الكتاب : تفسير الفخر الرازى ـ موافق للمطبوع
المؤلف : محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي أبو عبد الله فخر الدين ولد بالري من أعمال فارس من تصانيفه الكثيرة: مفاتيح الغيب من القرآن الكريم.
عدد الأجزاء / 32
دار النشر / دار إحياء التراث العربى
تنبيه
أولا : الكتاب موافق للمطبوع
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات
ثالثا : الترقيم لذيل الصفحات وليس لأولها
رابعا : ترقيم الشاملة للكتاب آلى
وأما السؤال الثاني : فالجواب عنه ما ذكرنا أن المحققين قالوا : القسم بهذه الأشياء قسم بربها وخالقها في الحقيقة ، فكأنه قيل : أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة.
/ وأما السؤال الثالث : فجوابه أنه حيث أقسم قال : {وَالطُّورِ} {وَالذَّارِيَـاتِ} (الذاريات : 1) وأما ههنا فإنه نفي كونه تعالى مقسماً بهذه الأشياء ، فزال السؤال والله تعالى أعلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 722
723
فيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في جواب القسم وجوهاً أحدها : وهو قول الجمهور أنه محذوف على تقدير ليبعثن ويدل عليه {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } ، وثانيها : قال الحسن : وقع القسم على قوله : {بَلَى قَـادِرِينَ} ، وثالثها : وهو أقرب أن هذا ليس بقسم بل هو نفي للقسم فلا يحتاج إلى الجواب ، فكأنه تعالى يقول : لا أقسم بكذا وكذا على شيء ، ولكني أسألك {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } .
المسألة الثانية : المشهور أن المراد من الإنسان إنسان معين ، روي أن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق ، وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول فيهما : "اللهم اكفني شر جاري السوء" قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن بك كيف يجمع الله العظام ؟
فنزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : يريد الإنسان ههنا أبا جهل ، وقال جمع من الأصوليين : بل المراد بالإنسان المكذب بالبعث على الإطلاق.
المسألة الثالثة : قرأ قتادة : {أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } على البناء للمفعول ، والمعنى أن الكافر ظن أن العظام بعد تفرقها وصيرورتها تراباً واختلاط تلك الأجزاء بغيرها وبعدما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض لا يمكن جمعها مرة أخرى وقال تعالى في جوابه : {بَلَى } فهذه الكلمة أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع ، فكأنه قيل : بل يجمعها ، وفي قوله : {قَـادِرِينَ} وجهان الأول : وهو المشهور أنه حال من الضمير في نجمع أي نجمع العظام قادرين على تأليفها جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول وهذا الوجه عندي فيه إشكال وهو أن الحال إنما يحسن ذكره إذا أمكن وقوع ذلك الأمر لا على تلك الحالة تقول : رأيت زيداً راكباً لأنه يمكن أن نرى زيد غير راكب ، وههنا كونه تعالى جامعاً للعظام يستحيل وقوعه إلا مع كونه قادراً ، فكان جعله حالاً جارياً مجرى بيان الواضحات ، وإنه غير جائز والثاني : أن تقدير الآية كنا قادرين على أن نسوي بنانه في الإبتداء فوجب أن نبقي قادرين على تلك التسوية في الانتهاء ، وقرىء قادرون أي ونحن قادرون ، وفي قوله : {عَلَى ا أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَه } وجوه : أحدها : أنه نبه بالبنان على بقية الأعضاء ، أي نقدر على أن نسوي بنانه / بعد صيرورته تراباً كما كان ، وتحقيقه أن من قدر على الشيء في الابتداء قدر أيضاً عليه في الإعادة وإنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم خلقه ، فكأنه قيل : نقدر على ضم سلاماته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولاً من غير نقصان ولا تفاوت ، فكيف القول في كبار العظام وثانيها : بلى قادرين على أن نسوي بنانه أي نجعلها مع كفه صفيحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير ، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وسائر الأعمال اللطيفة التي يستعان عليها بالأصابع ، والقول الأول أقرب إلى الصواب.
جزء : 30 رقم الصفحة : 723
725
اعلم أن قوله : {بَلْ يُرِيدُ} عطف على أيحسب ، فيجوز فيه أن يكون أيضاً استفهاماً كأنه استفهم عن شيء ثم استفهم عن شيء آخر ، ويجوز أن يكون إيجاباً كأنه استفهم أولاً ثم أتى بهذا الإخبار ثانياً. وقوله : {لِيَفْجُرَ أَمَامَه } فيه قولان : الأول : أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه ، وعن سعيد بن جبير : يقدم الذنب ويؤخر التوبة ، يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله القول الثاني : ليفجر أمامه ، أي ليكذب بما أمامه من البعث والحساب ، لأن من كذب حقاً كان كاذباً وفاجراً ، والدليل عليه قوله : {يَسْـاَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 6) فالمعنى يريد الإنسان ليفجر أمامه ، أي ليكذب بيوم القيامة وهو أمامه ، فهو يسأل أيان يوم القيامة ، متى يكون ذلك تكذيباً له.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 725
725
(1/4593)
أي يسأل سؤال مستنعت مستبعد لقيام الساعة ، في قوله : أيان يوم القيامة ، ونظيره يقولون : متى هذا الوعد : واعلم أن إنكار البعث تارة يتولد من الشبهة وأخرى من الشهوة ، أما من الشبهة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } (القيامة : 3) وتقريره أن الإنسان هو هذا البدن فإذا مات تفرقت أجزاء البدن واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء التراب وتفرقت في مشارق الأرض ومغاربها فكان تمييزها بعد ذلك عن غيرها محالاً فكان البعث محالاً ، واعلم أن هذه الشبهة ساقطة من وجهين الأول : لا نسلم أن الإنسان هو هذا البدن فلم لا يجوز أن يقال : إنه شيء مدبر لهذا البدن فإذا فسد هذا البدن بقي هو حياً كما كان. وحينئذ يكون الله تعالى قادراً على أن يرده إلى أي بدن شاء وأراد ، وعلى هذا القول يسقط السؤال ، وفي الآية إشارة إلى هذا لأنه أقسم بالنفس اللوامة ، ثم قال : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن الثاني : إن سلمنا أن الإنسان هو هذا البدن فلم قلتم : إنه بعد تفريق أجزائه لا يمكن جمعه مرة أخرى وذلك لأنه تعالى عالم بجميع الجزئيات فيكون عالماً بالجزء الذي هو بدن عمرو ، وهو تعالى قادر على كل الممكنات وذلك التركيب من / الممكنات وإلا لما وجد أولاً ، فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها. ومتى ثبت كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات قادراً على جميع الممكنات لا يبقى في المسألة إشكال.
وأما القسم الثاني : وهو إنكار من أنكر المعاد بناء على الشهوة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله : {بَلْ يُرِيدُ الانسَـانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَه } (القيامة : 5) ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات والاستكثار من اللذات لا يكاد يقر بالحشر والنشر وبعث الأموات لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية فيكون أبداً منكراً لذلك قائلاً على سبيل الهزؤ والسخرية أيان يوم القيامة.
ثم إنه تعالى ذكر علامات القيامة فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 725
725
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر من علامات القيامة في هذا الموضع أموراً ثلاثة أولها : قوله : {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} قرىء بكسر الراء وفتحها ، قال الأخفش : المكسورة في كلامهم أكثر والمفتوحة لغة أيضاً ، قال الزجاج : برق بصره بكسر الراء يبرق برقاً إذا تحير ، والأصل فيه أن يكثر الإنسان من النظر إلى لمعان البرق ، فيؤثر ذلك في ناظره ، ثم يستعمل ذلك في كل حيرة ، وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق ، كما قالوا : قمر بصره إذا فسد من النظر إلى القمر ، ثم استعير في الحيرة ، وكذلك بعل الرجل في أمره ، أي تحير ودهش ، وأصله من قولهم : بعلت المرأة إذا فاجأها زوجها ، فنظرت إليه وتحيرت ، وأما برق بفتح الراء ، فهو من البريق ، أي لمع من شدة شخوصه ، وقرأ أبو السمال بلق بمعنى انفتح ، وانفتح يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته فتحته.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذه الحالة متى تحصل ؟
فقيل : عند الموت ، وقيل : عند البعث وقيل : عند رؤية جهنم ، فمن قال : إن هذا يكون عند الموت ، قال : إن البصر يبرق على معنى يشخص عند معاينة أسباب الموت ، والملائكة كما يوجد ذلك في كل واحد إذا قرب موته ، ومن مال إلى هذا التأويل ، قال : إنهم إنما سألوه عن يوم القيامة ، لكنه تعالى ذكر هذه الحادثة عند الموت والسبب فيه من وجهين : الأول : أن المنكر لما قال : {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 6) على سبيل الاستهزاء فقيل له : إذا برق البصر وقرب الموت زالت عنه الشكوك ، وتيقن حينئذ أن الذي كان عليه من إنكار البعث والقيامة خطأ الثاني : أنه إذا قرب موته وبرق بصره تيقن أن إنكار البعث لأجل طلب اللذات الدنيوية كان باطلاً ، وأما من قال بأن ذلك إنما يكون عند قيام القيامة ، قال : لأن السؤال إنما كان عن يوم القيامة ، فوجب أن يقع الجواب بما يكون من خواصه / وآثاره ، قال تعالى : {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ} (إبراهيم : 41) ، وثانيها : قوله : {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : يحتمل أن يكون المراد من خسوف القمر ذهاب ضوئه كما نعقله من حاله إذا خسف في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المراد ذهابه بنفسه كقوله : {فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ} (القصص : 81).
جزء : 30 رقم الصفحة : 725
المسألة الثانية : قرىء : {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (يس : 40) على البناء للمفعول وثالثها : قوله : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وفيه مسائل :
(1/4594)
المسألة الأولى : ذكروا في كيفية الجمع وجوهاً أحدها : أنه تعالى قال : {لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} فإذا جاء وقت القيامة أدرك كل واحد منهما صاحبه واجتمعا وثانيها : جمعا في ذهاب الضوء ، فهو كما يقال : الشافعي يجمع ما بين كذا وكذا في حكم كذا وثالثها : يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار ، وقيل : يجمعان ثم يقذفان في البحر ، فهناك نار الله الكبرى واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها في قوله ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر إنما تستقيم على مذهب من يجعل برق البصر من علامات القيامة ، فأما من يجعل برق البصر من علامات الموت قال معنى : {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي ذهب ضوء البصر عند الموت ، يقال عين خاسفة ، إذا فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس ، وأصلها من خسفت الأرض إذا ساخت بما عليها ، وقوله : {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} كناية عن ذهاب الروح إلى عالم الآخرة/ كأن الآخرة كالشمس ، فإنه يظهر فيها المغيبات وتتضح فيها المبهمات ، والروح كالقمر فإنه كما أن القمر يقبل النور من الشمس ، فكذا الروح تقبل نور المعارف من عالم الآخرة ، ولا شك أن تفسير هذه الآيات بعلامات القيامة أولى من تفسيرها بعلامات الموت وأشد مطابقة لها.
المسألة الثانية : قال الفراء : إنما قال جمع ، ولم يقل : جمعت لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور وذهاب الضوء ، وقال الكسائي ، المعنى جمع النوران أو الضياءان ، وقال أبو عبيدة ، القمر شارك الشمس في الجمع ، وهو مذكر ، فلا جرم غلب جانب التذكير في اللفظ ، قال الفراء ، قلت : لمن نصر هذا القول : كيف تقولون : الشمس جمع والقمر ؟
فقالوا : جمعت ، فقلت ما الفرق بين الموضعين ؟
فرجع عن هذا القول.
المسألة الثالثة : طعنت الملاحدة في الآية ، وقالوا : خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر والجواب : الله تعالى قادر على أن يجعل القمر منخسفاً ، سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس ، أو لم تكن ، والدليل عليه أن الأجسام متماثلة ، فيصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، والله قادر على كل الممكنات ، فوجب أن يقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال.
جزء : 30 رقم الصفحة : 725
قوله تعالى : {يَقُولُ الانسَـانُ يَوْمَـاـاِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أي يقول هذا الإنسان المنكر للقيامة إذا / عاين هذه الأحوال أين المفر ، والقراءة المشهورة بفتح الفاء ، وقرىء أيضاً بكسر الفاء ، والمفر بفتح الفاء هو الفرار ، قال الأخفش والزجاج : المصدر من فعل يفعل مفتوح العين. وهو قول جمهور أهل اللغة ، والمعنى أين الفرار ، وقول القائل : أين الفرار يحتمل معنيين أحدهما : أنه لا يرى علامات مكنة الفرار فيقول حينئذ : أين الفرار ، كما إذا أيس من وجدان زيد يقول : أين زيد والثاني : أن يكون المعنى إلى أين الفرار ، وأما المفر بكسر الفاء فهو الموضع ، فزعم بعض أهل اللغة أن المفر بفتح الفاء كما يكون اسماً للمصدر ، فقد يكون أيضاً اسماً للموضع والمفر بكسر الفاء كما يكون اسماً للموضع ، فقد يكون مصدراً ونظيره المرجع.
جزء : 30 رقم الصفحة : 725
725
قوله تعالى : {كَلا} وهو ردع عن طلب المفر {لا وَزَرَ} قال المبرد والزجاج : أصل الوزر الجبل المنيع ، ثم يقال : لكل ما التجأت إليه وتحصنت به وزر ، وأنشد المبرد قول كعب بن مالك :
الناس آلت علينا فيك ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ومعنى الآية أنه لا شيء يعتصم به من أمر الله.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 725
726
وفيه وجهان أحدهما : أن يكون المستقر بمعنى الاستقرار ، بمعنى أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره ، وينصبوا إلى غيره ، كما قال : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } (العلق : 8) {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (النور : 42) {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} (الشورى : 53) {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } (النجم : 12) الثاني : أن يكون المعنى إلى ربك مستقرهم ، أي موضع قرارهم من جنة أو نار ، أي مفوض ذلك إلى مشيئته من شاء أدخله الجنة ، ومن شاء أدخله النار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 726
726
بما قدم من عمل عمله ، وبما أخر من عمل لم يعمله ، أو بما قدم من ماله فتصدق به وبما أخره فخلفه ، أو بما قدم من عمل الخير والشر وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة ، فعمل بها بعده ، وعن مجاهد أنه مفسر بأول العمل وآخره ، ونظيره قوله : {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ا أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه } (المجادلة : 6) وقال : {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ } (يس : 12) واعلم أن الأظهر أن هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند العرض ، والمحاسبة ووزن الأعمال ، ويجوز أن يكون عند الموت وذلك أنه إذا مات بين له مقعده من الجنة والنار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 726
728
(1/4595)
اعلم أنه تعالى لما قال : {خَلَقَ الانسَـانَ} يومئذ بأعماله ، قال : بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غير غيره ، وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلاً لتلك الأفعال ، مقدماً عليها ، ثم في قوله : {بَصِيرَةٌ} وجهان الأول : قال الأخفش جعله في نفسه بصيرة كما يقال : فلان جود وكرم ، فههنا / أيضاً كذلك ، لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة ، وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة ، فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ، لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء والثاني : أن المراد جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه ، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل وهو كقوله : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم} (النور : 24) وقوله : {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} (يس : 36) وقوله : {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم} (فصلت : 20) فأما تأنيث البصيرة ، فيجوز أن يكون لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح كأنه قيل : بل جوارح الإنسان ، كأنه قيل بل جوارح الإنسان على نفس الإنسان بصيرة ، وقال أبو عبيدة هذه الهاء لأجل المبالغة كقوله : رجل راوية وطاغية وعلامة.
واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله. ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل ، فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 728
728
للمفسرين فيه أقوال : الأول : قال الواحدي : المعاذير جمع معذرة يقال : معذرة ومعاذر ومعاذير : قال صاحب "الكشاف" جمع المعذرة معاذر والمعاذير ليس جمع معذرة ، وإنما هو اسم جمع لها ، ونحوه المناكير في المنكر ، والمعنى أن الإنسان وإن اعتذر عن نفسه وجادل عنها وأتى بكل عذر وحجة ، فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه القول الثاني : قال الضحاك والسدي والفراء والمبرد والزجاج المعاذير الستور واحدها معذار ، قال المبرد : هي لغة يمانية ، قال صاحب "الكشاف" : إن صحت هذه الرواية فذاك مجاز من حيث إن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب ، والمعنى على هذا القول : أنه وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل ، فإن نفسه شاهدة عليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 728
729
فيه مسائل :
المسألة الأولى : زعم قوم من قدماء الروافض أن هذا القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص عنه ، واحتجوا عليه بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها : ولو كان هذا الترتيب من الله تعالى لما كان الأمر كذلك.
واعلم أن في بيان المناسبة وجوهاً أولها : يحتمل أن يكون الاستعجال المنهي عنه ، إنما اتفق للرسول عليه السلام عند إنزال هذه الآيات عليه ، فلا جرم. نهى عن ذلك الاستعجال في هذا الوقت ، وقيل له : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه } وهذا كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه / شيئاً ، فأخذ التلميذ يلتفت يميناً وشمالاً ، فيقول : المدرس في أثناء ذلك الدرس لا تلتفت يميناً وشمالاً ثم يعود إلى الدرس ، فإذا نقل ذلك الدرس مع هذا الكلام في أثنائه ، فمن لم يعرف السبب يقول : إن وقوع تلك الكلمة في أثناء ذلك الدرس غير مناسب ، لكن من عرف الواقعة علم أنه حسن الترتيب وثانيها : أنه تعالى نقل عن الكفار أنهم يحبون السعادة العاجلة ، وذلك هو قوله : {بَلْ يُرِيدُ الانسَـانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَه } (القيامة : 5) ثم بين أن التعجيل مذموم مطلقاً حتى التعجيل في أمور الدين ، فقال : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه } وقال في آخر الآية : {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} (القيامة : 20) ، وثالثها : أنه تعالى قال : {بَلِ الانسَـانُ عَلَى نَفْسِه بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه } (القيامة : 14 ـ 15) فههنا كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يظهر التعجيل في القراءة مع جبريل ، وكان يجعل العذر فيه خوف النسيان ، فكأنه قيل له : إنك إذا أتيت بهذا العذر لكنك تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هداية الله تعالى ، وهذا هو المراد من قوله : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَه وَقُرْءَانَه } (القيامة : 16 ـ 17) ورابعها : كأنه تعالى قال : يا محمد إن غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه وتبلغه إليهم لكن لا حاجة إلى هذا فإن {الانسَـانُ عَلَى نَفْسِه بَصِيرَةٌ} (القيامة : 14) وهم بقلوبهم يعلمون أن الذي هم عليه من الكفر وعبادة الأوثان ، وإنكار البعث منكر باطل ، فإذا كان غرضك من هذا التعجيل أن تعرفهم قبح ما هم عليه ، ثم إن هذه المعرفة حاصلة عندهم ، فحينئذ لم يبق لهذا التعجيل فائدة ، فلا جرم قال :
(1/4596)
جزء : 30 رقم الصفحة : 729
{لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ} وخامسها : أنه تعالى حكى عن الكافر أنه يقول : أين المفر ، ثم قال تعالى : {كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَـاـاِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (القيامة : 11 ـ 12) فالكافر كأنه كان يفر من الله تعالى إلى غيره فقيل : لمحمد إنك في طلب حفظ القرآن ، تستعين بالتكرار وهذا استعانة منك بغير الله ، فاترك هذه الطريقة ، واستعن في هذا الأمر بالله فكأنه قيل : إن الكافر يفر من الله إلى غيره ، وأما أنت فكن كالمضاد له فيجب أن تفر من غير الله إلى الله وأن تستعين في كل الأمور بالله ، حتى يحصل لك المقصود على ما قال : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَه وَقُرْءَانَه } (القيامة : 17) وقال في سورة أخرى : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه ا وَقُل رَّبِّ زِدْنِى} (طه : 114) أي لا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار بل اطلبه من الله تعالى وسادسها : ما ذكره القفال وهو أن قوله : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ} ليس خطاباً مع الرسول عليه السلام بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله : {يُنَبَّؤُا الانسَـانُ يَوْمَـاـاِذا بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة : 13) فكان ذلك للإنسان حال ما ينبأ بقبائح أفعاله وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له : {اقْرَأْ كِتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء : 14) فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به ، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال ، ثم إن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته ، وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية أن المراد منه أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله على سبيل التفصيل ، وفيه أشد الوعيد / في الدنيا وأشد التهويل في الآخرة ، ثم قال القفال : فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به.
المسألة الثانية : احتج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية ، فقال : إن ذلك الاستعجال إن كان بإذن الله تعالى فكيف نهاه عنه وإن كان لا بإذن الله تعالى فقد صدر الذنب عنه الجواب : لعل ذلك الاستعجال كان مأذوناً فيه إلى وقت النهي عنه ، ولا يبعد أن يكون الشيء مأذوناً فيه في وقت ثم يصير منهياً عنه في وقت آخر ، ولهذا السبب قلنا : يجوز النسخ.
جزء : 30 رقم الصفحة : 729
المسألة الثالثة : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشتد عليه حفظ التنزيل وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل مخافة أن لا يحفظ ، فأنزل تعالى : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ} أي بالوحي والتنزيل والقرآن ، وإنما جاز هذا الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه ، كما أضمر في قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) ونظير قوله : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه } (طه : 114) وقوله : {لِتَعْجَلَ بِه } أي لتعجل بأخذه.
أما قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 729
729
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : كلمة على للوجوب فقوله : إن علينا يدل على أن ذلك كالواجب على الله تعالى ، أما على مذهبنا فذلك الوجوب بحكم الوعد ، وأما على قول المعتزلة : فلأن المقصود من البعثة لا يتم إلا إذا كان الوحي محفوظاً مبرأ عن النسيان ، فكان ذلك واجباً نظراً إلى الحكمة.
المسألة الثانية : قوله : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَه } معناه علينا جمعه في صدرك وحفظك ، وقوله : {وَقُرْءَانَه } فيه وجهان أحدهما : أن المراد من القرآن القراءة ، وعلى هذا التقدير ففيه احتمالان أحدهما : أن يكون المراد جبريل عليه السلام ، سيعيده عليك حتى تحفظه والثاني : أن يكون المراد إنا سنقرئك يا محمد إلى أن تصير بحيث لا تنساه ، وهو المراد من قوله : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } (الأعلى : 6) فعلى هذا الوجه الأول القارىء جبريل عليه السلام ، وعلى الوجه الثاني القارىء محمد صلى الله عليه وسلّم والوجه الثاني : أن يكون المراد من القرآن الجمع والتأليف ، من قولهم : ما قرأت الناقة سلاقط ، أي ما جمعت ، وبنت عمرو بن كلثوم لم تقرأ جنيناً ، وقد ذكرنا ذلك عند تفسير القرء ، فإن قيل : فعلى هذا الوجه يكون الجمع والقرآن واحداً فيلزم التكرار ، قلنا : يحتمل أن يكون المراد من الجمع جمعه في نفسه ووجوده الخارجي ، ومن القرآن جمعه في ذهنه وحفظه ، وحينئذ يندفع التكرار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 729
730
فيه مسألتان :
(1/4597)
المسألة الأولى : جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته ، وهذا يدل على الشرف العظيم لجبريل عليه السلام ، ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (النساء : 80).
/ المسألة الثالثة : قال ابن عباس : معناه فإذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه ، وفيه وجهان الأول : قال قتادة : فاتبع حلاله وحرامه والثاني : فاتبع قراءته ، أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبريل ، لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبريل عليه السلام القراءة ، فإذا سكت جبريل فخذ أنت في القراءة ، وهذا الوجه أولى لأنه عليه السلام أمر أن يدع القراءة ويستمع من جبريل عليه السلام ، حتى إذا فرغ جبريل قرأه ، وليس هذا موضع الأمر باتباع ما فيه من الحلال والحرام. قال ابن عباس : فكان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بعد هذه الآية أطرق واستمع فإذا ذهب قرأه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 730
730
فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الآية تدل على أنه عليه السلام كان يقرأ مع قراءة جبريل عليه السلام وكان يسأل في أثناء قراءته مشكلاته ، ومعانيه لغاية حرصه على العلم ، فنهى النبي عليه السلام عن الأمرين جميعاً ، أما عن القراءة مع قراءة جبريل فبقوله : {فَإِذَا قَرَأْنَـاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَه } (القيامة : 18) وأما عن إلقاء الأسئلة في البيان فبقوله : {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه } .
المسألة الثانية : احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية. وأجاب أبو الحسين عنه من وجهين الأول : أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب وأنتم لا تقولون به الثاني : أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعاراً بأنه ليس المراد من اللفظ ما يقتضيه ظاهره ، فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي ، وذكر القفال وجهاً ثالثاً : وهو أن قوله : {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه } أي ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه ، ونظيره قوله تعالى : {فَكُّ رَقَبَةٍ} إلى قوله {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 13 ـ 17) والجواب عن الأول : أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان بل يقتضي تأخير وجوب البيان ، وعندنا الأمر كذلك لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة وعن الثاني : أن كلمة ثم دخلت مطلق البيان فيتناول البيان المجمل والمفصل ، وأما سؤال القفال فضعيف أيضاً لأنه ترك للظاهر من غير دليل.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه } يدل على أن بيان المجمل واجب على الله تعالى أما عندنا فبالوعد والتفضل. وأما عند المعتزلة فبالحكمة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 730
733
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : {كَلا} ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن عادة العجلة وحث على الأناة والتؤدة ، وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله : {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} كأنه قال : بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون العاجلة / وتذرون الأخرة ، وقال سائر المفسرين : {كَلا} معناه حقاً أي حقاً تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ، والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها ويتركون الآخرة ويعرضون عنها.
المسألة الثانية : قرىء تحبون وتذرون بالتاء والياء وفيه وجهان الأول : قال الفراء : القرآن إذا نزل تعريفاً لحال قوم ، فتارة ينزل على سبيل المخاطبة لهم. وتارة ينزل على سبيل المغايبة ، كقوله تعالى : {حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} (يونس : 22) الثاني : قال أبو علي الفارسي : الياء على ما تقدم من ذكر الإنسان في قوله : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ} (القيامة : 3) والمراد منه الكثرة ، كقوله : {إِنَّ الانسَـانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (المعارج : 19) والمعنى أنهم يحبون ويذرون ، والتاء على قل لهم ، بل تحبون وتذرون.
جزء : 30 رقم الصفحة : 733
733
قال الليث : نضر اللون والشجر والورق ينضر نضرة ، والنضرة النعمة ، والناضر الناعم ، والنضر الحسن من كل شيء ، ومنه يقال للون إذا كان مشرقاً : ناضر ، فيقال : أخضر ناضر ، وكذلك في جميع الألوان ، ومعناه الذي يكون له برق ، وكذلك يقال : شجر ناضر ، وروض ناضر. ومنه قوله عليه السلام : "نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها" الحديث. أكثر الرواة رواه بالتخفيف ، وروى عكرمة عن الأصمعي : فيه التشديد ، وألفاظ المفسرين مختلفة في تفسير الناضر ، ومعناها واحد قالوا : مسرورة ، ناعمة ، مضيئة ، مسفرة ، مشرقة بهجة. وقال الزجاج : نضرت بنعيم الجنة ، كماقال : {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (المطففين : 24).
جزء : 30 رقم الصفحة : 733
734
(1/4598)
اعلم أن جمهور أهل السنة يتمسكون بهذه الآية في إثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة. أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما : بيان أن ظاهره لا يدل على رؤية الله تعالى والثاني : بيان التأويل.
أما المقام الأول : فقالوا : النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية ، بل لمقدمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماس لرؤيته ، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة ، وكالإصغاء بالنسبة إلى السماع ، فكما أن نظر القلب مقدمة للمعرفة ، والإصغاء مقدمة للسماع ، فكذا نظر العين مقدمة للرؤية ، قالوا : والذي يدل على أن النظر ليس اسماً للرؤية وجوه الأول : قوله تعالى : {وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (الأعراف : 198) أثبت النظر حال عدم الرؤية ، فدل على أن النظر غير الرؤية والثاني : أن النظر يوصف بما لا توصف به الرؤية ، يقال : نظر إليه نظراً شرزاً ، ونظر غضبان ، ونظر راض ، وكل ذلك لأجل أن حركة الحدقة تدل على هذه الأحوال ، ولا توصف الرؤية بشيءمن ذلك ، فلا يقال : رآه شزراً ، ورآه رؤية غضبان ، أو رؤية راض الثالث : يقال : انظر إليه حتى تراه ، ونظرت إليه فرأيته ، وهذا يفيد كون الرؤية / غاية للنظر ، وذلك يوجب الفرق بين النظر والرؤية الرابع : يقال : دور فلان متناظرة ، أي متقابلة ، فمسمى النظر حاصل ههنا ، ومسمى الرؤية غير حاصل الخامس : قوله الشاعر :
وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
أثبت النظر المقرون بحرف إلى مع أن الرؤية ما كانت حاصلة السادس : احتج أبو علي الفارسي على أن النظر ليس عبارة عن الرؤية ، التي هي إدراك البصر ، بل هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو الجهة التي فيها الشيء الذي يراد رؤيته ، لقول الشاعر :
فيامي هل يجزي بكائي بمثله
مراراً وأنفاسي إليك الزوافر
وأنى متى أشرف على الجانب الذي
به أنت من بين الجوانب ناظراً
قال : فلو كان النظر عبارة عن الرؤية لما طلب الجزاء عليه ، لأن المحب لم يطلب الثواب على رؤية المحبوب ، فإن ذلك من أعظم مطالبه ، قال : ويدل على ذلك أيضاً قول الآخر :
جزء : 30 رقم الصفحة : 734
ونظرة ذي شجن وامق
إذا ما الركائب جاوزن ميلا
والمراد منه تقليب الحدقة نحو الجانب الذي فيه المحبوب ، فعلمنا بهذه الوجوه أن النظر المقرون بحرف إلى ليس اسماً للرؤية السابع : أن قوله : {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} معناه أنها تنظر إلى ربها خاصة ولا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، ألا ترى إلى قوله : {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَـاـاِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (القيامة : 12) إلى ربك يومئذ المساق} (القيامة : 30) (القيامة : 30) {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ} (الشورى : 53) {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة : 8) {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (آ ل عمران : 28) {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (الشورى : 10) كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، ولا تدخل تحت العدد في موقف القيامة ، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس : 62) فلما دلت الآية على أن النظر ليس إلا إلى الله ، ودل العقل على أنهم يرون غير الله ، علمنا أن المراد من النظر إلى الله ليس هو الرؤية الثامن : قال تعالى : {وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ} (آل عمران : 77) ولو قال : لا يراهم كفي ، فلما نفى النظر ، ولم ينف الرؤية دل على المغايرة ، فثبت بهذه الوجوه ، أن النظر المذكور في هذه الآية ليس هو الرؤية.
المقام الثاني : في بيان التأويل المفصل ، وهو من وجهين الأول : أن يكون الناظر بمعنى المنتظر ، أي أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله ، وهو كقول القائل ، إنما أنظر إلى فلان في حاجتي والمراد أنتظر نجاحها من جهته ، وقال تعالى : {فَنَاظِرَة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النمل : 35) وقال : {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (البقرة : 280) لا يقال : النظر المقرون بحرف إلى غير مستعمل في معنى الانتظار ، ولأن الانتظار غم وألم ، وهو لا يليق بأهل السعادة يوم القيامة ، لأنا نقول : الجواب : عن الأول من وجهين الأول : النظر المقرون بحرف إلى قد يستعمل بمعنى الانتظار ، والتوقع والدليل عليه أنه يقال : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، والمراد منه التوقع والرجاء ، وقال الشاعر :
جزء : 30 رقم الصفحة : 734
وإذا نظرت إليك من ملك
والبحر دونك زدتني نعما
(1/4599)
/ وتحقيق الكلام فيه أن قولهم في الانتظار نظرت بغير صلة ، فإنما ذلك في الانتظار لمجيء الإنسان بنفسه ، فأما إذا كان منتظراً لرفده ومعونته ، فقد يقال فيه : نظرت إليه كقول الرجل ، وإنما نظري إلى الله ثم إليك ، وقد يقول ذلك من لا يبصر ، ويقول الأعمى في مثل هذا المعنى : عيني شاخصة إليك ، ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إن المراد من إلى ههنا حرف التعدي. بل هو واحد الآلاء ، والمعنى : وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها منتظرة.
وأما السؤال الثاني : وهو أن الانتظار غم وألم ، فجوابه أن المنتظر. إذا كان فيما ينتظره على يقين من الوصول إليه ، فإنه يكون في أعظم اللذات.
التأويل الثاني : أن يضمر المضاف ، والمعنى إلى ثواب ربها ناظرة ، قالوا : وإنما صرنا إلى هذا التأويل ، لأنه لما دلت الدلائل السمعية والعقلية على أنه تعالى تمتنع رؤيته وجب المصير إلى التأويل ، ولقائل أن يقول : فهذه الآية تدل أيضاً على أن النظر ليس عبارة عن تقليب الحدقة ، لأنه تعالى قال : لا ينظر إليهم وليس المراد أنه تعالى يقلب الحدقة إلى جهنم فإن قلتم : المراد أنه لا ينظر إليهم نظر الرحمة كان ذلك جوابنا عما قالوه.
التأويل الثالث : أن يكون معنى : {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أنها لا تسأل ولا ترغب إلا إلى الله ، وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام : "اعبد الله كأنك تراه" فأهل القيامة لشدة تضرعهم إليه وانقطاع أطماعهم عن غيره صاروا كأنهم ينظرون إليه الجواب : قوله : ليس النظر عبارة عن الرؤية ، قلنا : ههنا مقامان :
الأول : أن تقيم الدلالة على أن النظر هو الرؤية من وجهين : الأول : ما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام وهو قوله : {أَنظُرْ إِلَيْكَ } (الأعراف : 143) فلو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي ، لاقتضت الآية أن موسى عليه السلام أثبت لله تعالى وجهة ومكاناً وذلك محال الثاني : أنه جعل النظر أمراً مرتباً على الإرادة فيكون النظر متأخراً عن الإرادة ، وتقليب الحدقة غير متأخر عن الإرادة ، فوجب أن يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي.
المقام الثاني : وهو الأقرب إلى الصواب ، سلمنا أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته/ لكنا نقول : لما تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على مسببه وهو الرؤية ، إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار ، لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ولا تعلق بينه وبين الانتظار ، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار.
جزء : 30 رقم الصفحة : 734
أما قوله : النظر جاء بمعنى الانتظار ، قلنا : لنا في الجواب مقامان :
الأول : أن النظر الوارد بمعنى الانتظار كثير في القرآن ، ولكنه لم يقرن ألبتة بحرف إلى كقوله تعالى : {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} (الحديد : 13) وقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَه } (الأعراف : 53) {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} (البقرة : 210) والذي ندعيه أن النظر المقرون بحرف إلى المعدي إلى الوجوه ليس إلا بمعنى الرؤية / أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر ، فوجب أن لا يرد بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك.
وأما قول الشاعر :
وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
قلنا : هذا الشعر موضوع والرواية الصحيحة :
وجوه ناظرات يوم بكر
إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
والمراد من هذا الرحمن مسيلمة الكذاب ، لأنهم كانوا يسمونه رحمن اليمامة ، فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه التخلص من الأعداء ، وأما قول الشاعر :
وإذا نظرت إليك من ملك
فالجواب : أن قوله : وإذا نظرت إليك ، لا يمكن أن يكون المراد منه الانتظار ، لأن مجرد الانتظار لا يستعقب العطية بل المراد من قوله : وإذا نظرت إليك ، وإذا سألتك لأن النظر إلى الإنسان مقدمة المكالمة فجاز التعبير عنه به ، وقوله : كلمة إلى ههنا ليس المراد منه حرف التعدي بل واحد الآلاء ، قلنا : إن إلى على هذا القول تكون اسماً للماهية التي يصدق عليه أنها نعمة ، فعلى هذا يكفي في تحقق مسمى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة ، وإن كان في غاية القلة والحقارة ، وأهل الثواب يكونون في جميع مواقف القيامة في النعم العظيمة المتكاملة ، ومن كان حاله كذلك كيف يمكن أن يبشر بأنه يكون في توقع الشيء الذي ينطلق عليه اسم النعمة ، ومثال هذا أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حالك في العظمة والقوة بعد سنة ، بحيث تكون متوقعاً لحصول اللقمة الواحدة من الخبز والقطرة الواحدة من الماء ، وكما أن ذلك فاسد من القول : فكذا هذا.
المقام الثاني : هب أن النظر المعدي بحرف إلى المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ، لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا ، فلا بد وأن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه حتى يحسن ذكره في معرض الترغيب في الآخرة ، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول ، لأن ذلك معلوم بالعقل فبطل ما ذكروه من التأويل.
(1/4600)
جزء : 30 رقم الصفحة : 734
وأما التأويل الثاني : وهو أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة ، فهذا ترك للظاهر ، وقوله : إنما صرنا إليه لقيام الدلائل العقلية والنقلية على أن الله لا يرى ، قلنا : بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه ، فلا حاجة ههنا إلى ذكرها والله أعلم.
وقوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 734
735
الباسر : الشديد العبوس والباسل أشد منه ، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه ، والمعنى أنها عابسة كالحة قد / أظلمت ألوانها وعدمت آثار السرور والنعمة منها ، لما أدركها من الشقاء واليأس من رحمة الله ، ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار ، وقد تقدم تفسير البسور عند قوله : {عَبَسَ وَبَسَرَ} (المدثر : 22) وإنما كانت بهذه الصفة ، لأنها قد أيقنت أن العذاب نازل ، وهو قوله : {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} والظن ههنا بمعنى اليقين ، هكذا قاله المفسرون ، وعندي أن الظن إنما ذكر ههنا على سبيل التهكم كأنه قيل : إذا شاهدوا تلك الأحوال ، حصل فيهم ظن أن القيامة حق ، وأما الفاقرة ، فقال أبو عبيدة : الفاقرة الداهية ، وهو اسم للوسم الذي يفقر به على الأنف ، قال الأصمعي : الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم ، أو قريب منه ، ثم يجعل فيه خشبة يجر البعير بها ، ومنه قيل : عملت به الفاقرة ، قال المبرد : الفاقرة داهية تكسر الظهر ، وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة داهية تكسر فقار الظهر ، وقال ابن قتيبة : يقال فقرت الرجل ، كما يقال رأسته وبطنته فهو مفقور ، واعلم أن من المفسرين من فسر الفاقرة بأنواع العذاب في النار ، وفسرها الكلبي فقال : الفاقرة هي أن تحجب عن رؤية ربها ولا تنظر إليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 735
735
قوله تعالى : {كَلا} قال الزجاج : كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، كأنه قيل : لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة ، وعلمتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا ، فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة ، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم ، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين ، وقال آخرون : {كَلا} أي حقاً إذا بلغت التراقي كان كذا وكذا ، والمقصود أنه لما بين تعظيم أحوال الآخرة بين أن الدنيا لا بد فيها من الانتهاء والنفاد والوصول إلى تجرع مرارة الموت. وقال مقاتل : {كَلا} أي لا يؤمن الكافر بما ذكر من أمر القيامة ، ولكنه لا يمكنه أن يدفع أنه لا بد من الموت ، ومن تجرع آلامها ، وتحمل آفاتها.
ثم إنه تعالى وصف تلك الحالة التي تفارق الروح فيها الجسد فقال : {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد إذا بلغت النفس أو الروح أخبر عما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب بذلك ، كقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ} والتراقي جمع ترقوة. وهي عظم وصل بين ثغرة النحر ، والعاتق من الجانبين.
واعلم أنه يكنى ببلوغ النفس التراقي عن القرب من الموت ، ومنه قول دريد بن الصمة :
ورب عظيمة دافعت عنها
وقد بلغت نفوسهم التراقي
ونظيره قوله تعالى : {بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (الأحزاب : 10).
المسألة الثالثة : قال بعض الطاعنين : إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها عن القلب / ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة ، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي ، تبقى الحياة حتى يقال فيه : من راق ، وحتى تلتف الساق بالساق والجواب : المراد من قوله : {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ} أي إذا حصل القرب من تلك الحالة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 735
735
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في راق وجهان الأول : أن يكون من الرقية يقال : رقاه يرقيه رقية إذا عوذه بما يشفيه ، كما يقال : بسم الله أرقيك ، وقائل هذا القول على هذا الوجه ، هم الذين يكونون حول الإنسان المشرف على الموت ، ثم هذا الاستفهام ، يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنهم طلبوا له طبيباً يشفيه ، وراقياً يرقيه ، ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار ، كما يقول القائل عند اليأس : من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت الوجه الثاني : أن يكون قوله : {مَنْا رَاقٍ} من رقى يرقي رقياً ، ومنه قوله تعالى : {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} وعلى هذا الوجه يكون قائل هذا القول هم الملائكة. قال ابن عباس : إن الملائكة يكرهون القرب من الكافر ، فيقول ملك الموت من يرقى بهذا الكافر ، وقال الكلبي : يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة ، وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت ، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض ، أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو {مَنْا رَاقٍ} .
(1/4601)
المسألة الثانية : قال الواحدي إن إظهار النون عند حروف الفم لحسن ، فلا يجوز إظهار نون من في قوله : {مَنْا رَاقٍ} وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله : {مَنْا رَاقٍ} و{بَلْا رَانَ} (المطففين : 14) قال أبو علي الفارسي ، ولا أعرف وجه ذلك ، قال الواحدي ، والوجه أن يقال : قصد الوقف على من وبل ، فأظهرها ثم ابتدأ بما بعدهما ، وهذا غير مرضي من القراءة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 735
736
قال المفسرون : المراد أنه أيقن بمفارقته الدنيا ، ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن ، لأن الإنسان ما دام يبقى روحه متعلقاً ببدنه ، فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة على ما قال : {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} (القيامة : 20) ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت ، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة ، أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم.
واعلم أن الآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن ، لأنه تعالى سمى الموت فراقاً ، والفرق إنما يكون لو كانت الروح باقية ، فإن الفراق والوصال صفة ، والصفة تستدعي وجود الموصوف.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 736
736
الالتفاف هو الاجتماع ، كقوله تعالى : {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} (الإسراء : 104) وفي الساق قولان : القول الأول : أنه الأمر الشديد ، قال أهل المعاني : لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقه ، فقيل للأمر الشديد : ساق ، وتقول العرب : قامت الحرب على ساق ، أي اشتدت ، قال الجعدي :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ثم قال : والمراد بقوله : {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أي التفت شدة مفارقة الدنيا ولذاتها وشدة الذهاب ، أو التفت شدة ترك الأهل ، وترك الولد ، وترك المال ، وترك الجاه ، وشدة شماتة الأعداء ، وغم الأولياء ، وبالجملة فالشدائد هناك كثيرة ، كشدة الذهاب إلى الآخرة والقدوم على الله ، أو التفت شدة ترك الأحباب والألياء ، وشدة الذهاب إلى دار الغربة والقول الثاني : أن المراد من الساق هذا العضو المخصوص ، ثم ذكروا على هذا القول وجوهاً أحدها : قال الشعبي وقتادة : هما ساقاه عند الموت أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى والثاني : قال الحسن وسعيد بن المسيب : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن والثالث : أنه إذا مات يبست ساقاه ، والتصقت إحداهما بالأخرى.
ثم قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 736
737
المساق مصدر من ساق يسوق ، كالمقال من قال يقول ، ثم فيه وجهان أحدهما : أن يكون المراد أن المسوق إليه هو الرب والثاني : أن يكون المراد أن السائق في ذلك اليوم هو الرب ، أي سوق هؤلاء مفوض إليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 737
737
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه ، وفيما يتعلق بدنياه. أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين ، ولكنه كذب به ، وأما ما يتعلق بفروع الدين ، فهو أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض ، وأما ما يتعلق بدنياه ، فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى ، ويتبختر ، ويختال في مشيته ، واعلم أن الآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقهما بترك الإيمان.
المسألة الثانية : قوله : {فَلا صَدَّقَ} حكاية عمن ؟
فيه قولان : الأول : أنه كناية عن الإنسان في قوله : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } (القيامة : 3) ألا ترى إلى قوله : {أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة : 36) وهو معطوف على قوله : {يَسْـاَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 6) والقول الثاني : أن الآية نزلت في أبي جهل.
/ المسألة الثالثة : في يتمطى قولان : أحدهما : أن أصله يتمطط أي يتمدد ، لأن المتبختر يمد خطاه ، فقلبت الطاء فيه ياء ، كما قيل : في تقصى أصله تقصص والثاني : من المطا وهو الظهر لأنه يلويه ، وفي الحديث : "إذا مشت أمتي المطيطي" أي مشية المتبختر.
المسألة الرابعة : قال أهل العربية : {لا} ههنا في موضع لم فقوله : {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى } أي لم يصدق ولم يصل ، وهو كقوله : {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (البلد : 11) أي لم يقتحم ، وكذلك ما روي في الحديث : "أرأيت من لا أكل ولا شرب ، ولا استهل" قال الكسائي : لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها حتى تتبعها بأخرى ، إما مصرحاً أو مقدراً ، أما المصرح فلا يقولون : لا عبدالله خارج حتى يقولون ، ولا فلان ، ولا يقولون : مررت برجل لا يحسن حتى يقولوا ، ولا يجمل ، وأما المقدر فهو كقوله : {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ثم اعترض الكلام ، فقال : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَـامٌ} (البلد : 12 ، 14) وكان التقدير لا فك رقبة ، ولا أطعم مسكيناً ، فاكتفى به مرة واحدة ، ومنهم من قال التقدير في قوله : {فَلا اقتَحَمَ} أي أفلا اقتحم ، وهلا اقتحم.
(1/4602)
جزء : 30 رقم الصفحة : 737
737
قال قتادة والكلبي ومقاتل : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيد أبي جهل. ثم قال : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } توعده ، فقال أبو جهل : بأي شيء تهددني ؟
لا تستطع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً ، وإني لأعز أهل هذا الوادي ، ثم انسل ذاهباً ، فأنزل الله تعالى كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومعنى قوله : {أَوْلَى لَكَ} بمعنى ويل لك ، وهو دعاء عليه ، بأن يليه ما يكرهه ، قال القاضي : المعنى بعد ذلك ، فبعداً (لك) في أمر دنياك ، وبعداً لك ، في أمر أخراك ، وقال آخرون : المعنى الويل لك مرة بعد ذلك ، وقال القفال : هذا يحتمل وجوهاً أحدها : أنه وعيد مبتدأ من الله للكافرين والثاني : أنه شيء قاله النبي صلى الله عليه وسلّم لعدوه فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه ، فأنزل الله تعالى مثل ذلك والثالث : أن يكون ذلك أمراً من الله لنبيه ، بأن يقولها لعدو الله ، فيكون المعنى {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى ا أَهْلِه يَتَمَطَّى } (القيامة : 33) فقل له : يا محمد : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } أي احذر ، فقد قرب منك مالا قبل لك به من المكروه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 737
738
أي مهملاً لا يؤمر ، ولا ينهى ، ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب بعمله في الآخرة ، والسدي في اللغة المهمل يقال : أسديت إبلي إسداء أهملتها.
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة ، قوله : {أَيَحْسَبُ الانسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَه } (القيامة : 3) أعاد في آخر السورة ذلك ، وذكر في صحة البعث والقيامة دليلين الأول : قوله : {أَيَحْسَبُ الانسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة : 36) ونظيره قوله : {إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا تَسْعَى } (طه : 15) وقوله : {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الارْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص : 28) وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضياً بقبائح الأفعال ، وذلك لا يليق بحكمته ، فإذاً لا بد من التكليف والتكليف لا يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة.
الدليل الثاني : على صحة القول بالحشر الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة ، وهو المراد من قوله تعالى.
جزء : 30 رقم الصفحة : 738
739
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : النطفة هي الماء القليل وجمعها نطاف ونطف ، يقول : ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة ؟
وقوله : {مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى } أي يصب في الرحم ، وذكرنا الكلام في يمنى عند قوله : {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } (النجم : 46) وقوله : {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة : 58) فإن قيل : ما الفائدة في يمنى في قوله : {مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى } ؟
قلنا : فيه إشارة إلى حقارة حاله ، كأنه قيل : إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة ، فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى ، على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى ومريم : {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } (المائدة : 75) والمراد منه قضاء الحاجة.
المسألة الثانية : في يمنى في هذه السورة قراءتان التاء والياء ، فالتاء للنطفة ، على تقدير ألم يك نطفة تمنى من المني ، والياء للمني من مني يمنى ، أي يقدر خلق الإنسان منه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 739
739
قوله تعالى : {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} أي الإنسان كان علقة بعد النطفة.
أما قوله تعالى : {فَخَلَقَ فَسَوَّى } ففيه وجهان الأول : فخلق فقدر فسوى فعدل الثاني : فخلق ، أي فنفخ فيه الروح ، فسوى فكمل أعضاءه ، وهو قول ابن عباس ومقاتل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 739
740
ثم قال تعالى : {فَجَعَلَ مِنْهُ} أي من الإنسان {الزَّوْجَيْنِ} يعني الصنفين.
ثم فسرهما فقال : {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى * أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِْاىَ الْمَوْتَى } والمعنى أليس ذلك الذي أنشأ هذه الأشياء بقادر على الإعادة ، روي أنه صلى الله عليه وسلّم كان إذا قرأها قال : سبحانك بلى والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 740
741
(1/4603)
سورة الإنسان
[إحدى وثلاثون آية مكية
جزء : 30 رقم الصفحة : 741
743
/ اتفقوا على أن {هَلْ} ههنا وفي قوله تعالى : {هَلْ أَتَا كَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (الغاشية : 1) بمعنى قد ، كما تقول : هل رأيت صنيع فلان ، وقد علمت أنه قد رآه ، وتقول : هل وعظتك هل أعطيتك ، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته ، وقد تجيء بمعنى الجحد ، تقول : وهل يقدر أحد على مثل هذا ، وأما أنها تجيء بمعنى الاستفهام فظاهر ، والدليل على أنها ههنا ليست بمعنى الاستفهام وجهان الأول : ما روي أن الصديق رضي الله عنه لما سمع هذه الآية قال : يا ليتها كانت تمت فلا نبتلي ، ولو كان ذلك استفهاماً لما قال : ليتها تمت ، لأن الاستفهام ، إنما يجاب بلا أو بنعم ، فإذا كان المراد هو الخبر ، فحينئذ يحسن ذلك الجواب الثاني : أن الاستفهام على الله تعالى محال فلا بد من حمله على الخبر.
المسألة الأولى : اختلفوا في الإنسان المذكور ههنا فقال : جماعة من المفسرين يريد آدم عليه السلام ، ومن ذهب إلى هذا قال : إن الله تعالى ذكر خلق آدم في هذه الآية ثم عقب بذكر ولده في قوله : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} (الإنسان : 2) ، والقول الثاني : أن المراد بالإنسان بنو آدم بدليل قوله : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} فالإنسان في الموضعين واحد ، وعلى هذا التقدير يكون نظم الآية أحسن.
المسألة الثانية : {حِينٍ} فيه قولان : الأول : أنه طائفة من الزمن الطويل الممتد وغير مقدر في نفسه والثاني : أنه مقدر بالأربعين ، فمن قال : المراد بالإنسان هو آدم قال المعنى : أنه مكث آدم عليه السلام أربعين سنة طيناً إلى أن نفخ فيه الروح ، وروى عن ابن عباس أنه بقي طيناً أربعين سنة وأربعين من صلصال وأربعين من حمأ مسنون فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ، فهو في هذه المدة ما كان شيئاً مذكوراً ، وقال الحسن : خلق الله تعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دواب البر والبحر في الأيام الستة التي خلق فيها السموات والأرض وآخر ما خلق آدم عليه السلام وهو قوله : {لَمْ يَكُن شَيْاًا مَّذْكُورًا} فإن قبل : إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ / الروح فيه ما كان إنساناً ، والآية تقتضي أنه قد مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً ، قلنا : إن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح وسيصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان ، والذين يقولون الإنسان هو النفس الناطقة ، وإنها موجودة فبل وجود الأبدان ، فالإشكال عنهم زائل واعلم أن الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث ، ومتى كان كذلك فلا بد من محدث قادر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 743
المسألة الثالثة : لم يكن شيئاً مذكوراً محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل : هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين ، تقديره : هل أتى على الإنسان حين لم يكن فيه شيئاً.
جزء : 30 رقم الصفحة : 743
744
قوله تعالى : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : المشج : في اللغة الخلط ، يقال : مشج يمشج مشجاً إذا خلط ، والأمشاج الأخلاط ، قال ابن الأعرابي : واحدها مشج ومشيج ، ويقال للشيء إذا خلط : مشيج كقولك : خليط وممشوج ، كقولك مخلوط. قال الهذلي :
كأن الريش والفوقين منه
خلاف النصل شط به مشيج
(1/4604)
يصف السهم بأنه قد بعد في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بدم يسير ، قال صاحب "الكشاف" : الأمشاج لفظ مفرد ، وليس يجمع بدليل أنه صفة للمفرد وهو قوله : {نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} ويقال أيضاً : نطفة مشيج ، ولا يصح أن يكون أمشاجاً جمعاً للمشج بل هما مثلان في الإفراد ونظيره برمة أعشار أي قطع مسكرة ، وثوب أخلاق وأرض سباسب ، واختلفوا في معنى كون النطفة مختلطة فالأكثرون على أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة كقوله : {يَخْرُجُ مِنا بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآاـاِبِ} (الطارق : 7) قال ابن عباس هو اختلاط ماء الرجل وهو أبيض غليظ وماء المرأة وهو أصفر رقيق فيختلطان ويخلق الولد منهما ، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة ، قال مجاهد : هي ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء ، وقال عبدالله أمشاجها عروقها ، وقال الحسن : يعني من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة وذلك أن المرأة إذا تلقت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها فاختلطت النطفة بالدم ، وقال قتادة : الأمشاج هو أنه يختلط الماء والدم أولاً ثم يصير علقة ثم يصير مضغة ، وبالجملة فهو عبارة عن انتقال ذلك الجسم من صفة إلى صفة ، ومن حال إلى حال. وقال قوم : إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطاً من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والتقدير من نطفة ذات أمشاج فحذف المضاف وتم الكلام ، قال بعض العلماء : الأولى هو أن المراد اختلاط نطفة الرجل والمرأة / لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج ، وهي إذا صارت علقة فلم يبق فيها وصف أنها نطفة ، ولكن هذا الدليل لا يقدح في أن المراد كونها أمشاجاً من الأرض والماء والهواء والحار.
أما قوله تعالى : {نَّبْتَلِيهِ} ففيه مسائل :
جزء : 30 رقم الصفحة : 744
المسألة الأولى : نبتليه معناه لنبتليه ، وهو كقول الرجل : جئتك أقضي حقك ، أي لأقضي حقك ، وأتيتك أستمنحك ، أي لأستمنحك ، كذا قوله : {نَّبْتَلِيهِ} أي لنبتليه ونظيره قوله : {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر : 6) أي لتستكثر.
المسألة الثانية : نبتليه في موضع الحال ، أي خلقناه مبتلين له ، يعني مريدين ابتلاءه.
المسألة الثالثة : في الآية قولان : أحدهما : أن فيه تقديماً وتأخيراً ، والمعنى {فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} لنبتليه والقول الثاني : أنه لا حاجة إلى هذا التغيير ، والمعنى إنا خلقناه من هذه الأمشاج لا للبعث ، بل للابتلاء والامتحان.
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر ، فقال : {فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز ، كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} (مريم : 42) وأيضاً قد يراد بالسميع المطيع ، كقوله سمعاً وطاعة ، وبالبصير العالم يقال : فلان بصير في هذا الأمر ، ومنهم من قال : بل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان. والله تعالى خصهما بالذكر ، لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.
جزء : 30 رقم الصفحة : 744
744
قوله تعالى : {إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ} أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء ، إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف ، وهي الحواس الظاهرة والباطنة ، فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات ، ينتزع منها عقائد صادقة أولية ، كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء ، وهذه العلوم الأولية هي آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية ، فثبت أن الحس مقدم في الوجود على العقل ، ولذلك قيل : من فقد حساً فقد علماً ، ومن قال : المراد من كونه سميعاً بصيراً هو العقل ، قال : إنه لما بين في الآية الأولى أنه أعطاه العقل بين في هذه الآية ، أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذي يجب فعله ما هو. والذي لا يجوز ما هو.
(1/4605)
المسألة الثانية : السبيل هو الذي يسلك من الطريق ، فيجوز أن يكون المراد بالسبيل / ههنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك ، ويكون معنى هديناه ، أي عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له ، كقوله تعالى : {وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ} (البلد : 10) ويكون السبيل اسماً للجنس ، فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر : 2) ويجوز أن يكون المراد بالسبيل ، هو سبيل الهدى لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق ، فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل بالإضافة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب : 67) وإنما أضلوهم سبيل الهدى ، ومن ذهب إلى هذا جعل معنى قوله : {هَدَيْنَـاهُ} أي أرشدناه ، وإذا أرشد لسبيل الحق ، فقد نبه على تجنب ما سواها ، فكان اللفظ دليلاً على الطريقين من هذا الوجه.
المسألة الثالثة : المراد من هداية السبيل خلق الدلائل ، وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب ، كأنه تعالى قال : خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنا بَيِّنَةٍ} (الأنفال : 42) وليس معناه خلقنا الهداية ، ألا ترى أنه ذكر السبيل ، فقال : {هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ} أي أريناه ذلك.
جزء : 30 رقم الصفحة : 744
المسألة الرابعة : قال الفراء : هديناه السبيل ، وإلى السبيل وللسبيل ، كل ذلك جائز في اللغة.
قوله تعالى : {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} فيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية أقوال :
الأول : أن شاكر أو كفوراً حالان من الهاء ، في هديناه السبيل ، أي هديناه السبيل كونه شاكراً وكفوراً ، والمعنى أن كل ما يتعلق بهداية الله وإرشاده ، فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
والقول الثاني : أنه انتصب قوله شاكراً وكفوراً بإضمار كان ، والتقدير سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
والقول الثالث : معناه إنا هديناه السبيل ، ليكون إما شاكراً وإما كفوراً أي ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته كقوله : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } (هود : 7) وقوله : {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } (العنكبوت : 3) وقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} (محمد : 31) قال القفال : ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل ، قد نصحت لك إن شئت فأقبل ، وإن شئت فاترك ، أي فإن شئت فتحذف الفاء فكذا المعنى : إنا هديناه السبيل فإما شاكراً وإما كفوراً ، فتحذف الفاء وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر ، فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا ، كقوله : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُم فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف : 29).
القول الرابع : أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل ، أي إما سبيلاً شاكراً ، وإما سبيلاً كفوراً ، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
/ واعلم أن هذه الأقوال كلها لائقة بمذهب المعتزلة.
والقول الخامس : وهو المطابق لمذهب أهل السنة ، واختيار الفراء أن تكون إما هذه الآية كإما في قوله : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } (التوبة : 106) والتقدير : {إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ} ثم جعلناه تارة {شَاكِرًا} أو تارة {كَفُورًا} ويتأكد هذا التأويل بما روي أنه قرأ أبو السمال بفتح الهمزة في {أَمَّآ} ، والمعنى أما شاكراً فبتوفيقنا وأما كفوراً فبخذلاننا ، قالت المعتزلة : هذا التأويل باطل ، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية تهديد الكفار فقال : {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ سَلَـاسِلا وَأَغْلَـالا وَسَعِيرًا} (الإنسان : 4) ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه ، ولما بطل هذا التأويل ثبت أن الحق هو التأويل الأول وهو أنه تعالى هدى جميع المكلفين سواء آمن أو كفر ، وبطل بهذا قول المجبرة أنه تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان ، أجاب أصحابنا بأنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بأن يجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان وهذا تكليف بالجمع بين المتنافيين ، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضاً أن يخلق الكفر فيه ولا يصير ذلك عذراً في سقوط الوعيد وإذا ثبت هذا ظهر أن هذا التأويل هو الحق ، وأن التأويل اللائق بقول المعتزلة : ليس بحق ، وبطل به قول المعتزلة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 744
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر نعمه على الإنسان فابتدأ بذكر النعم الدنيوية ، ثم ذكر بعده النعم الدينية ، ثم ذكر هذه القسمة.
(1/4606)
واعلم أنه لا يمكن تفسير الشاكر والكفور بمن يكون مشتغلاً بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم يتحقق الحصر ، بل المراد من الشاكر الذي يكون مقراً معترفاً بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ، إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه ، وحينئذ يتحقق الحصر وهو أن المكلف ، إما أن يكون شاكراً وإما أن يكون كفوراً ، واعلم أن الخوارج احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر ، قالوا : لأن الشاكر هو المطيع ، والكفور هو الكافر ، والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفراً ، وأن يكون كل مذنب كافراً ، واعلم أن البيان الذي لخصناه يدفع هذا الإشكال ، فإنه ليس المراد من الشاكر الذي يكون مشتغلاً بفعل الشكر فإن ذلك باطل طرداً وعكساً ، أما الطرد فلأن اليهودي قد يكون شاكراً لربه مع أنه لا يكون مطيعاً لربه ، والفاسق قد يكون شاكراً لربه ، مع أنه لا يكون مطيعاً لربه ، وأما العكس فلأن المؤمن قد لا يكون مشتغلاً بالشكر ولا بالكفران ، بل يكون ساكناً غافلاً عنهما ، فثبت أنه لا يمكن تفسير الشاكر بذلك ، بل لا بد وأن يفسر الشاكر بمن يقر بوجوب الشكر والكفور بمن لا يقر بذلك ، وحينئذ يثبت الحصر ، ويسقط سؤالهم بالكلية والله أعلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 744
746
قوله تعالى : {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ سَلَـاسِلا وَأَغْلَـالا وَسَعِيرًا} .
/ اعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الاعتداد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيداً حاضراً متى احتيج إليه ، كقوله تعالى : {هَـاذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} (ق : 23)وأما السلاسل فتشد بها أرجلهم ، وأما الأغلال فتشد بها أيديهم إلى رقابهم ، وأما السعير فهو النار التي تسعر عليهم فتوقد فيكونون حطباً لها ، وهذا من أغلظ أنواع الترهيب والتخويف.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة ، لأن قوله تعالى : {أَعْتَدْنَا} أخبار عن الماضي ، قال القاضي : إنه لما توعد بذلك على التحقيق صار كأنه موجود ، قلنا : هذا الذي ذكرتم ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة.
المسألة الثالثة : قرىء سلاسلاً بالتنوين ، وكذلك {قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا } ومنهم من يصل بغير تنوين ، ويقف بالألف فلمن نون وصرف وجهان أحدهما : أن الأخفش قال : قد سمعنا من العرب صرف جميع مالا ينصرف ، قال : وهذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه ، فجرت ألسنتهم على ذلك الثاني : أن هذه الجموع أشبهت الآحاد ، لأنهم قالوا صواحبات يوسف ، فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوها في حكمها فصرفوها ، وأما من ترك الصرف فإنه جعله كقوله : {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَـاجِدُ} (الحج : 40) وأما إلحاق الألف في الوقف فهو كإلحاقها في قوله : {الظُّنُونَا } فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي.
ثم إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال : {وَأَغْلَـالا وَسَعِيرًا * إِنَّ الابْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} الأبرار جمع بر ، كالأرباب جمع رب ، والقول في حقيقة البر قد تقدم في تفسير قوله تعالى : {وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} (البقرة : 177) ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم ، فقال : {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} يعني من إناء فيه الشراب ، ولهذا قال ابن عباس ومقاتل : يريد الخمر ، وفي الآية سؤالان :
جزء : 30 رقم الصفحة : 746
السؤال الأول : أن مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً ، فما السبب في ذكره ههنا ؟
الجواب : من وجوه أحدها : أن الكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده ، ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته ، فالمعنى أن ذلك الشراب يكون ممزوجاً بماء هذه العين وثانيها : أن رائحة الكافور عرض فلا يكون إلا في جسم ، فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب سمي ذلك الجسم كافوراً ، وإن كان طعمه طيباً وثالثها : أي بأس في أن / يخلق الله تعالى الكافور في الجنة لكن من طعم طيب لذيذ ، ويسلب عنه ما فيه من المضرة ؟
ثم إنه تعالى يمزجه بذلك المشروب ، كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضار.
السؤال الثاني : ما فائدة كان في قوله : {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} ؟
الجواب : منهم من قال : إنها زائدة ، والتقدير من كأس مزاجها كافوراً ، وقيل : بل المعنى كان مزاجها في علم الله ، وحكمه كافورا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 746
749
(1/4607)
المسألة الأولى : إن قلنا : الكافور اسم النهر كان عيناً بدلاً منه ، وإن شئت نصبت على المدح ، والتقدير أعني عيناً ، أما إن قلنا : إن الكافور اسم لهذا الشيء المسمى بالكافور كان عيناً بدلاً من محل من كأس على تقدير حذف مضاف ، كأنه قيل : يشربون خمراً خمر عين ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.
المسألة الثانية : قال في الآية الأولى : {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإنسان : 5) وقال ههنا : يشرب بها ، فذكر هناك من وههنا الباء ، والفرق أن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته. وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل.
المسألة الثالثة : قوله : {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} عام فيفيد أن كل عباد الله يشربون منها ، والكفار بالاتفاق لا يشربون منها ، فدل على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ، إذا ثبت هذا فقوله : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } (الزمر : 7) لا يتناول الكفار بل يكون مختصاً بالمؤمنين ، فيصير تقدير الآية ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، فلا تدل الآية على أنه تعالى لا يريد كفر الكافر.
قوله تعالى : {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} معناه يفجرونها حيث شاؤا من منازلهم تفجيراً سهلا لا يمتنع عليهم واعلم أنه سبحانه لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة شرح أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب.
جزء : 30 رقم الصفحة : 749
749
فالأول قوله تعالى : {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافياً ، أما النذر فقال أبو مسلم : النذر كالوعد ، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر ، وإن كان من الله تعالى فهو وعد ، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول لله على كذا وكذا من الصدقة ، أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى مثل أن يقول : إن شفى الله مريضي ، أو رد غائبي فعلى كذا كذا ، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر ، كما إذا قال : إن دخل فلان الدار فعلى كذا ، فمن الناس من جعله كاليمين ، ومنهم من جعله من باب النذر ، إذا عرفت هذا ، فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال : أولها : أن المراد من النذر هو النذر فقط ، ثم قال الأصم : هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر عى أداء الواجبات. لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه الله عليه أوفى ، وهذا / التفسير في غاية الحسن وثانيها : المراد بالنذر ههنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات ، وذلك لأن النذر معناه الإيجاب وثالثها : قال الكلبي : المراد من النذر العهد والعقد ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة : 40) فسمى فرائضه عهداً ، وقال : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } (المائدة : 1) سماها عقوداً لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
المسألة الثانية : هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر ، لأنه تعالى عقبه بيخافون يوماً وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفاً من شر ذلك اليوم ، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجباً ، وتأكد هذا بقوله تعالى : {وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ} (النحل : 91) بعد توكيدها وبقوله : {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (الحج : 29) فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم.
المسألة الثالثة : قال الفراء : وجماعة من أرباب المعاني. كان في قوله : {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} (الإنسان : 5) زائدة. وأما ههنا فكان محذوفة ، والتقدير كانوا يوفون بالنذر. ولقائل أن يقول : إنا بينا أن كان في قوله : {كَانَ مِزَاجُهَا} (الإنسان : 5) ليست بزائدة ، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها ، وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون ، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، ثم قال : السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} .
جزء : 30 رقم الصفحة : 749
النوع الثاني : من أعمال الأبرار التي حكاها الله تعالى عنهم قوله تعالى : {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّه مُسْتَطِيرًا} .
واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل ، فلما حكى عنهم العمل وهو قوله : {يُوفُونَ} حكى عنهم النية وهو قوله : {وَيَخَافُونَ يَوْمًا} وتحقيقه قوله عليه السلام : "إنما الأعمال بالنيات" وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله ، وكل ما كان فعلاً لله فهو يكون حكمة وصواباً ، وما كان كذلك لا يكون شراً ، فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر ؟
الجواب : أنها إنما سميت شراً لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه ، كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شروراً.
(1/4608)
السؤال الثاني : ما معنى المستطير ؟
الجواب : فيه وجهان أحدهما : الذي يكون فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ ، وهو من قولهم : استطار الحريق ، واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر ، فإن قيل : كيف يمكن أن يقال : شر ذلك اليوم مستطير منتشر ، مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} ؟
(الأنبياء : 103) ، قلنا : الجواب من وجهين الأول : أن هول القيامة شديد ، ألا ترى أن السموات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل ، وتتناثر الكواكب ، وتتكور / الشمس والقمر ، وتفرغ الملائكة ، وتبدل الأرض غير الأرض ، وتنسف الجبال ، وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى : {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} (الحج : 2) وقال : {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (المزمل : 17) إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع والجواب الثاني : أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيراً في العصاة والفجار. وأما المؤمنون فهم آمنون ، كما قال : {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ} (الأنبياء : 103) {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} (الزخرف : 68) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } (فاطر : 44) إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب ، فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز.
جزء : 30 رقم الصفحة : 749
القول الثاني : في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله ، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.
السؤال الثالث : لم قال : كان شره مستطيراً ، ولم يقل : وسيكون شره مستطيراً ؟
الجواب : اللفظ وإن كان للماضي ، إلا أنه بمعنى المستقبل ، وهو كقوله : {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ} (الأحزاب : 15) ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيراً في علم الله وفي حكمته ، كأنه تعالى يعتذر ويقول : إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه ، وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد ، وهما يوجبان الوفاء به ، لاستحالة الكذب في كلامي ، فكأنه تعالى يقول : كان ذلك في الحكمة لازماً ، فلهذا السبب فعلته.
النوع الثالث : من أعمال الأبرار قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 749
750
اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله تعالى ، وإليه الإشارة بقول : {تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (الإنسان : 7) والشفقة على خلق الله ، وإليه الإشارة بقوله : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} وههنا مسائل.
المسألة الأولى : لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة ، كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي ، وأبي مسلم الأصفهاني ، والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام ، والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب / "البسيط" أنها نزلت في حق علي عليه السلام ، وصاحب "الكشاف" من المعتزلة ذكر هذه القصة ، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : "أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين ، فلما أمسوا ووضعوا لطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك ، فنزل جبريل عليه السلام وقال : خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرأها السورة" والأولون يقولون : إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان ، ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ثم ذكر وعيد الكافر ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 750
(1/4609)
{إِنَّ الابْرَارَ يَشْرَبُونَ} (الإنسان : 5) وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار ، ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد ، لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بياناً لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين ، فلو جعلناه مختصاً بشخص واحد لفسد نظم السورة والثاني : أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله : {إِنَّ الابْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّه مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان : 5 ، 7 ، 8) وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر ، ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه ، ولكنه أيضاً داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين ، فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها ، فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبتة ، اللهم إلا أن يقال : السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه ، ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
جزء : 30 رقم الصفحة : 750
المسألة الثانية : الذين يقولون : هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام ، قالوا : المراد من قوله : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير ، وأما الذين يقولون الآية عامة في حق جميع الأبرار (فإنهم) قالوا : إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان ، وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه ، ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام وذلك لأن قوام الأبدان / بالطعام ولا حياة إلا به ، وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه ، فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن جميع وجوه المنافع ، فيقال : أكل فلان ماله إذا أتلفه في سائر وجوه الإتلاف ، وقال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } (النساء : 10) وقال : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ} (البقرة : 188) إذا ثبت هذا فنقول : إن الله تعالى وصف هؤلاء الأبرار بأنهم يواسون بأموالهم أهل الضعف والحاجة ، وأما قوله تعالى : {عَلَى حُبِّه } ففيه وجهان أحدهما : أن يكون الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونظيره {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } (البقرة : 177) {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قال : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (الحشر : 9) والثاني : قال الفضيل بن عياض على حب الله أي لحبهم لله : واللام قد تقام مقام على ، وكذلك تقام على مقام اللام ، ثم إنه تعالى ذكر أصناف من تجب مواساتهم ، وهم ثلاثة أحدهم : المسكين وهو العاجز عن الاكتساب بنفسه والثاني : اليتيم وهو الذي مات كاسبه فيبقى عاجزاً عن الكسب لصغره مع أنه مات كسبه والثالث : الأسير وهو المأخوذ من قومه المملوكـ(ـه) رقبته الذي لا يملك لنفسه نصراً ولا حيلة ، وهؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى ههنا هم الذين ذكرهم في قوله : {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (
جزء : 30 رقم الصفحة : 750
(1/4610)
البلد : 11 ، 16) وقد ذكرنا اختلاف الناس في المسكين قبل هذا ، أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال : أحدها : قال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الأسير من المشركين ، روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم ، وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو فداء أو استرقاق ، ولا يمتنع أيضاً أن يكون المراد هو الأسير كافراً كان أو مسلماً ، لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه فمع الإسلام أولى ، فإن قيل : لما وجب قتله فكيف يجب إطعامه ؟
قلنا : القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى ، ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر ، ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ثم هذا الإطعام على من يجب ؟
فنقول : الإمام يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين وثانيها : قال السدي : الأسير هو المملوك وثالثها : الأسير هو الغريم قال عليه السلام : "غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك" ورابعها : الأسير هو المسجون من أهل القبلة وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ، وروى ذلك مرفوعاً من طريق الخدري أنه عليه السلام قال : {مِسْكِينًا} فقيراً {وَيَتِيمًا} لا أب له {وَأَسِيرًا} قال المملوك : المسجون وخامسها : الأسير هو الزوجة لأنهن أسراء عند الأزواج ، قال عليه الصلاة والسلام : "اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم أعوان" قال القفال : واللفظ يحتمل كل ذلك لأن الأصل الأسر هو الشد بالقد ، وكان الأسير يفعل به ذلك حبساً له ، ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد فعاد المعنى إلى الحبس.
/ واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين أحدهما : تحصيل رضا الله. وهو المراد من قوله : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} والثاني : الاحتراز من خوف يوم القيامة وهو المراد من قوله : {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} إلى قوله : {قَمْطَرِيرًا} يحتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون هؤلاء الأبرار قد قالوا : هذه الأشياء باللسان ، إما لأجل أن يكون ذلك القول منعاً لأولئك المحتاجين عن المجازاة بمثله أو بالشكر ، لأن إحسانهم مفعول لأجل الله تعالى فلا معنى لمكافأة الخلق ، وإما أن يكون لأجل أن يصير ذلك القول تفقيهاً وتنبيهاً على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله حتى يقتدي غيرهم بهم في تلك الطريقة وثانيها : أن يكونوا أرادوا أن يكون ذلك وثالثها : أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً. وعن مجاهد أنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى عليهم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 750
المسألة الثانية : اعلم أن الإحسان من الغير تارة يكون لأجل الله تعالى ، وتارة يكون لغير الله تعالى إما طلباً لمكافأة أو طلباً لحمد وثناء وتارة يكون لهما وهذا هو الشرك والأول هو المقبول عند الله تعالى ، وأما القسمان الباقيان فمردودان قال تعالى : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَه رِئَآءَ النَّاسِ} (البقرة : 264) وقال : {وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِندَ اللَّه وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَواةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} (الروم : 39) ولا شك أن التماس الشكر من جنس المن والأذى. إذا عرفت هذا فنقول : القوم لما قالوا : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} بقي فيه احتمال أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك ، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله : {لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلا شُكُورًا} .
المسألة الثالثة : الشكور والكفور مصدران كالشكر والكفر ، وهو على وزن الدخول والخروج ، هذا قول جماعة أهل اللغة ، وقال الأخفش : إن شئت جعلت الشكور جماعة الشكر وجعلت الكفور جماعة الكفر لقول : {فَأَبَى الظَّـالِمُونَ اِلا كُفُورًا} (الإسراء : 99) مثل برد وبرود وإن شئت مصدراً واحداً في معنى جمع مثل قعد قعوداً وخرج خروجاً.
المسألة الرابعة : قوله : {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا} يحتمل وجهين أحدهما : أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم والثاني : أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة ، فإن قيل : إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر وعلل ذلك بخوف القيامة فقط ، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين بطلب رضاء الله وبالخوف عن القيامة فما السبب فيه ؟
قلنا : الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى ، وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط ، أما الإطعام ، فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله ، فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة.
(1/4611)
/ المسألة الخامسة : وصف اليوم بالعبوس مجازاً على طريقتين أحدهما : أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولهم : نهارك صائم ، روي أن الكافر يحبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران والثاني : أن يشبه في شدته وضراوته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.
