بأن يستغفر للداخلين لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام ، لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم ؟
ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول : إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئاً من تلك الأمتعة باعه منه ، سواء كان المشتري عدواً أو ولياً ، فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكياً أو مدنياً ، ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له : أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم : / {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } أي أمرني أن استغفر لكم فلا يجوز أن يردني وثالثها : أن قوله : {وَاسْتَغْفِرْه } إما أن يكون المراد واستغفر الله لنفسك أو لأمتك ، فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا فمن قال : صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوهاً : أحدها : أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيرة وثانيها : لزمه الاستغفار ليصير الاستغفار جابراً للذنب الصغير فلا ينتقض من ثوابه شيء أصلاً ، وأما من قال : ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوهاً : أحدها : أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف الله بأنه غفار وثانيها : تعبده الله بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في عبادته ، وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه وثالثها : أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل ورابعها : أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة ، فليستغفر الله لأجل ذلك وخامسها : الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك لأن السائر إلى الله إذا وصل إلى مقام في العبودية ، ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصراً فيستغفر الله عنه ، ولما كانت مراتب السير إلى الله غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية ، أما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضاً ظاهر ، لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم ، وهكذا إذا قلنا : المراد ههنا أن يستغفر لنفسه ولأمته.
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
المسألة السادسة : في الآية إشكال ، وهو أن التوبة مقدمة على جميع الطاعات ، ثم الحمد مقدم على التسبيح ، لأن الحمد يكون بسبب الإنعام ، والإنعام كما يصدر عن المنزه فقد يصدر عن غيره ، فكان ينبغي أن يقع الابتداء بالاستغفار ، ثم بعده يذكر الحمد ، ثم بعده يذكر التسبيح ، فما السبب في أن صار مذكوراً على العكس من هذا الترتيب ؟
وجوابه : من وجوه أولها : لعله ابتدأ بالأشرف ، فالأشرف نازلاً إلى الأخس فالأخس ، تنبيهاً على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق وثانيها : فيه تنبيه على أن التسبيح والحمد الصادر عن العبد إذا صار مقابلاً بجلال الله وعزته صار عين الذنب ، فوجب الاستغفار منه وثالثها : للتسبيح والحمد إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق (الله) ، والأول كالصلاة ، والثاني كالزكاة ، وكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة ، فكذا ههنا.
المسألة السابعة : الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه الإعلان بالتسبيح والاستغفار ، وذلك من وجوه أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بإبلاغ السورة / إلى كل الأمة حتى يبقى نقل القرآن متواتراً ، وحتى نعلم أنه أحسن القيام بتبليغ الوحي ، فوجب عليه الإتيان بالتسبيح والاستغفار على وجه الإظهار ليحصل هذا الغرض وثانيها : أنه من جملة المقاصد أن يصير الرسول قدوة للأمة حتى يفعلوا عند النعمة والمحنة ، ما فعله الرسول من تجديد الشكر والحمد عند تجديد النعمة وثالثها : أن الأغلب في الشاهد أن يأتي بالحمد في ابتداء الأمر ، فأمر الله رسوله بالحمد والاستغفار دائماً ، وفي كل حين وأوان ليقع الفرق بينه وبين غيره ، ثم قال : واستغفره حين نعيت نفسه إليه ليفعل الأمة عند اقتراب آجالهم مثل ذلك.
(1/4883)

المسألة الثامنة : في الآية سؤالات أحدها : وهو أنه قال : {إِنَّه كَانَ تَوَّابَا } على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وثانيها : هلا قال : غفاراً كما قاله : في سورة نوح وثالثها : أنه قال : {نَصْرُ اللَّهِ} وقال : {فِى دِينِ اللَّهِ} فلم لم يقل : بحمد الله بل قال : {بِحَمْدِ رَبِّكَ} والجواب : عن الأول من وجوه أحدها : أن هذا أبلغ كأنه يقول : ألست أثنيت عليكم بأنكم : {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ثم من كان دونكم كنت أقبل توبتهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة ، وفلق البحر ونتق الجبل ، ونزول المن والسلوى عصوا ربهم. وأتوا بالقبائح ، فلما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً للتوبة ممن دونكم أفلا أقبلها منكم وثانيها : منذ كثير كنت شرعت في قبول توبة العصاة والشروع ملزم على قبول النعمان فكيف في كرم الرحمن وثالثها : كنت تواباً قبل أن آمركم بالاستغفار أفلا أقبل وقد أمرتكم بالاستغفار ورابعها : كأنه إشارة إلى تخفيف جنايتهم أي لستم بأول من جنى وتاب بل هو حرفتي ، والجناية مصيبة للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها : كأنه نظير ما يقال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
لقد أحسن الله فيما مضى
كذلك يحسن فيما بقي والجواب : عن السؤال الثاني من وجوه أحدها : لعله خص هذه الأمة بزيادة شرف لأنه لا يقال في صفات العبد غفار ، ويقال : تواب إذا كان آتياً بالتوبة ، فيقول تعالى : كنت لي سمياً من أول الأمر أنت مؤمن ، وأنا مؤمن ، وإن كان المعنى مختلفاً فتب حتى تصير سمياً لي آخر الأمر ، فأنت تواب ، وأنا تواب ، ثم إن التواب في حق الله ، هو أنه تعالى يقبل التوبة كثيراً فنبه على أنه يجب على العبد أن يكون إتيانه كثيراً وثانيها : إنما قيل : تواباً لأن القائل قد يقول : أستغفر ا وليس بتائب ، ومنه قوله : "المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزىء بربه" إن قيل : فقد يقول : أتوب ، وليس بتائب ، قلنا : فإذاً يكون كاذباً ، لأن التوبة اسم للرجوع والندم ، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه ، فصار تقدير الكلام ، واستغفره بالتوبة ، وفيه تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار ، وكذا خواتيم الأعمال ، وروى أنه لم يجلس مجلساً إلا ختمه بالاستغفار والجواب : عن السؤال الثالث أنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرتين وذكر اسم الفعل مرتين أحدهما : الرب والثاني : التواب ، ولما كانت التربية تحصل أولاً والتوابية آخراً ، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التواب آخراً.
/ المسألة التاسعة : الصحابة اتفقوا على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم روى أن العباس عرف ذلك وبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : ما يبكيك فقال : نعيت إليك نفسك فقال : الأمر كما تقول ، وقيل : إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : "لقد أوتي هذا الغلام علماً كثيراً" روى أن عمر كان يعظم ابن عباس ويقربه ويأذن له مع أهل بدر ، فقال عبدالرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا ، وفي أبنائنا من هو مثله ؟
فقال : لأنه ممن قد علمتم قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم : أمر الله نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه ، فقلت : ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعدما ترون ، وروى أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال : "إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء الله" فقال السائل : وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى ؟
الجواب : من وجوه أحدها : قال بعضهم : إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير وثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكال والتمام ، وذلك يعقبه الزوال كما قيل :
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
إذا تم شيء دنا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم وثالثها : أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل ، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وأنه غير جائز ورابعها : قوله : {وَاسْتَغْفِرْه } تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر ، ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة وخامسها : كأنه قيل له : كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته ، وهو النصر والفتح والاستيلاء ، والله تعالى وعدك بقوله : {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية.

المسألة العاشرة : ذكرناأن الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة. وأما الذين قالوا : إنها نزلت بعد فتح مكة ، فذكر الماوردي أنه عليه السلام لم يلبث بعد نزول هذه السورة إلا ستين يوماً مستديماً للتسبيح والاستغفار ، وقال مقاتل : عاش بعدها حولاً ونزل : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فعاش بعده ثمانين يوماً ثم نزل آية الكلالة ، فعاش بعدها همسين يوماً ، ثم نزل : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً ثم نزل : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه } فعاش بعدها أحد عشر يوماً وفي رواية أخرى عاش بعدها سبعة أيام ، والله أعلم كيف كان ذلك.
جزء : 32 رقم الصفحة : 352
353
(1/4884)

سورة المسد
خمس آيات مكية بالاتفاق}
اعلم أنه تعالى قال :
اعلم أنه تعالى قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ثم بين في سورة : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} أن محمداً عليه الصلاة والسلام أطاع ربه وصرح بنفي عبادة الشركاء والأضداد وأن الكافر عصى ربه واشتغل بعبادة الأضداد والأنداد ، فكأنه قيل : إلهنا ما ثواب المطيع ، وما عقاب العاصي ؟
فقال : ثواب المطيع حصول النصر والفتح والاستيلاء في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، كما دل عليه سورة : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} وأما عقاب العاصي فهو الخسار في الدنيا والعقاب العظيم في العقبى ، كما دلت عليه سورة : {تَبَّتْ} ونظيره قوله تعالى في آخر سورة الأنعام : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَا ا ِفَ الارْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فكأنه قيل : إلهنا أنت الجواد المنزه عن البخل والقادر المنزه عن العجز ، فما السبب في هذا التفاوت ؟
فقال : {لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَا كُمْ } فكأنه قيل : إلهنا فإذا كان العبد مذنباً عاصياً فكيف حاله ؟
فقال : في الجواب : {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} وإن كان مطيعاً منقاداً كان جزاؤه أن الرب تعالى يكون غفوراً لسيئاته في الدنيا رحيماً كريماً في الآخرة ، وذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوهاً أحدها : قال ابن عباس : كان رسول الله يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله تعالى : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} فصعد الصفا ونادى يا آل غالب فخرجت إليه غالب من المسجد فقال أبو لهب : هذه غالب قد أتتك فما عندك ؟
ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال أبو لهب : هذه لؤي قد أتتك فما عندك ؟
ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة ، فقال أبو لهب : هذه لؤي قد أتتك فما عندك ؟
ثم قال : يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة ، فقال أبو لهب : هذه مرة قد أتتك فما عندك ؟
ثم قال يا آل كلاب ، ثم قال بعده : يا آل قصي ، فقال أبو لهب : هذه قصي قد أتتك فيما عندك ؟
فقال : إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأنتم الأقربون ، اعلموا أني لا أملك لكم من الدنيا حظاً ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد بها لكم عند ربكم فقال أبو لهب عند ذلك : تباً لك ألهذا دعوتنا ، فنزلت السورة وثانيها : روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صعد الصفا ذات يوم وقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك ؟
قال : أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني ؟
قالوا : بلى قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال عند ذلك أبو لهب ما قال فنزلت السورة وثالثها : أنه جمع أعمامه وقدم إليهم طعاماً في صحفة فاستحقروه وقالوا : إن أحدنا يأكل كل الشاة ، فقال : كلوا فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص من الطعام إلا اليسير ، ثم قالوا : فما عندك ؟
فدعاهم إلى الإسلام فقال أبو لهب ما قال ، وروى أنه قال أبو لهب : فمالي إن أسلمت فقال : ما للمسلمين ، فقال : أفلا أفضل عليهم ؟
فقال / النبي عليه الصلاة والسلام بماذا تفضل فقال : تباً لهذا الدين يستوي فيه أنا وغيري ورابعها : كان إذا وفد على النبي وفد سألوا عمه عنه وقالوا : أنت أعلم به فيقول لهم : إنه ساحر فيرجعون عنه ولا يلقونه ، فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك فقالوا : لا ننصرف حتى نراه فقال : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك فحزن ونزلت السورة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 353
355
(1/4885)

قوله تعالى : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} اعلم أن قوله : {تَبَّتْ} فيه أقاويل أحدها : التباب الهلاك ، ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم ، ونظيره قوله تعالى : {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ} أي في هلاك ، والذي يقرر ذلك ن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال : هلكت وأهلكت ، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك ، فدل على أنه كان صادقاً في ذلك ، ولا شك أن العمل إما أن يكون داخلاً في الإيمان ، أو إن كان داخلاً لكنه أضعف أجزائه ، فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك ، ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل ، وحصل وجود الاعتقاد الباطل ، والقول الباطل ، والعمل الباطل ، فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك ، فلهذا قال : {تَبَّتْ} وثانيها : تبت خسرت ، والتياب هو الخسران المفضي إلى الهلاك ، ومنه قوله تعالى : {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي تخسير بدليل أنه قال في موضع آخر : غير تخسير وثالثها : تبت خابت ، قال ابن عباس : لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله : إنه ساحر ، فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم ، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهماً فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك ، فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه ، ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه ، فيقول : انصرف راشداً فإنه مجنون ، فإن المعتاد أن من يصرف إنساناً عن موضع وضع يده علي كتفه ودفعه عن ذلك الموضع ورابعها : عن عطاء تبت أي غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه وخامسها : عن ابن وثاب ؛ صفرت يداه على كل خير ، وإن قيل : ما فائدة ذكر اليد ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : ما يرى أنه أخذ حجراً ليرمي به رسول الله ، روى عن طارق المحاربي أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في السوق يقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه ، / لا تطيعوه فإنه كذاب ، فقلت : من هذا ، فقالوا : محمد وعمه أبو لهب وثانيها : المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى : {ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}
جزء : 32 رقم الصفحة : 355
ومنه قولهم : يداك أو كتا ، وقوله تعالى : {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} وهذا التأويل متأكد بقوله : {وَتَبَّ} وثالثها : تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه ، أو لأن بأحدى اليدين تجر المنفعة ، وباوخرى تدفع المضرة ، أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة ورابعها : روى أنه عليه السلام لما دعاه نهاراً فأبى ، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستناً بسنة نوح ليدعوه ليلاً كما دعاه نهاراً ، فلما دخل عليه قال له : جئتني معتذراً فجلس النبي عليه السلام أمامه كالمحتاج ، وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال : إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت ، فقال : لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي ، فقال عليه الصلاة والسلام للجدي : من أنا ؟
فقال رسول الله : وأطلق لسانه يثني عليه ، فاستولى الحسد على أبي لهب ، فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال : تباً لك أثر فيك السحر ، فقال الجدي : بل تباً لك ، فنزلت السورة على وفق ذلك : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} لتمزيقه يدي الجدي وخامسها : قال محمد بن إسحق : يروى أن أبا لهب كان يقول : يعدني محمد أشياء ، لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت ، فلم يضع في يدي من ذلك شيئاً ، ثم ينفخ في يديه ويقول : تباً لكما ما آرى فيكما شيئاً ، فنزلت السورة.
(1/4886)

أما قوله تعالى : {وَتَبَّ} ففيه وجوه أحدها : أنه أخرج الأول مخرج الدعاء عليه كقوله : {قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه } والثاني مخرج الخبر أي كان ذلك وحصل ، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب وثانيها : كل واحد منهما إخبار ولكن أراد بالأول هلاك عمله ، وبالثاني هلاك نفسه ووجهه أن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله ، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين وثالثها : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} يعني ماله ومنه يقال : ذات اليد {وَتَبَّ} هو بنفسه كما يقال : {خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} وهو قول أبي مسلم ورابعها : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} يعني نفسه : {وَتَبَّ} يعني ولده عتبة على ما روى أن عتبة بن أبي لهب خرج إلى الشأم مع أناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم : عتبة بلغوا محمداً عني أني قد كفرت بالنجم إذا هوى ، وروى أنه قال ذلك في وجه رسول الله وتفل في وجهه ، وكان مبالغاً في عداوته ، فقال : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز فسار ليلة من الليالي فلما كان قريباً من الصبح ، فقال له أصحابه : هلكت الركاب فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب وأناخ الإبل حوله كالسرادق فلسط الله عليه الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه ومزقه ، فإن قيل : نزول هذه السورة كان قبل هذه الوقعة ، وقوله : {وَتَبَّ} إخبار عن الماضي ، فكيف يحمل عليه ؟
قلنا : لأنه كان في معلومه تعالى أنه يحصل ذلك / وخامسها : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} حيث لم يعرف حق ربه {وَتَبَّ} حيث لم يعرف حق رسوله وفي الآية سؤالات :
جزء : 32 رقم الصفحة : 355
السؤال الأول : لماذا كناه مع أنه كالكذب إذا لم يكن له ولد اسمه لهب ، وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم ؟
والجواب : عن الأول أن التكنية قد تكون اسماً ، ويؤيذه قراءة من قرأ تبت يدا أبو لهب كما يقال : علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان ، فإن هؤلاء أسماؤهم كناهم ، وأما معنى التعظيم فأجيب عنه من وجوه أحدها : أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم والثاني : أنه كان اسمه عبد العزي فعدل عنه إلى كنيته والثالث : أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته ، فكان جديراً بأن يذكر بها ، ويقال أبو لهب : كما يقال : أبو الشر للشرير وأبو الخير للخير الرابع : كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما ، فيجوز أن يذكر بذلك تهكماً به واحتقاراً له.
السؤال الثاني : أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان نبي الرحمة والخلق العظيم ، فكيف يليق به أن يشافه عمه بهذا التغليظ الشديد ، وكان نوح مع أنه في نهاية التغليظ على الكفار قال في ابنه الكافر إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ، وكان إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بالشفقة في قوله : يا أبت يا أبت وأبوه كان يخاطبه بالتغليظ الشديد ، ولما قال له : {لارْجُمَنَّكَا وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} قال : {سَلَـامٌ عَلَيْكَا سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى } وأما موسى عليه السلام فلما بعثه إلى فرعون قال له ولهرون : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} مع أن جرم فرعون كان أغلظ من جرم أبي لهب ، كيف ومن شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن الأب لا يقتل بابنه قصاصاً ولا يقيم الرجم عليه وإن خاصمه أبوه وهو كافر في الحرب فلا يقتله بل يدفعه عن نفسه حتى يقتله غيره والجواب : من وجوه أحدها : أنه كان يصرف الناس عن محمد عليه الصلاة والسلام بقوله : إنه مجنون والناس ما كانوا يتهمونه ، لأنه كان كالأب له ، فصار ذلك كالمانع من أداء الرسالة إلى الخلق فشافهه الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة ، فصار بسبب تلك العداوة متهماً في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام ، فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك وثانيها : أن الحكمة في ذلك ، أن محمداً لو كان يداهن أحداً في الدين ويسامحه فيه ، لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيه/ فلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحداً في شيء يتعلق بالدين أصلاً وثالثها : أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض ، فإن كونه عماً يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه ، فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة ، لا جرم استحق التغليظ العظيم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 355
(1/4887)

السؤال الثالث : ما السبب في أنه لم يقل قل : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} وقال في سورة الكافرون : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} ؟
الجواب : من وجوه الأول : لأن قرابة العمومة تقتضي / رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له : قل ذلك لئلا يكون مشافهاً لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماماً له الثاني : أن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله تعالى : يا محمد أجب عنهم : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} وفي هذه السورة طعنوا في محمد ، فقال الله تعالى أسكت أنت فإني أشتمهم : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} الثالث : لما شتموك ، فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا} وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك ، يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتاً ، فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره ، فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول ، فقال أبو بكر : ما السبب في ذلك ؟
قال : لأنك حين كنت ساكتاً كان الملك يجيب عنك ، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان.
واعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى على أن من لا يشافه السفيه كان الله ذاباً عنه وناصراً له ومعيناً.
السؤال الرابع : ما الوجه في قراءة عبد الله بن كثير المكي حيث كان يقرأ : {أَبِى لَهَبٍ} ساكنة الهاء ؟
الجواب : قال أبو علي : يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر ، وأجمعوا في قوله : {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} على فتح الهاء ، وكذا قوله : {وَلا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان ، وقال غيره : إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لو فاق الفواصل.
جزء : 32 رقم الصفحة : 355
356
قوله تعالى : {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُه وَمَا كَسَبَ} في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما في قوله : {مَآ أَغْنَى } يحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار ، ويحتمل أن يكون نفياً ، وعلى التقدير الأول يكون المعنى أي تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه ، فإنه لا أحداً كثر مالاً من قارون فهل دفع الموت عنه ، ولا أعظم ملكاً من سليمان فهل دفع الموت عنه ، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك إخباراً بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك.
المسألة الثانية : ما كسب مرفوع وما موصولة أو مصدرية يعني مكسوبه أو كسبه ، يروى أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وأولادي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ثم ذكروا في المعنى وجوهاً : أحدها : لم ينفعه ماله وما كسب بماله يعني رأس المال والأرباح وثانيها : أن المال هو الماشية وما كسب من نسلها ، ونتاجها ، فإنه كان صاحب النعم والنتاج وثالثها : {مَالُه } الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه ورابعها : قال ابن عباس : {مَّا كَسَبَتْ } ولده ، والدليل عليه قوله عليه السلام : "إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" وقال عليه السلام : "أنت ومالك لأبيك" وروى أن بني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع : فغضب فقال : أخرجوا عني الكسب / الخبيث وخامسها : قال الضحاك : ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة رسول الله وسادسها : قال قتادة : {وَمَا كَسَبَ} أي عمله الذي ظن أنه منه على شيء كقوله : {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : قال ههنا : {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُه وَمَا كَسَبَ} وقال في سورة : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } }وما يغني عنه ماله إذا تردى} فما الفرق ؟
الجواب : التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله : وما يغني عنه ماله إذا تردى} فما الفرق ؟
الجواب : التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله : فما الفرق ؟
الجواب : التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله : {مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ } وقوله : {أَتَى ا أَمْرُ اللَّهِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 356
السؤال الثاني : ما أغنى عنه ماله وكسبه فيماذا ؟
الجواب : قال بعضهم في عداوة الرسول : فلم يغلب عليه ، وقال بعضهم : بل لم يغنيا عنه في دفع النار ولذلك قال : {سَيَصْلَى } .
جزء : 32 رقم الصفحة : 356
356
قوله تعالى : {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} وفيه مسائل.
المسألة الأولى : لما أخبر تعالى عن حال أبي لهب في الماضي بالتباب وبأنه ما أغنى عنه ماله وكسبه ، أخبر عن حاله في المستقبل بأنه : {سَيَصْلَى نَارًا} .
المسألة الثانية : {سَيَصْلَى } قرىء بفتح الياء وبضمها مخففاً ومشدداً.
(1/4888)