جزء : 30 رقم الصفحة : 750
المسألة السادسة : قال الزجاج : جاء في التفسير أن قمطريراً معناه تعبيس الوجه ، فيجتمع ما بين العينين ، قال : وهذا سائغ في اللغة يقال : اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها يعني أن معنى قمطر في اللغة جمع ، وقال الكلبي : قمطريراً يعني شديداً وهو قول الفراء وأبي عبيدة والمبرد وابن قتيبة ، قالوا : يوم قمطرير ، وقماطر إذا كان صعباً شديداً أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ، قال الواحدي : هذا معنى والتفسير هو الأول.
جزء : 30 رقم الصفحة : 750
751
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين طلب رضا الله والخوف من القيامة بين في هذه الآية أنه أعطاهم هذين الغرضين ، أما الحفظ من هول القيامة ، فهو المراد بقوله : {فَوَقَـاـاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ} وسمى شدائدها شراً توسعاً على ما علمت ، واعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب ، وأما طلب رضاء الله تعالى فأعطاهم بسببه نضرة في الوجه وسروراً في القلب ، وقد مر تفسير {وَلَقَّـاـاهُمْ} في قوله : {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً} (الفرقان : 75) وتفسير النضرة في قوله : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ} (القيامة : 23) والتنكير في للتعظيم والتفخيم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 751
752
والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري ، بستاناً فيه مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي ، ونظيره قوله تعالى : {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (الحج : 23) أقول : وهذا يدل على أن المراد من قوله : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} (الإنسان : 9) ليس هو الإطعام فقط بل جميع أنواع المواساة من الطعام والكسوة ، ولما ذكر تعالى طعامهم ولباسهم ، وصف مساكنهم ، ثم إن المعتبر في المساكن أمور :
أحدها : الموضع الذي يجلس فيه فوصفه بقوله : {مُّتَّكِـاِينَ فِيهَا عَلَى الارَآاـاِكِ } وهي السرر في الحجال ، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعت ، وفي نصب متكئين وجهان الأول : قال الأخفش : إنه نصب على الحال ، والمعنى وجزاهم جنة في حال اتكائهم كما تقول : جزاهم ذلك قياماً ، والثاني : قال الأخفش : وقد يكون على المدح.
/ والثاني : هو المسكن فوصفه بقوله : {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} وفيه وجهان أحدهما : أن هواءها معتدل في الحر والبرد والثاني : أن الزمهرير هو القمر في لغة طيء هكذا رواه ثعلب وأنشد :
وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس وقمر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 752
752
والثالث : كونه بستاناً نزهاً ، فوصفه الله تعالى بقوله : {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـالُهَا} وفي الآية سؤالان الأول : ما السبب في نصب {وَدَانِيَةً} ؟
الجواب : ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج فيه وجهين أحدهما : الحال بالعطف على قوله : {مُتَّكِـاِينَ} كما تقول في الدار : عبدالله متكئاً ومرسلة عليه الحجال ، لأنه حيث قال : عليهم رجع إلى ذكرهم والثاني : الحال بالعطف على محل : {يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} (الإنسان : 13) والتقدير غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـالُهَا} ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد ، ودنو الظلال عليهم والثالث : أن يكون دانية نعتاً للجنة ، والمعنى : وجزاهم جنة دانية ، وعلى هذا الجواب تكون دانية صفة لموصوف محذوف ، كأنه قيل : وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً ، وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها ، وذلك لأنهم وعدوا جنتين ، وذلك لأنهم خافوا بدليل قوله : {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا} (الإنسان : 10) وكل من خاف فله جنتان ، بدليل قوله : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) وقرىء : {وَدَانِيَةً} بالرفع على أن {ظِلَـالُهَا} مبتدأ {وَدَانِيَةً} خبر ، والجملة في موضع الحال ، والمعنى : {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} (الإنسان : 13) والحال أن ظلالها دانية عليهم.
السؤال الثاني : الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس ، فإن كان لا شمس في الجنة فكيف يحصل الظل هناك ؟
والجواب : أن المراد أن أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلله منها.
(1/4612)
قوله تعالى : {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} ذكروا في ذللت وجهين الأول : قال ابن قتيبة : ذللت أدنيت منهم من قولهم : حائط ذليل إذا كان قصير السمك والثاني : ظللت أي جعلت منقادة ولا تمتنع على قطافها كيف شاءوا. قال البراء بن عازب : ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا ، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 752
واعلم أنه تعالى لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف بعد ذلك شرابهم وقدم عليه / وصف تلك الأواني التي فيها يشربون فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 752
752
في الآية سؤالات :
السؤال الأول : قال تعالى : {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } (الزخرف : 71) والصحاف هي القصاع ، والغالب فيها الأكل فإذا كان ما يأكلون فيه ذهباً فما يشربون فيه أولى أن يكون ذهباً لأن العادة أن يتنوق في إناء الشرب مالا يتنوق في إناء الأكل وإذا دلت هذه الآية على أن إناء شربهم يكون من الذهب فكيف ذكر ههنا أنه من الفضة والجواب : أنه لا منافاة بين الأمرين فتارة يسقون بهذا وتارة بذاك.
السؤال الثاني : ما الفرق بين الآنية والأكواب ؟
الجواب : قال أهل اللغة : الأكواب الكيزان التي لا عرى لها ، فيحتمل أن يكون على معنى أن الإناء يقع فيه الشرب كالقدح ، والكوب ما صب منه في الإناء كالإبريق.
السؤال الثالث : ما معنى كانت ؟
الجواب : هو من يكون في قوله : {كُن فَيَكُونُ} أي تكونت قوارير بتكوين الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين.
السؤال الرابع : كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير ؟
الجواب : عنه من وجوه أحدها : أن أصل القوارير في الدنيا الرمل وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة فكما أن الله تعالى قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية ، فكذلك هو قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة ، فالغرض من ذكر هذه الآية ، التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا ، فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين ، فكذا بين القارورتين في الصفاء واللطافة وثانيها : قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء وإذا كان كذلك فكمال الفضة في بقائها ونقائها وشرفها إلا أنه كثيف الجوهر ، وكمال القارورة في شفافيتها وصفائها إلا أنه سريع الانكسار ، فآنية الجنة آنية يحصل فيها من الفضة بقاؤها ونقاؤها ، وشرف جوهرها ، ومن القارورة ، صفاؤها وشفافيتها وثالثها : أنها تكون فضة ولكن لها صفاء القارورة ، ولا يستبعد من قدرة الله تعالى الجمع بين هذين الوصفين ورابعها : أن المراد في الآية ليس هو الزجاج ، فإن العرب تسمى ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة ورق وصفاً قارورة ، فمعنى الآية {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} مستديرة صافية رقيقة.
/
جزء : 30 رقم الصفحة : 752
السؤال الخامس : كيف القراءة في {قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} ؟
الجواب : قرئا غير منونين وبتنوين الأول وبتنوينهما ، وهذا التنوين بدل عن ألف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لاتباعه الأول لأن الثاني بدل من الأول فيتبع البدل المبدل ، وقرىء : {قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} بالرفع على هي قوارير ، وقدروها صفة لقوارير من فضة.
أما قوله تعالى : {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال المفسرون معناه : {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص من الري ليكون ألذ لشربهم ، وقال الربيع بن أنس : إن تلك الأواني تكون بمقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها.
المسألة الثانية : أن منتهى مراد الرجل في الآنية التي يشرب منها الصفاء والنقاء والشكل. أما الصفاء فقد ذكره الله تعالى بقوله : {كَانَتْ قَوَارِيرَا } وأما النقاء فقد ذكره بقوله : من فضة ، وأما الشكل فقد ذكره بقوله : {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} .
المسألة الثالثة : المقدر لهذا التقدير من هو ؟
فيه قولان : الأول : أنهم هم الطائفون الذين دل عليهم قوله تعالى : {وَيُطَافُ عَلَيْهِم} وذلك أنهم قدروا شرابها على قدر ري الشارب والثاني : أنهم هم الشاربون وذلك لأنهم إذا اشتهوا مقداراً من المشروب جاءهم على ذلك القدر.
واعلم أنه تعالى لما وصف أواني مشروبهم ذكر بعد ذلك وصف مشروبهم ، فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 752
753
(1/4613)
العرب كانوا يحبون جعل الزنجبيل في المشروب ، لأنه يحدث فيه ضرباً من اللذع ، فلما كان كذلك وصف الله شراب أهل الجنة بذلك ، ولا بد وأن تكون في الطيب على أقصى الوجوه. قال ابن عباس : وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن مما في الجنة ، فليس منه في الدنيا إلا الاسم ، وتمام القول ههنا مثل ما ذكرناه في قوله : {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} .
جزء : 30 رقم الصفحة : 753
754
فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن ، فعلى هذا لا يعرف له اشتقاق ، وقال الأكثرون : يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ، ودلت على غاية السلاسة ، قال الزجاج : السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة ، والفائدة في ذكر السلسبيل هو أن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل ، وليس فيه لذعة لأن نقيض اللذع هو السلاسة ، وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه : سل سبيلاً إليها ، وهو بعيد إلا أن يراد أن جملة قول / القائل : سلسبيلا جعلت علماً للعين ، كما قيل : تأبط شراً ، وسميت بذلك ، لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح.
المسألة الثانية : في نصب عيناً وجهان أحدهما : أنه بدل من زنجبيلاً وثانيهما : أنه نصب على الاختصاص.
المسألة الثالثة : سلسبيلاً صرف لأنه رأس آية ، فصار كقوله الظنونا والسبيلا ، وقد تقدم في هذه السورة بيان ذلك. واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادماً في تلك المجالس.
جزء : 30 رقم الصفحة : 754
756
فقال : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها ، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة ، قال الفراء : يقال مخلدون مسورون ويقال : مقرطون. وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة : قوله تعالى : {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} وفي كيفية التشبيه وجوه أحدها : شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ، ولو كان صفاً لشبهوا باللؤلؤ المنظوم ، ألا ترى أنه تعالى قال : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين وثانيها : أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وثالثها : قال القاضي : هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفاً للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة ، أتبعه بما يدل على أن هناك أموراً أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 756
757
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : رأيت هل له مفعول ؟
فيه قولان : الأول : قال الفراء : المعنى وإذا رأيت ما ثم وصلح إضمار ما كما قال : {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} يريد ما بينكم ، قال الزجاج : لا يجوز إضمار ما لأن ثم صلة وما موصولها ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة الثاني : أنه ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر والغرض منه أن يشبع ويعم ، كأنه قيل : وإذا وجدت الرؤية ثم ، ومعناه أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير ، وثم في موضع النصب على الظرف يعني في الجنة.
المسألة الثانية : اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة. قضاء الشهوة ، وإمضاء / الغضب ، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه ، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها ، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايراً لتلك اللذات الحقيرة ، وما هو إلا أن تصير نفسه منقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت ، وأما ما هو على أصول المتكلمين ، فالوجه فيه أيضاً أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم ، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره ، قال ابن عباس : لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه. ويقال : إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كمايرى أدناه ، وقيل : لا زوال له وقيل : إذا أرادوا شيئاً حصل ، ومنهم من حمله على التعظيم. فقال الكلبي : هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه ، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.
(1/4614)
المسألة الثالثة : قال بعضهم قوله : {وَإِذَا رَأَيْتَ} خطاب لمحمد خاصة ، والدليل عليه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك ؟
فقال نعم ، فبكى حتى مات ، وقال آخرون : بل هو خطاب لكل أحد.
جزء : 30 رقم الصفحة : 757
758
قوله تعالى : {عَـالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة عاليهم بإسكان الياء والباقون بفتح الياء أما القراءة الأولى : فالوجه فيها أن يكون عاليهم مبتدأ ، وثياب سندس خبره ، والمعنى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ، فإن قيل : عاليهم مفرد ، وثياب سندس جماعة ، والمبتدأ إذا كان مفرداً لا يكون خبره جمعاً ، قلنا : المبتدأ ، وهو قوله : {عَلَيْهِمْ} وإن كان مفرداً في اللفظ ، فهو جمع في المعنى ، نظيره قوله تعالى : {مُسْتَكْبِرِينَ بِه سَـامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (المؤمنون : 67) كأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر أما القراءة الثانية : وهي فتح الياء ، فذكروا في هذا النصب ثلاثة أوجه الأول : أنه نصب على الظرف ، لأنه لما كان عالي بمعنى فوق أجرى مجراه في هذا الإعراب ، كما كان قوله : {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } كذلك وهو قول أبي علي الفارسي والثاني : أنه نصب على الحال ، ثم هذا أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها : قال أبو علي الفارسي : التقدير : ولقاهم نضرة وسروراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثانيها : التقدير : وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثالثها : أن يكون التقدير ويطوف على الأبرار ولدان ، حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس ورابعها : حسبتهم لؤلؤاً منثوراً ، حال ما يكون / عاليهم ثياب سندس ، فعلى الاحتمالات الثلاثة الأول : تكون الثياب الأبرار ، وعلى الاحتمال الرابع تكون الثياب ثياب الولدان الوجه الثالث : في سبب هذا النصب ، أن يكون التقدير : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس.
المسألة الثانية : قرأ نافع وعاصم : خضر واستبرق ، كلاهما بالرفع ، وقرأ الكسائي وحمزة : كلاهما بالخفض ، وقرأ ابن كثير : خضر بالخفض ، واستبرق بالرفع ، وقرأ أبو عمرو وعبدالله بن عامر : خضر بالرفع ، واستبرق بالخفض ، وحاصل الكلام فيه أن خضراً يجوز فيه الخفض والرفع ، أما الرفع فإذا جعلتها صفة لثياب ، وذلك ظاهر لأنها صفة مجموعة لموصوف مجموعة ، وأما الخفض فإذا جعلتها صفة سندس ، لأن سندس أريد به الجنس ، فكان في معنى الجمع ، وأجاز الأخفش وصف اللفظ الذي يراد به الجنس بالجمع ، كما يقال : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض إلا أنه قال : إنه قبيح ، والدليل على قبحه أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد وذلك قولهم : حصى أبيض وفي التنزيل {مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ} و{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} إذ كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجمع ، فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته ، وأما استبرق فيحوز فيه الرفع والخفض أيضاً معاً ، أما الرفع فإذا أريد به العطف على الثياب ، كأنه قيل : ثياب سندس واستبرق وأما الخفض فإذا أريد إضافة الثياب إليه كأنه قيل : ثياب سندس واستبرق ، والمعنى ثيابهما فأضاف الثياب إلى الجنسين كما يقال : ثياب خز وكتان ، ويدل على ذلك قوله تعالى : {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} واعلم أن حقائق هذه الآية قد تقدمت في سورة الكهف.
جزء : 30 رقم الصفحة : 758
المسألة الثالثة : السندس ما رق من الديباج ، والاستبرق ما غلظ منه ، وكل ذلك داخل في اسم الحرير قال تعالى : {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ثم قيل : إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون ، وقيل : بل هذا لباس الأبرار ، وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي يعلوها أفضلها/ ولهذا قال : {عَلَيْهِمْ} وقيل هذا من تمام قوله : {مُّتَّكِـاِينَ فِيهَا عَلَى الارَآاـاِكِ } ومعنى {عَلَيْهِمْ} أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس ، والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج.
قوله تعالى : {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفيه سؤالات :
السؤال الأول : قال تعالى في سورة الكهف : { أولئك لَهُمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} (الكهف : 31) فكيف جعل تلك الأساور ههنا من فضة ؟
والجواب : من ثلاثة أوجه أحدها : أنه لا منافاة بين الأمرين فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة أو على الجمع كما تفعل النساء في الدنيا وثانيها : أن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب ، فالله تعالى يعطي كل أحد ما تكون رغبته فيه أتم ، وميله إليه / أشد وثالثها : أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للوالدان الذين هم الخدم وأسورة الذهب للناس.
(1/4615)
السؤال الثاني : السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال ، فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب ؟
الجواب : أهل الجنة جرد مرد شباب فلا يبعد أن يحلوا ذهباً وفضة وإن كانوا رجالاً ، وقيل : هذه الأسورة من الفضة والذهب إنما تكون لنساء أهل الجنة وللصبيان فقط ، ثم غلب في اللفظ جانب التذكير ، وفي الآية وجه آخر ، وهو أن آلة أكثر الأعمال هي اليد وتلك الأعمال والمجاهدات هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المعارف الإلهية والأنوار الصمدية ، فتكون تلك الأعمال جارية مجرى الذهب والفضة التي يتوسل بهما إلى تحصيل المطالب ، فلما كانت تلك الأعمال صادرة من اليد كانت تلك الأعمال جارية مجرى سوار الذهب والفضة ، فسميت الأعمال والمجاهدات بسوار الذهب والفضة ، وعبر عن تلك الأنوار الفائضة عن الحضرة الصمدية بقوله : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} وبالجملة فقوله : {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} إشارة إلى قوله : {وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا} وقوله : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} إشارة إلى قوله : {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فهذا احتمال خطر بالبال ، والله أعلم بمراده.
جزء : 30 رقم الصفحة : 758
قوله تعالى : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} الطهور فيه قولان : الأول : المبالغة في كونه طاهراً ، ثم فيه على هذا التفسير احتمالات أحدها : أنه لا يكون نجساً كخمر الدنيا وثانيها : المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة يعني ما مسته الأيدي الوضرة ، وما داسته الأقدام الدنسة وثالثها : أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك القول الثاني : في الطهور أنه المطهر ، وعلى هذا التفسير أيضاً في الآية احتمالان أحدهما : قال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد ، وما كان في جوفه من قذر وأذى وثانيهما : قال أبو قلابة : يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور ، مطهراً لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة ، والأشياء المؤذية ، فإن قيل : قوله تعالى : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ} هو عين ما ذكر تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور ، والزنجبيل ، والسلسبيل أو هذا نوع آخر ؟
قلنا : بل هذا نوع آخر ، ويدل عليه وجوه أحدها : دفع التكرار وثانيها : أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه ، فقال : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ} وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره وثالثها : ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة/ فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون ، / فيطهر ذلك بطونهم ، ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك ، وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة ، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ، ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب ، وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ، وكل ذلك يدل على المغايرة ورابعها : وهو أن الروح من عالم الملائكة ، والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة ، وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوى البدن ، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة ، فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة ، فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس ، ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض ، وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس ، فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى الله تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ، ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع ، ومن نور إلى نور ، ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله ، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة ، بل فنيت ، لأن نور ما سوى الله تعالى يضمحل في مقابلة نور الله وكبريائه وعظمته ، وذلك هو آخر سير الصديقين ، ومنتهى درجاتهم في الإرتقاء والكمال ، فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله : {وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} .
واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء ، قال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 758
759
(1/4616)
اعلم أن في الآية وجهين الأول : قال ابن عباس المعنى أنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ، ومشاهدتهم لنعيمها : إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله تعالى لكم إلى هذا الوقت ، فهو كله لكم بأعمالكم على قلة أعمالكم ، كما قال حاكياً عن الملائكة : إنهم يقولون لأهل الجنة : {سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 24) وقال : {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِى ـاَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الايَّامِ الْخَالِيَةِ} (الحاقة : 24) والغرض من ذكر هذا الكلام أن يزداد سرورهم ، فإنه يقال للمعاقب : هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وألم قلبه ، ويقال للمثاب : هذا بطاعتك ، فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره ، والقائل بهذا التفسير جعل القول مضمراً ، أي ويقال لهم : هذا الكلام الوجه الثاني : أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى لعباده في الدنيا ، فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة ، أن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي ، لكم خلقتها ، ولأجلكم أعددتها ، وبقي في الآية سؤالان :
/ السؤال الأول : إذا كان فعل العبد خلفاً لله ، فكيف يعقل أن يكون فعل الله جزاء على فعل الله ؟
الجواب : الجزء هو الكافي ، وذلك لا ينافي كونه فعلاً لله تعالى.
السؤال الثاني : كون سعي العبد مشكوراً لله يقتضي كون الله شاكراً له والجواب : كون الله تعالى شاكراً للعبد محال إلا على وجه المجاز ، وهو من ثلاثة أوجه الأول : قال القاضي : إن الثواب مقابل لعلمهم ، كما أن الشكر مقابل للنعم الثاني : قال القفال : إنه مشهور في كلام الناس ، أن يقولوا : للراضي بالقليل والمثني به إنه شكور ، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده هو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات ، وإعطاؤه إياهم عليه ثواباً كثيراً الوجه الثالث : أن منتهى درجة العبد أن يكون راضياً من ربه مرضياً لربه على ما قال : {أَحَدٌ * يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 27 ، 28) وكونها راضية من ربه ، أقل درجة من كونها مرضية لربه ، فقوله : {إِنَّ هَـاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} إشارة إلى الأمر الذي به تصير النفس راضية من ربه وقوله : {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} إشارة إلى كونها مرضية لربه ، ولما كانت هذه الحال أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 759
760
(1/4617)
اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـاًا مَّذْكُورًا} (الإنسان : 1) ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج ، والمراد منه إما كونه مخلوقاً من العناصر الأربعة أو من الأخلاط الأربعة أو من ماء الرجل والمرأة أو من الأعضاء والأرواح أو من البدن والنفس أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ، وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية ، فلذلك يدل على أنه لا بد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه. ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعاً عاطلاً باطلاً ، بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان ، وإليه الإشارة بقوله : {نَّبْتَلِيهِ} (الإنسان : 2) وههنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر ، ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان ، وهو السمع والبصر والعقل ، وإليه الإشارة بقوله : {فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا} (الإنسان : 2) ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر ، فقال : {إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ} (الإنسان : 3) ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين : منهم شاكر ، ومنهم كفور ، وهذا الإنقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية ، أو من الله على ما هو تأويل الجبرية ، ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار ، ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء ، وهو إلى قوله : {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} (الإنسان : 22) واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب / الرحمة أغلب وأقوى ، فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة ، ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا ، وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين. أما المطيعون فهم الرسول وأمته ، والرسول هو الرأس والرئيس ، فلهذا خص الرسول بالخطاب. واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر ، ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر ، قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلّم ، وإزالة الغم والوحشة عن خاطره ، وإنما فعل ذلك ، لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة. ذكر نهيه عن بعض الأشياء ، ثم بعد الفراغ عن النهي ، ذكر أمره ببعض الأشياء ، وإنما قدم النهي على الأمر ، لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع ، وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي ، ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه ، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة ، وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام ، فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار ، وله الشكر عليه أبد الآباد.
جزء : 30 رقم الصفحة : 760
ولنرجع إلى التفسير ، فنقول : أما تلك المقدمة ، فهي : قوله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلا} واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله ، فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسماً ، لأن تأكيداً على تأكيد أبلغ ، كأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إن ذلك كهانة ، فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي ، وهذا فيه فائدتان :
إحداهما : إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار/ فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السموات عظمه وصدقه.
والثانية : تقويته على تحمل التكليف المستقبل ، وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه ، وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة ، وكان ذلك شاقاً عليه ، فقال له : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلا} فكأنه قال له : إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقاً منجماً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال ، فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل.
ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 760
760
فإما أن يكون المعنى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} في تأخير الإذن في القتال ونظيره {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ} (الأعراف : 87) أو يكون المعنى عاماً في جميع التكاليف ، أي فاصبر في كل ما حكم به ربك سواء كان ذلك تكليفاً خاصاً بك من العبادات والطاعات أو متعلقاً بالغير وهو التبليغ وأداء الرسالة ، وتحمل المشاق الناشئة من ذلك ، ثم في الآية سؤالات :
(1/4618)
السؤال الأول : قوله : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} دخل فيه أن {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً} فكأن ذكره بعد هذا تكريراً. الجواب : الأول أمر بالمأمورات ، والثاني نهى عن المنهيات ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح فيكون التصريح به مفيداً.
السؤال الثاني : أنه عليه السلام ما كان يطيع أحداً منهم ، فما الفائدة في هذا النهي ؟
الجواب : المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد ، لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد ، وأن أحداً لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده ، لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم ، ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم ، لأنه لا بد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات.
جزء : 30 رقم الصفحة : 760
السؤال الثالث : ما الفرق بين الآثم والكفور ؟
الجواب : الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت ، والكفور هو الجاحد للنعمة ، فكل كفور آثم ، أما ليس كل آثم كفوراً ، وإنما قلنا : إن الآثم عام في المعاصي كلها لأنه تعالى قال : {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى ا إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء : 48) فسمى الشرك إثماً ، وقال : {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَـادَةَا وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّه ا ءَاثِمٌ قَلْبُه } (البقرة : 283) وقال {وَذَرُوا ظَـاهِرَ الاثْمِ وَبَاطِنَه ا } (الأنعام : 120) وقال : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} (البقرة : 219) فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي ، واعلم أن كل من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان ، لأنه لما عبد غيره ، فقد عصاه وجحد إنعامه ، إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان : الأول : أن المراد شخص معين ، ثم منهم من قال : الآثم ، والكفور هو شخص واحد وهو أبو جهل ، ومنهم من قال : الآثم هو الوليد والكفور هو عتبة ، قال القفال : ويدل عليه أنه تعالى سمي الوليد أثيماً في قوله : {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ} إلى قوله : {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (القلم : 10 ، 12) وروى صاحب الكشاف أن الآثم هو عتبة. والكفور هو الوليد لأن عتبة كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع الفسوق والوليد كان غالياً في الكفر ، والقول الأول أولى لأنه متأيد بالقرآن ، يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلّم : ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولداً وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى ، فإني من أكثرهم مالاً ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَـاعِقَةً مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت : 1 ، 13) فانصرفا عنه وقال أحدهما ظننت أن الكعبة ستقع علي. القول الثاني : أن الآثم والكفور مطلقان غير مختصين بشخص معين ، وهذا هو الأقرب إلى الظاهر ، ثم قال الحسن الآثم هو المنافق والكفور مشركوا العرب/ وهذا ضعيف بل الحق ما ذكرناه من أن الآثم عام والكفور خاص.
/ السؤال الرابع : كانوا كلهم كفرة ، فما معنى القسمة في قوله : {أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ} ؟
الجواب : {الْكَفُورَ} أخبث أنواع الآثم ، فخصه بالذكر تنبيهاً على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله.
جزء : 30 رقم الصفحة : 760
السؤال الخامس : كلمة أو تقتضي النهي عن طاعة أحدهما فلم لم يذكر الواو حتى يكون نهياً عن طاعتهما جميعاً ؟
الجواب : ذكروا فيه وجهين : الأول : وهو الذي ذكره الزجاج واختاره أكثر المحققين أنه لو قيل : ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما لأن النهي عن طاعة مجموع شخصين لا يقتضي النهي عن طاعة كل واحد منهما وحده ، أما النهي عن طاعة أحدهما فيكون نهياً عن طاعة مجموعهما لأن الواحد داخل في المجموع ، ولقائل أن يقول : هذا ضعيف ، لأن قوله : {لا تُطِعْهُ} هذا وهذا معناه كن مخالفاً لأحدهما ، ولا يلزم من إيجاب مخالفة أحدهما إيجاب مخالفتهما معاً ، فإنه لا يبعد أن يقول السيد لعبده : إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه ، أما إذا توافقا فلا تخالفهما. والثاني : قال الفراء : تقدير الآية لا تطع منهم أحداً سواء كان {أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ} كقول الرجل لمن يسأله شيئاً : لا أعطيك سواء سألت أو سكت.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا النهي عقبه بالأمر ، فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 760
761
وفي هذه الآية قولان :
(1/4619)
الأول : أن المراد هو الصلاة قالوا : لأن التقييد بالبكرة والأصيل يدل على أن المراد من قوله : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} الصلوات. ثم قالوا : البكرة هي صلاة الصبح والأصيل صلاة الظهر والعصر {وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَه } المغرب والعشاء ، فتكون هذه الكلمات جامعة الصلوات الخمس وقوله : {وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} المراد منه التهجد ، ثم اختلفوا فيه فقال بعضهم : كان ذلك من الواجبات على الرسول عليه السلام ، ثم نسخ كما ذكرنا في سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله : {فَاسْجُدْ لَه وَسَبِّحْهُ} أمر وهو للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة ، وقال آخرون : بل المراد التطوع وحكمه ثابت.
القول الثاني : أن المراد من قوله : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد ، والمقصود أن يكون ذاكراً لله في جميع الأوقات ليلاً ونهاراً بقلبه ولسانه ، وهو المراد من قوله : {عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} (الأحزاب : 41).
واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلا} (الإنسان : 23) أي / هديناك إلى هذه الأسرار ، وشرحنا صدرك بهذه الأنوار ، وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقاداً مطيعاً لأمرنا ، وإياك وأن تكون منقاداً مطيعاً لغيرنا ، ثم لما أمره بطاعته ، ونهاه عن طاعة غيره قال : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات ، أما معرفة الحقيقة فلا ، فتارة يقال له : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} وهو إشارة إلى معرفة الأسماء ، وتارة يقال له : {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وهو إشارة إلى مقام الصفات ، وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية ، فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات ، إلى الوصول إليها والاطلاع عليها ، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره.
جزء : 30 رقم الصفحة : 761
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين ، فقال تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 761
762
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر ، وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة ، بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية ، وفي الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم قال : وراءهم ولم يقل : قدامهم ؟
الجواب : من وجوه أحدها : لما لم يلتفتوا إليه ، وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم وثانيها : المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف وثالثها : أن تستعمل بمعنى قدام كقوله : {مِّن وَرَآاـاِهِ جَهَنَّمُ} (إبراهيم : 16) {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} (الكهف : 79).
السؤال الثاني : ما السبب في وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل ؟
الجواب : استعير الثقل لشدته وهوله ، من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ونحوه {ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } (الأعراف : 187).
ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل ، قال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 762
764
والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة ، أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة ، وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به ، فإذا أحبوا اللذات العاجلة ، وتلك اللذات لا تحصل / إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به ، وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده ، فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض ، وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم ، وعلى أن يسلب النعمة عنهم ، وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية ، فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله ، وأن يتركوا هذا التمرد ، وحاصل الكلام كأنه قيل لهم : هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة ، إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والإنقياد له ، فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله ، والإعراض عن حكمه ، لكنتم قد تمردتم ، وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب ، وطريقة لطيفة : وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال أهل اللغة : الأسر الربط والتوثيق ، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب ، والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضاً ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب.
(1/4620)
المسألة الثانية : {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ} أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلاً منهم ، وهو كقوله : {عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل : لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة ، وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام ، فإنا قادرون على إفنائهم ، وعلى إيجاد أمثالهم ، ونظيره قوله تعالى : {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاَاخَرِينَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَالِكَ قَدِيرًا} (النساء : 133) وقال : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّا إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (إبراهيم : 19 ، 20) ثم قيل : بدلنا أمثالهم أي في الخلقة ، وإن كانوا أضدادهم في العمل ، وقيل : أمثالهم في الكفر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 764
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف في قوله : {وَإِذَا شِئْنَا} إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله : {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (محمد : 38) {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} (النساء : 133) واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن ، وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط ، إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع ، فلا يقال : إن طلعت الشمس أكرمتك ، أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع ، تقول : آتيك إذا طلعت الشمس ، فههنا لما كان الله تعالى عالماً بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة ، لا جرم حسن استعمال حرف إذا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 764
764
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده : {إِنَّ هَاذِه تَذْكِرَةٌا فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا * وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } والمعنى أن هذه السورة بما فيها من / الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، تذكرة للمتأملين وتبصرة للمستبصرين ، فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلاً. واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه ، واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر ، فالقدري يتمسك بقوله تعالى : {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} ويقول : إنه صريح مذهبي ونظيره : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } والجبري يقول : متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر ، وذلك لأن قوله : {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه سَبِيلا} يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل ، وقوله بعد ذلك : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم ، فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد ، وذلك هو الجبر ، وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم.
واعلم أن الاستدلال على هذا الوجه الذي لخصناه لا يتوجه عليه كلام القاضي إلا أنا نذكره وننبه على ما فيه من الضعف ، قال القاضي : المذكور في هذه الآية اتخاذ السبيل إلى الله ، ونحن نسلم أن الله قد شاءه لأنه تعالى قد أمر به ، فلا بد وأن يكون قد شاءه. وهذا لا يقتضي أن يقال العبد : لا يشاء إلا ما قد شاءه الله على الإطلاق ، إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أنه تعالى قد أراده وشاءه.
واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره القاضي لا تعلق له بالاستدلال على الوجه الذي ذكرناه ، وأيضاً فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص هذا العام بالصورة التي مر ذكرها فيما قبل هذه الآية ، وذلك ضعيف ، لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام به. لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث يعم تلك الصورة وسائر الصور ، بقي في الآية سؤال يتعلق بالإعراب ، وهو أن يقال : ما محل أن يشاء الله ؟
وجوابه النصب على الظرف ، وأصله إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قراءة ابن مسعود : "إلا ما شاء الله" لأن ما مع الفعل كأن معه ، وقرىء أيضاً يشاءون بالياء.
جزء : 30 رقم الصفحة : 764
ثم قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي عليماً بأحوالهم وما يكون منهم حيث خلقهم مع علمه بهم.
ثم ختم السورة فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 764
768
اعلم أن خاتمة هذه السورة عجيبة ، وذلك لأن قوله : {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الإنسان : 30) يدل على أن جميع / ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله ، وقوله : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه ا وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا } يدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله ، فخرج من آخر هذه السورة إلا الله وما هو من الله ، وذلك هو التوحيد المطلق الذي هو آخر سير الصديقين ومنتهى معارجهم في أفلاك المعارف الإلهية ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه } إن فسرنا الرحمة الإيمان ، فالآية صريحة في أن الإيمان من الله ، وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله وفضله وإحصانه لا بسبب الاستحقاق ، وذلك لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل والحاجة المحالين على الله ، والمفضي إلى المحال محال فتركه محال فوجوده واجب عقلاً وعدمه ممتنع عقلاً ، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة ، وأيضاً فلأن من كان مديوناً من إنسان فأدى ذلك الدين إلى مستحقه لا يقال : بأنه إنما دفع ذلك القدر إليه على سبيل الرحمة والتفضل.
المسألة الثانية : قوله : {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا } يدل على أنه جف القلم بما هو كائن ، لأن معنى أعد أنه علم ذلك وقضى به ، وأخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ ، ومعلوم أن التغيير على هذه الأشياء محال ، فكان الأمر على ما بيناه وقلناه.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : نصب الظالمين لأن قبله منصوباً ، والمعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين وقوله : {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا } كالتفسير لذلك المضمر ، وقرأ عبدالله بن الزبير : والظالمون ، وهذا ليس باختيار لأنه معطوف على يدخل من يشاء وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية غير حسن ، وأما قوله في حم عسق : {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِه ا وَالظَّالِمُونَ} فإنما ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصبه في المعنى ، فلم يجز أن يعطف على المنصوب قبله ، فارتفع بالابتداء ، وههنا قوله : {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا } يدل على ذلك الناصب المضمر ، فظهر الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
768
(1/4621)
سورة المرسلات
وهي خمسون آية ميكة
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
768
/ في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الكلمات الخمس إما أن يكون المراد منها جنساً وحداً أو أجناساً مختلفة أما الاحتمال الأول : فذكروا فيه وجوهاً الأول : أن المراد منها بأسرها الملائكة فالمرسلات هم الملائكة الذين أرسلهم الله إما بإيصال النعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين ، وقوله : {عُرْفًا} فيه وجوه : أحدها : متتابعة كشعر العرف يقال : جاؤا عرفاً واحداً وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه والثاني : أن يكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكرة فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة ، فهذا المعنى فيهم ظاهر وإن كانوا لأجل العذاب فذلك العذاب ، وإن لم يكن معروفاً للكفار ، فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم. والثالث : أن يكون مصدراً كأنه قيل : والمرسلات أرسالاً أي متتابعة وانتصاب عرفاً على الوجه الأول على الحال ، وعلى الثاني لكونه مفعولاً أي أرسلت للإحسان والمعروف وقوله : {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} فيه وجهان الأول : يعني أن الله تعالى لما أرسل أولئك الملائكة فهم عصفوا في طيرانهم كما تعصف الرياح. والثاني : أن هؤلاء الملائكة يعصفون بروح الكافر يقال : عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه ، يقال : ناقة عصوف ، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة ، وعصفت الحرب بالقوم ، أي ذهبت بهم ، قال الشاعر :
في فيلق شهباء ملمومة
تعصف بالمقبل والمدبر
(1/4622)
وقوله تعالى : {وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا} معناه أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض ، أو نشروا الشرائع في الأرض ، أو نشروا الرحمة أو العذاب ، أو المراد الملائكة الذين ينشرون / الكتب يوم الحساب ، وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم ، قال تعالى : {وَنُخْرِجُ لَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا} وبالجملة فقد نشروا الشيء الذي أمروا بإيصاله إلى أهل الأرض ونشره فيهم وقوله تعالى : {فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا} معناه أنهم يفرقون بين الحق والباطل ، وقوله : {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} معناه أنهم يلقون الذكر إلى الأنبياء ، ثم المراد من الذكر يحتمل أن يكون مطلق العلم والحكمة ، كما قال : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } (النحل : 2) ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن خاصة ، وهو قوله : {الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنا بَيْنِنَا بَلْ} وقوله : {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى ا إِلَيْكَ الْكِتَـابُ} وهذا الملقى وإن كان هو جبريل عليه السلام وحده ، إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به ، وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه أحدها : شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى ، كما قال تعالى : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (النحل : 50) {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ} (الأنبياء : 27) وثانيها : أنهم أقسام : فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء ، ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم ؛ طائفة منهم بالنهار وطائفة منهم بالليل ، ومنهم من يرسل لقبض أرواح بني آدم ، ومنهم من يرسل بالوحي من سماء إلى أخرى ، إلى أن ينزل بذلك الوحي ملك السماء إلى الأرض/ ومنهم الملائكة الذين ينزلون كل يوم من البيت المعمور إلى الكعبة على ما روي ذلك في الإخبار ، فهذا مما ينتظمه قوله : {وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا} ثم ما فيها من سرعة السير ، وقطع المسافات الكثيرة في المدة اليسيرة ، كقوله : {تَعْرُجُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُه خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ثم ما فيها من نشر أجنحتهم العظيمة عند الطيران ، ونشر العلم والحكمة والنبوة والهداية والإرشاد والوحي والتنزيل ، وإظهار الفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال ذلك الوحي والتنزيل ، وإلقاء الذكر في القلب واللسان بسبب ذلك الوحي ، وبالجملة فالملائكة هم الوسائط بين الله تعالى ، وبين عباده في الفوز بجميع السعادات العاجلة والآجلة والخيرات الجسمانية والروحانية ، فلذلك أقسم الله بهم.
القول الثاني : أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح ، أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفاً ، أي متتابعة كشعر العرف ، كما قال : {يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ} (الروم : 46) {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ} (الحجر : 22) ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة نشرت السحاب في الجو ، كما قال : {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِه } (النمل : 63) وقال : {اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُه فِى السَّمَآءِ} (الروم : 48) ويجوز أيضاً أن يقال : الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات ، وذلك لأنها تلقح فيبرز النبات بذلك ، على ما قال تعالى : {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَـاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر : 22) فبهذا الطريق تكون الرياح ناشرة للنبات وفي كون الرياح فارقة وجوه أحدها : أن الرياح تفرق بعض أجزاء السحاب عن بعض وثانيها : أن الله تعالى خرب بعض القرى بتسليط الرياح عليها ، كما قال : {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} (الحاقة : 6) وذلك سبب لظهور الفرق بين أولياء الله وأعداء الله وثالثها : أن عند حدوث الرياح المختلفة ، وترتيب الآثار العجيبة عليها من تموج السحاب وتخريب الديار تصير الخلق مضطرين إلى الرجوع إلى الله والتضرع على باب رحمته ، فيحصل الفرق بين المقر والمنكر والموحد والملحد ، وقوله : {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} معناه أن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع ، وتهدم الصخور والجبال ، وترفع الأمواج تمسك بذكر الله والتجأ إلى إعانة الله ، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب ، ولا شك أن هذه الإضافة تكون على سبيل المجاز من حيث إن الذكر حصل عند حدوث هذه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
(1/4623)
القول الثالث : من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن ، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن ، فقوله : {وَالْمُرْسَلَـاتِ} المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقوله : {عُرْفًا} أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات {فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا} فالمراد أن دولة الإسلام والقرآن كانت ضعيفة في الأول ، ثم عظمت وقهرت سائر الملل والأديان ، فكأن دولة القرآن عصفت بسائر الدول والملل والأديان وقهرتها ، وجعلتها باطلة دائرة ، وقوله : {وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا} المراد أن آيات القرآن نشرت آثار الحكمة والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً ، وقوله : {فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا} فذلك ظاهر ، لأن آيات القرآن هي التي تفرق بين الحق والباطل ، ولذلك سمي الله تعالى القرآن فرقاناً ، وقوله : {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} فالأمر فيه ظاهر ، لأن القرآن ذكر ، كما قال تعالى : {ا وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ} (ص : 1) {وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } (الزخرف : 44) {وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} ، (الأنبياء : 50) وتذكرة كما قال : {وَإِنَّه لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (الحاقة : 48) وذكرى كما قال : {ذِكْرَى لِلْعَـالَمِينَ} (الأنعام : 90) فظهر أنه يمكن تفسير هذه الكلمات الخمسة بالقرآن ، وهذا وإن لم يذكره أحد فإنه محتمل.
القول الرابع : يمكن حملها أيضاً على بعثة الأنبياء عليهم السلام {وَالْمُرْسَلَـاتِ} هم الأشخاص الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كل خير ومعروف ، فإنه لا شك أنهم أرسلوا بلا إله إلا الله ، وهو مفتاح كل خير ومعروف {فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا} معناه أن أمر كل رسول يكون في أول الأمر حقيراً ضعيفاً ، ثم يشتد ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح {وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا} المراد منه انتشار دينهم ومذهبهم ومقالتهم {فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا} المراد أنهم يفرقون بين الحق والباطل والتوحيد والإلحاد {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} المراد أنهم يدعون الخلق إلى ذكر الله ، ويأمرونهم به ويحثونهم عليه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
القول الخامس : أن يكون المراد أن الرجل قد يكون مشتغلاً بمصالح الدنيا مستغرقاً في طلب لذاتها وراحاتها ، ففي أثناء ذلك يرد في قلبه داعية الإعراض عن الدنيا والرغبة في خدمة المولى ، فتلك الدواعي هي المرسلات عرفاً ، ثم هذه المرسلات لها أثران أحدهما : إزالة حب / ماسوى الله تعالى عن القلب ، وهو المراد من قوله : {فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا} والثاني : ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا الله ، ولا يبصر إلا الله ، ولا ينظر إلا الله ، فذلك هو قوله : {وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا} ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال الله فيراه موجوداً ، ويرى كل ما سواه معدوماً ، فذلك قوله : {فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا} ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته ، ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره ، فذلك قوله : {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} .
(1/4624)
واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة ، وإن كانت غير مذكورة إلا أنها محتملة جداً. وأما الاحتمال الثاني : وهو أن لا يكون المراد من الكلمات الخمس شيئاً واحداً ، ففيه وجوه الأول : ما ذكره الزجاج واختيار القاضي ، وهو أن الثلاثة الأول هي الرياح ، فقوله : {وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا} هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد ما يشتد منه ، {عَصْفًا * وَالنَّـاشِرَاتِ} ما ينشر السحاب. أما قوله : {فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا} فهم الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، بما يتحملونه من القرآن والوحي ، وكذلك قوله : {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا} أنها الملائكة المتحملة للذكر الملقية ذلك إلى الرسل ، فإن قيل : وما المجانسة بين الرياح وبين الملائكة حتى يجمع بينهما في القسم ؟
قلنا : الملائكة روحانيون ، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح القول الثاني : أن الإثنين الأولين هما الرياح ، فقوله : {وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا * فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا} هما الرياح ، والثلاثة الباقية الملائكة ، لأنها تنشر الوحي والدين ، ثم لذلك الوحي أثران أحدهما : حصول الفرق بين المحق والمبطل والثاني : ظهور ذكر الله في القلوب والألسنة ، وهذا القول ما رأيته لأحد ، ولكنه ظاهر الاحتمال أيضاً ، والذي يؤكده أنه قال : {وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا * فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا} عطف الثاني على الأول بحرف الفاء ، ثم ذكر الواو فقال : {وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا} وعطف الإثنين الباقيين عليه بحرف الفاء ، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة القول الثالث : يمكن أيضاً أن يقال : المراد بالأولين الملائكة ، فقوله : {وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا} ملائكة الرحمة ، وقوله : {فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا} ملائكة العذاب ، والثلاثة الباقية آيات القرآن ، لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح ، وتفرق بين الحق والباطل ، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة ، وهذا القول أيضاً ما رأيته لأحد ، وهو محتمل ، ومن وقف على ما ذكرناه أمكنه أن يذكر فيه وجوهاً ، والله أعلم بمراده.
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
المسألة الثانية : قال القفال : الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم ، والواو في بعض مبني على الأصل ، وهو أن عند أهل اللغة الفاء تقتضي الوصل والتعلق ، فإذا قيل : قام زيد فذهب ، فالمعنى أنه قام ليذهب فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به ، وإذا قيل : قام وذهب فهما خبران كل واحد منهما قائم بنفسه لا يتعلق بالآخر ، ثم إن القفال لما مهد هذا الأصل فرع الكلام عليه في هذه الآية بوجوه لا يميل قلبي إليها ، وأنا أفرع على هذا الأصل فأقول : أما من / جعل الأولين صفتين لشيء والثلاثة الأخيرة صفات لشيء واحد ، فالإشكال عنه زائل ، وأما من جعل الكل صفات لشيء واحد ، فنقول : إن حملناها على الملائكة ، فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً ، وذلك الطيران هو العصف ، فالعصف مرتب على الإرسال فلا جرم ذكر الفاء ، أما النشر فلا يترتب على الإرسال ، فإن الملائكة أول ما يبلغون الوحي إلى الرسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً ، بل الخلق يؤذون الأنبياء في أول الأمر وينسبونهم إلى الكذب والسحر والجنون ، فلا جرم لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو ، بلى إذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذكر الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء ، فكأنه والله أعلم قيل : يا محمد إني أرسلت الملك إليك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة ، وفاتحة كل خير ، ولكن لا تطمع في أن ننشر ذلك الأمر في الحالة ، ولكن لا بد من الصبر وتحمل المشقة ، ثم إذا جاء وقت النصرة أجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه ، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق فتصير الأديان الباطلة ضعيفة ساقطة ، ودينك هو الدين الحق ظاهراً غالباً ، وهنالك يظهر ذلك الله على الألسنة ، وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوأ من ذكر الله ، فهذا إذا حملنا هذه الكلمات الخمس على الملائكة ، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر ما شابهه في الرياح وسائر الوجوه والله أعلم.
أما قوله : {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : فيهما قراءتان التخفيف وهو قراءة أبي عمرو وعاصم من رواية حفص والباقون قرأوا بالتثقيل ، أما التخفيف فلا نزاع في كونه مصدراً ، والمعنى إعذاراً وإنذاراً ، وأما التثقيل فزعم أبو عبيدة أنه جمع وليس بمصدر ، وأما الأخفش والزجاج فزعما أنه مصدر ، والتثقيل والتخفيف لغتان ، وقرر أبو علي قول الأخفش والزجاج ، وقال : العذر والعذير والنذر والنذير مثل النكر والنكير ، ثم قال أبو علي : ويجوز في قراءة من ثقل أن يكون عذراً جمع عاذر كشرف وشارف ، وكذلك النذر يجوز أن يكون جمع نذير ، قال تعالى : {هَـاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الاولَى } (النجم : 56).
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
(1/4625)
المسألة الثانية : في النصب ثلاثة أوجه ، أما على تقدير كونه مصدراً فوجهان أحدهما : أن يكون مفعولاً على البدل من قوله : ذكراً والثاني : أن يكون مفعولاً له ، والمعنى والملقيات ذكراً للأعذار والإنذار ، وأما على تقدير كونه جمعاً ، فنصب على الحال من الإلقاء والتقدير فالملقيات ذكراً حال كونهم عاذرين ومنذرين.
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
768
جواب القسم والمعنى ، إن الذي توعدون به من مجيء / يوم القيامة لكائن نازل ، وقال الكلبي : المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع ، واحتج القائلون بالتفسير الأول بأنه تعالى ذكر عقيب هذه الآيات ، علامات يوم القيامة ، فدل على أن المراد من هذه الآية هو القيامة فقط ، ثم إنه ذكر علامات وقوع هذا اليوم.
أولها : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 768
769
وذكرنا تفسير الطمس عند قوله : {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى ا أَمْوَالِهِمْ} (يونس : 88) وبالجملة فيحتمل أن يكون المراد محقت ذواتها ، وهو موافق لقوله : {انتَثَرَتْ} (الإنفطار : 2) و(التكوير : 2) وأن يكون المراد محقت أنوارها ، والأول أولى ، لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار. ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور.
وثانيها : قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 769
769
{طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ} الفرج الشق يقال : فرجه الله فانفرج ، وكل مشقوق فرج ، فههنا قوله : فرجت أي شقت نظيره {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق : 1) {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَـامِ} (الفرقان : 25) وقال ابن قتيبة معناه ، فتحت نظيره ، وفتحت السماء قال الشاعر :
الفارجي باب الأمير المبهم
وثالثها : قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 769
770
وفيه وجهان أحدهما : نسفت كالحب المغلث إذا نسف بالمنسف ، ومنه قوله : {لَّنُحَرِّقَنَّه ثُمَّ لَنَنسِفَنَّه } ونظيره {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} (الواقعة : 5) {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلا} (المزمل : 14) {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} والثاني : اقتلعت بسرعة من أماكنها من انتسفت الشيء إذا اختطفته ، وقرىء {طُمِسَتْ} و{فُرِجَتْ} و{نُسِفَتْ} مشددة.
ورابعها : قوله تعالى :
جزء : 30 رقم الصفحة : 770
770
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أقتت أصلها وقتت ويدل عليه وجوه أحدها : قراءة أبي عمرو وقتت بالواو وثانيها : أن أصل الكلمة من الوقت وثالثها : أن كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة فإنها تبدل على الإطراد همزة أولاً وحشواً ، ومن ذلك أن تقول : صلى القوم إحدانا ، وهذه أجوه حسان وأدؤر في جمع دار ، والسبب فيه أن الضمة من جنس الواو ، فالجمع بينهما يجري مجرى جمع المثلين فيكون ثقيلاً ، ولهذا السبب كان كسر الياء ثقيلاً.
أما قوله تعالى : {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } فلا يجوز فيه البدل لأن الضمة غير لازمة ، ألا ترى أنه لا يسوغ في نحو قولك : {وَكُلا وَعَدَ} أن تبدل.
المسألة الثانية : في التأقيت قولان : الأول : وهو قول مجاهد والزجاج أنه تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم ، وهذا ضعيف ، وذلك لأن هذه الأشياء جعلت علامات / لقيام القيامة ، كأنه قيل : إذا كان كذا وكذا كانت القيامة ، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال : وإذا بين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم قامت القيامة لأن ذلك البيان كان حاصلاً في الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطمس والفرج والنسف مختصة بوقت قيام القيامة ، فكذا هذا التوقيت يجب أن يكون مختصاً بوقت قيام القيامة القول الثاني : أن المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه ، وهذا أقرب أيضاً إلى مطابقة اللفظ ، لأن بناء التفعيلات على تحصيل تلك الماهيات ، فالتسويد تحصيل السواد والتحريك تحصيل الحركة ، فكذا التأقيت تحصيل الوقت ثم إنه ليس في اللفظ بيان أنه تحصيل لوقت أي شيء ، وإنما لم يبين ذلك ولم يعين لأجل أن يذهب الوهم إلى كل جانب فيكون التهويل فيه أشد فيحتمل أن يكون المراد تكوين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم وأن يكون هو الوقت الذي يجتمعون فيه للفوز بالثواب ، وأن يكون هو وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به وسؤال الأمم عما أجابوهم ، كما قال : {فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} وأن يكون هو الوقت الذي يشاهدون الجنة والنار والعرض والحساب والوزن وسائر أحوال القيامة ، وإليه الإشارة بقوله : {وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } .
جزء : 30 رقم الصفحة : 770
770
(1/4626)
أي أخرت كأنه تعالى يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم فقال : لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء : وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين.
ثم إنه تعالى بين ذلك فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 770
770
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يوم يفصل الرحمن بين الخلائق ، وهذا كقوله : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَـاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} .
ثم أتبع ذلك تعظيماً ثانياً فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 770
771
{وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أي وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته.
ثم أتبعه بتهويل ثالث فقال :
جزء : 30 رقم الصفحة : 771
772
أي للمكذبين بالتوحيد والنبوة والمعاد وبكل ما ورد من الأنبياء عليهم السلام وأخبروا عنه ، بقي ههنا سؤالان.
السؤال الأول : كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ؟
الجواب : هو في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك / ودوامه للمدعو عليه ، ونحوه {سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ} ويجوز ويلا بالنصب ، ولكن لم يقرأ به.
السؤال الثاني : أين جواب قوله : {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} ؟
الجواب : من وجهين أحدهما : التقدير : إنما توعدون لواقع ، إذا النجوم طمست ، وهذا ضعيف ، لأنه يقع في قوله : {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} ، الثاني : أن الجواب محذوف ، والتقدير {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} وإذا وإذا ، فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة.
جزء : 30 رقم الصفحة : 772
773
اعلم أن المقصود من هذه الصورة تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر.
فالنوع الأول : من التخويف أنه أقسم على أن اليوم الذي يوعدون به ، وهو يوم الفصل واقع ثم هول فقال : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} ثم زاد في التهويل فقال : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
والنوع الثاني من التخويف : ما ذكر في هذه الآية. وهو أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم. فإذا كان الكفر حاصلاً في هؤلاء المتأخرين ، فلا بد وأن يهلكهم أيضاً ثم قال : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} كأنه يقول ، أما الدنيا فحاصلهم الهلاك ، وأما الآخرة فالعذاب الشديد وإليه الإشارة بقوله : {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاخِرَةَا ذَالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وفي الآية سؤالان الأول : ما المراد من الأولين والآخرين ؟
الجواب : فيه قولان : الأول : أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ثم أتبعهم الآخرين قوم شعيب ولوط وموسى كذلك نفعل بالمجرمين وهم كفار قريش ، وهذا القول ضعيف لأن قوله : {نُتْبِعُهُمُ الاخِرِينَ} بلفظ المضارع فهو يتناول الحال والاستقبال ولا يتناول الماضي ألبتة القول الثاني : أن المراد بالأولين جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقوله : {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخِرِينَ} على الاستئناف على معنى سنفعل ذلك ونتبع الأول الآخر ، ويدل على الاستئناف قراءة عبدالله ، فإن قيل : قرأ الأعرج ثم نتبعهم بالجزم وذلك يدل على الاشتراك في ألم ، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل ، قلنا : القراءة الثابتة بالتواتر نتبعهم بحركة العين ، وذلك يقتضي المستقبل ، فلو اقتضت القراءة بالجزم أن يكون المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين ، وإنه غير جائز. فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم للتخفيف كما روي في بيت امرىء القيس :
واليوم أشرب غير مستحقب
ثم إنه تعالى لما بين أنه يفعل بهؤلاء المتأخرين مثل ما يفعل بأولئك المتقدمين قال : {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين ، فلا جرم في جميع المجرمين ، لأن عموم العلة يقتضي عموم الحكم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 773
ثم قال تعالى : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا ، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدة لهم يوم القيامة.
(1/4627)
السؤال الثاني : المراد من الإهلاك في قوله : {أَلَمْ نُهْلِكِ الاوَّلِينَ} هو مطلق الإماتة أو الإماتة بالعذاب ؟
فإن كان ذلك هو الأول لم يكن تخويفاً للكفار ، لأن ذلك أمر حاصل للمؤمن والكافر ، فلا يصلح تحذيراً للكافر ، وإن كان المراد هو الثاني وهو الإماتة بالعذاب ، فقوله : {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} يقتضي أن يكون الله قد فعل بكفار قريش مثل ذلك ، ومن المعلوم أنه لم يوجد ذلك ، وأيضاً فلأنه تعالى قال : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } الجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإماتة بالتعذيب ، وقد وقع ذلك في حق قريش وهو يوم بدر ؟
سلمنا ذلك ، فلم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالثاً مغايراً للأمرين اللذين ذكروهما وهو الإماتة المستعقبة للذم واللعن ؟
فكأنه قيل : إن أولئك المتقدمين لحرصهم على الدنيا عاندوا الأنبياء وخاصموهم ، ثم ماتوا فقد فاتتهم الدنيا وبقي اللعن عليهم في الدنيا والعقوبة الأخروية دائماً سرمداً/ فهكذا يكون حال هؤلاء الكفار الموجودين ومعلوم أن مثل هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 773
777
اعلم أن هذا هو النوع الثالث : من تخويف الكفار ووجه التخويف فيه من وجهين : الأول : أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، وكلما كانت نعمة الله عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش ، وكلما كان كذلك كان العقاب أعظم ، فلهذا قال عقيب ذكر هذا الإنعام : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} . الوجه الثاني : أنه تعالى ذكرهم كونه قادراً على الابتداء ، وظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة ، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة ، لا جرم قال في حقهم : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} وأما التفسير فهو أن قوله : {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أي من النطفة ، كقوله : {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَـاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ} وهو الرحم ، لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن بخلاف مالا يخلق منه الولد ، ثم قال : {إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} والمراد كونه في الرحم إلى وقت الولادة ، وذلك الوقت معلوم لله تعالى لا لغيره كقوله : {إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى قوله : {وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِ } ، {فَقَدَرْنَا} قرأ نافع وعبدالله بن عامر بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف ، أما التشديد فالمعنى إنا قدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن ، ويتأكد هذا الوجه بقوله تعالى : {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَه } ولأن إيقاع الخلق على هذا التقدير والتحديد نعمة من المقدر على المخلوق فحسن ذكره في موضع ذكر المنة والنعمة ، ومن طعن في هذه القراءة قال : لو صحت هذه القراءة لوجب أن يقال : فقدرنا فنعم المقدرون وأجيب عنه بأن العرب قد تجمع بين اللغتين ، قال تعالى : {فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} وأما القراءة بالتخفيف ففيها وجهان : الأول : أنه من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا {فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ} حيث خلقناه في أحسن الصور والهيئات والثاني : أنه يقال : قدرت الشيء بالتخفيف على معنى قدرته ، قال : الفراء العرب تقول : قدر عليه الموت ، وقدر عليه الموت ، وقدر عليه رزقه وقدر بالتخفيف والتشديد ، قال تعالى : {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه } .
جزء : 30 رقم الصفحة : 777
779
اعلم أن هذا هو النوع الرابع : من تخويف الكفار وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس ، وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق ، ثم قال في آخر الآية : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح فكان استحقاق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً أشد ، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية ، لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق ، فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكناً.
(1/4628)
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا ثلاثة أشياء أولها : الأرض ، وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض ، ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع يقال : كفت الشيء أي ضممته ، ويقال : جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئاً مما يجعل فيه ، ويقال للقدر : كفت. قال صاحب الكشاف : هو اسم ما يكفت ، كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع ، ويقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وتقول : شددت الشيء ثم تسمي الخيط الذي تشد به الشيء شداداً ، وبه انتصب أحياء وأمواتاً كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتاً ، أو بفعل مضمر يدل عليه وهو نكفت ويكون المعنى نكفتكم أحياء وأمواتاً ، فينصبان على الحال من الضمير هذا هو اللغة ، ثم في المعنى / وجوه أحدها : أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم ، ولهذا كانوا يسمون الأرض أما لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله ، ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم وثانيها : أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل الأحياء من الأمور المستقذرة ، فأما أنها تكفت (الأحياء) حال كونهم على ظهرها فلا وثالثها : أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب ، لأن كل ذلك يخرج من الأرض والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها ورابعها : أن قوله : {أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا} معناه راجع إلى الأرض ، والحي ما أنبت والميت مالم ينبت ، بفي في الآية سؤالان :
جزء : 30 رقم الصفحة : 779
الأول : لم قيل : {أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا} على التنكير وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً ؟
الجواب : هو من تنكير التفخيم ، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون ، وأمواتاً لا يحصرون.
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على وجوب قطع النباش ؟
الجواب : نقل القفال أن ربيعة قال : دلت الآية على أن الأرض كفات الميت فتكون حرزاً له ، والسارق ، من الحرز يجب عليه القطع.
النوع الثاني : من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَـامِخَـاتٍ} فقوله : {رَوَاسِىَ} أي ثوابت على ظهر الأرض لا تزول و{شَـامِخَـاتٍ} أي عاليات ، وكل عال فهو شامخ ، ويقال : للمتكبر شامخ بأنفه ، ومنافع خلقة الجبال قد تقدمت في هذا الكتاب.
النوع الثالث : من النعم قوله تعالى : {وَأَسْقَيْنَـاكُم مَّآءً فُرَاتًا} الفرات هو الغاية في العذوبة ، وقد تقدم تفسيره في قوله : {هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
جزء : 30 رقم الصفحة : 779
779
اعلم أن هذا هو النوع الخامس : من وجوه تخويف الكفار وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة فأما قوله : {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} فالمعنى أنه يقال لهم : {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} من العذاب ، والظاهر أن القائلين هم خزنة النار الثاني تكرير ، وقرأ / يعقوب {تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا } على لفظ الماضي ، والمعنى أنهم انقادوا للأمر لأجل أنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعاً منه ، وهذا بعيد لأنه كان ينبغي أن يقال : فانطلقوا بالفاء ، ليرتبط آخر الكلام بأوله ، قال المفسرون : إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق ، وليس عليهم يومئذ لباس ولا كنان ، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم ، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهناك يقولون : {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـاـانَا عَذَابَ السَّمُومِ} ويقال للمكذبين : {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} من عذاب الله وعقابه ، وقوله : {إِلَى ظِلٍّ} يعني دخان جهنم كقوله : {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} ثم إنه تعالى وصف هذا الظل بصفات :
(1/4629)
الصفة الأولى : قوله : {ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ} وفيه وجوه أحدها : قال الحسن : ما أدري ما هذا الظل ، ولا سمعت فيه شيئاً وثانيها : قال قوم المراد بقوله : إلى ظل ذي ثلاث شعب كون النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم ، وتسمية النار بالظل مجاز من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب كقوله : {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } وقال تعالى : {يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وثالثها : قال قتادة : بل المراد الدخان وهو من قوله : {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } وسرادق النار هو الدخان ، ثم إن شعبة من ذلك الدخان على يمينه وشعبة أخرى على يساره ، وشعبة ثالثة من فوقه. وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله ، والقوة الشيطانية في دماغه ، ومنبع جميع الآفاق الصادرة عن الإنسان في عقائده ، وفي أعماله ، ليس إلا هذه الثلاثة ، فتولدت من هذه الينابيع الثلاثة أنواع من الظلمات ، ويمكن أيضاً أن يقال : ههنا درجات ثلاثة ، وهي الحس والخيال ، والوهم ، وهي مانعة للروح عن الاستنارة بأنوار عالم القدس والطهارة ، ولكل واحد من تلك المراتب الثلاثة نوع خاص من الظلمة ورابعها : قال قوم : هذا كناية عن كون ذلك الدخان عظيماً ، فإن الدخان العظيم ينقسم إلى شعب كثيرة وخامسها : قال أبو مسلم ويحتمل في ثلاث شعب ما ذكره بعد ذلك ، وهو أنه : غير ظليل وأنه لا يغني من اللهب وبأنها ترمى بشرر كالقصر.
جزء : 30 رقم الصفحة : 779
الصفة الثانية : لذلك الظل قوله : {لا ظَلِيلٍ} وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين ، والمعنى أن ذلك الظل لا يمنع حر الشمس.
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَلا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} يقال : أغن عني وجهك ، أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده ، كما أن المحتاج يقاربه ، قال صاحب "الكشاف" : إنه في محل الجر ، أي وغيره مغن عنهم ، من حر اللهب شيئاً ، قال القفال : وهذا يحتمل وجهين أحدهما : أن هذا الظل إنما يكون في جهنم ، فلا يظلهم من حرها ، ولا يسترهم من لهيبها ، وقد ذكر الله في سورة الواقعة الظل فقال : {فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} (الواقعة : 42 ، 44) وهذا كأنه في جهنم إذا دخلوها ، ثم قال : {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} فيحتمل أن يكون قوله : {لا ظَلِيلٍ} في معنى : {لا بَارِدٍ} وقوله : {وَلا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} / في معنى : {وَلا كَرِيمٍ} أي لا روح له يلجأ إليه من لهب النار والثاني : أن تكوُّنَ ذلك إنما يكون قبل أن يدخلوا جهنم بل عندما يحسبون للحساب والعرض ، فيقال لهم : إن هذا الظل لا يظلكم من حر الشمس ولا يدفع لهب النار ، وفي الآية وجه ثان : وهو الذي قاله قطرب : وهو أن اللهب ههنا هو العطش يقال : لهب لهباً ورجل لهبان وامرأة لهبى.
الصفة الرابعة : قوله تعالى : {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ} قال الواحدي : يقال شررة وشرر وشرارة وشرار ، وهو ما تطاير من النار متبدداً في كل جهة وأصله من شررت الثوب إذا أظهرته وبسطته للشمس والشرار ينبسط متبدداً ، واعلم أن الله تعالى وصف النار التي كان ذلك الظل دخاناً لها بأنها ترمي بالشرارة العظيمة ، والمقصود منه بيان أن تلك النار عظيمة جداً ، ثم إنه تعالى شبه ذلك الشرر بشيئين الأول : بالقصر وفي تفسيره قولان : أحدهما : أن المراد منه البناء المسمى بالقصر قال ابن عباس : يريد القصور العظام الثاني : أنه ليس المراد ذلك ، ثم على التقدير ففي التفسير وجوه أحدها : أنها جمع قصرة ساكنة الصاد كتمرة وتمر وجمرة وجمر ، قال المبراد : يقال للواحد من الحطب الجزل الغليظ قصرة والجمع قصر ، قال عبد الرحمن بن عابس : سألت ابن عباس عن القصر فقال : هو خشب كنا ندخره للشتاء نقطعه وكنا نسميه القصر ، وهذا قول سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك ، إلا أنهم قالوا : هي أصول النخل والشجر العظام ، قال صاحب "الكشاف" : قرىء كالقصر بفتحتين وهي أعناق الإبل أو أعناق النخل نحو شجرة وشجر ، وقرأ ابن مسعود كالقصر بمعنى القصر كرهن ورهن ، وقرأ سعيد بن جبير كالقصر في جمع قصرة كحاجة وحوج.
جزء : 30 رقم الصفحة : 779
التشبيه الثاني : قوله تعالى : {كَأَنَّه جِمَـالَتٌ صُفْرٌ} وفيه مسألتان :
(1/4630)
المسألة الأولى : جمالات جمع جمال كقوهم : رجالات ورجال وبيوتات وبيوت ، وقرأ ابن عباس حمالات بضم الجيم وهو قراءة يعقوب وذكروا وجوهاً أحدها : قيل : الجمالات بالضم الحبال الغلاظ وهي حبال السفن ، ويقال لها : القلوس ومنهم من أنكر ذلك وقال : المعروف في الحبال إنما هو الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وقرىء : {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ} وثانيها : قيل هي قطع النحاس ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وابن عباس ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه وثالثها : قال الفراء : يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل ، يقال : أجملت الحساب ، وجاء القوم جملة أي مجتمعين ، والمعنى أن هذه الشررة ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر ، وهذا قول الفراء ورابعها : قال الفراء : يجوز أن يقال : جمالات بضم الجيم جمع جمال بضم الجيم وجمال بضم الجيم يكون جمع جمل ، كما يقاله : رخل ورخال ورخال.
القراءة الثاني : جملة بكسر الجيم هي جمع جمل مثل حجر وحجارة ، قال أبو علي : والتاء إنما لحقت جمالاً لتأنيث الجمع ، كما لحقت في فحل وفحالة.
/ القراءة الرابعة : جملة بضم الجيم وهي القلس ، وقيل : صفر لإرادة الجنس ، أما قوله : صفر فالأكثرون على أن المراد منه سود تضرب إلى الصفرة ، قال الفراء : لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشوب صفرة ، والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كان أشبه بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة. وزعم بعض العلماء أن المراد هو الصفرة لا السواد ، لأن الشرر إنما يسمى شرراً ما دام يكون ناراً ، ومتى كان ناراً كان أصفر/ وإنما يصير أسود إذا انطفأ ، وهناك لا يسمى شرراً ، وهذا القول عندي هو الصواب.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى شبه الشرر في العظم بالقصر ، وفي اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر ، وقيل : أيضاً إن ابتداء الشرر يعظم فيكون كالقصر ثم يفترق فتكون تلك القطع المتفرقة المتتابعة كالجمالات الصفر ، واعلم أنه نقل عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله : {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أن هذا التشبيه إنما ورد في بلاد العرب ، وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة ، فبين تعالى أنها ترمى بشرر كالقصر ، فلما سمع أبو العلاء المعري بهذا تصرف فيه وشبهه بالخيمة من الأديم ، وهو قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 779
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى
ترمى بكل شرارة كطراف
(1/4631)
ثم زعم صاحب الكشاف أنه ذكر ذلك معارضة لهذه الآية ، وأقول : كان الأولى لصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك ، وإذ قد ذكره فلا بد لنا من تحقيق الكلام فيه ، فنقول : تشبيه الشرارة بالطراف يفيد التشبيه في الشكل والعظم ، أما الشكل فمن وجهين الأول : أن الشرارة تكون قبل انشعابها كالنقطة من النار ، فإذا انشعبت اتسعت فهي كالنقطة التي تتسع فهي تشبه الخيمة فإن رأسها كالنقطة ثم إنها لا تزال تتسع شيئاً فشيئاً الثاني : أن الشرارة كالكرة أو الأسطوانة فهي شديدة الشبه بالخيمة المستديرة وأما التشبيه بالخيمة في النظم فالأمر ظاهر ، هذا منتهى هذا التشبيه. وأما وجه القدح فيه فمن وجوه الأول : أن لون الشرارة أصفر يشوبها شيء من السواد ، وهذا المعنى حاصل في الجمالات الصفر وغير حاصل في الخيمة من الأديم الثاني : أن الجمالات متحركة والخيمة لا تكون متحركة فتشبيه الشرار المتحرك بالجمالات المتحركة أولى والثالث : أن الشرارات متتابعة يجيء بعضها خلف البعض وهذا المعنى حاصل في الجمالات الصفر وغير حاصل في الطراف الرابع : أن القصر مأمن الرجل وموضع سلامته فتشبيه الشرر بالقصر تنبيه على أنه إنما تولدت آفته من الموضع الذي توقع منه الأمن والسلامة ، وحال الكافر كذلك فإنه كان يتوقع الخير والسلامة من دينه ، ثم إنه ما ظهرت له آفة ولا محنة إلا من ذلك الدين ، والخيمة ليست مما يتوقع منها الأمن الكلي الخامس : أن العرب كانوا يعتقدون أن كل الجمال في ملك الجمال وتمام النعم إنما يحصل بملك النعم ، ولهذا قال تعالى : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} فتشبيه الشرر بالجمال السود كالتهكم بهم ، كأنه قيل لهم : كنتم تتوقعون من دينكم كرامة ونعمة وجمالاً إلا أن ذلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال ، وهذا المعنى غير حاصل في / الطراف السادس : أن الجمال إذا انفردت واختلط بعضها بالبعض فكل من وقع فيما بين أيديها وأرجلها في ذلك الوقت نال بلاء شديداً وألماً عظيماً ، فتشبيه الشرارات بها حال تتابعها يفيد حصول كمال الضرر ، والطراف ليس كذلك السابع : الظاهر أن القصر يكون في المقدار أعظم من الطراف والجمالات الصفر تكون أكثر في العدد من الطراف فتشبيه هذه الشرارات بالقصر وبالجمالات يقتضي الزيادة في المقدار وفي العدد وتشبهها بالطراف لا يفيد شيئاً من ذلك ، ولما كان المقصود هو التهويل والتخويف كان التشبيه الأول أولى الثامن : أن التشبيه بالشيئين في إثبات وصفين أقوى في ثبوت ذينك الصفين من التشبيه بالشيء الواحد في إثبات ذينك الوصفين ، وبيانه أن من سمع قوله :
جزء : 30 رقم الصفحة : 779
(1/4632)
{إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} تسارع ذهنه إلى أن المراد إثبات عظم تلك الشرارات ، ثم إذا سمع بعد ذلك قوله : {كَأَنَّه جِمَـالَتٌ صُفْرٌ} تسارع ذهنه إلى أن المراد كثرة تلك الشرارات وتتابعها ولونها. أما من سمع أن الشرار كالطراف يبقى ذهنه متوقفاً في أن المقصود بالتشبيه إثبات العظم أو إثبات اللون ، فالتشبيه بالطراف كالمجمل ، والتشبيه بالقصر وبالجمالات الصفر ، كالبيان المفصل المكرر المؤكد. ولما كان المقصود من هذا البيان هو التهويل والتخويف ، فكلما كان بيان وجوه العذاب أتم وأبين كان الخوف أشد ، فثبت أن هذا التشبيه أتم. التاسع : أنه قال في أول الآية : {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ} والإنسان إنما يكون طيب العيش وقت الانطلاق ، والذهاب إذا كان راكباً ، وإنما يجد الظل الطيب إذا كان في قصره ، فوقع تشبيه الشرارة بالقصر والجمالات ، كأنه قيل له : مركوبك هذه الجمالات ، وظلك في مثل هذا القصر ، وهذا يجري مجرى التهكم بهم ، وهذا المعنى غير حاصل في الطراف العاشر : من المعلوم أن تطاير القصر إلى الهواء أدخل في التعجب من تطاير الخيمة ، لأن القصر يكون مركباً من اللبن والحجر والخشب. وهذه الأجسام أدخل في الثقل والاكتناز من الخيمة المتخذة إما من الكرباس أو من الأديم ، والشيء كلما كان أثقل وأشد اكتنازاً كان تطايره في الهواء أبعد ، فكانت النار التي تطير القصر إلى الهواء أقوى من النار التي تطير الطراف في الهواء ، ومعلوم أن المقصود تعظيم أمر النار في الشدة والقوة ، فكان التشبيه بالقصر أولى الحادي عشر : وهو أن سقوط القصر على الإنسان أدخل في الإيلام والإيجاع من سقوط الطراف عليه ، فتشبيه تلك الشرارات بالقصر يفيد أن تلك الشرارات إذا ارتفعت في الهواء ثم سقطت على الكافر فإنها تؤلمه إيلاماً شديداً ، فصار ذلك تنبيهاً على أنه لا يزال يسقط عليه من الهواء شرارات كالقصور بخلاف وقوع الطراف على الإنسان ، فإنه لا يؤلم في الغاية الثاني عشر : أن الجمال في أكثر الأمور تكون موقرة ، فتشبيه الشرارات بالجمال تنبيه على أن مع كل واحد من تلك الشرارات أنواعاً من البلاء والمحنة لا يحصي عددهاإلا الله ، فكأنه قيل : تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء ، وهذا المعنى غير حاصل في الطراف فكان التشبيه بالجمالات أتم.
واعلم أن هذه الوجوه توالت على الخاطر في اللحظة الواحدة ولو تضرعنا إلى الله تعالى في طلب الأزيد / لأعطانا أي قدر شئناً بفضله ورحمته ، ولكن هذه الوجوه كافية في بيان الترجيح والزيادة عليها تعد من الأطناب والله أعلم.