المسألة الثالثة : هذه الآيات تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه أحدها : الإخبار عنه بالتباب والخسار ، وقد كان كذلك وثانيها : الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده ، وقد كان كذلك. روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام دخل بيتنا ، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا ، وكان العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه ، وكان أبو لهب يخلف عن بدر ، فبعث مكانه العاص بن هشام ، ولم يتخلف رجل منهم إلا بعث مكانه رجلاً آخر ، فلما جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوة ، وكنت رجلاً ضعيفاً وكنت أعمل القداح ألحيها في حجرة زمزم ، فكنت جالساً هناك وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه ، فجلس على طنب الحجرة وكان ظهري إلى ظهره ، فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، فقال له أبو لهب : كيف الخبر يا ابن أخي ؟
فقال : لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف أرادوا ، وايم الله مع ذلك تأملت الناس ، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض ، قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة ، ثم قلت : أولئك والله الملائكة ، فأخذني وضربني على الأرض ، ثم برك علي فضربني وكنت رجلاً ضعيفاً ، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجته ، وقالت : تستضعفه أن غاب سيده ، والله نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة ، وقد صدق فيما قال : فانصرف ذليلاً ، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته ، / ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتى أنتين في بيته ، وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون ، وقالوا نخشى هذه القرحة ، ثم دفنوه وتركوه ، فهذا معنى قوله : {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُه وَمَا كَسَبَ} وثالثها : الإخبار بأنه من أهل النار ، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 356
المسألة الرابعة : احتج أهل السنة على وقوع تكليف مالا يطاق بأن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ، ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار ، فقد صار مكلفاً بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن ، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال. وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري بأنه لو آمن أبو لهب لكان لهذا الخبر خبراً بأنه آمن ، لا بأنه ما آمن ، وأجاب القاضي عنه فقال : متى قيل : لو فعل الله ما أخبر أنه لا يفعله فكيف يكون ؟
فجوابنا : أنه لا يصح الجواب عن ذلك بلا أو نعم.
واعلم أن هذين الجوابين في غاية السقوط ، أما الأول : فلأن هذه الآية دالة على أن خبر الله عن عدم إيمانه واقع ، والخبر الصدق عن عدم إيمانه ينافيه وجود الإيمان منافاة ذاتية ممتنعة الزوال فإذا كان كلفه أن يأتي بالإيمان مع وجود هذا الخبر فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين.
وأما الجواب الثاني : فأرك من الأول لأنا لسنا في طلب أن يذكروا بلسانهم لا أو نعم ، بل صريح العقل شاهد بأن بين كون الخبر عن عدم الإيمان صدقاً ، وبين وجود الإيمان منافاة ذاتية ، فكان التكليف بتحصيل أحد المتضادين حال حصول الآخر تكليفاً بالجمع بين الضدين ، وهذا الإشكال قائم سواء ذكر الخصم بلسانه شيئاً أم بقي ساكتاً.
جزء : 32 رقم الصفحة : 356
361
أما قوله تعالى : {وَامْرَأَتُه حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء ومريئنه بالتصغير وقرىء حمالة الحطب بالنصب على الشتم ، قال صاحب الكشاف : وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجميل من أحب شتم أم جميل وقرىء بالنصب والتنوين والرفع.
المسألة الثانية : أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية ، وكانت في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوهاً : أحدها : أنها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول الله ، فإن قيل : إنها كانت من بيت العز فكيف يقال : إنها حمالة الحطب ؟
قلنا : لعلها كانت مع كثرة مالها خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب ، لأجل أن تليقه في طريق رسول الله وثانيها : أنها كانت تمشي بالنميمة يقال : الممشاء بالنمائم المفسد بين الناس : يحمل الحطب بينهم ، أي يوقد بينهم النائرة ، ويقال للمكثار : هو حاطب / ليل وثالثها : قول قتادة : أنها كانت تعير رسول الله بالفقر ، فعيرت بأنها كانت تحتطب والرابع : قول أبي مسلم وسعيد بن جبير : أن المراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول ، لأنه كالحطب في تصيرها إلى النار ، ونظيره أنه تعالى شبه فاعل الإثم بمن يمشي وعلى ظهره حمل ، قال تعالى : {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} وقال تعالى : {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } وقال تعالى : {وَحَمَلَهَا الانسَـانُ } .
(1/4889)

المسألة الثالثة : امرأته إن رفعته ، ففيه وجهان أحدهما : العطف على الضمير في سيصلى ، أي سيصلي هو وامرأته. وفي جيدها في موضع الحال والثاني : الرفع على الإبتداء ، وفي جيدها الخبر.
المسألة الرابعة : عن أسماء لما نزلت {تَبَّتْ} جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر ، فدخلت المسجد ، ورسول الله جالس ومعه أبو بكر ، وهي تقول :
مذمماً قلينا ودينه أبينا وحكمه عصينا
فقال أبو بكر : يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك ، فقال عليه السلام : "إنها لا تراني" وقرأ : {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} وقالت لأبي بكر : قد ذكر لي أن صاحبك هجاني ، فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك ، فولت وهي تقول :
جزء : 32 رقم الصفحة : 361
قد علمت قريش أني بنت سيدها
وفي هذه الحكاية أبحاث :
الأول : كيف جاز في أم جميل أن لا ترى الرسول ، وترى أبا بكر والمكان واحد ؟
الجواب : أما على قول أصحابنا فالسؤال زائل ، لأن عند حصول الشرائط يكون الإدراك جائزاً لا واجباً ، فإن خلق الله الإدراك رأى وإلا فلا ، وأما المعتزلة فذكروا فيه وجوهاً أحدها : لعله عليه السلام أعرض وجهه عنها وولاها ظهره ، ثم إنها كانت لغاية غضبها لم تفتش ، أو لأن الله ألقى في قلبها خوفاً ، فصار ذلك صارفاً لها عن النظر وثانيها : لعل الله تعالى ألقى شبه إنسان آخر على الرسول ، كما فعل ذلك بعيسى وثالثها : لعل الله تعالى حول شعاع بصرها عن ذلك السمت حتى أنها ما رأته.
واعلم أن الإشكال على الوجوه الثلاثة لازم ، لأن بهذه الوجوه عرفنا أنه يمكن أن يكون الشيء حاضر ولا نراه ، وإذا جوزنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون عندنا فيلات وبوقات ، ولا نراها ولا نسمعها.
البحث الثاني : أن أبا بكر حلف أنه ما هجاك ، وهذا من باب المعاريض ، لأن القرآن لا يسمى هجواً ، ولأنه كلام الله لا كلام الرسول ، فدلت هذه الحكاية على جواز المعاريض.
/ بقي من مباحث هذه الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم لم يكتف بقوله : {وَامْرَأَتُه } بل وصفها بأنها حمالة الحطب ؟
الجواب : قيل : كان له امرأتان سواها فأراد الله تعالى أن لا يظن ظان أنه أراد كل من كانت امرأة له ، بل ليس المراد إلا هذه الواحدة.
السؤال الثاني : أن ذكر النساء لا يليق بأهل الكرم والمروءة ، فكيف يليق ذكرها بكلام الله ، ولا سيما امرأة العم ؟
الجواب : لما لم يستبعد في امرأة نوح وامرأة لوط بسبب كفر تينك المرأتين ، فلأن لا يستعبد في امرأة كافرة زوجها رجل كافر أولى.
جزء : 32 رقم الصفحة : 361
363
قوله تعالى : {فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد } قال الواحدي : المسد في كلام العرب الفتل ، يقال مسد الحبل يمسده مسداً إذا أجاد فتله ، ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق ، والمسد ما مسد أي فتل من أي شيء كان ، فيقال لما فتل من جلود الإبل ، ومن الليف والخوص مسد. ولما فتل من الحديد أيضاً مسد ، إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون وجوهاً أحدها : في جيدها حبل مما مسد من الحبال لأنها كانت تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون ، والمقصود بيان خساستها تشبيهاً لها بالحطابات إيذاءه لها ولزوجها وثانيها : أن يكون المعنى أن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل الحزمة من الشوك ، فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار.
فإن قيل : الحبل المتخذ من المسد كيف يبقى أبداً في النار ؟
قلنا : كما يبقى الجلد واللحم والعظم أبداً في النار ، ومنهم من قال : ذلك المسد يكون من الحديد ، وظن من ظن أن المسد لا يكون من الحديد خطأ ، لأن المسد هو المفتول سواء كان من الحديد أو من غيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين.
جزء : 32 رقم الصفحة : 363
365
(1/4890)

سورة الإخلاص
أربع آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 365
369
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصول :
الفصل الأول : روى أبي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من قرأ سورة قل هو الله أحد ، فكأنما قرأ ثلث القرآن وأعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك بالله وأمن بالله" وقال عليه الصلاة والسلام : "من قرأ قل هو الله أحد مرة واحدة أعطى من الأجر كمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأعطى من الأجر مثل مائة شهيد" ، وروى : "أنه كان جبريل عليه السلام مع الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أقبل أبو ذر الغفاري ، فقال جبريل : هذا أبو ذر قد أقبل ، فقال عليه الصلاة والسلام : أو تعرفونه ؟
قال : هو أشهر عندنا منه عندكم ، فقال عليه الصلاة والسلام : بماذا نال هذه الفضيلة ؟
قال لصغره في نفسه وكثرة قراءته قل هو الله أحد" وروى أنس قال : "كنا في تبوك فطلعت الشمس مالها شعاع وضياء وما رأيناها على تلك الحالة قط قبل ذلك فعجب كلنا ، فنزل جبريل وقال : إن الله أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك فيصلوا على معاوية بن معاوية ، فهل لك أن تصلي عليه ثم ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال وصار الرسول عليه الصلاة والسلام كأنه مشرف عليه فصلى هو وأصحابه عليه ، ثم قال : بم بلغ ما بلغ ؟
فقال جبريل : كان يحب سورة الإخلاص" وروى : "أنه دخل المسجد فسمع رجلاً يدعو ويقول أسألك يا ألله يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، فقال : غفر لك غفر لك غفر لك ثلاث مرات" وعن سهل بن سعد : "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وشكا إليه الفقر فقال : إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك ، واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقاً حتى أفاض على جيرانه" وعن أنس : "أن رجلاً كان يقرأ في جميع صلاته : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فسأله الرسول عن ذلك فقال : يا رسول الله إني أحبها ، فقال : حبك إياها / يدخلك الجنة" وقيل من قرأها في المنام : أعطي التوحيد وقلة العيال وكثرة الذكر لله ، وكان مستجاب الدعوة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
الفصل الثاني : في سبب نزولها وفيه وجوه الأول : أنها نزلت بسبب سؤال المشركين ، قال الضحاك : إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقالوا : شققت عصانا وسببت آلهتنا ، وخالفت دين آبائك ، فإن كنت فقيراً أغنيناك ، وإن كنت مجنوناً داويناك ، وإن هويت امرأة زوجناكها ، فقال عليه الصلاة والسلام : لست بفقير ، ولا مجنون ، ولا هويت امرأة ، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته ، فأرسلوه ثانية وقالوا : قل له بين لنا جنس معبودك ، أمن ذهب أو فضة ، فأنزل الله هذه السورة ، فقالوا له : ثلثمائة وستون صنماً لا تقوم بحوائجنا ، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق ؟
فنزلت : {وَالصَّا فَّاتِ} إلى قوله : {إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ} فأرسلوه أخرى ، وقالوا : بين لنا أفعاله فنزل : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ} الثاني : أنها نزلت بسبب سؤال اليهود روى عكرمة عن ابن عباس ، أن اليهود جاؤا إلى رسول الله ومعهم كعب بن الأشرف ، فقالوا : يا محمد هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟
فغضب نبي الله عليه السلام فنزل جبريل فسكنه ، وقال : اخفض جناحك يا محمد ، فنزل : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما تلاه عليهم قالوا : صف لنا ربك كيف عضده ، وكيف ذراعه ؟
فغضب أشد من غضبه الأول ، فأتاه جبريل بقوله : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه } الثالث : أنها نزلت بسبب سؤال النصارى ، روى عطاء عن ابن عباس ، قال : قدم وفد نجران ، فقالوا : صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت ، أو ذهب ، أو فضة ؟
فقال : إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء فنزلت : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قالوا : هو واحد ، وأنت واحد ، فقال : ليس كمثله شيء ، قالوا : زدنا من الصفة ، فقال : {اللَّهُ الصَّمَدُ} فقالوا : وما الصمد ؟
فقال : الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج ، فقالوا : زدنا فنزل : {لَمْ يَلِدْ} كما ولدت مريم : {وَلَمْ يُولَدْ} كما ولد عيسى : {وَلَمْ يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدُ } يريد نظيراً من خلقه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
(1/4891)

الفصل الثالث : في أساميها ، اعلم أن كثرة الألقاب تدل على مزيد الفضيلة ، والعرف يشهد لما ذكرناه فأحدها : سورة التفريد وثانيها : سورة التجريد وثالثها : سورة التوحيد ورابعها : سورة الإخلاص لأنه لم يذكر في هذه السورة سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ، ولأن من اعتقده كان مخلصاً في دين الله ، ولأن من مات عليه كان خلاصه من النار ، ولأن ما قبله خلص في ذم أبي لهب فكان جزاء من قرأه أن لا يجمع بينه وبين أبي لهب وخامسها : سورة النجاة لأنها تنجيك عن التشبيه والكفر في الدنيا ، وعن النار في الآخرة وسادسها : سورة الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله ولأن من عرف الله على هذا الوجه فقد والاه فبعد محنة رحمة كما بعد منحة نعمة وسابعها : سورة النسبة لما روينا أنه ورد جواباً لسؤال من قال : أنسب لنا ربك ، ولأنه عليه السلام قال لرجل من بني سليم : "يا أخا بني سليم استوص / بنسبة الله خيراً" وهو من لطيف المباني ، لأنهم لما قالوا : أنسب لنا ربك ، فقال : نسبة الله هذا والمحافظة على الأنساب من شأن العرب ، وكانوا يتشددون على من يزيد في بعض الأنساب أو ينقص ، فنسبة الله في هذه السورة أولى بالمحافظة عليها وثامنها : سورة المعرفة لأن معرفة الله لا تتم إلا بمعرفة هذه السورة ، روى جابر أن رجلاً صلى فقرأ : قل هو الله أحد فقال النبي عليه الصلاة والسلام : إن هذا عبد عرف ربه فسميت سورة المعرفة لذلك وتاسعها : سورة الجمال قال عليه الصلاة والسلام : "إن الله جميل يحب الجمال" فسألوه عن ذلك فقال : أحد صمد لم يلد ولم يولد لأنه إذا لم يكن واحداً عديم النظير جاز أن ينوب ذلك المثل منابه وعاشرها : سورة المقشقشة ، يقال : تقشيش المريض مما به ، فمن عرف هذا حصل له البرء من الشرك والنفاق لأن النفاق مرض كما قال : {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} الحادي عشر : المعوذة ، روى أنه عليه السلام دخل على عثمان بن مظعون فعوذه بها وباللتين بعدها ، ثم قال : "نعوذ بهن فما تعوذت بخير منها" والثاني عشر : سورة الصمد لأنها مختصة بذكره تعالى والثالث عشر : سورة الأساس ، قال عليه الصلاة والسلام : "أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد" ومما يدل عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السموات والأرض بدليل قوله : {تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ} فوجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة هذه الأشياء وقيل السبب فيه معنى قوله تعالى :
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } الرابع عشر : سورة المانعة روى ابن عباس أنه تعالى قال : لنبيه حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي ، وهي المانعة تمنع عذاب القبر ولفحات النيران الخامس عشر : سورة المحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت السادس عشر : المنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها السابع عشر : البراءة لأنه روى أنه عليه السلام رأى رجل يقرأ هذه السورة ، فقال : أما هذا فقد برىء من الشرك ، وقال عليه السلام : من قرأ سورة قل هو الله أحد مائة مرة في صلاة أو في غيرها كتبت له براءة من النار الثامن عشر : سورة المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد فقراءة السورة كالوسمة تذكرك ما تتغافل عنه مما أنت محتاج إليه التاسع عشر : سورة النور قال الله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فهو المنور للسموات والأرض ، والسورة تنور قلبك وقال عليه السلام : "إن لكل شيء نور ونور القرآن قل هو الله أحد" ونظيره أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة ، فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان العشرون : سورة الأمان قال عليه السلام : "إذا قال العبد لا إله إلا الله دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي".
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
(1/4892)

الفصل الرابع : في فضائل هذه السورة وهي من وجوه الأول : اشتهر في الأحاديث أن قراءة هذه السورة تعدل قراءة ثلث القرآن ، ولعل الغرض منه أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع والعبادات ، معرفة ذات الله ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله ، وهذه السورة مشتملة / على معرفة الذات ، فكانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن ، وأما سورة : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} فهي معادلة لربع القرآن ، لأن المقصود من القرآن إما الفعل وإما الترك وكل واحد منهما فهو إما في أفعال القلوب وإما في أفعال الجوارح فالأقسام أربعة ، وسورة : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} لبيان ما ينبغي تركه من أفعال القلوب ، فكانت في الحقيقة مشتملة على ربع القرآن ، ومن هذا السبب اشتركت السورتان أعني : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} ، و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في بعض الأسامي فهما المقشقشتان والمبرئتان ، من حيث إن كل واحدة منهما تقيد براءة القلب عما سوى الله تعالى ، إلا أن : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} يفيد بلفظه البراءة عما سوى الله وملازمة الاشتغال بالله و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يفيد بلفظه الاشتغال بالله وملازمة الإعراض عن غير الله أو من حيث إن : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى الله ، و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تفيد براءة المعبود عن كل مالا يليق به الوجه الثاني : وهو أن ليلة القدر لكونها صدقاً للقرآن كانت خيراً من ألف شهر فالقرآن كله صدف والدر هو قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلا جرم حصلت لها هذه الفضيلة الوجه الثالث : وهو أن الدليل العقلي دل على أن أعظم درجات العبد أن يكون قلبه مستنيراً بنور جلال الله وكبريائه ، وذلك لا يحصل إلا من هذه السورة ، فكانت هذه السورة أعظم السور ، فإن قيل : فصفات الله أيضاً مذكورة في سائر السور ، قلنا : لكن هذه السورة لها خاصية وهي أنها لصغرها في الصورة تبقى محفوظة في القلوب معلومة للعقول فيكون ذكر جلال الله حاضراً أبداً بهذا السبب ، فلا جرم امتازت عن سائر السور بهذه الفضائل وليرجع الآن إلى التفسير.
قوله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيه مسائل :
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
المسألة الأولى : اعلم أن معرفة الله تعالى جنة حاضرة إذا لجنة أن تنال ما يوافق عقلك وشهوتك ، ولذلك لم تكن الجنة جنة لآدم لما نازع عقله هواه ، ولا كان القبر سجناً على المؤمن لأنه حصل له هناك ما يلائم عقله وهواه ، ثم إن معرفة الله تعالى مما يريدها الهوى والعقل ، فصارت جنة مطلقة ، وبيان ما قلنا : أن العقل يريد أميناً تودع عنده الحسنات ، والشهوة تريد غنياً يطلب منه المستلذات ، بل العقل كالإنسان الذي له همة عالية فلا ينقاد إلا لمولاه ، والهوى كالمنتجع الذي إذا سمع حضور غني ، فإنه ينشط للانتجاع إليه ، بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له النعم الماضية والهوى يطلبها ليطمع منه في النعم المتربصة ، فلما عرفاه كما أراده عالماً وغنياً تعلقا بذيله ، فقال العقل : لا أشكر أحداً سواك ، وقالت الشهوة : لا أسأل أحداً إلا إياك ، ثم جاءت الشبهة فقالت : يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلاً ؟
ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل ههنا باباً آخر ؟
فبقي العقل متحيراً وتنغصت عليه تلك الراحة ، فأراد أن يسافر في عالم الاستدلال ليفوز بجوهرة اليقين فكأن الحق سبحانه قال : كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري ، فبعث الله رسوله وقال : لا تقله من عند نفسك ، بل قل هو الذي عرفته صادقاً / يقول لي : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فعرفك الوحدانية بالسمع وكفاك مؤنة النظر والاستدلال بالعقل ، وتحقيقه أن المطالب على ثلاثة أقسام قسم منها لا يمكن الوصول إليه بالسمع وهو كل ما تتوقف صحة السمع على صحته كالعلم بذات الله تعالى وعلمه وقدرته وصحة المعجزات ، وقسم منها لا يمكن الوصول إليه إلا بالسمع وهو وقوع كل ما علم بالعقل والسمع معاً ، وهو كالعلم بأنه واحد وبأنه مرئي إلى غيرهما ، وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } .
المسألة الثانية : اعلم أنهم أجمعوا على أنه لا بد في سورة : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} من قل وأجمعوا على أنه لا يجوز لفظ قل في سورة : {تُبْتُ} وأما في هذه السورة فقد اختلفوا ، فالقراءة المشهورة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقرأ أبي وابن مسعود. بغير قل هكذا : {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقرأ النبي صلى الله عليه وسلّم ، بدون قل هو هكذا : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} فمن أثبت قل قال : السبب فيه بيان أن النظم ليس في مقدوره ، بل يحكي كل ما يقال له ، ومن حذفه قال : لئلا يتوهم أن ذلك ما كان معلوماً للنبي عليه الصلاة والسلام.
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
(1/4893)

المسألة الثالثة : اعلم أن في إعراب هذه الآية وجوهاً أحدها : أن هو كناية عن اسم الله ، فيكون قوله : الله مرتفعاً بأنه خبر مبتدأ ، ويجوز في قوله : {أَحَدٌ} ما يجوز في قولك : زيد أخوك قائم الثاني : أن هو كناية عن الشأن ، وعلى هذا التقرير يكون الله مرتفعاً بالابتداء وأحد خبره ، والجملة تكون خبراً عن هو ، والتقدير الشأن والحديث : هو أن الله أحد ، ونظيره قوله : {فَإِذَا هِىَ شَـاخِصَةٌ أَبْصَـارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } إلا أن هي جاءت على التأنيث ، لأن في التفسير : اسماً مؤنثاً ، وعلى هذا جاء : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ} أما إذا لم يكن في التفسير مؤنث لم يؤنث ضمير القصة ، كقوله : {إِنَّه مَن يَأْتِ رَبَّه مُجْرِمًا} والثالث : قال الزجاج : تقدير هذه الآية أن هذا الذي سألتم عنه هو الله أحد.
المسألة الرابعة : في أحد وجهان أحدهما : أنه بمعنى واحد ، قال الخليل : يجوز أن يقال : أحد إثنان وأصل أحد وحد إلا أنه قلبت الواو همزة للخفيف وأكثر ما يفعلون هذا بالواو المضمومة ، والمكسورة كقولهم : وجوه وأجوه وسادة وأسادة والقول الثاني : أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين قال الإهري : لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى لا يقال : رجل أحد ولا درهم أحدكما يقال : رجل واحد أي فرد به بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء. ثم ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوهاً أحدها : أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه وثانيها : أنك إذا قلت : فلان لا يقاومه واحد ، جاز أن يقال : لكنه يقاومه إثنان بخلاف الأحد ، فإنك لو قلت : فلان لا يقاومع أحد لا يجوز أن يقال : لكنه يقاومه إثنان / وثالثها : أن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي ، تقول في الإثبات رأيت رجلاً واحداً وتقول في النفي : ما رأيت أحداً فيفيد العموم.
المسألة الخامسة : اختلف القراء في قوله : {أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} فقراءة العامة بالتنوين وتحريكه بالكسر هكذا أحدن الله ، وهو القياس الذي لا إشكال فيه/ وذلك لأن التنوين من أحد ساكن ولام المعرفة من الله ساكنة ، ولما التقى ساكنان حرك الأول منهما بالكسر ، وعن أبي عمرو ، أحد الله بغير تنوين ، وذلك أن النون شابهت حروف اللين في أنها تزاد كما يزدن فلما شابهتها أجريت مجراها في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين كما حذفت الألف والواو والياء لذلك نحو غزا القوم ويغزو القوم ، ويرمي القوم ، ولهذا حذفت النون الساكنة في الفعل نحو : {لَمْ يَكُ} {وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} فكذا ههنا حذفت في أحد الله لالتقاء الساكنين كما حذفت هذه الحروف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
وقد ذكرنا هذا مستقصى عند قوله : {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وروى أيضاً عن أبي عمرو : {أَحَدٌ * اللَّهُ} وقال : أدركت القراء يقرؤونها كذلك وصلا على السكون ، قال أبو علي : قد تجري الفواصل في الإدراج مجراها في الوقف وعلى هذا قال من قال : {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَآ} {فَأَشَارَتْ إِلَيْه قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ} لما كان أكثر القراء فيما حكاه أبو عمرو على الوقف أجراه في الوصل مجراه في الوقف لاستمرار الوقف عليه وكثرته في ألسنتهم ، وقرأ الأعمش : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإن قيل : لماذا ؟
قيل : أحد على النكرة ، قال الماوردي : فيه وجهان أحدهما : حذف لام التعريف على نية إضمارها والتقدير قل : هو الله الأحد والثاني : أن المراد هو التنكير على سبيل التعظيم.
(1/4894)