جزء : 30 رقم الصفحة : 779
781
نصب الأعمش يوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، اعلم أن هذا هو النوع السادس : من أنواع تخويف الكفار وتشديد الأمر عليهم ، وذلك لأنه تعالى بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح ، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم ، فيجتمع في حقه في هذا المقام أنواع من العذاب أحدها : عذاب الخجالة ، فإنه يفتضح على رءوس الأشهاد ، ويظهر لكل قصوره وتقصيره وكل من له عقل سليم ، علم أن عذاب الخجالة أشد من القتل بالسيف والاحتراق بالنار وثانيها : وقوف العبد الآبق على باب المولى ووقوعه في يده مع علمه بأنه الصادق الذي يستحيل الكذب عليه ، على ما قال : {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ} وثالثها : أنه يرى في ذلك الموقف خصماءه الذين كان يستخف بهم ويستحقرهم فائزين بالثواب والتعظيم ، ويرى نفسه فائزاً بالخزي والنكال ، وهذه ثلاثة أنواع من العذاب الروحاني ورابعها : العذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها نعوذ بالله منها فلما اجتمعت في حقه هذه الوجوه من العذاب بل ما هو مما لا يصف كنهه إلا الله ، لا جرم قال تعالى في حقهم : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} وفي الآية سؤالان :
جزء : 30 رقم الصفحة : 781
(1/4633)
الأول : كيف يمكن الجمع بين قوله : {هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} وقوله : {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} وقوله : {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقوله : {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن هذا السؤال والجواب : عنه من وجوه أحدها : قال الحسن : فيه إضمار ، والتقدير : هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة ، ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم ، فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا ، لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق ، ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد : ما قلت شيئاً وثانيها : قال الفراء : أراد بقوله : {يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه ، كما يقول : آتيك يوم يقدم فلان ، والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله ، لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة ، ولا يمتد في كل اليوم وثالثها : أن قوله : {لا يَنطِقُونَ} لفظ مطلق ، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ولا في الأوقات ، بدليل أنك تقول : فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير ، وتارة تقول : فلان لا ينطق بشيء ألبتة ، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق قدر مشترك / بين أن لا ينطق ببعض الأشياء ، وبين أن لا ينطق بكل الأشياء ، وكذلك تقول : فلان لا ينطق في هذه الساعة ، وتقول : فلان لا ينطق ألبتة ، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق مشترك بين الدائم والموقت ، وإذا كان كذلك فمفهوم لا ينطق يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء وفي بعض الأوقات ، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر ، فيكفي في صدق قوله : {لا يَنطِقُونَ} أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت السؤال ، وهذا الذي ذكرناه إشارة إلى صحة الجوابين الأولين بحسب النظر العقلي ، فإن قيل : لو حلف لا ينطق في هذا اليوم ، فنطق في جزء من أجزاء اليوم يحنث ؟
قلنا : مبني الإيمان على العرف ، والذي ذكرناه بحث عن مفهوم اللفظ من حيث إنه هو ورابعها : أن هذه الآية وردت عقيب قول خزنة جهنم لهم {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ} فينقادون ويذهبون ، فكأنه قيل : إنهم كانوا يؤمرون في الدنيا بالطاعات فما كانوا يلتفتون. أما في هذه الساعة (فقد) صاروا منقادين مطيعين في مثل هذا الكليف الذي هو أشق من كل شيء ، تنبيهاً على أنهم لو تركوا الخصومة في الدنيا لما احتاجوا في هذا الوقت إلى هذا الانقياد الشاق ، والحاصل أن قوله : {هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} متقيد بهذا الوقت في هذا العمل ، وتقييد المطلق بسبب مقدمة الكلام مشهور في العرف ، بدليل أن المرأة إذا قالت : أخرج هذه الساعة من الدار ، فقال الزوج : لو خرجت فأنت طالق ، فإنه يتقيد هذا المطلق بتلك الخرجة ، فكذا ههنا.
جزء : 30 رقم الصفحة : 781
السؤال الثاني : قوله : {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} يوهم أن لهم عذراً وقد منعوا من ذكره ، وهذا لا يليق بالحكيم والجواب : أنه ليس لهم في الحقيقة عذر ولكن ربما تخيلوا خيالاً فاسداً أن لهم فيه عذراً ، فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر العذر الفاسد ، ولعل ذلك العذر الفاسد هو أن يقول : لما كان الكل بقضائك وعلمك ومشيئتك وخلقك فلم تعذبني عليه ، فإن هذا عذر فاسد إذ ليس لأحد أن يمنع المالك عن التصرف في ملكه كيف شاء وأراد ، فإن قيل : أليس أنه قال : {رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ } وقال : {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِه لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} والمقصود من كل ذلك أن لا يبقى في قلبه ، أن له عذراً ، فهب أن عذره في موقف القيامة فاسد فلم لا يؤذن له في ذكره حتى يذكره ، ثم بيبن له فساده ؟
قلنا : لما تقدم الأعذار والإنذار في الدنيا بدليل قوله : {فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} كان إعادتها غير مفيدة.
(1/4634)
السؤال الثالث : لم لم يقل : ولا يؤذن لهم فيعتذرون ؟
كما قال : {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } الجواب : الفاء ههنا للنسق فقط ، ولا يفيد كونه جزاء ألبتة ومثله {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَـاعِفَه لَه } بالرفع والنصب ، وإنما رفع يعتذرون بالعطف لأنه لو نصب لكان ذلك يوهم أنهم ما يعتذرون لأنهم لم يؤذنوا في الاعتذار ، وذلك يوهم أن لهم فيه عذراً منعوا عن ذكره وهو غير جائز. أما لما رفع كان المعنى أنهم لم يؤذنوا في العذر وهم أيضاً لم يعتذروا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه ، ثم إن فيه فائدة أخرى وهي حصول الموافقة في رءوس الآيات / لأن الآيات بالواو والنون ، ولو قيل : فيعتذروا لم تتوافق الآيات ، ألا ترى أنه قال في سورة اقتربت الساعة : {إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ} فثقل لأن آياتها مثقلة ، وقال في موضع آخر : {وَعَذَّبْنَـاـاهَا عَذَابًا نُّكْرًا} وأجمع القراء على تثقيل الأول وتخفيف الثاني ليوافق كل منهما ما قبله.
جزء : 30 رقم الصفحة : 781
781
اعلم أن هذا هو النوع السابع : من أنواع تهديد الكفار ، وهذا القسم من باب التعذيب بالتقريع والتخجيل ، فأما قوله : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } فاعلم أن ذلك اليوم يقع فيه نوعان من الحكومة أحدهما : ما بين العبد والرب وفي هذا القسم كل ما يتعلق بالرب فلا حاجة فيه إلى الفصل وهو ما يتعلق بالثواب الذي يستحقه المرء على عمله وكذا في العقاب إنما يحتاج إلى الفصل فيما يتعلق بجانب العبد وهو أن تقرر عليهم أعمالهم التي عملوها حتى يعترفوا.
والقسم الثاني : ما يكون بين العباد بعضهم مع بعض ، فإن هذا يدعى على ذاك أنه ظلمني وذاك يدعى على هذا أنه قتلني فههنا لا بد فيه من الفصل وقوله : {جَمَعْنَـاكُمْ وَالاوَّلِينَ} كلام موضح لقوله : {هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } لأنه لما كان هذا اليوم يوم فصل حكومات جميع المكلفين فلا بد من إحضار جميع المكلفين لا سيما عند من لا يجوز القضاء على الغائب ، ثم قال : {فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} يشير به إلى أنهم كانوا يدفعون الحقوق عن أنفسهم بضروب الحيل والكيد فكأنه قال : فههنا إن أمكنكم أن تفعلوا مثل تلك الأفعال المنكرة من الكيد والمكر والخداع والتلبيس فافعلوا ، وهذا كقوله تعالى : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه } ثم إنهم يعلمون أن الحيل منقطعة والتلبيسات غير ممكنة ، فخطاب الله تعالى لهم في هذه الحالة بقوله : {فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} نهاية في التخجيل والتقريع ، وهذا من جنس العذاب الروحاني ، فلهذا قال عقيبة : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .
جزء : 30 رقم الصفحة : 781
781
/ اعلم أن هذا هو النوع الثامن : من أنواع تهديد الكفار وتعذيبهم ، وذلك لأن الخصومة الشديدة والنفرة العظيمة كانت في الدنيا قائمة بين الكفار والمؤمنين ، فصارت تلك النفرة بحيث أن الموت كان أسهل على الكافر من أن يرى للمؤمن دولة وقوة ، فلما بين الله تعالى في هذه السورة اجتماع أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار ، بين في هذه الآية اجتماع أنواع السعادة والكرامة في حق المؤمن ، حتى أن الكافر حال ما يرى نفسه في غاية الذل والهوان والخزي والخسران ، ويرى خصمه في نهاية العز والكرامة والرفعة والمنقبة ، تتضاعف حسرته وتتزايد غمومه وهمومه ، وهذا أيضاً من جنس العذاب الروحاني ، فلهذا قال في هذه الآية : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} وفي الآية مسائل :
(1/4635)
المسألة الأولى : قال مقاتل والكلبي : المراد من قوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} الذين يتقون الشرك بالله ، وأقول هذا القول عندي هو الصحيح الذي لا معدل عنه ، ويدل عليه وجوه أحدها : أن المتقي عن الشرك يصدق عليه أنه متق ، لأن المتقي عن الشرك ماهية مركبة من قيدين أحدهما : أنه متق والثاني : خصوص كونه عن الشرك ، ومتى وجد المركب ، فقد وجد كل واحد من مفرداته لا محالة ، فثبت أن كل من صدق عليه أنه متق عن الشرك ، فقد صدق عليه أنه متق أقصى ما في الباب ، أن يقال : هذه الآية على هذا التقدير تتناول كل من كان متقياً لأي شيء كان ، إلا أنا نقول كونه كذلك لا يقدح فيما قلناه ، لأنه خص كل من لم يكن متقياً عن جميع أنواع الكفر فيبقى فيما عداه حجة لأن العالم الذي دخل التخصيص يبقى حجة فيما عداه وثانيها : أن هذه السورة من أولها إلى آخرها مرتبة في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم عليه ، فهذه الآية يجب أن تكون مذكورة لهذا الغرض ، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها ، والنظم إنما يبقى لو كان هذا الوعد حاصلاً للمؤمنين بسبب إيمانهم ، لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره ، وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سبباً في الزجر عن الكفر ، فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته ، فذلك غير لائق بهذا النظم والترتيب ، فثبت بما ذكرنا أن المراد من قوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} كل من كان متقياً عن الشرك والكفر وثالثها : أن حمل اللفظ على المسمى الكامل أولى ، وأكمل أنواع التقوى هو التقوى عن الكفر والشرك ، فكان حمل اللفظ عليه أولى.
جزء : 30 رقم الصفحة : 781
المسألة الثانية : أنه تعالى لما بعث الكفار إلى ظل ذي ثلاث شعب أعد في مقابلته للمؤمنين ثلاثة أنواع من النعمة أولها : قوله : {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} كأنه قيل : ظلالهم ما كانت ظليلة ، وما كانت مغنية عن اللهب والعطش أما المتقون فظلالهم ظليلة ، وفيها عيون عذبة مغنية لهم عن العطش وحاجزة بينهم وبين اللهب ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها ، ولما قال للكفار : {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ} قال للمتقين : {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِى ـاَا } فإما أن يكون ذلك الإذن من جهة الله تعالى لا بواسطة ، وما أعظمها ، أو من جهة الملائكة على وجه الإكرام ، ومعنى {هَنِى ـاَا } أي خالص اللذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص.
/ المسألة الثالثة : اختلف العلماء في أن قوله : {كُلُوا وَاشْرَبُوا } أمر أو إذن قال أبو هاشم : هو أمر ، وأراد الله منهم الأكل والشرب/ لأن سرورهم يعظم بذلك ، وإذا علموا أن الله أراده منهم جزاء على عملهم فكما يزيد إجلالهم وإعظامهم بذلك ، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب معهم ، وقال أبو علي : ذلك ليس بأمر ، وإنما يريد بقوله : على وجه الإكرام ، لأن الأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف ، وليس هذا صفة الآخرة.
المسألة الرابعة : تمسك من قال العمل يوجب الثواب بالباء في قوله : {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا ضعيف لأن الباء للإضافة ، ولما جعل الله تعالى ذلك العمل علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك العمل كالآلة الموصلة إلى تحصيل ذلك الثواب ، وقوله : {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} المقصود منه أن يذكر الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة ، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات ، وإذا لم يفعلوا ذلك لا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه.
جزء : 30 رقم الصفحة : 781
5
اعلم أن هذا هو النوع التاسع : من أنواع تخويف الكفار ، كأنه تعالى يقول للكافر حال كونه في الدنيا إنك إنما عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها ولهذه المحن التي شرحناها لأجل حبك للدنيا ورغبتك في طيباتها وشهواتها إلا أن هذه الطيبات قليلة بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة والمشتغل بتحصيلها يجري مجرى لقمة واحدة من الحلواء ، وفيها السم المهلك فإنه يقال لمن يريد أكلها ولا يتركها بسبب نصيحة الناصحين وتذكير المذكرين : كل هذا وويل لك منه بعد هذا فإنك من الهالكين بسببه ، وهذا وإن كان في اللفظ أمراً إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم ومنع في غاية المبالغة.
ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 5
5
اعلم أن هذا هو النوع العاشر : من أنواع تخويف الكفار كأنه قيل لهم : هب أنكم تحبون الدنيا ولذاتها ولكن لا تعرضوا بالكلية عن خدمة خالقكم بل تواضعوا له فإنكم إن آمنتم ثم ضممتم إليه طلب اللذات وأنواع المعاصي حصل لكم رجاء الخلاص عن عذاب جهنم والفوز بالثواب ، كما قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذلك ولا ينقادون لطاعته ، ويبقون مصرين على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب العظيم ، فلهذا قال : {وَيْلٌ يَوْمَا ِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي الويل لمن يكذب هؤلاء الأنبياء الذين يرشدونهم إلى هذه المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة ، وههنا مسائل :
/ المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} المراد به الصلاة ، وهذا ظاهر لأن الركوع من أركانها ، فبين تعالى أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع ، وأنهم حال كفرهم كما يستحقون الذم والعقاب بترك الإيمان ، فكذلك يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة لأن الله تعالى ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة ، وقال قوم آخرون : المراد بالركوع الخضوع والخشوع لله تعالى ، وأن لا يعبد سواه.
المسألة الثانية : القائلون بأن الأمر للوجوب استدلوا بهذه الآية ، لأنه تعالى ذمهم بمجرد ترك المأمور به ، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب ، فإن قيل : إنهم كفار فلكفرهم ذمهم ؟
قلنا : إنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه كثيرة ، إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لأنهم تركوا المأمور به ، فعلمنا أن ترك المأمور به غير جائز.
جزء : 31 رقم الصفحة : 5
7
اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بالوجوه العشرة التي شرحناها ، وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار ، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع تجليها ووضوحها {فَبِأَىِّ حَدِيثا بَعْدَه يُؤْمِنُونَ} قال القاضي : هذه الآية تدل على أن القرآن محدث لأنه تعالى وصفه بأنه حديث ، والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان ، فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً ، وأجاب الأصحاب أن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاغ في أنها محدثة ، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 7
8
(1/4636)
سورة النبأ
أربعون آية مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 8
8
فيه مسائل :
المسألة الأولى : {عَمَّ} : أصله حرف جر دخل ما الاستفهامية ، قال حسان رحمه الله تعالى :
على ما قام يشتمني لئيم
كخنزير تمرغ في رماد
والاستعمال الكثير على الحذف والأصل قليل ، ذكروا في سبب الحذف وجوهاً أحدها : قال الزجاج لأن الميم تشرك الغنة في الألف فصارا كالحرفين المتماثلين وثانيها : قال الجرجاني إنهم إذا وصفوا ما في استفهام حذفوا ألفها تفرقة بينها وبين أن تكون اسماً كقولهم : فيم وبم ولم وعلام وحتام وثالثها : قالوا حذفت الألف لاتصال ما بحرف الجر حتى صارت كجزء منه لتنبىء عن شدة الاتصال ورابعها : السبب في هذا الحذف التخفيف في الكلام فإنه لفظ كثير التداول على اللسان.
المسألة الثانية : قوله {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} أنه سؤال ، وقوله {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} جواب السائل والمجيب هو الله تعالى ، وذلك يدل على علمه بالغيب ، بل بجميع المعلومات. فإن قيل ما الفائدة في أن يذكر الجواب معه ؟
قلنا لأن إيراد الكلام في معرض السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح ونظيره {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر : 16).
المسألة الثالثة : قرأ عكرمة وعيسى بن عمر (عما) وهو الأصل ، وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بهاء السكت ، ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف ، وإما أن يقف ويبتدىء بـ {يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} على أن يضمر يتساءلون لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسره.
المسألة الرابعة : (ما) لفظة وضعت لطلب ماهيات الأشياء وحقائقها ، تقول ما الملك ؟
وما الروح ؟
وما الجن ؟
والمراد طلب ماهياتها وشرح حقائقها ، وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً. ثم إن الشيء العظيم الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه يبقى مجهولاً ، فحصل بين الشيء المطلوب بلفظ ما وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه والمشابهة إحدى أسباب المجاز ، فبهذا الطريق جعل {مَآ} دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب وعلو رتبته / ومنه قوله تعالى {وَمَآ أَدْرَا كَ مَا سِجِّينٌ} (المطففين : 8) ، {وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْعَقَبَةُ} (البلد : 12) وتقوو زيد وما زيد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 8
(1/4637)
المسألة الخامسة : التساؤل هو أن يسأل بعضهم بعضاً كالتقابل ، وقد يستعمل أيضاً في أن يتحدثوا به ، وإن لم يكن من بعضهم لبعض سؤال ، قال تعالى : {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} (الطور : 25) {قَالَ قَآاـاِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} (الصافات : 52,51) فهذا يدل على معنى التحدث فيكون معنى الكلام عم يتحدثون ، وهذا قول الفراء.
المسألة السادسة : أولئك الذين كانوا يتساءلون من هم ، فيه احتمالات : الاحتمال الأول : أنهم هم الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : {كَلا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} (النبأ : 5,4) الضمير في يتساءلون ، وهم فيه مختلفون وسيعلمون ، راجع إلى شيء واحد وقوله : {كَلا سَيَعْلَمُونَ} تهديد والتهديد لا يليق إلا بالكفار ، فثبت أن الضمير في قوله : {يَتَسَآءَلُونَ} عائد إلى الكفار ، فإن قيل فما تصنع بقوله : {هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} مع أن الكفار كانوا متفقين في إنكار الحشر ؟
قلنا لا نسلم أنهم كانوا متفقين في إنكار الحشر ، وذلك لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني ، وهم جمهور النصارى/ وأما المعاد الجسماني فمنهم من كان شاكاً فيه كقوله : {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لاجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} (فصلت : 50) ومنهم من أصر على الإنكار ، ويقول : {إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (المؤمنون : 37) ومنهم من كان مقرّاً به ، لكنه كان منكراً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فقد حصل اختلافهم فيه ، وأيضاً هب أنهم كانوا منكرين له لكن لعلهم اختلفوا في كيفية إنكاره ، فمنهم من كان ينكره لأنه كان ينكر الصانع المختار ، ومنهم من كان ينكره لاعتقاده أن إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها والقادر المختار إنما يكون قادراً على ما يكون ممكناً في نفسه ، وهذا هو المراد بقوله : {هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} .
والاحتمال الثاني : أن الذين كانوا يتساءلون هم الكفار والمؤمنون ، وكانوا جميعاً يتساءلون عنه ، أما المسلم فليزداد بصيرة ويقيناً في دينه ، وأما الكافر فعلى سبيل السخرية ، أو على سبيل إيراد الشكوك والشبهات.
جزء : 31 رقم الصفحة : 8
والاحتمال الثالث : أنهم كانوا يسألون الرسول ، ويقولون ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة.
أما قوله تعالى : {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} ففيه مسائل.
(1/4638)
المسألة الأولى : ذكر المفسرون في تفسير النبأ العظيم ثلاثة أوجه : أحدها : أنه هو القيامة وهذا هو الأقرب ويدل عليه وجوه أحدها : قوله : {سَيَعْلَمُونَ} والظاهر أن المراد منه أنهم سيعلمون هذا الذي يتساءلون عنه حين لا تنفعهم تلك المعرفة ، ومعلوم أن ذلك هو القيامة وثانيها : أنه تعالى بين كونه قادراً على جميع الممكنات بقوله : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَـادًا} إلى قوله : {يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ } (طه : 102) وذلك يقتضي أنه تعالى إنما قدم هذه المقدمة لبيان كونه تعالى قادراً / على إقامة القيامة ، ولما كان الذي أثبته الله تعالى بالدليل العقلي في هذه السورة هو هذه المسألة ثبت أن النبأ العظيم الذي كانوا يتساءلون عنه هو يوم القيامة وثالثها : أن العظيم اسم لهذا اليوم بدليل قوله : {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (المطففين : 6,4) وقوله : {قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} (ص : 68,67) ولأن هذا اليوم أعظم الأشياء لأن ذلك منتهى فزع الخلق وخوفهم منه فكان تخصيص اسم العظيم به لائقاً والقول الثاني : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ} (الواقعة : 77) واحتج القائلون بهذا الوجه بأمرين الأول : أن النبأ العظيم هو الذي كانوا يختلفون فيه وذلك هو القرآن لأن بعضهم جعله سحراً وبعضهم شعراً ، وبعضهم قال إنه أساطير الأولين ، فأما البعث ونبوة محمد صلى الله عليه وسلّم فقد كانوا متفقين على إنكارهما وهذا ضعيف ، لأنا بينا أن الاختلاف كان حاصلاً في البعث الثاني : أن النبأ اسم الخبر لا اسم المخبر عنه فتفسير النبأ بالقرآن أولى من تفسيره بالبعث أو النبوة ، لأن ذلك في نفسه ليس بنبأ بل منبأ عنه ، ويقوى ذلك أن القرآن سمي ذكراً وتذكرة وذكرى وهداية وحديثاً ، فكان اسم النبأ به أليق منه بالبعث والنبوة والجواب : عنه أنه إذا كان اسم النبأ أليق بهذه الألفاظ فاسم العظيم أليق بالقيامة وبالنبوة لأنه لا عظمة في الألفاظ إنما العظمة في المعاني ، وللأولين أن يقولوا إنها عظيمة أيضاً في الفصاحة والاحتواء على العلوم الكثيرة ، ويمكن أن يجاب أن العظيم حقيقة في الأجسام مجاز في غيرها وإذا ثبت التعارض بقي ما ذكرنا من الدلائل سليماً القول الثالث : أن النبأ العظيم هو نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، قالوا وذلك لأنه لما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام جعلوا يتساءلون بينهم ماذا الذي حدث ؟
فأنزل الله تعالى : {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمداً عليه الصلاة والسلام إليهم كما قال تعالى : {بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} (ق : 2) وعجبوا أيضاً أن جاءهم بالتوحيد كما قال : {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} (ص : 5) فحكى الله تعالى عنهم مساءلة بعضهم بعضاً على سبيل التعجب بقوله : {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} .
جزء : 31 رقم الصفحة : 8
المسألة الثانية : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها : وهو قول البصريين أن قوله : {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} كلام تام ، ثم قال : {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} والتقدير : {يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} إلا أنه حذف يتساءلون في الآية الثانية ، لأن حصوله في الآية الأولى يدل عليه وثانيها : أن يكون قوله : {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} استفهاماً متصلاً بما قبله ، والتقدير : عم يتساءلون أعن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، إلا أنه اقتصر على ما قبله من الاستفهام إذ هو متصل به ، وكالترجمة والبيان له كما قرىء في قوله : {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (الصافات : 16) بكسر الألف من غير استفهام لأن إنكارهم إنما كان للبعث ، ولكنه لما ظهر الاستفهام في أول الكلام اقتصر عليه ، فكذا ههنا وثالثها : وهو اختيار الكوفيين أن الآية الثانية متصلة بالأولى على تقدير ، لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم ، وعم كأنها في المعنى لأي شيء ، وهذا قول الفراء.
جزء : 31 رقم الصفحة : 8
9
(1/4639)
قال القفال : كلا لفظة وضعت لرد شيء قد تقدم ، هذا هو الأظهر منها في الكلام ، والمعنى ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم إنه باطل أو إنه لا يكون ، وقال قائلون كلا معناه حقاً ، ثم إنه تعالى قرر ذلك الردع والتهديد ، فقال : {كَلا سَيَعْلَمُونَ} وهو وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له ، واقع لا ريب فيه ، وأما تكرير الردع ، ففيه وجهان الأول : أن الغرض من التكرير التأكيد والتشديد ، ومعنى ثم الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد والثاني : أن ذلك ليس بتكرير ، ثم ذكروا وجوهاً أحدها : قال الضحاك الآية الأولى للكفار والثانية للمؤمنين أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم وثانيها : قال القاضي : ويحتمل أن يريد بالأول سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة ، ويريد بالثاني سيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه وثالثها : {كَلا سَيَعْلَمُونَ} ما الله فاعل بهم يوم القيامة {ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} أن الأمر ليس كما كانوا يتوهمون من أن الله غير باعث لهم ورابعها : {كَلا سَيَعْلَمُونَ} ما يصل إليهم من العذاب في الدنيا وكما جرى على كفار قريش يوم بدر {ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} بما ينالهم في الآخرة.
المسألة الثالثة : جمهور القراء قرأوا بالياء المنقطة من تحت في (سيعلمن) وروي بالتاء المنقطة من فوق عن ابن عامر. قال الواحدي : والأول أولى ، لأن ما تقدم من قوله : {هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} (النبأ : 3) على لفظ الغيبة ، والتاء على قل لهم : ستعلمون ، وأقول : يمكن أن يكون ذلك على سبيل الالتفات ، وهو ههنا متمكن حسن ، كمن يقول : إن عبدي يقول كذا وكذا ، ثم يقول لعبده : إنك ستعرف وبال هذا الكلام.
جزء : 31 رقم الصفحة : 9
9
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم إنكار البعث والحشر ، وأراد إقامة الدلالة على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات ، وذلك لأنه مهما ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث ، وإنما أثبت هذين الأصلين بأن عدد أنواعاً من مخلوقاته الواقعة على وجه الإحكام والإتقان ، فإن تلك الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة ، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم ، ومتى ثبت هذان الأصلان وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ، ثبت لا محالة كونه تعالى قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها ، وعلى إيجاد عالم الآخرة ، فهذا هو الإشارة إلى كيفية النظم.
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا من عجائب مخلوقاته أموراً فأولها : قوله : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَـادًا} والمهاد مصدر ، ثم ههنا احتمالات أحدها : المراد منه ههنا الممهود ، أي ألم نجعل الأرض ممهودة / وهذا من باب تسمية المفعول بالمصدر ، كقولك هذا ضرب الأمير وثانيها : أن تكون الأرض وصفت بهذا المصدر ، كما تقول : زيد جود وكرم وفضل ، كأنه لكماله في تلك الصفة صارعين تلك الصفة وثالثها : أن تكون بمعنى ذات مهاد ، وقرىء مهداً ، ومعناه أن الأرض للخلق كالمهد للصبي ، وهو الذي مهد له فينوم عليه.
واعلم أنا ذكرنا في تفسير سورة البقرة عند قوله : {جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ فِرَاشًا} (البقرة : 22) كل ما يتعلق من الحقائق بهذه الآية.
جزء : 31 رقم الصفحة : 9
9
وثانيها : قوله تعالى : {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي للأرض (كي) لا تميد بأهلها ، فيكمل كون الأرض مهاداً بسبب ذلك قد تقدم أيضاً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 9
10
وثالثها : قوله تعالى : {وَخَلَقْنَـاكُمْ أَزْوَاجًا} وفيه قولان : الأول : المراد الذكر والأنثى كما قال : {وَأَنَّه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى } (النجم : 45) ، والثاني : أن المراد منه كل زوجين و(كل) متقابلين من القبيح والحسن والطويل والقصير وجميع المتقابلات والأضداد ، كما قال : {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات : 49) وهذا دليل ظاهر على كمال القدرة ونهاية الحكمة حتى يصح الابتلاء والامتحان ، فيتعبد الفاضل بالشكر والمفضول بالصبر ويتعرف حقيقة كل شيء بضده ، فالإنسان إنما يعرف قدر الشباب عند الشيب ، وإنما يعرف قدر الأمن عند الخوف ، فيكون ذلك أبلغ في تعريف النعم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 10
10
(1/4640)
ورابعها : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا : السبات هو النوم ، والمعنى : وجعلنا نومكم نوماً ، واعلم أن العلماء ذكروا في التأويل وجوهاً أولها : قال الزجاج : {سُبَاتًا} موتاً والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة ودليله أمران أحداهما : قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ} (الأنعام : 60) إلى قوله : {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} (الأنعام : 60) والثاني : أنه لما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً ، أي حياة في قوله : {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ : 11) وهذا القول عندي ضعيف لأن الأشياء المذكورة في هذه الآية جلائل النعم ، فلا يليق الموت بهذا المكان وأيضاً ليس المراد بكونه موتاً ، أن الروح انقطع عن البدن ، بل المراد منه انقطاع أثر الحواس الظاهرة ، وهذا هو النوم ، ويصير حاصل الكلام إلى : إنا جعلنا نومكم نوماً وثانيها : قال الليث : السبات النوم شبه الغشي يقال سبت المريض فهو مسبوت ، وقال أبو عبيدة : السبات الغشية التي تغشى الإنسان شبه الموت ، وهذا القول أيضاً ضعيف ، لأن الغشي ههنا إن كان النوم فيعود الإشكال ، وإن كان المراد بالسبات شدة ذلك الغشي فهو باطل ، لأنه ليس كل نوم كذلك ولأنه مرض فلا يمكن ذكره في أثناء تعديد النعم وثالثها : أن السبت في أصل اللغة هو القطع يقال سبت الرجل رأسه يسبته سبتاً إذا حلق شعره ، وقال ابن الأعرابي في قوله : {سُبَاتًا} أي قطعاً / ثم عند هذا يحتمل وجوهاً الأول : أن يكون المعنى : وجعلنا نومكم نوماً متقطعاً لا دائماً ، فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء. أما دوامه فمن أضر الأشياء ، فلما كان انقطاعه نعمة عظيمة لا جرم ذكره الله تعالى في معرض الإنعام الثاني : أن الإنسان إذا تعب ثم نام ، فذلك النوم يزيل عنه ذلك التعب ، فسميت تلك الإزالة سبتاً وقطعاً ، وهذا هو المراد من قول ابن قتيبة : {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أي راحة ، وليس غرضه منه أن السبات اسم للراحة ، بل المقصود أن النوم يقطع التعب ويزيله ، فحينئذ تحصل الراحة الثالث : قال المبرد : {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أي جعلناه نوماً خفيفاً يمكنكم دفعه وقطعه ، تقول العرب : رجل مسبوت إذا كان النوم يغالبه وهو يدافعه ، كأنه قيل : وجعلنا نومكن نوماً لطيفاً يمكنكم دفعه ، وما جعلناه غشياً مستولياً عليكم ، فإن ذلك من الأمراض الشديدة ، وهذه الوجوه كلها صحيحة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 10
10
وخامسها : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا} قال القفال : أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان ويتغطى به ، فيكون ذلك مغطياً له ، فلما كان الليل يغشى الناس بظلمته فيغطيهم جعل لباساً لهم ، وهذا السبت سمي الليل لباساً على وجه المجاز ، والمراد كون الليل ساتراً لهم. وأما وجه النعمة في ذلك ، فهو أن ظلامة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عدو ، أو بياتاً له ، أو إخفاء مالا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه ، قال المتنبي :
وكم لظلام الليل عندي من يد
تخبر أن المانوية تكذب
وأيضاً فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع عنه أذى الحر والبرد ، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان ، وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية ، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني ، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية ، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 10
18
وسادسها : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} في المعاش وجهان أحدهما : أنه مصدر يقال : عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشة وعيشة ، وعلى هذا التقدير فلا بد فيه من إضمار ، والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش والثاني : أن يكون معاشاً مفعلاً وظرفاً للتعيش ، وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار ، ومعنى كون النهار معاشاً أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار لا في الليل.
جزء : 31 رقم الصفحة : 18
18
وسابعها : قوله تعالى : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} أي سبع سموات شداداً جمع شديدة / يعني محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان ، لا فطور فيها ولا فروج ، ونظيره {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا } (الأنبياء : 32) فإن قيل لفظ البناء يستعمل في أسافل البيت والسقف في أعلاه فكيف قال : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا} ؟
قلنا البناء يكون أبعد من الآفة والانحلال من السقف ، فذكر قوله : {وَبَنَيْنَا} إشارة إلى أنه وإن كان سقفاً لكنه في البعد عن الانحلال كالبناء ، فالغرض من اختيار هذا اللفظ هذه الدقيقة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 18
19
(1/4641)
وثامنها : قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} كلام أهل اللغة مضطرب في تفسير الوهاج ، فمنهم من قال الوهج مجمع النور والحرارة ، فبين الله تعالى أن الشمس بالغة إلى أقصى الغايات في هذين الوصفين ، وهو المراد بكونها وهاجاً ، وروى الكلبي عن ابن عباس أن الوهاج مبالغة في النور فقط ، يقال للجوهر إذا تلألأ توهج ، وهذا يدل على أن الوهاج يفيد الكمال في النور ، ومنه قول الشاعر يصف النور :
نوارها متباهج يتوهج وفي كتاب الخليل : الوهج ، حر النار والشمس ، وهذا يقتضي أن الوهاج هو البالغ في الحر واعلم أن أي هذه الوجود إذا ثبت فالمقصود حاصل.
أما المعصرات ففيها قولان : الأول : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وقول مجاهد ، ومقاتل والكلبي وقتادة إنها الرياح التي تثير السحاب ودليله قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} (الروم : 48) فإن قيل على هذا التأويل كان ينبغي أن يقال وأنزلنا بالمعصرات ، قلنا : الجواب : من وجهين الأول : أن المطر إنما ينزل من السحاب ، والسحاب إنما يثيره الرياح ، فصح أن يقال هذا المطر إنما حصل من تلك الرياح ، كما يقال هذا من فلان ، أي من جهته وبسببه الثاني : أن من ههنا بمعنى الباء والتقدير ، وأنزلنا بالمعصرات أي بالرياح المثيرة للسحاب ويروى عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعكرمة أنهم قرأوا (وأنزلنا بالمعصرات) وطعن الأزهري في هذا القول ، وقال الأعاصير من الرياح ليست من رياح المطر ، وقد وصف الله تعالى المعصرات بالماء الشجاج وجوابه : أن الإعصار ليست من رياح المطر ، فلم لا يجوز أن تكون المعصرات من رياح المطر ؟
القول الثاني : وهو الرواية الثانية عن ابن عباس واختيار أبي العالية والربيع والضحاك أنها السحاب ، وذكروا في تسمية السحاب بالمعصرات وجوهاً أحدها : قال المؤرخ : المعصرات السحائب بلغة قريش وثانيها : قال المازني يجوز أن تكون المعصرات هي السحائب ذوات الأعاصير فإن السحائب إذا عصرتها الأعاصير لا بد وأن ينزل المطر منها وثالثها : أن المعصرات هي السحائب التي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر كقولك : أجز الزرع إذا حان له أن يجز ، / ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض ، وأما الثجاج فاعلم أن الثج شدة الانصباب يقال : مطر ثجاج ودم ثجاج أي شديد الانصباب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
واعلم أن الثج قد يكون لازماً ، وهو بمعنى الانصباب كما ذكرنا ، وقد يكون متعدياً بمعنى الصب وفي الحديث "أفضل الحج العج والثج" أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى ، وكان ابن عباس مثجاً أي يثج الكلام ثجاً في خطبته وقد فسروا الثجاج في هذه الآية على الوجهين ، وقال الكلبي ومقاتل وقتادة الثجاج ههنا المتدفق المنصب ، وقال الزجاج معناه الصباب كأنه يثج نفسه أي يصب. وبالجملة فالمراد تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : كل شيء نبت من الأرض فإما أن لا يكون له ساق وإما أن يكون ، فإن لم يكن له ساق فإما أن يكون له أكمام وهو الحب وإما أن لا يكون له أكمام وهو الحشيش وهو المراد ههنا بقوله : {وَنَبَاتًا} وإلى هذين القسمين الإشارة بقوله تعالى : {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ } (طه : 54) وأما الذي له ساق فهو الشجر فإذا اجتمع منها شيء كثير سميت جنة ، فثبت بالدليل العقلي انحصار ما ينبت في الأرض في هذه الأقسام الثلاثة ، وإنما قدم الله تعالى الحب لأنه هو الأصل في الغذاء ، وإنما ثني بالنبات لاحتياج سائر الحيوانات إليه ، وإنما أخر الجنات في الذكر لأن الحاجة إلى الفواكه ليست ضرورية.
المسألة الثانية : اختلفوا في ألفافاً ، فذكر صاحب "الكشاف" أنه لا واحد له كالأوزاع والأخياف ، والأوزاع الجماعات المتفرقة والأخياف الجماعات المختلطة. وكثير من اللغويين أثبتوا له واحداً ، ثم اختلفوا فيه ، فقال الأحفش والكسائي : واحدها لف بالكسر ، وزاد الكسائي : لف بالضم ، وأنكر المبرد الضم ، وقال : بل واحدها لفاء. وجمعها لف ، وجمع لف ألفاف ، وقيل يحتمل أن يكون لفيف كشريف وأشراف نقله القفال رحمه الله ، إذا عرفت هذا فنقول قوله : {وَجَنَّـاتٍ أَلْفَافًا} أي ملتفة ، والمعنى أن كل جنة فإن ما فيها من الشجر تكون مجتمعة متقاربة ، ألا تراهم يقولون امرأة لفاء إذا كانت غليظة الساق مجتمعة اللحم يبلغ من تقاربه أن يتلاصق.
المسألة الثالثة : كان الكعبي من القائلين بالطبائع ، فاحتج بقوله تعالى : {لِّنُخْرِجَ بِه حَبًّا وَنَبَاتًا} وقال : إنه يدل على بطلان قول من قال إن الله تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر.
/
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
(1/4642)
اعلم أن التسعة التي عددها الله تعالى نظراً إلى حدوثها في ذواتها وصفاتها ، ونظراً إلى إمكانها في ذواتها وصفاتها تدل على القادر المختار ، ونظراً إلى ما فيها من الإحكام والإتقان تدل على أن فاعلها عالم ، ثم أن ذلك الفاعل القديم يجب أن يكون علمه وقدرته واجبين ، إذ لو كانا جائزين لافتقر إلى فاعل آخر ويلزم التسلسل وهو محال ، وإذا كان العلم والقدرة واجبين وجب تعلقهما بكل ما صح أن يكون مقدوراً ومعلوماً وإلا لافتقر إلى المخصص وهو محال ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات ، وقد ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة في الجسمية فكل ما صح على واحد منها صح على الآخر ، فكما يصح على الأجسام السلفية الانشقاق والانفطار والظلمة وجب أن يصح ذلك على الأجسام ، وإذا ثبت الإمكان وثبت عموم القدرة والعلم ، ثبت أنه تعالى قادر على تخريب الدنيا ، وقادر على إيجاد عالم آخر ، وعند ذلك ثبت أن القول بقيام القيامة ممكن عقلاً وإلى هنا يمكن إثباته بالعقل ، فأما ما وراء ذلك من وقت حدوثها وكيفية حدوثها فلا سبيل إليه إلا بالسمع ، ثم إنه تعالى تكلم في هذه الأشياء بقوله : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَـاتًا} ثم إنه تعالى ذكر بعض أحوال القيامة فأولها : قوله : {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَـاتًا} والمعنى أن هذا اليوم كان في تقدير الله ، وحكمه جداً تؤقت به الدنيا ، أو حداً للخلائق ينتهون إليه ، أو كان ميقاتاً لما وعد الله من الثواب والعقاب ، أو كان ميقاتاً لاجتماع كل الخلائق في فصل الحكومات وقطع الخصومات.
وثانيها : قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
اعلم أن {يَوْمَ يُنفَخُ} بدل من يوم الفصل ، أو عطف بيان ، وهذا النفخ هو النفخة التي عندها يكون الحشر ، والنفخ في الصور فيه قولان : أحدهما : أن الصور جمع الصور ، فالنفخ في الصور عبارة عن نفخ الأرواح في الأجساد والثاني : أن الصور عبارة عن قرن ينفخ فيه. وتمام الكلام في الصور وما قيل فيه قد تقدم في سورة الزمر ، وقوله : {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} معناه أنهم يأتون ذلك المقام فوجاً فوجاً حتى يتكامل اجتماعهم. قال عطاء كل نبي يأتي مع أمته ، ونظيره قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ } (الإسراء : 71) وقيل جماعات مختلفة ، روى صاحب "الكشاف" عن معاذ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه ، فقال عليه السلام : يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ، ثم أرسل عينيه وقال : يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمى ، وبعضهم صم بكم ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم / أشد نتناً من الجيف ، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت. وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمى فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من النار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله تعالى من أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء.
وثالثها قوله تعالى :
(1/4643)
قرأ عاصم وحمزة والكسائي فتحت خفيفة والباقون بالتثقيل والمعنى كثرت أبوابها المفتحة لنزول الملائكة قال القاضي : وهذا الفتح هو معنى قوله : {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} (الإنشقاق : 1) {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} (الإنفطار : 1) إذ الفتح والتشقق والتفطر ، تتقارب ، وأقول : هذا ليس بقوي لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التشقق والتفطر ، فربما كانت السماء أبواباً ، ثم تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر ، بل الدلائل السمعية دلت على أن عند حصول فتح هذه الأبواب يحصل التشقق والتفطر والفناء بالكلية ، فإن قيل قوله : {وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} يفيد أن السماء بكليتها تصير أبواباً ، فكيف يعقل ذلك ؟
قلنا فيه وجوه : أحدها : أن تلك الأبواب لما كثرت جداف صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة كقوله : {وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا} (القمر : 12) أي كأن كلها صارت عيوناً تتفجر وثانيها : قال الواحدي هذا من باب تقدير حذف المضاف ، والتقدير فكانت ذات أبواب وثالثها : أن الضمير في قوله : {فَكَانَتْ أَبْوَابًا} عائد إلى مضمر والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً لنزول الملائكة ، كما قال تعالى : {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر : 22).
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
ورابعها : قوله تعالى :
اعلم أن الله تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة ، ويمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله : وهو أن أول أحوالها الاندكاك وهو قوله : {وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة : 14).
والحالة الثانية لها : أن تصير {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} (القارعة : 5) وذكر الله تعالى ذلك في قوله : {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} (القارعة : 4ـ5) وقوله : {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} (المعارج : 8ـ9).
والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن وهو قوله : / {إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنابَثًّا * وَكُنتُمْ} (الواقعة : 4ـ6).
والحالة الرابعة : أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله : {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} (طه : 105).
والحالة الخامسة : أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها شعاعاً في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساماً جامدة وهي الحقيقة مارة إلى أن مرورها بسبب مرور الرياح بها (صيرها) مندكة متفتتة ، وهي قوله : {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } (النحل : 88) ثم بين أن تلك الحركة حصلت بقهره وتسخيره ، فقال : {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} (الطور : 10) {وَتَرَى الارْضَ بَارِزَةً} (الكهف : 47).
الحالة السادسة : أن تصير سراباً ، بمعنى لا شيء ، فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئاً ، كما أن من يرى السراب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئاً والله أعلم.
واعلم أن الأحوال المذكورة إلى ههنا هي : أحوال عامة ، ومن ههنا يصف أهوال جهنم وأحوالها.
المسألة الأولى : قرأ ابن يعمر : أن جهنم بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة ، بأن جهنم كانت مرصاداً للطاغين ، كأنه قيل كان كذلك لإقامة الجزاء.
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
المسألة الثانية : كانت مرصاداً ، أي في علم الله تعالى ، وقيل صارت ، وهذان القولان نقلهما القفال رحمه الله تعالى ، وفيه وجه ثالث ذكره القاضي ، فإنا إذا فسرنا المرصاد بالمرتقب ، أفاد ذلك أن جهنم كانت كالمنتظرة لمقدومهم من قديم الزمان ، وكالمستدعية والطالبة لهم.
المسألة الثانية : في المرصات قولان : أحدهما : أن المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه ، كالمضمار اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل ، والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه ، وعلى هذا الوجه فيه احتمالان : أحدهما : أن خزنة جهنم يرصدون الكفار والثاني : أن مجاز المؤمنين وممرهم كان على جهنم ، لقوله : {مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا } (مريم : 71) فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم ، ويرصدونهم عندها.
القول الثاني : أن المرصاد مفعال من الرصد ، وهو الترقب ، بمعنى أن ذلك يكثر منه ، والمفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار والمطعان ، قيل إنها ترصد أعداء الله وتشق عليهم ، كما قال تعالى : {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } (الملك : 8) قيل ترصد كل كافرة ومنافق ، والقائلون بالقول الأول. استدلوا على صحة قولهم بقوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر : 14) ولو كان المرصاد نعتاً لوجب أن يقال : إن ربك لمرصاد ،
(1/4644)
/ المسألة الرابعة : دلت الآية على أن جهنم كانت مخلوفة لقوله تعالى : {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} أي معدة ، وإذا كان كذلك كانت الجنة أيضاً كذلك ، لأنه لا قائل بالفرق.
وفيه وجهان : إن قلنا إنه مرصاد للكفار فقط كان قوله : {لِلطَّـاغِينَ} من تمام ما قبله ، والتقدير إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين ، ثم قوله : {مَـاَابًا} بدل من قوله : {مِرْصَادًا} وإن قلنا بأنها كانت مرصاداً مطلقاً للكفار وللمؤمنين ، كان قوله : {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} (النبأ : 21) كلاماً تاماً ، وقوله : {لِّلطَّـاغِينَ مَـاَابًا} كلام مبتدأ كأنه قيل إن جهنم مرصاد للكل ، ومآب للطاغين خاصة ، ومن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله مرصاداً أما من ذهب إلى القول الثاني وقف عليه ، ثم يقول المراد بالطاغين من تكبر على ربه وطغى في مخالفته ومعارضته ، وقوله : {مَـاَابًا} أي مصيراً ومقراً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
اعلم أنه تعالى لما بين أن جهنم مآب للطاغين ، وبين كمية استقرارهم هناك ، فقال : {لَّـابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا} وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الجمهور : {لَّـابِثِينَ} وقرأ حمزة لبثين وفيه وجهان قال الفراء هما بمعنى واحد يقال لابث ولبث ، مثل ثامع ، وطمع ، وفاره ، وفره ، وهو كثير ، وقال صاحب الكشاف : واللبث أقوى لأن اللابث من وجد منه اللبث ، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث ، وهو أن يستقر في المكان ، ولا يكاد ينفك عنه.
المسألة الثانية : قال الفراء أصل الحقب من الترادف ، والتتابع يقال أحقب ، إذا أردف ومنه الحقيبة ومنه كل من حمل وزراً ، فقد احتقب ، فيجوز على هذا المعنى : {لَّـابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا} أي دهوراً متتابعة يتبع بعضها بعضاً ، ويدل عليه قوله تعالى : {لا أَبْرَحُ حَتَّى ا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا} (الكهف : 60) يحتمل سنين متتابعة إلى أن أبلغ أو آنس ، واعلم أن الأحقاب ، واحدها حقب وهو ثمانون سنة عند أهل اللغة ، والحقب السنون واحدتها حقبة وهي زمان من الدهر لا وقت له ثم نقل عن المفسرين فيه وجوه : أحدها : قال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس في قوله : {أَحْقَابًا} الحقب الواحد بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلثمائة وستون يوماً ، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ، ونحو هذا روى ابن عمر مرفوعاً وثانيها : سأل هلال الهجري علياً عليه السلام. فقال الحقب مائة سنة ، والسنة اثنا عشر شهراً ، والشهر ثلاثون يوماً ، واليوم ألف سنة وثالثها : وقال الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي ، ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون : فإن قيل قوله أحقاباً وإن طالت إلا أنها متناهية ، وعذاب أهل النار غير متناه ، بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال وارداً ، ونظير هذا السؤال قوله / في أهل القبلة : {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } قلنا : الجواب من وجوه : الأول : أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه ، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً كلما مضى حقب تبعه حقب آخر ، وهكذا إلى الأبد والثاني : قال الزجاج : المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقوق في الأحقاب برداً ولا شراباً ، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب. وهو أن لا يذوقوا برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب وثالثها : هب أن قوله : {أَحْقَابًا} يفيد التناهي ، لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم ، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون. قال تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة : 37) ولا شك أن المنطوق راجح ، وذكر صاحب "الكشاف" في الآية وجهاً آخر ، وهو أن يكون أحقاباً من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب. فينتصب حالاً عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين ، وقوله : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} (النبأ : 24) تفسير له.
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
ورابعها : قوله تعالى :
المسألة الأولى : إن اخترنا قول الزجاج كان قوله : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} متصلاً بما قبله ، والضمير في قوله : {فِيهَآ} عائداً إلى الأحقاب ، وإن لم نقل به كان هذا كلاماً مستأنفاً مبتدأ ، والضمير في قوله عائداً إلى جهنم.
(1/4645)
المسألة الثانية : في قوله : {بَرْدًا} وجهان الأول : أنه البرد المعروف ، والمراد أنهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة ، أو ظل يمنع من نار ، ولا يجدون شراباً يسكن عطشهم ، ويزيل الحرقة عن بواطنهم ، والحاصل أنه لا يجدون هواء بارداً ، ولا ماء بارداً والثاني : البرد ههنا النوم ، وهو قول الأخفش والكسائي والفراء وقطرب والعتبي ، قال الفراء : وإنما سمى النوم برداً لأنه يبرد صاحبه ، فإن العطشان ينام فيبرد بالنوم ، وأنشد أبو عبيدة والمبرد في بيان أن المراد النوم قول الشاعر :
بردت مراشفها علي فصدني
عنها وعن رشفاتها البرد
يعني النوم ، قال المبرد : ومن أمثال العرب : منع البرد البرد أي أصابني من البرد ما منعني من النوم ، واعلم أن القول الأول أولى لأنه إذا أمكن حمل اللفظ على الحقيقة المشهورة ، فلا معنى لحمله على المجاز النادر الغريب ، والقائلون بالقول الثاني تمسكوا في إثباته بوجهين الأول : أنه لا يقال ذقت البرد ويقال ذقت النوم. الثاني : أنهم يذوقون برد الزمهرير ، فلا يصح أن يقال إنهم ما ذاوا / برداً ، وهب أن ذلك البرد برد تأذوا به ، ولكن كيف كان ، فقد ذاقوا البرد والجواب عن الأول : كما أن ذوق البرد مجاز فكذا ذوق النوم أيضاً مجاز ، ولأن المراد من قوله : {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} أي لا يستنشقونه فيها نفساً بارداً ، ولا هواء بارداً ، والهواء المستنشق ممره الفم والألف فجاز إطلاق لفظ الذوق عليه والجواب عن الثاني : أنه لم يقل لا يذوقون فيها البرد بل قال يذوقون فيها برداً واحداً ، وهو البرد الذي ينتفعون به ويستريحون إليه.
المسألة الثالثة : ذكروا في الحميم أنه الصفر المذاب وهو باطل بل الحميم الماء الحار المغلي جداً.
المسألة الرابعة : ذكروا في الغساق وجوهاً.
أحدها : قال أبو معاذ كنت أسمع مشايخنا يقولون الغساق فارسية معربة يقولون للشيء الذي يتقذرونه خاشاك. وثانيها : أن الغساق هو الشيء البارد الذي لا يطاق ، وهو الذي يسمى بالزمهرير. وثالثها : الغساق ما يسيل من أعين أهل النار وجلودهم من الصديد والقيح والعرق وسائر الرطوبات المستقذرة ، وفي كتاب الخليل غسقت عينه ، تغسق غسقاً وغساقاً. ورابعها : الغساق هو المنتن ، ودليله ما روي أنه عليه السلام قال : لو أن دلواً من الغساق يهراق على الدنيا لأنتن أهل الدنيا. وخامسها : أن الغاسق هو المظلوم قال تعالى : {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (الفلق : 3) فيكون الغساق شراباً أسود مكروهاً يستوحش كما يستوحش الشي المظلم ، إذا عرفت هذا فنقول إن فسرنا الغساق بالبارد كان التقدير : لا يذوقون فيها برداً إلا غساقاً ولا شراباً إلا حميماً ، إلا أنهما جمعاً لأجل انتظام الآى ، ومثله من الشعر قول امرىء القيس :
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
لدي وكرها العناب والحشف البالي
والمعنى كأن قلوب الطير رطباً العناب ويابساً الحشف البالي. أما إن فسرنا الغساق بالصديد أو بالنتن احتمل أن يكون الاستنثاء بالحمي والغساق راجعاً إلى البرد والشراب معاً ، وأن يكون مختصاً بالشراب فقط.
أما الاحتمال الأول : فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في الحميم والصديد المنتن.
وأما الاحتمال الثاني : فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في السخونة أو الصديد المنتن والله أعلم بمراده ، فإن قيل الصديد لا يشرب فكيف استثنى من الشراب ؟
قلنا : إنه مائع فأمكن أن يشرب في الجملة فإن ثبت أنه غير ممكن كان ذلك استثناء من غير الجنس ووجهه معلوم.
المسألة الخامسة : قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه غساقاً بالتشديد فكأنه فعال بمعنى سيال ، وقرأ الباقون بالتخفيف مثل شراب والأول نعت والثاني اسم.
(1/4646)
واعلم أنه تعالى لما شرح أنواع عقوبة الكفار بين فيما بعده أنه : {جَزَآءً وِفَاقًا} وفي المعنى / وجهان : الأول : أنه تعالى أنزل بهم عقوبة شديدة بسبب أنهم أتوا بمعصية شديدة فيكون العقاب {وِفَاقًا} للذنب ، ونظيره قوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) والثاني : أنه {وِفَاقًا} من حيث لم يزد على قدر الاستحقاق ، ولم ينقص عنه وذكر النحوين فيه وجوهاً : أحدها : أن يكون الوفاق والموافق واحداً في اللغة والتقدير جزاء موافقاً وثانيها : أن يكون نصباً على المصدر والتقدير جزاء وافق أعمالهم {وِفَاقًا} وثالثها : أن يكون وصف بالمصدر كما يقال فلان فضل وكرم لكونه كاملاً في ذلك المعنى ، كذلك ههنا لما كان ذلك الجزاء كاملاً في كونه على وفق الاستحقاق وصف الجزاء بكونه {وِفَاقًا} ورابعها : أن يكون بحذف المضاف والتقدير جزاء ذا وفاق وقرأ أبو حيوة {وِفَاقًا} فعال من الوفق ، فإن قيل كيف يكون هذا العذاب البالغ في الشدة الغير المتناهي بحسب المدة {وِفَاقًا} للإتيان بالكفر لحظة واحدة ، وأيضاً فعلى قول أهل السنة إذا كان الكفر واقعاً بخلق الله وإيجاده فكيف يكون هذا وفاقاً له ؟
وأما على مذهب المعتزلة فكان علم الله بعدم إيمانهم حاصلاً ووجود إيمانهم مناف بالذات لذلك العلم فمع قيام أحد المتنافيين كان التكليف بإدخال المنافي الثاني في الوجود ممتنعاً لذاته وعينه ، ويكون تكليفاً بالجمع بين المتنافيين ، فكيف يكون مثل هذا العذاب الشديد الدائم وفاقاً لمثل هذا الجرم ؟
قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
واعلم أنه تعالى لما بين على الإجمال أن ذلك الجزاء كان على وفق جرمهم شرح أنواع جرائمهم ، وهي بعد ذلك نوعان :
جزء : 31 رقم الصفحة : 19
20
أولهما : قوله تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} وفيه سؤالان :
الأول : وهو أن الحساب شيء شاق على الإنسان ، والشيء الشاق لا يقال فيه إنه يرجى بل يجب أن يقال : إنهم كانوا لا يخشون حساباً والجواب من وجوه : أحدها : قال مقاتل وكثير من المفسرين قوله لا يرجون معناه لا يخافون ، ونظيره قولهم في تفسير قوله تعالى : {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح : 13) وثانيها : أن المؤمن لا بد وأن يرجو رحمة الله لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر ، فقوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} إشارة إلى أنهم ما كانوا مؤمنين وثالثها : أن الرجاء ههنا بمعنى التوقع لأن الراجي للشيء متوقع له إلا أن أشرف أقسام التوقع هو الرجاء فسمى الجنس باسم أشرف أنواعه ورابعها : أن في هذه الآية تنبيهاً على أن الحساب مع الله جانب الرجاء فيه أغلب من جانب الخوف ، وذلك لأن للعبد حقاً على الله تعالى بحكم الوعد في جانب الثواب ولله تعالى حق على العبد في جانب العقاب ، والكريم قد يسقط حق نفسه ، ولا يسقط ما كان حقاً لغيره عليه ، فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في / الحساب ، فلهذا السبب ذكر الرجاء ، ولم يذكر الخوف.
السؤال الثاني : أن الكفار كانوا قد أتوا بأنواع من القبائح والكبائر ، فما السبب في أن خص الله تعالى هذا النوع من الكفر بالذكر في أول الأمر ؟
الجواب : لأن رغبة الإنسان في فعل الخيرات ، وفي ترك المحظورات ، إنما تكون بسبب أن ينتفع به في الآخرة ، فمن أنكر الآخرة ، لم يقدم على شيء من المستحسنات ، ولم يحجم عن شيء من المنكرات ، فقوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} تنبيه على أنهم فعلوا كل شر وتركوا كل خير.
جزء : 31 رقم الصفحة : 20
21
والنوع الثاني : من قبائح أفعالهم قوله : {وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا} اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية ، وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ولذلك قال إبراهيم : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} (الشعراء : 83) {هَبْ لِى حُكْمًا} (الشعراء : 83) إشارة إلى كمال القوة ، النظرية {وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ} إشارة إلى كمال القوة العملية ، فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين ، أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} (النبأ : 27) أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات ، وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات.
(1/4647)
وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله : {وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا} أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق ومصرين على الباطل ، وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلاً وجود ما هو أزيد منه ، فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة. فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله : {جَزَآءً وِفَاقًا} (النبأ : 26) فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت ، ولم ينتبه لها أحد ، فالحمدلله حمداً يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار.
واعلم أن قوله تعالى : {وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا} يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن ، وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله : {كِذَّابًا} أي تكذيباً وفعال من مصادر التفعيل وأنشد الزجاج :
لقد طال ماريثتني عن صحابتي
وعن حوج قضَّاؤها من شفائنا
من قضَّيت قضَّاء قال الفراء هي لغة فصيحة يمانية ونظيره خرَّقت القميص خرَّاقاً ، وقال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني : الحلو أحب إليك أم العِصَّار ؟
وقال صاحب "الكشاف" كنت أفسر آية فقال بعضهم : لقد فسرتها فِسَّاراً ما سمع به ، وقرىء بالتخفيف وفيه وجوه : أحدها : أنه مصدر كَذَّب بدليل قوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 21
/ فصدقتها أو كذبتها
والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله تعالى : {أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا} (نوح : 17) يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وثانيها : أن ينصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب وثالثها : أن يجعل الكذاب بمعنى المكاذبة ، فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة. أو كذبوا بها مكاذبين. لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة وقرىء أيضاً كذلك وهو جمع كاذب ، أي كذبوا بآياتنا كاذبين ، وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال رجل كذاب كقولك حسان وبخال ، فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 21
21
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له ، وقدر له ما يستحق عليه من العقاب معلوم له ، فقال : {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ كِتَـابًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : {كُلٌّ} منصوب بفعل مضمر يفسره {أَحْصَيْنَـاهُ} والمعنى : وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال ، وكل بالرفع على الابتداء.
المسألة الثانية : قوله : {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ} أي علمنا كل شيء كما هو علماً لا يزول ولا يتبدل ، ونظيره قوله تعالى : {أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه } (المجادلة : 6) واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات ، واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل : وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريراً لما ادعاه من قوله : {جَزَآءً وِفَاقًا} (النبأ : 26) كأنه تعالى يقول : أنا عالم بجميع ما فعلوه ، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب ، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم ، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالماً بالجزئيات ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافراً قطعاً.
المسألة الثالثة : قوله : {أَحْصَيْنَـاهُ كِتَـابًا} فيه وجهان : أحدهما : تقديره أحصيناه إحصاء ، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة ، لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم ، ولهذا قال عليه السلام "قيدوا العلم بالكتابة" فكأنه تعالى قال : وكل شيء أحصيناه إحصاء مساوياً في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب ، فالمراد من قوله كتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم ، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب مايليق بأفهام أهل الظاهر ، فإن المكتوب يقبل الزوال ، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني : أن يكون قوله كتاباً حالاً في معنى مكتوباً والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ ، كقوله : {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أو في صحف الحفظة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 21
21
/ ثم قال تعالى : {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} .
(1/4648)
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال العقاب أولاً ، ثم ادعى كونه {جَزَآءً وِفَاقًا} (النبأ : 26) ثم بين تفاصيل أفعالهم القبيحة ، وظهر صحة ما ادعاه أولاً من أن ذلك العقاب كان {جَزَآءً وِفَاقًا} لا جرم أعاد ذكر العقاب ، وقوله : {فَذُوقُوا } والفاء للجزاء ، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم ، فهذا الفاء أفاد عين فائدة قوله : {جَزَآءً وِفَاقًا} .
المسألة الرابعة : هذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه : أحدها : قوله : {فَلَن نَّزِيدَكُمْ} وكلمة لن للتأكيد في النفي وثانيها : أنه في قوله : {كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} (النبأ : 27) ذكرهم بالمغايبة وفي قوله : {فَذُوقُوا } ذكرهم على سبيل المشافهة وهذا يدل على كمال الغضب وثالثها : أنه تعالى عدد وجوه العقاب ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ثم عدد فضائحهم ، ثم قال : {فَذُوقُوا } فكأنه تعالى أفتى وأقام الدلائل ، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها ، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب قال عليه الصلاة والسلام : "هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار ، كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه" بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} (آل عمران : 77) فهنا لما قال لهم : {فَذُوقُوا } فقد كلمهم ؟
الجواب : قال أكثر المفسرين : تقدير الآية فيقال لهم : فذوقوا ، ولقائل أن يقول على هذا الوجه لا يليق بذلك القائل أن يقول : {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} بل هذا الكلام لا يليق إلا بالله ، والأقرب في الجواب أن يقال قوله : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ} أي ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع ، فإن تخصيص العموم غير بعيد لاسيما عند حصول القرينة ، فإن قوله : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ} إنما ذكره لبيان أنه تعالى لا ينفعهم ولا يقيم لهم وزناً ، وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 21
السؤال الثاني : دلت هذه الآية على أنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبداً ، فتلك الزيادة إما أن يقال : إنها كانت مستحقة لهم أو غير مستحقة ، فإن كانت مستحقة لهم كان تركها في أول الأمر إحساناً ، والكريم إذا أسقط حق نفسه ، فإنه لا يليق به أن يسترجعه بعد ذلك ، وأما إن كانت تلك الزيادة غير مستحقة كان إيصالها إليهم ظلماً وإنه لا يجوز على الله الجواب : كما أن الشيء يؤثر بحسب خاصية ذاته ، فكذا إذا دام ازداد تأثيره بحسب ذلك الدوام ، فلا جرم كلما كان الدوام أكثر كان الإيلام أكثر ، وأيضاً فتلك الزيادة مستحقة ، وتركها في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط ، والله علم بما أراد.
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد الأخيار وهو أمور :
جزء : 31 رقم الصفحة : 21
22
/ أولها : قوله تعالى : {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} أما المتقي فقد تقدم تفسيره في مواضع كثيرة يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى فوزاً وظفراً بالبغية ، ويحتمل أن يكون موضع فوز والفوز يحتمل أن يكون المراد منه فوزاً بالمطلوب ، وأن يكون المراد منه فوزاً بالنجاة من العذاب ، وأن يكون المراد مجموع الأمرين ، وعندي أن تفسيره بالفوز بالمطلوب أولى من تفسيره بالفوز بالنجاة من العذاب ، ومن تفسيره بالفوز بمجموع الأمرين أعني النجاة من الهلاك والوصول إلى المطلوب ، وذلك لأنه تعالى فسر المفاز بما بعده وهو قوله : {حَدَآاـاِقَ وَأَعْنَـابًا} فوجب أن يكون المراد من المفاز هذا القدر. فإن قيل الخلاص من الهلاك أهم من حصول اللذة ، فلم أهمل الأهم وذكر غير الأهم ؟
قلنا : لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز باللذة والخير ، أما الفوز باللذة والخير فيستلزم الخلاص من الهلاك ، فكان ذكر هذا أولى.
جزء : 31 رقم الصفحة : 22
22
وثانيها : قوله تعالى : {حَدَآاـاِقَ وَأَعْنَـابًا} والحدائق جمع حديقة ، وهي بستان محوط عليه. من قولهم : أحدقوا به أي أحاطوا به ، والتنكير في قوله : {وَأَعْنَـابًا} يدل على تعظيم حال تلك الأعناب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 22
23
وثالثها : قوله تعالى : {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} كواعب جمع كاعب وهي النواهد التي تكعبت ثديهن وتفلكت أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 23
23
(1/4649)
ورابعها : قوله تعالى : {وَكَأْسًا دِهَاقًا} وفي الدهاق أقوال الأول : وهو قول أكثر أهل اللغة كأبي عبيدة والزجاج والكسائي والمبرد ، و{دِهَاقًا} أي ممتلئة ، دعا ابن عباس غلاماً له فقال : اسقنا دهاقاً ، فجاء الغلام بها ملأى ، فقال ابن عباس : هذا هو الدهاق قال عكرمة ، ربما سمعت ابن عباس يقول : اسقنا وادهق لنا القول الثاني : دهاقاً أي متتابعة وهو قول أبي هريرة وسعيد بن جبير ومجاهد ، قال الواحدي : وأصل هذا القول من قول العرب : أدهقت الحجارة إدهاقاً وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ، ذكرها الليث والمتتابع كالمتداخل القول الثالث : يروى عن عكرمة أنه قال : {دِهَاقًا} أي صافية ، والدهاق على هذا القول يجوز أن يكون جمع داهق ، وهو خشبتان يعصر بهما ، والمراد بالكأس الخمر ، قال الضحاك : كل كأس في القرآن فهو خمر ، التقدير. وخمراً ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت بالدهاق.
جزء : 31 رقم الصفحة : 23
24
وخامسها : قوله : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} في الآية سؤالان :
الأول : الضمير في قوله : {فِيهَآ} إلى ماذا يعود ؟
الجواب فيه قولان الأول : أنها ترجع إلى الكأس ، أي لا يجري بينهم لغو في الكأس التي يشربونها ، وذلك لأن أهل الشراب / في الدنيا يتكلمون بالباطل ، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتغير عقلهم ، ولم يتكلموا بلغو والثاني : أن الكناية ترجع إلى الجنة ، أي لا يسمعون في الجنة شيئاً يكرهونه.
السؤال الثاني : الكذاب بالتشديد يفيد المبالغة ، فوروده في قوله تعالى : {وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا} (النبأ : 28) مناسب لأنه يفيد المبالغة في وصفهم بالكذب ، أما وروده ههنا فغير لائق ، لأن قوله : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} يفيد أنهم لا يسمعون الكذب العظيم وهذا لا ينفي أنهم يسمعون الكذب القليل ، وليس مقصود الآية ذلك بل المقصود المبالغة في أنهم لا يسمعون الكذب البتة ، والحاصل أن هذا اللفظ يفيد نفي المبالغة واللائق بالآية المبالغة في النفي والجواب : أن الكسائي قرأ الأول بالتشديد والثاني بالتخفيف ، ولعل غرضه ما قررناه في هذا السؤال ، لأن قراءة التخفيف ههنا تفيد أنهم لا يسمعون الكذب أصلاً ، لأن الكذاب بالتخفيف والكذب واحد لأن أبا علي الفارسي قال : كذاب مصدر كذب ككتاب مصدر كتب فإذا كان كذلك كانت القراءة بالتخفيف تفيد المبالغة في النفي ، وقراءة التشديد في الأول تفيد المبالغة في الثبوت فيحصل المقصود من هذه القراءة في الموضعين على أكمل الوجوه ، فإن أخذنا بقراءة الكسائي فقد زال السؤال ، وإن أخذنا بقراءة التشديد في الموضعين وهي قراءة الباقين ، فالعذر عنه أن قوله : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} إشارة إلى ما تقدم من قوله : {وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا} والمعنى أن هؤلاء السعداء لا يسمعون كلامهم المشوش الباطل الفاسد ، والحاصل أن النعم الواصلة إليهم تكون خالية عن زحمة أعدائهم وعن سماع كلامهم الفاسد وأقوالهم الكاذبة الباطلة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 24
25
ثم إنه تعالى لما عدد أقسام نعيم أهل الجنة قال : {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الزجاج : المعنى جازاهم بذلك جزاء ، وكذلك عطاء لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد.
المسألة الثانية : في الآية سؤال وهو أنه تعالى جعل الشيء الواحد جزاء وعطاء ، وذلك محال لأن كونه جزاء يستدعي ثبوت الاستحقاق ، وكونه عطاء يستدعي عدم الاستحقاق والجمع بينهما متناف والجواب عنه : لا يصح إلا على قولنا : وهو أن ذلك الاستحقاق إنما ثبت بحكم الوعد ، لا من حيث إن الفعل يوجب الثواب على الله ، فذلك نظراً إلى الوعد المترتب على ذلك الفعل يكون جزاء ، ونظراً إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون عطاء.
المسألة الثالثة : قوله : {حِسَابًا} فيه وجوه الأول : أن يكون بمعنى كافياً مأخوذ من قولهم : أعطاني ما أحسبني أي ما كفاني ، ومنه قوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، أي كفاني من سؤالي ، ومنه قوله :
/ فلما حللت به ضمني
فأولى جميلاً وأعطى حسابا
أي أعطى ما كفى والوجه الثاني : أن قوله : حساباً مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته وقدرته فقوله : {عَطَآءً حِسَابًا} أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الإضعاف ، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه ، وجه منها على عشرة أضعاف ، ووجه على سبعمائة ضعف ، ووجه على مالا نهاية له ، كما قال : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر : 10) ، الوجه الثالث : وهو قول ابن قتيبة : {عَطَآءً حِسَابًا} أي كثيراً وأحسبت فلاناً أي أكثرت له ، قال الشاعر :
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا
ونحسبه إن كان ليس بجائع
(1/4650)
الوجه الرابع : أنه سبحانه يوصل الثواب الذي هو الجزاء إليهم ويوصل التفضل الذي يكون زائداً على الجزء إليهم ، ثم قال : {حِسَابًا} ثم يتميز الجزاء عن العطاء حال الحساب الوجه الخامس : أنه تعالى لما ذكر في وعيد أهل النار : {جَزَآءً وِفَاقًا} ذكر في وعد أهل الجنة جزاء عطاء حساباً أي راعيت في ثواب أعمالكم الحساب ، لئلا يقع في ثواب أعمالكم بخس ونقصان وتقصير والله أعلم بمراده.
جزء : 31 رقم الصفحة : 25
المسألة الرابعة : قرأ ابن قطيب : {حِسَابًا} بالتشديد على أن الحساب بمعنى المحسب كالدراك بمعنى المدرك ، هكذا ذكره صاحب "الكشاف".
جزء : 31 رقم الصفحة : 25
26
واعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف وعيد الكفار ووعد المتقين ، ختم الكلام في ذلك بقوله : {رَّبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَـانِا لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : رب السموات والرحمن ، فيه ثلاثة أوجه من القراءة الرفع فيهما وهو قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، والجر فيهما وهو قراءة عاصم وعبدالله بن عامر ، والجر في الأول مع الرفع في الثاني ، وهو قراءة حمزة والكسائي ، وفي الرفع وجوه أحدها : أن يكون رب السموات مبتدأ ، والرحمن خبره ، ثم استؤنف لا يملكون منه خطاباً وثانيها : رب السموات مبتدأ ، والرحمن صفة ولا يملكون خبره وثالثها : أن يضمر المبتدأ والتقدير هو : {رَّبِّ السَّمَـاوَاتِ} هو الرحمن ثم استؤنف : {لا يَمْلِكُونَ} ورابعها : أن يكون {الرَّحْمَـانُ} و{لا يَمْلِكُونَ} خبرين وأما وجه الجر فعلى البدل من ربك ، وأما وجه جر الأول ، ورفع الثاني فجر الأول بالبدل من ربك ، والثاني مرفوع بكونه مبتدأ وخبره لا يملكون.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : إلى من يرجع ؟
فيه ثلاثة أقوال : الأول : نقل عطاء عن ابن عباس إنه راجع إلى المشركين يريد لا يخاطب المشركون أما المؤمنون فيشفعون يقبل الله ذلك منهم والثاني : قال القاضي : إنه راجع إلى المؤمنين ، والمعنى أن المؤمنين لا يملكون / أن يخاطبوا الله في أمر من الأمور ، لأنه لما ثبت أنه عدل لا يجور ، ثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفار عدل ، وأن الثواب الذي أوصله المؤمنين عدل ، وأنه ما يخسر حقهم ، فبأي سبب يخاطبونه ، وهذا القول أقرب من الأول لأن الذي جرى قبل هذه الآية ذكر المؤمنين لا ذكر الكفار والثالث : أنه ضمير لأهل السموات والأرض ، وهذا هو الصواب ، فإن أحداً من المخلوقين لا يملك مخاطبة الله ومكالمته. وأما الشفاعات الواقعة بإذنه فغير واردة على هذا الكلام لأنه نفى الملك والذي يحصل بفضله وإحسانه ، فهو غير مملوك ، فثبت أن هذا السؤال غير لازم ، والذي يدل من جهة العقل على أن أحداً من المخلوقين لا يملك خطاب الله وجوه الأول : وهو أن كل ما سواء فهو مملوكه والمملوك لا يستحق على مالكه شيئاً وثانيها : أن معنى الاستحقاق عليه ، هو أنه لو لم يفعل لاستحق الذم. ولو فعلة لاستحق المدح ، وكل من كان كذلك كان ناقصاً في ذاته ، مستكملاً بغيره وتعالى الله عنه وثالثها : أنه عالم بقبح القبيح ، عالم بكونه غنياً عنه ، وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح ، وكل من امتنع كونه فاعلاً للقبيح ، فليس لأحد أن يطالبه بشيء ، وأن يقول له لم فعلت. والوجهان الأولان مفرعان على قول أهل السنة ، والوجه الثالث يتفرع على قول المعتزلة فثبت أن أحداً من المخلوقات لا يملك أن يخاطب ربه ويطالب إلهه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 26
28
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أحداً من الخلق لا يمكنه أن يخاطب الله في شيء أو يطالبه بشيء قرر هذا المعنى ، وأكده فقال تعالى : {خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَـا اـاِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَابًا} .
وذلك لأن الملائكة أعظم المخلوقات قدراً ورتبة ، وأكثر قدرة ومكانة ، فبين أنهم لا يتكلمون في موقف القيامة إجلالاً لربهم وخوفاً منه وخضوعاً له ، فكيف يكون حال عيرهم. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لمن يقول بتفضيل الملك على البشر أن يتمسك بهذه الآية ، وذلك لأن المقصود من الآية أن الملائكة لما بقوا خائفين خاضعين وجلين متحيرين في موقف جلال الله ، وظهور عزته وكبريائه ، فكيف يكون حال غيرهم ، ومعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كانوا أشرف المخلوقات.
(1/4651)
المسألة الثانية : اختلفوا في الروح في هذه الآية ، فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال. وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً ، وعن مجاهد : خلق على / صورة بني آدم يأكلون ويشربون ، وليس بناس ، وعن الحسن وقتادة هم بنو آدم ، وعلى هذا معناه ذو الروح ، وعن ابن عباس أرواح الناس ، وعن الضحاك والشعبي هو جبريل عليه السلام ، وهذا القول هو المختار عند القاضي. قال : لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام ، وثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه ، ويصح أن يؤذن له فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه ، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام. أما قوله : {صَفًّا} فيحتمل أن يكون المعنى أن الروح على الاختلاف الذي ذكرناه ، وجميع الملائكة يقومون صفاً واحداً ، ويجوز أن يكون المعنى يقومون صفين ، ويجوز صفوفاً ، والصف في الأصل مصدر فينبىء عن الواحد والجمع ، وظاهر قول المفسرين أنهم يقومون صفين ، فيقوم الروح وحده صفاً ، وتقوم الملائكة كلهم صفاً واحداً ، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم ، وقال بعضهم : بل يقومون صفوفاً لقوله تعالى : {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الفجر : 22).
المسألةالثالثة : الاستثناء إلى من يعود ؟
فيه قولان :
جزء : 31 رقم الصفحة : 28
أحدهما : إلى الروح والملائكة ، وعلى هذا التقدير ؛ الآية دلت على أن الروح والملائكة لا يتكلمون إلا عند حصول شرطين إحداها : حصول الإذن من الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : {مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَه ا إِلا بِإِذْنِه } (البقرة : 255) والمعنى أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله.