المسألة السادس : اعلم أن قوله : {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ألفاظ ثلاثة وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الأول : مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله وهؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي ، فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأن الحق هو الذي لذاته يجب وجوده ، وأما ما عداه فممكن لذاته والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوماً ، فهؤلاء لم يروا موجوداً سوى الحق سبحانه ، وقوله : {هُوَ} إشارة مطلقة والإشارة وإن كانت مطلقة إلا أن المشار إليه لما كان معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين ، فلا جرم كان قولنا : هو إشارة من هؤلاء المقربين إلى الحق سبحانه فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز ، لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حين حصل هناك موجودان ، وقد بينا أن هؤلاء ما شاهدوا بعيون عقولهم إلا الواحد فقط ، فلهذا السبب كانت لفظة : {هُوَ} كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء ، المقام الثاني : وهو مقام أصحاب اليمين وهو دون المقام الأول ، وذلك لأن هؤلاء شاهدوا الحق موجوداً وشاهدوا الخلق أيضاً موجوداً ، فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافياً في الإشارة إلى الحق ، بل لا بد هناك من مميز به يتميز الحق عن الخلق : فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة هو ، فقيل : لأجلهم هو / الله ، لأن الله هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه ، ويستغني هو عن كل ما عداه والمقام الثالث : وهو مقام أصحاب الشمال وهو أخس المقامات وأدونها ، وهم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد وأن يكون الإله أكثر من واحد فقرن لفظ الأحد بما تقدم رداً على هؤلاء وإبطال لمقالاتهم فقيل : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
وههنا بحث آخر : أشرف وأعلى مما ذكرناه وهو أن صفات الله تعالى إما أن تكون إضافية وإما أن تكون سلبية ، أما الإضافية فكقولنا : عالم ، قادر مربد خلاق ، وأما السلبية فكقولنا : ليس بجسم ولا بجوهر ولا بعرض والمخلوقات تدل أولا على النوع الأول من الصفات وثانياً على النوع الثاني منها ، وقولنا : الله يدل على مجامع الصفات الإضافية ، وقولنا : أحد يدل على مجامع الصفات السلبية ، فكان قولنا : {اللَّهُ أَحَدٌ} تاماً في إفادة العرفان الذي يليق بالعقول البشرية/ وإنما قلنا : إن لفظ الله يدل على مجامع الصفات الإضافية ، وذلك لأن الله هو الذي يستحق العبادة ، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يكون مستبداً بالإيجاد والإبداع والاستبداد بالإيجاد لا يحصل إلا لمن كان موصوفاً بالقدرة التامة والإرادة النافذة والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وهذه مجامع الصفات الإضافة ، وأما مجامع الصفات السلبية فهي الأحدية ، وذلك لأن المراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التركيب ، وذلك لأن كل ماهية مركبة فه مفتقرة إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فكل مركب فهو ممكن لذاته ، فالإله الذي هو مبدأ لجميع الكائنات ممتنع أن يكون ممكناً ، فهو في نفسه فرد أحد وإذا ثبتت الأحدية ، وجب أن لا يكون متحيزاً لأن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره ، وكل ما كان كذلك فهو منقسم ، فالأحد يستحيل أن يكون متحيزاً ، وإذا لم يكن متحيزاً لم يكن في شيء من الأحياز والجهاد ويجب أن لا يكون حالاً في شيء ، لأنه مع محله لا يكون أحداً ، ولا يكون محلاً لشيء ، لأنه مع حاله لا يكون أحداً ، وإذا لم يكن حالاف ولا محلاً لم يكن متغيراً البتة لأن التغير لا بد وأن يكون من صفة إلى صفة ، وأيضاً إذا كان أحداً وجب أن يكون واحداً إذ لو فرض موجودان واجباً الوجود لاشتركا في الوجوب ولتمايزا في التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة فكل واحد منهما مركب ، فثبت أن كونه أحداً يستلزم كونه واحداً فإن قيل : كيف يعقل كون الشيء أحداً ، فإن كل حقيقة توصف بالأحدية فهناك تلك الحقيقة من تلك الأحدية ومجموعهما فذاك ثالث ثلاث لا أحد الجواب : أن الأحدية لازمة لتلك الحقيقة فالمحكوم عليه بالأحدية هو تلك الحقيقة لا المجموع الحاصل منها ومن تلك الأحدية ، فقد لاح بما ذكرنا أن قوله : {اللَّهُ أَحَدٌ} كلام متضمن لجميع صفات الله تعالى من الإضافيات والسلوب وتمام الكلام في هذا الباب مذكور في تفسير قوله : {وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } .
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
369
قوله تعالى : {اللَّهُ الصَّمَدُ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير : {الصَّمَدُ} وجهين الأول : أنه فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج ، قال الشاعر :
ألا بكر الناعي بخير بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال أيضاً :
علوته بحسامي ثم قلت له
خذها حذيف فأنت السيد الصمد
(1/4895)

والدليل على صحة هذا التفسير ما روى ابن عباس : "أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : ما الصمد ؟
قال عليه السلام هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج" وقال الليث : صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده والقول الثاني : أن الصمد هو الذي لا جوف له ، ومنه يقال : لسداد القارورة الصماد ، وشيء مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة ، وقال قتادة : وعلى هذا التفسير : الدال فيه مبدلة من التاء وهو المصمت ، وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة : الصمد هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء ، واعلم أنه قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم ، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحداً ينافي جسماً فمقدمة هذا الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة وتعالى الله عن ذلك ، فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه ، وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجباً لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته ، فهذا ما يتعلق بالبحث اللغوي في هذه الآية.
وأما المفسرون فقد نقل عنهم وجوه ، بعضها يليق بالوجه الأول وهو كونه تعالى سيداً مرجوعاً إليه في دفع الحاجات ، وهو إشارة إلى الصفات الإضافية ، وبعضها بالوجه الثاني وهو كونه تعالى واجب الوجود في ذاته وفي صفاته ممتنع التغير فيهما وهو إشارة إلى الصفات السلبية وتارة يفسرون الصمد بما يكون جامعاً للوجهين.
أما النوع الأول : فذكروا فيه وجوهاً : الأول : الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه سيداً مرجوعاً إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك الثاني : الصمد هو الحليم لأن كونه سيداً يقتضي الحلم والكرم الثالث : وهو قول ابن مسعود والضحاك الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده الرابع : قال الأصم : الصمد هو الخالق للأشياء ، وذلك لأن كونه سيداً يقتضي ذلك الخامس : قال السدي : الصمد هو المقصود في الرغائب ، المستغاث به عند المصائب السادس : قال الحسين بن الفضل البجلي : الصمد هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه السابع : أنه السيد المعظم الثامن : أنه الفرد الماجد لا يقضي في أمر دونه.
/
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
وأما النوع الثاني : وهو الإشارة إلى الصفات السلبية فذكروا فيه وجوهاً : الأول : الصمد هو الغني على ما قال : {هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} الثاني : الصمد الذي ليس فوقه أحد لقوله : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه } ولا يخاف من فوقه ، ولا يرجو من دونه ترفع الحوائج إليه الثالث : قال قتادة : لا يأكل ولا يشرب : {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } الرابع : قال قتادة : الباقي بعد فناء خلقه : {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الخامس : قال الحسن البصري : الذي لم يزل ولا يزال ، ولا يجوز عليه الزوال كان ولا مكان ، ولا أين ولا أواه ، ولا عرش ولا كرسي ، ولا جني ولا إنسي وهو الآن كما كان السادس : قال يمان وأبو مالك : الذي لا ينام ولا يسهو الثامن : قال ابن كيسان : هو الذي لا يوصف بصفة أحد التاسع : قال مقاتل بن حبان : هو الذي لا عيب فيه العاشر : قال الربيع بن أنس : هو الذي لا تغتريه الآفات الحادي عشر : قال سعيد بن جبير : إنه الكامل في جميع صفاته ، وفي جميع أفعاله الثاني عشر : قال جعفر الصادق : إنه الذي يغلب ولا يغلب الثالث عشر : قال أبو هريرة : إنه المستغنى عن كل أحد الرابع عشر : قال أبو بكر الوراق : إنه الذي أيس الخلائق من الاطلاع على كيفيته الخامس عشر : هو الذي لا تدركه الأبصار السادس عشر : قال أبو العالية ومحمد القرظي : هو الذي لم يلد ولم يولد ، لأنه ليس شيء إلا سيورث ، ولا شيء يولد إلا وسيموت السابع عشر : قال ابن عباس : إنه الكبير الذي ليس فوقه أحد الثامن عشر : أنه المنزه عن قبول النقصانات والزيادات ، وعن أن يكون مورداً للتغيرات والتبدلات ، وعن إحاطة الأزمنة والأمكنة والآنات والجهات.
وأما الوجه الثالث : وهو أن يحمل لفظ الصمد على الكل وهو محتمل ، لأنه بحسب دلالته على الوجوب الذاتي يدل على جميع السلوب ، وبحسب دلالته على كونه مبدأ للكل يدل على جميع النعوت الإلهية.
المسألة الثانية : قوله : {اللَّهُ الصَّمَدُ} يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى الله ، وإذا كان الصمد مفسراً بالمصمود إليه في الحوائج ، أو بما لا يقبل التغير في ذاته لذم أن لا يكون في الوجود موجود عكذا سوى الله تعالى ، فهذه الآية تدل على أنه لا إله سوى الواحد ، فقوله : {اللَّهُ أَحَدٌ} إشارة إلى كونه واحداً ، بمعنى أنه ليس في ذاته تركيب ولا تأليف بوجه من الوجوه ، وقوله : {اللَّهُ الصَّمَدُ} إشارة إلى كونه واحداً ، بمعنى نفي الشركاء والأنداد والأضداد. وبقي في الآية سؤالان :
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
(1/4896)

السؤال الأول : لم جاء أحد منكراً ، وجاء الصمد معرفاً ؟
الجواب : الغالب على أكثر أوهام الخلق أن كل موجود محسوس ، وثبت أن كل محسوس فهو منقسم ، فإذا مالا يكون منقسماً لا يكون خاطراً بيان أكثر الخلق ، وأما الصمد فهو الذي يكون مصموداً إليه في الحوائج ، وهذا كان معلوماً للعرب بل لأكثر الخلق على ما قال : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه } وإذا كانت / الأحدية مجهولة مستنكرة عند أكثر الخلق ، وكانت الصمدية معلومة الثبوت عند جمهور الخلق ، لا جرم جاء لفظ أحد على سبيل التنكير ولفظ الصمد على سبيل التعريف.
السؤال الثاني : ما الفائدة في تكرير لفظة الله في قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} ؟
الجواب : لو لم تكرر هذه اللفظة لوجب في لفظ أحد وصمد أن يردا ، إما نكرتين أو معرفتين ، وقد بينا أن ذلك غير جائز ، فلا جرم كررت هذه اللفظة حتى يذكر لفظ أحد منكراً ولفظ الصمد معرفاً.
جزء : 32 رقم الصفحة : 369
372
قوله تعالى : {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قدم قوله : {لَمْ يَلِدْ} على قوله : {وَلَمْ يُولَدْ} مع أن في الشاهد يكون أولاً مولوداً ، ثم يكون والداً ؟
الجواب : إنما وقعت البداءة بأنه لم يلد ، لأنهم ادعوا أن له ولداً ، وذلك لأن مشركي العرب قالوا : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَـارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه } ولم يدع أحد أن له والداً فلهذا السبب بدأ بالأهم فقال : {لَمْ يَلِدْ} ثم أشار إلى الحجة فقال : {وَلَمْ يُولَدْ} كأنه قيل : الدليل على امتناع الولدية اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره.
السؤال الثاني : لماذا اقتصر على ذكر الماضي فقال : {لَمْ يَلِدْ} ولم يقل : لن يلد ؟
الجواب : إنما اقتصر على ذلك لأنه ورد جواباً عن قولهم ولد الله والدليل عليه قوله تعالى : {أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك في الماضي ، لا جرم وردت الآية على وفق قوله.
السؤال الثالث : لم قال ههنا : {لَمْ يَلِدْ} وقال في سورة بني إسرائيل : {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ؟
الجواب : أن الولد يكون على وجهين : أحدهما : أن يتولد منه مثله وهذا هو الولد الحقيقي والثاني : أن لا يكون متولداً منه ولكنه يتخذه ولداً ويسميه هذا الاسم ، وإن لم يكن ولداً له في الحقيقة ، والنصارى فريقان : منهم من قال : عيسى ولد الله حقيقة ، ومنهم من قال : إن الله اتخذه ولداً تشريفاً له ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً تشريفاً له ، فقوله : {لَمْ يَلِدْ} فيه إشارة إلى نفي الوالد في الحقيقة ، وقوله : {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إشارة إلى نفي القسم الثاني ، ولهذا قال : {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّه شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ} لأن ازنسان قد يتخذ ولداً ليكون ناصراً ومعيناً له على الأمر المطلوب ، ولذلك قال في سورة أخرى : {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَـانَه ا هُوَ الْغَنِيُّ } وإشارة إلى ما ذكرنا أن اتخاذ الولد إنما يكون عند الحاجة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 372
السؤال الرابع : نفي كونه تعالى والداً ومولوداً ، هل يمكن أن يعلم بالسمع أم لا ، وإن كان لا يمكن ذلك فما الفائدة في ذكره ههنا ؟
الجواب : نفي كونه تعالى والداً مستفاد من العلم بأنه تعالى ليس بجسم ولا متبعض ولا منقسم ، ونفي كونه تعالى مولوداً مستفاد من العلم بأنه تعالى / قديم ، والعلم بكل واحد من هذين الأصلين متقدم على العلم بالنبوة والقرآن ، فلا يمكن أن يكونا مستفادين من الدلائل السمعية. بقي أن يقال : فلما لم يكن استفادتهما من السمع ، فما الفائدة في ذكرهما في هذه السورة ؟
قلنا : قد بينا أن المراد من كونه أحداً كونه سبحانه في ذاته وماهيته منزهاً عن جميع أنحاء التراكيب ، وكونه تعالى صمداً معناه كونه واجباً لذاته ممتنع التغير في ذاته وجميع صفاته ، وإذا كان كذلك فالأحدية والصمدية يوجبان نفي الولدية والمولودية ، فلما ذكر السبب الموجب لانتفاء الوالدية والمولودية ، لا جرم ذكر هذين الحكمين ، فالمقصود من ذكرهما تنبيه الله تعالى على الدلالة العقلية القاطعة على انتفائهما.
(1/4897)

السؤال الخامس : هل في قوله تعالى : {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} فائدة أزيد من نفي الولدية ونفي المولودية ؟
قلنا : فيه فوائد كثيرة ، وذلك لأن قوله : {اللَّهُ أَحَدٌ} إشارة إلى كونه تعالى في ذاته وماهيته منزهاً عن التركيب ، وقوله : {اللَّهُ الصَّمَدُ} إشارة إلى نفي الأضداد والأنداد والشركاء والأمثال وهذان المقامان الشريفان مما حصل الاتفاق فيهما بين أرباب الملل والأديان/ وبين الفلاسفة ، إلا أن من بعد هذا الموضع حصل الاختلاف بين أرباب الملل وبين الفلاسفة ، فإن الفلاسفة قالوا : إنه يتولد عن واجب الوجود عقل ، وعن العقل عقل آخر ونفس وفلك ، وهكذا على هذا الترتيب حتى ينتهي إلى العقل الذي هو مدبر ما تحت كرة القمر ، فعلى هذا القول يكون واجب الوجود قد ولد العقل الأول الذي هو تحته ، ويكون العقل الذي هو مدبر لعالمنا هذا كالمولود من العقول التي فوقه ، فالحق سبحانه وتعالى نفي الوالدية أولاً ، كأنه قيل : إنه لم يلد العقول والنفوس ، ثم قال : والشيء الذي هو مدبر أجسادكم وأرواحكم وعالمكم هذا ليس مولوداً من شيء آخر ، فلا والد ولا مولود ولا مؤثر إلا الواحد الذي هو الحق سبحانه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 372
373
قوله سبحانه : {وَلَمْ يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدُ } فيه سؤالان :
السؤال الأول : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله ورد مقدماً في أفصح الكلام ؟
والجواب : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الله ، واللفظ الدال على هذا المعنى هو هذا الظرف ، وتقديم الأهم أولى ، فلهذا السبب كان هذا الظرف مستحقاً للتقديم.
السؤال الثاني : كيف القراءة في هذه الآية ؟
الجواب : قرىء : {كُفُوًا} بضم الكاف والفاء وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء ، والأصل هو الضم ثم يخفف مثل طنب وطنب وعنق وعنق ، وقال أبو عبيدة : يقال كفو وكفء وكفاء كله بمعنى واحد وهو المثل ، وللمفسرين فيه أقاويل أحدها : قال كعب وعطاء : لم يكن له مثل ولا عديل ، ومنه المكافأة في الجزاء لأنه / يعطيه ما يساوي ما أعطاه وثانيها : قال مجاهد : لم يكن صاحبة كأنه سبحانه وتعالى قال : لم يكن أحد كفؤاً له فيصاهره ، رداً على من حكى الله عنه قوله : {وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى : {لَمْ يَلِدْ} وثالثها : وهو التحقيق أنه تعالى بين لما بين أنه هو المصمود إليه في قضاء الحوائج ونفي الوسائط من البين بقوله : {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} على ما بيناه ، فحينئذ ختم السورة بأن شيئاً من الموجودات يمتنع أن يكون مساوياً له في شيء من صفات الجلال والعظمة ، أما الوجود فلا مساواة فيه لأن وجوده من مقتضيات حقيقته فإن حقيقته غير قابلة للعدم من حيث هي هي ، وأما سائر الحقائق ، فإنها قابلة للعدم ، وأما العلم فلا مساواة فيه لأن علمه ليس بضروري ولا باستدلالي ولا مستفاد من الحس ولا من الرؤية ولا يكون في معرض الغلط والزلل وعلوم المحدثات كذلك ، وأما القدرة فلا مساواة فيها وكذا الرحمة والجود والعدل والفضل والإحسان واعلم أن هذه السورة أربع آيات ، وفي ترتيبها أنواع من الفوائد :
الفائدة الأولى : أن أول السورة يدل على أنه سبحانه واحد ، والصمد على أنه كريم رحيم لأنه لا يصمد إليه حتى يكون محسناً و: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} على أنه غني على الإطلاق ومنزه عن التغيرات فلا يبخل بشيء أصلاً ، ولا يكون جوده لأجل جر نفع أو دفع ضر ، بل بمحض الإحسان وقوله : {وَلَمْ يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدُ } إشارة إلى نفي مالا يجوز عليه من الصفات.
جزء : 32 رقم الصفحة : 373
الفائدة الثانية : نفي الله تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله : {أَحَدٌ} ونفي النقص والمغلوبية بلفظ الصمد ، ونفي المعلولية والعلية بلم يلد ولم يولد ، ونفي الأضداد والأنداد بقوله : {وَلَمْ يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدُ } .
الفائدة الثالثة : قوله : {أَحَدٌ} يبطل مذهب الثنوية القائلين بالنور والظلمة ، والنصارى في التثليث ، والصابئين في الأفلاك والنجوم ، والآية الثانية تبطل مذهب من أثبت خالقاً سوى الله لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصموداً إليه في طلب جميع الحاجات ، والثالثة تبطل مذهب اليهود في عزير ، والنصارى في المسيح ، والمشركين في أن الملائكة بنات الله ، والآية الرابعة تبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء له وشركاء.
الفائدة الرابعة : أن هذه السورة في حق الله مثل سورة الكوثر في حق الرسول لكن الطعن في حق الرسول كان بسبب أنهم قالوا : إنه أبتر لا ولد له ، وههنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا لله ولداً ، وذلك لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب ووجود الولد عيب في حق الله تعالى ، فلهذا السبب قال ههنا : {قُلْ} حتى تكون ذاباً عني/ وفي سورة : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ} أنا أقول ذلك الكلام حتى أكون أنا ذاباً عنك ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

جزء : 32 رقم الصفحة : 373
374
(1/4898)

سورة الفلق
خمس آيات مدنية
جزء : 32 رقم الصفحة : 374
375
قوله تعالى : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {قُلْ} فوائد أحدها : أنه سبحانه لما أمر بقراءة سورة الإخلاص تنزيهاً له عما لا يليق به في ذاته وصفاته ، وكان ذلك من أعظم الطاعات ، فكأن العبد قال : إلهنا هذه الطاعة عظيمة جداً لا أثق بنفسي في الوفاء بها ، فأجاب بأن قال : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي استعذ بالله ، والتجيء إليه حتى يوفقك لهذه الطاعة على أكمل الوجوه وثانيها : أن الكفار لما سألوا الرسول عن نسب الله وصفته ، فكأن الرسول عليه السلام قال : كيف أنجو من هؤلاء الجهال الذين تجاسروا وقالوا : فيك مالا يليق بك ، فقال الله : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي استعذ بي حتى أصونك عن شرهم وثالثها : كأنه تعالى يقول : من التجأ إلى بيتي شرقته وجعلته آمناً فقلت : ومن دخله كان آمناً فالتجىء أنت أيضاً إلي حتى أجعلك آمناً : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 375
المسألة الثانية : اختلفوا في أنه هل يجوز الاستعانة بالرقي والعوذ أم لا ؟
منهم قال : إنه يجوز واحتجوا بوجوه أحدها : ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم اشتكى فرقاه جبريل عليه السلام ، فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ، والله يشفيك وثانيها : قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء : "بسم الله الكريم ، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ، ومن شر حر النار" وثالثها : قال عليه السلام : من دخل على مريض لم يحضره أجله ؛ فقال : أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفى ورابعها : عن علي عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا دخل على مريض قال : "أذهب البأس رب الناس ، اشف أنت الشافي ، لا شافي إلا أنت" وخامسها : عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعوذ الحسن والحسين يقول : "أعيذكما بكلمات الله التامة من شيطان وهامة ، ومن / كل عين لامة" ويقول : هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق وسادسها : قال عثمان بن أبي العاص الثقفي : قدمت على رسول الله وبي وجع قد كاد يبطلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "اجعل يدك اليمنى عليه ، وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد" سبع مرات ففعلت ذلك فشفاني الله وسابعها : روى أنه عليه السلام كان إذا سافر فنزل منزلاً يقول : "يا أرض ، ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يخرج منك ، وشر ما يدب عليك ، وأعوذ بالله من أسد وأسود وحية وعقرب ، ومن شر ساكني البلد ووالد وما ولد" وثامنها : قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، إذا اشتكى شيئاً من جسده قرأ : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي ومن الناس من منع من الرقي لما روى عن جابر ، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرقي ، وقال عليه السلام : "إن لله عباداً لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" وقال عليه السلام : "لم يتوكل على الله من اكتوى واسترقى" وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون النهي عن الرقي المجهولة التي لا تعرف حقائقها ، فأما ما كان له أصل موثوق ، فلا نهي عنه ، واختلفوا في التعليق ، فروى أنه عليه السلام قال : "من علق شيئاً وكل إليه" وعن ابن مسعود : إنه رأى على أم ولده تميمة مربوطة بعضدها ، فجذبها جذباً منيعاً فقطعها ، ومنهم من جوزه ، سئل الباقر عليه السلام عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه ، واختلفوا في النفث أيضاً/ فروى عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده ، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنقث عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه ، وعنه عليه السلام : "أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوذات ، ثم مسح بهما جسده" ومنهم من أنكر النفث ، قال عكرمة : لا ينبغي للرقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وعن إبراهيم قال : كانوا يكرهون النفث في الرقي ، وقال بعضهم : دخلت على الضحاك وهو وجيع ، فقلت : ألا أعوذك يا أبا محمد ؟
قال : بلى ولكن لا تنفث ، فعوذته بالمعوذتين. قال الحليمي : الذي روى عن عكرمة أنه ينبغي للراقي أن لا ينفث ولا يمسح ولا يعقد ، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ منه ، فوجب أن يكون منهياً عنه إلا أن هذا ضعيف ، لأن النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان. فأما إذا كان هذا النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون حراماً.
جزء : 32 رقم الصفحة : 375
(1/4899)