والشرط الثاني : أن يقول : صواباً ، فإن قيل : لما أذن له الرحمن في ذلك القول ، علم أن ذلك القول صواب لا محالة ، فما الفائدة في قوله : {وَقَالَ صَوَابًا} ؟
والجواب من وجهين : الأول : أن الرحمن أذن له في مطلق القول ثم إنهم عند حصول ذلك الإذن لا يتكلمون إلا بالصواب ، فكأنه قيل : إنهم لا ينطلقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام ، ثم بد ورود ذلك الإذن يجتهدون ، ولا يتكلمون إلا بالكلام الذي يعلمون أنه صدق وصواب ، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة والعبودية الوجه الثاني : أن تقديره : لا يتكلمون إلا في حق {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ وَقَالَ صَوَابًا} والمعنى لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته وذلك الشخص كان ممن قال صواباً ، واحتج صاحب هذا التأويل بهذه الآية على أنهم يشفعون للمذنبين لأنهم قالوا صواباً وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، لأن قوله : {وَقَالَ صَوَابًا} يكفي في صدقه أن يكون قد قال صواباً واحداً/ فكيف بالشخص الذي قال القول الذي هو أصوب الأقوال وتكلم بالكلام الذي هو أشرف الكلمات القول الثاني : أن الاستثناء غير عائد إلى الملائكة فقط بل إلى جميع أهل السموات والأرض ، والمقول الأول أولى لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى.
واعلم أنه تعالى لما قرر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب ، وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده :
جزء : 31 رقم الصفحة : 28
28
/ {ذَالِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } ذلك إشارة إلى تقدم ذكره ، وفي وصف اليوم بأنه حق وجوه أحدها : أنه يحصل فيه كل الحق ، ويندمغ كل باطل ، فلما كان كاملاً في هذا المعنى قيل : إنه حق ، كما يقال : فلان خير كله إذا وصف بأن فيه خيراً كثيراً ، وقوله : {ذَالِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } يفيد أنه هو اليوم الحق وما عداه باطل ، لأن أيام الدنيا باطلها أكثر من حقها وثانيها : أن الحق هو الثابت الكائن ، وبهذا المعنى يقال إن الله حق ، أي هو ثابت لا يجوز عليه الفناء ويوم القيامة كذلك فيكون حقاً وثالثها : أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يقال له يوم ، لأن فيه تبلى السرائر وتنكشف الضمائر ، وأماأيام الدنيا فأحوال الخلف فيها مكتومة ، والأحوال فيها غير معلومة.
قوله تعالى : {فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّه مَـاَابًا} أي مرجعاً ، والمعتزلة احتجوا به على الاختيار والمشيئة ، وأصحابنا رووا عن ابن عباس أنه قال : المراد فمن شاء الله به خيراً هداه حتى يتخذ إلى ربه مآباً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 28
33
ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال : {إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} يعني العذاب في الآخرة ، وكل ما هو آت قريب ، و(هو) كقوله تعالى : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا} (النازعات : 46) وإنما سماه إنذاراً ، لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار.
ثم قال تعالى : {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} وفيه مسائل :
(1/4652)
المسألة الأولى : ما في قوله : {مَا قَدَّمَتْ يَدَاه } فيه وجهان الأول : أنها استفهامية منصوبة بقدمت ، أي ينظر أي شيء قدمت يداه الثاني : أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر ، والتقدير : ينظر إلى الذي قدمت يداه ، إلا أن على هذا التقدير حصل فيه حذفان أحدهما : أنه لم يقل : قدمته ، بل قال : {قَدَّمْتُ} فحذف الضمير الراجع الثاني : أنه لم يقل : ينظر إلى ما قدمت ، بل قال : ينظر ما قدمت ، يقام نظرته بمعنى نظرت إليه.
المسألة الثانية : في الآية ثلاثة أقوال : الأول : وهو الأظهر أن المرء عام في كل أحد ، لأن المكلف إن كان قدم عمل المتقين ، فليس له إلا الثواب العظيم ، وإن كان قدم عمل الكافرين ، فليس له إلا العقاب الذي وصفه الله تعالى ، فلا رجاء لمن ورد القيامة من المكلفين في أمر سوى هذين ، فهذا هو المراد بقوله : {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فطوبى له إن قدم عمل الأبرار ، وويل له إن قدم عمل الفجار والقول الثاني : وهو قول عطاء : أن المر ههنا هو الكافر ، لأن المؤمن كما ينظر إلى ما قدمت يداه ، فكذلك ينظر إلى عفو الله ورحمته / وأما الكافر الذي لا يرى إلا العذاب ، فهو لا يرى إلا ما قدمت يداه ، لأن ما وصل إليه من العقاب ليس إلا من شؤم معاملته والقول الثالث : وهو قول الحسن ، وقتادة أن المرء ههنا هو المؤمن ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أنه تعالى قال بعد هذه الآية ، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَابَا } فلما كان هذا بياناً لحال الكافر ، وجب أن يكون الأول بياناً لحال المؤمن والثاني : وهو أن المؤمن لما قدم الخير والشر فهو من الله تعالى على خوف ورجاء ، فينتظر كيف يحدث الحال ، أما الكافر فإنه قاطع بالعقاب ، فلا يكون له انتظار أنه كيف يحدث الأمر ، فإن مع القطع لا يحصل الانتظار.
جزء : 31 رقم الصفحة : 33
المسألة الثالثة : القائلون : بأن الخير يوجب الثواب والشر يوجب العقاب تمسكوا بهذه الآية ، فقالوا : لولا أن الأمر كذلك ، وإلا لم يكن نظر الرجل في الثواب والعقاب على عمله بل على شيء آخر والجواب عنه : أن العمل يوجب الثواب والعقاب ، لكن بحكم الوعد والجعل لا بحكم الذات.
أما قوله تعالى : {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَابَا } ففيه وجوه : أن يوم القيامة ينظر المرء أي شيء قدمت يداه ، أما المؤمن فإنه يجد الإيمان والعفو عن سائر المعاصي على ما قال : {بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } وأما الكافر فلا يتوقع العفو على ما قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه } (النساء : 48) فعند ذلك يقول الكافر : {الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَابَا } أي لم يكن حياً مكلفاً وثانيها : أنه كان قبل البعث تراباً ، فالمعنى على هذا. يا ليتني لم أبعث للحساب ، وبقيت كما كنت تراباً ، كقوله تعالى : {حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} (الحاقة : 27) وقوله : {يَوْمَا ِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الارْضُ} (النساء : 42) وثالثها : أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها بعد المحاسبة : كوني تراباً فيتمنى الكافر عند ذلك أن يكون هو مثل تلك البهائم في أن يصير تراباً ، ويتخلص من عذاب الله وأنكر بعض المعتزلة ذلك. وقال : إنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوض وبين متفضل عليه ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقطعها عن المنافع ، لأن ذلك كالإضرار بها ، ولا يجوز ذلك في الآخرة ، ثم إن هؤلاء قالوا : إن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة أعواضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة ، وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار ، قال القاضي : ولا يمتنع أيضاً إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ذلك ضرراً ورابعها : ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله : {الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَابَا } معناه يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله ولم أكن متكبراً متمرداً وخامسها : الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم ، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ} (ص : 76) والله أعلم بمراده وأسرار كتابه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 33
37
(1/4653)
سورة النازعات
وهي أربعون وست آيات مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
37
/ فيه مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أن هذه الكلمات الخمس ، يحتمل أن تكون صفات لشيء واحد ، ويحتمل أن لا تكون كذلك ، أما على الاحتمال الأول فقد ذكروا في الآية وجوهاً أحدها : أنها بأسرها صفات الملائكة ، فقوله : {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} هي الملائكة الذين ينزعون نفوس بني آدم فإذا نزعوا نفس الكفار نزعوها بشدة ، وهو مأخوذ من قولهم نزع في القوس فأغرق يقال : أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل ، فتقدير الآية : والنازعات إغراقاً ، والغرق والإغراق في اللغة بمعنى واحد ، وقوله : {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} النشط هو الجذب يقال : نشطت الدلو أنشطها وأنشطتها نشطاً نزعتها برفق ، والمراد هي الملائكة التي تنشط روح المؤمن فتقبضها ، وإنما خصصنا هذا بالمؤمن والأول بالكافر لما بين النزع والنشط من الفرق فالنزاع جذب بشدة ، والنشط جذب برفق ولين فالملائكة ، تنشط أرواح المؤمنين كما تنشط الدلو من البئر فالحاصل أن قوله : {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} قسم بملك الموت وأعوانه إلا أن الأول إشارة إلى كيفية قبض أرواح الكفار ، والثاني إشارة إلى كيفية قبض أرواح المؤمنين ، أما قوله : {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} فمنهم من خصصه أيضاً بملائكة قبض الأرواح ، ومنهم من حمله على سائل طوائف الملائكة ، أما الوجه الأول : فنقل عن علي عليه السلام ، وابن عباس ومسروق ، أن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلاً رفيقاً ، فهذا هو المراد من قوله : {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} ثم يتركونها حتى تستريح رويداً ، ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق ولطافة لئلا يفرق ، فكذا ههنا يرفقون في ذلك الاستخراج ، لئلا يصل إليه ألم وشدة / فذاك هو المراد من قوله : {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} وأما الذين حملوه على سائر طوائف الملائكة فقالوا : إن الملائكة ينزلون من السماء مسرعين ، فجعل نزولهم من السماء كالسباحة ، والعرب تقول للفرس الجواد ، إنه السابح ، وأما قوله : {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا}
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
فمنهم من فسره بملائكة قبض الأرواح يسبقون بأرواح الكفار إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، ومنهم من فسره بسائر طوائف الملائكة ، ثم ذكروا في هذا السبق وجوهاً أحدها : قال مجاهد وأبو روق إن الملائكة سبقت ابن آدم بالإيمان والطاعة ، ولا شك أن المسابقة في الخيرات درجة عظيمة قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أولئك الْمُقَرَّبُونَ} (الواقعة : 10) وثانيها : قال الفراء والزجاج : إن الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء لأن الشياطين كانت تسترق السمع وثالثها : ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى وصفهم فقال : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ} (الأنبياء : 27) يعني قبل الإذن لا يتحركون ولا ينطقون تعظيماً لجلال الله تعالى وخوفاً من هيبته ، وههنا وصفهم بالسبق يعني إذا جاءهم اومر ، فإنهم يتسارعون إلى امتثاله ويتبادرون إلى إظهار طاعته ، فهذا هو المراد من قوله : {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} ، وأما قوله : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} فأجمعوا على أنهم هم الملائكة : قال مقاتل يعني جبريل وميكائيل ، وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام يدبرون أمر الله تعالى في أهل الأرض ، وهم المقسمات أمراً ، أما جبريل فوكل بالرياح والجنود ، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات ، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم/ وقوم منهم موكلون بحفظ بني آدم ، وقوم آخرون بكتابة أعمالهم وقوم آخرون بالخسف والمسخ والرياح والسحاب والأمطار ، بقي على الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم قال : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} ، ولم يقل : أموراً فإنهم يدبرون أموراً كثيرة لا أمراً واحداً ؟
والجواب : أن المراد به الجنس ، وإذا كان كذلك قام مقام الجمع.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
(1/4654)
السؤال الثاني : قال تعالى : إن الأمر كله لله فكيف أثبت لهم ههنا تدبير الأمر. والجواب : لما كان ذلك الإتيان به كان الأمر كأنهله ، فهذا تلخيص ما قاله المفسرون في هذا الباب ، وعندي فيه وجه آخر : وهو أن الملائكة لها صفات سلبية وصفات إضافية ، أما الصفات السلبية فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة ، والموت والهرم والسقم والتركيب من الأعضاء والأخلاط والأركان ، بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال ، فقوله : {وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا} إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعاً كلياً من جميع الوجوه وعلى هذا التفسير : هي ذوات النزع كاللابن والتامر ، وأما قوله : {وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا} إشارة إلى أن خروجها عن هذه الأحوال ليس على سبيل التكليف والمشقة كما في حق البشر ، بل هم بمقتضى ماهياتهم خرجوا عن هذه الأحوال وتنزهوا عن هذه الصفات ، فهاتان الكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية ، وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان أحدهما : شرح قوتهم العاقلة أي كيف حالهم في معرفة ملك الله وملكوته والاطلاع على نور جلاله فوصفهم في هذا المقام بوصفين / أحدهما : قوله : {وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا} فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلال الله ثم لا منتهى لسباحتهم ، لأنه لا منتهى لعظمة الله وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه ، فهم أبداً في تلك السباحة وثانيهما : قوله : {فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا} وهو إشارة إلى مراتب الملائكة في تلك السباحة فإنه كما أن مراتب معارف البهائم بالنسبة إلى مراتب معارف البشر ناقصة ، ومراتب معارف البشر بالنسبة إلى مراتب معارف الملائكة ناقصة ، فكذلك معارف بعض تلك الملائكة بالنسبة إلى مراتب معارف الباقين متفاوتة ، وكما أن المخالفة بين نوع الفرس ونوع الإنسان بالماهية لا بالعوارض فكذا المخالفة بين شخص كل واحد من الملائكة وبين شخص الآخر بالماهية فإذا كانت أشخاصها متفاوتة بالماهية لا بالعوارض كانت لا محالة متفاوتة في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي فهذا هو المراد من قوله : {فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا} فهاتان الكلمتان المراد منهما شرح أحوال قوتهم العاقلة.
وأما قوله : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} فهو إشارة إلى شرح حال قوتهم العاملة ، وذلك لأن كل حال من أحوال العالم السفلي مفوض إلى تدبير واحد من الملائكة الذين هم عمار العالم العلوي وسكان بقاع السموات ، ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم ، لا جرم قدم شرح القوة العاقلة التي لهم على شرح القوة العاملة التي لهم ، فهذا الذي ذكرته احتمال ظاهر والله أعلم بمراده من كلامه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
واعلم أن أبا مسلم بن بحر الأصفهاني طعن في حمل هذه الكلمات على الملائكة ، وقال : واحد النازعات نازعة وهو من لفظ الإناث ، وقد نزه الله تعالى الملائكة عن التأنيث ، وعاب قول الكفار حيث قال : {وَجَعَلُوا الملائكة الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـن ِ إِنَـاثًا } (الزخرف : 19).
واعلم أن هذا طعن لا يتوجه على تفسيرنا ، لأن المراد الأشياء ذوات النزع ، وهذا القدر لا يقتضي ما ذكر من التأنيث.
الوجه الثاني في تأويل هذه الكلمات : أنها هي النجوم وهو قول الحسن البصري ووصف النجوم بالنازعات يحتمل وجوهاً : أحدها : كأنها تنزع من تحت الأرض فتنجذب إلى ما فوق الأرض/ فإذا كانت منزوعة كانت ذوات نزع ، فيصح أن يقال : إنها نازعة على قياس اللابن والتامر وثانيها : أن النازعات من قولهم نزع إليه أي ذهب نزوعاً ، هكذا قاله الواحدي : فكأنها تطلع وتغرب بالنزع والسوق والثالث : أن يكون ذلك من قولهم : نزعت الخيل إذا جرت ، فمعنى : {وَالنَّـازِعَـاتِ} أي والجاريات على السير المقدر والحد المعين وقوله : {غَرْقًا} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون حالاً من النازعات أي هذه الكواكب كالغرقى في ذلك النزع والإرادة وهو إشارة إلى كمال حالها في تلك الإرادة ، فإن قيل : إذا لم تكن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة ، فما معنى وصفها بذلك قلنا : هذا يكون على سبيل التشبيه كقوله تعالى : {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33) فإن الجمع بالواو والنون يكون للعقلاء ، ثم إنه ذكر في الكواكب على سبيل التشبيه والثاني : أن يكون معنى غرقها / غيبوبتها في أفق الغرب ، فالنازعات إشارة إلى طلوعها وغرقاً إشارة إلى غروبها أي تنزع ، ثم تغرق إغراقاً ، وهذا الوجه ذكره قوم من المفسرين.
(1/4655)
أما قوله : {وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا} فقال صاحب "الكشاف" : معناه أنها تخرج من برج إلى برج من قولك : ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد. وأقول يرجع حاصل هذا الكلام إلى أن قوله : {وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا} إشارة إلى حركتها اليومية {وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا} إشارة إلى انتقالها من برج إلى برج وهو حركتها المخصوصة بها في أفلاكها الخاصة ، والعجب أن حركاتها اليومية قسرية ، وحركتها من برج إلى برج ليست قسرية ، بل ملائمة لذواتها ، فلا جرم عبر عن الأول بالنزع وعن الثاني بالنشط ، فتأمل أيها المسكين في هذه الأسرار.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
وأما قوله : {وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا} فقال الحسن وأبو عبيدة رحمهما الله : هي النجوم تسبح في الفلك ، لأن مرورها في الجو كالسبح ، ولهذا قال : {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (الأنبياء : 33).
وأما قوله : {فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا} فقال الحسن وأبو عبيدة : وهي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير بسبب كون بعضها أسرع حركة من البعض ، أو بسبب رجوعها أو استقامتها.
وأما قوله تعالى : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} ففيه وجهان أحدهما : أن بسبب سيرها وحركتها يتميز بعض الأوقات عن بعض ، فتظهر أوقات العبادات على ما قال تعالى : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ} وقال : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } (البقرة : 189) وقال : {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } ولأن بسبب حركة الشمس تختلف الفصول الأربعة ، ويخلف بسبب اختلافها أحوال الناس في المعاش ، فلا جرم أضيفت إليها هذه التدبيرات والثاني : أنه لما ثبت بالدليل أن كل جسم محدث ثبت أن الكواكب محدثة مفتقرة إلى موجد يوجدها ، وإلى صانع يخلقها ، ثم بعد هذا لو قدرنا أن صانعها أودع فيها قوى مؤثرة في أحوال هذا العالم ، فهذا يطعن في الدين البتة ، وإن لم نقل بثبوت هذه القوى أيضاً ، لكنا نقول : أن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأن جعل كل واحد من أحوالها المخصوصة سبباً لحدوث حادث مخصوص في هذا العالم ، كما جعل الأكل سبباً للشبع ، والشرب سبباً للري ، ومماسة النار سبباً للاحتراق ، فالقول بهذا المذهب لا يضر الإسلام البتة بوجه من الوجوه ، والله أعلم بحقيقة الحال.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
الوجه الثالث : في تفسير هذه الكلمات الخمسة أنها هي الأرواح ، وذلك لأن نفس الميت تنزع ، يقال فلان في النزع ، وفلان ينزع إذا كان في سياق الموت ، والأنفس نازعات عند السياق ، ومعنى {غَرْقًا} أي نزعاً شديداً أبلغ ما يكون وأشد من إغراق النازع في القوس وكذلك تنشط لأن النشط معناه الخروج/ ثم الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية المشتاقة إلى الاتصال العلوي بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة ، ومنازل القدس على أسرع الوجوه في روح وريحان ، فعبر عن ذهابها على هذه الحالة بالسباحة ، ثم لا شك أن مراتب الأرواح / في النفرة عن الدنيا ومجبة الاتصال بالعالم العلوي مختلفة فكلما كانت أتم في هذه الأحوال كان سيرها إلى هناك أسبق ، وكلما كانت أضعف كان سيرها إلى هناك أثقل ، ولا شك أن الأرواح السابقة إلى هذه الأحوال أشرف فلا جرم وقع القسم بها ، ثم إن هذه الأرواح الشريفة العالية لا يبعد أن يكون فيها ما يكون لقوتها وشرفها يظهر منها آثار في أحوال هذا العالم فهي {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} أليس أن الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها ؟
أليس أن الابن قد يرى أباه في المنام فيهديه إلى كنز مدفون ؟
أليس أن جالينوس قال : كنت مريضاً فعجزت عن علاج نفسي فرأيت في المنام واحداً أرشدني إلى كيفية العلاج ؟
أليس أن الغزالي قال : إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ، ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن ، فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاماً ؟
ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة ، وهذه المعاني وإن لم تكن منقولة عن المفسرين إلا أن اللفظ محتمل لها جداً.
الوجه الرابع : في تفسير هذه الكلمات الخمس أنها صفات خيل الغزاة فهي نازعات لأنها تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب وهي لأنها تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، من قولهم : ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، وهي سابحات لأنها تسبح في جريها وهي سابقات ، لأنها تسبق إلى الغاية ، وهي مدبرات لأمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها مجاز لأنها من أسبابه.
(1/4656)
الوجه الخامس : وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله أن هذه صفاة الغزاة فالنازعات أيدي الغزاة يقال : للرامي نزع في قوسه ، ويقال : أغرق في النزع إذا استوفى مد القوس ، والناشطات السهام وهي خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها ، وكل شيء حللته فقد نشطته ، ومنه نشاط الرجل وهو انبساطه وخفته ، والسابحات في هذا الموضع الخيل وسبحها العدو ، ويجوز أن يعني به الإبل أيضاً ، والمدبرات مثل المعقبات ، والمراد أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها الأمر الذي هو النصر ، ولفظ التأنيث إنما كان لأن هؤلاء جماعات ، كما قيل : المدبرات ، ويحتمل أن يكون المراد الآلة من القوس والأوهاق ، على معنى المنزوع فيها والمنشوط بها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
الوجه السادس : أنه يمكن تفسير هذه الكلمات بالمراتب الواقعة في رجوع القلب من غير الله تعالى إلى الله {وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا} هي الأرواح التي تنزع إلى اعتلاق العروة الوثقى ، أو المنزوعة عن محبة غير الله تعالى : {وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا} هي أنها بعد الرجوع عن الجسمانيات تأخذ في المجاهدة ، والتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى بنشاط تام ، وقوة قوية : {وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا} ثم إنها بعد المجاهدة تسرح في أمر الملكوت فتقطع في تلك البحار فتسبح فيها : {فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا} إشارة إلى تفاوت الأرواح في درجات سيرها إلى الله تعالى : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} إشارة إلى أن آخر مراتب / البشرية متصلة بأول درجات الملكية ، فلما انتهت الأرواح البشرية إلى أقصى غاياتها وهي مرتبة السبق اتصلت بعالم الملائكة وهو المراد من قوله : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} فالأربعة الأول هي المراد من قوله : {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِى ءُ} (النور : 35) والخامسة : هي النار في قوله : {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } (النور : 35).
واعلم أن الوجوه المنقولة عن المفسرين غير منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نصاً ، حتى لا يمكن الزيادة عليها ، بل إنما ذكروها لكون اللفظ محتملاً لها ، فإذا كان احتمال اللفظ لما ذكرناه ليس دون احتماله للوجوه التي ذكروها لم يكن ما ذكروه أولى مما ذكرناه إلا أنه لا بد ههنا من دقيقة ، وهو أن اللفظ محتمل للكل ، فإن وجدنا بين هذه المعاني مفهوماً واحداً مشتركاً حملنا اللفظ على ذلك المشترك : وحينئذ يندرج تحته جميع هذه الوجوه. أما إذا لم يكن بين هذه المفهومات قدر مشترك تعذر حمل اللفظ على الكل ، لأن اللفظ المشترك لا يجوز استعماله لإفادة مفهومية معاً ، فحينذ لا نقول مراد الله تعالى هذا ، بل نقول : يحتمل أن يكون هذا هو المراد ، أما الجزم فلا سبيل إليه ههنا.
الاحتمال الثاني : وهو أن تكون الألفاظ الخمسة صفات لشيء واحد ، بل لأشياء مختلفة ، ففيه أيضاً وجوه الأول : النازعات غرقاً ، هي : القسى ، والناشطات نشطاً هي الأوهاق ، والسابحات السفن ، والسابقات الخيل ، والمدبرات الملائكة ، رواه واصل بن السائب : عن عطاء الثاني : نقل عن مجاهد : في النازعات ، والناشطات ، والسابحات أنها الموت ، وفي السابقات ، والمدبرات أنها الملائكة ، وإضافة النزع ، والنشط ، والسبح إلى الموت مجاز بمعنى أنها حصلت عند حصوله الثالث : قال قتادة : الجميع هي النجوم إلا المدبرات ، فإنها هي الملائكة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
(1/4657)
المسألة الثانية : ذكر فالسابقات بالفاء ، والتي قبلها بالواو ، وفي علته وجهان الأول : قال صاحب "الكشاف" : إن هذه مسيبة عن التي قبلها ، كأنه قيل : واللاتي سبحن ، فسبقن كما تقول : قام فذهب أوجب الفاء أن القيام كان سبباً للذهاب ، ولو قلت : قام وذهب لم تجعل القيام سبباً للذهاب ، قال الواحدي : قول صاحب "النظم" غير مطرد في قوله : {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبير ، وأقول : يمكن الجواب عن اعتراض الواحدي رحمه الله من وجهين : الأول : لا يبعد أن يقال : إنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيرها وإصلاحها ، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض ، كقولك قام زيد ، فذهب ، فضرب عمراً ، الثاني : لا يبعد أن يقال : إنهم لما كانوا سابقين في أداء الطاعات متسارعين إليها ظهرت أمانتهم ، فلهذا السبب فوض الله إليهم تدبير بعض العالم الوجه الثاني : أن الملائكة قسمان ، الرؤساء والتلامذة ، والدليل عليه أنه سبحانه وتعالى قال : {قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ} (السجدة : 11) ثم قال : {حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام : 61) فقلنا في التوفيق بين الآيتين : أن ملك الموت هو الرأس ، والرئيس وسائر الملائكة هم التلامذة ، إذا عرفت هذا فتقول : النازعات ، والناشطات / والسابحات ، محمولة على التلامذة الذين هم يباشرون العمل بأنفسهم ، ثم قوله تعالى : {فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} إشارة إلى الرؤساء الذين هم السابقون ، في الدرجة والشرف ، وهم المدبرون لتلك الأحوال والأعمال.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
37
فيه مسائل :
المسألة الأولى : جواب القسم المتقدم محذوف أو مذكور فيه وجهان الأول : أنه محذوف ، ثم على هذا الوجه في الآية احتمالات :
الأول : قال الفراء التقدير : لتبعثن ، والدليل عليه ما حكى الله تعالى عنهم ، أنهم قالوا : {أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا نَّخِرَةً} (النازعات : 11) أي أنبعث إذا صرنا عظاماً نخرة الثاني : قال الأخفش والزجاج : لننفخن في الصور نفختين ودل على هذا المحذوف ذكر الراجفة والرادفة وهما النفختان الثالث : قال الكسائي : الجواب المضمر هو أن القيامة واقعة وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال : {وَالذَّارِيَـاتِ ذَرْوًا} (الذاريات : 1) ثم قال : {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} (الذاريات : 5) وقال : {وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا * فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا * وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا} (المرسلات : 7,1) فكذلك ههنا فإن القرآن كالسورة الواحدة القول الثاني : أن الجواب مذكور وعلى هذا القول احتمالات الأول : المقسم عليه هو قوله : {قُلُوبٌ يَوْمَـاـاِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـارُهَا خَـاشِعَةٌ} والتقدير والنازعات غرقاً أن يوم ترجف الراجفة تحصل قلوب واجفة وأبصارها خاشعة الثاني : جواب القسم هو قوله : {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى } (النازعات : 15) فإن هل ههنا بمعنى قد ، كما في قوله : {هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ الْغَـاشِيَةِ} (الغاشية : 1) أي قد أتاك حديث الغاشية الثالث : جواب القسم هو قوله : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } (النازعات : 26).
المسألة الثانية : ذكروا في ناصب يوم بوجهين أحدهما : أنه منصوب بالجواب المضمر والتقدير لتبعثن يوم ترجف الراجفة ، فإن قيل كيف يصح هذا مع أنهم لا يبعثون عند النفخة الأولى والراجفة هي النفخة الأولى ؟
قلنا المعنى لتبعثن في الوقت الواسع الذي يحصل فيه النفختان ، ولا شك أنهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع وهو وقت النفخة الأخرى ، ويدل على ما قلناه أن قوله : {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} جعل حالاً عن الراجفة والثاني : أن ينصب يوم ترجف بما دل عليه : {قُلُوبٌ يَوْمَـاـاِذٍ وَاجِفَةٌ} أي يوم ترجف وجفت القلوب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
(1/4658)
المسألة الثالثة : الرجفة في اللغة تحتمل وجهين أحدهما : الحركة لقوله : {يَوْمَ تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ} (المزمل : 14). الثاني : الهدة المنكرة والصوت الهائل من قولهم : رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً ، وذلك تردد أصواته المنكرة وهدهدته في السحاب ، ومنه قوله تعالى : {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} (الأعراف : 91) فعلى هذا الوجه الراجفة صيحة عظيمة فيها هول وشدة كالرعد ، وأما الرادفة فكل شيء جاء بعد شيء آخر يقال ردفه ، أي جاء بعده ، وأما القلوب الواجفة فهي المضطربة الخائفة ، يقال : وجف قلبه يجف وجافاً إذا اضطرب ، ومنه إيجاف الدابة ، وحملها على السير الشديد ، وللمفسرين عبارات كثيرة في تفسير الواجفة ومعناها واحد ، قالوا : خائفة وجلة زائدة عن أماكنها قلقة مستوفزة مرتكضة شديدة الاضطراب غير ساكنة ، أبصار أهلها خاشعة ، وهو كقوله : {خَـاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ } (الشورى : 45) إذا عرفت هذا فنقول ، اتفق جمهور المفسرين على أن هذه الأمور أحوال يوم القيامة ، وزعم أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس كذلك ونحن نذكر تفاسير المفسرين ثم نشرح قول أبي مسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
أما القول الأول : وهو المشهور بين الجمهور ، أن هذه الأحوال أحوال يوم القيامة فهؤلاء ذكروا وجوهاً أحدها : أن الراجفة هي النفخة الأولى ، وسميت به إما لأن الدنيا تتزلزل وتضطرب عندها/ وإما لأن صوت تلك النفخة هي الراجفة ، كما بينا القول فيه ، والراجفة رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء على ما ذكره تعالى في سورة الزمر ، ثم يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أن بين النفختين أربعين عاماً ، ويروى في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف ، وأن ذلك كالسبب للأحياء ، وهذا مما لا حاجة إليه في الإعادة ، ولله أن يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد وثانيها : الراجفة هي النفخة الأولى والرادفة هي قيام الساعة من قوله : {عَسَى ا أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ} (النمل : 72) أي القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها فهي رادفة لهم لاقترابها وثالثها : الراجفة الأرض والجبال من قوله : {يَوْمَ تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ} والرادفة السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك ورابعها : الراجفة هي الأرض تتحرك وتتزلزل والرادفة زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى القول الثاني : وهو قول أبي مسلم أن هذه الأحوال ليست أحوال يوم القيامة ، وذلك لأنا نقلنا عنه أنه فسر النازعات بنزع القوس والناشطات بخروج السهم ، والسابحات بعدو الفرس ، والسابقات بسبقها ، والمدبرات بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي والعدو ، ثم بنى على ذلك فقال الراجفة هي خيل المشركين وكذلك الرادفة ويراد بذلك طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسبقت إحداهما الأخرى ، والقلوب الواجفة هي القلقة ، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين كقوله : {الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } (محمد : 20) كأنه قيل لما جاء خيل العدو يرجف ، وردفتها أختها اضطرب قلوب المنافقين خوفاً ، وخشعت أبصارهم جبناً وضعفاً ، ثم قالوا : / {أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ} (النازعات : 10) أي نرجع إلى الدنيا حتى نتحمل هذا الخوف لأجلها وقالوا أيضاً : {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (النازعات : 12) فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المشركين وأوسطه حكاية لحال المنافقين وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر ، ثم إنه سبحانه وتعالى أجاب عن كلامهم بقوله : {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} (النازعات : 14,13) وهذا كلام أبي مسلم واللفظ محتمل له وإن كان على خلاف قول الجمهور.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
قوله تعالى : {قُلُوبٌ يَوْمَـاـاِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـارُهَا خَـاشِعَةٌ} اعلم أنه تعالى لم يقل : القلوب يومئذ واجفة ، فإنه ثبت بالدليل أن أهل الإيمان لا يخافون بل المراد منه قلوب الكفار ، ومما يؤكد ذلك أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون : {أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ} (النازعات : 10) وهذا كلام الكفار لا كلام المؤمنين ، وقوله : {أَبْصَـارُهَا خَـاشِعَةٌ} لأن المعلوم من حال المضطرب الخائف أن يكون نظره نظر خاشع ذليل خاضع يترقب ما ينزل به من الأمر العظيم ، وفي الآية سؤالان :
السؤال الأول : كيف جاز الابتداء بالنكرة ؟
الجواب : قلوب مرفوعة بالابتداء وواجفة صفتها وأبصارها خاشعة خبرها فهو كقوله : {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} (البقرة : 221).
(1/4659)
السؤال الثاني : كيف صحت إضافة الأبصار إلى القلوب ؟
الجواب : معناه أبصار أصحابها بدليل قوله يقولون ، ثم اعلم أنه تعالى حكى ههنا عن منكري البعث أقوالاً ثلاثة :
أولها : قوله تعالى : {يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ} يقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفراً فهي في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت حافرة/ كما قيل : {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} (الحاقة : 21) و{مَّآءٍ دَافِقٍ} (الطارق : 6) أي منسوبة إلى الحفر والرضا والدفق أو كقولهم نهارك صائم ، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته ، أي إلى طريقته وفي الحديث : "إن هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته" أي على أول تأسيسه وحالته الأولى وقرأ أبو حيوة في الحفرة ، والحفرة بمعنى المحفورة يقال : حفرت أسنانه ، فحفرت حفراً ، وهي حفرة ، هذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفور ، إذا عرفت هذا ظهر أن معنى الآية : أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا.
وثانيها : قوله تعالى : {أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا نَّخِرَةً} وفيه مسائل :
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
المسألة الأولى : قرأ حمزة وعاصم ناخرة بألف ، وقرأ الباقون نخرة بغير ألف ، واختلفت الرواية عن الكسائي فقيل : إنه كان لا يبالي كيف قرأها ، وقيل : إنه كان يقرؤها بغير ألف ، ثم رجع إلى الألف ، واعلم أن أبا عبيدة اختار نخرة ، وقال : نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت ، فوجدناها كلها العظام النخرة ، ولم نسمع في شيء منها الناخرة ، وأما من سواه ، فقد اتفقوا / على أن الناخرة لغة صحيحة ، ثم اختلف هؤلاء على قولين : الأول : أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد قال الأخفش هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن ، وقال الفراء : الناخر والنخر سواء في المعنى بمنزله الطامع والطمع ، والباخل والبخل ، وفي كتاب "الخليل" نخرت الخشبة إذا بليت فاسترخت حتى تتفتت إذا مست ، وكذلك العظم الناخر ، ثم هؤلاء الذين قالوا : هما لغتان والمعنى واحد اختلفوا فقال الزجاج والفراء : الناخرة أشبه الوجهين بالآية لأنها تشبه أواخر سائر الآي نحو الحافرة والساهرة ، وقال آخرون : الناخرة والنخر كالطامع والطمع ، واللابث واللبث وفعل أبلغ من فاعل القول الثاني : أن النخرة غير والناخرة غير ، أما النخرة فهو من نخر العظم ينخر فهو نخر مثل عفن يعفن فهو عفن ، وذلك إذا بلي وصار بحيث لو لمسته لتفتت ، وأما الناخرة فهي العظام الفارغة التي يحصل من هبوب الريح فيها صوت كالنخير ، وعلى هذا الناخرة من النخير بمعنى الصوت كنخير النائم والمخنوق لا من النخر الذي هو البلى.
المسألة الثانية : إذاً منصوب بمحذوف تقدير إذا كنا عظاماً نرد ونبعث.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
(1/4660)
المسألة الثالثة : اعلم أن حاصل هذه الشبهة أن الذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله : أنا هو هذا الجسم المبني بهذه البنية المخصوصة ، فإذا مات الإنسان فقد بطل مزاجه وفسد تركيبه فتمتنع إعادته لوجوه أحدها : أنه لا يكون الإنسان العائد هو الإنسان الأول إلا إذا دخل التركيب الأول في الوجود مرة أخرى ، وذلك قول بإعادة عين ما عدم أولاً ، وهذا محال لأن الذي عدم لم يبق له عين ولا ذات ولا خصوصية ، فإذا دخل شيء آخر في الوجود استحال أيقال بأن العائد هو عين ما فني أولاً وثانيها : أن تلك الأجزاء تصير تراباً وتتفرق وتختلط بأجزاء كل الأرض وكل المياه وكل الهواء فتميز تلك الأجزاء بأعيانها عن كل هذه الأشياء محال وثالثها : أن الأجزاء الترابية باردة يابسة قشفة فتولد الإنسان الذي لا بد وأن يكون حاراً رطباً في مزاجه عنها محال ، هذا تمام تقرير كلام هؤلاء الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم : {أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا نَّخِرَةً} والجواب : عن هذه الشبهة من وجوه أولها : وهو الأقوى : لا نسلم أن المشار إليه لكل أحد بقوله : أنا هو هذا الهيكل ، ثم إن الذي يدل على فساده وجهان الأول : أن أجزاء هذا الهيكل في الزوبان والتبدل ، والذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا ليس في التبدل والمتبدل مغاير لما هو غير متبدل والثاني : أن الإنسان قد يعرف أنه هو حال كونه غافلاً عن أعضائه الظاهرة والباطنة/ والمشعور به مغاير لما هو غير مشعور به وإلا لاجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال ، فثبت أن المشار إليه لكل أحد بقوله : أنا ليس هو هذا الهيكل ، ثم ههنا ثلاث احتمالات أحدها : أن يكون ذلك الشيء موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا بجسماني على ما هو مذهب طائفة عظيمة من الفلاسفة ومن المسلمين وثانيها : أن يكون جسماً مخالفاً بالماهية لهذه الأجسام القابلة للإنحلال والفساد سارية فيها سريان النار في الفحم وسريان الدهن في السمسم وسريان ماء الورد / في جرم الورد فإذا فسد هذا الهيكل تقلصت تلك الأجزاء وبقيت حية مدركة عاقلة ، إما في الشقاوة أو في السعادة وثالثها : أن يقال : إنه جسم مساو لهذه الأجسام في الماهية إلا أن الله تعالى خصها بالبقاء والاستمرار من أول حال تكون شخص في الوجود إلى آخر عمره ، وأما سائر الأجزاء المتبدلة تارة بالزيادة وأخرى بالنقصان فهي غير داخلة في المشار إليه بقوله أنا فعند الموت تنفصل تلك الأجزاء. وتبقى حية ، إما في السعادة أو في الشقاوة ، وإذا ظهرت هذه الاحتمالات ثبت أنه لا يلزم من فساد البدن وتفرق أجزائه فساد ما هو الإنسان حقيقة ، وهذا مقام حسن متين تنقطع به جميع شبهات منكري البعث. وعلى هذا التقدير لا يكون لصيرورة العظام نخرة بالية متفرقة تأثير في دفع الحشر والنشر ألبتة ، سلمنا على سبيل المسامحة أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل ، فلم قلتم : إن الإعادة ممتنعة ؟
قوله ؟
(أولاً) : المعدوم لا يعاد : قلنا : أليس أن حال عدمه لم يمتنع عندكم صحة الحكم عليه بأنه يمتنع عوده ، فلم لا يجوز أن لا يمتنع على قولنا أيضاً صحة الحكم عليه بالعود ، قول : ثانياً : الأجزاء القليلة مختلطة بأجزاء العناصر الأربعة ، قلنا لكن ثبت أن خالق العالم عام بجميع الجزئيات ، وقادر على كل الممكنات فيصح منه جمعها بأعيانها. وإعادة الحياة إليها. قوله : ثالثاً : الأجسام القشفة اليابسة لا تقبل الحياة. قلنا : نرى السمندل ، يعيش في النار ، والنعامة تبتلع الحديدة المحماة ، والحيات الكبار العظام متولدة في الثلوج ، فبطل الاعتماد على الاستقراء ، والله الهادي إلى الصدق والصواب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 37
39
النوع الثالث : من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن منكري البعث {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} والمعنى كرة منسوبة إلى الخسران ، كقولك تجارة رابحة ، أو خاسر أصحابها ، والمعنى أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا ، وهذا منهم استهزاء.
جزء : 31 رقم الصفحة : 39
39
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه الكلمات قال : {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الفاء في قوله : {فَإِذَا هُم} متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة ، يعني لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فإنها سهلة هينة في قدرته.
المسألة الثانية : يقال : زجر البعير إذا صاح عليه ، والمراد من هذه الصيحة النفخة الثانية وهي صيحة إسرافيل ، قال المفسرون : يحيهم الله في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَمَا يَنظُرُ هَـا ؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} (ص : 15).
(1/4661)
المسألة الثالثة : الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لوجهين الأول : أن / سالكها لا ينام خوفاً منها الثاني : أن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء ، وعندي فيه وجه ثالث : وهي أن الأرض إنما تسمى ساهرة لأن من شدة الخوف فيها يطير النوم من الإنسان ، فتلك الأرض التي يجتمع الكفار فيها في موقف القيامة يكونون فيها في أشد الخوف ، فسميت تلك الأرض ساهرة لهذا السبب ، ثم اختلفوا من وجه آخر فقال بعضهم : هي أرض الدنيا ، وقال آخرون : هي أرض الآخرة لأنهم عند الزجرة والصيحة ينقلون أفواجاً إلى أرض الآخرة ولعل هذا الوجه أقرب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 39
40
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن وجه المناسبة بين هذه القصة وبين ما قبلها من وجهين : الأول : أنه تعالى حكى عن الكفار إصرارهم على إنكار البعث حتى انتهوا في ذلك الإنكار إلى حد الاستهزاء في قولهم : {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (النازعات : 12) وكان ذلك يشق على محمد صلى الله عليه وسلّم فذكر قصة موسى عليه السلام ، وبين أنه تحمل المشقة الكثيرة في دعوة فرعون ليكون ذلك كالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم الثاني : أن فرعون كان أقوى من كفار قريش وأكثر جمعاً وأشد شوكة ، فلما تمرد على موسى أخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فكذلك هؤلاء المشركون في تمردهم عليك إن أصروا أخذهم الله وجعلهم نكالاً.
المسألة الثانية : قوله : {هَلْ أَتَـاـاكَ} يحتمل أن يكون معناه أليس قد {أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى } هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام ، أما إن لم يكن قد أتاه فقد يجوز أن يقال : {هَلْ أَتَـاـاكَ} كذا ، أم أنا أخبرك به فإن فيه عبرة لمن يخشى.
المسألة الثالثة : الوادي المقدس المبارك المطهر ، وفي قوله : {طُوًى} وجوه : أحدها : أنه اسم وادي بالشام وهو عند الطور الذي أقسم الله به في قوله : {وَالطُّورِ * وَكِتَـابٍ مُّسْطُورٍ} (الطور : 2,1) وقوله : {وَنَـادَيْنَـاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ} (مريم : 52) والثاني : أنه بمعنى يا رجل بالعبرانية ، فكأنه قال : يا رجل اذهب إلى فرعون ، وهو قول ابن عباس والثالث : أن يكون قوله : {طُوًى} أي ناداه {طُوًى} من الليلة {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} لأنك تقول جئتك بعد {طُوًى} أي بعد ساعة من الليل والرابع : أن يكون المعنى بالوادي المقدس الذي طوى أي بورك فيه مرتين.
المسألة الرابعة : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {طُوًى} بضم الطاء غير منون ، وقرأ / الباقون بضم الطاء منوناً ، وروي عن أبي عمرو. طوى بكسر الطاء ، وطوى مثل ثنى ، وهما اسمان للشيء المثنى ، والطي بمعنى الثني ، أي ثنيت في البركة والتقديس ، قال القراء : {طُوًى} واد بين المدينة ومصر ، فمن صرفه قال : هو ذكر سمينا به ذكراً ، ومن لم يصرفه جعله معدولاً عن جهته كعمر وزفر ، ثم قال : والصرف أحب إلي إذ لم أجد في المعدول نظيراً ، أي لم أجد اسماً من الواو والياء عدل عن فاعلة إلى فعل غير {طُوًى} .
جزء : 31 رقم الصفحة : 40
المسألة الخامسة : تقدير الآية : إذ ناداه ربه وقال اذهب إلى فرعون ، وفي قراءة عبدالله أن اذهب ، لأن في النداء معنى القول. وأما أن ذلك النداء كان بإسماع الكلام القديم ، أو بإسماع الحرف والصوت ، وإن كان على هذا الوجه فكيف عرف موسى أنه كلام الله. فكل ذلك قد تقدم في سورة طه.
المسألة السادسة : أن سائر الآيات تدل على أنه تعالى في أول ما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة ، كقوله في سورة طه : {نُودِىَ يَـامُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ} إلى قوله : {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى } (طه : 24,23) فدل ذلك على أن قوله ههنا : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى } من جملة ما ناداه به ربه ، لا أنه كل ما ناداه به ، وأيضاً ليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط ، بل إلى كل من كان في ذلك الطرف ، إلا أنه خصه بالذكر ، لأن دعوته جارية مجرى دعوة كل ذلك القوم.
المسألة السابعة : الطغيان مجاوزة الحد ، ثم إنه تعالى لم يبين أنه تعدى في أي شيء/ فلهذا قال بعض المفسرين : معناه أنه تكبر على الله وكفر به ، وقال آخرون : إنه طغى على بني إسرائيل ، والأولى عندي الجمع بين الأمرين ، فالمعنى أنه طغى على الخالق بأن كفر به ، وطغى على الخلق بأن تكبر عليهم واستعبدهم ، وكما أن كمال العبودية ليس إلا صدق المعاملة مع الخالق ومع الخلق ، فكذا كمال الطغيان ليس إلا الجمع بين سوء المعاملة مع الخالق ومع الخلق.
واعلم أنه تعالى لما بعثه إلى فرعون لقنه كلامين ليخاطبه بهما :
جزء : 31 رقم الصفحة : 40
40
فالأول : قول تعالى : {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى ا أَن تَزَكَّى } وفيه مسائل :
(1/4662)
المسألة الأولى : يقال هل لك في كذا ، وهل لك إلى كذا ، كما تقول : هل ترغب فيه ، وهل ترغب إليه ، قال الواحدي : المبتدأ محذوف في اللفظ مراد في المعنى ، والتقدير : هل لك إلى تزكى حاجة أو إربه ، قال الشاعر :
فهل لكم فيها إلي فإنني
بصير بما أعيا النطاسي حذيما
ويحتمل أن يكون التقدير : هل لك سبيل إلى أن تزكى.
/ المسألة الثانية : الزكي الطاهر من العيوب كلها ، قال : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَ } (الكهف : 74) وقال : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} (الشمس : 9) وهذه الكلمة جامعة لكل ما يدعوه إليه ، لأن المراد هل لك إلى أن تفعل ما تصير به زاكياً عن كل مالا ينبغي ، وذلك بجمع كل ما يتصل بالتوحيد والشرائع.
المسألة الثالثة : فيه قراءتان : التشديد على إدغام تاء التفعل في الزاي لتقاربهما والتخفيف.
المسألة الرابعة : المعتزلة تمسكوا به في إبطال كون الله تعالى خالقاً لفعل العبد بهذه الآية ، فإن هذا استفهام على سبيل التقرير ، أي لك سبيل إلى أن تزكى ، ولو كان ذلك بفعل الله تعالى لانقلب الكلام على موسى ، والجواب عن أمثاله تقدم.
المسأة الخامسة : أنه لما قال لهما : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} (طه : 44) فكأنه تعالى رتب لهما ذلك الكلام اللين الرقيق ، وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوة إلى الله من اللين والرفق وترك الغلظة ، ولهذا قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران : 159) ويدل على أن الذين يخاشنون الناس ويبالغون في التعصب ، كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله.
جزء : 31 رقم الصفحة : 40
41
ثم قال تعالى : {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : القائلون بأن معرفة الله لا تستفاد إلا من الهادي تمسكوا بهذه الآية ، وقالوا : إنها صريحة في أنه يهديه إلى معرفة الله ، ثم قالوا : ومما يدل على أن هذا هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل ؛ أمران الأول : أن قوله : {هَل لَّكَ إِلَى ا أَن تَزَكَّى } يتناول جميع الأمور التي لا بد للمبعوث إليه منها ، فيدخل فيه هذه الهداية فلما أعاده بعد ذلك علم أنه هو المقصود الأعظم من البعثة والثاني : أن موسى ختم كلامه عليه ، وذلك ينبه أيضاً على أنه أشرف المقاصد من البعثة والجواب : أنا لا نمنع أن يكون للتنبيه والإشارة معونة في الكشف عن الحق إنما النزاع في إنكم تقولون : يستحيل حصوله إلا من المعلم ونحن لا نحل ذلك.
المسألة الثانية : دلت الآية على أن معرفة الله مقدمة على طاعته ، لأنه ذكر الهداية وجعل الخشية مؤخرة عنها ومفرعة عليها ، ونظيره قوله تعالى في أول النحل : {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل : 2) وفي طه : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى} (طه : 14).
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) أي العلماء به ، ودلت الآية على أن الخشية ملاك الخيرات ، لأن من خشى الله أتى منه كل خير ، ومن أمن اجترأ على كل شر ، ومنه قوله عليه السلام "من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل".
جزء : 31 رقم الصفحة : 41
41
/وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الفاء في {فَأَرَاـاهُ} معطوف على محذوف معلوم ، يعني فذهب فأراه ، كقوله : {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَا فَانفَجَرَتْ} (البقرة : 60) أي فضرب فانفجرت.
المسألة الثانية : اختلفوا في الآية الكبرى على ثلاثة أقوال : الأول : قال مقاتل والكلبي : هي اليد ، لقوله في طه : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُواءٍ } (النمل : 12) آية أخرى {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى} (طه : 23) القول الثاني : قال عطاء : هي العصا ، لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونه إلى لون آخر ، وهذا المعنى كان حاصلاً في العصا ، لأنها لما انقبلت حية فلا بد وأن يكون قد تغير اللون الأول ، فإذاً كل ما في اليد فهو حاصل في العصا ، ثم حصل في العصا أمور أخرى أزيد من ذلك ، منها حصول الحياة في الجرم الجمادى ، ومنها تزايد أجزائه وأجسامه ، ومنها حصول القدرة الكبيرة والقوة الشديدة ، ومنها أنها كانت ابتلعت أشياء كثيرة وكأنها فنيت ، ومنها زوال الحياة والقدرة عنها ، وفناء تلك الأجزاء التي حصل عظمها ، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين بهما صارت العصا حية ، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه ، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصاوالقول الثالث : في هذه المسألة قول مجاهد : وهو أن المراد من الآية الكبرى مجموع اليد والعصا ، وذلك لأن سائر الآيات دلت على أن أول ما أظهر موسى عليه السلام لفرعون هو العصا ، ثم أتبعه باليد ، فوجب أن يكون المراد من الآية الكبرى مجموعهما.
(1/4663)
جزء : 31 رقم الصفحة : 41
41
أحدها : قوله تعالى : {فَكَذَّبَ وَعَصَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى قوله : {فَكَذَّبَ} أنه كذب بدلالة ذلك المعجز على صدقه. واعلم أن القدح في دلالة المعجزة على الصدق إما لاعتقاد أنه يمكن معارضته ، أو لأنه وإن امتنعت معارضته لكنه ليس فعلاً لله بل لغيره ، إما فعل جنى أو فعل ملك ، أو إن كان فعلاً لله تعالى لكنه ما فعله لغرض التصديق ، أو إن كان فعله لغرض التصديق لكنه لا يلزم صدق المدعى ، فإنه لا يقبح من الله شيء ألبتة ، فهذه مجامع الطعن في دلالة المعجز على الصدق ، وما بعد الآية يدل على أن فرعون إنما منع من دلالته عن الصدق لاعتقاده أنه يمكن معارضته بدليل قوله : {فَحَشَرَ فَنَادَى } (النازعات : 23) وهو كقوله : {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ} (الشعرا : 53).
المسألة الثانية : في الآية سؤال وهو أن كل أحد يعلم أن كل من كذب الله فقد عصى ، فما الفائدة في قوله : {فَكَذَّبَ وَعَصَى } ؟
والجواب : كذب بالقلب واللسان ، وعصى بأن أظهر التمرد والتجبر.
/ المسألة الثالثة : هذا الذي وصفه الله تعالى به من التكذيب والمعصية مغاير لما كان حاصلاً قبل ذلك ، لأن تكذيبه لموسى عليها لسلام وقد دعاه وأظهر هذه المعجزة. يوفى على ما تقدم من التكذيب ومعصيته بترك القبول منه ، والحال هذه مخالفة لمعصيته من قبل ذلك.
جزء : 31 رقم الصفحة : 41
42
وثانيها : قوله : {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } وفيه وجوه أحدها : أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى يسرع في مشيه ، قال الحسن كان رجلاً طياشاً خفيفاً وثانيها : تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته وثالثها : أن يكون المعنى ، ثم أقبل يسعى ، كما يقال : فلان أقبل يفعل كذا ، بمعنى أنشأ يفعل ، فوضع أدبر فوضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.
جزء : 31 رقم الصفحة : 42
42
وثالثها : قوله : {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } فحشر فجمع السحرة كقوله : {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآاـاِنِ حَـاشِرِينَ} (الشعراء : 53) فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه ، أو أمر منادياً فنادى في الناس بذلك ، وقيل قام فيهم خطيباً فقال تلك الكلمة ، وعن ابن عباس كلمته الأولى : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} (القصص : 38) والآخرة : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } .
واعلم أنا بينا في سورة (طه) أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسان في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض والجبال والنبات والحيوان والإنسان ، فإن العلم بفساد ذلك ضروري ، فمن تشكك فيه كان مجنوناً ، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الأنبياء والرسل إليه ، بل الرجل كان دهرياً منكراً للصانع والحشر والنشر ، وكان يقول ليس لأحد عليكم أمر ولا نهي إلا لي ، فأنا ربكم بمعنى مربيكم والمحسن إليكم ، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمر ونهي ، أو يبعث إليكم رسولاً ، قال القاضي : وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ، أن لا يقول هذا القول. لأن عند ظهور الذلة والعجز ، كيف يليق أن يقول : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول.
جزء : 31 رقم الصفحة : 42
42
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه أفعاله وأقواله أتبعه بما عامله به وهو قوله تعالى : {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاولَى } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في نصب نكال وجهين الأول : قال الزجاج : إنه مصدر مؤكد لأن معنى أخذه الله ، نكل الله به ، نكال الآخرة والأولى. لأن أخذه ونكله متقاربان ، وهو كما يقال : أدعه تركاً شديداً لأن أدعه وأتركه سواء ، ونظيره قوله : {إِنَّ أَخْذَه ا أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود : 102) ، الثاني : قال الفراء : يريد أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى ، والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم.
(1/4664)
/ المسألة الثانية : ذكر المفسرون في هذه الآية وجوهاً أحدها : أن الآخرة والأولى صفة لكلمتي فرعون إحداهما قوله : {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى} (القصص : 38) والأخرى قوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } (النازعات : 24) قالوا : وكان بينهما أربعون سنة ، وهذا قول مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ، ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس ، والمقصود التنبيه على أنه ما أخذه بكلمته الأولى في الحال ، بل أمهله أربعين سنة ، فلما ذكر الثانية أخذ بهما ، وهذا تنبيه على أنه تعالى يمهل ولا يهمل الثاني : وهو قول الحسن وقتادة : {نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاولَى } أي عذبه في الآخرة ، وأغرقه في الدنيا الثالث : الآخرة هي قوله : {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } (النازعات : 24) والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية ، قال القفال : وهذا كأنه هو الأظهر ، لأنه تعالى قال : {فَأَرَاـاهُ الايَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } (النازعات : 24,20) فذكر المعصيتين ، ثم قال : {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاولَى } فظهر أن المراد أنه عاتبه على هذين الأمرين.
المسألة الثالثة : قال الليث : (النكال) اسم لمن جعل نكالاً لعيره ، وهو الذي إذا رآه أو بلغه خاف أن يعمل عمله ، وأصل الكلمة من الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، وقيل للقيد نكل لأنه يمنع ، فالنكال من العقوبة هو أعظم حتى يمتنع من سمع به عن ارتكاب مثل ذلك الذنب الذي وقع التنكيل به ، وهو في العرف يقع على ما يفتضح به صاحبه ويعتبر به غيره ، والله أعلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 42
45
ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَالِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } والمعنى أن فيما اقتصصناه من أمر موسى وفرعون ، وما أحله الله بفرعون من الخزي ، ورزق موسى من العلو والنصر عبرة لمن يخشى وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى ، والتكذيب لأنبيائه خوفاً من أن ينزل به ما نزل بفرعون ، وعلماً بأن الله تعالى ينصر أنبياءه ورسله ، فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه ، أي اعلموا أنكم إن شاركتموهم في المعنى الجالب للعقاب ، شاركتموهم في حلول العقاب بكم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 45
46
ثم اعلم أنه تعالى لما ختم هذه القصة رجع إلى مخاطبة منكري البعث ، فقال : {أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في المقصود من هذا الاستدلال وجهان الأول : أنه استدلال على منكري البعث فقال : {أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا} فنبههم على أمر يعلم بالمشاهدة. وذلك لأن خلقة الإنسان على صغره وضعفه ، إذا أضيف إلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير ، فبين تعالى أن خلق السماء أعظم ، وإذا كان كذلك فخلقهم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدوراً لله تعالى فكيف ينكرون ذلك ؟
ونظيره قوله : {أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } وقوله : {لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر : 57) والمعنى أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السماء أي عندكم ، وفي تقديركم ، فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد والثاني : أن المقصود من هذا الاستدلال بيان كونهم مخلوقين ، وهذا القول ضعيف لوجهين أحدهما : أن من أنكر كون الإنسان مخلوقاً فبأن ينكر(ه) في السماء كان أولى وثانيهما : أن أول السورة كان في بيان مسألة الحشر والنشر ، فحمل هذا الكلام عليه أولى.
المسألة الثانية : قال الكسائي والفراء والزجاج : هذا الكلام تم عند قوله : {أَمِ السَّمَآءُ } .
ثم قوله تعالى : {بَنَـاـاهَا} ابتداء كلام آخر ، وعند أبي حاتم الوقف على قوله : {بَنَـاـاهَا} قال : لأنه من صلة السماء ، والتقدير : أم السماء التي بناها ، فحذف التي ، ومثل هذا الحذف جائز ، قال القفال : يقال : الرجل جاءك عاقل ، أي الرجل الذي جاءك عاقل إذا ثبت أن هذا جائز في اللغة فنقول : الدليل على أن قوله : {بَنَـاـاهَا} صلة لما قبله أنه لو لم يكن صلة لكان صفة ، فقوله : {بَنَـاـاهَا} صفة ، ثم قوله : {رَفَعَ سَمْكَهَا} (النازعات : 28) صفة ، فقد توالت صفتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى ، فكان يجب إدخال العاطف فيما بينهما ، كما في قوله : {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} (النازعات : 29) فلما لم يكن كذلك علمنا أن قوله : {بَنَـاـاهَا} صلة للسماء ، ثم قال : {رَفَعَ سَمْكَهَا} ابتداء بذكر صفته ، وللفراء أن يحتج على قوله بأنه لو كان قوله : {بَنَـاـاهَا} صلة للسماء لكان التقدير : أم السماء (التي) بناها ، وهذا يقتضي وجود سماء ما بناها الله ، وذلك باطل.
جزء : 31 رقم الصفحة : 46
(1/4665)
المسألة الثالثة : الذي يدل على أنه تعالى هو الذي بنى السماء وجوه أحدها : أن السماء جسم ، وكل جسم محدث ، لأن الجسم لو كان أزلياً لكان في الأزل إما أن يكون متحركاً أو ساكناً ، والقسمان باطلان ، فالقول بكون الجسم أزلياً باطل. أما الحصر فلأنه إما أن يكون مستقراً حيث هو فيكون ساكناً ، أو لا يكون مستقراً حيث هو فيكون متحركاً ، وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يكون متحركاً ، لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، وماهية الأزل تنافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال ، وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يكون ساكناً ، لأن السكون وصف ثبوتي وهو ممكن الزوال ، وكل ممكن الزوال مفتقر إلى الفاعل المختار ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، فكل سكون محدث فيمتنع أن يكون أزلياً ، وإنما قلنا : إن السكون وصف ثبوتي ، لأنه يتبدل كون الجسم متحركاً بكونه ساكناً مع بقاء ذاته ، فأحدهما لابد وأن يكون أمراً ثبوتياً ، فإن كان الثبوتي هو السكون فقد حصل المقصود ، وأن كان الثبوتي هو الحركة وجب أيضاً أن يكون السكون ثبوتياً ، لأن الحركة عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان في غيره/ والسكون عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان فيه بعينه ، فالتفاوت بين الحركة والسكون ليس في / الماهية ، بل في المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير ، وذلك وصف عارضي خارجي عن الماهية ، وإذا كان كذلك فإذا ثبت أن تلك الماهية أمر وجودي في إحدى الصورتين وجب أن تكون كذلك في سورة أخرى ، وإنما قلنا : إن سكون السماء جائز الزوال ، لأنه لو كان واجباً لذاته لامتنع زواله ، فكان يجب أن لا تتحرك السماء لكنا نراها الآن متحركة ، فعلمنا أنها لو كانت ساكنة في الأزل ، لكان ذلك السكون جائز الزوال ، وإنما قلنا : إن ذلك السكون لما كان ممكناً لذاته ، افتقر إلى الفاعل المختار لأنه لما كان ممكناً لذاته ، فلا بد له من مؤثر ، وذلك المؤثر لا يجوز أن يكون موجباً ، لأن ذلك الموجب إن كان واجباً ، وكان غنياً في إيجابه لذلك المعلول عن شرط لزم من دوامه دوام ذلك الأثر ، فكان يجب أن لا يزول للسكون وإن كان واجباً ومفتقراً في إيجابه لذلك المعلول إلى شرط واجب لذاته ، لزم من دوام العلة ودوام الشرط دوام المعلول ، أما إن كان الموجب غير واجب لذاته ، أو كان شرط إيجابه غير واجب لذاته كان الكلام فيه كالكلام في الأول ، فيلزم التسلسل ، وهو محال أو الإنتهاء إلى موجب واجب لذاته ، وإلى شرط واجب لذاته ، وحينئذ يعود الإلزام الأول ، فثبت أن ذلك المؤثر لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً ، فإذاً كل سكون ، فهول فعل فاعل مختار ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد ، والقصد إلى تكوين الكائن ، وتحصيل الحاصل محال ، فثبت أن كل سكون فهو محدث ، فثبت أنه يمتنع أن يكون الجسم في الأزل لا متحركاً ولا ساكناً ، فهو إذاً غير موجود في الأزل ، فهو محدث ، وإذا كان محدثاً افتقر في ذاته ، وفي تركيب أجزائه إلى موجد ، وذلك هو الله تعالى ، فثبت بالعقل أن باني السماء هو الله تعالى.
جزء : 31 رقم الصفحة : 46
الحجة الثانية : كل ما سوى الواجب فهو ممكن وكل ممكن محدث وكل محدث فعل صانع ، إنما قلنا : كل ما سوى الواجب ممكن ، لأنا لو فرضنا موجودين واجبين لذاتيهما لاشتركا في الوجود ولتباينا بالتعيين ، فيكون كل منهما مركباً مما به المشاركة ، ومما به الممايزة ، وكل مركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، فكل واحد من الواجبين بالذات ممكن بالذات هذا خلف ، ثم ينقل الكلام إلى ذينك الجزأين ، فإن كانا واجبين ، كان كل واحد من تلك الأجزاء مركباً ويلزم التسلسل ، وإن لم يكونا واجبين كان المفتقر إليهما أولى بعدم الوجود فثبت أن ماعدا الواجب ممكن وكل ممكن فله مؤثر وكل ما افتقر إلى المؤثر محدث ، لأن الافتقار إلى المؤثر لا يمكن أن يتحقق حال البقاء لاستحالة إيجاد الموجد ، فلا بد وأن يكون إما حال الحدوث أو حال العدم ، وعلى التقديرين فالحدوث لازم فثبت أن ما سوى الواجب محدث وكل محدث فلا بد له من محدث ، فلا بد للسماء من بان.
(1/4666)
الحجة الثالثة : صريح العقل يشهد بأن جرم السماء لا يمتنع أن يكون أكبر مما هو الآن بمقدار خردلة ، ولا يمتنع أن يكون أصغر بمقدار خردلة ، فاختصاص هذا المقدار بالوقوع دون / الأزيد والأنقص ، لا بد وأن يكون بمخصص ، فثبت أنه لا بد للسماء من بان : فإن قيل لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق شيئاً وأعطاه قدرة يتمكن ذلك المخلوق بتلك القدرة من خلق الأجسام فيكون خالق السماء وبانيها هو ذلك الشيء ؟
الجواب : من العلماء من قال : المعلوم بالعقل أنه لا بد للسماء من محدث وأنه لا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى قديم والإله قديم واجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى ، فأما نفي الواسطة فإنما يعلم بالسمع فقوله في هذه الآية : {بَنَـاـاهَا} يدل على أن باني السماء هو الله لا غيره/ ومنهم من قال بل العقل يدل على بطلانه لأنه لما ثبت أن كل ما عداه محدث ثبت أنه قادر لا موجب ، والذي كان مقدوراً له إنما صح كونه مقدوراً له بكونه ممكناً ، فإنك لو رفعت الإمكان بقي الوجوب أو الامتناع وهما يحيلان المقدورية ، وإذا كان ما لأجله صح في البعض أن يكون مقدوراً لله وهو الإمكان والإمكان عام في الممكنات وجب أن يحصل في كل الممكنات صحة أن تكون مقدورة لله تعالى ، وإذا ثبت ذلك ونسبة قدرته إلى الكل على السوية وجب أن يكون قادراً على الكل ، وإذا ثبت أن الله قادر على الممكنات فلو قدرنا قادراً آخر قدر على بعض الممكنات ، لزم وقوع مقدور واحد بين قادرين من جهة واحدة ، وذلك محال ، لأنه إما أن يقع بأحدهما دون الآخر وهو محال ، لأنهما لما كانا مستقلين بالاقتضاء فليس وقوعه بهذا أولى من وقوعه بذاك أو بهما معاً ، وهو أيضاً محال لأنه يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما معاً وغنياً عنهما معاً وهو محال ، فثبت بهذا أنه لا يمكن وقوع ممكن آخر بسبب آخر سوى قدرة الله تعالى ، وهذا الكلام جيد ، لكن على قول من لا يثبت في الوجود مؤثراً سوى الواحد ، فهذا جملة ما في هذا الباب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 46
واعلم أنه تعالى لما بين في السماء أنه بناها ، بين بعد ذلك أنه كيف بناها ، وشرح تلك الكيفية من وجوه :
جزء : 31 رقم الصفحة : 46
47
أولها : ما يتعلق بالمكان ، فقال تعالى : {رَفَعَ سَمْكَهَا} .
واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقاً ، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكاً ، فالمراد برفع سمكها شدة علوها حتى ذكروا أن ما بين الأرض وبينها مسيرة خمسمائة عام ، و(قد) بين أصحاب الهيئة مقادير الأجرام الفلكية وأبعاد ما بين كل واحد منها وبين الأرض. وقال آخرون : بل المراد : رفع سمكها من غير عمد. وذلك مما لا يصح إلا من الله تعالى.
الصفة الثانية : قوله تعالى : {فَسَوَّاـاهَا} وفيه وجهان الأول : المراد تسوية تأليفها ، وقيل : بل المراد نفي الشقوق عنها ، كقوله : {مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ } (الملك : 3) والقائلون بالقول الأول قالوا : {فَسَوَّاـاهَا} عام فلا يجوز تخصيصه بالتسوية في بعض الأشياء ، ثم قال هذا يدل على كون / السماء كرة ، لأنه لو لم يكن كرة لكان بعض جوانبه سطحاً ، والبعض زاوية ، والبعض خطاً ، ولكان بعض أجزائه أقرب إلينا ، والبعض أبعد ، فلا تكون التسوية الحقيقة حاصلة ، فوجب أن يكون كرة حتى تكون التسوية الحقيقة حاصلة ، ثم قالوا لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار ، فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرة ؟
.
جزء : 31 رقم الصفحة : 47
47
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـاـاهَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أغطش قد يجيء لازماً ، يقال : أغطش الليل إذا صار مظلماً ويجيء متعدياً يقال : أغطشه الله إذا جعله مظلماً ، والغطش الظلمة ، والأغطش شبه الأعمش ، ثم ههنا سؤال وهو أن الليل اسم لزمان الظلمة الحاصلة بسبب غروب الشمس ، فقوله : {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} يرجع معناه إلى أنه جعل المظلم مظلماً ، وهو بعيد والجواب : معناه أن الظلمة الحاصلة في ذلك الزمان إنما حصلت بتدبير الله وتقديره : وحيئنذ لا يبقى الإشكال.
المسألة الثانية : قوله : {وَأَخْرَجَ ضُحَـاـاهَا} أي أخرج نهاراً ، وإنما عبر عن النهار بالضحى ، لأن الضحى أكمل أجزاء النهار في النور والضوء.
المسألة الثالثة : إنما أضاف الليل والنهار إلى السماء ، لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها ، ثم غروبها وطلوعها إنما يحصلان بسبب حركة الفلك ، فلهذا السبب أضاف الليل والنهار إلى السماء ، ثم إنه تعالى لما وصف كيفية خلق السماء أتبعه بكيفية خلق الأرض وذلك من وجوه :
جزء : 31 رقم الصفحة : 47
47
الصفة الأولى : قوله تعالى : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دحاها بسطها ، قال زيد بن عمرو بن نفيل :
دحاها فلما رآها استوت
(1/4667)
على الماء أرسى عليها الجبالا
وقال أمية بن أبي الصامت :
دحوت البلاد فسويتها
وأنت على طيها قادر
قال أهل اللغة في هذه اللفظة لغتان دحوت أدحو ، ودحيت أدحى ، ومثله صفوت وصفيت ولحوت العود ولحيته وسأوت الرجل وسأيته وبأوت عليه وبأيت ، وفي حديث علي عليه السلام "اللهم داحى المدحيات" أي باسط الأرضين السبع وهو المدحوات أيضاً ، وقيل : أصل الدحو الإزالة للشيء من مكان إلى مكان ، ومنه يقال : إن الصبي يدحو بالكرة أي يقذفها على وجه الأرض ، وأدحى النعامة موضعه الذي يكون فيه أي بسطته وأزلت ما فيه من حصى ، حتى يتمهد له ، وهذا يدل على أن معنى الدحو يرجع إلى الإزالة والتمهيد.
/ المسألة الثانية : ظاهر الآية يقتضي كون الأرض بعد السماء ، وقوله : في حم السجدة ، {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ} (فصلت : 11) يقتضي كون السماء بعد الأرض ، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى ا إِلَى السَّمَآءِ} (البقرة : 29) ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الوجوه أحدها : أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ثم دحى الأرض أي بسطها ثالثاً ، وذلك لأنها كانت أولاً كالكرة المجتمعة ، ثم إن الله تعالى مدها وبسطها ، فإن قيل الدلائل الاعتبارية دلت على أن الأرض الآن كرة أيضاً ، وإشكال آخر وهو أن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ، فيستحيل أن يكون هذا الجسم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً وثانيها : أن لا يكون معنى قوله {دَحَـاـاهَآ} : مجرد البسط ، بل يكون المراد أنه بسطها بسطاً مهيأ لنبات الأقوات وهذا هو الذي بينه بقوله : {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـاـاهَا} (النازعات : 31) وذلك لأن هذا الاستعداد لا يحصل للأرض إلا بعد وجود السماء فإن الأرض كالأم والسماء كالأب ، وما لم يحصلا لم تتولد أولاً المعادن والنباتات والحيوانات وثالثها : أن يكون قوله : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ} أي مع ذلك كقوله : {عُتُلٍا بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ} (القلم : 13) أي مع ذلك ، وقولك للرجل أنت كذا وكذا ثم أنت بعدها كذا لا تريد به الترتيب ، وقال تعالى : {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} إلى قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 17) والمعنى وكان مع هذا من أهل الإيمان بالله ، فهذا تقرير ما نقل عن ابن عباس ومجاهد والسدي وابن جريج أنهم قالوا في قوله : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} أي مع ذلك دحاها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 47
المسألة الثالثة : لما ثبت أن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثانياً ، ثم دحى الأرض بعد ذلك ثالثاً ، ذكروا في تقدير تلك الأزمنة وجوهاً. روي عن عبد الله بن عمر "خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، ومنه دحيت الأرض" واعلم أن الرجوع في أمثال هذه الأشياء إلى كتب الحديث أولى.
جزء : 31 رقم الصفحة : 47
48
الصفة الثانية : قوله تعالى : {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـاـاهَا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ماؤها عيونها المتفجرة بالماء ومرعاها رعيها ، وهو في الأصل موضع الرعي ، ونصب الأرض والجبال بإضمار دحا وأرسى على شريطة التفسير ، وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء ، فإن قيل : هلا أدخل حرف العطف على أخرج قلنا لوجهين ؟
الأول : أن يكون معنى دحاها بسطها ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المشارب والمآكل وإمكان القرار عليها بإخراج الماء والمرعى وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها والثاني : أن يكون {أَخْرَجَ} حالاً ، والتقدير والأرض بعد ذلك دحاها حال ما أخرج منها ماء ومرعاها.
(1/4668)
/المسألة الثانية : أراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام ، ونظيره قوله في النحل : {أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءًا لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (النحل : 10) وقال في سورة أخرى : {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقًّا} إلى قوله : {مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلانْعَـامِكُمْ} (عبس : 32,25) فكذا في هذه الآية واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله : {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} (يوسف : 12) وقرىء نرتع من الرعي ، ثم قال ابن قتيبة قال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } (الأنبياء : 30) فانظر كيف دل بقوله : {مَآءَهَا وَمَرْعَـاـاهَا} على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر ، والحب والثمر والعصف والحطب ، واللباس والدواء حتى النار والملح ، أما النار فلا شك أنها من العيدان قال تعالى : {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـاُونَ} (الواقعة : 72,71) وأما الملح فلا شك أنه متولد من الماء ، وأنت إذا تأملت علمت أن جميع ما يتنزه به الناس في الدنيا ويتلذذون به ، فأصله الماء والنبات ، ولهذا السبب تردد في وصف الجنة ذكرهما ، فقال : {جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } (البقرة : 25) ثم الذي يدل على أنه تعالى أراد بالمرعى كل ما يأكله الناس والأنعام قوله في آخر هذه الآية : {مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلانْعَـامِكُمْ} (النازعات : 33).
جزء : 31 رقم الصفحة : 48
49
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَالْجِبَالَ أَرْسَـاـاهَا} والكلام في شرح منافع الجبال قد تقدم.
ثم إنه تعالى لما بين كيفية خلقه الأرض وكمية منافعها قال : {مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلانْعَـامِكُمْ} والمعنى أنا إنما خلقنا هذه الأشياء متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم ، واحتج به من قال : إن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح ، والكلام فيه قد مر غير مرة ، واعلم أنا بينا أنه تعالى إنما ذكر كيفية خلقة السماء والأرض ليستدل بها على كونه قادراً على الحشر والنشر ، فلما قرر ذلك وبين إمكان الحشر عقلاً أخبر بعد ذلك عن وقوعه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 49
49
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع وفي اشتقاقها وجوه ، قال المبرد : أخذت فيما أحسب من قولهم : طم الفرس طميماً ، إذا استفرغ جهده في الجري ، وطم الماء إذا ملأ النهر كله ، وقال الليث : الطم طم البئر بالتراب ، وهو الكبس ، ويقال : طم السيل الركية إذا دفنها حتى يسويها ، ويقال للشيء الذي يكبر حتى يعلو قد طم ، والطامة الحادثة التي تطم على ما سواها ومن ثم قيل : فوق كل طامة طامة ، قال القفال : أصل الطم الدفن والعلو ، وكل ما غلب شيئاً وقهره وأخفاه فقد طمه ، ومنه الماء الطامي وهو الكثير الزائد ، والطاغي والعاتي والعادي سواء وهو الخارج عن أمر الله تعالى المتكبر ، فالطامة اسم لكل داهية عظيمة ينسى ما قبلهافي جنبها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 49
50
/ المسألة الثانية : قد ظهر بما ذكرنا أن معنى الطامة الكبرى الداهية الكبرى ، ثم اختلفوا في أنها أي شيء هي ، فقال قوم : إنها يوم القيامة لأنه يشاهد فيه من النار ، ومن الموقف الهائل ، ومن الآيات الباهرة الخارجة عن العادة ما ينسى معه كل هائل ، وقال الحسن : إنها هي النفخة الثانية التي عندها تحشر الخلائق إلى موقف القيامة ، وقال آخرون : إنه تعالى فسر الطامة الكبرى بقوله تعالى : {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } فالطامة تكون اسماً لذلك الوقت ، فيحتمل أن يكون ذلك الوقت وقت قراءة الكتاب على ما قال تعالى : {وَنُخْرِجُ لَه يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا} (الإسراء : 13) ويحتمل أن تكون تلك الساعة هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ، ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بوصفين :
الأول : قوله تعالى : {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ مَا سَعَى } يعني إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها ، وكان قد نسيها ، كقوله : {أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ وَنَسُوه } (المجادلة : 6).
الصفة الثانية : قوله تعالى : {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {لِمَن يَرَى } أي أنها تظهر إظهاراً مكشوفاً لكل ناظر ذي بصر ثم فيه وجهان أحدهما : أنه استعارة في كونه منكشفاً ظاهراً كقولهم : تبين الصبح لذي عينين.