المسألة الثالثة : أنه تعالى قال في مفتاح القراءة : {فَاسْتَعِذْ بِاللَّه } وقال ههنا : {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وفي موضع آخر : {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ} وجاء في الأحاديث : {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ولا شك أن أفضل أسماء الله هو الله ، وأما الرب فإنه قد يطلق على غيره ، قال تعالى : {ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} فما السبب في أنه تعالى عند الأمر بالتعوذ لم يقل : أعوذ بالله بل قال : {بِرَبِّ الْفَلَقِ} ؟
وأجابوا عنه من وجوه : أحدها : أنه في قوله : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} إنما أمره بالاستعاذة هناك لأجل قراءة القرآن ، وإنما أمره بالاستعاذة ههنا في هذه السورة لأجل حفظ النفس والبدن عن السحر ، والمهم الأول أعظم ، فلا جرم ذلك هناك الاسم الأعظم وثانيها : أن الشيطان يبالغ حال منعك من العبادة أشد مبالغة في إيصال الضر إلى بدنك وروحك ، فلا جرم ذكر الاسم الأعظم هناك دون ههنا وثالثها : أن اسم الرب يشير إلى التربية فكأنه جعل تربية الله له فيما تقدم وسيلة إلى تربيته له في الزمان الآتي ، أو كان العبد يقول : التربية والإحسان حرفتك فلا تهملني ، ولا تخيب رجائي ورابعها : أن بالتربية صار شارعاً في الإحسان ، والشروع ملزم وخامسها : أن هذه السورة آخر سور القرآن فذكر لفظ الرب تنبيهاً على أنه سبحانه لا تنقطع عنك تربيته وإحسانه ، فإن قيل : إنه ختم القرآن على اسم الإله حيث قال : {مَلِكِ النَّاسِ * إِلَـاهِ النَّاسِ} قلنا : فيه لطيفة وهي كونه تعالى قال : قل أعوذ بمن هو ربي ولكنه إله قاهر لوسوسة الخناس فهو كالأب المشفق الذي يقول ارجع عند مهماتك إلى أبيك المشفق عليك الذي هو كالسيف القاطع والنار المحرقة لأعدائك فيكون هذا من أعظم أنواع الوعد بالإحسان والتربية وسادسها : كان الحق قال لمحمد عليه السلام : قلبك لي فلا تدخل فيه حب غيري ، ولسانك لي فلا نذكر به أحداً غيري ، وبدنك لي فلا تشغله بخدمة غيري ، وإن أردت شيئاً فلا تطلبه إلا مني ، فإن أردت العلم فقل : {رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} وإن أردت الدنيا فاسألوا الله من فضله ، وإن خفت ضرراً فقل : {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فإني أنا الذي وصفت نفسي بأني خالق اوصباح. وبأني فالق الحب والنوى ، وما فعلت هذه الأشياء إلا لأجلك ، فإذا كنت أفعل كل هذه الأمور لأجلك ، أفلا أصونك عن عن الآفات والمخافات.
جزء : 32 رقم الصفحة : 375
(1/4900)

المسألة الرابعة : ذكروا في : {الْفَلَقِ} وجوهاً أحدها : أنه الصبح وهو قول الأكثرين قال الزجاج : لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وتخصيصه في التعوذ لوجوه الأول : أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه الثاني : أن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج ، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقياً لطلوع صباح النجاح الثالث : أن الصبح كالبشري فإن الإنسان في الظلام يكون كلحم على وضم ، فإذا ظهر الصبح فكأنه صاح بالأمان وبشر بالفرج ، فلهذا السبب يجد كل مريض ومهموم خفة في وقت السحر ، فالحق سبحانه يقول : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ} يعطي إنعام فلق الصبح قبل السؤال ، فكيف بعد السؤال الرابع : قال بعضهم : إن يوسف عليه السلام لما ألقى في الجب وجعت ركبته وجعاً شديداً فبات ليلته ساهراً فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل عليه السلام بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعوا ربه فقال : يا جبريل ادع أنت وأؤمن أنا فدعا جبريل وأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضر ، فلما طاب وقت يوسف قال جبريل : وأنا أدعو أيضاً / وتؤمن أنت ، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت ، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل ، وروى أن دعاءه في الجب : يا عدتي في شدتي ويا مؤنسي في وحشتي ويا راحم غربتي ويا كاشف كربتي ويا مجيب دعوتي ، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قوم يا ذا الجلال والإكرام الخامس : لعل تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين فكأنه يقول : قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم السادس : يحتمل أنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور ، ثم منهم من يخرج من داره مفلساً عرياناً لا يلتفت إليه ، ومنهم من كان مديوناً فيجر إلى الحبس ، ومنهم من كان ملكاً مطاعاً فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه ، كذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى يجر إلى الملك الجبار ، ومن عبد كان مطيعاً لربه في الدنيا فصار ملكاً مطاعاً في العقبى يقدم إليه البراق السابع : يحتمل أنه تعالى خص الصبح بالذكر لأنه وقت الصلاة الجامعة لأحوال القيامة فالقيام في الصلاة يذكر القيام يوم القيامة كما قال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 375
(1/4901)

{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} والقراءة في الصلاة تذكر قراءة الكتب والركوع في الصلاة يذكر من القيامة قوله : {نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ} والسجود في الصلاة يذكر قوله : {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} والقعود يذكر قوله : {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } فكان العبد يقول : إلهي كما خلصتني من ظلمة الليل فخلصني من هذه الأهوال ، وإنما خص وقت صلاة الصبح لأن لها مزيد شرف على ما قال : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى } أي تحضرها ملائكة الليل والنهار الثامن : أنه وقت الاستغفار والتضرع على ما قال : {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ} القول الثاني : في الفلق أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات : {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } والجبال عن العيون : {لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَـارُ } والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد والبيض عن الفرخ والقلوب عن المعارف ، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انقلاب ، بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود ، وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع ، فهذا هو المراد من الفلق ، وهذا التأويل أقرب من وجوه أحدها : هو أن الموجود إما الخالق وإما الخلق/ فإذا فسرنا الفلق بهذا التفسير صار كأنه قال : قل أعوذ برب جميع الممكنات ، ومكون كل المحدثات والمبدعات. فيكون التعظيم فيه أعظم ، ويكون الصبح أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى وثانيها : أن كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته ، والممكن لذاته يكون موجوداً بغيره ، معدوماً في حد ذاته ، فإذن كل ممكن فلا بد له من مؤثر يؤثر فيه حال حدوثه ويبقيه حال بقائه ، فإن الممكن حال بقائه يفتقر إلى المؤثر والتربية ، إشارة لا إلى حال الحدوث بل إلى حال البقاء ، فكأنه يقول : إنك لست محتاجاً إلى حال /الحدوث فقط بل في حال الحدوث وحال البقاء معاً في الذات وفي جميع الصفات ، فقوله : {بِرَبِّ الْفَلَقِ} يدل على احتياج كل ما عداه إليه حالتي الحدوث والبقاء في الماهية والوجود بحسب الذوات والصفات وسر التوحيد لا يصفو عن شوائب الشرك إلا عند مشاهدة هذه المعاني ، وثالثها : أن التصوير والتكوين في الظلمة أصعب منه في النور ، فكأنه يقول : أنا الذي أفعل ما أفعله قبل طلوع الأنوار وظهور الأضواء ومثل ذلك مما لا يتأتى إلا بالعلم التام والحكمة البالغة وإليه الإشارة بقوله : {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُا لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 375
القول الثالث : أنه واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان ، وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرآى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال لا أبالي ، أليس من ورائهم الفلق ، فقيل : وما الفلق ؟
قال : بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، وإنما خصه بالذكر ههنا لأنه هو القادر على مثل هذا التعذيب اعظيم الخارج عن حد أوهام الخلق ، ثم قد ثبت أن رحمته أعظم وأكمل وأتم من عذابه ، فكأنه يقول : يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأتم وأسبق وأقدم من عذابك.
جزء : 32 رقم الصفحة : 375
376
قوله تعالى : {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} وفيه مسألتان :
(1/4902)

المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية وجوه أحدها : قال عطاء عن ابن عباس : يريد إبليس خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقاً هو شر منه ولأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السحر ، وذلك إنما يتم بإبليس وبأعوانه وجنوده وثانيها : يريد جهنم كأنه يقول : قل أعوذ برب جهنم ومن شدائد ما خلق فيها وثالثها : {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} يريد من شر أصناف الحيوانات المؤذياب كالسباع والهوام وغيرهما ، ويجوز أن يدخل فيه من يؤذيني من الجن والإنس أيضاً ووصف أفعالها بأنها شر ، وإنما جاز إدخال الجن والإنسان تحت لفظة ما ، لأن الغلبة لما حصلت في جانب غير العقلاء حسن استعمال لفظة ما فيه ، لأن العبرة بالأغلب أيضاً ويدخل فيه شرور الأطعمة الممرضة وشرور الماء والنار ، فإن قيل الآلام الحاصلة عقيب الماء والنار ولدغ الحية والعقرب حاصلة بخلق الله تعالى ابتداء ، على قول أكثر المتكلمين ، أو متولدة من قوى خلقها الله تعالى في هذه الأجرام ، على ما هو قول جمهور الحكماء وبعض المتكلمين ، وعلى التقديرين فيصير حاصل الآية أنه تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يستعيذ بالله من الله ، فما معناه ؟
قلنا : وأي بأس بذلك ، ولقد صرح عليه السلام بذلك ، فقال : "وأعوذ بك منك" ورابعها : أراد به ما خلق من الأمراض والأسقام والقحط وأنواع المحن والآفات ، وزعم الجبائي والقاضي أن هذا التفسير باطل ، لأن فعل الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شر ، قالوا : / ويدل عليه وجوه الأول : أنه يلزم على هذا التقدير أن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمرنا أن نتعوذ به ، وذلك متناقض والثاني : أن أفعال الله كلها حكمة وصواب ، وذلك لا يجوز أن يقال : إنه شر والثالث : أن فعل الله لو كان شراً لوصف فاعله بأنه شرير ويتعالى الله عن ذلك والجواب : عن الأول أنا بينا أنه لا امتناع في قوله أعوذ بك منك ؟
وعن الثاني أن الإنسان لما تألم به فإنه يعد شراً ، فورد اللفظ على وفق قوله ، كما في قوله : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وقوله : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وعن الثالث أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ، ثم الذي يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى : {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} وقوله : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} وكان عليه السلام : "وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار".
جزء : 32 رقم الصفحة : 376
المسألة الثانية : طعن بعض الملحدة في قوله : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} من وجوه أحدها : أن المستعاذ منه أهو واقع بقضاء الله وقدره ، أولاً بقضاء الله ولا بقدره ؟
فإن كان الأول فكيف أمر بأن يستعيذ بالله منه ، وذلك لأن ما قضى الله به وقدره فهو واقع ، فكأنه تعالى يقول : الشيء الذي قضيت بوقوعه ، وهو لا بد واقع فاستعذ بي منه حتى لا أوقعه ، وإن لم يكن بقضائه وقدره فذلك يقدح في ملك الله وملكوته وثانيها : أن المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فلا دافع له ، فلا فائدة في الاستعاذة وإن كان معلوم اللاوقوع ، فلا حاجة إلى الاستعاذة وثالثها : أن المستعاذ منه إن كان مصلحة فكيف رغب المكلف في طلب دفعه ومنعه ، وإن كان مفسدة فكيف خلقه وقدره ، واعلم أن الجواب عن أمثال هذه الشبهات ، أن يقال إنه : {لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وقد تكرر هذا الكلام في هذا الكتاب.
جزء : 32 رقم الصفحة : 376
376
قوله تعالى : {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ذكروا في الغاسق وجوهاً أحدها : أن الغاسق هو اليل إذا عظم ظلامه من قوله : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ} ومنه غسقت العين إذا امتلأت دمعاً وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً ، وهذا قول الفراء وأبي عبيدة ، وأنشد ابن قيس :
إن هذا الليل قد غسقا
واشتكيت الهم والأرقا
(1/4903)