(1/4669)
وعلى هذا التأويل لا يجب أن يراه كل أحد والثاني : أن يكون المراد أنها برزت ليراها كل من له عين وبصر ، وهذا يفيد أن كل الناس يرونها من المؤمنين والكفار ، إلا أنها مكان الكفار ومأواهم والمؤمنون يمرون عليها ، وهذا التأويل متأكد بقوله تعالى : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا } إلى قوله : {ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَوا } (مريم : 72,71) فإن قيل : إنه تعالى قال في سورة الشعراء : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} (الشعراء : 91,90) فخص الغاوين بتبريرها لهم ، قلنا : إنها برزت للغاوين ، والمؤمنون يرونها أيضاً في الممر ، ولا منافاة بين الأمرين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 50
المسألة الثانية : قرأ أبو نهيك {وَبُرِّزَتِ} وقرأ ابن مسعود : لمن رأى ، وقرأ عكرمة : لمن ترى ، والضمير للجحيم ، كقوله : {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (الفرقان : 12) وقيل : لمن ترى يا محمد من الكفار الذين يؤذونك.
واعلم أنه تعالى لما وصف حال القيامة في الجملة قسم المكلفين قسمين : الأشقياء والسعداء ، فذكر حال الأشقياء.
جزء : 31 رقم الصفحة : 50
51
وفيه مسائل :
/ المسألة الأولى : في جواب قوله : {فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } (النازعات : 34) وجهان الأول : قال الواحدي : إنه محذوف على تقدير إذا جاءت الطامة دخل أهل النار النار ، وأهل الجنة الجنة ، ودلى على هذا المحذوف ، ما ذكر في بيان مأوى الفريقين ، ولهذا كان يقول مالك بن معول في تفسير الطامة الكبرى ، قال : إنها إذا سبق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار والثاني : أن جوابه قوله : {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى } وكأنه جزاء مركب على شرطين نظيره إذا جاء الغد ، فمن جاءني سائلاً أعطيته ، كذا ههنا أي إذا جاءت الطامة الكبرى فمن جاء طاغياً فإن الجحيم مأواه.
المسألة الثانية : منهم من قال : المراد بقوله : {وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} النضر وأبوه الحارث فإن كان المراد أن هذه الآية نزلت عند صدور بعض المنكرات منه فجيد وإن كان المراد تخصيصها به ، فبعيد لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لا سيما إذا عرف بضرورة العقل أن الموجب لذلك الحكم هو الوصف المذكور.
المسألة الثالثة : قوله صغى ، إشارة إلى فساد حال القوة النظرية ، لأن كل من عرف الله عرف حقارة نفسه ، وعرف استيلاء قدرة الله عليه ، فلا يكون له طغيان وتكبر ، وقوله : {وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} إشارة إلى فساد حال القوة العملية ، وإنما ذكر ذلك لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "حب الدنيا رأس كل خطيئة" ومتى كان الإنسان والعياذ بالله موصوفاً بهذين الأمرين ، كان بالغاً في الفساد إلى أقصى الغايات ، وهو الكافر الذي يكون عقابه مخلداً ، وتخصيصه بهذه الحالة يدل على أن الفاسق الذي لا يكون كذلك ، لا تكون الجحيم مأوى له.
المسألة الرابعة : تقدير الآية : فإن الجحيم هي المأوى له ، ثم حذفت الصلة لوضوح المعنى كقولك للرجل غض الطرف أي غض طرفك ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن يكون التقدير : فأن الجحيم هي المأوى ، اللائق بمن كان موصوفاً بهذه الصفات والأخلاق.
جزء : 31 رقم الصفحة : 51
51
ثم ذكر تعالى حال السعداء فقال تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } واعلم أن هذين الوصفين مضادات للوصفين اللذين وصف الله أهل النار بهما فقوله : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه } ضد قوله : {فَأَمَّا مَن طَغَى } (النازعات : 17) وقوله : {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } ضد قوله : {وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} (النازعات : 38) واعلم أن الخوف من الله ، لا بد وأن يكون مسبوقاً بالعلم بالله على ما قال : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى ، لا جرم قدم العلة على المعلول ، وكما دخل في ذينك الصفتين جميع القبائح دخل / في هذين الوصفين جميع الطاعات والحسنات ، وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد ، ووقى رسول الله بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 51
52
واعلم أنه تعالى لما بين بالبرهان العقلي إمكان القيامة ، ثم أخبر عن وقوعها ، ثم ذكر أحوالها العامة ، ثم ذكر أحوال الأشقياء والسعداء فيها ، قال تعالى : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا } .
(1/4670)
واعلم أن المشركين كانوا يسمعون إثبات القيامة ، ووصفها بالأوصاف الهائلة ، مثل أنها طامة وصاخة وقارعة ، فقالوا على سبيل الاستهزاء : {أَيَّانَ مُرْسَا هَا} فيحتمل أن يكون ذلك على سبيل الإيهام لأتباعهم أنه لا أصل لذلك ، ويحتمل أنهم كانوا يسألون الرسول عن وقت القيامة استعجالاً ، كقوله : {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } (الشورى : 18) ثم في قوله : {مُرْسَا هَا} قولان أحدهما : متى إرساؤها ، أي إقامتها أرادوا متى يقيمها الله ويوجدها ويكونها والثاني : {أَيَّانَ} منتهاها ومستقرها ، كما أن مرسى السفينة مستقرها حيث تنتهي إليه.
ثم إن الله تعالى أجاب عنه بقوله تعالى : {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَا هَآ} وفيه وجهان الأول : معناه في أي شيء أنت عن تذكر وقتها لهم ، وتبين ذلك الزمان المعين لهم ، ونظيره قول القائل : إذا سأله رجل عن شيء لا يليق به ما أنت وهذا ، وأي شيء لك في هذا ، وعن عائشة "لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآية" فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها ، كأنه قيل : في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها ، والمعنى أنهم يسألونك عنها ، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
ثم قال تعالى : {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَا هَآ} أي منتهى علمها لم يؤته أحداً من خلقه الوجه الثاني : قال بعضهم : {فِيمَ} إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال ، ثم قيل : {أَنتَ مِن ذِكْرَا هَآ} أي أرسلك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل ذاكراً من أنواع علاماتها ، وواحداً من أقسام أشراطها ، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ووجوب الاستعداد لها ، ولا فائدة في سؤالهم عنها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 52
52
ثم قال تعالى : {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَا هَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى الآية أنك إنما بعثت للإنذار وهذا المعنى لا يتوقف على علمك / بوقت قيام القيامة ، بل لو أنصفنا لقلنا : بأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلاً.
المسألة الثانية : أنه عليه الصلاة والسلام منذر للكل إلا أنه خص بمن يخشى ، لأنه الذي ينتفع بذلك الإنذار.
المسألة الثالثة : قرىء منذر بالتنوين وهو الأصل ، قال الزجاج : مفعل وفاعل إذا كان كل واحد منهما لمايستقبل أو للحال ينون ، لأنه يكون بدلاً من الفعل ، والفعل لا يكون إلا نكرة ويجوز حذف التنوين لأجل التخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ، فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة كقوله هو منذر زيد أمس.
جزء : 31 رقم الصفحة : 52
53
ثم قال تعالى : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَا هَا} وتفسير هذه الآية قد مضى ذكره في قوله : {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَارا } (الاحقاف : 35) والمعنى أن ما أنكروه سيرونه حتى كأنهم أبداً فيه وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار ثم مضت {وَإِن قِيلَ} قوله : {أَوْ ضُحَا هَا} معناه ضحى العشية وهذا غير معقول لأنه ليس للعشية ضحى : {قُلْنَا} الجواب عنه من وجوه أحدها : قال عطاء عن ابن عباس : الهاء والألف صلة للكلام يريد لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى وثانيها : قال الفراء والزجاج : المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافتها إلى يوم العشية كأنه قيل : إلا عشية أو ضحى يومها ، والعرب تقول : آتيك العشية أو غداتها على ما ذكرنا وثالثها : أن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، فالضحى المتقدم على عشية يصح أن يقال : إنه ضحى تلك العشية ، وزمان المحنة قد يعبر عنه بالعشية وزمان الراحة قد يعبر عنه بالضحى ، فالذين يحضرون في موقف القيامة يعبرون عن زمان محنتهم بالعشية وعن زمان راحتهم بضحى تلك العشية فيقولون : كأن عمرنا في الدنيا ما كان إلا هاتين الساعتين ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 53
54
(1/4671)
سورة عبس
وهي أربعون وآيتان مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 54
54
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم ـ وأم مكتوم أم أبيه واسمه عبدالله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤى ـ وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام ، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلّم أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكرمه ، ويقول : إذا رآه "مرحباً بمن عاتبني فيه ربي" ويقول : هل لك من حاجة ، واستخلفه على المدينة مرتين ، وفي الموضع سؤالات :
الأول : أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر ، فكيف عاتب الله رسوله على أن أدب ابن أم مكتوم وزجره ؟
وإنما قلنا : إنه كان يستحق التأديب لوجوه أحدها : أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم ، لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلّم أولئك الكفار ، وكان يسمع أصواتهم أيضاً ، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلّم بشأنهم ، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صلى الله عليه وسلّم وإلقاء غرض نفسه في البين قبل تمام غرض النبي إيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام ، وذلك معصية عظيمة وثانيها : أن الأهم مقدم على المهم ، وهو كان قد أسلم وتعلم ، ما كان يحتاج إليه من أمر الدين ، أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا ، وهو إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم ، فإلقاء ابن أم مكتوم ، ذلك الكلام في البين كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم ، لغرض قليل وذلك محرم وثالثها : أنه تعالى قال : {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (الحجرات : 4) فنهاهم عن مجرد النداء إلا في الوقت ، فههنا هذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع / على الرسول أعظم مهماته ، أولى أن يكون ذنباً ومعصية ، فثبت بهذا أن الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنباً ومعصية ، وأن الذي فعله الرسول كان هو الواجب ، وعند هذا يتوجه السؤال في أنه كيف عاتبه الله تعالى على ذلك الفعل ؟
.
السؤال الثاني : أنه تعالى لما عاتبه على مجرد أنه عبس في وجهه ، كان تعظيماً عظيماً من الله سبحانه لابن أم مكتوم ، وإذا كان كذلك فكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكره باسم الأعمى مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه جداً ؟
.
جزء : 31 رقم الصفحة : 54
السؤال الثالث : الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذوناً في أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة ، وأنه عليه الصلاة والسلام كثيراً ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء ، وكيف لا يكون كذلك وهو عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب ، وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلاً في إذن الله تعالى إياه في تأديب أصحابه ، وإذا كان ذلك مأذوناً فيه ، فكيف وقعت المعاتبة عليه ؟
فهذا جملة ما يتعلق بهذا الموضع من الإشكالات والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول : أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء ، فلهذا السبب حصلت المعاتبة ، ونظيره قوله تعالى : {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} (الأنعام : 52) ، والوجه الثاني : لعل هذا العتاب لم يقع على ما صدر من الرسول عليه الصلاة والسلام من الفعل الظاهر/ بل على ما كان منه في قلبه ، وهو أن قلبه عليه الصلاة والسلام كان قد مال إليهم بسبب قرابتهم وشرفهم وعلو منصبهم ، وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه وعدم قرابته وقلة شرفه ، فلما وقع التعبيس والتولي لهذه الداعية وقعت المعاتبة ، لا على التأديب بل على التأديب لأجل هذه الداعية والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس لتحقير شأنه ، بل كأنه قيل : إنه بسبب عماه استحق مزيد الرفق والرأفة ، فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة والجواب عن السؤال الثالث أنه كان مأذوناً في تأديب أصحابه لكن ههنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء ، وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين ، فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة.
المسألة الثانية : القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية وقالوا : لما عاتبه الله في ذلك الفعل ، دل على أن ذلك الفعل كان معصية ، وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين لا بحسب هذا الاعتبار الواحد ، وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء ، وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان كذلك ، كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط ، وترك الأفضل ، فلم يكن ذلك ذنباً ألبتة.
(1/4672)
المسألة الثالثة : أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى ، هو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأجمعوا (على) أن الأعمى هو ابن أم مكتوم ، وقرىء عبس بالتشديد للمبالغة ونحوه كلح في / كلح ، أن جاءه منصوب بتولى أو بعبس على اختلاف المذهبين في إعمال الأقرب أو الأبعد ومعناه عبس ، لأن جاءه الأعمى ، وأعرض لذلك ، وقرىء أن جاءه بهمزتين ، وبألف بينهما وقف على {عَبَسَ وَتَوَلَّى } ثم ابتدأ على معنى ألآن جاءه الأعمى ، والمراد منه الإنكار عليه ، واعلم أن في الأخبار عما فرط من رسول الله ثم الإقبال عليه بالخطاب دليل على زيادة الإنكار ، كمن يشكو إلى الناس جانياً جنى عليه ، ثم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً بالتوبيخ وإلزام الحجة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 54
54
فيه قولان : الأول : أي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن منك ، من الجهل أو الإثم ، أو يتعظ فتنفعه ذكراك أي موعظتك ، فتكون له لطفاً في بعض الطاعات ، وبالجملة فلعل ذلك العلم الذي يتلقفه عنك يطهره عن بعض مالا ينبغي ، وهو الجهل والمعصية ، أو يشغله ببعض ما ينبغي وهو الطاعة الثاني : أن الضمير في لعله للكافر ، بمعنى أنت طمعت في أن يزكى الكافر بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق : {وَمَا يُدْرِيكَ} أن ما طمعت فيه كائن ، وقرىء فتنفعه بالرفع عطفاً على يذكر ، وبالنصب جواباً للعل ، كقوله : {فَأَطَّلِعَ إِلَى ا إِلَـاهِ مُوسَى } (غافر : 37) وقد مر.
جزء : 31 رقم الصفحة : 54
54
ثم قال : {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى } قال عطاء : يريد عن الإيمان ، وقال الكلبي : استغنى عن الله ، وقال بعضهم : استغنى أثرى وهو فاسد ههنا ، لأن إقبال النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى ، فأنت تقبل عليه ، ولأنه قال : {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى } (عبس : 9,8) ولم يقل : وهو فقير عديم ، ومن قال : أما من استغنى بماله فهو صحيح ، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن ، بماله من المال.
جزء : 31 رقم الصفحة : 54
54
قال الزجاج : أي أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه ، يقال تصدى فلان لفلان ، يتصدى إذا تعرض له ، والأصل فيه تصدد يتصدى من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك ، وقد ذكرنا مثل هذا من قوله : {إِلا مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } (الأنفال : 35) وقرىء : تصدى بالتشديد بإدغام التاء في الصاد ، وقرأ أبو جعفر : تصدى ، بضم التاء ، أي تعرض ، ومعناه يدعوك (داع إلى) التصدي له من الحرص ، والتهالك على إسلامه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 54
55
ثم قال تعالى : {وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى } المعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 55
55
/ ثم قال : {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى } أن يسرع في طلب الخير ، كقوله : {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الجمعة : 9).
وقوله : {وَهُوَ يَخْشَى } فيه ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في أن لا يهتم بأداء تكاليفه ، أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك ، أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى ، وما كان له قائد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 55
56
(ثم قال) : {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى } أي تتشاغل من لهى عن الشيء والتهى وتلهى ، وقرأ طلحة بن مصرف. تتلهى ، وقرأ أبو جعفر {تَلَهَّى } أي يلهيك شأن الصناديد ، فإن قيل قوله : {فَأَنتَ لَه تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلا} كان فيه اختصاصاً ، قلنا نعم ، ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه ، أي مثلك ، خصوصاً لا ينبغى أن يتصدى للغني ، ويتلهى عن الفقير.
جزء : 31 رقم الصفحة : 56
56
ثم قال : {كَلا} وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله. قال الحسن : لما تلا جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآيات عاد وجهه ، كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله عليه ، فلما قال : {كَلا} سرى منه ، أي لا تفعل مثل ذلك ، وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى.
ثم قال : {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} وفيه سؤالان :
(1/4673)
الأول : قوله : {إِنَّهَا} ضمير المؤنث ، وقوله : {فَمَن شَآءَ ذَكَرَه } (عبس : 12) ضمير المذكر ، والضميران عائدان إلى شيء واحد ، فكيف القول فيه ؟
الجواب : وفيه وجهان الأول : أن قوله : {إِنَّهَا} ضمير المؤنث ، قال مقاتل : يعني آيات القرآن ، وقال الكلبي : يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله : {فَمَن شَآءَ ذَكَرَه } عائد إلى التذكرة أيضاً ، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ الثاني : قال صاحب "النظم" : {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} يعني به القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة ، ولو ذكَّره لجاز كما قال في موضع آخر : {كَلا إِنَّه تَذْكِرَةٌ} (المدثر : 54) والدليل على أن قوله : {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} المراد به القرآن قوله : {فَمَن شَآءَ ذَكَرَه } .
السؤال الثاني : كيف اتصال هذه الآية بما قبلها ؟
الجواب : من وجهين الأول : كأنه قيل : هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة الثاني : كأنه قيل : هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم ، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار ، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم ، وإياك وأن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلب أرباب الدنيا.
جزء : 31 رقم الصفحة : 56
57
/ قوله : {فَمَن شَآءَ ذَكَرَه } أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه والثاني : قوله : {فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة ، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف ، والمراد من الصحف قولان : الأول : أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهر عن أيدي الشياطين ، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 57
57
ثم قال تعالى : {بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كِرَاما بَرَرَةٍ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن الله تعالى وصف الملائكة بثلاثة أنواع من الصفات :
أولها : أنهم سفرة وفيه قولان : الأول : قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة : هم الكتبة من الملائكة ، قال الزجاج : السفرة الكتبة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب ، وإنما قيل للكتبة : سفرة وللكاتب سافر ، لأن معناه أنه الذي يبين الشيء ويوضحه يقال : سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها القول الثاني : وهو اختيار الفراء أن السفرة ههنا هم الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله وبين رسله ، واحدها سافر ، والعرب تقول : سفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم ، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته ، كالسفير الذي يصلح به بين القوم ، وأنشدوا :
وما أدع السفارة بين قومي
وما أمشى بغش إن مشيت
واعلم أن أصل السفارة من الكشف ، والكاتب إنما يسمى سافراً لأنه يكشف ، والسفير إنما سمي سفيراً أيضاً لأنه يكشف ، وهؤلاء الملائكة لما كانوا وسايط بين الله وبين البشر في البيان والهداية والعلم ، لا جرم سموا سفرة.
الصفة الثانية لهؤلاء الملائكة : أنهم {كِرَام } قال مقاتل : كرام على ربهم ، وقال عطاء : يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة.
الصفة الثانية : أنهم : {بَرَرَةٍ} قال مقاتل : مطيعين ، وبررة جمع بار ، قال الفراء : لا يقولون فعلة للجمع إلا والواحد منه فاعل مثل كافر وكفرة ، وفاجر وفجرة القول الثاني : في تفسير الصحف : أنها هي صحف الأنبياء لقوله : {إِنَّ هَـاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى } الأعلى : 18) يعني أن هذه التذكرة مثبتة في صحف الأنبياء المتقدمين ، والسفرة الكرام البررة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقيل هم القراء.
/ المسألة الثانية : قوله تعالى : {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ} يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السفرة ، فقال القفال في تقريره : لما كان لا يمسها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يسمها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 57
57
فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين ، عجب عباده المؤمنين من ذلك ، فكأنه قيل : وأي سبب في هذا العجب والترفع مع أن أوله نطفة قذوة وآخره جيفة مذرة ، وفيها بين الوقتين حمال عذرة ، فلا جرم ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم ، وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم ، فإن خلقة الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع ، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر والنشر.
(1/4674)
المسألة الثانية : قال المفسرون : نزلت الآية في عتبة بن أبي لهب ، وقال آخرون : المراد بالإنسان الذين أقبل الرسول عليهم وترك ابن أم مكتوم بسببهم ، وقال آخرون : بل المراد ذم كل غني ترفع على فقير بسبب الغنى والفقر ، والذي يدل على ذلك وجوه أحدها : أنه تعالى ذمهم لترفعهم فوجب أن يعم الحكم بسبب عموم العلة وثانيها : أنه تعالى زيف طريقتهم بسبب حقارة حال الإنسان في الابتداء والانتهاء على ما قال : {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَه * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه * ثُمَّ أَمَاتَه فَأَقْبَرَه } (عبس : 21,19) وعموم هذا الزجر يقتضي عموم الحكم وثالثها : وهو أن حمل اللفظ على هذا الوجه أكثر فائدة ، واللفظ محتمل له فوجب حمله عليه.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {قُتِلَ الانسَـانُ} دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم ، لأن القتل غاية شدائد الدنيا وما أكفره تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله ، فقوله : {قُتِلَ الانسَـانُ} تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب ، وقوله : {مَآ أَكْفَرَه } تنبيه على أنواع القبائح والمنكرات ، فإن قيل الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز والقادر على الكل كيف يليق به ذاك ؟
والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء ، فالعالم بالكل كيف يليق به ذاك ؟
الجواب : أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب وتحقيقة ما ذكرنا أنه تعالى بين أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب لأجل أنهم أتوا بأعظم أنواع القبائح ، واعلم أن لكل محدث ثلاث مراتب أوله ووسطه وآخره ، وأنه تعالى ذكر هذه المراتب الثلاثة للإنسان.
جزء : 31 رقم الصفحة : 57
0
أما المرتبة الأولى : فهي قوله : {مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَه } وهو استفهام وغرضه زيادة التقرير في التحقير.
جزء : 31 رقم الصفحة : 57
63
ثم أجاب عن ذلك الاستفهام بقوله : {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه } ولا شك أن النطفة شيء حقير مهين / والغرض منه أن من كان أصله (من) مثل هذا الشيء الحقير ، فالنكير والتجبر لا يكون لائقاً به.
ثم قال : {فَقَدَّرَه } وفيه وجوه : أحدها قال الفراء : قدره أطواراً نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه وذكراً أو أنثى وسعيداً أو شقياً وثانيها : قال الزجاج : المعنى قدره على الاستواء كما قال : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاـاكَ رَجُلا} (الكهف : 37) ، وثالثها : يحتمل أن يكون المراد وقدر كل عضو في الكمية والكيفية بالقدر اللائق بمصلحته ، ونظيره قوله : {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيرًا} (الفرقان : 2).
جزء : 31 رقم الصفحة : 63
63
وأما المرتبة الثانية : وهي المرتبة المتوسطة فهي قوله تعالى : {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : نصب السبيل بإضمار يسره ، وفسره بيسره.
المسألة الثانية : ذكروا في تفسيره أقوالاً أحدها : قال بعضهم : المراد تسهيل خروجه من بطن أمه ، قالوا : إنه كان رأس المولود في بطن أمه من فوق ورجلاه من تحت ، فإذا جاء وقت الخروج انقلب ، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام إلا الله ، ومما يؤكد هذا التأويل أن خروجه حياً من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وثانيها : قال أبو مسلم : المراد من هذه الآية ، هو المراد من قوله : {وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ} (البلد : 10) فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا ، وبين كل خير وشر يتعلق بالدين أي جعلناه متمكناً من سلوك سبيل الخير والشر ، والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب وثالثها : أن هذا مخصوص بأمر الدين ، لأن لفظ السبيل مشعر بأن المقصود أحوال الدنيا (لا) أمور تحصل في الآخرة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 63
0
واعلم أن هذه المرتبة الثالثة مشتملة أيضاً على ثلاث مراتب ، الإماتة ، والإقبار ، والإنشار ، أما الإماتة فقد ذكرنا منافعها في هذا الكتاب ، ولا شك أنها هي الواسطة بين حال التكليف والمجازاة ، وأما الإقبار فقال الفراء : جعله الله مقبوراً ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع ، لأن القبر مما أكرم به المسلم قال : ولم يقل فقبره ، لأن القابر هو الدافن بيده. والمقبر هو الله تعالى ، يقال قبر الميت إذا دفنه وأقبر الميت ، إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر ، والعرب تقول : بترت ذنب البعير ، والله أبتره وعضبت قرن الثور ، والله أعضبه ، وطردت فلاناً عني ، والله أطرده. أي صيره طريداً ، وقوله تعالى : {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَه } المراد منه الإحياء (و) البعث ، وإنما قال : إذا شاء إشعاراً بأن وقته غير معلوم لنا ، فتقديمه وتأخيره موكول إلى مشيئة الله تعالى ، وأما سائر الأحوال / المذكورة قبل ذلك فإنه يعلم أوقاتها من بعض الوجوه ، إذا الموت وإن لم يعلم الإنسان وقته ففي الجملة يعلم أنه لا يتجاوز فيه إلا حداً معلوماً.
(1/4675)
وأعلم أن قوله : {كَلا} ردع للإنسان عن تكبره وترفعه ، أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد ، وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر ، وفي قوله : {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَه } وجوه أحدها : قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضاً عليه أبداً ، وهو إشارة إلى أن الإنساتن لا ينفك عن تقصير ألبتة ، وهذا التفسير عندي فيه نظر ، لأن قوله : {لَمَّا يَقْضِ} الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق ، وهو الإنسان في قوله : {لَمَّا يَقْضِ} كيف يمكن حمله على جميع الناس وثانيها : أن يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر ، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يقض ما أمر به من التأمل في دلائل الله ، والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته وثالثها : قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يقض له به.
جزء : 31 رقم الصفحة : 63
واعلم أن عادة الله تعالى جارية في القرآن بأنه كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس ، فإنه يذكر عقيبها الدلائل الموجودة في الآفاق فجرى ههنا على تلك العادة وذكر دلائل الآفاق وبدأ بما يحتاج الإنسان إليه. فقال :
الذي يعيش به كيف دبرنا أمره ، ولا شك أنه موضع الاعتبار ، فإن الطعام الذي يتناول الإنسان له حالتان إحداهما : متقدمة وهي الأمور التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود والثانية : متأخرة ، وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان حتى يحصل له الانتفاع بذلك الطعام المأكول ، ولما كان النوع الأول أظهر للحسن وأبعد عن الشبهة ، لا جرم اكتفى الله تعالى بذكره ، لأن دلائل القرآن لا بد وأن تكون بحيث ينتفع بها كل الخلق ، فلا بد وأن تكون أبعد عن اللبس والشبهة ، وهذا هو المراد من قوله : {فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِه } واعلم أن النبت إنما يحصل من القطر النازل من السماء الواقع في الأرض ، فالسماء كالذكر ، والأرض كالأنثى فذكر في بيان نزل القطر. قوله :
وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : قوله {صَبَبْنَا} المراد منه الغيث ، ثم انظر في أنه كيف حدث المشتمل على هذه المياه العظيمة ، وكيف بقي معلقاً في جو السماء مع غاية ثقله ، وتأمل في أسبابه القريبة والبعيدة ، حتى يلوح لك شيء من آثار نور الله وعدله وحكمته ، وفي تدبير خلقة هذا العالم.
المسألة الثانية : قرىء (إنا) بالكسر ، وهو على الاستئناف ، وأنا بالفتح على البدل من الطعام والتقدير فلينظر الإنسان إلى أن كيف صببنا الماء قال أبو علي الفارسي : من قرأ بكسر إنا كان ذلك تفسيراً للنظر إلى طعامه كما أن قوله : {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} (الأنفال : 74) تفسير للوعد ، ومن فتح فعلى معنى البدل بدل الاشتمال ، لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه ، فهو كقوله : {يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه } (البقرة : 217) وقوله : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ * النَّارِ} (البروج : 4ـ5). قوله تعالى :
والمراد شق الأرض بالنبات ، ثم ذكر تعالى ثمانية أنواع من النبات : أولها : الحب : وهو المشار إليه بقوله :
وهو كل ما حصد من نحو الحنطة وغيرهما ، وإنما قدم ذلك لأن كالأصل في الأغذية.
وثانيها : قوله تعالى : {وَعِنَبًا} وإنما ذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 63
وثالثها : قوله تعالى : {وَقَضْبًا} وفيه قولان :
الأول : أنه الرطبة وهي التي إذا يبست سميت بالقت ، وأهل مكة يسمونها بالقضب وأصله من القطع ، وذلك لأنه يقضب مرة بعد أخرى ، وكذلك القضيب لأنه يقضب أي يقطع. وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي.
والثاني : قال المبرد : القضب هو العلف بعينه ، وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول الحسن. والرابع والخامس : قوله تعالى :
ومنافعهما قد تقدمت في هذا الكتاب. وسادسها : قوله تعالى :
الأصل في الوصف بالغلب الرقاب فالغلب الغلاظ الأعناق الواحد أغلب يقال أسد أغلب ، ثم ههنا قولان :
الأول : أن يكون المراد وصف كل حديقة بأن أشجارها متكاثفة متقاربة ، وهذا قول مجاهد ومقاتل قالا : الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض ، يقال اغلوب العشب واغلولبت الأرض إذا التف عشبها.
/ والثاني : أن يكون المراد وصف كل واحد من الأشجار بالغلظ والعظم ، قال عطاء عن ابن عباس : يريد الشجر العظام ، وقال الفراء : الغلب ما غلظ من النخل.
وسابعها : قوله : {وَفَـاكِهَةً} وقد استدل بعضهم بأن الله تعالى لما ذكر الفاكهة معطوفة على العنب والزيتون والنخل وجب أن لا تدخل هذه الأشياء في الفاكهة ، وهذا قريب من جهة ، الظاهرة ، لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه.
وثامنها : قوله تعالى : {وَأَبًّا} والأب هو المرعى ، قال صاحب "الكشاف" : لأنه يؤب أي يؤم وينتجع ، والأب والأم أخوان قال الشاعر :
جذمنا قيس ونجد دارنا
لنا الأب به والمكرع
(1/4676)
وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤدب للشتاء أي تعد ، ولما ذكر الله تعالى ما يغتذى به الناس والحيوان. قال : {مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلانْعَامِكُمْ} .
قال الفراء : خلقناه منفعة ومتعة لكم ولأنعامكم ، وقال الزجاج : هو منصوب لأنه مصدر مؤكد لقوله : {فَأَنابَتْنَا} لأن إنباته هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوان.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء وكان المقصود منها أموراً ثلاثة : أولها : الدلائل الدالة على التوحيد وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة على المعاد وثالثها : أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان ، لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع هذه الجملة بما يكون مؤكداً لهذه الأغراض وهو شرح أهوال القيامة ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ، ويدعوه ذلك أيضاً إلى ترك التكبر على الناس ، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد ، فلا جرم ذكر القيامة : فقال :
جزء : 31 رقم الصفحة : 63
قال المفسرون يعني صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة ، قال الزجاج : أصل الصخ في اللغة الطعن والصك ، يقال صخ رأسه بحجر أي شدخه والغراب بصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن ، فمعنى الصاخة الصاكة بشدة صوتها للآذان ، وذكر صاحب "الكشاف" وجهاً آخر فقال : يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً لأن الناس يصخون لها أي يستمعون. ثم إنه تعالى وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى :
وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : يحتمل أن يكون المراد من الفرار ما يشعر به ظاهره وهو التباعد والاحتراز والسبب في ذلك الفرار الاحتراز عن المطالبة بالتبعات. يقول الأخ : ما واسيتني بمالك ، والأبوان يقولان قصرت في برنا ، والصاحبة تقول أطعمتني الحرام ، وفعلت وصنعت ، والبنون يقولون : ما علمتنا وما أرشدتنا ، وقيل : أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح ، ويحتمل أن يكون المراد من الفرار ليس هو التباعد ، بل المعنى أنه يوم يفر المرء من موالاة أخيه لاهتمامه بشأنه ، وهو كقوله تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } (البقرة : 166) وأما الفرار من نصرته ، وهو كقوله تعالى : {يَوْمَ لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْاًا} (الدخان : 41) وأما ترك السؤال وهو كقوله تعالى : {وَلا يَسْاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} (المعارج : 10).
المسألة الثانية : المراد أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم ، فإنه يفر منهم في دار الآخرة ، ذكروا في فائدة الترتيب كأنه قيل : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} بل من أبويه فإنهما أقرب من الأخوين بل من الصاحبة والولد ، لأن تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين. ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى :
وفي قوله : {يُغْنِيهِ} وجهان الأول : قال ابن قتيبة : يغنيه أي يصرفه ويصده عن قرابته وأنشد :
سيغنيك حرب بني مالك
عن الفحش والجهل في المحفل
أي سيشغلك ، ويقال أغن عني وجهك أي أصرفه الثاني : قال أهل المعاني : يغنيه أي ذلك الهم الذي بسبب خاصة نفسه قد ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهم آخر ، فصارت شبيهاً بالغنى في أنه حصل عنده من ذلك المملوك شيء كثير. واعلم أنه تعالى لما ذكر حال يوم القيامة في الهول ، بين أن المكلفين فيه على قسمين منهم السعداء ، ومنهم الأشقياء فوصف السعداء بقوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 63
مسفرة مضيئة متهللة ، من أسفر الصبح إذا أضاء ، وعن ابن عباس من قيام الليل لما روى من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار ، وعن الضحاك ، من آثار الوضوء ، وقيل : من طول ما أغبرت في سبيل الله ، وعندي أنه بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بعالم القدس ومنازل الرضوان والرحمة ضاحكة ، قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله ورضاه ، واعلم أن قوله : مسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته / وأما الضاحكة والمستبشرة ، فهما محمولتان على القوة النظرية والعملية ، أو على وجدان المنفعة ووجدان التعظيم.
قال المبرد : الغبرة ما يصيب الإنسان من الغبار ، وقوله : {تَرْهَقُهَا} أي تدركها عن قرب ، كقولك رهقت الجبل إذا لحقته بسرعة ، والرهق عجلة الهلاك ، والقترة سواد كالدخان ، ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه ، كما ترى وجوه الزنوج إذا أغبرت ، وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين السواد والغبرة ، كما جمعوا بين الكفر والفجور ، والله أعلم.
واعلم أن المرئجة والخوارج تمسكوا بهذه الآية ، أما المرجئة فقالوا : إن هذه الآية دلت على أن أهل القيامة قسمان : أهل الثواب ، وأهل العقاب ، ودلت على أن أهل العقاب هم الكفرة ، وثبت بالدليل أن الفساق من أهل الصلاة ليسوا بكفرة ، وإذا لم يكونوا من الكفرة كانوا من أهل الثواب ، وذلك يدل على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس له عقاب ، وأما الخوارج فإنهم قالوا : دلت سائر الدلائل على أن صاحب الكبيرة يعاقب ، ودلت هذه الآية على أن كل من يعاقب فإنه كافر ، فيلزم أن كل مذنب فإنه كافر والجواب : أكثر ما في الباب أن المذكور ههنا هو هذا الفريقان ، وذلك لا يقتضي نفي الفريق الثالث ، والله أعلم ؛ والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 63
68
(1/4677)
سورة التكوير
جزء : 31 رقم الصفحة : 68
69
/ اعلم أنه تعالى ذكر اثني عشر شيئاً ، وقال : إذا وقعت هذه الأشياء فهنالك {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} (التكوير : 14) فالأول : قوله تعالى : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وفي التكوير وجهان أحدهما : التلفيف على جهة الاستدارة كتكوير العمامة ، وفي الحديث "نعوذ بالله من الحور بعد الكور" أي من التشتت بعد الألفة والطي واللف ، والكور والتكوير واحد ، وسميت كارة القصار كارة لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد ، ثم إن الشي الذي يلف لا شك أن يصير مختفياً عن الأعين ، فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس وتصييرها غائبة عن الأعين بالتكوير ، فلهذا قال بعضهم : كورت أي طمست ، وقال آخرون : انكسفت ، وقال الحسن : محى ضؤوها وقال المفضل بن سلمة : كورت أي ذهب ضؤوها ، كأنها استترت في كارة الوجه الثاني : في التكوير يقال : كورت الحائط ودهورته إذا طرحته حتى يسقط ، قال الأصمعي : يقال طعنه فكوره إذا صرعه ، فقوله : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أي ألقيت ورميت عن الفلك وفيه قول ثالث : يروى عن عمر أنه لفظة مأخوذة من الفارسية ، فإنه يقال للأعمى كور ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية الجواب : بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر ، يفسره كورت لأن {إِذَا} ، يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط.
السؤال الثاني : روى أن الحسن جلس بالبصرة إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن فحدث عن أبي هريرة أنه عليه السلام ، قال : "إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة ، فقال الحسن ، وما ذنبهما ؟
قال : إني أحدثك عن رسول الله" فسكت الحسن ، والجواب : أن سؤال الحسن ساقط ، لأن الشمس والقمر جمادان فإلقاؤهما في النار لا يكون سبباً لمضرتهما ، ولعل ذلك يصير سبباً لازدياد الحر في جهنم ، فلا يكون هذا الخبر على خلاف العقل / الثاني : قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 69
أي تناثرت وتساقطت كما قال تعالى : {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الإنفطار : 2) والأصل في الانكدار الانصباب ، قال الخليل : يقال انكدر عليهم القوم إذا جاؤوا أرسالاً فانصبوا عليهم ، قال الكلبي : تمطر السماء يومئذ نجوماً فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على وجه الأرض ، قال عطاء : وذلك أنها في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من النور ، وتلك السلاسل في أيدي الملائكة ، فإذا مات من في السماء والأرض تساقطت تلك السلاسل من أيدي الملائكة. الثالث : قوله تعالى :
أي عن وجه الأرض كقوله : {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (النبأ : 20) أو في الهواء كقوله : {تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } (النمل : 88). الرابع : قوله :
فيه قولان :
القول الأول : المشهور أن {الْعِشَارُ} جميع عشراء كالنفاس في جمع نفساء ، وهي التي على حملها عشرة أشهر ، ثم اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ، وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعزها عليهم ، و{عُطِّلَتْ} قال ابن عباس : أهملها أهلها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة ، وليس شيء أحب إلى العرب من النوق الحوامل ، وخوطب العرب بأمر العشار لأن أكثر مالها وعيشها من الإبل. والغرض من ذلك ذهاب الأموال وبطلان الأملاك ، واشتغال الناس بأنفسهم كما قال : {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء : 88ـ98) وقال : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الأنعام : 94).
والقول الثاني : أن العشار كناية عن السحاب تعطلت عما فيها من الماء ، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه أشبه بسائر ما قبله ، وأيضاً فالعرب تشبه السحاب بالحامل ، قال تعالى : {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} (الذاريات : 2).
الخامس : قوله تعالى :
(1/4678)
كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس فهو وحش ، والجمع الوحوش ، و{حُشِرَتْ} جمعت من كل ناحية ، قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص ، قال المعتزلة : إن الله تعالى يحشر الحيوانات كلها في ذلك اليوم ليعوضها على آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت والقتل وغير ذلك ، فإذا عوضت على تلك الآلام ، فإن شاء الله أن يبقى بعضها في الجنة إذا كان مستحسناً فعل ، وإن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر ، وأما أصحابنا فعندهم أنه لا يجب على الله شيء بحكم الاستحقاق ، ولكنه تعالى يحشر الوحوش كلها فيقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها موتى فتموت ، والغرض من ذلك هذه القصة ههنا وجوه أحدها : / أنه تعالى إذا كان {يَوْمُ الْقِيَـامَةِ} يحشر كل الحيوانات إظهاراً للعدل ، فكيف يجوز مع هذا أن لا يحشر المكلفين من الإنس والجن ؟
الثاني : أنها تجتمع في موقف القيامة مع شدة نفرتها عن الناس في الدنيا وتبددها في الصحاري ، فدل هذا على أن اجتماعها إلى الناس ليس إلا من هول ذلك اليوم والثالث : أن هذه الحيوانات بعضها غذاء للبعض ، ثم إنها في ذلك اليوم تجتمع ولا يتعرض بعضها لبعض وما ذاك إلا لشدة هول ذلك اليوم ، وفي الآية قول آخر : لابن عباس وهو أن حشر الوحوش عبارة عن موتها ، يقال ـ إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم ـ حشرتهم السنة ، وقرىء حشرت بالتشديد. السادس : قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 69
قرىء بالتخفيف والتشديد ، وفيه وجوه : أحدها : أن أصل الكلمة من سجرت التنور إذا أوقدتها ، والشيء إذا وقد فيه نشف ما فيه من الرطوبة ، فحينئذ لا يبقى في البحار شيء من المياه ألبته ، ثم إن الجبال قد سيرت على ما قال : {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} (النبأ : 20) وحينئذ تصير البحار والأرض شيئاً واحداً في غاية الحرارة والإحراق ، ويحتمل أن تكون الأرض لما نشفت مياه البحار ربت فارتفعت فاستوت برؤوس الجبال ، ويحتمل أن الجبال لما اندكت وتفرقت أجزاؤها وصارت كالتراب وقع ذلك التراب في أسفل الجبال ، فصار وجه الأرض مستوياً مع البحار ، ويصير الكل بحراً مسجوراً وثانيها : أن يكون {سُجِّرَتْ} بمعنى {فُجِّرَتْ} وذلك لأن بين البحار حاجزاً على ما قال : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} (الرحمن : 19ـ02) فإذا رفع الله ذلك الحاجز فاض البعض في البعض ، وصارت البحار بحراً واحداً ، وهو قول الكلبي : وثالثها : {سُجِّرَتْ} أوقدت ، قال القفال : وهذا التأويل يحتمل وجوهاً الأول : أن تكون جهنم في قعور البحار ، فهي الآن غير مسجورة لقيام الدنيا ، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار ، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك والثاني : أن الله تعالى يلقي الشمس والقمر والكواكب في البحار ، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك والثالث : أن يخلق الله تعالى بالبحار نيراناً عظيمة حتى تتسخن تلك المياه ، وأقول هذه الوجوه متكلفة لا حاجة إلى شيء منها ، لأن القادر على تخريب الدنيا وإقامة القيامة لا بد وأن يكون قادراً على أن يفعل بالبحار ما شاء من تسخين ، ومن قلب مياهها نيرناً من غير حاجة منه إلى أن يلقى فيها الشمس والقمر ، أو يكون تحتها نار جهنم.
واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا ، ويمكن وقوعها أيضاً بعد قيام القيامة ، وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين ، أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة. / السابع : قوله تعالى :
وفيه وجوه أحدها : قرنت الأرواح بالأجساد وثانيها : قال الحسن : يصيرون فيها ثلاثة أزواج كما قال : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً * فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ مَآ أَصْحَـابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّـابِقُونَ السَّـابِقُونَ} (الواقعة : 7ـ10) وثالثها : أنه يضم إلى كل صنف من كان طبقته من الرجال والنساء ، فيضم المبرز في الطاعات إلى مثله ، والمتوسط إلى مثله وأهل المعصية إلى مثله ، فالتزويج أن يقرن الشيء بمثله ، والمعنى أن يضم كل واحد إلى طبقته في الخير والشر ورابعها : يضم كل رجل إلى من كان يلزمه من ملك وسلطان كما قال : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات : 22) قيل فزدناهم من الشياطين وخامسها : قال ابن عباس زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين وسادسها : قرن كل امرىء بشيعته اليهودي والنصراني بالنصراني ، وقد ورد في خبر مرفوع وسابعها : قال الزجاج : قرنت النفوس بأعمالها. واعلم أنك إذا تأملت في الأقوال التي ذكرناها أمكنك أن تزيد عليها ما شئت.
جزء : 31 رقم الصفحة : 69
الثامن : قوله تعالى :
فيه مسائل :
(1/4679)
المسألة الأولى : وأديئد مقلوب من آد يئود أوداً ثقل قال تعالى : {وَلا نَوْمٌا لَّه } (البقرة : 255) أي يثقله ؛ لأنه إثقال بالتراب كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد بقاء حياتها ألبسها جبة من صوف أو شعر لترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتها ستة أشبار فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أقاربها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى يستوي البئر بالأرض ، وقيل : كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنت رمتها في الحفرة ، وإذا ولدت ابناً أمسكته ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : ما الذي حملهم على وأد البنات ؟
الجواب : الخوف من لحوق العار بهم من أجلهم أو الخوف من الإملاق ، كما قال تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ } (الإسراء : 31) وكانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات بالملائكة ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد فافتخر الفرزدق به في قوله :
ومنا الذي منع الوائدات
فأحيا الوئيد فلم توأد
السؤال الثاني : فما معنى المؤودة عن ذنبها الذي قتلت به ، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها ؟
الجواب : سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها ، وهو كتبكيت النصارى في قوله / لعيسى : {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّه قَالَ سُبْحَـانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّا إِن} (المائدة : 116).
المسألة الثانية : قرىء سألت ، أي خاصمت عن نفسها ، وسألت الله أو قاتلها ، وقرىء قتلت بالتشديد ، فإن قيل : اللفظ المطابق أن يقال : {سُـاـاِلَتْ * بِأَىِّ ذَنابٍ قُتِلَتْ} ومن قرأ سألت فالمطابق أن يقرأ : {بِأَىِّ ذَنابٍ قُتِلَتْ} فما الوجه في القراءة المشهورة ؟
قلنا : الجواب : من وجهين الأول : تقدير الآية : وإذا الموؤودة سئلت (أي سئل) الوائدون عن أحوالها بأي ذنب قتلت والثاني : أن الإنسان قد يسأل عن حال نفسه عند المعاينة بلفظ المغايبة ، كما إذا أردت أن تسأل زيداً عن حال من أحواله ، فتقول : ماذا فعل زيد في ذلك المعنى ؟
ويكون زيد هو المسئول ، وهو المسئول عنه ، فكذا ههنا. التاسع : قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 69
قرىء بالتخفيف والتشديد يريد صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته ، ثم تنشر إذا حوسب ، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها ، أي فرقت بينهم. العاشر : قوله تعالى :
أي كشفت وأزيلت عما فوقها ، وهو الجنة وعرش الله ، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، والغطاء عن الشيء ، وقرأ ابن مسعود : قشطت ، واعتقاب القاف والكاف كثير ، يقال لبكت الثريد ولبقته ، والكافور والقافور. قال الفراء : نزعت فطويت.
الحادي عشر : قوله تعالى :
أوقدت إيقاداً شديداً وقرىء سعرت بالتشديد للمبالغة ، قيل : سعرها غضب الله ، وخطايا بني آدم ، واحتج بهذه الآية من قال : النار غير مخلوقة الآن ، قالوا : لأنها تدل على أن تسعيرها معلق بيوم القيامة. الثاني عشر : قوله تعالى :
أي أدنيت من المتقين ، كقوله : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} . ولما ذكر الله تعالى هذه الأمور الإثني عشر ذكر الجزاء المرتب على الشروط الذي هو مجموع هذه الأشياء فقال :
ومن المعلوم أن العمل لا يمكن إحضاره ، فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها ، وما أحضرته عند المحاسبة ، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال ، والمراد : ما أحضرت من استحقاق الجنة والنار فإن قيل كل نفس تعلم ما أحضرت ، لقوله / : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} (آل عمران : 30) فما معنى قوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ} ؟
قلنا : الجواب : من وجهين الأول : أن هذا هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط ، وإن كان اللفظ موضوعاً للقليل ، ومنه قوله تعالى : {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (الحجر : 2) كمن يسأل فاضلاً مسألة ظاهرة ويقول : هل عندك فيها شيء ؟
فيقول : ربما حضر شيء وغرضه الإشارة إلى أن عنده في تلك المسألة ما لا يقول به غيره. فكذا ههنا الثاني : لعل الكفار كانوا يتعبون أنفسهم في الأشياء التي يعتقدونها طاعات ثم بدا لهم يوم القيامة خلاف ذلك فهو المراد من هذه الآية. قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 69
(1/4680)
الكلام في قوله : {لا أُقْسِمُ} قد تقدم في قوله : {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 1) ، {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} فيه قولان : الأول : وهو المشهور الظاهرة أنها النجوم الخنس جمع خانس ، والخنوس والانقباض والاستخفاء تقول : خنس من بين القوم وانخنس ، وفي الحديث "الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس" أي انقبض ولذلك سمي الخناس جمع كانس وكانسة يقال : كنس إذا دخل الكناس وهو مقر الوحش يقال كنس الظباء في كنسها ، وتكنست المرأة إذا دخلت هودجها تشبه بالظبي إذا دخل الكناس. ثم اختلفوا في خنوس النجوم وكنوسها على ثلاثة أوجه فالقول الأظهر : أن ذلك إشارة إلى رجوع الكواكب الخمسة السيارة واستقامتها فرجوعها هو الخنوس وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس ، ولا شك أن هذه حالة عجيبة وفيها أسرار عظيمة باهرة القول الثاني : ما روي عن علي عليه السلام وعطاء ومقاتل وقتادة أنها هي جميع الكواكب وخنوسها عبارة عن غيبوبتها عن البصر في النهار وكنوسها عبارة عن ظهورها للبصر في الليل أي تظهر في أماكنها كالوحش في كنسها والقول الثالث : أن السبعة السيارة تختلف مطالعها ومغاربها على ما قال تعالى : {أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَـارِقِ وَالْمَغَـارِبِ} (المعارج : 40) ولا شك أن فيها مطلعاً واحداً ومغرباً واحداً هما أقرب المطالع والمغارب إلى سمت رؤوسنا ، ثم إنها تأخذ في التباعد من ذلك المطلع إلى سائر المطالع طول السنة ، ثم ترجع إليه فخنوسها عبارة عن تباعدها عن ذلك المطلع ، وكنوسها عبارة عن عودها إليه ، فهذا محتمل فعلى القول الأول يكون القسم واقعاً بالخمسة المتحيرة ، وعلى القول الثاني يكون القسم واقعاً بجميع الكواكب وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرته يكون القسم واقعاً بالسبعة السيارة والله أعلم بمراده.
والقول الثاني : أن {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} وهو قول ابن مسعود والنخعي أنها بقر الوحش ، وقال سعيد بن جبير : هي الظباء ، وعلى هذا الخنس من الخنس في الأنف وهو تقعير في الأنف فإن البقر والظباء أنوفها على هذه الصفة جمع كانس وهي التي تدخل الكناس والقول هو الأول ، والدليل عليه أمران :
جزء : 31 رقم الصفحة : 69
69
/ الأول : أنه قال بعد ذلك : {الْكُنَّسِ * وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} وهذا بالنجوم أليق منه ببقر الوحش.
الثاني : أن محل قسم الله كلما كان أعظم وأعلى رتبة كان أولى ، ولا شك أن الكواكب أعلى رتبة من بقر الوحش.
الثالث : أن (الخنس) جمع خانس من الخنوس ، وإما جمع خنساء وأخنس من الخنس خنس بالسكون والتخفيف ، ولا يقال : الخنس فيه بالتشديد إلا أن يجعل الخنس في الوحشية أيضاً من الخنوس وهو اختفاؤها في الكناس إذا غابت عن الأعين.
قوله تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ذكر أهل اللغة أن عسعس من الأضداد ، يقال : عسعس الليل إذا أقبل ، وعسعس إذا أدبر ، وأنشدوا في ورودها بمعنى أدبر قول العجاج :
حتى إذا الصبح لها تنفسا
وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وأنشد أبو عبيدة في معنى أقبل :
مدرجات الليل لما عسعسا
جزء : 31 رقم الصفحة : 69
70
ثم منهم من قال : المراد ههنا أقبل الليل ، لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعاً بإقبال الليل وهو قوله : {إِذَا عَسْعَسَ} وبإدباره أيضاً وهو قوله : {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ومنهم من قال : بل المراد أدبر وقوله : {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي امتد ضوءه وتكامل فقوله : {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (التكوير : 17) إشارة إلى أول طلوع الصبح ، وهو مثل قوله : {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (المدثر : 34,33) وقوله : {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار.
وأما قوله تعالى : {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي إذا أسفر كقوله : {وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} (المدثر : 34) ثم في كيفية المجاز قولان :
أحدهما : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بأقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفساً له على المجاز ، وقيل تنفس الصبح.
والثاني : أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك ، واجتمع الحزن في قلبه ، فإذا تنفس وجد راحة. فههنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 70
70
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وفيه قولان :
(1/4681)
الأول : وهو المشهور أن المراد أن القرآن نزل به جبريل : فإن قيل : ههنا إشكال قوي وهو أنه حلف أنه قول جبريل ، فوجب علينا أن نصدقه في ذلك ، فإن لم نقطع بوجوب حمل / اللفظ على الظاهر ، فلا أقل من الاحتمال ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام الله ، وبتقدير أن يكون كلام جبريل يخرج عن كونه معجزاً ، لاحتمال أن جبريل ألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم على سبيل الإضلال ، ولا يمكن أن يجاب عنه بأن جبريل معصوم لا يفعل الإضلال ، لأن العلم بعصمة جبريل ، مستفاد من صدق النبي ، وصدق النبي مفرع على كون القرآن معجزاً ، وكون القرآن معجزاً يتفرع على عصمة جبريل ، فيلزم الدور وهو محال والجواب : الذين قالوا : بأن القرآن إنما كان معجزاً للصرفة ، إنما ذهبوا إلى ذلك المذهب فراراً من هذا السؤال ، لأن الإعجاز على ذلك القول ليس في الفصاحة ، بل في سلب تلك العلوم والدواعي عن القلوب ، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
القول الثاني : أن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ولا ظن ولا افتعال ، إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من عند الله تعالى ، واعلم أنه تعالى وصف جبريل ههنا بصفات ست أولها : أنه رسول ولا شك أنه رسول الله إلى الأنبياء فهو رسول وجميع الأنبياء أمته ، وهو المراد من قوله : {يُنَزِّلُ الملائكة بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِه عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِه } (النحل : 2) وقال : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 194,193) وثانيها : أنه كريم ، ومن كرمه أنه يعطي أفضل العطايا ، وهو المعرفة والهداية والإرشاد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 70
70
وثالثها : قوله : {ذِى قُوَّةٍ} ثم منهم من حمله على الشدة ، روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل "ذكر الله قوتك ، فماذا بلغت ؟
قال رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذا سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها" وذكر مقاتل أن شيطاناً يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي صلى الله عليه وسلّم فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند ، ومنهم من حمله على القوة في أداء طاعة الله وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف ، وعلى القوة في معرفة الله وفي مطالعة جلال الله.
ورابعها : قوله تعالى : {عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ} وهذه العندية ليست عندية المكان ، مثل قوله : {وَمَنْ عِندَه لا يَسْتَكْبِرُونَ} وليست عندية الجهة بدليل قوله "أنا عند المنكسرة قلوبهم" بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم. وأما {مَكِينٍ} فقال الكسائي : يقال قد مكن فلان عند فلان بضم الكاف مكناً ومكانة ، فعلى هذا المكين هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.
جزء : 31 رقم الصفحة : 70
71
وخامسها : قوله تعالى : {مُّطَاعٍ ثَمَّ} اعلم أن قوله : {ثَمَّ} إشارة إلى الظرف المذكور أعني {عِندَ ذِى الْعَرْشِ} (التكوير : 20) والمعنى أنه عند الله مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ، وقرىء {ثَمَّ} تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة.
/ وسادسها : قوله : {أَمِينٍ} أي هو {أَمِينٍ} على وحي الله ورسالاته ، قد عصمه الله من الخيانة والزلل.
جزء : 31 رقم الصفحة : 71
71
(1/4682)
ثم قال تعالى : {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} واحتج بهذه الآية من فضل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلّم فقال : إنك إذا وازنت بين قوله : {إِنَّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير : 21,19) وبين قوله : {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} ظهر التفاوت العظيم : {وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالافُقِ الْمُبِينِ} يعني حيث تطلع الشمس في قول الجميع ، وهذا مفسر في سورة النجم {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي وما محمد : (على الغيب بظنين)} والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال : ظننت زيدا في معنى اتهمته ، وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين ، والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله ، ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت ، والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله ، قال الفراء : يأتيه غيب السماء ، وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم ، وقال أبو علي الفارسي : المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً ، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين : أحدهما : أن الكفار لم يبخلوه ، وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل وثانيها : قوله : والغيب ههنا القرآن وما فيه من الأنباء والقصص والظنين المتهم يقال : ظننت زيدا في معنى اتهمته ، وليس من الظن الذي يتعدى إلى مفعولين ، والمعنى ما محمد على القرآن بمتهم أي هو ثقة فيما يؤدي عن الله ، ومن قرأ بالضاد فهو من البخل يقال ضننت به أضن أي بخلت ، والمعنى ليس ببخيل فيما أنزل الله ، قال الفراء : يأتيه غيب السماء ، وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم ، وقال أبو علي الفارسي : المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً ، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لوجهين : أحدهما : أن الكفار لم يبخلوه ، وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نضي البخل وثانيها : قوله : {عَلَى الْغَيْبِ} ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال : فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا.
جزء : 31 رقم الصفحة : 71
71
ثم قال تعالى : {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} كان أهل مكة يقولون : إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه ، فنفى الله ذلك ، فإن قيل القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال ، فكيف يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي ؟
{قُلْنَا} بينا أن على القول بالصرفة لا تتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال ، فلا جرم يمكن نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.
جزء : 31 رقم الصفحة : 71
71
ثم قال تعالى : {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} وهذا استضلال لهم يقال لتارك الجادة اعتسافاً ، أين تذهب ؟
مثلت حالهم بحالة في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ، والمعنى أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم ، قال الفراء : العرب تقول إلى أين تذهب وأين تذهب ، وتقول ذهبت الشام وانطلقت السوق ، واحتج أهل الاعتزال بهذه الآية وجهه ظاهر.
جزء : 31 رقم الصفحة : 71
72
ثم بين أن القرآن ما هو ، فقال : {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي هو بيان وهداية للخلق أجمعين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 72
72
/ ثم قال : {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} وهو بدل من العالمين ، والتقدير : إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم ، وفائدة هذا الإبدال أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، والمعنى أن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم ، ثم بين أن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله.
جزء : 31 رقم الصفحة : 72
74
أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يعطيه تلك المشيئة ، لأن فعل تلك المشيئة صفة محدثة فلا بد في حدوثها من مشيئة أخرى فيظهر من مجموع هذه الآيات أن فعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة. وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة ، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء ، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها ، موقوفة على مشيئة الله وهذا هو قول أصحابنا ، وقول بعض المعتزلة إن هذه الآية مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضعيف لأنا بينا أن المشيئة الاختيارية شيء حادث ، فلا بد له من محدث فيتوقف حدوثها على أن يشاء محدثها إيجادها ، وحينئذ يعود الإلزام ، والله أعلم بالصواب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 74
77
(1/4683)
سورة الانفطار
تسع عشرة آية مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 77
77
/ اعلم أن المراد أنه إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة ، فهناك يحصل الحشر والنشر ، وفي تفسير هذه الآيات مقامات الأول : في تفسير كل واحد من هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة وهي ههنا أربعة ، اثنان منها تتعلق بالعلويات ، واثنان آخران تتعلق بالسفليات الأول : قوله : {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} أي انشقت وهو كقوله : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ} (الفرقان : 25) ، {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} (الإنشقاق : 1) ، {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن : 37) ، {وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} و{السَّمَآءُ مُنفَطِرُا بِه } (المزمل : 18) قال الخليل : ولم يأت هذا على الفعل ، بل هو كقولهم : مرضع وحائض ، ولو كان على الفعل لكان منفطرة كما قال : {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} أما الثاني وهو قوله : {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} فالمعنى ظاهر لأن عند انتقاض تركيب السماء لا بد من انتثار الكواكب على الأرض.
واعلم أنا ذكرنا في بعض السورة المتقدمة أن الفلاسفة ينكرون إمكان الخرق والالتئام على الأفلاك ، ودليلنا على إمكان ذلك أن الأجسام متماثلة في كونها أجساماً ، فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، إنما قلنا : إنها متماثلة لأنه يصح تقسيمها إلى السماوية والأرضية ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فالعلويات والسفليات مشتركة في أنها أجسام ، وإنما قلنا : إنه متى كان كذلك وجب أن يصح على العلويات ما يصح على السفليات ، لأن المتماثلات حكمها واحد فمتى يصح حكم على واحد منها ، وجب أن يصح على الباقي ، وأما الإثنان السفليان : فأحدهما : قوله : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} وفيه وجوه أحدهما : أنه ينفذ بعض البحار في البعض بارتفاع الحاجز الذي جعله الله برزخاً ، وحينئذ يصير الكل بحراً واحداً ، وإنما يرتفع ذلك / الحاجز لتزلزل الأرض وتصدعها. وثانيها : أن مياه البحار الآن راكدة مجتمعة ، فإذا فجرت تفرقت وذهب ماؤها وثالثها : قال الحسن : فجرت أي يبست.
جزء : 31 رقم الصفحة : 77
واعلم أن على الوجوه الثلاثة ، فالمراد أنه تتغير البحار عن صورتها الأصلية وصفتها ، وهو كما ذكر أنه تغير الأرض عن صفتها في قوله : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ} (ابراهيم : 48) وتغير الجبال عن صفتها في قوله : {وَيَسْاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} (طه : 106,105) ورابعها : قرأ بعضهم : {فُجِّرَتْ} بالتخفيف ، وقرأ مجاهد : {فُجِّرَتْ} على البناء للفاعل والتخفيف ، بمعنى بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله : {لا يَبْغِيَانِ} (الرحمن : 20) لأن البغي والفجور أخوان.
وأما الثاني : فقوله : {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} فاعلم أن بعثر وبحثر بمعنى واحد ، ومركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما ، والمعنى أثيرت وقلب أسفلها أعلاها وباطنها ظاهرها ، ثم ههنا وجهان أحدهما : أن القبور تبعثر بأن يخرج ما فيها من الموتى أحياء ، كما قال تعالى : {وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة : 2) والثاني : أنها تبعثر لإخراج ما في بطنها من الذهب والفضة ، وذلك لأن من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضتها ، ثم يكون بعد ذلك خروج الموتى ، والأول أقرب ، لأن دلالة القبور على الأول أتم.
المقام الثاني : في فائدة هذا الترتيب ، واعلم أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم وفناء الدنيا/ وانقطاع التكاليف ، والسماء كالسقف ، والأرض كالبناء ، ومن أراد تخريب دار ، فإنه يبدأ أولاً بتخريب السقف ، وذلك هو قوله : {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب ، وذلك هو قوله : {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} ثم إنه تعالى بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض وهو قوله : {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} ثم إنه تعالى يخرب آخر الأمر الأرض التي هي البناء ، وذلك هو قوله : {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} فإنه إشارة إلى قلب الأرض ظهراً لبطن ، وبطناً لظهر.
(1/4684)
المقام الثالث : في تفسير قوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} وفيه احتمالان الأول : أن المراد بهذه الأمور ذكر يوم القيامة ، ثم فيه وجوه أحدها : وهو الأصح أن المقصود منه الزجر عن المعصية ، والترغيب في الطاعة ، أي يعلم كل أحد في هذا اليوم ماقدم ، فلم يقصر فيه وما أخر فقصر فيه ، لأن قوله : {مَّا قَدَّمَتْ} يقتضي فعلاً و{مَآ} يقتضي تركاً ، فهذا الكلام يقتضي فعلاً وتركاً وتقصيراً وتوفيراً ، فإن كان قدم الكبائر وأخر العمل الصالح فمأواه النار ، وإن كان قدم العمل الصالح وأخر الكبائر فمأواه الجنة وثانيها : ما قدمت من عمل أدخله في الوجود وماأخرت من سنة يستن بها من بعده من خير أو شر وثالثها : قال الضحاك : ما قدمت من الفرائض وما أخرت أي ما ضيعت ورابعها : قال أبو مسلم : ما قدمت من الأعمال في أول عمرها وما أخرت في آخر عمرها ، فإن قيل : وفي أي موقف من مواقف القيامة يحصل هذا العلم ؟
قلنا : أما / العلم الإجمالي فيحصل في أول زمان الحشر ، لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر. وأما العلم التفصيل ، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 77
الاحتمال الثاني : أن يكون المراد قيل : قيام القيامة بل عند ظهور أشراط الساعة وانقطاع التكاليف ، وحين لا ينفع العمل بعد ذلك كما قال : {رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـانِهَا خَيْرًا } فيكون ما عمله الإنسان إلى تلك الغاية ، هو أول أعماله وآخرها ، لأنه لا عمل له بعد ذلك ، وهذا القول ذكره القفال.
جزء : 31 رقم الصفحة : 77
78
اعلم أنه سبحانه لما أخبر في الآية الأولى عن وقوع الحشر والنشر ذكر في هذه الآية ما يدل عقلاً على إمكانه أو على وقوعه ، وذلك من وجهين الأول : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع موائد نعمه عن المذنبين ، كيف يجوز في كرمه أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم ؟
الثاني : أن القادر الذي خلق هذه البنية الإنسانية ثم سواها وعدلها ، إما أن يقال : إنه خلقها لا لحكمة أو لحكمة ، فإن خلقها لا لحكمة كان ذلك عبثاً ، وهو غير جائز على الحكيم ، وإن خلقها لحكمة ، فتلك الحكمة ، إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد ، والأول باطل لأنه سبحانه متعال عن الاستكمال والانتفاع. فتعين الثاني ، وهو أنه خلق الخلق لحكمة عائدة إلى العبد ، وتلك الحكمة إما أن تظهر في الدنيا أو في دار سوى الدنيا. والأول باطل لأن الدنيا دار بلاء وامتحان ، لا دار الانتفاع والجزاء ، ولما بطل كل ذلك ثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى ، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق والتسوية والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه سبحانه يبعث الأموات ويحشرهم ، وذلك يمنعهم من الاعتراف بعدم الحشر والنشر ، وهذا الاستدلال هو الذي ذكر بعينه في سورة التين حيث قال : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} إلى أن قال : {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} (التين : 7,4) وهذه المحاجة تصلح مع العرب الذين كانوا مقرين بالصانع وينكرون الإعادة ، وتصلح أيضاً مع من ينفي الإبتداء والإعادة معاً ، لأن الخلق المعدل يدل على الصانع وبواسطته يدل على صحة القول بالحشر والنشر ، فإن قيل : بناء هذا الاستدلال على أنه تعالى حكيم ، ولذلك قال في سورة التين بعد هذا الاستدلال : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَـاكِمِينَ} (التين : 8) فكان يجب أن يقول في هذه السورة : ما غرك بربك الحكيم الجواب : أن الكريم / يجب أن يكون حكيماً ، لأن إيصال النعمة إلى الغير لو لم يكن مبنياً على داعية الحكمة لكان ذلك تبذيراً لا كرماً. أما إذا كان مبنياً على داعية الحكمة فحينئذ يسمى كرماً ، إذا ثبت هذا فنقول : كونه كريماً يدل على وقوع الحشر من وجهين كما قررناه ، أما كونه حكيماً فإنه يدل على وقوع الحشر من هذا الوجه الثاني ، فكان ذكر الكريم ههنا أولى من ذكر الحكيم ، هذا هو تمام الكلام في كيفية النظم ، ولنرجع إلى التفسير. أما قوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 78
(1/4685)
{الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ} ففيه قولان : أحدهما : أنه الكافر ، لقوله من بعد ذلك : {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} (الإنفطار : 9) وقال عطاء عن ابن عباس : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في ابن الأسد بن كلدة بن أسيد وذلك أنه ضرب النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يعاقبه الله تعالى ، وأنزل هذه الآية والقول الثاني : أنه يتناول جميع العصاة وهو الأقرب ، لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ. أما قوله : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فالمراد الذي خدعك وسول لك الباطل حتى تركت الواجبات وأتيت بالمحرمات ، والمعنى ما الذي أمنك من عقابه ، يقال : غره بفلان إذا أمنه المحذور من جهته مع أنه غير مأمون ، وهو كقوله : {وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (لقمان : 33) هذا إذا حملنا قوله : {الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ} على جميع العصاة ، وأما إذا حملناه على الكافر ، فالمعنى ما الذي دعاك إلى الكفر والجحد بالرسل ، وإنكار الحشر والنشر/ وههنا سؤالات :
الأول : أن كونه كريماً يقتضي أن يغتر الإنسان بكرمه بدليل المعقول والمنقول ، أما المعقول فهو أن الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فلما كان الحق تعالى جواداً مطلقاً لم يكن مستعيضاً ، ومتى كان كذلك استوى عنده طاعة المطيعين ، وعصيان المذنبين ، وهذا يوجب الاغترار لأنه من البعيد أن يقدم الغني على إيلام الضعيف من غير فائدة أصلاً ، وأما المنقول فما روي عن علي عليه السلام ، أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : لم لم تجبني ؟
فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه ، وأعتقه ، وقالوا أيضاً : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، ولما ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به ، فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار به ؟
والجواب : من وجوه أحدها : أن معنى الآية أنك لماكنت ترى حلم الله على خلقه ظننت أن ذلك لأنه لا حساب ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى هذا الاغترار ، وجرأك على إنكار الحشر والنشر ؟
فإن ربك كريم ، فهو لكرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة ، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس في الدار التي جعلها لهم للجزاء ، فالحاصل أن ترك المعاجلة بالعقوبة لأجل الكرم ، وذلك لا يقتضي الاغترار بأنه لا دار بعد هذه الدار وثالثها : أن كرمه لما بلغ إلى حيث لا يمنع من العاصي موائد لطفه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم ، كان أولى فإذن كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجراءة والاغترار وثالثها : أن كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة والاستحياء من الاغترار والتواني ورابعها : قال بعض الناس : / إنما قال : {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول غرني كرمك ، ولولا كرمك لما فعلت لأنك رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت ، وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد من قوله : {الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ} ليس الكافر.
جزء : 31 رقم الصفحة : 78
السؤال الثاني : ما الذي ذكره المفسرون في سبب هذا الاغترار ؟
قلنا وجوه : أحدها : قال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان له وثانيها : قال الحسن : غره حمقه وجهله وثالثها : قال مقاتل : غره عفو الله عنه حين لم يعاقبه في أول أمره ، وقيل : للفضيل بن عياض إذا أقامك الله يوم القيامة ، وقال لك : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ماذا تقول ؟
قال : أقول غرتني ستورك المرخاة.
السؤال الثالث : ما معنى قراءة سعيد بن جبير ما أغرك ؟
قلنا : هو إما على التعجب وإما على الاستفهام من قولك غر الرجل فهو غار إذا غفل ، ومن قولك بيتهم العدو وهم غارون ، وأغره غيره جعله غاراً ، أما قوله تعالى : {الَّذِى خَلَقَكَ} فاعلم أنه تعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقق ذلك الكرم أولها : الخلق وهو قوله : {الَّذِى خَلَقَكَ} ولا شك أنه كرم وجود لأن الوجود خير من العدم ، والحياة خير من الموت ، وهو الذي قال : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ } (البقرة : 28) ، وثانيها : قوله : {فَسَوَّاـاكَ} أي جعلك سوياً سالم الأعضاء تسمع وتبصر ، ونظيره قوله : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاـاكَ رَجُلا} (الكهف : 37) قال ذو النون : سواك أي سخر لك المكونات أجمع ، وما جعلك مسخراً لشيء منها ، ثم أنطق لسانك بالذكر ، وقلبك بالعقل ، وروحك بالمعرفة ، وسرك بالإيمان ، وشرفك بالأمر والنهي وفضك على كثير ممن خلق تفضيلاً وثالثها : قوله : {فَعَدَلَكَ} وفيه بحثان :
(1/4686)
البحث الأول : قال مقاتل : يريد عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين فلم يجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع ، وهو كقوله : {بَلَى قَـادِرِينَ عَلَى ا أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَه } (القيامة : 4) وتقريره ما عرف في علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبي هذه الجثة على التسوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في أشكالها ولا في ثقبها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها ، واستقصاء القول فيه لا يليق بهذا العلم ، وقال عطاء عن ابن عباس : جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية ، وقال أبو علي الفارسي : عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم ، وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعداً لقبول العقل والقدرة والفكر ، وصيرك بسبب ذلك مستولياً على جميع الحيوان والنبات ، وواصلاً بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 78
البحث الثاني : قرأ الكوفيون فعدلك بالتخفيف ، وفيه وجوه أحدها : قال أبو علي الفارسي : أن يكون المعنى عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت والثاني : قال الفراء : {فَعَدَلَكَ} أي فصرفك إلى أي صورة شاء ، ثم قال : والتشديد أحسن الوجهين لأنك تقول : عدلتك إلى كذا / كما تقول صرفتك إلى كذا ، ولا يحسن عدلتك فيه ولا صرفتك فيه ، ففي القراءة الأولى جعل في من قوله : {فِى أَىِّ صُورَةٍ} صلة للتركيب ، وهو حسن ، وفي القراءة الثانية جعله صلة لقوله : {فَعَدَلَكَ} وهو ضعيف ، واعلم أن اعتراض القراء إنما يتوجه على هذا الوجه الثاني ، فأما على الوجه الأول الذي ذكره أبو علي الفارسي فغير متوجه والثالث : نقل القفال عن بعضهم أنهما لغتان بمعنى واحد ، أما قوله : {فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} ففيه مباحث الأول : ما هل هي مزيدة أم لا ؟
فيه قولان : الأول : أنها ليست مزيدة ، بل هي في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك ، وبناء على هذا الوجه ، قال أبو صالح ومقاتل : المعنى إن شاء ركبك في غير صورة الإنسان من صورة كلب أو صورة حمار أو خنزير أو قرد والقول الثاني : أنها صلة مؤكدة والمعنى في أي صورة تقتضيها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة ، فإنه سبحانه يركبك على مثلها ، وعلى هذا القول تحتمل الآية وجوهاً أحدها : أن المراد من الصور المختلفة شبه الأب والأم ، أو أقارب الأب أو أقارب الأم ، ويكون المعنى أنه سبحانه يركبك على مثل صور هؤلاء ويدل على صحة هذا ما روى أنه عليه السلام قال في هذا الآية : "إذا استقرت النطفة في الرحم ، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم" ، والثاني : وهو الذي ذكره الفراء والزجاج أن المراد من الصور المختلفة الاختلاف بحسب الطول والقصر والحسن والقبح والذكورة والأنوثة ، ودلالة هذه الحالة على الصانع القادر في غاية الظهور ، لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء وتأثير طبع الأبوين فيه على السوية ، فالفاعل المؤثر بالطبيعة في القابل المتشابه لا يفعل إلا فعلاً واحداً ، فلما اختلفت الآثار والصفات دل ذلك الاختلاف على أن المدبر هو القادر المختار ، قال القفال : اختلاف الخلق والألوان كاختلاف الأحوال في الغنى والفقر والصحة والسقم ، فكما أنا نقطع أنه سبحانه إنما ميز البعض عن البعض في الغنى والفقر ، وطول العمر وقصره ، بحكمة بالغة لا يحيط بكنهها إلا هو ، فكذلك نعلم أنه إنما جعل البعض مخالفاً للبعض ، في الخلق والألوان بحكمة بالغة ، وذلك لأن بسبب هذا الاختلاف يتميز المحسن عن المسيء والقريب عن الأجنبي ، ثم قال : ونحن نشهد شهادة لا شك فيها أنه سبحانه لم يفرق بين المناظر والهيئات إلا لما علم من صلاح عباده فيه وإن كنا جاهلين بعين الصلاح القول الثالث : قال الواسطي : المراد صورة المطيعين والعصاة فليس من ركبه على صورة الولاية كمن ركبه على صورة العداوة ، قال آخرون : إنه إشارة إلى صفاء الأرواج وظلمتها ، وقال الحسن : منهم من صوره ليستخلصه لنفسه ، ومنهم من صوره ليشغله بغيره مثال الأول : أنه خلق آدم ليخصه بألطاف بره وإعلاء قدره وأظهر روحه من بين جماله وجلاله ، وتوجه بتاج الكرامة وزينه برداء الجلال والهيبة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 78
80
قوله تعالى : {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} اعلم أنه سبحانه لما بين بالدلائل العقلية على صحة القول / بالبعث والنشور على الجملة ، فرع عليها شرح تفاصيل الأحوال المتعلقة بذلك ، وهو أنواع :
(1/4687)
النوع الأول : أنه سبحانه زجرهم عن ذلك الاغترار بقوله : {كَلا} و{بَلْ} حرف وضع في اللغة لنفي شيء قد تقدم وتحقق غيره ، فلا جرم ذكروا في تفسير {كَلا} وجوهاً الأول : قال القاضي : معناه أنكم لا تستقيمون على توجيه نعمي عليكم وإرشادي لكم ، بل تكذبون بيوم الدين الثاني : كلا أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله ، ثم كأنه قال : وإنكم لا ترتدعون عن ذلك بل تكذبون بالدين أصلاً الثالث : قال القفال : كلا أي ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور ، لأن ذلك يوجب أن الله تعالى خلق الخلق عبثاً وسدى ، وحاشاه من ذلك ، ثم كأنه قال : وإنكم لا تنتفعون بهذا البيان بل تكذبون ، وفي قوله : {تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} وجهان الأول : أن يكون المراد من الدين الإسلام ، والمعنى أنكم تكذبون بالجزاء على الدين والإسلام الثاني : أن يكون المراد من الدين الحساب ، والمعنى أنكم تكذبون بيوم الحساب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 80
82
النوع الثاني : قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} .
والمعنى التعجب من حالهم ، كأنه سبحانه قال : إنكم تكذبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء ، وملائكة الله موكلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ، ونظيره قوله تعالى : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق : 18,17) وقوله تعالى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ا وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} (الأنعام : 61) ثم ههنا مباحث :
الأول : من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه : أحدها : أن هؤلاء الملائكة ، إما أن يكونوا مركبين من الأجسام اللطيفة كالهواء والنسيم والنار ، أو من الأجسام الغليظة ، فإن كان الأول لزم أن تنتقض بنيتهم بأدنى سبب من هبوب الرياح الشديدة وإمرار اليد والكم والسوط في الهواء ، وإن كان الثاني وجب أن نراهم إذ لو جاز أن يكونوا حاضرين ولا نراهم ، لجاز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار وفيلات وبوقات ، ونحن لا نراها ولا نسمعها وذلك دخول في التجاهل ، وكذا القول في إنكار صحائفهم وذواتهم وقلمهم وثانيها : أن هذا الاستكتاب إن كان خالياً عن الفوائد فهو عبث وذلك غير جائز على الله تعالى ، وإن كان فيه فائدة فتلك الفائدة ، إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد والأول : محال لأنه متعال عن النفع والضر ، وبهذا يظهر بطلان قول من يقول : إنه تعالى إنما استكتبها خوفاً من النسيان الغلط والثاني : أيضاً محال ، لأن أقصى ما في الباب أن يقال : فائدة هذا الاستكتاب أن يكونوا شهداء على الناس وحجة عليهم يوم القيامة إلا أن هذه الفائدة ضعيفة ، لأن الإنسان الذي علم أن الله تعالى لا يجور ولا يظلم ، لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة ، والذي لا يعلم ذلك لا ينتفع بهذه الحجة لاحتمال / أنه تعالى أمرهم بأن يكتبوا تلك الأشياء عليه ظلماً وثالثها : أن أفعال القلوب غير مرئية ولا محسوسة فتكون هي من باب المغيبات ، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى على ما قال : {وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } (
جزء : 31 رقم الصفحة : 82
الأنعام : 59) وإذا لم تكن هذه الأفعال معلومة للملائكة استحال أن يكتبوها والآية تقضي أن يكونوا كاتبين علينا كل ما نفعله ، سواء كان ذلك من أفعال القلوب أم لا ؟
والجواب : عن الأول : أن هذه الشبهة لا تزال إلا على مذهبنا بناء على أصلين أحدهما : أن البنية ليست شرطاً للحياة عندنا والثاني : أي عند سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط لا يجب الإدراك ، فعلى الأصل الأول يجوز أن تكون الملائكة أجراماً لطيفة تتمزق وتتفرق ولكن تبقى حياتها مع ذلك ، وعلى الأصل الثاني يجوز أن يكونوا أجساماً كثيفة لكنا لا نراها والجواب : عن الثاني أن الله تعالى إنما أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم ، ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة ، فيخرج لهم كتب منشورة ، ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره ، فيقولون له : أعطاك الملك كذا وكذا ، وفعل بك كذا وكذا ، ثم قد خلفته وفعلت كذا وكذا ، فكذا ههنا والله أعلم بحقيقة ذلك الجواب : عن الثالث أن غاية ما في الباب تخصيص هذا العموم بأفعال الجوارح ، وذلك غير ممتنع.
البحث الثاني : أن قوله تعالى : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ} وإن كان خطاب مشافهة إلا أن الأمة مجمعة على أن هذا الحكم عام في حق كل المكلفين ، ثم ههنا احتمالان :
أحدهما : أن يكون هناك جمع من الحافظين ، وذلك الجمع يكونون حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم.
(1/4688)
وثانيهما : أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخرة ، ثم يحتمل أن يكون الموكل بكل واحد من بني آدم واحداً من الملائكة لأنه تعالى قابل الجمع بالجمع ، وذلك يقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة كما قيل : إثنان بالليل ، وإثنان بالنهار ، أو كما قيل : إنهم خمسة.
البحث الثالث : أنه تعالى وصف هؤلاء الملائكة بصفات أولها : كونهم حافظين وثانيها : كونهم كراماً وثالثها : كونهم كاتبين ورابعها : كونهم يعلمون ما تفعلون ، وفيه وجهان أحدهما : أنهم يعلمون تلك الأفعال حتى يمكنهم أن يكتبوها ، وهذا تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له الشهادة إلا بعد العلم والثاني : أنهم يكتبونها حتى يكونوا عالمين بها عند أداء الشهادة.
واعلم أن وصف الله إياهم بهذه الصفات الخمسة يدل على أنه تعالى أثنى عليهم وعظم شأنهم ، وفي تعظيمهم تعظيم لأمر الجزاء ، وأنه عند الله تعالى من جلائل الأمور ، ولولا ذلك لما وكل / بضبط ما يحاسب عليه ، هؤلاء العظماء الأكابر ، قال أبو عثمان : من يزجره من المعاصي مراقبة الله إياه ، كيف يرده عنها كتابة الكرام الكاتبين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 82
82
النوع الثالث : من تفاريع مسألة الحشر قوله تعالى : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} .
اعلم أن الله تعالى لما وصف الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين فقال : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ} وهو نعيم الجنة {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} وهو النار ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن القاطعين بوعيد أصحاب الكبائر تمسكوا بهذه الآية ، فقالوا : صاحب الكبيرة فاجر ، والفجار كلهم في الجحيم ، لأن لفظ الجحيم إذا دخل عليه الألف واللام أفاد الاستغراق والكلام في هذه المسألة قد استقصيناه في سورة البقرة ، وههنا نكت زائدة لا بد من ذكرها : قالت الوعيدية حصلت في هذه الآية وجوه دالة على دوام الوعيد أحدها : قوله تعالى : {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} ويوم الدين يوم الجزاء ولا وقت إلا ويدخل فيه ، كما تقول يوم الدنيا ويوم الآخرة الثاني : قال الجبائي : لو خصصنا قوله : {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} لكان بعض الفجار يصيرون إلى الجنة ولو صاروا إليها لكانوا من الأبرار وهذا يقتضي أن لا يتميز الفجار عن الأبرار ، وذلك باطل لأن الله تعالى ميز بين الأمرين ، فإذن يجب أن لا يدخل الفجار الجنة كما لا يدخل الأبرار النار والثالث : أنه تعالى قال : {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} وهو كقوله : {وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا } (المائدة : 37) وإذا لم يكن هناك موت ولا غيبة فليس بعدهما إلا الخلود في النار أبد الآبدين ، ولما كان اسم الفاجر يتناول الكافر والمسلم صاحب الكبيرة ثبت بقاء أصحاب الكبائر أبداً في النار ، وثبت أن الشفاعة للمطيعين لا لأهل الكبائر والجواب عنه : أنا بينا أن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق دلالة ظنية ضعيفة والمسألة قطعية. والتمسك بالدليل الظني في المطلوب القطعي غير جائز ، بل ههنا ما يدل على قولنا : لأن استعمال الجمع المعرف بالألف واللام في المعهود السابق شائع في اللغة ، فيحتمل أن يكون اللفظ ههنا عائداً إلى الكافرين الذين تقدم ذكرهم من المكذبين بيوم الدين ، والكلام في ذلك قد تقدم على سبيل الاستقصاء ، سلمنا أن العموم يفيد القطع ، لكن لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر ، والدليل عليه قوله تعالى في حق الكفار :
جزء : 31 رقم الصفحة : 82
(1/4689)
{ أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (عبس : 42) فلا يخلو إما أن يكون المراد { أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ} الذين يكونون من جنس الفجرة أو المراد { أولئك هُمُ الْكَفَرَةُ} وهم {الْفَجَرَةُ} والأول : باطل لأن كل كافر فهو فاجر بالإجماع ، فتقييد الكافر بالكافر / الذي يكون من جنس الفجرة عبث ، وإذا بطل هذا القسم بقي الثاني ، وذلك يفيد الحصر ، وإذا دلت هذه الآية على أن الكفار هم الفجرة لا غيرهم ، ثبت أن صاحب الكبيرة ليس بفاجر على الإطلاق ، سلمنا إن الفجار يدخل تحته الكافر والمسلم ، لكن قوله : {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} معناه أن مجموع الفجار لا يكونون غائبين ، ونحن نقول بموجبه : فإن أحد نوعي الفجار وهم الكفار لا يغيبون ، وإذا كان كذلك ثبت أن صدق قولنا إن الفجار بأسرهم لا يغيبون ، يكفي فيه أن لا يغيب الكفار ، فلا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون ، سلمنا ذلك لكن قوله : {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} يقتضي كونهم في الحال في الجحيم وذلك كذب/ فلا بد من صرفه عن الظاهر ، فهم يحملونه على أنهم بعد الدخول في الجحيم يصدق عليهم قوله : {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآاـاِبِينَ} ونحن نحمل ذلك على أنهم في الحال ليسوا غائبين عن استحقاق الكون في الجحيم ، إلا أن ثبوت الاستحقاق لا ينافي العفو ، سلمنا ذلك لكنه معارض بالدلائل الدالة على العفو وعلى ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر ، والترجيح لهذا الجانب ، لأن دليلهم لا بد وأن يتناول جميع الفجار في جميع الأوقات ، وإلا لم يحصل مقصودهم ، ودليلنا يكفي في صحته تناوله لبعض الفجار في بعض الأوقات ، فدليلهم لا بد وأن يكون عاماً ، ودليلنا لا بد وأن يكون خاصاً والخاص مقدم على العام ، والله أعلم.
المسألة الثانية : فيه تهديد عظيم للعصاة حكي أن سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة ، فقال لأبي حازم : كيف القدوم على الله غداً ؟
قال : أما المحسن فكالغائب يقدم من سفره على أهله ، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه ، قال : فبكى ، ثم قال : ليت شعري ما لنا عند الله فقال أبو حازم : أعرض عملك على كتاب الله ، قال : في أي مكان من كتاب الله ؟
قال : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} وقال جعفر الصادق عليه السلام : النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم ظلمات الشهوات وقال بعضهم : النعيم القناعة ، والجحيم الطمع ، وقيل : النعيم التوكل ، والجحيم الحرص ، وقيل : النعيم الاشتغال بالله ، والجحيم الاشتغال بغير الله تعالى.
جزء : 31 رقم الصفحة : 82
84
النوع الرابع : من تفاريع الحشر تعظيم يوم القيامة ، وهو قوله تعالى : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْـاًا وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في الخطاب في قوله : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ} فقال بعضهم : هو خطاب للكافر على وجه الزجر له ، وقال الأكثرون : إنه خطاب للرسول ، وإنما خاطبه بذلك لأنه ما كان عالماً بذلك قبل الوحي.
/ المسألة الثانية : الجمهور على أن التكرير في قوله : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} لتعظيم ذلك اليوم ، وقال الجبائي : بل هو لفائدة مجددة ، إذ المراد بالأول أهل النار ، والمراد بالثاني أهل الجنة ، كأنه قال : وما أدراك ما يعامل به الفجار في يوم الدين ؟
ثم ما أدراك ما يعامل به الأبرار في يوم الدين ؟
وكرر يوم الدين تعظيماً لما يفعله تعالى من الأمرين بهذين الفريقين.
المسألة الثالثة : في : {يَوْمَ لا تَمْلِكُ} قراءتان الرفع والنصب ، أما الرفع ففيه وجهان أحدهما : على البدل من يوم الدين والثاني : أن يكون بإضمار هو فيكون المعنى هو يوم لا تملك ، وأما النصب ففيه وجوه أحدها : بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه وثانيها : بإضمار اذكروا وثالثها : ما ذكره الزجاج يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه يبنى على الفتح لإضافته إلى قوله : {لا تَمْلِكُ} وما أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح ، وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال :
لم يمنع الشرب منهم غير أن نطقت
حمامة في غصون ذات أو قال
(1/4690)
فبنى غير على الفتح لما أضيف إلى قوله إن نطقت ، قال الواحدي : والذي ذكره الزجاج من البناء على الفتح إنما يجوز عند الخليل وسيبويه ، إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي ، نحو قولك على حين عاتبت ، أما مع الفعل المستقبل ، فلا يجوز البناء عندهم ، ويجوز ذلك في قول الكوفيين ، وقد ذكرنا هذه المسألة عند قوله : {هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } (المائدة : 119) ورابعها : ما ذكره أبو علي وهو أن اليوم لما جرا في أكثر الأمر ظرفاً ترك على حالة الأكثرية ، والدليل عليه إجماع القراء والعرب في قوله : {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَالِكَ } (الأعراف : 168) ولا يرفع ذلك أحد. ومما يقوي النصب قوله : {وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} (القارعة : 4,3) وقوله : {يَسْاَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات : 13,12) فالنصب في {يَوْمَ لا تَمْلِكُ} مثل هذا.
جزء : 31 رقم الصفحة : 84
المسألة الرابعة : تمسكوا في نفي الشفاعة للعصاة بقوله : {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْاًا } وهو كقوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة : 48) والجواب : عنه قد تقدم في سورة البقرة.
المسألة الخامسة : أن أهل الدنيا كانوا يتغلبون على الملك ويعين بعضهم بعضاً في أمور ، ويحمي بعضهم بعضاً ، فإذا كان يوم القيامة بطل ملك بنى الدنيا وزالت رياستهم ، فلا يحمي أحد أحداً ، ولا يغني أحد عن أحد ، ولا يتغلب أحد على ملك ، ونظيره قوله : {وَالامْرُ يَوْمَا ِذٍ لِّلَّهِ} وقوله : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة : 4) وهو وعيد عظيم من حيث إنه عرفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. قال الواحدي : والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحداً شيئاً من الأمور ، كما ملكهم في دار الدنيا. قال الواسطي : في قوله : {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْاًا } إشارة إلى فناء غير الله تعالى ، وهناك تذهب الرسالات والكلمات والغايات ، فمن كانت صفته في الدنيا كذلك كانت دنياه أخراه.
وأما قوله : {وَالامْرُ يَوْمَا ِذٍ لِّلَّهِ} فهو إشارة إلى أن البقاء والوجود لله ، والأمر كذلك في الأزل وفي اليوم وفي الآخرة ، ولم يتغير من حال إلى حال ، فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر ، لا إلى أحوال المنظور إليه ، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات ، كما قال : لو كشف / الغطاء ما ازددت يقيناً ، وكحارثة لما أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلّم يقول : "كأني أنظر وكأني وكأني" والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 84
85
(1/4691)
سورة المطففين
ثلاثون وست آيات مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 85
90
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} .
/ اعلم أن اتصال أول هذه السورة بآخر السورة المتقدمة ظاهر ، لأنه تعالى بين في آخر تلك السورة أن يوم القيامة يوم من صفته أنه لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر كله لله وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة ، فلهذا أتبعه بقوله : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} والمراد الزجر عن التطفيف ، وهو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية ، وذلك لأن الكثير يظهر فيمنع منه ، وذلك القليل إن ظهر أيضاً منع منه ، فعلمنا أن التطيف هو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية ، وههنا مسائل :
المسألة الأول : الويل ، كلمة تذكر عند وقوع البلاء ، يقال : ويل لك ، وويل عليك.
المسألة الثانية : في اشتقاق لفظ المطفف قولان الأول : أن طف الشيء هو جانبه وحرفه ، يقال : طف الوادي والإناء ، إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه ولم يمتلىء فهو طفافه وطفافه وطففه ، ويقال : هذا طف المكيال وطفافه ، إذا قارب ملأه لكنه بعد لم يمتلىء ، ولهذا قيل : الذي يسيء الكيل ولا يوفيه مطفف ، يعني أنه إنما يبلغ الطفاف والثاني : وهو قول الزجاج : أنه إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف ، لأنه يكون الذي لا يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف ، وههنا سؤالات :
الأول : وهو أن الاكتيال الأخذ بالكيل ، كالاتزان الأخذ بالوزن ، ثم إن اللغة المعتادة أن يقال : اكتلت من فلان ، ولا يقال : اكتلت على فلان ، فما الوجه فيه ههنا ؟
.
الجواب : من وجهين الأول : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرار بهم وتحامل عليهم ، أقيم على مقام من الدالة على ذلك الثاني : قال الفراء : المراد اكتالوا من الناس ، وعلى ومن / في هذا الموضع يعتقبان لأنه حق عليه ، فإذا قال اكتلت عليك ، فكأنه قال أخذت ما عليك ، وإذا قال اكتلت منك ، فهو كقوله استوفيت منك.
السؤال الثاني : هو أن اللغة المعتادة أن يقال كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، ولا يقال كلته ووزنته فما وجه قوله تعالى : {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ} ؟
والجواب من وجوه : الأول : أن المراد من قوله (كالوهم أو وزنوهم) كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف الجار وأوصل الفعل. قال الكسائي والفراء : وهذا من كلام أهل الحجاز ، ومن جاورهم يقولون : زنى كذا ، كلى كذا ، ويقولون صدتك وصدت لك ، وكسبتك وكسبت لك ، فعلى هذا الكناية في كالوهم ووزنوهم في موضع نصب الثاني : أن يكون على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، والتقدير : وإذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا موزونهم الثالث : يروى عن عيسى بن عمر ، وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيداً لما في كالوا ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا ، وزعم الفراء والزجاج أنه غير جائز ، لأنه لو كان بمعنى كالوهم لكان في المصحف ألف مثبتة قبل هم ، واعترض صاحب "الكشاف" على هذه الحجة ، فقال إن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الحظ والجواب أن إثبات هذه الألف لو لم يكن معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباتها في سائر الأعصار ، لما أنا نعلم مبالغتهم في ذلك ، فثبت أن إثبات هذه الألف كان معتاداً في زمان الصحابة فكان يجب إثباته ههنا.
جزء : 31 رقم الصفحة : 90
السؤال الثالث : ما السبب في أنه قال : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا } ولم يقل إذا انزنوا/ ثم قال : {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ} فجمع بينهما ؟
أن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر
السؤال الرابع : اللغة المعتادة أن يقال خسرته ، فما الوجه في أخسرته ؟
الجواب قال الزجاج : أخسرت الميزان وخسرته سواء أي نقصته ، وعن المؤرج يخسرون ينقصون بلغة قريش.
المسألة الثالثة : عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم نبي الله المدينة كانوا من أبخس الناس كيلا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك ، وقيل كان أهل المدينة تجاراً يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقرأها عليهم ، وقال "خمس بخمس" قيل يا رسول الله ، وما خمس بخمس ؟
قال ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر".
المسألة الرابعة : الذم إنما لحقهم بمجموع أنهم يأخذون زائداً ، ويدفعون ناقصاً ، ثم اختلف العلماء ، فقال بعضهم : هذه الآية دالة على الوعيد ، فلا تتناول إلا إذا بلغ التطفيف حد الكثير ، وهو نصاب السرقة ، وقال آخرون بل ما يصغر ويكبر دخل تحت الوعيد ، لكن بشرط / أن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم منها ، وهذا هو الأصح.
المسألة الخامسة : احتج أصحاب الوعيد بعموم هذه الآية ، قالوا : وهذه الآية واردة في أهل الصلاة لا في الكفار ، والذي يدل عليه وجهان الأول : أنه لو كان كافراً لكان ذلك الكفر أولى باقتضاء هذا الويل من التطفيف ، فلم يكن حينئذ للتطفيف أثر في هذا الويل ، لكن الآية دالة على أن الموجب لهذا الويل هو التطفيف الثاني : أنه تعالى قال : للمخاطبين بهذه الآية : {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين : 5,4) فكأنه تعالى هدد المطففين بعذاب يوم القيامة ، والتهديد بهذا لا يحصل إلا مع المؤمن ، فثبت بهذين الوجهين أن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة والجواب : عنه ما تقدم مراراً ، ومن لواحق هذه المسألة أن هذا الوعيد يتناول من يفعل ذلك ومن يعزم عليه إذ العزم عليه أيضاً من الكبائر. واعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم ، وذلك لأن عامة الخلق يحتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر المكيال والميزان ، فلهذا السبب عظم الله أمره فقال : {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن : 9,7) وقال : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } (الحديد : 25) وعن قتادة : "أوف يا ابن آدم الكيل كما تحب أن يوفي لك ، واعدل كما تحب أن يعدل لك" وعن الفضيل : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة ، وقال أعرابي لعبد الملك بن مروان : قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم في أخذ القليل ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ الكثير ، وتأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن.
جزء : 31 رقم الصفحة : 90
91
(1/4692)
اعلم أنه تعالى وبخ هؤلاء المطففين فقال : {أَلا يَظُنُّ أولئك } الذين يطففون {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} وهو يوم القيامة ، وفي الظن ههنا قولان : الأول : أن المراد منه العلم ، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدقين بالبعث ، ويحتمل أن لا يكونوا كذلك أما الاحتمال الأول : فهو ما روي أن المسلمين من أهل المدينة وهم الأوس والخزرج كانوا كذلك ، وحين ورد النبي صلى الله عليه وسلّم كان ذلك شائعاً فيهم ، وكانوا مصدقين بالبعث والنشور ، فلا جرم ذكروا به ، وأما إن قلنا : بأن المخاطبين بهذه الآية ما كانوا مؤمنين بالبعث إلا أنهم كانوا متمكنين من الاستدلال عليه ، لما في العقول من إيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء ، أو / إمكان ذلك إن لم يثبت وجوبه ، وهذا مما يجوز أن يخاطب به من ينكر البعث ، والمعنى ألا يتفكرون حتى يعلموا أنهم مبعوثون ، لكنهم قد أعرضوا عن التفكر ، وأراحوا أنفسهم عن متاعبه ومشاقه ، وإنما يجعل العلم الاستدلال ظناً ، لأن أكثر العلوم الاستدلالية راجع إلى الأغلب في الرأي ، ولم يكن كالشك الذي يعتدل الوجهان فيه لا جرم سمي ذلك ظناً القول الثاني : أن المراد من الظن ههنا هو الظن نفسه لا العلم ، ويكون المعنى أن هؤلاء المطففين هب أنهم لا يجزمون بالبعث ولكن لا أقل من الظن ، فإن الأليق بحكمة الله ورحمته ورعايته مصالح خلقه أن لا يهمل أمرهم بعد الموت بالكلية ، وأن يكون لهم حشر ونشر ، وأن هذا الظن كاف في حصول الخوف ، كأنه سبحانه وتعالى يقول : هب أن هؤلاء لا يقطعون به أفلا يظنونه أيضاً ، فأما قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء {يَوْمَ} بالنصب والجر ، أما النصب فقال الزجاج : يوم منصوب بقوله {مَّبْعُوثُونَ} والمعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة ، وقال الفراء : وقد يكون في موضع خفض إلا أنه أضيف إلى يفعل فنصب ، وهذا كما ذكرنا في قوله : {يَوْمَ لا تَمْلِكُ} وأما الجر فلكونه بدلاً من {يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
جزء : 31 رقم الصفحة : 91
المسألة الثانية : هذا القيام له صفات :
الصفة الأولى : سببه وفيه وجوه أحدها : وهو الأصح أن الناس يقومون لمحاسبة رب العالمين ، فيظهر هناك هذا التطفيف الذي يظن أنه حقير ، فيعرف هناك كثرته واجتماعه ، ويقرب منه قوله تعالى : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} (الرحمن : 46) وثانيها : أنه سبحانه يرد الأرواح إلى أجسادها فتقوم تلك الأجساد من مراقدها ، فذاك هو المراد من قوله : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} وثالثها : قال أبو مسلم معنى : {يَقُومُ النَّاسُ} هو كقوله : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَـانِتِينَ} (البقرة : 238) أي لعبادته فقوله : {يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} أي لمحض أمره وطعته لا لشيء آخر ، على ما قرره في قوله : {وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ} .
الصفة الثانية : كيفية ذلك القيام ، روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} قال : "يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" وعن ابن عمر : أنه قرأ هذه السورة ، فلما بلغ قوله {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} بكى نحيباً حتى عجز عن قراءة ما بعده".
الصفة الثالثة : كمية ذلك القيام ، روى عنه عليه السلام أنه قال : "يقوم الناس مقدار ثلثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر" وعن ابن مسعود : "يمكثون أربعين عاماً ثم يخاطبون" وقال ابن عباس : وهو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة.
(1/4693)
واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعاً من التهديد ، فقال أولا : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين : 1) وهذه / الكلمة تذكر عند نزول البلاء ، ثم قال ثانياً : {أَلا يَظُنُّ أولئك } وهو استفهام بمعنى الإنكار ، ثم قال ثالثاً : {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة ، ثم قال رابعاً : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} وفيه نوعان من التهديد أحدهما : كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والانكسار والثاني : أنه وصف نفسه بكونه رباً للعالمين ، ثم ههنا سؤال وهو كأنه قال قائل : كيف يليق بك مع غاية عظمتك أي تهيء هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لأجل الشيء الحقير الطفيف ؟
فكأنه سبحانه يجيب ، فيقول عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة والعظمة في الحكمة ، فعظمة القدرة ظهرت بكوني رباً للعالمين ، لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن انتصف للمظلوم من الظالم بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف ، فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم ، فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة ، وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصب والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة ، والذي يرى عيب الناس ، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ، ومن طلب حق نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه ، فهو من هذه الجملة والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقاً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 91
93
/ واعلم أنه سبحانه لما بين عظم هذا الذنب أتبعه بذكر لواحقه وأحكامه فأولها : قوله : {كَلا} والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول : أنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ماهم عليه من التطفيف والغفلة ، عن ذكر البعث والحساب فليرتدعوا ، وتمام الكلام ههنا الثاني : قال أبو حاتم : {كَلا} ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقاً {إِنَّ كِتَـابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ} وهو قول الحسن.
النوع الثاني : أنه تعالى وصف كتاب الفجار بالخيبة والحقارة على سبيل الاستخفاف بهم ، وههنا سؤالات.
السؤال الأول : السجين اسم علم لشيء معين أو اسم مشتق عن معنى ؟
قلنا فيه قولان :
الأول : وهو قول جمهور المفسرين : أنه اسم علم على شيء معين ، ثم اختلفوا فيه ، فالأكثرون على أنه الأرض السابعة السفلى ، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد ، وروى البراء أنه عليه السلام قال : "سجين أسفل سبع أرضين" قال عطاء الخراساني : وفيها إبليس وذريته ، وروى أبو هريرة أنه عليه السلام قال : "سجين جب في جهنم" وقال الكلبي ومجاهد : سجين صخرة تحت الأرض السابعة.
القول الثاني : أنه مشتق وسمي سجيناً فعيلاً من السجن ، وهو الحبس والتضييق كما يقال : فسيق من الفسق ، وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج ، قال الواحدي : وهذا ضعيف والدليل على أن سجيناً ليس مما كانت العرب تعرفه قوله : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ} أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وقومك. ولا أقول هذا ضعيف ، فلعله إنما ذكر ذلك تعظيماً لأمر سجين. كما في قوله : {بِغَآاـاِبِينَ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} (الإنفطار : 17) قال صاحب "الكشاف" : والصحيح أن السجين فعيل مأخوذ من السجن ، ثم إنه ههنا اسم علم منقول من صف كحاتم وهو منصرف ، لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف ، إذا عرفت هذا ، فنقول قد ذكرنا أن الله تعالى أجرى أموراً مع عباده على ما تعارفوه من التعامل فيما بينهم وبين عظمائهم. فالجنة موصوفة بالعلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين ، والسجين موصوف بالتسفل والظلمة والضيق وحضور الشياطين الملعونين ، ولا شك أن العلو والصفاء والفسحة وحضور الملائكة المقربين ، كل ذلك من صفات الكمال والعزة ، وأضدادها من صفات النقص والذلة ، فلما أريد وصف الكفرة وكتابهم بالذلة والحقارة ، قيل : إنه في موضع التسفل والظلمة والضيق ، وحضور الشياطين ، ولما وصف كتاب الأبرار بالعزة قيل : إنه {لَفِى عِلِّيِّينَ} (المطففين : 18). و{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} .
/
جزء : 31 رقم الصفحة : 93
(1/4694)
السؤال الثاني : قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه {لَفِى سِجِّينٍ} ثم فسر سجيناً بـ {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه ؟
أجاب القفال : فقال قوله : {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} ليس تفسيراً لسجين ، بل التقدير : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ، وإن كتاب الفجار كتاب مرقوم ، فيكون هذا وصفاً لكتاب الفجار بوصفين أحدهما : أنه في سجين والثاني : أنه مرقوم ، ووقع قوله : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا سِجِّينٌ} فيما بين الوصفين معترضاً ، والله أعلم. والأولى أن يقال : وأي استبعاد في كون أحد الكتابين في الآخر ، إما بأن يوضع كتاب الفجار في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إلى في تفصيل أحوال الأشقياء ، أو بأن ينقل ما في كتاب الفجار إلى ذلك الكتاب المسمى بالسجين ، وفيه وجه ثالث : وهو أن يكون المراد من الكتاب ، الكتابة فيكون في المعنى : كتابة الفجار في سجين ، أي كتابة أعمالهم في سجين ، ثم وصف السجين بأنه {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} فيه جميع أعمال الفجار.
السؤال الثالث : ما معنى قوله : {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} ؟
قلنا فيه وجوه : أحدها : مرقوم أي مكتوبة أعمالهم فيه وثانيها : قال قتادة : رقم لهم بسوء أي كتب لهم بإيجاب النار وثالثها : قال القفال : يحتمل أن يكون المراد أنه جعل ذلك الكتاب مرقوماً ، كما يرقم التاجر ثوبه علامة لقيمته ، فكذلك كتاب الفاجر جعل مرقوماً برقم دال على شقاوته ورابعها : المرقوم : ههنا المختوم ، قال الواحدي : وهو صحيح لأن الختم علامة ، فيجوز أن يسمى المرقوم مختوماً وخامسها : أن المعنى كتاب مثبت عليهم كالرقم في الثوب ينمحي ، أما قوله : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ففيه وجهان أحدهما : أنه متصل بقوله : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} أي : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (المطففين : 83) ويل لمن كذب بأخبار الله والثاني : أن قوله : {مَّرْقُومٌ} معناه رقم برقم يدل على الشقاوة يوم القيامة ، ثم قال : {وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} في ذلك اليوم من ذلك الكتاب ، ثم إنه تعالى أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين فقال : {وَمَا يُكَذِّبُ بِه إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} ومعناه أنه لا يكذب بيوم الدين إلا من كان موصوفاً بهذه الصفات الثلاثة فأولها : كونه معتدياً ، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحق وثانيها : الأثيم وهو مبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي. وأقول الإنسان له قوتان قوة نظرية وكمالها في أن يعرف الحق لذاته ، وقوة عملية وكمالها في أن يعرف الخير لأجل العمل به ، وضد الأول أن يصف الله تعالى بما لا يجوز وصفه به ، فإن كل من منع من إمكان البعث والقيامة إنما منع إما لأنه لم يعلم تعلق علم الله بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات ، أو لأنه لم يعلم تعلق قدرة الله بجميع الممكنات. فهذا الاعتداء ضد القوة العملية ، هو الاشتغال بالشهوة والغضب وصاحبه هو الأثيم ، وذلك لأن المشتغل بالشهوة والغضب قلما يتفرغ للعبادة والطاعة ، وربما صار ذلك مانعاً له عن الإيمان بالقيامة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 93
(1/4695)
وأما الصفة الثالثة : للمكذبين بيوم الدين فهو قوله : {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} والمراد منه الذين ينكرون النبوة ، والمعنى إذا تلي عليه القرآن قال أساطير الأولين ، وفيه وجهان أحدهما : أكاذيب الأولين والثاني : أخبار الأولين وأنه عنهم أخذ أي يقدح في كون القرآن من عند الله بهذا الطريق ، وههنا بحث آخر : وهو أن هذه الصفات الثلاثة هل المراد منها شخص معين أولاً ؟
فيه قولان : الأول : وهو قول الكلبي : أن المراد منه الوليد بن المغيرة ، وقال آخرون : إنه النضر بن الحارث ، واحتج من قال : إنه الوليد بأنه تعالى قال في سورة ن : {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ} إلى قوله {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} إلى قوله {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ} (ن : 15,10) فقيل إنه : الوليد بن المغيرة ، وعلى هذا التقدير يكون المعنى : وما يكذب بيوم الدين من قريش أو من قومك إلا كل معتد أثيم/ وهذا هو الشخص المعين والقول الثاني : أنه عام في حق جميع الموصوفين بهذه الصفات ، أما قوله تعالى : {كَلا بَلْا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فالمعنى ليس الأمر كما يقوله من أن ذلك أساطير الأولين ، بل أفعالهم الماضية صارت سبباً لحصول الرين في قلوبهم ، ولأهلهم اللغة في تفسير لفظة الرين وجوه ، ولأهل التفسير وجوه أخر ، أما أهل اللغة فقال أبو عبيدة : ران على قلوبنهم غلب عليها والخمر ترين على عقل السكران ، والموت يرين على الميت فيذهب به ، قال الليث : ران النعاس والخمر في الرأس إذا رسخ فيه ، وهو يريد رينا ، وريوناً ، ومن هذا حديث عمر في أسيفع جهينة لما ركبه الدين "أصبح قد رين به" قال أبو زيد : يقال : رين بالرجل يران به ريناً إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه. قال أبو معاذ النحوي : الرين أن يسود القلب من الذنوب والطبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرين ، والأقفال أشد من الطبع ، وهو أن يقفل على القلب ، قال الزجاج : ران على قلوبهم بمعنى غطى على قلوبهم ، يقال : ران على قلبه الذنب يرين ريناً أي غشيه ، والرين كالصدإ يغشى القلب ومثله العين ، أما أهل التفسير ، فلهم وجوه : قال الحسن : ومجاهد هو الذنب على الذنب ، حتى تحيط الذنوب بالقلب ، وتغشاه فيموت القلب ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إياكم والمحقرات من الذنوب ، فإن الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيماً ضخمة" وعن مجاهد القلب كالكف ، فإذا أذنب الذنب انقبض ، وإذا أذنب ذنباً آخر انقبض ثم يطبع عليه وهو الرين ، وقال آخرون : كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب كله ، وروي هذا مرفوعاً في حديث أبي هريرة ، قلت : لا شك أن تكرر الأفعال سبب لحصول ملكة نفسانية ، فإن من أراد تعلم الكتابة فكلما كان إتيانه بعمل الكتابة أكثر كان اقتداره على عمل الكتابة أتم ، إلى أن يصير بحيث يقدر على الإتيان بالكتابة من غير روية ولا فكرة ، فهذه الهيئة النفسانية ، لما تولدت من تلك الأعمال الكثيرة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الهيئة النفسانية ، إذا عرفت هذا فنقول : إن الإنسان إذا واظب على الإتيان ببعض أنواع الذنوب ، حصلت في قلبه ملكة نفسانية على الإتيان بذلك الذنب ، ولا معنى للذنب إلا ما يشغلك بغير الله ، وكل ما يشغلك بغير الله فهو / ظلمة ، فإذن الذنوب كلها ظلمات وسواد ، ولكل واحد من الأعمال السالفة التي أورث مجموعها حصول تلك الملكة أثر في حصولها ، فذلك هو المراد من قولهم : كلما أذنب الإنسان حصلت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود القلب ، ولما كانت مراتب الملكات في الشدة والضعف مختلفة ، لا جرم كانت مراتب هذا السواد والظلمة مختلفة ، فبعضها يكون ريناً وبعضها طبعاً وبعضها أقفالاً ، قال القاضي ليس المراد من الرين أن قلبهم قد تغير وحصل فيه منع ، بل المراد أنهم صاروا لإيقاع الذنب حالاً بعد حال متجرئين عليه وقويت دواعيهم إلى ترك التوبة وترك الإقلاع ، فاستمروا وصعب الأمر عليهم ، ولذلك بين أن علة الرين كسبهم ، ومعلوم إن إكثارهم من اكتساب الذنوب لا يمنع من الإقلاع والتوبة ، وأقول قد بينا أن صدور الفعل حال استواء الداعي إلى الفعل ، والداعي إلى الترك محال لامتناع ترجيح الممكن من غير مرجح ، فبأن يكون ممتنعاً حال المرجوحية كان أولى ، ولما سلم القاضي أنهم صاروا بسبب الأفعال السالفة راجحاً ، فوجب أن يكون الإقلاع في هذه الحالة ممتنعاً ، وتمام الكلام قد تقدم مراراً في هذا الكتاب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 93
(1/4696)
أما قوله تعالى : {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فاعلم أنهم ذكروا في {كَلا} وجوهاً أحدها : قال صاحب "الكشاف" : {كَلا} ردع عن الكسب الرائن عن قلوبهم وثانيها : قال القفال : إن الله تعالى حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم أنه كان يقول إن كانت الآخرة حقاً ، فإن الله تعالى يعطيه مالاً وولداً ، ثم إنه تعالى كذبه في هذه المقالة فقال : {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـن ِ عَهْدًا} (مريم : 78) قال : {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لاجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} (فصلت : 50) ولما كان هذا مما قد تردد ذكره في القرآن ترك الله ذكره ههنا وقال : {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي ليس الأمر كما يقولون : من أن لهم في الآخرة حسنى بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وثانيها : أن يكون ذلك تكريراً وتكون {كَلا} هذه هي المذكورة في قوله : {كَلا بَلْا رَانَ} أما قوله : {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} فقد احتج الأصحاب على أن المؤمنين يرونه سبحانه قالوا : ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة ، وفيه تقرير آخر وهو أنه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد والتهديد للكفار ، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمن ، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمن أجابت المعتزلة عن هذا من وجوه أحدها : قال الجبائي : المراد أنهم عن رحمة ربهم محجوبون أي ممنوعون ، كما يقال في الفرائض : الإخوة يحجبون الأم على الثلث ، ومن ذلك يقال : لمن يمنع عن الدخول هو حاجب ، لأنه يمنع من رؤيته وثانيها : قال أبو مسلم : {لَّمَحْجُوبُونَ} أي غير مقربين ، والحجاب الرد وهو ضد القبول ، والمعنى هؤلاء المنكرون للبعث غير مقبولين عند الله وهو المراد من قوله تعالى : {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} (آل عمران) ، وثالثها : قال القاضي : الحجاب ليس عبارة عن عدم الرؤية ، فإنه قد يقال : حجب فلان عن الأمير ، وإن كان قد رآه / من البعد ، وإذا لم يكن الحجاب عبارة عن عدم الرؤية سقط الاستدلال ، بل يجب أن يحمل على صيرورته ممنوعاً عن وجدان رحمته تعالى ورابعها : قال صاحب "الكشاف" : كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للمكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا المهانون عندهم والجواب : لا شك أن من منع من رؤية شيء يقال : إنه حجب عنه ، وأيضاً من منع من الدخول على الأمير يقال : إنه حجب عنه ، وأيضاً يقال الأم حجبت عن الثلث بسبب الإخوة ، وإذا وجدنا هذه الاستعمالات وجب جعل اللفظ حقيقة في مفهوم مشترك بين هذه المواضع دفعاً للاشتراك في اللفظ ، وذلك هو المنع. ففي الصورة الأولى حصل المنع من الرؤية ، وفي الثاني حصل المنع من الوصول إلى قربه ، وفي الثالثة : حصل المنع من استحقاق الثلث ، فيصير تقدير الآية : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لممنوعون ، والمنع إنما يتحقق بالنسبة إلى ما يثبت للعبد بالنسبة إلى الله تعالى ، وهو إما العلم ، وإما الرؤية ، ولا يمكن حمله على العلم ، لأنه ثابت بالاتفاق للكفار ، فوجب حمله على الرؤية. أما صرفه إلى الرحمة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل ، وكذا ما قاله صاحب "الكشاف" : ترك للظاهر من غير دليل ، ثم الذي يؤكد ما ذكرناه من الدليل أقوال المفسرين. قال مقاتل : معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب ، لا يرون ربهم ، والمؤمنون يرون ربهم ، وقال الكلبي : يقول إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون ، والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه ، وسئل مالك بن أنس عن هذه الآية ، فقال : لما حجب أعداءه فلم يروه لا بد وأن يتجلى لأوليائه حتى يروه ، وعن الشافعي لما حجب قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا ، أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 93
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} فالمعنى لما صاروا محجوبين في عرصة القيامة إما عن رؤية الله على قولنا/ أو عن رحمة الله وكرامته على قول المعتزلة ، فعند ذلك يؤمر بهم إلى النار ثم إذا دخلوا النار ، وبخوا بتكذيبهم بالبعث والجزاء ، فقيل لهم : {هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِه تُكَذِّبُونَ} في الدنيا ، والآن قد عاينتموه فذوقوه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 93
96
(1/4697)
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الفجار المطففين ، أتبعه بذكر حال الأبرار الذين لا يطففون ، فقال : {كَلا} أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث ومن أن كتاب الله أساطير الأولين. واعلم أن لأهل اللغة في لفظ {عِلِّيِّينَ} أقوالاً ، ولأهل التفسير أيضاً أقوالاً ، أما أهل اللغة قال / أبو الفتح الموصلي : {عِلِّيِّينَ} جمع علي وهو فعيل من العلو ، وقال الزجاج : إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع ، كما تقول : هذه قنسرون ورأيت قنسرين ، وأما المفسرون فروي عن ابن عباس أنها السماء الرابعة ، وفي رواية أخرى إنها السماء السابعة ، وقال قتادة ومقاتل : هي قائمة العرش اليمنى فوق السماء السابعة ، وقال الضحاك : هي سدرة المنتهى ، وقال الفراء : يعني ارتفاعاً بعد ارتفاع لا غاية له ، وقال الزجاج : أعلى الأمكنة ، وقال آخرون : هي مراتب عالية محفوظة بالجلالة قد عظمها الله وأعلى شأنها ، وقال آخرون : عند كتاب أعمال الملائكة ، وظاهر القرآن يشهد لهذا القول الأخير لأنه تعالى قال لرسوله : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا عِلِّيُّونَ} تنبيهاً له على أنه معلوم له ، وأنه سيعرفه ثم قال : {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} فبين أن كتابهم في هذا الكتاب المرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة ، فكأنه تعالى كما وكلهم باللوح المحفوظ فكذلك يوكلهم بحفظ كتب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له ولا يمتنع أن الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار فإنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار ، فلذلك يحاسبون حساباً يسيراً ، لأن هؤلاء المقربين يشهدون لهم بما حفظوه من أعمالهم ، وإذا كان هذا الكتاب في السماء صح قول من تأول ذلك على أنه في السماء العالية ، فتتقارب الأقوال في ذلك ، وإذا كان الذي ذكرناه أولى.
واعلم أن المعتمد في تفسير هذه الآية ما بينا أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة ، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة ، فلما كان المقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين ، وفي أضيق المواضع إذلال الفجار وتحقير شأنهم ، كان المقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين ، وشهادة الملائكة لهم بذلك إجلالهم وتعظيم شأنهم ، وفي الآية وجه آخر ، وهو أن المراد من الكتاب الكتابة ، فيكون المعنى أن كتابة أعمال الأبرار في عليين ، ثم وصف عليين بأنه كتاب مرقوم فيه جميع أعمال الأبرار ، وهو قول أبي مسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 96
أما قوله تعالى : {كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ} ففيه تأويلان أحدهما : أن المراد بالكتاب المرقوم كتاب أعمالهم والثاني : أنه كتاب موضوع في عليين كتب فيه ما أعد الله لهم من الكرامة والثواب ، واختلفوا في ذلك الكتاب ، فقال مقاتل : إن تلك الأشياء مكتوبة لهم في ساق العرش. وعن ابن عباس أنه مكتوب في لوح من زبرجد معلق تحت العرش. وقال آخرون : هو كتاب مرقوم بما يوجب سرورهم ، وذلك بالضد من رقم كتاب الفجار بما يسوءهم ، ويدل على هذا المعنى قوله : {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} يعني الملائكة الذي هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب ، ومن قال : إنه كتاب الأعمال ، قال : يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة كرامة للمؤمن.
جزء : 31 رقم الصفحة : 96
96
/ اعلم أنه سبحانه وتعالى لما عظم كتابهم في الآية المتقدمة عظم بهذه الآية منزلتهم ، فقال : {إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ} ثم وصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة أولها : قوله : {عَلَى الارَآاـاِكِ يَنظُرُونَ} قال القفال : الأرائك الأسرة في الحجال ، ولا تسمى أريكة فيما زعموا إلا إذا كانت كذلك ، وعن الحسن : كنا لا ندري ما الأريكة حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن أخبرنا أن الأريكة عندهم ذلك.
(1/4698)
أما قوله : {يَنظُرُونَ} ففيه ثلاثة أوجه أحدها : ينظرون إلى أنواع نعمهم في الجنة من الحور العين والولدان ، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها ، قال عليه السلام : "يلحظ المؤمن فيحيط بكل ما آتاه الله وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا" والثاني : قال مقاتل : ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون في النار والثالث : إذا اشتهوا شيئاً نظروا إليه فيحضرهم ذلك الشيء في الحال ، واعلم أن هذه الأوجه الثلاثة من باب أنواع جنس واحد وهو المنظور إليه ، فوجب حمل اللفظ على الكل ، ويخطر ببالي تفسير رابع : وهو أشرف من الكل وهو أنهم ينظرون إلى ربهم ويتأكد هذا التأويل بما إنه قال بعد هذه الآية : {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية الله تعالى على ما قال : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة : 23,22) ومما يؤكد هذا التأويل أنه يجب الابتداء بذكر أعظم اللذات ، وما هو إلا رؤية الله تعالى وثانيها : قوله تعالى : {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعنى إذا رأيتهم عرفت أنهم أهل النعمة بسبب ما ترى في وجوههم من القرائن الدالة على ذلك ثم في تلك القرائن قولان :
أحدهما : أنه ما يشاهد في وجوههم من الضحك والاستبشار ، على ما قال تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} (عبس : 39 ، 38).
/
جزء : 31 رقم الصفحة : 96
والثاني : قال عطاء إن الله تعالى يزيد في وجوههم من النور والحسن والبياض ما لا يصفه واصف ، وتفسير النضرة : قد سبق عند قوله : {نَّاضِرَةٌ} .
المسألة الثانية : قرىء : {تَعْرِفُ} على البناء للمفعول {جَنَّـاتِ النَّعِيمِ} بالرفع.
وثالثها : قوله : {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في بيان أن الرحيق ما هو ؟
قال الليث : الخمر. وأنشد لحسان.
بردى يصفق بالرحيق السلسل
وقال أبو عبيدة والزجاج : من الخمر ما لا غش فيه ولا شيء يفسده ، ولعله هو الخمر الذي وصفه الله تعالى بقوله : {لِّلشَّـارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ} (الصافات : 47).
المسألة الثانية : ذكر الله تعالى لهذا : صفات :
الصفة الأولى : قوله : {رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} وفيه وجوه : الأول : قال القفال : يحتمل أن هؤلاء يسقون من شراب مختوم قد ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان ، وهناك خمر آخر تجري منها أنهار كما قال : {وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّـارِبِينَ} (محمد : 15) إلا أن هذا المختوم أشرف في الجاري الثاني : قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج : المختوم الذي له ختام أي عاقبة والثالث : روي عن عبدالله في مختوم أنه ممزوج ، قال الواحدي : وليس بتفسير لأن الختم لا يكون تفسيره المزج ، ولكن لما كانت له عاقبة هي ريح المسك فسره بالممزوج ، لأنه لو لم يمتزج بالمسك لما حصل فيه ريح المسك الرابع : قال مجاهد مختوم مطين ، قال الواحدي : كان مراده من الختم بالطين ، هو أن لا تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار ، والأقرب من جميع هذه الوجوه الوجه الأول الذي ذكره القفال الصفة الثانية : لهذا الرحيق قوله : {خِتَـامُه مِسْكٌ } وفيه وجوه الأول : قال القفال : معناه أن الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق هو المسك ، كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير ، فكان ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم ، وهذا الوجه مطابق للوجه الأول الذي حكيناه عن القفال في تفسير قوله : {مَّخْتُومٍ} ، الثاني : المراد من قوله : {خِتَـامُه مِسْكٌ } أي عاقبته المسك أي يختم له آخره بريح المسك ، وهذا الوجه مطابق للوجه الذي حكيناه عن أبي عبيدة في تفسير قوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 96
(1/4699)
{مَّخْتُومٍ} كأنه تعالى قال من رحيق له عاقبة ، ثم فسر تلك العاقبة فقال : تلك العاقبة مسك أي من شربه كان ختم شربه على ريح المسك ، وهذا قول علقمة والضحاك وسعيد بن جبير ، ومقاتل وقتادة قالوا : إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك ، والمعنى لذاذة المقطع وذكاء الرائحة وأرجها ، مع طيب الطعم ، والختام آخر كل شيء ، ومنه يقال : ختمت القرآن ، والأعمال بخواتيمها ويؤكده قراءة علي عليه السلام ، واختيار الكسائي فإنه يقرأ : (خاتمه مسك) أي آخره كما يقال : خاتم النبيين ، قال الفراء : وهما متقاربان في المعنى إلا أن الخاتم اسم والختام مصدر كقولهم : هو كريم الطباع والطابع الثالث : معناه خلطه مسك ، وذكروا أن فيه تطيباً لطعمه. وقيل : بل لريحه وأقول : لعل المراد أن الخمر الممزوج بهذه الأفاويه الحارة مما يعين على الهضم وتقوية / الشهوة ، فلعل المراد منه الإشارة إلى قوة شهوتهم وصحة أبدانهم ، وهذا القول رواه سعيد بن جبير عن الأسود عن عائشة تقول المرأة لقد أخذت ختم طيني ، أي لقد أخذت أخلاط طيني ، قال أبو الدرداء هو شراب أبيض مثل الفضة ، يحتمون به آخر شربهم ، لو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل فيه يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيب ريحه.
الصفة الثانية : قوله تعالى : {وَفِى ذَالِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـافِسُونَ} قال الواحدي : يقال : نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة إذا ضننت به ولم تحب أن يصير إليه ، والتنافس تفاعل منه كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به ، والمعنى : وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله.
واعم أن مبالغة الله تعالى في الترغيب فيه تدل على علو شأنه ، وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم ، لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء.
الصفة الرابعة : قوله تعالى : {وَمِزَاجُه مِن تَسْنِيمٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تسنيم علم لعين بعينها في الجنة سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه ، إما لأنها أرفع شراب في الجنة ، وإما لأنها تأتيهم من فوق ، على ما روي أنها تجري في الهواء مسنمة فتنصب في أوانيهم ، وإما لأنها لأجل كثرة ملئها وسرعته تعلو على كل شيء تمر به وهو تسنيمه ، أو لأنه عند الجري يرى فيه ارتفاع وانخفاض ، فهو التسنيم أيضاً ، وذلك لأن أصل هذه الكلمة للعلو والارتفاع ، ومنه سنام البعير وتسنمت الحائط إذا علوته ، وأما قول المفسرين : فروى ميمون بن مهران أن ابن عباس سأل عن تسنيم ، فقال هذا مما يقول الله : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17) ويقرب منه ما قال الحسن : وهو أنه أمر أخفاه الله تعالى لأهل الجنة قال الواحدي : وعلى هذا لا يعرف له اشتقاق وهو اسم معرفة ، وعن عكرمة : {مِن تَسْنِيمٍ} من تشريف :
جزء : 31 رقم الصفحة : 96
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر أن تسنيم عين يشرب بها المقربون ، قال ابن عباس : أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم ، لأنه يشربه المقربون صرفاً ، ويمزج لأصحاب اليمين.
واعلم أن الله تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام : المقربون ، وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، ثم إنه تعالى لما ذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون ؛ علمنا أن المذكورين في هذا الموضع هم أصحاب اليمين ، وأقول : هذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة ، فتسنيم أفضل أنها الجنة ، والمقربون أفضل أهل الجنة ، والتسنيم في الجنة الروحانية هو معرفة الله ولذة النظر إلى وجه الله الكريم ، والرحيق هو الابتهاج بمطالعة عالم الموجودات ، فالمقربون لا يشربون إلا من التسنيم ، أي لا يشتغلون إلا بمطالعة وجهه الكريم ، وأصحاب اليمين يكون شرابهم ممزوجاً ، فتارة يكون نظرهم إليه وتارة إلى مخلوقاته.
المسألة الثانية : عينا نصب على المدح وقال الزجاج : نصب على الحال ، وقوله : {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} كقوله : {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإنسان : 6) وقد مر.
جزء : 31 رقم الصفحة : 96
97
/ اعلم أنه سبحانه لما وصف كرامة الأبرار في الآخرة ذكر بعد ذلك قبح معاملة الكفار معهم في الدنيا في استهزائهم وضحكهم ، ثم بين أن ذلك سينقلب على الكفار في الآخرة ، والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجهين الأول : أن المراد من قوله : {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصى بن وائل السهمي كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم الثاني : جاء علي عليه السلام في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه ، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
(1/4700)
المسألة الثانية : أنه تعالى حكى عنهم أربعة أشياء من المعاملات القبيحة فأولها : قوله : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون أي يستهزئون بهم وبدينهم وثانيها : قوله : {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} أي يتفاعلون من الغمز ، وهو الإشارة بالجفن والحاجب ويكون الغمز أيضاً بمعنى العيب وغمزه إذا عابه ، وما في فلان غميزة أي ما يعاب به ، والمعنى أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء ويعيبونهم ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه وثالثها : قوله تعالى : {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى ا أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} معجبين بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا ، أو يتفكهون بذكر المسلمين بالسوء ، قرأ عاصم في رواية حفص عنه : {فَكِهِينَ} بغير ألف في هذا الموضع وحده ، وفي / سائر القرآن {فَكِهِينَ} بالألف وقرأ الباقون فاكهين بالألف ، فقيل : هما لغتان ، وقيل : فاكهين أي متنعمين مشغولين بما هم فيه من الكفر والتنعم بالدنيا وفكهين معجبين ورابعها : قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَا ؤُلاءِ لَضَآلُّونَ} أي هم على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا ، وهذا آخر ما حكاه تعالى عن الكفار.
جزء : 31 رقم الصفحة : 97
ثم قال تعالى : {وَمَآ أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} يعني أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين ، يحفظون عليهم أحوالهم ويتفقدون ما يصنعونه من حق أو باطل ، فيعبون عليهم ما يعتقدونه ضلالاً ، بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم.
أما قوله تعالى : {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : المعنى أن في هذا اليوم الذي هو يوم تصقع الأعمال والمحاسبة يضحك المؤمن من الكافر ، وفي سبب هذا الضحك وجوه أحدها : أن الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس ، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء ، ولأنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء ، وأنهم قد باعوا باقياً بفان ويرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد/ ودخلوا الجنة فأجلسوا على الأرائك ينظرون إليهم كيف يعذبون في النار وكيف يصطرخون فيها ويدعون بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضاً الثاني : قال أبو صالح : يقال لأهل النار وهم فيها اخرجوا وتفتح لهم أبوابها ، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذاك هو سبب الضحك.
المسألة الثانية : قوله : {عَلَى الارَآا ِكِ يَنظُرُونَ} حال من يضحكون أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر.
ثم قال تعالى : {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ثوب بمعنى أثيب أي الله المثيب ، قال أوس :
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثني عليك وتحمدي
قال المبرد : وهو فعل من الثواب ، وهو ما يثوب أي يرجع إلى فاعله جزاء ما عمله من خير أو شر ، والثواب يستعمل في المكافأة بالشر ، ونشد أبو عبيدة :
ألا أبلغ أبا حسن رسولا
فما لك لا تجيء إلى الثواب
والأولى أن يحمل ذلك على سبيل التهكم كقوله : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان : 49) والمعنى كأنه تعالى يقول للمؤمنين : هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم ، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة ؟
فيكون هذا القول زائداً في سرورهم ، لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم ، والمقصود منها أحوال القيامة. والله أعلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 97
98
(1/4701)
سورة الانشقاق
وهي عشرون وخمس آيات مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 98
99
أما انشقاق السماء فقد مر شرحه في مواضع من القرآن ، وعن علي عليه السلام أنها تنشق من المجرة ، أما قوله : {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} ومعنى أذن له استمع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن" وأنشد أبو عبيدة والمبرد والزجاج قول قعنب :
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
والمعنى أنه لم يوجد في جرم السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله تعالى في شقها وتفريق أجزائها ، فكانت في قبول ذلك التأثير كالعبد الطائع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المالك أنصت له وأذعن ، ولم يمتنع فقوله : {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآا ِعِينَ} (فصلت : 11) يدل على نفاذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلاً ، وقوله ههنا : {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام والإفناء من غير ممانعة أصلاً ، وأما قوله : {وَحُقَّتْ} فهو من قولك هو محقوق بكذا ، وحقيق به. يعني وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع وذلك لأنه جسم ، وكل جسم فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإن الوجود والعدم بالنسبة إليه على السوية ، وكل ما كان كذلك ، كان ترجيح وجوده على عدمه أو ترجيح عدمه على وجوده ، لا بد وأن يكون بتأثير واجب الوجود وترجيحه فيكون تأثير قدرته في إيجاده ، وإعدامه ، نافذاً سارياً من غير ممانعة أصلاً ، وأما الممكن فليس له إلا القبول والاستعداد ، ومثل هذا الشيء حقيق به أن يكون قابلاً للوجود تارة ، وللعدم أخرى من واجب الوجود ، أما قوله : {وَإِذَا الارْضُ مُدَّتْ} ففيه وجهان الأول : أنه مأخوذ من مد الشيء فامتد ، وهو أن تزال حبالها بالنسف كما قال : {وَيَسْاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} طه : 105) يسوي ظهرها ، كما قال : {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} (طه : 105,106) وعن ابن عباس مدت مد الأديم /الكاظمي ، لأن الأديم إذا مد زال كل انثناء فيه واستوى والثاني : أنه مأخوذ من مده بمعنى أمده أي يزاد في سعتها يوم القيامة لوقوف الخلائق عليها للحساب ، واعلم أنه لا بد من الزيادة في وجه الأرض سواء كان ذلك بتمديدها أو بإمدادها ، لأن خلق الأولين والآخرين لما كانوا واقفين يوم القيامة على ظهرها ، فلا بد من الزيادة في طولها وعرضها ، أما قوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 99
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} فالمعنى أنها لما مدت رمت بما في جوفها من الموتى والكنوز ، وهو كقوله : {وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة : 2) {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} (الإنفطار : 4) {بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ} (العاديات : 9) وكقوله : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ كِفَاتًا * أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا} (المرسلات : 26,25) وأما قوله : {وَتَخَلَّتْ} فالمعنى وخلت غاية الخلو حتى لم يبق في باطنها شيء كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو ، كما يقال : تكرم الكريم ، وترحم الرحيم. إذا بلغا جهدهما في الكرم الرحمة وتكلفاً فوق ما في طبعهما ، واعلم أن التحقيق أن الله تعالى هو الذي أخرج تلك الأشياء من بطن الأرض إلى ظهرها ، لكن الأرض وصفت بذلك على سبيل التوسع ، وأما قوله : {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} فقد تقدم تفسيره إلا أن الأول في السماء وهذا في الأرض ، وإذا اختلف وجه الكلام لم يكن تكراراً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 99
99
اعلم أن قوله تعالى : {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} إلى قوله : {الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَانَ} (الإنشقاق : 6,1) شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه أحدها : قال صاحب الكشاف : حذف جواب إذاً ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل وثانيها : قال الفراء : إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف ، ونظيره قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر : 1) ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع وثالثها : قال بعض المحققين : الجواب هو قوله : {فَمُلَاقِيهِ} وقوله : {وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الانسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} (الإنشقاق : 6) معترض ، وهو كقول القائل إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر ، فكذا ههنا. والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله ورابعها : أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل : { يَا أَيُّهَا الانسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} (الإنشقاق : 1( وقامت القيامة وخامسها : قال الكسائي : إن الجواب في قوله : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَه } (الإنشقاق : 7) واعترض في الكلام قوله : {وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الانسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} والمعنى إذا السماء انشقت ، وكان كذا وكذا{فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَه بِيَمِينِه } (الإسراء : 71) فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ، ونظيره قوله تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (البقرة : 38) ، وسادسها : قال القاضي : إن الجواب ما دل عليه قوله : {إِنَّكَ كَادِحٌ} كأنه تعالى قال : يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم / أما قوله : {الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَانَ}
(1/4702)
جزء : 31 رقم الصفحة : 99
ففيه قولان : الأول : أن المراد جنس الناس كما يقال : أيها الرجل ، وكلكم ذلك الرجل ، فكذا ههنا. وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس ، قال القفال : وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك والثاني : أن المراد منه رجل بعينه ، وههنا فيه قولان : الأول : أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلّم والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل وهو غير ضائع عنده الثاني : قال ابن عباس : هو أُبيّ بن خلف ، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول عليه السلام ، والإصرار على الكفر ، والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة ، ولأن قوله : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه } (الإنشقاق : 7) {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه وَرَآءَ ظَهْرِه } (الإنشقاق : 10) كالنوعين له ، وذلك لا يتم إلا إذا كان جنساً ، أما قوله : {إِنَّكَ كَادِحٌ} فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه ، أما قوله : {إِلَى رَبِّكَ} ففيه ثلاثة أوجه أحدها : إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان ، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة ، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب ، ولما كانت كلمة إلى لانتهاء الغاية ، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة/ وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة ، وذلك معقول ، فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم ، فكما صح أن يقال : يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم ، فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصاً عن الكدح والظلمة فنرجوا من فضل الله أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك وثانيهما : قال القفال : التقدير إنك كادح في دنياك كدحاً تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى ههنا وثالثها : يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي ، فكأنه قال : ساع بعملك {إِلَى رَبِّكَ} أما قوله تعالى : {فَمُلَـاقِيهِ} ففيه قولان : الأول : قال الزجاج : فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه ، وقال آخرون : الضمير عائد إلى الكدح ، إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة ، فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه } .
جزء : 31 رقم الصفحة : 99
99
أما قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى ا أَهْلِه مَسْرُورًا} .
/ فالمعنى فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} وسوف من الله واجب وهو كقول القائل : اتبعني فسوف نجد خيراً ، فإنه لا يريد به الشك ، وإنما يريد ترقيق الكلام. والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله ، ويعرف أن الطاعة منها هذه ، والمعصية هذه ، ثم يثاب على الطاعة ويتجاوز عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة ، ولا يقال له : لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه ولا بالحجة عليه. فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذراً ولا حجة فيفتضح ، ثم إنه عند هذا الحساب اليسير يرجع إلى أهله مسروراً فائزاً بالثواب آمناً من العذاب ، والمراد من أهله أهل الجنة من الحور العين أو من زوجاته وذرياته إذا كانوا مؤمنين ، فدلت هذه الآية على أنه سبحانه أعد له ولأهله في الجنة ما يليق به من الثواب ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : اللهم حاسبني حساباً يسيراً ، قلت وما الحساب اليسير ؟
قال : ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته ، فأما من نوقش في الحساب فقد هلك" وعن عائشة قالت : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : من نوقش الحساب فقد هلك" فقلت : يا رسول الله إن الله يقول : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِيَمِينِه * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قال : "ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب عذب" وفي قوله : يحاسب إشكال لأن المحاسبة تكون بين اثنين ، وليس في القيامة لأحد قبل ربه مطالبة فيحاسبه وجوابه : أن العبد يقول : إلهي فعلت المعصية الفلانية ، فكأن ذلك بين الرب والعبد محاسبة والدليل على أنه تعالى خص الكفار بأنه لا يكلمهم ، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين والعبد يكلمه فكانت المكالمة محاسبة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 99
100
(1/4703)
أما قوله : {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه وَرَآءَ ظَهْرِه } فللمفسرين فيه وجوه أحدها : قال الكلبي : السبب فيه لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ويده اليسرى خلف ظهره وثانيها : قال مجاهد : تخلع يده اليسرى فتجعل من وراء ظهره وثالثها : قال قوم : يتحول وجهه في قفاه ، فيقرأ كتابه كذلك ورابعها : أنه يؤتي كتابه بشماله من وراء ظهره لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين يمنع من ذلك وأوتي من وراء ظهره بشماله فإن قيل أليس أنه قال في سورة الحاقة : {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَه بِشِمَالِه } (الحاقة : 25) ولم يذكر الظهر والجواب : من وجهين أحدهما : يحتمل أن يؤتى بشماله وراء ظهره على ما حكيناه عن الكلبي وثانيها : أن يكون بعضهم يعطى بشماله ، وبعضهم من وراء ظهره.
جزء : 31 رقم الصفحة : 100
100
أما قوله {فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا} فاعلم أن الثبور هو الهلاك ، والمعنى أنه لما أوتي كتابه من غير يمينه علم أنه من أهل النار فيقول : واثبوراه ، قال الفراء : العرب تقول فلان يدعوا لهفه ، إذا قال : والهفاه ، وفيه وجه آخر ذكره القفال ، فقال : الثبور مشتق من المثابرة على شيء ، وهي المواظبة عليه فسمي هلاك الآخرة ثبور لأنه لازم لا يزول ، كما قال : {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (الفرقان : 65) وأصل الغرام اللزوم والولوع.
جزء : 31 رقم الصفحة : 100
100
/ أما قوله تعالى : {وَيَصْلَى سَعِيرًا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : يقال : صلى الكافر النار ، قال الله تعالى : {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (النساء : 10) وقال : {وَنُصْلِه جَهَنَّمَ } (آل عمران : 115) وقال : {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 1) وقال : {لا يَصْلَـاـاهَآ إِلا الاشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى } (الليل : 16,15) والمعنى أنه إذا أعطى كتابه بشماله من وراء ظهره فإنه يدعو الثبور ثم يدخل النار ، وهو في النار أيضاً يدعو ثبوراً ، كما قال : {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (الفرقان : 13) وأحدهما لا ينفي الآخر ، وإنما هو على اجتماعهما قبل دخول النار وبعد دخولها ، نعوذ بالله منها ومما قرب إليها من قول أو عمل.
المسألة الثانية : قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو ويصلى بضم الياء والتخفيف كقوله : {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} وهذه القراءة مطابقة للقراءة المشهورة لأنه يصلى فيصلى أي يدخل النار. وقرأ ابن عامر ونافع والكسائي بضم الياء مثقلة كقوله : (وتصلية جحيم) وقوله : {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (الحاقة : 31).
جزء : 31 رقم الصفحة : 100
100
أما قوله تعالى : {إِنَّه كَانَ فِى أَهْلِه مَسْرُورًا} فقد ذكر القفال فيه وجهين أحدهما : أنه كان في أهله مسروراً أي منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والصوم والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله ولا يرجوه فأبدله الله بذلك السرور الفاني غماً باقياً لا ينقطع ، وكان المؤمن الذي أوتي كتابه بيمينه متقياً من المعاصي غير آمن من العذاب ولم يكن في دنياه مسروراً في أهله فجعله الله في الآخرة مسروراً فأبدله الله تعالى بالغم الفاني سروراً دائماً لا ينفذ الثاني : أن قوله : {إِنَّه كَانَ فِى أَهْلِه مَسْرُورًا} كقوله : {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى ا أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} (المطففين : 31) أي متنعمين في الدنيا معجبين بما هو عليه من الكفر فكذلك ههنا يحتمل أن يكون المعنى أنه كان في أهله مسروراً بما هم عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن به وصدق بالحساب ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
جزء : 31 رقم الصفحة : 100
104
أما قوله : {إِنَّه ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} فاعلم أن الحور هو الرجوع والمحار المرجع والمصير وعن ابن عباس. ما كنت أدرى ما معنى يحور ، حتى سمعت إعرابية تقول لابنتها حوري أي ارجعي ، ونقل القفال عن بعضهم أن الحور هو الرجوع إلى خلاف ما كان عليه المرء كما قالوا : "نعوذ بالله من الحور بعد الكور" فعلى الوجه الأول معنى الآية أنه ظن أن لن يرجع إلى الآخرة أي لن يبعث ، وقال مقاتل وابن عباس : حسب أن لا يرجع إلى الله تعالى ، وعلى الوجه الثاني أنه ظن أن لن يرجع إلى خلاف ما هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
104
ثم قال تعالى : {بَلَى } أي ليبعثن ، وعلى الوجه الثاني يكون المعنى أن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا ينتهي ولا يزول.
(1/4704)
/ أما قوله : {إِنَّ رَبَّه كَانَ بِه بَصِيرًا} فقال الكلبي : كان بصيراً به من يوم خلقه إلى أن بعثه ، وقال عطاء : بصيراً بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء ، وقال مقاتل : بصيراً متى بعثه ، وقال الزجاج : كان عالماً بأن مرجعه إليه ولا فائدة في هذه الأقوال ، إنما الفائدة في وجهين ذكرهما القفال الأول : أن ربه كان عالماً بأنه سيجزيه والثاني : أن ربه كان عالماً بما يعمله من الكفر والمعاصي فلم يكن يجوز في حكمته أن يهمله فلا يعاقبه على سوء أعماله ، وهذا زجر لكل المكلفين عن جميع المعاصي.
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
104
اعلم أن قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : أن هذا قسم ، وأما حرف لا فقد تكلمنا فيه في قوله تعالى : {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ} (القيامة : 1) ومن جملة الوجوه المذكورة هناك أن لا نفي ورد لكلام قبل القسم وتوجيه هذا الوجه ههنا ظاهر ، لأنه تعالى حكى ههنا عن المشرك أنه ظن أن لن يحور فقوله لا رد لذلك القول وإبطال لذلك الظن ثم قال بعده أقسم بالشفق.
المسألة الثانية : قد عرفت اختلاف العلماء في أن القسم واقع بهذه الأشياء أو يخالفها ، وعرفت أن المتكلمين زعموا أن القسم واقع برب الشفق وإن كان محذوفاً ، لأن ذلك معلوم من حيث ورد الحظر بأن يقسم الإنسان بغير الله تعالى.
المسألة الثالثة : تركيب لفظ الشفق في أصل اللغة لرقة الشيء ، ومنه يقال : ثوب شفق كأنه لا تماسك لرقته ، ويقال : للرديء من الأشياء شفق ، وأشفق عليه إذا رق قلبه عليه والشفقة رقة القلب ثم اتفق العلماء على أنه اسم للأثر الباقي من الشمس في الأفق بعد غروبها إلا ما يحكى عن مجاهد أنه قال : الشفق هو النهار ، ولعله إنما ذهب إلى هذا لأنه تعالى عطف عليه الليل فيجب أن يكون المذكور أولاً هو النهار فالقسم على هذا الوجه واقع بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش والثاني سكن وبهما قوام أمور العالم ، ثم اختلفوا بعد ذلك فذهب عامة العلماء إلى أنه هو الحمرة وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ، ومن أهل اللغة قول الليث والفراء والزجاج. قال صاحب "الكشاف" : وهو قول عامة العلماء إلا ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه أنه البياض وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر ، قال : فدل ذلك على أن الشفق هو الحمرة / وثانيها : أنه جعل الشفق وقتاً للعشاء الأخيرة فوجب أن يكون المعتبر هو الحمرة لا البياض لأن البياض يمتد وقته ويطول لبثه ، والحمرة لما كانت بقية ضوء الشمس ثم بعدت الشمس عن الأفق ذهبت الحمرة وثالثها : أن اشتقاق الشفق لما كان من الرقة ، ولا شك أن الضوء يأخذ في الرقة والضعف من عند غيبة الشمس فتكون الحمرة شفقاً. أما قوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
{وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} فقال أهل اللغة : وسق أي جمع ومنه الوسق وهو الطعام المجتمع الذي يكال ويوزن ثم صار اسماً للحمل واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت والراعي يسقها أي يجمعها قال صاحب "الكشاف" : يقال وسقه فاتسق واستوسق ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع. وأما المعنى فقال القفال : مجموع أقاويل المفسرين يدل على أنهم فسروا قوله تعالى : {وَمَا وَسَقَ} على جميع ما يجمعه الليل من النجوم ورجوع الحيوان عن الانتشار وتحرك ما يتحرك فيه الهوام ، ثم هذا يحتمل أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها لاشتمال الليل عليها فكأنه تعالى أقسم بجميع المخلوقات كما قال : {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} (الحاقة : 38) وقال سعيد بن جبير ما عمل فيه ، قال القفال : يحتمل أن يكون ذلك هو تهجد العباد فقد مدح الله تعالى بها المستغفرين بالأسحار فيجوز أن يحلف بهم وإنما قلنا : إن الليل جمع هذه الأشياء كلها لأن ظلمته كأنها تجلل الجبال والبحار والشجر والحيوانات ، فلا جرم صح أن يقال : وسق جميع هذه الأشياء ، أما قوله : {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} فاعلم أن أصل الكلمة من الاجتماع يقال : وسقته فاتسق كما يقال : وصلته فاتصل ، أي جمعته فاجتمع ويقال : أمور فلان متسقة أي مجتمعة على الصلاح كما يقال : منتظمة ، وأما أهل المعاني فقال ابن عباس إذا اتسق أي استوى واجتمع وتكامل وتم واستدار وذلك ليلة ثلاثة عشر إلى ستة عشر ، ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما به أقسم أتبعه بذكر ما عليه أقسم فقال : {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء : {لَتَرْكَبُنَّ} على خطاب الإنسان في يا أيها الإنسان : بالضم على خطاب الجنس لأن النداء في قوله : {وَحُقَّتْ * يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} (الإنشقاق : 6) للجنس بالكسر على خطاب النفس ، وليركبن بالياء على المغايبة أي ليركبن الإنسان.
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
(1/4705)
المسألة الثانية : الطبق ما طابق غيره يقال : ما هذا يطبق كذا أي لا يطابقه ، ومنه قيل : للغطاء الطبق وطباق الثرى ما يطابق منه ، قيل : للحال المطابقة لغيرها طبق ، ومنه قوله تعالى : {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} أي حالاً بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول ، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم هو على طبقات والمعنى لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة ، ولنذكر الآن وجوه المفسرين فنقول : أما القراءة برفع الياء وهو خطاب الجمع فتحتمل وجوهاً : أحدها : أن يكون المعنى لتركبن أيها الإنسان أموراً وأحوالاً أمراً بعد أمر وحالاً بعد حال ومنزلاً بعد منزل إلى أن يستقر الأمر على ما يقضي به على الإنسان أول من جنة أو نار فحينئذ يحصل الدوام والخلود ، إما في دار الثواب أو في دار العقاب / ويدخل في هذه الجملة أحوال الإنسان من يكون نطفة إلى أن يصير شخصاً ثم يموت فيكون في البرزخ ، ثم يحشر ثم ينقل ، إما إلى جنة وإما إلى نار وثانيها : أن معنى الآية أن الناس يلقون يوم القيامة أحوالاً وشدائد حالاً بعد حال وشدة بعد شدة كأنهم لما أنكروا البعث أقسم الله أن البعث كائن وأن الناس يلقون فيها الشدائد والأهوال إلى أن يفرغ من حسابهم فيصير كل أحد إلى أعدله من جنة أو نار وهو نحو قوله : {بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } (التغابن : 7) وقوله : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} (القلم : 42) وقوله : {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (المزمل : 17) ، وثالثها : أن يكون المعنى أن الناس تنتقل أحوالهم يوم القيامة عما كانوا عليه في الدنيا فمن وضيع في الدنيا يصير رفيعاً في الآخرة ، ومن رفيع يتضع ، ومن متنعم يشقى ، ومن شقى يتنعم ، وهو كقوله : {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} (الواقعة : 3) وهذا التأويل مناسب لما قبل هذه الآية لأنه تعالى لما ذكر حال من يؤتي كتابه وراء ظهره ، أنه كان في أهله مسروراً ، وكان يظن أن لن يحور أخبر الله أنه يحور ، ثم أقسم على الناس أنهم يركبون في الآخرة طبقاً عن طبق أي حالاً بعد حالهم في الدنيا ورابعها : أن يكون المعنى لتركبن سنة الأولين ممن كان قبلكم في التكذيب بالنبوة والقيامة ، وأما القراءة بنصب الياء ففيها قولان :
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
الأول : قول من قال : إنه خطاب مع محمد صلى الله عليه وسلّم وعلى هذا التقدير ذكروا وجهين أحدهما : أن يكون ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلّم بالظفر والغلبة على المشركين المكذبين بالبعث ، كأنه يقول : أقسم يا محمد لنركبن حالاً بعد حال حتى يختم لك بجميل العافية فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم. وفي هذا الوجه احتمال آخر يقرب مما ذكرنا ، وهو أن يكون المعنى أنه يركب حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة. واحتمال ثالث : وهو يكون المعنى أن الله تعالى يبدله بالمشركين أنصاراً من المسلمين/ ويكون مجاز ذلك من قولهم طبقات الناس ، وقد يصلح هذا التأويل على قراءة من قرأ بضم الباء ، كأنه خطاب للمسلمين بتعريف تنقل الأحوال بهم وتصييرهم إلى الظفر بعدوهم بعد الشدة التي يلقونها منهم ، كما قال : {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} (آل عمران : 186) الآية وثانيها : أن يكون ذلك بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلّم بصعوده إلى السماء لمشاهدة ملكوتها ، وإجلال الملائكة إياه فيها ، والمعنى لتركبن يا محمد السموات طبقاً عن طبق ، وقد قال تعالى : {سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا} (الملك : 3) وقد فعل الله ذلك ليلة الإسراء ، وهذا الوجه مروي عن ابن عباس وابن مسعود وثالثها : لتركبن يا محمد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى.