وقال الزجاج الغاسق في اللغة هو البارد ، وسمي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار ، ومنه قوله إنه الزمهرير وثالثها : قال قوم : الغاسق والغساق هو السائل من قولهم : غسقت العين تغسق غسقاً إذا سالت بالماء ، وسمي الليل غاسقاً لانصباب ظلامه على الأرض ، أما الوقوب فهو الدخول في شيء آخر بحيث يغيب عن العين ، يقال : وقب يقب وقوباً إذا دخل ، الوقبة النقرة لأنه يدخل فيها الماء ، والإيقاب إدخال الشيء في الوقبة ، هذا ما يتعلق باللغة وللمفسرين في الآية أقوال : / أحدها : أن الغاسق إذا وقب هو الليل إذا دخل ، وإنما أمر أن يتعوذ من شر الليل لأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من مكانها ، ويهجم السارق والمكابر ويقع الحريق ويقل فيه الغوث ، ولذلك لو شهر (معتد) سلاحاً على إنسان ليلاً فقتله المشهور عليه لا يلزمه قصاص ، ولو كان نهاراً يلزمه لأنه يوجد فيه الغوث ، وقال قوم : إن في الليل تنتشر الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين ، وذلك لأن قوة شعاع الشمس كأنها تقهرهم ، أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء وثانيها : أن الغاسق إذا وقب هو القمر ، قال ابن قتيبة : الغاسق القمر سمي به لأنه يكسف فيغسق ، أي يذهب ضؤوه ويسود ، (و) وقوبه دخوله في ذلك الاسوداد ، روى أبو سلمة عن عائشة أنه أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيدها وأشار إلى القمر ، وقال : "استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب" قال ابن قتيبة : ومعنى قوله : تعوذي بالله من شره إذا وقب أي إذا دخل في الكسوف ، وعندي فيه وجه آخر : وهو أنه صح أن القمر في جرمه غير مستنير بل هو مظلم ، فهذا هو المراد من كونه غاسقاً ، وأما وقوبه فهو انمحاء نوره في آخر الشهر ، والمنجمون يقولون : إنه في آخر الشهر يكون منحوساً قليل القوة لأنه لا يزال ينتقص نوره فبسبب ذلك تزداد نحوسته ، ولذلك فإن السحرة إنما يشتغلون بالسحر المورث للتمريض في هذا الوقت ، وهذا مناسب لسبب نزول السورة فإنها إنما نزلت لأجل أنهم سحروا النبي صلى الله عليه وسلّم لأجل التمريض وثالثها : قال ابن زيد : الغاسق إذا وقب يعني الثريا إذا سقطت قال ، وكانت الأسقام تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها ، وعلى هذا تسمى الثريا غاسقاً ، لانصبابه عند وقوعه في المغرب ، ووقوبه دخوله تحت الأرض وغيبوبته عن الأعين ورابعها : قال صاحب الكشاف : يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقوبه ضربة ونقبه ، والوقب والنقب واحد ، واعلم أن هذا التأويل أضعف الوجوه المذكورة وخامسها : الغاسق : {إِذَا وَقَبَ} هو الشمس إذا غابت وإنما سميت غاسقاً لأنها في الفلك تسبح فسمي حركتها وجريانها بالغسق ، ووقوبها غيبتها ودخلولها تحت الأرض.
جزء : 32 رقم الصفحة : 376
377
قوله تعالى : {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : أن النفث النفخ مع ريق ، هكذا قاله صاحب الكشاف ، ومنهم من قال : إنه النفخ فقط ، ومنه قوله عليه السلام : إن جبريل نفث في روعي والعقد جمع عقدة ، والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطاً ، ولا يزال يعقد عليه عقداً بعد عقد وينفث في تلك العقد ، وإنما أنت النفاثات لوجوه أحدها : أن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن ، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر وإحكام الهمة والوهم فيه ، وذلك إنما يتأتى من النساء لقلة علمهن وشدة شهوتهن ، فلا جرم كان / هذا العمل منهن أقوى ، قال أبو عبيدة : {النَّفَّاثَاتِ} هن بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي صلى الله عليه وسلّم وثانيها : أن المراد من : {النَّفَّاثَاتِ} النفوس وثالثها : المراد منها الجماعات ، وذلك لأنه كلما كان اجتماع السحرة على العمل الواحد أكثر كان التأثير أشد القول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم : {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} أي النساء في العقد ، أي في عزائم الرجال وآرائهم وهو مستعار من عقد الحبال ، والنقث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلاً ، فمعنى الآية أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ، ومن عزيمة إلى عزيمة ، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن كقوله : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } فلذلك عظم الله كيدهن فقال : {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} .
واعلم أن هذا القول حسن ، لولا أنه على خلاف قول أكثر المفسرين.
المسألة الثالثة : أنكرت المعتزلة تأثير السحر ، وقد تقدمت هذه المسألة ، ثم قالوا : سبب الاستعاذة من شرهن لثلاثة أوجه أحدها : أن يستعاذ من إثم عملهن في السحر والثاني : أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن والثالث : أن يستعاذ من إطعامهن الأطعمة الرديئة المورثة للجنون والموت.
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
377

قوله تعالى : {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} من المعلوم أن الحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه ، ولا يكاد يكون كذلك إلا ولو تمكن من ذلك بالحيل لفعل ، فلذلك أمر الله بالتعوذ منه ، وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوفى ويتحرز منه ديناً وديناً ، فلذلك لما نزلت فرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنزولها لكونها مع ما يليها جامعة في التعوذ لكل أمر ، ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهاره أثره. بقي هنا سؤالان :
السؤال الأول : قوله : {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} عام في كل ما يستعاذ منه ، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد الجواب : تنبيهاً على أن هذه الشرور أعظم أنواع الشر.
السؤال الثاني : لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه ؟
الجواب : عرف النفاثات لأن كل نفاثة شريرة ، ونكر غاسقاً لأنه ليس كل غاسق شريراً ، وأيضاً ليس كل حاسد شريراً ، بل رب حسد يكون محموداً وهو الحسد في الخيرات.
والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
377
(1/4904)

سورة الناس
وهي ست آيات مدنية
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
0
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَاهِ النَّاسِ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء : {قُلْ أَعُوذُ} بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ونظيره : {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} وأيضاً أجمع القراء على ترك الإمالة في الناس ، وروى عن الكسائي الإمالة في الناس إذا كان في موضع الخفض.
المسألة الثانية : أنه تعالى رب جميع المحدثات ، ولكنه ههنا ذكر أنه رب الناس على التخصيص وذلك لوجوه أحدها : أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلهم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم وثانيها : أن أشرف المخلوقات في العالم هم الناس وثالثها : أن المأمور بالاستعاذة هو الإنسان ، فإذا قرأ الإنسان هذه صار كأنه يقول : يا رب يا ملكي يا إلهي.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {مَلِكِ النَّاسِ * إِلَاهِ النَّاسِ} هما عطف بيان كقوله : سيرة أبي حفص عمر الفاروق ، فوصف أولاً بأنه رب الناس ثم الرب قد يكون ملكاً وقد لا يكون ، كما يقال : رب الدار ورب المتاع قال تعالى : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} فلا جرم بينه بقوله : {مَلِكِ النَّاسِ} ثم الملك قد يكون إلهاً وقد لا يكون فلا جرم بينه بقوله : {إِلَاهِ النَّاسِ} لأن الإله خاص به وهو سبحانه لا يشركه فيه غيره وأيضاً بدأ بذكر الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه ، وهو من أوائل نعمه إلى أن رباه وأعطاه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو ملكه ، فثنى بذكر الملك ، ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه ، وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه إله ، فلهذا ختم به ، وأيضاً أول ما يعرف العبد من ربه كونه مطيعاً لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة ، وهذا هو الرب ، ثم لا يزال يتنقل من معرفة هذه الصفات / إلى معرفة جلالته واستغنائه عن الخلق ، فحينئذ يحصل العلم بكونه ملكاً ، لأن الملك هو الذي يفتقر إليه غيره ويكون هو غنياً عن غيره ، ثم إذا عرفه العبد كذلك عرف أنه في الجلالة والكبرياء فوق وصف الواصفين وأنه هو الذي ولهت العقول في عزته وعظمته ، فحينئذ يعرفه إلهاً.
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
المسألة الرابعة : السبب في تكرير لفظ الناس أنه إنما تكررت هذه الصفات ، لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار ، ولأن هذا التكرير يقتضي مزيد شرف الناس ، لأنه سبحانه كأنه عرف ذاته بكونه رباً للناس ، ملكاً للناس ، إلهاً للناس. ولولا أن الناس أشر مخلوقاته وإلا لما ختم كتابه بتعريف ذاته بكونه رباً وملكاً وإلهاً لهم.
المسألة الخامسة : لا يجوز ههنا مالك الناس ويجوز : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} في سورة الفاتحة ، والفرق أن قوله : {بِرَبِّ النَّاسِ} أفاد كونه مالكاً لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ليفيد أنه مالك ومع كونه مالكاً فهو ملك ، فإن قيل : أليس قال في سورة الفاتحة : {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم قال : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فليزم وقوع التكرار هناك ؟
قلنا اللفظ دل على أنه رب العالمين ، وهي الأشياء الموجودة في الحال ، وعلى أنه مالك ليوم الدين أي قادر عليه فهناك الرب مضاف إلى شيء والمالك إلى شيء آخر فلم يلزم التكرير ، وأما ههنا لو ذكر المالك لكان الرب والمالك مضافين إلى شيء واحد ، فيلزم منه التكرير فظهر الفرق ، وأيضاً فجواز القراءات يتبع النزول لا القياس ، وقد قرىء مالك لكن في الشواذ.
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
0
(1/4905)

قوله تعالى : {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} الوسواس اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر ، كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه ، نظيره قوله : {إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } والمراد ذو الوسواس وتحقيق الكلام في الوسوسة قد تقدم في قوله : {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} وأما الخناس فهو الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والنفاثات ، عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى ، فإذا غفل وسوس إليه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
0
قوله تعالى : {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} .
اعلم أن قوله : {الَّذِى يُوَسْوِسُ} يجوز في محله الحركات الثلاث فالجر على الصفة والرفع والنصب على الشتم ، ويحسن أن يقف القارىء على الخناس ويبتدىء الذي يوسوس ، على أحد هذين الوجهين.
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
0
أما قوله تعالى : {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} ففيه وجوه :
أحدها : كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال : {شَيَاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ} وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك ، وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق ، فإن زجره السامع يخنس ، ويترك الوسوسة ، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه وثانيها : قال قوم قوله : {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قسمان مندرجان تحت قوله في : {صُدُورِ النَّاسِ} كأن القدر المشترك بين الجن والإنس ، يسمى إنساناً والإنسان أيضاً يسمى إنساناً فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالاشتراك ، والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه الجن والإنس ما روى أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم : من أنتم فقالوا : أناس من الجن ، أيضاً قد سماهم الله رجالاً في قوله : {وَأَنَّه كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} فجاز أيضاً أن يسميهم ههنا ناساً ، فمعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس شديد الخنث لا يقتصر على إضلال الإنس بل يضل جنسه وهم الجن ، فجدير أن يحذر العاقل شره ، وهذا القول ضعيف ، لأن جعل الإنسان اسماً للجنس الذي يندرج فيه الجن والإنس بعيد من اللغة لأن الجن سموا جناً لاجتنانهم والإنسان إنساناً لظهوره من الإيناس وهو الإبصار ، وقال صاحب الكشاف : من أراد تقرير هذا الوجه ، فالأولى أن يقول : المراد من قوله : {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} أي في صدور الناس كقوله : {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وإذا كان المراد من الناس الناسي ، فحينئذ يمكن تقسيمه إلى الجن والإنس لأنهما هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى وثالثها : أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد ، ثم استعاذ بربه من الجميع الجنة والناس.
واعلم أن هذه السورة لطيفة أخرى : وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد ، وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة : وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب ، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين ، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت : أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 377
تم الكتاب والحمد لله أولا وآخر وظاهرا وباطنا.
(1/4906)