القول الثاني : في هذه القراءة ، أن هذه الآية في السماء وتغيرها من حال إلى حال ، والمعنى لتركبن السماء يوم القيامة حالة بعد حالة ، وذلك لأنها أولاً تنشق كما قال : {إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ} (الإنشقاق : 1) ثم تنفطر كما قال : {إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} (الإنفطار : 1) ثم تصير : {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (الرحمن : 37) وتارة : {كَالْمُهْلِ} (المعارج : 8) على ما ذكر الله تعالى هذه الأشياء في آيات من القرآن فكأنه تعالى لما ذكر في أول السورة أنها تنشق أقسم في آخر السورة أنها تنتقل من أحوال إلى أحوال ، وهذا الوجه مروي عن ابن مسعود.
/ المسألة الثالثة : قوله تعالى : {عَن طَبَقٍ} أي بعد طبق كقول الشاعر :
ما زلت أقطع منهلا عن منهل
حتى أنخت بباب عبدالواحد
ووجه هذا أن الإنسان إذا صار من شيء إلى شيء آخر فقد صار إلى الثاني بعد الأول فصلحت بعد وعن معاقبة ، وأيضاً فلفظة عن تفيد البعد والمجاوزة فكانت مشابهة للفظة بعد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
أما قوله تعالى : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ففيه مسألتان :
(1/4706)
المسألة الأولى : الأقرب أن المراد {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بصحة البعث والقيامة لأنه تعالى حكى عن الكافر : {إِنَّه ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} (الإنشقاق : 14) ثم أفتى سبحانه بأنه يحور فلما قال بعد ذلك : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} دل على أن المراد : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بالبعث والقيامة ، ثم اعلم أن قوله : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استفهام بمعنى الإنكار ، وهذا إنما يحسن عند ظهور الحجة وزوال الشبهات ، الأمر ههنا كذلك ، وذلك لأنه سبحانه أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر ، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها وهو ضوء النهار ، ولما بعدها وهو ظلمة الليل ، وكذا قوله : {وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور ، وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم ، وكذا قوله : {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} فأنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصاً ، إنه تعالى أقسم بهذه الأحوال المتغيرة على تغير أحوال الخلق ، وهذا يدل قطعاً على صحة القول بالبعث ، لأن القادر على تغيير الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال وصفة إلى صفة بحسب المصالح ، لا بد وأن يكون في نفسه قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات. ومن كان كذلك كان لا محالة قادراً على البعث والقيامة ، فلما كان ما قبل هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة على صحة البعث والقيامة لا جرم قال على سبيل الاستبعاد : {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
المسألة الثانية : قال القاضي : لا يجوز أن يقول الحكيم فيمن كان عاجزاً عن الإيمان {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فلما قال ذلك دل على كونهم قادرين ، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل/ وأن يكونوا موجدين لأفعالهم ، وأن لا يكون تعالى خالقاً للكفر فيهم. فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها البتة ، وجوابه قد مر غير مرة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
104
أما قوله تعالى : {وَإِذَا قُرِى َ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنهم أرباب الفصاحة والبلاغة فعند سماعهم القرآن لا بد وأن يعلموا كونه معجزاً ، وإذا علموا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ووجوب طاعته في الأوامر والنواهي ، فلا جرم استبعد الله منهم عند سماع القرآن ترك السجود والطاعة.
المسألة الثانية : قال ابن عباس والحسن وعطاء والكلبي ومقاتل : المراد من السجود الصلاة / وقال أبو مسلم : الخضوع والاستكانة ، وقال آخرون : بل المراد نفس السجود عند آيات مخصوصة ، وهذه الآية منها.
المسألة الثالثة : روي أنه عليه السلام : "قرأ ذات يوم : {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } (العلق : 19) فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر" فنزلت هذه الآية واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين الأول : أن فعله صلى الله عليه وسلّم يقتضي الوجوب لقوله تعالى : {وَاتَّبِعُوهُ} والثاني : أن الله تعالى ذم من يسمعه فلا يسجد ، وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب.
المسألة الرابعة : مذهب ابن عباس أنه ليس في المفصل سجدة ، وعن أبي هريرة أنه سجد ههنا ، وقال : والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسجد فيها ، وعن أنس صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان ، فسجدوا وعن الحسن هي غير واجبة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 104
105
أما قوله : {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا } فالمعنى أن الدلائل الموجبة للإيمان ، وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها إما لتقليد الأسلاف ، وإما للحسد وإما للخوف من أنهم لو أظهروا الإيمان لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 105
106
أما قوله تعالى : {يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} فأصل الكلمة من الوعاء ، فيقال : أوعيت الشيء أي جعلته في وعاء كما قال : {وَجَمَعَ فَأَوْعَى } (المعارج : 18) والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الشرك والتكذيب فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 106
106
ثم قال تعالى : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} استحقوه على تكذيبهم وكفرهم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 106
108
أما قوله : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } ففيه قولان قال : صاحب "الكشاف" الاستثناء منقطع ، وقال : الأكثرون معناه إلا من تاب منهم فإنهم وإن كانوا في الحال كفاراً إلا أنهم متى تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر وهو الثواب العظيم.
وفي معنى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } وجوه أحدها : أن ذلك الثواب يصل إليهم بلا من ولا أذى وثانيها : من غير انقطاع وثالثها : من غير تنغيص ورابعها : من غير نقصان ، والأولى أن يحمل اللفظ على الكل ، لأن من شرط الثواب حصول الكل ، فكأنه تعالى وعدهم بأجر خالص من الشوائب دائم لا انقطاع فيه ولا نقص ولا بخس ، وهذا نهاية الوعد فصار ذلك ترغيباً في العبادات ، كما أن الذي تقدم هو زجر عن المعاصي والله سبحانه وتعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 108
112
(1/4707)
سورة البروج
عشرون وآيتان مكية
/ اعلم أن المقصود من هذه السورة تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه عن إيذاء الكفار وكيفية تلك التسلية هي أنه تعالى بين أن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك مثل أصحاب الأخدود ومثل فرعون ومثل ثمود ، وختم ذلك بأن بين أن كل الكفار كانوا في التكذيب ، ثم عقب هذا الوجه بوجه آخر ، وهو قوله : {وَاللَّهُ مِن وَرَآا ِهِم مُّحِيطُ } (البروج : 20) ذكر وجهاً ثالثاً وهو أن هذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير وهو قوله : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} (لبروج : 21) فهذا ترتيب السورة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 112
112
اعلم أن في البروج ثلاثة أقوال : أحدها : أنها هي البروج الإثنا عشر وهي مشهورة وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب الحكمة ، وذلك لأن سير الشمس فيها ولا شك أن مصالح العالم السفلي مرتبطة بسير الشمس فيدل ذلك على أن لها صانعاً حكيماً ، قال الجبائي : وهذه اليمين واقعة على السماء الدنيا لأن البروج فيها ، واعلم أن هذا خطأ وتحقيقه ذكرناه في قوله تعالى : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (الصافات : 6) ، وثانيها : أن البروج هي منازل القمر ، وإنما حسن القسم بها لما في سير القمر وحركته من الآثار العجيبة وثالثها : أن البروج هي عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها. وأما اليوم الموعود فهو يوم القيامة ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، قال القفال : يحتمل أن يكون المراد {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} لانشقاق السماء وفنائها وبطلان بروجها. وأما الشاهد والمشهود ، فقد أضطرب أقاويل المفسرين فيه ، والقفال أحسن الناس كلاماً فيه ، قال : إن الشاهد يقع على شيئين أحدهما : الشاهد الذي تثبت به الدعاوى والحقوق والثاني : الشاهد الذي هو بمعنى الحاضر ، كقوله : {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام : 73) ويقال : فلان شاهد وفلان غائب ، وحمل الآية على هذا الاحتمال الثاني أولى ، إذ لو كان المراد هو الأول لما خلا لفظ المشهود عن حرف الصلة ، فيقال : مشهود عليه ، أو مشهود له. هذا هو الظاهر ، وقد يجوز أن يكون المشهود / معناه المشهود عليه فحذفت الصلة ، كما في قوله : {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْاُولا} (الإسراء : 34) أي مسئولاً عنه ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن حملنا الشهود على الحضور احتملت الآية وجوهاً من التأويل أحدها : أن المشهود هو يوم القيامة ، والشاهد هو الجمع الذي يحضرون فيه ، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك ، ويدل على صحة هذا الاحتمال وجوه الأول : أنه لا حضور أعظم من ذلك الحضور ، فإن الله تعالى يجمع فيه خلق الأولين والآخرين من الملائكة والأنبياء والجن والإنس ، وصرف اللفظ إلى المسمى الأكمل أولى والثاني : أنه تعالى ذكر اليوم الموعود ، وهو يوم القيامة ، ثم ذكر عقيبة :
جزء : 31 رقم الصفحة : 112
(1/4708)
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} وهذا يناسب أن يكون المراد بالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق ، وبالمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب الثالث : أن الله تعالى وصف يوم القيامة بكونه مشهوداً في قوله : {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (مريم : 37) وقال : {ذَالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} (هود : 103) وقال : {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِه } (الإسراء : 52) وقال : {إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (يس : 53) وطريق تنكيرهما إما ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} (التكوير : 14) كأنه قيل : وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، وأما الإبهام في الوصف كأنه قيل : وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما ، وإنما حسن القسم بيوم القيامة للتنبيه على القدرة إذ كان هو يوم الفصل والجزاء ويوم تفرد الله تعالى فيه بالملك والحكم ، وهذا الوجه اختيار ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن بن علي وابن المسيب والضحاك والنخعي والثوري وثانيها : أن يفسر المشهود بيوم الجمعة وهو قول ابن عمر وابن الزبير : وذلك لأنه يوم يشهده المسلمون للصلاة ولذكر الله. ومما يدل على كون هذا اليوم مسمى بالمشهود خبران الأول : ما روى أبو الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة" والثاني : ما روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلّم قال : "تحضر الملائكة أبواب المسجد فيكتبون الناس فإذا خرج الإمام طويت الصحف" وهذه الخاصية غير موجودة إلا في هذا اليوم فيجوز أن يسمى مشهوداً لهذا المعنى ، قال الله تعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} (الإسراء : 78) وروى : "أن ملائكة الليل والنهار يحضرون وقت صلاة الفجر فسميت هذه الصلاة مشهودة لشهادة الملائكة" فكذا يوم الجمعة وثالثها : أن يفسر المشهود بيوم عرفة والشاهد من يحضره من الحاج وحسن القسم به تعظيماً لأمر الحج روي أن الله تعالى يقول للملائكة يوم عرفة : "أنظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى من ذلك" والدليل على أن يوم عرفة مسمى بأنه مشهود قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 112
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَـافِعَ لَهُمْ} (الحج : 28,27) ، ورابعها : أن يكون المشهود يوم النحر وذلك لأنه أعظم المشاهد في الدنيا فإنه يجتمع أهل الشرق والغرب في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة وهو عيد المسلمين ، ويكون الغرض من القسم به تعظيم أمر الحج وخامسها : حمل الآية على يوم / الجمعة ويوم عرفة ويوم النحر جميعاً لأنها أيام عظام فأقسم الله بها كما أقسم بالليالي العشر والشفع والوتر ، ولعل الآية عامة لكل يوم عظيم من أيام الدنيا ولكل مقام جليل من مقاماتها وليوم القيامة أيضاً لأنه يوم عظيم كما قال : {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ} (المطففين : 6,5) وقال : {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (مريم : 37) ويدل على صحة هذا التأويل خروج اللفظ في الشاهد والمشهود على النكرة ، فيحتمل أن يكون ذلك على معنى أن القصد لم يقع فيه إلى يوم بعينه فيكون معرفاً أما الوجه الأول : وهو أن يحمل الشاهد على من تثبت الدعوى بقوله ، فقد ذكروا على هذا التقدير وجوهاً كثيرة أحدها : أن الشاهد هو الله تعالى لقوله : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} (آل عمران : 18) وقوله : {قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّه } (الأنعام : 19) وقوله : {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت : 53) والمشهود هو التوحيد ، لقوله : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ} أو النبوة : {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وثانيها : أن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلّم ، والمشهود عليه سائر الأنبياء ، لقوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـا ؤُلاءِ شَهِيدًا} (النساء : 41) ولقوله تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا} (الفتح : 8) وثالثها : أن يكون الشاهد هو الأنبياء ، والمشهود عليه هو الأمم ، لقوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةا بِشَهِيدٍ} ،
جزء : 31 رقم الصفحة : 112
(1/4709)
ورابعها : أن يكون الشاهد هو جميع الممكنات والمحدثات ، والمشهود عليه واجب الوجود ، وهذا احتمال ذكرته أنا وأخذته من قول الأصوليين هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب ، وعلى هذا التقدير يكون القسم واقعاً بالخلق والخالق ، والصنع والصانع وخامسها : أن يكون الشاهد هو الملك ، لقوله تعالى : {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآاـاِقٌ وَشَهِيدٌ} والمشهود عليه هم المكلفون وسادسها : أن يكون الشاهد هو الملك ، والمشهود عليه هو الإنسان الذي تشهد عليه جوارحه يوم القيامة/ قال : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم} (النور : 24) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} (فصلت : 21) وهذا قول عطاء الخراساني. وأما الوجه الثالث : وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق فأحدها : أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، روى أبو موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال : "اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا" وعن أبي هريرة مرفوعاً قال : "المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ، ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه" وعن سعيد بن المسيب مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، قال : "سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة" وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس ، قال قتادة : شاهد ومشهود ، يومان عظمهما الله من أيام الدنيا ، كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وثانيها : أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر / وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج ، فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة ، وروى أنه عليه السلام ذبح كبشين ، وقال في أحدهما : "هذا عمن يشهد لي بالبلاغ" فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهداً لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر وثالثها : أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه : (فصلت : 21) وهذا قول عطاء الخراساني. وأما الوجه الثالث : وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق فأحدها : أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، روى أبو موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال : "اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا" وعن أبي هريرة مرفوعاً قال : "المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ، ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه" وعن سعيد بن المسيب مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، قال : "سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة" وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس ، قال قتادة : شاهد ومشهود ، يومان عظمهما الله من أيام الدنيا ، كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وثانيها : أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر / وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج ، فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة ، وروى أنه عليه السلام ذبح كبشين ، وقال في أحدهما : "هذا عمن يشهد لي بالبلاغ" فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهداً لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر وثالثها : أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه :
جزء : 31 رقم الصفحة : 112
{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (المائدة : 117) ، ورابعها : الشاهد هو الله والمشهود هو يوم القيامة ، قال تعالى : {قَالُوا يَـاوَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يس : 52) وقوله : {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا } (المجادلة : 7) ، وخامسها : أن الشاهد هو الإنسان ، والمشهود هو التوحيد لقوله تعالى : {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } (الأعراف : 172) وسادسها : أن الشاهد الإنسان والمشهود هو يوم القيامة/ أما كون الإنسان شاهداً فلقوله تعالى : {قَالُوا بَلَى ا شَهِدْنَآ } (الأعراف : 172) وأما كون يوم القيامة مشهوداً فلقوله : {أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ} (الأعراف : 172) فهذه هي الوجوه الملخصة ، والله أعلم بحقائق القرآن.
جزء : 31 رقم الصفحة : 112
113
(1/4710)
اعلم أنه لا بد للقسم من جواب ، واختلفوا فيه على وجوه أحدها : ما ذكره الأخفش وهو أن جواب القسم قوله : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} واللام مضمرة فيه ، كما قال : {وَالشَّمْسِ وَضُحَـاـاهَا} (الشمس : 1) {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} (الشمس : 9) يريد. لقد أفلح ، قال : وإن شئت على التقديم كأنه قيل : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج وثانيها : ما ذكره الزجاج ، وهو أن جواب القسم : {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} (البروج : 12) وهو قول ابن مسعود وقتادة وثالثها : أن جواب القسم قوله : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا } (البروج : 10) الآية كما تقول : والله إن زيداً لقائم ، إلا أنه اعترض بين القسم وجوابه ، قوله : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} إلى قوله : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا } (البروج : 10,4) ورابعها : ما ذكره جماعة من المتقدمين أن جواب القسم محذوف ، وهذا اختيار صاحب "الكشاف" إلا أن المتقدمين ، قالوا : ذلك المحذوف هو أن الأمر حق في الجزاء على الأعمال وقال صاحب "الكشاف" : جواب القسم هو الذي يدل عليه قوله : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء ، أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود ، وذلك لأن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ، ويعلموا أن كفار مكة عند الله بمنزلة أولئك الذين كانوا في الأمم السالفة يحرقون أهل الإيمان بالنار ، وأحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش كما : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} أما قوله تعالى : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} ففيه مسائل :
/ المسألة الأولى : ذكروا قصة أصحاب الأخدود على طرق متباينة ونحن نذكر منها ثلاثة :
جزء : 31 رقم الصفحة : 113
أحدها : أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضم إليه غلام ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجراً ، وقال : اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتلها بواسطة رمي الحجر إليها ، ثم رمى فقتلها ، فصار ذلك سبباً لإعراض الغلام عن السحر واشتغاله بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرىء الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء ، فاتفق أن عمي جليس للملك فأبرأه فلما رآه الملك قال : من رد عليك نظرك ؟
فقال ربي فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فأحضر الراهب وزجره عن دينه فلم يقبل الراهب قوله فقد بالمنشار ، ثم أتوا بالغلام إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا الله ، فرجف بالقوم فهلكوا ونجا ، فذهبوا به إلى سفينة لججوا بها ليغرقوه ، فدعا الله فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي ، وتقول : بسم الله رب الغلام ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام. فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك ، وأوقدت فيها النيران ، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها ، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق ، فصبرت على ذلك.
الرواية الثانية : روي عن علي عليه السلام أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها بعض ملوكها فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : إن الله تعالى قد أحل نكاح الأخوات ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : بعد ذلك حرمه ، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك فقالت له : أبسط فيهم السوط فلم يقبلوا ، فقالت : أبسط فيهم السيف فلم يقبلوا ، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أتى فيها الذين أرادهم الله بقوله : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} .
(1/4711)
الرواية الثالثة : أنه وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فصار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا ، فأحرق منهم إثني عشر ألفاً في الأخاديد ، وقيل سبعين ألفاً ، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه إثنا عشر ذراعاً ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء" فإن قيل : تعارض هذه الروايات يدل على كذبها ، قلنا : لا تعارض فقيل : إن هذا كان في ثلاث طوائف ثلاث مرات مرة باليمن ، ومرة بالعراق ، ومرة بالشام ، ولفظ الأخدود ، وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع وهو كثير من القرآن ، وقال القفال : ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة وليس في شيء منها ما يصح إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا قومهم أو ملكاً كافراً / كان حاكماً عليهم فألقاهم في أخدود وحفر لهم ، ثم قال : وأظن أن تلك الواقعة كانت مشهورة عند قريش فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسوله تنبيهاً لهم على ما يلزمهم من الصبر على دينهم واحتمال المكاره فيه فقد كان مشركوا قريش يؤذون المؤمنون على حسب ما اشتهرت به الأخبار من مبالغتهم في إذاء عمار وبلال.
جزء : 31 رقم الصفحة : 113
المسألة الثانية : الأخدود : الشق في الأرض يحفر مستطيلاً وجمعه الأخاديد ومصدره الخد وهو الشق يقال : خد في الأرض خداً وتخدد لحمه إذا صار طرائق كالشقوق.
المسألة الثالثة : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين ، والرواية المشهورة أن المقتولين هم المؤمنون ، وروي أيضاً أن المقتولين هم الجبابرة لأنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم ونجى الله المؤمنين منها سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواقدي وتأولوا قوله : {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج : 10) أي لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا. إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذكروا في تفسير قوله تعالى : {قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ} وجوهاً ثلاثة وذلك لأنا إما أن نفسر أصحاب الأخدود بالقاتلين أو بالمقتولين. أما على الوجه الأول ففيه تفسيران أحدهما : أن يكون هذا دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود ، ونظيره قوله تعالى : {قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه } (عبس : 17) {قُتِلَ الْخَراَّصُونَ} (الذاريات : 10) والثاني : أن يكون المراد أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على ما ذكرنا أن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم ، وأما إذا فسرنا ، أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن أولئك المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار ، فيكون ذلك خبراً لادعاء.
المسألة الرابعة : قرىء قتل بالتشديد. أما قوله تعالى : {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : النار إنما تكون عظيمة إذا كان هناك شيء يحترق بها إما حطب أو غيره ، فالوقود اسم لذلك الشيء لقوله تعالى : {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة : 24) وفي : {ذَاتِ الْوَقُودِ} تعظيم أمر ما كان في ذلك الأخدود من الحطب الكثير.
المسألة الثانية : قال أبو علي : هذا بدل الاشتمال كقولك : سلب زيد ثوبه فإن الأخدود مشتمل على النار.
المسألة الثالثة : قرىء الوقود بالضم ، أما قوله تعالى : {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : العامل في إذ قتل والمعنى لعنوا في ذلك الوقت الذي هم فيه قعود عند الأخدود يعذبون المؤمنين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 113
(1/4712)
المسألة الثانية : في الآية إشكال وهو أن قوله : {هُمْ} ضمير عائد إلى أصحاب الأخدود ، لأن ذلك أقرب المذكورات والضمير في قوله : {عَلَيْهَا} عائد إلى النار فهذا يقتضي أن أصحاب الأخدود كانوا قاعدين على النار ، ومعلوم أنه لم يكن الأمر كذلك والجواب : من وجوه أحدها : أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود ، لكن المراد ههنا من أصحاب الأخدود المقتولون لا القاتلون / فيكون المعنى إذ المؤمنين قعود على النار يحترقون مطرحون على النار وثانيها : أن يجعل الضمير في {عَلَيْهَا} عائد إلى طرف النار وشفيرها والمواضع التي يمكن الجلوس فيها ، ولفظ ، على مشعر بذلك تقول مررت عليها تريد مستعلياً بمكان يقرب منه ، فالقائلون كانوا جالسين فيها وكانوا يعرضون المؤمنين على النار ، فمن كان يترك دينه تركوه ومن كان يصبر على دينه ألقوه في النار وثالثها : هب أنا سلمنا أن الضمير في هم عائد إلى أصحاب الأخدود بمعنى القاتلين ، والضمير في عليها عائد إلى النار ، فلم لا يجوز أن يقال : إن أولئك القاتلين كانوا قاعدين على النار ، فإنا بينا أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار ارتفعت النار إليهم فهلكوا بنفس ما فعلوه بأيديهم لأجل إهلاك غيرهم ، فكانت الآية دالة على أنهم في تلك الحالة كانوا ملعونين أيضاً ، ويكون المعنى أنهم خسروا الدنيا والآخرة ورابعها : أن تكون على بمعنى عند ، كما قيل في قوله : {وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنابٌ} (الشعراء : 14) أي عندي.
أما قوله تعالى : {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} فاعلم أن قوله : {شُهُودٌ} يحتمل أن يكون المراد منه حضور ، ويحتمل أن يكون المراد منه الشهود الذين تثبت الدعوى بشهادتهم ، أما على الوجه الأول ، فالمعنى إن أولئك الجبابرة القاتلين كانوا حاضرين عند ذلك العمل يشاهدون ذلك فيكون الغرض من ذكر ذلك أحد أمور ثلاثة : إما وصفهم بقسوة القلب إذ كانوا عند التعذيب بالنار حاضرين مشاهدين له ، وأما وصفهم بالجد في تقرير كفرهم وباطلهم حيث حضروا في تلك المواطن المنفرة والأفعال الموحشة ، وأما وصف أولئك المؤمنين المقتولين بالجد دينهم والإصرار على حقهم ، فإن الكفار إنما حضروا في ذلك الموضع طمعاً في أن هؤلاء المؤمنين إذا نظروا إليهم هابوا حضورهم واحتشموا من مخالفتهم ، ثم إن أولئك المؤمنين لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين على دينهم الحق ، فإن قلت المراد من الشهود إن كان هذا المعنى ، فكان يجب أن يقال : وهم لما يفعلون شهود ولا يقال : وهم على ما يفعلون شهود ؟
قلنا : إنما ذكر لفظة على بمعنى أنهم على قبح فعلهم بهؤلاء المؤمنين ، وهو إحراقهم بالنار كانوا حاضرين مشاهدين لتلك الأفعال القبيحة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 113
أما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد من الشهود الشهادة التي تثبت الدعوى بها ففيه وجوه أحدها : أنهم جعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به ، وفوض إليه من التعذيب وثانيها : أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين يؤدون شهادتهم يوم القيامة : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور : 24) ، وثالثها : أن هؤلاء الكفار مشاهدون لما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حتى لو كان ذلك من غيرهم لكانوا شهوداً عليه ، ثم مع هذا لم تأخذهم بهم رأفة ، ولا حصل في قلوبهم ميل ولا شفقة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 113
113
/ المعنى وما عابوا منهم وما أنكروا الإيمان ، كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
(1/4713)
ونظيره قوله تعالى : {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ} (المائدة : 59) وإنما قال : {إِلا أَن يُؤْمِنُوا } لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قيل : إلا أن يدوموا على إيمانهم ، وقرأ أبو حيوة : {نَقَمُوا } بالكسر ، والفصيح هو الفتح ، ثم إنه ذكر الأوصاف التي بها يستحق الإله أن يؤمن به ويعبد فأولها : العزيز وهو القادر الذي لا يغلب ، والقاهر الذي لا يدفع ، وبالجملة فهو إشارة إلى القدرة التامة وثانيها : الحميد وهو الذي يستحق الحمد والثناء على ألسنة عباده المؤمنين وإن كان بعض الأشياء لا يحمده بلسانه فنفسه شاهدة على أن المحمود في الحقيقة هو هو ، كما قال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه } (الإسراء : 44) وذلك إشارة إلى العلم لأن من لا يكون عالماً بعواقب الأشياء لا يمكنه أن يفعل الأفعال الحميدة ، فالحميد يدل على العلم التام من هذا الوجه وثالثها : الذي له ملك السموات والأرض وهو مالكها والقيم بهما ولو شاء لأفناهما ، وهو إشارة إلى الملك التام وإنما أخر هذه الصفة عن الأولين لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة والعلم ، فثبت أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان هو المستحق للإيمان به وغيره لا يستحق ذلك ألبتة ، فكيف حكم أولئك الكفار الجهال يكون مثل هذا الإيمان ذنباً.
واعلم أنه تعالى أشار بقوله : {الْعَزِيزِ} إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين ، ولأطفأ نيرانهم ولأماتهم وأشار بقوله : {الْحَمِيدِ} إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل ، فإنه تعالى يوصل ثواب أولئك المؤمنين إليهم ، وعقاب أولئك الكفرة إليهم ، ولكنه تعالى لم يعالجهم بذلك لأنه لم يفعل إلا على حسب المشيئة أو المصلحة على سبيل التفضل ، فلهذا السبب قال : {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} فهو وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 113
115
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الأخدود ، أتبعها بما يتفرع عليها من أحكام الثواب والعقاب فقال : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} وههنا مسائل :
/ المسألة الأولى : يحتمل أن يكون المراد منه أصحاب الأخدود فقط ، ويحتمل أن يكون المراد كل من فعل ذلك وهذا أولى لأن اللفظ عام والحكم عام فالتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.
المسألة الثانية : أصل الفتنة الابتلاء والامتحان ، وذلك لأن أولئك الكفار امتحنوا أولئك المؤمنين وعرضوهم على النار وأحرقوهم ، وقال بعض المفسرين الفتنة هي الإحراق بالنار وقال ابن عباس ومقاتل : {فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} حرقوهم بالنار ، قال الزجاج : يقال فتنت الشيء أحرقته والفتن أحجار سود كأنها محترقة ، ومنه قوله تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذاريات : 13).
المسألة الثالثة : قوله تعالى : {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } يدل على أنهم لو تابوا لخرجوا عن هذا الوعيد وذلك يدل على القطع بأن الله تعالى يقبل التوبة ، ويدل على أن توبة القاتل عمداً مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس.
المسألة الرابعة : في قوله : {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} قولان :
الأول : أن كلا العذابين يحصلان في الآخرة ، إلا أن عذاب جهنم وهو العذاب الحاصل بسبب كفرهم ، وعذاب الحريق هو العذاب الزائد على عذاب الكفر بسبب أنهم أحرقوا المؤمنين ، فيحتمل أن يكون العذاب الأول عذاب برد والثاني عذاب إحراق وأن يكون الأول عذاب إحراق والزائد على الإحراق أيضاً إحراق ، إلا أن العذاب الأول كأنه خرج عن أن يسمى إحراقاً بالنسبة إلى الثاني ، لأن الثاني قد اجتمع فيه نوعا الإحراق فتكامل جداً فكان الأول ضعيفاً ، فلا جرم لم يسم إحراقاً.
القول الثاني : أن قوله : {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} إشارة إلى عذاب الآخرة : {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} إشارة إلى ما ذكرنا أن أولئك الكفار ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 115
117
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المجرمين ذكر وعد المؤمنين وهو ظاهر وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما قال : {ذَالِكَ الْفَوْزُ} ولم يقل تلك الدقيقة لطيفة وهي أن قوله : {ذَالِكَ} إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول هذه الجنات ، وقوله : {تِلْكَ} إشارة إلى الجنات وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً والفوز الكبير هو رضا الله لا حصول الجنة.
(1/4714)
المسألة الثانية : قصة أصحاب الأخدود ولا سيما هذه الآية تدل على أن المكره على / الكفر بالإهلاك العظيم الأولى له أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك روى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما : تشهد أني رسول الله فقال : نعم فتركه ، وقال للآخر مثله فقال : لا بل أنت كذاب فقتله فقال عليه السلام : "أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، وأما الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئاً له".
جزء : 31 رقم الصفحة : 117
117
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أولاً وذكر وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثانياً أردف ذلك الوعد والوعيد بالتأكيد فقال لتأكيد الوعيد : {إِنَّ أَخْذَه ا أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ثم إن هذا القادر لا يكون إمهاله لأجل الإهمال ، لكن لأجل أنه حكيم إما بحكم المشيئة أو بحكم المصلحة ، وتأخير هذا الأمر إلى يوم القيامة ، فلهذا قال : {إِنَّه هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أي إنه يخلق خلقه ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة ، فدل الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال ، قال ابن عباس : إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم خلقاً جديداً ، فذاك هو المراد من قوله : {إِنَّه هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} .
ثم قال لتأكيد الوعد : {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} فذكر من صفات جلاله وكبريائه خمسة :
أولها : الغفور قالت المعتزلة : هو الغفور لمن تاب ، وقال أصحابنا : إنه غفور مطلقاً لمن تاب ولمن لم يتب لقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } (النساء : 48) ولأن غفران التائب واجب وأداء الواجب لا يوجب التمدح والآية مذكورة في معرض التمدح وثانيها : الودود وفيه أقوال : أحدها : المحب هذا قول أكثر المفسرين ، وهو مطابق للدلائل العقلية ، فإن الخير مقتضى بالذات والشر بالعرض ، ولا بد أن يكون الشر أقل من الخير فالغالب لا بد وأن يكون خيراً فيكون محبوباً بالذات وثانيها : قال الكلبي : الودود هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة والجزاء ، والقول هو الأول وثالثها : قال الأزهري : قال بعض أهل اللغة يجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب ، ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله ، قال : وكلتا الصفتين مدح لأنه جل ذكره إذا أحب عباده المطيعين فهو فضل منه ، وإن أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من كريم إحسانه. / ورابعها : قال القفال : قيل الودود قد يكون بمعنى الحليم من قولهم : دابة ودود وهي المطيعة القياد التي كيف عطفتها انعطفت وأنشد قطرب :
جزء : 31 رقم الصفحة : 117
وأعددت للحرب خيفانة
ذلول القياد وقاحا ودودا
وثالثها : ذو العرش ، قال القفال : ذو العرش أي ذو الملك والسلطان كما يقال : فلان على سرير ملكه ، وإن لم يكن على السرير ، وكما يقال : ثل عرش فلان إذا ذهب سلطانه ، وهذا معنى متفق على صحته ، وقد يجوز أن يكون المراد بالعرش السرير ، ويكون جل جلاله خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة والجلالة بحيث لا يعلم عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه ورابعها : المجيد ، وفيه قراءتان إحداهما : الرفع فيكون ذلك صفة لله سبحانه ، وهو اختيار أكثر القراء والمفسرين لأن المجد من صفات التعالي والجلال ، وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه ، والفصل والاعتراض بين الصفة والموصوف في هذا النحو غير ممتنع والقراءة الثانية : بالخفض وهي قراءة حمزة والكسائي ، فيكون ذلك صفة العرش ، وهؤلاء قالوا : القرآن دل على أنه يجوز وصف غير الله بالمجيد حيث قال : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} ورأينا أن الله تعالى وصف العرش بأنه كريم فلا يبعد أيضاً أن يصفه بأنه مجيد ، ثم قالوا : إن مجد الله عظمته بحسب الوجوب الذاتي وكمال القدرة والحكمة والعلم ، وعظمة العرش علوه في الجهة وعظمة مقداره وحسن صورته وتركيبه/ فإنه قيل : العرش أحسن الأجسام تركيباً وصورة وخامسها : أنه فعال لما يريد وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فعال خبر مبتدأ محذوف.
المسألة الثانية : من النحويين من قال : {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} خبران لمبتدأ واحد ، وهذا ضعيف لأن المقصود بالإسناد إلى المبتدأ إما أن يكون مجموعها أو كل واحد واحد منهما ، فإن كان الأول كان الخبر واحد الآخرين وإن كان الثاني كانت القضية لا واحد قبل قضيتين.
(1/4715)
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال فقالوا : لا شك أنه تعالى يريد الإيمان فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان بمقتضى هذه الآية وإذا كان فاعلاً للإيمان وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة أنه لا قائل بالفرق ، قال القاضي : ولا يمكن أن يستدل بذلك على أن ما يريده الله تعالى من طاعة الخلق لا بد من أن يقع لأن قوله تعالى : {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} لا يتناول إلا ما إذا وقع كان فعله دون ما إذا وقع لم يكن فعلاً له هذه ألفاظ القاضي ولا يخفي ضعفها.
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب لأحد من المكلفين عليه شيء ألبتة ، وهو ضعيف لأن الآية دالة على أنه يفعل ما يريد ، فلم قلتم : إنه يريد أن لا يعطي الثواب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 117
المسألة الخامسة : قال القفال : فعال لما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض ولا يغلبه غالب ، فهو يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع ، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر ، ويمهل العصاء على ما يشاء إلى أن يجازيهم ويعاجل بعضهم العقوبة إذا شاء ويعذب من شاء منهم / في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء ومن غيرهما ما يريد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 117
119
اعلم أنه تعالى لما بين حال أصحاب الأخدود في تأذي المؤمنين بالكفار ، بين أن الذين كانوا قبلهم كانوا أيضاً كذلك ، واعلم أن فرعون وثمود بدل من الجنود ، وأراد بفرعون إياه وقومه كما في قوله من فرعون وملئهم وثمود ، كانوا في بلاد العرب ، وقصتهم عندهم مشهورة فذكر تعالى من المتأخرين فرعون ، ومن المتقدمين ثمود ، والمقصود بيان أن حال المؤمنين مع الكفار في جميع الأزمنة مستمرة على هذا النهج ، وهذا هو المراد من قوله : {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيبٍ} ولما طيب قلب الرسول عليه السلام بحكاية أحوال الأولين في هذا الباب سلاه بعد ذلك من وجه آخر ، وهو قوله : {وَاللَّهُ مِن وَرَآا ِهِم مُّحِيطُ } وفيه وجوه أحدها : أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحوزته ، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه ، فلا يجد مهرباً يقول تعالى : فهو كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم إياك ، فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم وثانيها : أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقول تعالى : {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } (الفتح : 21) وقوله : {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } (الإسراء : 60) وقوله : {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } (يونس : 22) فهذا كله عبارة عن مشارفة الهلاك ، يقول : فهؤلاء في تكذيبك قد شارفوا الهلاك وثالثها : أن يكون المراد والله محيط بأعمالهم ، أي عالم بها ، فهو مرصد بعقابهم عليها ، ثم إنه تعالى سلى رسوله بعد ذلك بوجه ثالث ، وهو قوله : {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تعلق هذا بما قبله ، هو أن هذا القرآن مجيد مصون عن التغير والتبدل ، فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم ، وبتأذي قوم من قوم ، امتنع تغيره وتبدله ، فوجب الرضا به ، ولا شك أن هذا من أعظم موجبات التسلية.
جزء : 31 رقم الصفحة : 119
المسألة الثانية : قرىء : {بَلْ هُوَ} بالإضافة ، أي قرآن رب مجيد ، وقرأ يحيى بن يعمر في لوح واللوح الهواء يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظ ، وقرىء محفوظ / بالرفع صفة للقرآن كما قلنا : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ} (الحجر : 9).
المسألة الثالثة : أنه تعالى قال ههنا : {فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } وقال في آية أخرى : {إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} (الواقعة : 78,77) فيحتمل أن يكون الكتاب المكنون واللوح المحفوظ واحداً ثم كونه محفوظاً يحتمل أن يكون المراد كونه محفوظاً عن أن يمسه إلا المطهرون ، كما قال تعالى : {لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ} ويحتمل أن يكون المراد كونه محفوظاً من اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين ويحتمل أن يكون المراد أن لا يجري عليه تغيير وتبديل.
المسألة الرابعة : قال بعض المتكلمين إن اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤنه ولما كانت الأخبار والآثار واردة بذلك وجب التصديق ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 119
121
(1/4716)
سورة الطارق
سبع عشرة آية مكية
وهي مشتملة على الترغيب في معرفة المبدأ والمعاد
جزء : 31 رقم الصفحة : 121
121
/ اعلم أنه تعالى أكثر في كتابه ذكر السماء والشمس والقمر لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة ، وأما الطارق فهو كل ما أتاك ليلاً سواء كان كوكباً أو غيره فلا يكون الطارق نهاراً ، والدليل عليه قول المسلمين في دعائهم : نعوذ بالله من طوارق الليل وروي أنه عليه السلام : "نهى عن أن يأتي الرجل أهله طروقاً" والعرب تستعمل الطروق في صفة الخيال لأن تلك الحالة إنما تحصل في الأكثر في الليل ، ثم إنه تعالى لما قال : {وَالطَّارِقِ} كان هذا مما لايستغنى سامعه عن معرفة المراد منه ، فقال : {وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الطَّارِقُ} قال سفيان بن عيينة : كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الرسول به وكل شيء فيه ما يدريك لم يخبر به كقوله : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى : 17) ثم قال : {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أي هو طارق عظيم الشأن ، رفيع القدر وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر ويوقف به على أوقات الأمطار ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : إنما وصف النجم بكونه ثاقباً لوجوه أحدها : أنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل : درىء لأنه يدرؤه أي يدفعه وثانيها : أنه يطلع من المشرق نافذاً في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء وثالثها : أنه الذي يرى به الشيطان فيثقبه أي ينفذ فيه ويحرقه ورابعها : قال الفراء : {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} هو النجم المرتفع على النجوم ، والعرب تقول للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعاً : قد ثقب.
المسألة الثانية : إنما وصف النجم بكونه طارقاً ، لأنه يبدو بالليل ، وقد عرفت أن ذلك يسمى طارقاً ، أو لأنه يطرق الجني ، أي صكه.
المسألة الثالثة : اختلفوا في قوله : {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} قال بعضهم : أشير به إلى جماعة النحو / فقيل الطارق ، كما قيل : {إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ} (العصر : 2) وقال آخرون : أنه نجم بعينه ، ثم قال ابن زيد : إنه الثريا ، وقال الفراء : أنه زحل ، لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات ، وقال آخرون : أنه الشهب التي يرجم بها الشياطين ، لقوله تعالى : {فَأَتْبَعَه شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات : 10).
جزء : 31 رقم الصفحة : 121
المسألة الرابعة : روى أن أبا طالب أتى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فأتحفه بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم ناراً ، ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا ؟
فقال : هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات الله ، فعجب أبو طالب ، ونزلت السورة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه : {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {لَّمَّا} قراءتان إحداهما : قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع والكسائي ، وهي بتخفيف الميم والثانية : قراءة عاصم وحمزة والنخعي بتشديد الميم. قال أبو علي الفاسي : من خفف كانت {ءَانٍ} عنده المخففة من الثقيلة ، واللام في {لَّمَّا} هي التي تدخل مع هذه المخففة لتخلصها من إن النافية ، وما صلة كالتي في قوله : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} (آل عمران : 159) {إِلا قَلِيلٌ} وتكون {ءَانٍ} متلقية للقسم ، كما تتلقاه مثقلة. وأما من ثقل فتكون {ءَانٍ} عنده النافية ، كالتي في قوله : {فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ} و{لَّمَّا} في معنى ألا ، قال : وتستعمل {لَّمَّا} بمعنى ألا في موضعين أحدهما : هذا والآخر : في باب القسم ، تقول : سألتك بالله لما فعلت ، بمعنى ألا فعلت. وروى عن الأخفش والكسائي وأبي عبيدة أنهم قالوا : لم توجد لما بمعنى ألا في كلام العرب. قال ابن عون : قرأت عند ابن سيرين لما بالتشديد ، فأنكره وقال : سبحان الله ، سبحان الله ، وزعم العتبي أن {لَّمَّا} بمعنى ألا ، مع أن الخفيفة التي تكون بمعنى ما موجودة في لغة هذيل.
المسألة الثانية : ليس في الآية بيان أن هذا الحافظ من هو ، وليس فيها أيضاً بيان أن الحافظ يحفظ النفس عماذا. أما الأول : ففيه قولان : الأول : قول بعض المفسرين : أن ذلك الحافظ هو الله تعالى. أما في التحقيق فلأن كل وجود سوى الله ممكن ، وكل ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح وينتهي ذلك إلى الواجب لذاته ، فهو سبحانه القيوم الذي بحفظه وإبقائه تبقى الموجودات ، ثم إنه تعالى بين هذا المعنى في السموات والأرض على العموم في قوله : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا } وبينه في هذه الآية في حق الإنسان على الخصوص وحقيقة الكلام ترجع إلى أنه تعالى أقسم أن كل ما سواه ، فإنه ممكن الوجود محدث محتاج مخلوق مربوب هذا إذا حملنا النفس على مطلق الذات ، أما إذا حملناها على النفس المتنفسة وهي النفس الحيوانية أمكن أن يكون المراد من كونه تعالى حافظاً لها كونه تعالى عالماً بأحوالها وموصلاً إليها جميع منافعها ودافعاً عنها جميع مضارها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 121
(1/4717)
والقول الثاني : أن ذلك الحافظ هم الملائكة كما قال : {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} وقال : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق : 18,17) وقال : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ} (الإنفطار : 11,1) وقال : {لَه مُعَقِّبَـاتٌ مِّنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه يَحْفَظُونَه مِنْ أَمْرِ اللَّه } (الرعد : 11).
وأما البحث الثاني : وهو أنه ما الذي يحفظه هذا الحافظ ؟
ففيه وجوه أحدها : أن هؤلاء الحفظة يكتبون عليه أعماله دقيقها وجليلها حتى تخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً وثانيها : {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} يحفظ عملها ورزقها وأجلها ، فإذا استوفى الإنسان أجله ورزقه قبضه إلى ربه ، وحاصله يرجع إلى وعيد الكفار وتسلية النبي صلى الله عليه وسلّم كقوله : {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِم إِنَّمَا} ثم ينصرفون عن قريب إلى الآخرة فيجازون بما يستحقونه وثالثها : إن كل نفس لما عليها حافظ ، يحفظها من المعاطب والمهالك فلا يصيبها إلا ما قدر الله عليها ورابعها : قال الفراء : إن كل نفس لما عليها حافظ يحفظها حتى يسلمها إلى المقابر ، وهذا قول الكلبي.
واعلم أنه تعالى لما أقسم على أن لكل نفس حافظاً يراقبها ويعد عليها أعمالها ، فحينئذ يحق لكل أحد أن يجتهد ويسعى في تحصيل أهم المهمات ، وقد تطابقت الشرائع والعقول على أن أهم المهمات معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ، واتفقوا على أن معرفة المبدأ مقدمة على معرفة المعاد ، فلهذا السبب بدأ الله تعالى بعد ذلك بما يدل على المبدأ.
جزء : 31 رقم الصفحة : 121
122
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الدفق صب الماء ، يقال : دفقت الماء ، أي صببته وهو مدفوق ، أي مصبوب ، ومندفق أي منصب ، ولما كان هذا الماء مدفوقاً اختلفوا في أنه لم وصف بأنه دافق على وجوه الأول : قال الزجاج : معناه ذو اندفاق ، كما يقال : دراع وفارس ونابل ولابن وتامر ، أي درع وفرس ونبل ولبن وتمر ، وذكر الزجاج أن هذا مذهب سيبويه الثاني : أنهم يسمون المفعول باسم الفاعل. قال الفراء : وأهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم ، يجعلون المفعول فاعلاً إذا كان في مذهب النعت ، كقوله سر كاتم ، وهم ناصب ، وليل نائم ، وكقوله تعالى : {حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي مرضية الثالث : ذكر الخليل في الكتاب المنسوب إليه دفق الماء دفقاً ودفوقاً إذا انصب بمرة ، واندفق الكوز إذا انصب بمرة ، ويقال في الطيرة عند انصباب الكوز ونحوه : دافق خير ، وفي كتاب قطرب : دفق الماء يدفق إذا انصب الرابع : صاحب الماء لما كان دافقاً أطلق ذلك على الماء على سبيل المجاز.
/ المسألة الثانية : قرىء الصلب بفتحتين ، والصلب بضمتين ، وفيه أربع لغات : صلب وصلب وصلب وصالب :
المسألة الثالثة : ترائب المرأة عظام صدرها حيث تكون القلادة ، وكل عظم من ذلك تريبة ، وهذا قول جميع أهل اللغة. قال امرؤ القيس :
ترائبها مصقولة كالسجنجل
المسألة الرابعة : في هذه الآية قولان : أحدهما : أن الولد مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وقال آخرون : إنه مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائبه ، واحتج صاحب القول الثاني على مذهبه بوجهين الأول : أن ماء الرجل خارج من الصلب فقط ، وماء المرأة خارج من الترائب فقط ، وعلى هذا التقدير لا يحصل هناك ماء خارج من بين الصلب والترائب ، وذلك على خلاف الآية الثاني : أنه تعالى بين أن الإنسان مخلوق {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} والذي يوصف بذلك هو ماء الرجل ، ثم عطف عليه بأن وصفه بأنه يخرج ، يعني هذا الدافق من بين الصلب والترائب ، وذلك يدل على أن الولد مخلوق من ماء الرجل فقط أجاب : القائلون بالقول الأول عن الحجة الأولى : أنه يجوز أن يقال للشيئين المتباينين : أنه يخرج من بين هذين خير كثير ، ولأن الرجل والمرأة عند اجتماعهما يصيران كالشيء الواحد ، فحسن هذا اللفظ هناك ، وأجابوا عن الحجة الثانية : بأن هذا من باب إطلاق اسم البعض على الكل ، فلما كان أحد قسمي المني دافقاً أطلق هذا الاسم على المجموع ، ثم قالوا : والذي يدل على أن الولد مخلوق من مجموع الماءين أن مني الرجل وحده صغير فلا يكفي ، ولأنه روي أنه عليه السلام قال : "إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكراً ويعود شبه إليه وإلى أقاربه ، وإذا غلب ماء المرأة فإليها وإلى أقاربها يعود الشبه" وذلك يقتضي صحة القول الأول.
جزء : 31 رقم الصفحة : 122
(1/4718)
واعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية ، فقالوا : إن كان المراد من قوله : {يَخْرُجُ مِنا بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآاـاِبِ} أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع فليس الأمر كذلك ، لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع ، وينفصل عن جميع أجزاء البدن حتى يأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته ، فيصير مستعداً لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء ، ولذلك فإن المفرط في الجماع يستولي الضعف على جميع أعضائه ، وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف ، بل معظم أجزائه إنما يتربى في الدماغ ، والدليل عليه أن صورته يشبه الدماغ ، ولأن المكثر منه يظهر الضعف أولاً في عينيه ، وإن كان المراد أن مستقر المني هناك فهو ضعيف/ لأن مستقر المني هو أوعية المني ، وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين ، وإن كان المراد أن مخرج المني هناك فهو ضعيف ، لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك الجواب : لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ ، والدماغ خليفة وهي النخاع وهو في الصلب ، وله شعب كثيرة نازلة / إلى مقدم البدن وهو التريبة ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر ، على أن كلامكم في كيفية تولد المني ، وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف ، وكلام الله تعالى أولى بالقبول.
المسألة الخامسة : قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل ، لوجوه أحدها : أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر ، فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار وثانيها : أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره ، فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم وثالثها : أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة ، فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى ورابعها : وهو أن الاستدلال بهذا الباب ، كما أنه يدل قطعاً على وجود الصانع المختار الحكيم ، فكذلك يدل قطعاً على صحة البعث والحشر والنشر ، وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين ، بل في جميع العالم ، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنساناً سوياً ، وجب أن يقال : إنه بعد موته وتفرق أجزائه لا بد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقاً سوياً ، كما كان أولاً ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ ، فرع عليه أيضاً دلالته على صحة المعاد فقال :
جزء : 31 رقم الصفحة : 122
125
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره ، والسبب فيه وجهان الأول : دلالة خلق عليه ، والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه الثاني : أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظاً ، ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه ، وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات ، هو الله سبحانه وتعالى ، فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور.
المسألة الثانية : الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته ، والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع ؟
فيه وجهان أولهما : وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان ، والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حياً ، وهو كقوله تعالى : {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (يس : 79) وقوله : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27) وثانيهما : أن الضمير غير عائد إلى الإنسان ، ثم قال مجاهد : قادر على أن يرد الماء في الإحليل ، وقال عكرمة والضحاك : على أن يرد الماء في الصلب. وروي أيضاً عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل ، وقال مقاتل بن حيان : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا / إلى النطفة ، واعلم أن القول الأول أصح ، ويشهد له قوله : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآاـاِرُ} أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة ، ثم إنه سبحانه لما أقام الدليل على صحة القول بالبعث والقيامة ، وصف حاله في ذلك اليوم فقال :
جزء : 31 رقم الصفحة : 125
125
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {يَوْمَ} منصوب برجعه ومن جعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بقوله : {فَمَا لَه مِن قُوَّةٍ} أي ماله من قوة ذلك اليوم.
المسألة الثانية : {تُبْلَى} أي تختبر ، والسرائر ما أسر في القلوب من العقائد والنيات ، وما أخفى من الأعمال ، وفي كيفية الابتلاء والاختبار ههنا أقوال :
(1/4719)
الأول : ما ذكره القفال معنى الاختبار ههنا أن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه وينظر أيضاً في الصحيفة التي كتبت الملائكة فيها تفاصيل أعمالهم ليعلم أن المذكور هل هو مطابق للمكتوب ، ولما كانت المحاسبة يوم القيامة واقعة على هذا الوجه جاز أن يسمى هذا المعنى ابتلاء ، وهذه التسمية غير بعيدة لعباده لأنها ابتلاء وامتحان ، وإن كان عالماً بتفاصيل ما عملوه وما لم يعملوه.
والوجه الثاني : أن الأفعال إنما يستحق عليها الثواب والعقاب لوجوهها ، فرب فعل يكون ظاهره حسناً وباطنه قبيحاً ، وربما كان بالعكس. فاختبارها ما يعتبر بين تلك الوجوه المتعارضة من المعارضة والترجيح ، حتى يظهر أن الوجه الراجح ما هو ، والمرجوح ما هو.
الثالث : قال أبو مسلم : بلوت يقع على إظهار الشيء ويقع على امتحانه كقوله : {وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} وقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} ثم قال المفسرون : {السَّرَآاـاِرُ} التي تكون بين الله وبين العبد تختبر يوم القيامة حتى يظهر خبرها من سرها ومؤديها من مضيعها ، وهذا معنى قول ابن عمر رضي الله عنهما : يبدي الله يوم القيامة كل سر منها ، فيكون ذيناً في الوجوه وشيناً في الوجوه ، يعني من أداها كان وجهه مشرقاً ومن ضيعها كان وجهه أغبر.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم ، لأن قوة الإنسان إما أن تكون له لذاته أو مستفادة من غيره ، فالأول منفي بقوله تعالى : {فَمَا لَه مِن قُوَّةٍ} والثاني منفي بقوله : {وَلا نَاصِرٍ} والمعنى ماله من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل من العذاب {وَلا نَاصِرٍ} ينصره في دفعه ولا شك أنه زجر وتحذير ، ومعنى دخول من في قوله : {مِن قُوَّةٍ} على وجه النفي لقليل ذلك وكثيره ، كأنه قيل : ماله من شيء من القوة ولا أحد من الأنصار.
جزء : 31 رقم الصفحة : 125
المسألة الرابعة : يمكن أن يتمسك بهذه الآية في نفي الشفاعة ، كقوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} (البقرة : 48) إلى قوله : {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} ، الجواب : ما تقدم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 125
130
/ اعلم أنه سبحانه وتعالى لما فرغ من دليل التوحيد ، والمعاد أقسم قسماً آخر ، أما قوله : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} فنقول : قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجيء ويتكرر. واعلم أن كلام الزجاج وسائر أئمة اللغة صريح في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر بل سمي رجعاً على سبيل المجاز ، ولحسن هذا المجاز وجوه أحدها : قال القفال : كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ووصل الحروف به ، فكذا المطر لكونه عائداً مرة بعد أخرى سمي رجعاً وثانيها : أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وثالثها : أنهم أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً ليرجع ورابعها : أن المطر يرجع في كل عام ، إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين أقوال : أحدها : قال ابن عباس : {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} أي ذات المطر يرجع لمطر بعد مطر وثانيها : رجع السماء إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالاً بعد حال على مرور الأزمان ترجعه رجعاً ، أي تعطيه مرة بعد مرة وثالثها : قال ابن زيد : هو أنها ترد وترجع شمسها وقمرها بعد مغيبهما ، والقول هو الأول ، أما قوله تعالى : {وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} فاعلم أن الصدع هو الشق ومنه قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (الروم : 43) أي يتفرقون وللمفسرين أقوال قال ابن عباس : تنشق عن النبات والأشجار ، وقال مجاهد : هو الجبلان بينهما شق وطريق نافذ. كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا} (الأنبياء : 31) وقال الليث : الصدع نبات الأرض ، لأنه يصدع الأرض فتنصدع به ، وعلى هذا سمي النبات صدعاً لأنه صادع للأرض ، واعلم أنه سبحانه كما جعل ، كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات ، فالسماء ذات الرجع كالأب ، والأرض ذات الصدع كالأم وكلاهما من النعم العظام لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء من المطر متكرراً ، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك ، ثم إنه تعالى أردف هذا القسم بالمقسم عليه فقال : {إِنَّه لَقَوْلٌ فَصْلٌ} وفيه مسائل :
جزء : 31 رقم الصفحة : 130
المسألة الأولى : في هذا الضمير قولان :
الأول : ما قال القفال وهو : أن المعنى أن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم / الذي تبلى فيه سرائركم قول فصل وحق.
والثاني : أنه عائد إلى القرآن أي القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل : له فرقان ، والأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أولى.
(1/4720)
المسألة الثانية : {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي حكم ينفصل به الحق عن الباطل ، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم ، ويقال : هذا فصل أي قاطع للمراء والنزاع ، وقال بعض المفسرين : معناه أنه جد حق لقوله : {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي باللعب ، والمعنى أن القرآن أنزل بالجد ، ولم ينزل باللعب ، ثم قال : {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} والمعنى أن البيان الفصل قد يذكر على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وقد يكون على غير سبيل الجد وهذا الموضع من ذلك ، ثم قال : {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} وذلك الكيد على وجوه. منها بإلقاء الشبهات كقولهم : {إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} (الأنعام : 29) {مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} (يس : 78) {أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَاهًا وَاحِدًا } (ص : 5) {لَوْلا نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف : 31) {فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} ومنها بالطعن فيه بكونه ساحراً وشاعراً ومجنوناً ، ومنها بقصد قتله على ما قاله : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} (الأنفال : 30) ثم قال : {وَأَكِيدُ كَيْدًا} .
واعلم أن الكيد في حق الله تعالى محمول على وجوه : أحدها : دفعه تعالى كيد الكفرة عن محمد عليه الصلاة والسلام ويقابل ذلك الكيد بنصرته وإعلاء دينه تسمية لأحد المتقابلين باسم كقوله تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وقال الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وكقوله تعالى : {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَا هُمْ أَنفُسَهُمْ } (الحشر : 19) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء : 142) وثانيها : أن كيده تعالى بهم هو إمهاله إياهم على كفرهم حتى يأخذهم على غرة ، ثم قال : {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل ، ثم إنه تعالى لما أمره بإمهالهم بين أن ذلك الإمهال المأمور به قليل ، فقال : {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين من الرسول عليه الصلاة والسلام والتصبر وههنا مسائل :
جزء : 31 رقم الصفحة : 130
المسألة الأولى : قال أبو عبيدة : إن تكبير رويد رود ، وأنشد :
يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته
كأنه ثمل يمشي على ورد
أي على مهلة ورفق وتؤدة ، وذكر أبو علي في باب أسماء الأفعال رويداً زيداً يريد أرود زيداً ، ومعناه أمهله وارفق به ، قال النحويون : رويد في كلام العرب على ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون اسماً للأمر كقولك : رويد زيداً تريد أرود زيد أي خله ودعه وأرفق به ولا تنصرف رويد في هذا الوجه لأنها غير متمكنة والثاني : أن يكون بمنزلة سائر المصادر فيضاف إلى ما بعده كما تضاف المصادر تقول : رويد زيد ، كما تقول : ضرب زيد قال تعالى : {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد : 4) ، والثالث : أن يكون نعتاً منصوباً كقولك : ساروا سيراً رويداً ، ويقولون أيضاً : ساروا رويداً ، يحذفون المنعوت / ويقيمون رويداً مقامه كما يفعلون بسائر النعوت المتمكنة ، ومن ذلك قول العرب : ضعه رويداً أي وضعاً رويداً ، وتقول للرجل : يعالج الشيء الشيء رويداً ، أي علاجاً رويداً ، ويجوز في هذا الوجه أمران أحدهما : أن يكون رويداً حالاً والثاني : أن يكون نعتاً فإن أظهرت المنعوت لم يجز أن يكون للحال ، والذي في الآية هو ما ذكرنا في الوجه الثالث ، لأنه يجوز أن يكون نعتاً للمصدر كأنه قيل : إمهالاً رويداً ، ويجوز أن يكون للحال أي أمهلهم غير مستعجل.
المسألة الثانية : منهم من قال : {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} إلى يوم القيامة وإنما صغر ذلك من حيث علم أن كل ما هو آت قريب ، ومنهم من قال : {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} إلى يوم بدر والأول أولى ، لأن الذي جرى يوم بدر وفي سائر الغزوات لا يعم الكل ، وإذا حمل على أمر الآخرة عم الكل ، ولا يمتنع مع ذلك أن يدخل في جملته أمر الدنيا ، مما نالهم يوم بدر وغيره ، وكل ذلك زجر وتحذير للقوم ، وكما أنه تحذير لهم فهو ترغيب في خلاف طريقهم في الطاعات ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 130
131
(1/4721)
سورة الأعلى
تسع عشر آية مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 131
132
/ اعلم أن قوله تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} فيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {اسْمَ رَبِّكَ} قولان : أحدهما : أن المراد الأمر بتنزيه اسم الله وتقديسه والثاني : أن الاسم صلة والمراد الأمر بتنزيه الله تعالى. أما على الوجه الأول ففي اللفظ احتمالات أحدها : أن المراد نزه اسم ربك عن أن تسمي به غيره ، فيكون ذلك نهياً على أن يدعى غيره باسمه ، كما كان المشركون يسمون الصنم باللات ، ومسيلمة برحمان اليمامة وثانيها : أن لا يفسر أسماءه بما لا يصح ثبوته في حقه سبحانه نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء والاستواء بالاستيلاء وثالثها : أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم ، ويدخل فيه أن يذكر تلك الأسماء عند الغفلة وعدم الوقوف على معانيها وحقائقها ورابعها : أن يكون المراد بسبح باسم ربك ، أي مجده بأسمائه التي أنزلتها عليك وعرفتك أنها أسماؤه كقوله : {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَ } (الإسراء : 110) ونظير هذا التأويل قوله تعالى : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة : 74) ومقصود الكلام من هذا التأويل أمران : أحدهما : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} ، أي صل باسم ربك ، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية والثاني : أن لا يذكر العبد ربه إلا بأسماء التي ورد التوقيف بها ، قال الفراء : لا فرق بين {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} وبين {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قال الواحدي : وبينهما فرق لأن معنى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} نزه الله تعالى بذكر اسمه المنبىء عن تنزيهه وعلوه عما يقول المبطلون ، و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} أي نزه الاسم من السوء وخامسها : قال أبو مسلم : المراد من الاسم ههنا الصفة ، وكذا في / قوله تعالى : {وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف : 180) أما على الوجه الثاني وهو أن يكون الاسم صلة ويكون المعنى سبح ربك وهو اختيار جمع من المحققين ، قالوا : لأن الاسم في الحقيقة لفظة مؤلفة من حروف ولا يجب تنزيهها كما يجب في الله تعالى ، ولكن المذكور إذا كان في غاية العظمة لا يذكر هو بل يذكر اسمه فيقال : سبح اسمه ، ومجد ذكره ، كما يقال : سلام على المجلس العالي ، وقال لبيد :
جزء : 31 رقم الصفحة : 132
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
أي السلام وهذه طريقة مشهورة في اللغة ، ونقول على هذا الوجه : تسبيح الله يحتمل وجهين الأول : أن لا يعامل الكفار معاملة يقدمون بسببها على ذكر الله بما لا ينبغي على ما قال : {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، الثاني : أنه عبارة عن تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به ، في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، وفي أسمائه وفي أحكامه ، أما في ذاته فأن يعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض ، وأما في صفاته ، فأن يعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة ، وأما في أفعاله فأن يعتقد أنه مالك مطلق ، فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور ، وقالت المعتزلة هو أن يعتقد أن كل ما فعله فهو صواب حسن ، وأنه لا يفعل القبيح ولا يرضى به ، وأما في أسمائه فأن لا يذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها ، هذا عندنا وأما عند المعتزلة فهو أن لا يذكر إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه سواء ورد الإذن بها أو لم يرد/ وأما في أحكامه فهو أن يعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه. بل إما لمحض المالكية على ما هو قولنا ، أو لرعاية مصالح العباد على ما (هو) قول المعتزلة.
(1/4722)
المسألة الثانية : من الناس من تمسك بهذه الآية في أن الإسم نفس المسمى ، فأقول : إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع ، فلا بد ههنا من بيان أن الإسم ما هو والمسمى ما هو حتى يمكننا أن نخوض في الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ، فنقول : وإن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ ، وبالمسمى تلك الذات ، فالعاقل لا يمكنه أن يقول : الاسم هو المسمى ، وإن كان المراد ، من الاسم هو تلك الذات ، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم نفس المسمى ، هو أن تلك الذات نفس تلك الذات ، وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل ، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة. وإن كان كذلك كان الخوض في ذكر الاستدلال عليه أرك وأبعد بل ههنا دقيقة ، وهي أن قولنا : اسم لفظة جعلناها اسماً لكل ما دل على معنى غير مقترن بزمان ، والاسم كذلك فيلزم أن يكون الاسم إسماً لنفسه فههنا الاسم نفس المسمى فلعل العلماء الأولين ذكروا ذلك فاشتبه الأمر على المتأخرين ، وظنوا أن الاسم في جميع المواضع نفس المسمى ، هذا حاصل التحقيق في هذه المسألة ، ولنرجع إلى الكلام المألوف ، قالوا : الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى أن أحداً لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا فمعنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} سبح ربك ، والرب أيضاً اسم فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه ، واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لما بينا / في المسألة الأولى أنه يمكن أن يكون الأمر وارداً بتسبيح الاسم ، ويمكن أن يكون المراد تسبيح المسمى وذكر الاسم صلة فيه. ويمكن أن يكون المراد سبح باسم ربك كما يقال : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة : 74) ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 132
المسألة الثالثة : روى عن عقبة بن عامر أنه لما نزل قوله تعالى : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزل قوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} قال : "اجعلوها في سجودكم" ثم روي في الأخبار أنه عليه السلام كان يقول : في ركوعه : "سبحان ربي العظيم" وفي سجوده : "سبحان ربي الأعلى" ثم من العلماء من قال : إن هذه الأحاديث تدل على أن المراد من قوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} أي صل باسم ربك ، ويتأكد هذا الاحتمال بإطباق المفسرين على أن قوله تعالى : {فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم : 17) ورد في بيان أوقات الصلاة.
المسألة الرابعة : قرأ علي عليه السلام وابن عمر : سبحان ربي الأعلى * الذي خلق فسوى ولعل الوجه فيه أن قوله : {سَبِّحِ} أمر بالتسبيح فلا بد وأن يذكر ذلك التسبيح وما هو إلا قوله : {سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا} .
المسألة الخامسة : تمسكت المجسمة في إثبات العلو بالمكان بقوله : {رَبِّكَ الاعْلَى} والحق أن العلو بالجهة على الله تعالى محال ، لأنه تعالى إما أن يكون متناهياً أو غير متناه ، فإن كان متناهياً كان طرفه الفوقاني متناهياً ، فكان فوقه جهة فلا يكون هو سبحانه أعلى من جميع الأشياء وأما إن كان غير متناه فالقول : بوجود أبعاد غير متناهية محال وأيضاً فلأنه إن كان غير متناه من جميع الجهات يلزم أن تكون ذاته تعالى مختلطة بالقاذورات تعالى الله عنه ، وإن كان غير متناه من بعض الجهات ومتناهياً من بعض الجهات كان الجانب المتناهي مغايراً للجانب غير المتناهي فيكون مركباً من جزأين ، وكل مركب ممكن ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود ، هذا محال. فثبت أن العلو ههنا ليس بمعنى العلو في الجهة/ مما يؤكد ذلك أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ينافي أن يكون المراد هو العلو بالجهة ، أما قبل الآية فلأن العلو عبارة عن كونه في غاية البعد عن العالم ، وهذا لا يناسب استحقاق التسبيح والثناء والتعظيم ، أما العلو بمعنى كمال القدرة والتفرد بالتخليق والإبداع فيناسب ذلك ، والسورة ههنا مذكورة لبيان وصفه تعالى بما لأجله يستحق الحمد والثناء والتعظيم ، وأما ما بعد هذه الآية فلأنه أردف قوله : {الاعْلَى } بقوله : {الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى } والخالقية تناسب العلو بحسب القدرة لا العلو بحسب الجهة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 132
المسألة السادسة : من الملحدين من قال : بأن القرآن مشعر بأن للعالم ربين أحدهما عظيم والآخر أعلى منه ، أما العظيم فقوله : {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وأما الأعلى منه فقوله : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} فهذا يقتضي وجود رب آخر يكون هذا أعلى بالنسبة إليه.
واعلم أنه لما دلت الدلائل على أن الصانع تعالى واحد سقط هذا السؤال ، ثم نقول ليس في / هذه الآية أنه سبحانه وتعالى أعلى من رب آخر ، بل ليس فيه إلا أنه أعلى ، ثم لنا فيه تأويلات.
(1/4723)
الأول : أنه تعالى أعلى وأجل وأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ، ومن كل ذكر يذكره به الذاكرون ، فجلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا ، وأصناف آلائه ونعمائه أعلى من حمدنا وشكرنا ، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا.
الثاني : أن قوله : {الاعْلَى } تنبيه على استحقاق الله التنزيه من كل نقص فكأنه قال سبحانه فإنه : {الاعْلَى } أي فإنه العالي على كل شيء بملكه وسلطانه وقدرته ، وهو كما تقول : اجتنبت الخمر المزيلة للعقل أي اجتنبتها بسبب كونها مزيلة للعقل.
والثالث : أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير.
المسألة السابعة : روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول : "لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة" وروى : "أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ : (سبح اسم ربك الأعلى ، الذي يسر على الحبلى ، فأخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشاً ، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، ألا بلى ألا بلى) فقالت عائشة : لا آب غائبكم ، ولا زالت نساؤكم في لزبة" والله أعلم.
أما قوله تعالى : {الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح ، فكأن سائلاً قال : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة ، فما الدليل على وجود الرب ؟
فقال : {الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم * والدليل عليه ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ، أنه قال : {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} (الشعراء : 78) وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهرون عليهما السلام : {فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى } (طه : 49) ؟
قال موسى عليه السلام : {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَه ثُمَّ هَدَى } (طه : 50) وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق : 2,1) هذا إشارة إلى الخلق ، ثم قال : {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق : 4,3) وهذا إشارة إلى الهداية ، ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة ، فقال : {الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيراً لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر ، ومشاهدة الإنسان لها/ واطلاعه عليها أتم ، فلا جرم كانت أقوى في الدلالة ، ثم ههنا مسائل :
جزء : 31 رقم الصفحة : 132
المسألة الأولى : قوله : {خَلَقَ فَسَوَّى } يحتمل أن يريد به الناس خاصة ، ويحتمل أن يريد الحيوان ، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه ، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً أحدها : أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة ، على ما قال : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين : 4) وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه ، فقال : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ} ، وثانيها : أن كل حيوان / فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط ، وغير مستعد لسائر الأعمال ، أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا وثالثها : أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات ، وأما من حمله على جميع الحيوانات. قال : المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس ، وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، وأما من حمله على جميع المخلوقات ، قال : المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات ، خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفاً بوصف الأحكام والإتقان ، مبرأ عن الفسخ والاضطراب.
المسألة الثانية : قرأ الجمهور : {قُدِرَ} مشددة وقرأ الكسائي على التخفيف ، أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم ، وأما التخفيف فقال القفال : معناه ملك فهدى وتأويله : أنه خلق فسوى ، وملك ما خلق ، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد ، وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه ، ومنهم من قال : هما لغتان بمعنى واحد ، وعليه قوله تعالى : {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ} بالتشديد والتخفيف.
(1/4724)
المسألة الثالثة : أن قوله : {قُدِرَ} يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السموات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم ، وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقداراً معلوماً على ما قال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر : 21) وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات ، بل العالم كله من أعلى اعليين إلى أسفل السافلين ، تفسير هذه الآية. وتفصيل هذه الجملة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 132
أما قوله : {فَهَدَى } فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين ، فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى ، وقوله : {فَهَدَى } عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدراً لفعل معين ، ويحصل من مجموعها تمام المصلحة ، وللمفسرين فيه وجوه ، قال مقاتل : هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها ، وقال آخرون : هداه للمعيشة ورعاه ، وقال آخرون : هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة ، وذلك لأنه جعله حساساً دراكاً متمكناً من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال : {إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان : 3) وقال : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا} (الشمس : 8,7) وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال الفراء : قدر فهدى وأضل ، فاكتفى بذكر إحداهما : كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل : 81) وقال آخرون : الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله : {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى } (الشورى : 52) أي تدعو/ وقد دعى الكل إلى الإيمان ، وقال / آخرون : هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه ، ونعوت صمديته ، وفردانيته ، وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعال محكمة متقنة منتسقة منتظمة ، فهي لا محالة تدل على الصانع القديم ، وقال قتادة في قوله : {فَهَدَى } إن الله تعالى ما أكره عبداً على معصية ، ولا على ضلالة ، ولا رضيها له ولا أمره بها ، ولكن رضي لكم الطاعة ، وأمركم بها ، ونهاكم عن المعصية ، واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين ، فمنهم من حمل قوله : {فَهَدَى } على ما يتعلق بالدين كقوله : {وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ} ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا ، والأول أقوى ، لأن قوله : {خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } يرجع إلى أحوال الدنيا ، ويدخل فيه إكمال العقل والقوى ، ثم أتبعه بقوله : {فَهَدَى } أي كلفه ودله على الدين ، أما قوله تعالى : {وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى } فاعلم أنه سبحانه لما بين ما يختص به الناس أتبعه بذكر ما يختص به غير الناس من النعم : فقال : {وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى } أي هو القادر على إنبات العشب لا الأصنام التي عبدتها الكفرة ، والمرعى ما تخرجه الأرض من النبات ومن الثمار والزروع والحشيش ، قال ابن عباس : المرعى الكلأ الأخضر ، ثم قال : فجعله غثاء أحوى وفيه مسألتان :
جزء : 31 رقم الصفحة : 132
المسألة الأولى : الغثاء ما يبس من النبت فحملته الأودية والمياه وألوت به الرياح ، وقال قطرب واحد الغثاء غثاءة.
المسألة الثانية : الحوة السواد ، وقال بعضهم : الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة ، وفي أحوى قولان : أحدهما : أنه نعت الغثاء أي صار بعد الخضرة يابساً فتغير إلى السواد ، وسبب ذلك السواد أمور أحدها : أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء ، ومن شأن البرودة أنها تبيض الرطب وتسود اليابس وثانيها : أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسود وثالثها : أن يحملها الريح فتلصق بها الغبار الكثير فتسود القول الثاني : وهو اختيار الفراء وأبي عبيدة ، وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته ، كما قيل : {مُدْهَآمَّتَانِ} أي سوداوان لشدة خضرتهما ، والتقدير الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء ، كقوله : {وَلَمْ يَجْعَل لَّه عِوَجَا * قَيِّمًا} أي أنزل قيماً ولم يجعل له عوجاً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 132
133
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً بالتسبيح فقال : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى} (الأعلى : 1) وعلم محمداً عليه السلام أن ذلك التسبيح لا يتم ولا يكمل إلا بقراءة ما أنزله الله تعالى عليه من القرآن ، لما بينا أن التسبيح الذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه ، فلا جرم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأزال الله تعالى ذلك الخوف عن قلبه بقوله : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } وفيه مسائل :
(1/4725)
/ المسألة الأولى : قال الواحدي : {سَنُقْرِئُكَ} أي سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه ، والمعنى نجعلك قارئاً للقرآن تقرؤه فلا تنساه ، قال مجاهد ومقاتل والكلبي : كان عليه السلام إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى ، وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله مخافة النسيان ، فقال تعالى : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } أي سنعلمك هذا القرآن حتى تحفظه ، ونظيره قوله : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى ا إِلَيْكَ وَحْيُه } (طه : 114) وقوله : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه } ثم ذكروا في كيفية ذلك الاستقراء والتعليم وجوهاً أحدها : أن جبريل عليه السلام سيقرأ عليك القرآن مرات حتى تحفظه حفظاً لا تنساه وثانيها : أنا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه وثالثها : أنه تعالى لما أمره في أول السورة بالتسبيح فكأنه تعالى قال : واظب على ذلك ودم عليه فإنا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين ويكون فيه ذكرك وذكر قومك ونجمعه في قلبك ، ونيسرك لليسرى وهو العمل به.
المسألة الثانية : هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين الأول : أنه كان رجلاً أمياً فحفظه لهذا الكتاب المطول من غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة ، خارق للعادة فيكون معجزاً الثاني : أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة ، فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل وقد وقع فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً ، أما قوله : {فَلا تَنسَى } فقال بعضهم : {فَلا تَنسَى } معناه النهي ، والألف مزيدة للفاصلة ، كقوله : {السَّبِيلا} (الأحزاب : 67) يعني فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه ، والقول المشهور أن هذا خبر والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان ، كقولك سأكسوك فلا تعرى أي فتأمن العرى ، واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلا يصح ورود الأمر والنهي به ، فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة التذكر. وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ. ومنها أن تجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضاً خلاف الأصل ومنها أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه ، وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة ، وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول ، ولأنه على خلاف قوله : {لا تُحَرِّكْ بِه لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه } (القيامة : 16).
جزء : 31 رقم الصفحة : 133
(1/4726)
أما قوله : {إِلا مَا شَآءَ اللَّه } ففيه احتمالان أحدهما : أن يقال : هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة وأنه عليه السلام لم ينس بعد ذلك شيئاً ، قال الكلبي : إنه عليه السلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً/ وعلى هذا التقدير يكون الغرض من قوله : {إِلا مَا شَآءَ اللَّه } أحد أمور أحدها : التبرك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى : {وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ غَدًا * إِلا أَن يَشَآءَ اللَّه } (الكهف : 24,23) وكأنه تعالى يقول : أنا مع أني عالم بجميع المعلومات وعالم بعواقب الأمور على التفصيل لا أخبر عن / وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة فأنت وأمتك يا محمد أولى بها وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمد عليه السلام شيئاً ، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لذلك لقدر عليه ، كما قال : {وَلَـاـاِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} (الإسراء : 86) ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال لمحمد عليه السلام : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} مع أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ألبتة ، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته وثالثها : أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله صلى الله عليه وسلّم في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ ، في جميع الأحوال ورابعها : أن يكون الغرض من قوله : {إِلا مَا شَآءَ اللَّه } نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء (الله) ، ولا يقصد استثناء شيء. القول الثاني : أن قوله : {إِلا مَا شَآءَ اللَّه } استثناء في الحقيقة ، وعلى هذا التقدير تحتمل الآية وجوهاً أحدها : قال الزجاج : إلا ما شاء الله أن ينسى ، فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك ، فإذاً قد ينسى ولكنه يتذكر فلا ينسى نسياناً كلياً دائماً ، روى أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ، فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله فقال : نسيتها. وثانيها : قال مقاتل : إلا ما شاء الله أن ينسيه ، ويكون المراد من الإنساء ههنا نسخة ، كما قال : {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ} فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها ، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به ، فيصير ذلك سبباً لنسيانه ، وزواله عن الصدور. وثالثها : أن يكون معنى قوله : {إِلا مَا شَآءَ اللَّه } القلة والندرة ، ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع ، بل من الآداب والسنن ، فإنه لو نسي شيئاً من الواجبات ولم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع ، وإنه غير جائز.
جزء : 31 رقم الصفحة : 133
أما قوله تعالى : {إِنَّه يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } ففيه وجهان أحدهما : أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام ، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان ، فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه والثاني : أن يكون المعنى : فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ ، فإنه أعلم بمصالح العبيد ، فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ.
جزء : 31 رقم الصفحة : 133
134
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اليسرى هي أعمال الخير التي تؤدي إلى اليسر ، إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين فيه وجوه : أحدها : أن قوله : {وَنُيَسِّرُكَ} معطوف على وقوله : {اللَّه إِنَّه يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } اعتراض ، والتقدير : سنقرؤك فلا تنسى ، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر ، يعني في حفظ القرآن وثانيها : قال ابن مسعود : اليسرى الجنة ، والمعنى نيسرك للعمل المؤدى إليها وثالثها : نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به ورابعها : نوفقك للشريعة وهي الحنيفية السهلة السمحة ، والوجه الأول أقرب.
(1/4727)
المسألة الثانية : لسائل أن يسأل فيقول العبارة المعتادة أن يقال : جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان ، ولا يقال : جعل فلان ميسراً للفعل الفلاني فما الفائدة فيه ؟
ههنا الجواب : أن هذه العبارة كما أنها اختيار القرآن في هذا الموضع ، وفي سورة الليل أيضاً ، فكذا هي اختيار الرسول في قوله عليه السلام : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" وفيه لطيفة علمية ، وذلك لأن ذلك الفعل في نفسه ماهية ممكنة قابلة للوجود والعدم على السوية ، فما دام القادر يبقى بالنسبة إلى فعلها وتركها على السوية امتنع صدور الفعل عنه ، فإذا نرجح جانب الفاعلية على جانب التاركية ، فحينئذ يحصل الفعل ، فثبت أن الفعل ما لم يجب لم يوجد ، وذلك الرجحان هو المسمى بالتيسير ، فثبت أن الأمر بالتحقيق هو أن الفاعل يصير ميسراً للفعل ، لا أن الفعل يصير ميسراً للفاعل ، فسبحان من له تحت كل كلمة حكمة خفية وسر عجيب يبهر العقول.
المسألة الثالثة : إنما قال : {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } بنون التعظيم لتكون عظمة المعطى دالة على عظمة العطاء ، نظيره قوله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ} (يوسف : 2) {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر : 9) (إنا أعطيناك الكوثر} (الكوثر : 1) دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره ، وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال ، ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين ، وهدياً للخلق أجمعين.
دلت هذه الآية على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب التيسير والستهيل ما لم يفتحه على أحد غيره ، وكيف لا وقد كان صبياً لا أب له ولا أم له نشأ في قوم جهال ، ثم إنه تعالى جعله في أفعاله وأقواله قدوة للعالمين ، وهدياً للخلق أجمعين.
جزء : 31 رقم الصفحة : 134
135
فاعلم أنه تعالى لما تكمل بتيسير جميع مصالح الدنيا والآخرة أمر بدعوة الخلق إلى الحق ، لأن كمال حال الإنسان في أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه تاماً وفوق التمام ، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام تاماً بمقتضى قوله : {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } (الأعلى : 8) أمر بأن يجعل نفسه فوق التمام بمقتضى قوله : {فَذَكِّرْ} لأن التذكير يقتضي تكميل الناقصين وهداية الجاهلين ، ومن كان كذلك كان فياضاً للكمال ، فكان تاماً وفوق التمام ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم ، فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله : {إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ؟
الجواب : أن المعلق بأن على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء ، ويدل عليه آيات منها هذه الآية ومنها قوله : {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النور : 33) ومنها قوله : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة : 172) ومنها قوله : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النساء : 101) فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف ، ومنها قوله : {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَـانٌ} (البقرة : 283) والرهن جائز مع الكتابة ، ومنها قوله : {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه } والمراجعة جائزة بدون هذا الظن ، إذا عرفت هذا فنقول ذكروا لذكر هذا الشرط فوائد إحداها : أن من باشر فعلاً لغرض فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة إلى ذلك الغرض ، كان إلى ذلك الفعل أوجب من الصورة التي علم فيها عدم ذلك الأفضاء ، فلذلك قال : {إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } وثانيها : أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين ، ونبه على الأخرى كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل : 81) والتقدير : {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } أو لم تنفع وثالثها : أن المراد منه البعث على الانتفاع بالذكرى ، كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق : قد أوضحت لك إن كنت تعقل فيكون مراده البعث على القبول والانتفاع به ورابعها : أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه لا تنفعهم الذكرى كما يقال للرجل : ادع فلاناً إن أجابك ، والمعنى وما أراه يجيبك وخامسها : أنه عليه السلام دعاهم إلى الله كثيراً ، وكلما كانت دعوته أكثر كان عتوهم أكثر ، وكان عليه السلام يحترق حسرة على ذلك فقيل له : {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍا فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق : 45) إذ التذكير العام واجب في أول الأمر فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط.
جزء : 31 رقم الصفحة : 135
(1/4728)
السؤال الثاني : التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلاً بالعواقب ، أما علام الغيوم فكيف يليق به ذلك ؟
الجواب : روي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّه يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه : 44) وأنا أشهد أنه لا يتذكر ولا يخشى. فأمر الدعوة والبعثة شيء وعلمه تعالى بالمغيبات وعواقب الأمور غير ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر.
السؤال الثالث : التذكير المأمور به هل مضبوط مثل أن يذكرهم عشرات مرات ، أو غير مضبوط ، وحينئذ كيف يكون الخروج عن عهدة التكليف ؟
والجواب : أن الضابط فيه هو العرف والله أعلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 135
135
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام منهم من قطع بصحته ، ومنهم من جوز وجوده ولكنه غير قاطع فيه لا بالنفي ولا بالإثبات ، ومنهم من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون فالقسمان الأولان تكون الخشية حاصلة لهما ، وأما القسم الثالث فلا خشية له ولا خوف إذا عرفت ذلك ظهر أن الآية تحتمل تفسيرين : أحدهما : أن يقال : الذي يخشى هو الذي يكون عارفاً بالله وعارفاً بكمال قدرته وعلمه وحكمته ، وذلك يقتضي كونه قاطعاً بصحة المعاد / ولذلك قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } (فاطر : 28) فكأنه تعالى لما قال : {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } بين في هذه الآية أن الذي تنفعه الذكرى من هو ، ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنياً على حصول الخشية في القلب ، وصفات القلوب مما لا اطلاع لأحد عليها إلا الله سبحانه وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلاً للمقصود ، فإن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير ، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير. الثاني : أن يقال : إن الخشية حاصلة للعاملين وللمتوقفين غير المعاندين وأكثر الخلق متوقفون غير معاندين والمعاند فيهم قليل ، فإذا ضم إلى المتوقفين الذين لهم الغلبة العارفون كانت الغلبة العظيمة لغير المعاندين ، ثم إن كثيراً من المعاندين ، إنما يعاندون باللسان ، فأما المعاند في قلبه بينه وبين نفسه فذلك مما لا يكون أو إن كان فهو في غاية الندرة والقلة ، ثم إن الإنسان إذا سمع التخويف بأنه {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } (الأعلى : 12) وأنه {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } (الأعلى : 13) انكسر قلبه فلا بد وأن يستمع وينتفع أغلب الخلق في أغلب الأحوال ، وأما ذلك المعرض فنادر ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير ، فمن هذا الوجه كان قوله : {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } يوجب تعميم التذكير.
المسألة الثالثة : السين في قوله : {سَيَذَّكَّرُ} يحتمل أن تكون بمعنى سوف يذكر وسوف من الله واجب كقوله : {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } (الأعلى : 6) ويحتمل أن يكون المعنى أن من خشي الله فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر فهو بعد طول المدة يذكر ، والله أعلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 135
المسألة الرابعة : العلم إنما يسمى تذكراً إذا كان قد حصل العلم أولاً ثم نسيه وهذه الحالة غير حاصلة للكفار فكيف سمى الله تعالى ذلك بالتذكر ؟
وجوابه : أن لقوة الدلائل وظهورها كأن ذلك العلم كان حاصلاً ، ثم إنه زال بسبب التقليد والعناد. فلهذا أسماه الله تعالى بالتذكر.
المسألة الخامسة : قيل : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ، وقيل : نزلت في ابن أم مكتوم. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 135
136
فاعلم أنا بينا أن أقسام الخلق ثلاثة العارفون والمتوقفون والمعاندون ، وبينا أن القسمين الأولين ، لا بد وأن يكون لهما خوف وخشية ، وصاحب الخشية لا بد وأن يستمع إلى الدعوة وينتفع بها ، فيكون الأشقى هو المعاند الذي لا يستمع إلى الدعوة ولا ينتفع بها ، فلهذا قال تعالى : {وَيَتَجَنَّبُهَا الاشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير النار {الْكُبْرَى} وجوهاً أحدها : قال الحسن : الكبرى نار جهنم ، والصغرى نار الدنيا وثانيها : أن في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة كماأن في الدنيا ذنوباً ومعاصي متفاضلة ، وكما أن الكافر أشقى العصاة كذلك يصلى أعظم النيران وثالثها : / أن النار الكبرى هي النار السفلى ، وهي تصيب الكفار على ما قال تعالى : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145).
المسألة الثانية : قالوا : نزلت هذه الآية في الوليد وعتبة وأبي ، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لا سيما وقد بينا صحة هذا الترتيب بالبرهان العقلي.
(1/4729)
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : إن الله تعالى ذكر ههنا قسمين أحدهما : الذي يذكر ويخشى والثاني : الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ، لكن وجود الأشقى يستدعي وجود الشقي فكيف حال هذا القسم ؟
وجوابه : أن لفظة الأشقى لا تقتضي وجود الشقي إذ قد يجري مثل هذا اللفظ من غير مشاركة ، كقوله تعالى : {أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} (الفرقان : 24) وقيل : المعنى ، ويتجنبها الشقي الذي يصلى كما في قوله : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه } (الروم : 27) أي هين عليه ، ومثل قول القائل :
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
هذا ما قيل لكن التحقيق ما ذكرنا أن الفرق الثلاثة ، العارف والمتوقف والمعاند فالسعيد هو العارف ، والمتوقف له بعض الشقاء والأشقى هو المعاند الذي بينا أنه هو الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغى إليها ويتجنبها. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 136
136
ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : للمفسرين فيه وجهان : أحدهما : لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه ، كما قال : {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا } (فاطر : 36) وهذا على مذهب العرب تقول للمبتلي بالبلاء الشديد لا هو حي ولا هو ميت وثانيهما : معناه أن نفس أحدهم في النار تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.
المسألة الثانية : إنما قيل : {ثُمَّ} لأن هذه الحالة أفظع وأعظم من الصلى فهو متراخ عنه في مراتب الشدة. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 136
137
ففيه وجهان : أحدهما : أنه تعالى لما ذكر وعيد من أعرض عن النظر والتأمل في دلائل الله تعالى ، أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر من دنس الشرك وثانيهما : وهو قول الزجاج : تكثر من التقوى لأن معنى الزاكي النامي الكثير ، وهذا الوجه معتضد بقوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَـاشِعُونَ} (المؤمنون : 2,1) أثبت الفلاح للمستجمعين لتلك الخصال وكذلك قوله تعالى في أول البقرة : {وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة : 5) وأما الوجه الأول فإنه معتضد بوجهين : الأول : أنه تعالى لما لم يذكر في الآية ما يجب التزكي عنه علمنا أن المراد هو التزكي عما مر ذكره قبل الآية ، وذلك هو الكفر ، فعلمنا أن المراد ههنا : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } عن الكفر الذي مر ذكره قبل هذه الآية والثاني : أن الاسم المطلق ينصرف إلى المسمى الكامل ، وأكمل أنواع التزكية هو تزكية القلب عن ظلمة الكفر فوجب صرف هذا المطلق إليه ، ويتأكد هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه قال معنى : {تَزَكَّى } قول : لا إله إلا الله. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 137
137
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكر المفسرون فيه وجوهاً. أحدها : قال ابن عباس : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له. وأقول : هذا التفسير متعين وذلك لأن مراتب أعمال المكلف ثلاثة أولها : إزالة العقائد الفاسدة عن القلب وثانيها : استحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه وثالثها : الاشتغال بخدمته.
فالمرتبة الأولى : هي المراد بالتزكية في قوله : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } (الأعلى : 14).
وثانيها : هي المراد بقوله : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه } فإن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة.
وثالثها : الخدمة وهي المراد بقوله : {فَصَلَّى } فإن الصلاة عبارة عن التواضع والخشوع فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله تعالى وكبريائه ، لا بد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخضوع والخشوع.
(1/4730)
وثانيها : قال قوم من المفسرين قوله : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } يعني من تصدق قبل مروره إلى العيد : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه فَصَلَّى } يعني ثم صلى صلاة العيد بعد ذلك مع الإمام. وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن سيرين وابن عمر وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، وهذا التفسير فيه إشكال من وجهين الأول : أن عادة الله تعالى في القرآن تقديم ذكر الصلاة على ذكر الزكاة لا تقديم الزكاة على الصلاة والثاني : قال الثعلبي : هذه السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. أجاب الواحدي عنه بأنه لا يمتنع أن يقال : لما كان في معلوم الله تعالى أن ذلك سيكون أثنى على من فعل ذلك وثالثها : قال مقاتل : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } (الأعلى : 14) أي تصدق من ماله وذكر ربه بالتوحيد في الصلاة فصلى له ، والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا يتناول الزكاة والصلاة المفروضتين ، والوجه الأول ليس كذلك ورابعها : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } ليس المراد منه زكاة المال بل زكاة الأعمال أي من تطهر في أعماله من الرياء والتقصير ، لأن اللفظ المعتاد أن يقال : في المال زكى ولا يقال تزكى قال تعالى : {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِه } (فاطر : 18) ، وخامسها : قال ابن عباس : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه } أي كبر في خروجه إلى العيد وصلى صلاة العيد وسادسها : المعنى وذكر اسم ربه في صلاته ولا تكون صلاته كصلاة المنافقين حيث يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً.
/
جزء : 31 رقم الصفحة : 137
المسألة الثانية : الفقهاء احتجوا بهذه الآية على وجوب تكبيرة الافتتاح ، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بها على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة ، قال : لأن الصلاة معطوفة عليها والعطف يستدعي المغايرة ، واحتج أيضاً بهذه الآية على أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه وأجاب أصحابنا بأن تقدير الآية ، وصلى فذكر اسم ربه ولا فرق بين أن تقول أكرمتني فزرتني وبين أن تقول زرتني فأكرمتني ، ولأبي حنيفة أن يقول : ترك العمل بفاء التعقيب لا يجوز من غير دليل والأولى في الجواب أن يقال : الآية تدل على مدح كل من ذكر اسم الله فصلى عقيبه وليس في الآية بيان أن ذلك الذكر هو تكبيرة الافتتاح. فلعل المراد به أن من ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه دعاه ذلك إلى فعل الصلاة ، فحينئذ يأتي بالصلاة التي أحد أجزائها التكبير ، وحينئذ يندفع الاستدلال. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 137
138
وفيه قراءتان : قراءة العامة بالتاء ويؤكده حرف أبي ، أي بل أنتم تؤثرون عمل الدنيا على عمل الآخرة. قال ابن مسعود : إن الدنيا أحضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وإن الآخرة لغيب لنا وزويت عنا ، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل. وقرأ أبو عمرو : يؤثرون بالياء يعني الأشقى. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 138
138
وتمامه أن كل ما كان خيراً وأبقى فهو آثر ، فيلزم أن تكون الآخرة آثر من الدنيا وهم كانوا يؤثرون الدنيا ، وإنما قلنا : إن الآخرة خير لوجوه أحدها : أن الآخرة مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ، والدنيا ليست كذلك ، فالآخرة خير من الدنيا وثانيها : أن الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام ، والآخرة ليست كذلك وثالثها : أن الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، والباقي خير من الفاني. ثم قال :
جزء : 31 رقم الصفحة : 138
139
واختلفوا في المشار إليه بلفظ هذا منهم من قال : جميع السورة ، وذلك لأن السورة مشتملة على التوحيد والنبوة والوعيد على الكفر بالله ، والوعد على طاعة الله تعالى.
ومنهم من قال : بل المشار إليه بهذه الإشارة هو من قوله : {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } (الأعلى : 14) إشارة إلى تطهير النفس عن كل ما لا ينبغي. أما القوة النظرية فعن جميع العقائد الفاسدة ، وأما في القوة العملية فعن جميع الأخلاق الذمية.
وأما قوله : {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه } (الأعلى : 15) فهو إشارة إلى تكميل الروح بمعرفة الله تعالى ، وأما قوله : {فَصَلَّى } (الأعلى : 15) فهو إشارة إلى تكميل الجوارح وتزيينها بطاعة الله تعالى.
/ وأما قوله : {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا} (الأعلى : 15) فهو إشارة إلى الزجر عن الالتفات إلى الدنيا.
وأما قوله : {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (الأعلى : 15) فهو إشارة إلى الترغيب في الآخرة وفي ثواب الله تعالى ، وهذه أمور لا يجوز أن تختلف باختلاف الشرائع ، فلهذا السبب قال : {إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى } وهذا الوجه كما تأكد بالعقل فالخبر يدل عليه ، روى عن أبي ذر أنه قال : قلت هل في الدنيا مما في صحف إبراهيم وموسى ؟
فقال : اقرأ يا أبا ذر {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } (الأعلى : 14) وقال آخرون : إن قوله هذا إشارة إلى قوله : {وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وذلك لأن الإشارة راجعة إلى أقرب المذكورات وذلك هو هذه الآية ، وأما قوله : {لَفِى الصُّحُفِ الاولَى } فهو نظير لقوله : {وَإِنَّه لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ} وقوله : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِه نُوحًا} (الشورى : 13).
جزء : 31 رقم الصفحة : 139
140
فيه قولان : أحدهما : أنه بيان لقوله : {فِى الصُّحُفِ الاولَى } (الأعلى : 18) والثاني : أن المراد أنه مذكور في صحف جميع الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى ، روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم كم أنزل الله من كتاب ؟
فقال : مائة وأربعة كتب ، على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقيل : إن في صحف إبراهيم : ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 140
140
(1/4731)
سورة الغاشية
وهي عشرون وست آيات مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 140
141
/ اعلم أن في قوله : {هَلْ أَتَا كَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} مسألتين :
المسألة الأولى : ذكروا في الغاشية وجوهاً أحدها : أنها القيامة من قوله : {يَوْمَ يَغْشَا هُمُ الْعَذَابُ} (العنكبوت : 55) إنما سميت القيامة بهذا الاسم ، لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له ، والقيامة كذلك من وجوه الأول : أنها ترد على الخلق بغتة وهو كقوله تعالى : {أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ} (يوسف : 107) ، والثاني : أنها تغشى الناس جميعاً من الأولين والآخرين. والثالث : أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد القول الثاني : الغاشية هي النار أي تغشى وجوه الكفرة وأهل النار قال تعالى : {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} (إبراهيم : 50) ومن فوقهم غواش} (الأعراف : 41) وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل القول الثالث : الغاشية أهل النار يغشونها ويقعون فيها والأول أقرب ، لأن على هذا التقدير يصير المعنى أن يوم القيامة يكون بعض الناس في الشقاوة ، وبعضهم في السعادة.
المسألة الثانية : إنما قال : (الأعراف : 41) وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل القول الثالث : الغاشية أهل النار يغشونها ويقعون فيها والأول أقرب ، لأن على هذا التقدير يصير المعنى أن يوم القيامة يكون بعض الناس في الشقاوة ، وبعضهم في السعادة.
المسألة الثانية : إنما قال : {هَلْ أَتَا كَ} وذلك لأنه تعالى عرف رسول الله من حالها ، وحال الناس فيها ما لم يكن هو ولا قومه عارفاً به على التفصيل ، لأن العقل إن دل فإنه لا يدل إلا على أن حال العصاة مخالفة لحال المطيعين. فأما كيفية تلك التفاصيل فلا سبيل للعقل إليها ، فلما عرفه الله تفصيل تلك الأحوال ، لا جرم قال : {هَلْ أَتَا كَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
أما قوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَا ِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} فاعلم أنه وصف لأهل الشقاوة ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد بالوجوه أصحاب الوجوه وهم الكفار ، بدليل أنه تعالى وصف الوجوه بأنها خاشعة عاملة ناصبة ، وذلك من صفات المكلف ، لكن الخشوع يظهر في الوجه فعلقه بالوجه لذلك ، وهو كقوله : {وُجُوهٌ يَوْمَا ِذٍ نَّاضِرَةٌ} (القيامة : 22) وقوله : {خَاشِعَةٌ} أي ذليلة قد عراهم الخزي والهوان ، كما قال : {وَلَوْ تَرَى ا إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ} (السجدة : 12) وقال : {وَتَرَا هُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ } (الشورى : 41) وإنما يظهر الذل في الوجه ، لأنه ضد الكبر الذي محله الرأس والدماغ. وأما العاملة فهي التي تعمل الأعمال ، ومعنى النصب الدؤوب في العمل مع التعب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 141
(1/4732)
المسألة الثانية : الوجوه الممكنة في هذه الصفات الثلاثة لا تزيد على ثلاثة ، لأنه إما أن يقال : هذه الصفات بأسرها حاصلة في الآخرة ، أو هي بأسرها حاصلة في الدنيا ، أو بعضها في الآخرة وبعضها في الدنيا أما الوجه الأول : وهو أنها بأسرها حاصلة في الآخرة فهو أن الكفار يكونون يوم القيامة خاشعين أي ذليلين ، وذلك لأنها في الدنيا تكبرت عن عبادة الله ، وعاملين لأنها تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال الثقيلة ، على ما قال : {فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} (الحاقة : 32) وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل بحيث ترتقي عنه تارة وتغوص فيه أخرى والتقحم في حر جهنم والوقوف عراة حفاة جياعاً عطاشاً في العرصات قبل دخول النار في يوم كان مقداره ألف سنة/ وناصبين لأنهم دائماً يكونون في ذلك العمل قال الحسن : هذه الصفات كان يجب أن تكون حاصلة في الدنيا لأجل الله تعالى ، فلما لم تكن كذلك سلطها الله عليهم يوم القيامة على سبيل العقاب وأما الوجه الثاني : وهو أنها بأسرها حاصلة في الدنيا ، فقيل : هم أصحاب الصوامع من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس ، والمعنى أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب ، وذلك لأنهم لما اعتقدوا في الله ما لا يليق به ، فكأنهم أطاعوا ذاتاً موصوفة بالصفات التي تخيلوها فهم في الحقيقة ما عبدوا الله وإنما عبدوا ذلك المتخيل الذي لا وجود له ، فلا جرم لا تنفعهم تلك العبادة أصلاً وأما الوجه الثالث : وهو أن بعض تلك الصفات حاصل في الآخرة وبعضها في الدنيا ففيه وجوه أحدها : أنها خاشعة في الآخرة ، مع أنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة ، والمعنى أنها لم تنتفع بعملها ونصبها في الدنيا ، ولا يمتنع وصفهم ببعض أوصاف الآخرة ، ثم يذكر بعض أوصاف الدنيا ثم يعاد ذكر الآخرة ، إذا كان المعنى في ذلك مفهوماً فكأنه تعالى قال : وجوه يوم القيامة خاشعة ، لأنها كانت في الدنيا عاملة ناصبة في غير طاعة الله ، فهي إذن تصلى ناراً حامية في الآخرة ثانيها : أنها خاشعة عاملة في الدنيا ، ولكنها ناصبة في الآخرة ، فخشوعها في الدنيا خوفها الداعي لها إلى الإعراض عن لذائذ الدنيا وطيباتها ، وعملها هو صلاتها وصومها ونصبها في الآخرة هو مقاساة العذاب على ما قال تعالى : {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر : 47) وقرىء عاملة ناصبة على الشتم ، واعلم أنه تعالى بعد أن وصفهم بهذه الصفات الثلاثة شرح بعد ذلك كيفية مكانهم ومشربهم ومطعمهم نعوذ بالله منها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 141
141
أما مكانهم فقوله تعالى : {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} يقال : صلى بالنار يصلى أي لزمها واحترق بها / وقرىء بنصب التاء وحجته قوله : {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (الصافات : 163) وقرأ أبو عمرو وعاصم برفع التاء من أصيلته النار لقوله : {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (الحاقة : 31) وقوله : {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} وصلوه مثل أصلوه ، وقرأ قوم تصلى بالتشديد ، وقيل : المصلى عند العرب ، أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً ، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه ، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلاة أو في التنور ، فلا يسمى مصلى. وقوله : {حَامِيَةً} أي قد أوقدت ، وأحميت المدة الطويلة ، فلا حر يعدل حرها ، قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله.
جزء : 31 رقم الصفحة : 141
141
وأما مشروبهم فقوله تعالى : {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ} الآني الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخير. وفي الحديث : "أن رجلاً آخر حضور الجمعة ثم تخطى رقاب الناس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم : آنيت وآذيت" ونظير هذه الآية قوله : {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} (الرحمن : 44) قال المفسرون : إن حرها بلغ إلى حيث لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت.
جزء : 31 رقم الصفحة : 141
141
وأما مطعومهم فقوله تعالى : {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ} واختلفوا في أن الضريع. ما هو على وجوه أحدها : قال الحسن : لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً وثانيها : روى عن الحسن أيضاً أنه قال : الضريع بمعنى المضرع كالأليم والسميع والبديع بمعنى المؤلم والمسمع والمبدع ، ومعناه إلا من طعام يحملهم على أن يضرعوا ويذلوا عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرار وثالثها : أن الضريع ما يبس من الشبرق ، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً ، فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل ، قال أبو ذويب :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وعاد ضريعاً عاد عنه النحائص
(1/4733)
جمع نحوص وهي الحائل من الإبل ، وهذا قول أكثر المفسرين وأكثر أهل اللغة ورابعها : قال الخليل في كتابه : ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم هي الضريع ، فكأنه تعالى وصفه بالقلة ، فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع وخامسها : قال أبو الجوزاء : الضريع السلا ، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك ، ثم قال أبو الجوزاء : وكيف يسمن من كان يأكل الشوك وفي الخبر الضريع شيء يكون في النار شبيه الشوك أمر من الصبر ، وأنتن من الجيفة وأشد حراً من النار ، قال القفال : والمقصد من ذكر هذا الشراب وهذا الطعام ، بيان نهاية ذلهم وذلك لأن القوم لما أقاموا في تلك السلاسل والأغلال تلك المدة الطويلة عطاشاً جياعاً ، ثم ألقوا في النار فرأوا فيها ماء وشيئاً من النبات ، فأحب أولئك القوم تسكين ما بهم من العطش والجوع فوجدوا الماء حميماً لا يروي بل يشوي ، ووجدوا النبات مما لا يشبع ولا يغني من جوع ، فأيسوا وانقطعت أطماعهم في إزالة ما بهم من الجوع والعطش ، كما قال : {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} (الكهف : 29) / وبين أن هذه الحالة لا تزول ولا تنقطع ، نعوذ بالله منها وههنا سؤالات :
السؤال الأول : قال تعالى في سورة الحاقة : {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَـاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} (الحاقة : 36,35) وقال ههنا : {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ} والضريع غير الغسلين والجواب : من وجهين الأول : أن النار دركات فمن أهل النار من طعامه الزقوم ، ومنهم من طعامه الغسلين ، ومنهم من طعامه الضريع ، ومنهم من شرابه الحميم ، ومنهم من شرابه الصديد ، لكل باب منهم جزء مقسوم الثاني : يحتمل أن يكون الغسلين من الضريع ويكون ذلك كقوله : مالي طعام إلا من الشاه ، ثم يقول : مالي طعام إلا من اللبن ، ولا تناقض لأن اللبن من الشاة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 141
السؤال الثاني : كيف يوجد النبت في النار ؟
الجواب : من وجهين : الأول : ليس المراد أن الضريع نبت في النار يأكلونه ، ولكنه ضرب مثله ، أي إنهم يقتاتون بما لا يشبعهم أو يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع الثاني : لم لا يجوز أن يقال : إن النبت يوجد في النار ؟
فإنه لما لم يستبعد بقاء بدن الإنسان مع كونه لحماً ودماً في النار أبد الآباد ، فكذا ههنا وكذا القول في سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 141
142
فهو مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع ، وأما المعنى ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن طعامهم ليس من جنس مطاعم الإنس ، وذلك لأن هذا نوع من أنواع الشوك والشوك مما يرعاه الإبل ، وهذا النوع مما ينفر عنه الإبل ، فإذن منفعتا الغذاء منتفيتان عنه ، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن وثانيها : أن يكون المعنى لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس لأن الطعام ما أشبع وأسمن وهو منهما بمعزل ، كما تقول : ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد وثالثها : روي أن كفار قريش قالت : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا ، فنزلت : {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِى مِن جُوعٍ} فلا يخلو إما أن يتعنتوا بذلك الكلام كذباً فيرد قولهم بنفي السمن والشبع ، وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم ، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع ، قال القاضي : يجب في كل طعامهم أن لا يغني من جوع لأن ذلك نفع ورأفة ، وذلك غير جائز في العقاب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 142
142
اعلم أنه سبحانه لما ذكر وعيد الكفار ، أتبعه بشرح أحوال المؤمنين ، فذكر وصف أهل الثواب أولاً ، ثم وصف دار الثواب ثانياً أما وصف أهل الثواب فبأمرين أحدهما : في ظاهرهم ، وهو قوله : {نَّاعِمَةٌ} أي ذات بهجة وحسن ، كقوله : {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (المطففين : 24) أو متنعمة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 142
143
/ والثاني : في باطنهم وهو قوله تعالى : {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} وفيه تأويلان أحدهما : أنهم حمدوا سعيهم واجتهادهم في العمل لله. لما فازوا بسببه من العاقبة الحميدة كالرجل يعمل العمل فيجزى عليه بالجميل ، ويظهر له منه عاقبة محمودة فيقول ، ما أحسن ما عملت ، ولقد وفقت للصواب فيما صنعت فيثنى على عمل نفسه ويرضاه والثاني : المراد لثواب سعيها في الدنيا راضية إذا شاهدوا ذلك الثواب ، وهذا أولى إذ المراد أن الذي يشاهدونه من الثواب العظيم يبلغ حد الرضا حتى لا يريدوا أكثر منه ، وأما وصف دار الثواب ، فاعلم أن الله تعالى وصفها بأمور سبعة :
جزء : 31 رقم الصفحة : 143
143
(1/4734)
أحدها قوله : {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} ويحتمل أن يكون المراد هو العلو في المكان ، ويحتمل أن يكون المراد هو العلو في الدرجة والشرف والمنقبة ، أما العلو في المكان فذاك لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض ، قال عطاء : الدرجة مثل ما بين السماء والأرض.
جزء : 31 رقم الصفحة : 143
143
وثانيها : قوله : {لا تَسْمَعُ فِيهَا لَـاغِيَةً} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في قوله : لا تسمع ثلاث قراآت أحدها : قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب لاغية بالنصب والمخاطب بهذا الخطاب ، يحتمل أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلّم وأن يكون لا تسمع يا مخاطب فيها لاغية ، وهذا يفيد السماع في الخطاب كقوله : {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} (الإنسان : 20) وقوله : {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} (الإنسان : 19) ويحتمل أن تكون هذه التاء عائدة إلى وجوه ، والمعنى لا تسمع الوجوه فيها لاغية وثانيها : قرأ نافع بالتاء المنقوطة من فوق مرفوعة على التأنيث لاغية بالرفع وثالثها : قرأ ابن كثير وأبو عمرو لا يسمع بالياء المنقوطة من تحت مضمومة على التذكير لاغية بالرفع ، وذلك جائز لوجهين الأول : أن هذا الضرب من المؤنث إذا تقدم فعله. وكان بين الفعل والاسم حائل حسن التذكير ، قال الشاعر :
إن امرءاً غره منكن واحدة
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
والثاني : أن المراد باللاغية اللغو فالتأنيث على اللفظ والتذكير على المعنى.
المسألة الثانية : لأهل اللغة في قوله : {لَـاغِيَةً} ثلاثة أوجه أحدها : أنه يقال : لغا يلغو لغواً ولاغية ، فاللاغية واللغو شيء واحد ، ويتأكد هذا الوجه بقوله سبحانه : {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} (مريم : 62) ، وثانيها : أن يكون صفة والمعنى لا يسمع كلمة لاغية وثالثها : قال الأخفش : لاغية أي كلمة ذات لغو كما تقول : فارس ودارس لصاحب الفرس والدرع ، وأما أهل التفسير فلهم وجوه أحدها : أن الجنة منزهة عن اللغو لأنها منزل جيران الله تعالى وإنما نالوها بالجد والحق لا باللغو والباطل ، وهكذا كل مجلس في الدنيا شريف مكرم فإنه يكون مبرأ عن اللغو وكل ما كان أبلغ في هذا كان أكثر جلالة ، هذا ما قرره القفال والثاني : قال الزجاج لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة / والثناء على الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم والثالث : عن ابن عباس يريد لا تسمع فيها كذباً ولا بهتاناً ولا كفراً بالله ولا شتماً والرابع : قال مقاتل : لا يسمع بعضهم من بعض الحلف عند شراب كما يحلف أهل الدنيا إذا شربوا الخمر وأحسن الوجوه ما قرره القفال الخامس : قال القاضي : اللغو ما لا فائدة فيه ، فالله تعالى نفى عنهم ذلك ويندرج فيه ما يؤذي سامعه على طريق الأولى.
جزء : 31 رقم الصفحة : 143
143
الصفة الثالثة للجنة : قوله تعالى : {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} قال صاحب الكشاف : يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ} (التكوير : 14) قال القفال : فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا ، قال الكلبي : لا أدري بماء أو غيره.
جزء : 31 رقم الصفحة : 143
143
الصفة الرابعة : قوله تعالى : {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} أي عالية في الهواء وذلك لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم والملك ، وقال خارجة بن مصعب : بلغنا أنها بعضها فوق بعض فيرتفع ما شاء الله فإذا جاء ولي الله ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث شاء الله ، والأول أولى ، وإن كان الثاني أيضاً غير ممتنع لأن ذلك بما كان أعظم في سرور المكلف ، قال ابن عباس : هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء.
جزء : 31 رقم الصفحة : 143
145
الصفة الخامسة : قوله تعالى : {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} الأكواب الكيزان التي لا عرى لها قال قتادة : فهي دون الأباريق. وفي قوله : {مَّوْضُوعَةٌ} وجوه أحدها : أنها معدة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معد وثانيها : موضوعة على حافاة العيون الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشرب وثالثها : موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جوهر ، وتلذذهم بالشراب منها ورابعها : أن يكون المراد موضوعة عن حد الكبر أي هي أوساط بين الصغر والكبر كقوله : {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} .
جزء : 31 رقم الصفحة : 145
145
الصفة السادسة : قوله تعالى : {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} . النمارق هي الوسائد في قول الجميع واحدها نمرقة بضم النون ، وزاد الفراء سماعاً عن العرب نمرقة بكسر النون ، قال الكلبي : وسائد مصفوفة بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى.
جزء : 31 رقم الصفحة : 145
145
(1/4735)
الصفة السابعة : قوله تعالى : {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} يعني البسط والطنافس واحدها زربية وزربي بكسر الزاي في قول جميع أهل اللغة ، وتفسير مبثوثة مبسوطة منشورة أو مفرقة في المجالس.
جزء : 31 رقم الصفحة : 145
146
/ اعلم أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة وقسم أهل القيامة إلى قسمين الأشقياء والسعداء ووصف أحوال الفريقين وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة إثبات الصانع الحكيم ، لا جرم أتبع ذلك بذكر هذه الدلالة فقال : {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ} وجه الاستدلال بذلك على صحة المعاد أنها تدل على وجود الصانع الحكيم ، ومتى ثبت ذلك فقد ثبت القول بصحة المعاد. أما الأول : فلأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص كل واحد منها بالوصف الذي لأجله امتاز على الآخر ، لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وإيجاد قادر ، ولما رأينا هذه الأجسام مخلوقة على وجه الإتقان والإحكام علمنا أن ذلك الصانع عالم ، ولما علمنا أن ذلك الصانع لا بد وأن يكون مخالفاً لخلقه في نعت الحاجة والحدوث والإمكان علمنا أنه غني ، فهذا يدل على أن للعالم صانعاً قادراً عالماً غنياً فوجب أن يكون في غاية الحكمة ، ثم إنا نرى الناس بعضهم محتاجاً إلى البعض ، فإن الإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمهمات نفسه ، بل لا بد من بلدة يكون كل واحد من أهلها مشغولاً بمهم آخر حتى يتنظم من مجموعهم مصلحة كل واحد منهم ، وذلك الانتظام لا يحسن إلا مع التكليف المشتمل على الوعد والوعيد ، ذلك لا يحصل إلا بالبعث والقيامة وخلق الجنة والنار فثبت أن إقامة الدلالة على الصانع الحكيم توجب القول بصحة البعث والقيامة فلهذا السبب ذكر الله دلالة التوحيد في آخر هذه السورة ، فإن قيل : فأي مجانسة بين الإبل والسماء والجبال والأرض ، ثم لم بدأ بذكر الإبل ؟
قلنا فيه وجهان : الأول : أن جميع المخلوقات متساوية في هذه الدلالة وذكر جميعها غير ممكن لكثرتها وأي واحد منها ذكر دون غيره كان هذا السؤال عائداً ، فوجب الحكم بسقوط هذا السؤال على جميع التقادير ، وأيضاً فلعل الحكمة في ذكر هذه الأشياء التي هي غير متناسبة التنبيه على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل على ما قال : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَه } (الإسراء : 44) ولو ذكر غيرها لم يكن الأمر كذلك لا جرم ذكر الله تعالى أموراً غير متناسبة بل متباعدة جداً ، تنبيهاً على أن جميع الأجسام العلوية والسفلية صغيرها وكبيرها حسنها وقبيحها متساوية في الدلالة على الصانع الحكيم ، فهذا وجه حسن معقول وعليه الاعتماد الوجه الثاني : وهو أن نبين ما في كل واحد من هذه الأشياء من المنافع والخواص الدالة على الحاجة إلى الصانع المدبر ، ثم نبين إنه كيف يجانس بعضها بعضاً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 146
(1/4736)
أما المقام الأول : فنقول الإبل له خواص منها أنه تعالى جعل الحيوان الذي يقتني أصنافاً شتى فتارة يقتني ليؤكل لحمه وتارة ليشرب لبنه وتارة ليحمل الإنسان في الأسفار وتارة / لينقل أمتعة الإنسان من بلد إلى بلد وتارة ليكون له به زينة وجمال وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل ، وقد أبان الله عز وجل عن ذلك بقوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ * وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (يس : 72,71) ، قال : {وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَـافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الانفُسِ } (النحل : 7,5) وإن شيئاً من سائر الحيوانات لا يجتمع فيه هذه الخصال فكان اجتماع هذه الخصال فيه من العجائب وثانيها : أنه في كل واحد من هذه الخصال أفضل من الحيوان الذي لا يوجد فيه إلا تلك الخصلة لأنها إن جعلت حلوبة سقت فأروت الكثير ، وإن جعلت أكولة أطعمت وأشبعت الكثير ، وإن جعلت ركوبة أمكن أن يقطع بها من المسافات المديدة ما لا يمكن قطعه بحيوان آخر ، وذلك لما ركب فيها من قوة احتمال المداومة على السير والصبر على العطش والاجتزاء من العلوفات بما لا يجتزىء حيوان آخر ، وإن جعلت حملة استغلت بحمل الأحمال الثقيلة التي لا يستقل بها سواها ، ومنها أن هذا الحيوان كان أعظم الحيوانات وقعاً في قلب العرب ولذلك فإنهم جعلوا دية قتل الإنسان إبلاً ، وكان الواحد من ملوكهم إذا أراد المبالغة في إعطاء الشاعر الذي جاءه من المكان البعيد أعطاه مائة بعير ، لأن امتلاء العين منه أشد من امتلاء العين من غيره ، ولهذا قال تعالى : {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (النحل : 6) ومنها أنى كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدموا جملاً وتبعوه فكان ذلك الجمل ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب والجميع كانوا يتبعونه حتى وصل إلى الطريق بعد زمان طويل فتعجبنا من قوة تخيل ذلك بالحيوان أنه بالمرة الواحدة كيف انحفظت في خياله صورة تلك المعاطف حتى أن الذين عجز جمع من العقلاء إلى الاهتداء إليه فإن ذلك الحيوان اهتدى إليه ، ومنها أنها مع كونها في غاية القوة على العمل مباينة لغيرها في الانقياد والطاعة لأضعف الحيوانات كالصبي الصغير ، ومبانية لغيرها أيضاً في أنها يحمل عليها وهي باركة ثم تقوم ، فهذه الصفات الكثيرة الموجودة فيها توجب على العاقل أن ينظر في خلقتها وتركيبها ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم سبحانه ، ثم إن العرب من أعرف الناس بأحوال الإبل في صحتها وسقمها ومنافعها ومضارها فلهذه الأسباب حسن من الحكيم تعالى أن يأمر بالتأمل في خلقتها. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 146
146
أي رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وبغير عمد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 146
146
نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل ولا تزول.
جزء : 31 رقم الصفحة : 146
147
سطحاً بتمهيد وتوطئة ، فهي مهاد للمتقلب عليها ، ومن / الناس من استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة وهو ضعيف ، لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح ، وقرأ علي عليه السلام كيف خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وتاء الضمير ، والتقدير فعلتها ، فحذف المفعول.
(1/4737)
المقام الثاني : في بيان ما بين هذه الأشياء من المناسبة اعلم أن من الناس من فسر الإبل بالسحاب. قال صاحب "الكشاف" : ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل في كثير من أشعارهم ، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز ، وعلى هذا التقدير فالمناسبة ظاهرة. أما إذا حملنا الإبل على مفهومه المشهور ، فوجه المناسبة بينها وبين السماء والجبال والأرض من وجهين الأول : أن القرآن نزل على لغة العرب وكانوا يسافرون كثيراً ، لأن بلدتهم بلدة خالية من الزرع ، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإبل ، فكانوا كثيراً ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين منفردين عن الناس ، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء ، لأنه ليس معه من يحادثه ، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره ، وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة ، فإذا فكر في ذلك الحال وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه ، فيرى منظراً عجيباً ، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء ، وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال ، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض ، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر ، ثم إنه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئاً سوى هذه الأشياء ، فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية الوجه الثاني : أن جميع المخلوقات دالة على الصانع إلا أنها على قسمين : منها ما يكون للحكمة وللشهوة فيها نصيب معاً ، ومنها ما يكون للحكمة فيها نصيب ، وليس للشهوة فيها نصيب.
والقسم الأول : كالإنسان الحسن الوجه ، والبساتين النزهة ، والذهب والفضة وغيرها ، فهذه الأشياء يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم ، إلا أنها متعلق الشهوة ومطلوبة للنفس ، فلم يأمر تعالى بالنظر فيها ، لأنه لم يؤمن عند النظر إليها وفيها أن تصير داعية الشهوة غالبة على داعية الحكمة فيصير ذلك مانعاً عن إتمام النظر والفكر وسبباً لاستغراق النفس في محبته.
جزء : 31 رقم الصفحة : 147
أما القسم الثاني : فهو كالحيوانات التي لا يكون في صورتها حسن ، ولكن يكون داعية تركيبها حكم باللغة وهي مثل الإبل وغيرها ، إلا أن ذكر الإبل ههنا أولى لأن إلف العرب بها أكثر وكذا السماء والجبال والأرض ، فإن دلائل الحدوث والحاجة فيها ظاهرة ، وليس فيها ما يكون نصيباً للشهوة ، فلما كان هذا القسم بحيث يكمل نصيب الحكمة فيه مع الأمن من زحمة الشهوة لا جرم أمر الله بالتدبر فيها فهذا ما يحضرنا في هذا الموضع وبالله التوفيق.
جزء : 31 رقم الصفحة : 147
148
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل على صحة التوحيد والمعاد ، قال لرسوله صلى الله عليه وسلّم : {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} وتذكير الرسول إنما يكون بذكر هذه الأدلة وأمثالها والبعث على النظر فيها والتحذير من ترك تلك ، وذلك بعث منه تعالى للرسول على التذكير والصبر على كل عارض معه ، وبيان أنه إنما بعث لذلك دون غيره ، فلهذا قال : {إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} .
جزء : 31 رقم الصفحة : 148
148
قال صاحب "الكشاف" : بمسلط ، كقوله : {يَقُولُونَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } (ق : 45) وقوله : {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس : 99) وقيل : هو في لغة تميم مفتوح الطاء على أن سيطر متعد عندهم ، والمعنى أنك ما أمرت إلا بالتذكير ، فأما أن تكون مسلطاً عليهم حتى تقتلهم ، أو تكرههم على الإيمان فلا ، قالوا : ثم نسختها آية القتال ، هذا قول جميع المفسرين ، والكلام في تفسير هذا الحرف قد تقدم عند قوله : {أَمْ هُمُ} (الطور : 37). أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 148
151
ففيه مسائل.
المسألة الأولى : في الآية قولان : أحدهما : أنه استثناء حقيقي ، وعلى هذا التقدير هذا الاستثناء ، استثناء عماذا ؟
فيه احتمالان الأول : أن يقال التقدير : فذكر إلا من تولى وكفر والثاني : أنه استثناء عن الضمير في {سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ} (الغاشية : 22) والتقدير : لست عليهم بمسيطر إلا من تولى. واعترض عليه بأنه عليه السلام ما كان حينئذ مأموراً بالقتال وجوابه : لعل المراد أنك لا تصبر مسلطاً إلا على من تولى القول الثاني : أنه استثناء منقطع عما قبله ، كما تقول في الكلام : قعدنا نتذكر العلم ، إلا أن كثيراً من الناس لا يرغب ، فكذا ههنا التقدير لست بمسئول عليهم ، لكن من تولى منهم فإن الله يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم ، قالوا وعلامة كون الاستثناء منقطعاً حسن دخول أن في المستثني ، وإذا كان الاستثناء متصلاً لم يحسن ذلك ، ألا ترى أنك تقول : عندي مائتان إلا درهماً ، فلا تدخل عليه أن ، وههنا يحسن أن ، فإنك تقول : إلا أن من تولى وكفر فيعذبه الله.
المسألة الثانية : قرىء : (ألا من تولى) على التنبيه ، وفي قراءة ابن مسعود : (فإنه يعذبه).
المسألة الثالثة : إنما سماه العذاب الأكبر لوجوه أحدها : أنه قد بلغ حد عذاب الكفر وهو الأكبر ، لأن ما عداه من عذاب الفسق دونه ، ولهذا قال تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ} (السجدة : 21) ، وثانيها : هو العذاب في الدرك الأسفل في النار وثالثها : أنه قد / يكون العذاب الأكبر حاصلاً في الدنيا ، وذلك بالقتل وسبي الذرية وغنيمة الأموال ، القول الأول أولى وأقرب. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 151
155
وهذا كأنه من صلة قوله : {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاكْبَرَ} (الغاشية : 24) وإنما ذكر تعالى ذلك ليزيل به عن قلب النبي صلى الله عليه وسلّم حزنه على كفرهم ، فقال : طب نفساً عليهم ، وإن عاندوا وكذبوا وجحدوا فإن مرجعهم إلى الموعد الذي وعدنا ، فإن علينا حسابهم وفيه سؤال : وهو أن محاسبة الكفار إنما تكون لإيصال العقاب إليهم وذلك حق الله تعالى ، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه والجواب : أن ذلك واجب عليه إما بحكم الوعد الذي يمتنع وقوع الخلف فيه ، وإما في الحكمة ، فإنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيهاً بكونه تعالى راضياً بذلك الظلم وتعالى الله عنه ، فلهذا السبب كانت المحاسبة واجبة وههنا مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ أبو جعفر المدني : {إِيَابَهُمْ} بالتشديد. قال صاحب "الكشاف" : وجهه أن يكون فيعالا مصدره أيب فيعل من الإياب ، أو يكون أصله أواباً فعالاً من أوب ، ثم قيل : إيواباً كديوان في دون ، ثم فعل به ما فعل بأصل سيد.
المسألة الثانية : فائدة تقديم الظرف التشديد بالوعيد ، فإن {إِيَابَهُمْ} ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه ، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 155
157
(1/4738)
سورة الفجر
ثلاثون آية مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 157
158
/ اعلم أن هذه الأشياء التي أقسم الله تعالى بها لا بد وأن يكون فيها إما فائدة دينية مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد ، أو فائدة دنيوية توجب بعثاً على الشكر ، أو مجموعهما ، ولأجل ما ذكرناه اختلفوا في تفسير هذه الأشياء اختلافاً شديداً ، فكل أحد فسره بما رآه أعظم درجة في الدين ، وأكثر منفعة في الدنيا.
أما قوله : {وَالْفَجْرِ} فذكروا فيه وجوهاً أحدها : ما روي عن ابن عباس أن الفجر هو الصبح المعروف ، فهو انفجار الصبح الصادق والكاذب ، أقسم الله تعالى به لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضوء ، وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطير والوحوش في طلب الأرزاق ، وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم ، وفيه عبرة لمن تأمل ، وهذا كقوله : {وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ} (المدثر : 34) وقال في موضع آخر ، {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (التكوير : 18) وتمدح في آية أخرى بكونه خالفاً له ، فقال : {فَالِقُ الاصْبَاحِ} (الإنعام : 96) ومنهم من قال المراد به جميع النهار إلا أنه دل بالابتداء على الجميع ، نظيره : {وَالضُّحَى } (الضحى : 1) وقوله : {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } (الليل : 2) وثانيها : أن المراد نفسه صلاة الفجر وإنما أقسم بصلاة الفجر لأنها صلاة في مفتتح النهار وتجتمع لها ملائكة النهار وملائكة الليل كما قال تعالى : {أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى } (الإسراء : 78) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار القراءة في صلاة الصبح وثالثها : أنه فجر يوم معين ، وعلى هذا القول ذكروا وجوهاً الأول : أنه فجر يوم النحر ، وذلك لأن أمر المناسك من خصائص ملة إبراهيم ، وكانت العرب لا تدع الحج وهو يوم عظيم يأتي الإنسان فيه بالقربان كأن الحاج يريد أن يتقرب بذبح نفسه ، فلما عجز عن ذلك فدى نفسه بذلك القربان ، / كما قال تعالى : {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات : 107) الثاني : أراد فجر ذي الحجة لأنه قرن به قوله : {وَلَيالٍ عَشْرٍ} ولأنه أول شهر هذه العبادة المعظمة الثالث : المراد فجر المحرم ، أقسم به لأنه أول يوم من كل سنة وعند ذلك يحدث أموراً كثيرة مما يتكرر بالسنين كالحج والصوم والزكاة واستئناف الحساب بشهور الأهلة ، وفي الخبر أن أعظم الشهور عند الله المحرم ، وعن ابن عباس أنه قال : فجر السنة هو المحرم فجعل جملة المحرم فجراً ورابعها : أنه عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه ، وفيها حياة الخلق ، أما قوله : {وَلَيالٍ عَشْرٍ} ففيه مسألتان :
جزء : 31 رقم الصفحة : 158
المسألة الأولى : إنما جاءت منكرة من بين ما أقسم الله به لأنها ليال مخصوصة بفضائل لا تحصل في غيرها والتنكير دال على الفضيلة العظيمة.
(1/4739)
المسألة الثانية : ذكروا فيه وجوهاً أحدها : أنها عشر ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بهذا النسك في الجملة ، وفي الخبر ما من أيام العمل الصالح فيه أفضل من أيام العشر وثانيها : أنها عشر المحرم من أوله إلى آخره ، وهو تنبيه على شرف تلك الأيام ، وفيها يوم عاشوراء ولصومه من الفضل ما ورد به الأخبار وثالثها : أنها العشر الأواخر من شهر رمضان ، أقسم الله تعالى بها لشرفها وفيها ليلة القدر ، إذ في الخبر اطلبوها في العشر الأخير من رمضان ، وكان عليه الصلاة والسلام ، إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد المئزر ، وأيقظ أهله أي كف عن الجماع وأمر أهله بالتهجد ، وأما قوله : {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : الشفع والوتر ، هو الذي تسميه العرب الخسا والزكا والعامة الزوج والفرد/ قال يونس : أهل العالية يقولون الوتر بالفتح في العدد والوتر بالكسر في الذحل وتميم تقول وتر بالكسر فيهما معاً ، وتقول أوترته أوتره إيتاراً أي جعلته وتراً ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : "من استجمر فليوتر" والكسر قراءة الحسن والأعمش وابن عباس ، والفتح قراءة أهل المدينة وهي لغة حجازية.
جزء : 31 رقم الصفحة : 158
المسألة الثانية : اضطرب المفسرون في تفسير الشفع والوتر ، وأكثروا فيه ، ونحن نرى ما هو الأقرب أحدها : أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة ، وإنما أقسم الله بهما لشرفهما أما يوم عرفة فهو الذي عليه يدور أمر الحج كما في الحديث الحج عرفة ، وأما يوم النحر فيقع فيه القربان وأكثر أمور الحج من الطواف المفروض ، والحلق والرمي ، ويروى يوم النحر هو يوم الحج الأكبر فلما اختص هذان اليومان بهذه الفضائل لا جرم أقسم الله بهما وثانيها : أن أيام التشريق أيام بقية أعمال الحج فهي أيام شريفة ، قال الله تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍا فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة : 203) والشفع هو يومان بعد يوم النحر ، الوتر هو اليوم الثالث ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : حمل الشفع والوتر على هذا أولى من حملهما على العيد وعرفة من وجهين الأول : أن العيد وعرفة دخلا في العشر ، فوجب أن يكون المراد بالشفع والوتر غيرهما / الثاني : أن بعض أعمال الحج إنما يحصل في هذه الأيام ، فحمل اللفظ على هذا يفيد القسم بجميع أيام أعمال المناسك وثالثها : الوتر آدم شفع بزوجته ، وفي رواية أخرى الشفع آدم وحواء والوتر هو الله تعالى ورابعها : الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها ، روى عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "هي الصلوات منها شفع ومنها وتر" وإنما أقسم الله بها لأن الصلاة تالية للإيمان ، ولا يخفى قدرها ومحلها من العبادات وخامسها : الشفع هو الخلق كله لقوله تعالى : {وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات : 49) وقوله : {وَخَلَقْنَـاكُمْ أَزْوَاجًا} (النبأ : 8) والوتر هو الله تعالى ، وقال بعض المتكلمين : لا يصح أن يقال الوتر هو الله لوجوه الأول : أنا بينا أن قوله : {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} تقديره ورب الشفع والوتر ، فيجب أن يراد بالوتر المربوب فبطل ما قالوه الثاني : أن الله تعالى لا يذكر مع غيره على هذا الوجه بل يعظم ذكره حتى يتميز من غيره ، وروي أن عليه الصلاة والسلام سمع من يقول الله ورسوله فنهاه ، وقال : "قل الله ثم رسوله" قالوا : وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : "إن الله وتر يحب الوتر" ليس بمقطوع به وسادسها : أن شيئاً من المخلوقات لا ينفك عن كونه شفعاً ووتراً فكأنه يقال : أقسم برب الفرد والزوج من خلق فدخل كل الخلق تحته ، ونظيره قوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 158
(1/4740)
{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} (الحاقة : 39,38) وسابعها : الشفع درجات الجنة وهي ثمانية ، والوتر دركات النار وهي سبعة وثامنها : الشفع صفات الخلق كالعلم والجهل والقدرة والعجز والإرادة والكراهية والحياة والموت ، أما الوتر فهو صفة الحق وجود بلا عدم ، حياة بلا موت ، علم بلا جهل ، قدرة بلا عجز ، عز بلا ذل وتاسعها : المراد بالشفع والوتر ، نفس العدد فكأنه أقسم بالحساب الذي لا بد للخلق منه وهو بمنزلة الكتاب والبيان الذي من الله به على العباد إذ قال : {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق : 5,4) ، وقال : {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن : 4). وكذلك بالحساب ، يعرف مواقيت العبادات والأيام والشهور ، قال تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن : 5) وقال : {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَا مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَالِكَ إِلا بِالْحَقِّ } (يونس : 5) وعاشرها : قال مقاتل الشفع هو الأيام والليالي والوتر هو اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة الحادي عشر : الشفع كل نبي له اسمان مثل محمد وأحمد والمسيح وعيسى ويونس وذي النون والوتر كل نبي له اسم واحد مثل آدم ونوح وإبراهيم الثاني عشر : الشفع آدم وحواء والوتر مريم الثالث عشر : الشفع العيون الإثنتا عشرة ، التي فجرها الله تعالى لموسى عليه السلام والوتر الآيات التسع التي أوتى موسى في قوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ } (الإسراء : 101) ، الرابع عشر : الشفع أيام عاد والوتر لياليهم لقوله تعالى : {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } (الحاقة : 7) الخامس عشر : الشفع البروج الإثنا عشر لقوله تعالى : {جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا} (الفرقان : 61) والوتر الكواكب السبعة السادس عشر : الشفع الشهر الذي يتم ثلاثين يوماً ، والوتر الشهر الذي يتم تسعة وعشرين يوماً السابع عشر : الشفع الأعضاء والوتر القلب ، قال تعالى : {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِه } (الأحزاب : 4) ، الثامن عشر : الشفع الشفتان / والوتر اللسان قال تعالى : {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} (البلد : 9) التاسع عشر : الشفع السجدتان والوتر الركوع العشرون : الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة ، واعلم أن الذي يدل عليه الظاهر ، أن الشفع والوتر أمران شريفان ، أقسم الله تعالى بهما ، وكل هذه الوجوه التي ذكرناها محتمل ، والظاهر لا إشعار له بشيء من هذه الأشياء على التعيين ، فإن ثبت في شيء منها خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو إجماع من أهل التأويل حكم بأنه هو المراد ، وإن لم يثبت ، فيجب أن يكون الكلام على طريقة الجواز لا على وجه القطع ، ولقائل أن يقول أيضاً : إني أحمل الكلام على الكل لأن الألف واللام في الشفع والوتر تفيد العموم ، أما قوله تعالى : {وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ففيه مسألتان :
جزء : 31 رقم الصفحة : 158
المسألة الأولى : {إِذَا يَسْرِ} إذا يمضي كما قال : {وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (المدثر : 33) وقوله : {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (التكوير : 27) وسراها ومضيها وانقضاؤها أو يقال : سراها هو السير فيها ، وقال قتادة : {إِذَا يَسْرِ} أي إذا جاء وأقبل.
المسألة الثانية : أكثر المفسرين على أنه ليس المراد منه ليلة مخصوصة بل العموم بدليل قوله : {وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ولأن نعمة الله بتعاقب الليل والنهار واختلاف مقاديرهما على الخلق عظيمة ، فصح أن يقسم به لأن فيه تنبيهاً على أن تعاقبهما بتدبيره مدبر حكيم عالم بجميع المعلومات ، وقال مقاتل : هلي ليلة المزدلفة فقوله : {إِذَا يَسْرِ} أي إذا يسار فيه كما يقال : ليل نائم لوقوع النوم فيه ، وليل ساهر لوقوع السهر فيه ، وهي ليلة يقع السري في أولها عند الدفع من عرفات إلى المزدلفة ، وفي آخرها كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقدم ضعفة أهله في هذه الليل ، وإنما يجوز ذلك عند الشافعي رحمه الله بعد نصف الليل.
المسألة الثالثة : قال الزجاج : قرىء {إِذَا يَسْرِ} بإثبات الياء ، ثم قال : وحذفها أحب إلي لأنها فاصلة والفواصل تحذف منها الياءات ، ويدل عليها الكسرات ، قال الفراء : والعرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسرة ما قبلها ، وأنشد :
كفاك كف ما يبقى درهما
جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما
(1/4741)
فإذا جاز هذا في غير الفاضلة فهو في الفاصلة أولى ، فإن قيل : لم كان الاختيار أن تحذف الياء إذا كان في فاصلة أو قافية ، والحرف من نفس الكلمة ، فوجب أن يثبت كما أثبت سائر الحروف ولم يحذف ؟
أجاب أبو علي فقال : القول في ذلك أن الفواصل والقوافي موضع وقف والوقف موضع تغيير فلما كان الوقف تغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان وروم الحركة فيها غيرت هذه الحروف المشابهة للزيادة بالحذف ، وأما من أثبت الياء في يسري في الوصل والوقف فإنه يقول : الفعل لا يحذف منه في الوقف كما يحذف في الأسماء نحو قاض وغاز ، تقول : هو يقضي وأنا أقضي فتثبت الياء ولا تحذف.
وقوله تعالى : {هَلْ فِى ذَالِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الحجر العقل سمي به لأنه يمنع عن الوقوع فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية / لأنه يعقل ويمنع وحصاة من الإحصاء وهو الضبط ، قال الفراء : والعرب تقول إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها كأنه أخذ من قولهم حجرت على الرجل ، وعلى هذا سمي العقل حجراً لأنه يمنع من القبيح من الحجر وهو المنع من الشيء بالتضييق فيه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 158
المسألة الثانية : قوله : {هَلْ فِى ذَالِكَ قَسَمٌ} استفهام والمراد منه التأكيد كمن ذكر حجة باهرة ، ثم قال : هل فيما ذكرته حجة ؟
والمعنى أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية ، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه. قال القاضي : وهذه الآية تدل على ما قلنا : أن القسم واقع برب هذه الأمور لأن هذه الآية دالةعلى أن هذا مبالغة في القسم. ومعلوم أن المبالغة في القسم لا تحصل إلا في القسم بالله ، ولأن النهي قد ورد بأن يحلف العاقل بهذه الأمور.
جزء : 31 رقم الصفحة : 158
160
واعلم أن في جواب القسم وجهين الأول : أن جواب القسم هو قوله : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وما بين الموضعين معترض بينهما الثاني : قال صاحب "الكشاف" : المقسم عليه محذوف وهو لنعذبن الكافرين ، يدل عليه قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} إلى قوله {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} وهذا أولى من الوجه الأول لأنه لما لم يتعين المقسم عليه ذهب الوهم إلى كل مذهب ، فكان أدخل في التخويف ، فلما جاء بعده بيان عذاب الكافرين دل على أن المقسم عليه أولاً هو ذلك.
أما قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : ألم تر ، ألم تعلم لأن ذلك مما لا يصح أن يراه الرسول وإنما أطلق لفظ الرؤية ههنا على العلم ، وذلك لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت منقولة بالتواتر أما عاد وثمود فقد كانا في بلاد العرب وأما فرعون فقد كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ، وبلاد فرعون أيضاً / متصلة بأرض العرب وخبر التواتر يفيد العلم الضروري ، والعلم الضروري جار مجرى الرؤية في القوة والجلاء والبعد عن الشبهة ، فلذلك قال : {أَلَمْ تَرَ} بمعنى ألم تعلم.
المسألة الثانية : قوله : {أَلَمْ تَرَ} وإن كان في الظاهر خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلّم لكنه عام لكل من علم ذلك. والمقصود من ذكر الله تعالى حكايتهم أن يكون زجراً للكفار عن الإقامة على مثل ما أدى إلى هلاك عاد وثمود وفرعون وقومه ، وليكون بعثاً للمؤمنين على الثبات على الإيمان.
أما قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى ذكر ههنا قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين وهي عاد وثمود وقوم فرعون على سبيل الإجمال حيث قال : {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ولم يبين كيفية ذلك العذاب ، وذكر في سورة الحاقة بيان ما أبهم في هذه السورة فقال : {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} إلى قوله {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَه وَالْمُؤْتَفِكَـاتُ بِالْخَاطِئَةِ} (الحاقة : 9) الآية.
جزء : 31 رقم الصفحة : 160
المسألة الثانية : عاد هو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح ، ثم إنهم جعلوا لفظة عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم هاشم ولبني تميم تميم ، ثم قالوا للمتقدمين من هذه القبيلة عاد الأولى قال تعالى : {وَأَنَّه ا أَهْلَكَ عَادًا الاولَى } (النجم : 50)وللمتأخرين عاد الأخيرة ، وأما إرم فهو اسم لجد عاد ، وفي المراد منه في هذه الآية أقوال : أحدها : أن المتقدمين من قبيلة عاد كانوا يسمون بعاد الأولى فلذلك يسمون بإرم تسمية لهم باسم جدهم والثاني : أن إرم اسم لبلدتهم التي كانوا فيها ثم قبل تلك المدينة هي الإسكندرية وقيل دمشق والثالث : أن إرم أعلام قوم عاد كانوا يبنونها على هيئة المنارة وعلى هيئة القبور ، قال أبو الدقيش : الأروم قبور عاد ، وأنشد :
بها أروم كهوادي البخث
(1/4742)
ومن الناس من طعن في قول من قال : إن إرم هي الإسكندرية أو دمشق ، قال : لأن منازل عاد كانت بين عمان إلى حضرموت وهي بلاد الرمال والأحقاف ، كما قال : {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَه بِالاحْقَافِ} (الأحقاق : 21) وأما الإسكندرية ودمشق فليستا من بلاد الرمال.
المسألة الثالثة : إرم لا تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث.
المسألة الرابعة : في قوله : {إِرَمَ} وجهان وذلك لأنا إن جعلناه اسم القبيلة كان قوله : {إِرَمَ} عطف بيان لعاد وإيذاناً بأنهم عاد الأولى القديمة وإن جعلناه اسم البلدة أو الأعلام كان التقدير بعاد أهل إرم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامع ، كما في قوله : {وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف : 82) ويدل عليه قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة.
المسألة الخامسة : قرأ الحسن : {بِعَادٍ * إِرَمَ} مفتوحين وقرىء : {بِعَادٍ * إِرَمَ} بسكون الراء على / التخفيف كما قرىء : {بِوَرِقِكُمْ} (الكهف : 19) وقرىء : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} بإضافة {إِرَمَ} إلى {ذَاتِ الْعِمَادِ} وقرىء : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} بدلاً من فعل ربك ، والتقدير : ألم تر كيف فعل ربك بعاد جعل ذات العماد رميماً ، أما قوله : {ذَاتِ الْعِمَادِ} ففيه مسألتان :
جزء : 31 رقم الصفحة : 160
المسألة الأولى : في إعرابه وجهان وذلك لأنا إن جعلنا : {إِرَمَ} اسم القبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين يسكنون الأخبية والخيام والخبار لا بد فيها من العماد ، والعماد بمعنى العمود. وقد يكون جمع العمد أو يكون المراد بذات العماد أنهم طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وقيل : ذات البناء الرفيع ، وإن جعلناه اسم البلد فالمعنى أنها ذات أساطين أي ذات أبنية مرفوعة على العمد وكانوا يعالجون الأعمدة فينصبونها ويبنون فوقها القصور ، قال تعالى في وصفهم : {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ} (الشعراء : 128) أي علامة وبناء رفيعاً.
المسألة الثانية : روي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها. فسمع بذكر الجنة فقال : ابني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار ، فلما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا ، وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوصل إلى جنة شداد فحمل ما قدر عليه مما كان هناك وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله ، فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن (أبي) قلابة فقال : هذا والله هو ذلك الرجل.
أما قوله : {الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَـادِ} فالضمير في مثلها إلى ماذا يعود ؟
فيه وجوه : الأول : {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} أي مثل عاد في البلاد في عظم الجثة وشدة القوة ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع وكان يحمل الصخرة العظيمة فيلقيها على الجمع فيهلكوا الثاني : لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا ، وقرأ ابن الزبير {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} أي لم يخلق الله مثلها الثالث : أن الكناية عائدة إلى العماد أي لم يخلق مثل تلك الأساطين في البلاد ، وعلى هذا فالعماد جمع عمد ، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنه تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل ، مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه ، فلأن تكونوا خائفين من مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم كان أولى. أما قوله تعالى : {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} فقال الليث : الجواب قطعك الشيء كما يجاب الجيب يقال جاب يجوب جوباً. وزاد الفراء يجيب جيباً ويقال : جبت البلاد جوباً أي جلت فيها وقطعتها ، قال ابن عباس : يجوبون البلاد فيجعلون منها بيوتاً وأحواضاً وما أرادوا من الأبنية ، كما قال : {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} (الأعراف : 74) قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام / ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ، وقوله : {بِالْوَادِ} قال مقاتل : بوادي القرى.
جزء : 31 رقم الصفحة : 160
(1/4743)
وأما قوله تعالى : {وَفِرْعَوْنَ ذِى الاوْتَادِ} فالاستقصاء فيه مذكور في سورة ص ، ونقول : الآن فيه وجوه أحدها : أنه سمي ذا الأوتاد لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا وثانيها : أنه كان يعذب الناس ويشدهم بها إلى أن يموتوا ، روى عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء وقالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ، ففرج الله عن بيتها في الجنة فرأته وثالثها : ذي الأوتاد ، أي ذي الملك والرجال ، كما قال الشاعر :
في ظل ملك راسخ الأوتاد
ورابعها : روى قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن تلك الأوتاد كانت ملاعب يلعبون تحتها لأجله ، واعلم أن الكلام محتمل لكل ذلك ، فبين الله تعالى لرسوله أن كل ذلك مما تعظم به الشدة والقول والكثرة لم يمنع من ورود هلاك عظيم بهم ، ولذلك قال تعالى : {الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَـادِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : يحتمل أنه يرجع الضمير إلى فرعون خاصة لأنه يليه ، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم ، وهذا هو الأقرب.
المسألة الثانية : أحسن الوجوه في إعرابه أن يكون في محل النصب على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على (الإخبار ، أي) هم الذين طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون.
المسألة الثالثة : {طَغَوْا فِى الْبِلَـادِ} أي عملوا المعاصي وتجبروا على أنبياء الله والمؤمنين ثم فسر طغيانهم بقوله تعالى : {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} ضد الصلاح فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر ، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم ، فمن عمل بغير أمر الله وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد ثم قال تعالى : {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} واعلم أنه يقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. قال القاضي : وشبهه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : إن عند الله أسواطاً كثيرة فأخذهم بسوط منها ، فإن قيل : أليس أن قوله تعالى : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (النحل : 61) يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة فكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟
قلنا : هذه الآية تقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة والواقع في الدنيا شيء من ذلك ومقدمة من مقدماته. ثم قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} تقدم عند قوله : {كَانَتْ مِرْصَادًا} (النبأ : 21) ونقول : المرصاد المكان الذي يترقب فيه الراصد مفعال من رصده كالميقات من وقته ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه ، وعن بعض العرب أنه قيل له : أين ربك ؟
فقال : بالمرصاد ، وللمفسرين فيه وجوه أحدها : / قال الحسن : يرصد أعمال بني آدم وثانيها : قال الفراء : إليه المصير ، وهذان الوجهان عامان للمؤمنين والكافرين ، ومن المفسرين من يخص هذه الآية إما بوعيد الكفار ، أو بوعيد العصاة ، أما الأول فقال الزجاج : يرصد من كفر به وعدل عن طاعته بالعذاب ، وأما الثاني فقال الضحاك : يرصد لأهل الظلم والمعصية ، وهذه الوجوه متقاربة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 160
160
(1/4744)
اعلم أن قوله : {فَأَمَّا الانسَـانُ} متعلق بقوله : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر : 14) كأنه قيل : إنه تعالى لبالمرصاد في الآخرة ، فلا يريد إلا السعي للآخرة فأما الإنسان فإنه لا يهمه إلا الدنيا ولذاته وشهواتها ، فإن وجد الراحة في الدنيا يقول : ربي أكرمني ، وإن لم يجد هذه الراحة يقول : ربي أهانني ، ونظيره قوله تعالى في صفة الكفار : {يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ} (الروم : 7) وقال : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍا فَإِنْ أَصَابَه خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِه ا وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِه } (الحج : 11) وهذا خطأ من وجوه أحدها : أن سعادة الدنيا وشقاوتها في مقابلة ما في الآخرة من السعادة والشقاوة كالقطرة في البحر ، فالمتنعم في الدنيا لو كان شقياً في الآخرة فذاك التنعم ليس بسعادة ، والمتألم المحتاج في الدنيا لو كان سعيداً في الآخرة فذاك ليس بإهانة ولا شقاوة ، إذ المتنعم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالسعادة والكرامة ، والمتألم في الدنيا لا يجوز له أن يحكم على نفسه بالشقاوة والهوان وثانيها : أن حصول النعمة في الدنيا وحصول الآلام في الدنيا لا يدل على الاستحقاق فإنه تعالى كثيراً ما يوسع على العصاة والكفرة ، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وإما يحكم المصلحة ، وإما على سبيل الاستدراج والمكر ، وقد يضيق على الصديقين لأضداد ما ذكرنا ، فلا ينبغي للعبد أن يظن أن ذلك لمجازاة وثالثها : أن المتنعم لا ينبغي أن يغفل عن العاقبة ، فالأمور بخواتيمها ، والفقير والمحتاج لا ينبغي أن يغفل عما لله عليه من النعم التي لا حد لها من سلامة البدن والعقل والدين ودفع الآفات والآلام التي لا حد لها ولا حصر ، فلا ينبغي أن يقضي على نفسه بالإهانة مطلقاً ورابعها : أن النفس قد ألفت هذه المحسوسات ، فمتى حصلت هذه المشتهيات واللذات صعب عليها الانقطاع عنها وعدم الاستغراق فيها ، أما إذا لم يحصل للإنسان شيء من هذه المحسوسات رجعت شاءت أم أبت إلى الله ، واشتغلت بعبودية الله فكان وجدان الدنيا سبباً للحرمان من الله ، فكيف يجوز القضاء بالشقاوة والإهانة عند عدم الدنيا ، مع أن ذلك / أعظم الوسائل إلى أعظم السعادات وخامسها : أن كثرة الممارسة سبب لتأكد المحبة ، وتأكد المحبة سبب لتأكد الألم عند الفراق ، فكل من كان وجدانه للدنيا أكثر وأدوم كانت محبته لها أشد ، فكان تألمه بمفارقتها عند الموت أشد ، والذي بالضد فبالضد ، فإذن حصول لذات الدنيا سبب للألم الشديد بعد الموت ، وعدم حصولها سبب للسعادة الشديدة بعد الموت ، فكيف يقال : إن وجدان الدنيا سعادة وفقدانها شقاوة ؟
.
جزء : 31 رقم الصفحة : 160
واعلم أن هذه الوجوه إنما تصح مع القول بإثبات البعث روحانياً كان أو جسمانياً ، فأما من ينكر البعث من جميع الوجوه فلا يستقيم على قوله شيء من هذه الوجوه ، بل يلزمه القطع بأن وجدان الدنيا هو السعادة وفقدانها هو الشقاوة ، ولكن فيه دقيقة أخرى وهي أنه ربما كان وجدان الدنيا الكثيرة سبباً للقتل والنهب والوقوع في أنواع العذاب ، فربما كان الحرمان سبباً لبقاء السلامة ، فعلى هذا التقدير لا يجوز أيضاً لمنكر البعث من جميع الوجوه أن يقضي على صاحب الدنيا بالسعادة ، وعلى فاقدها بالهوان ، فربما ينكشف له أن الحال بعد ذلك بالضد/ وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : قوله : {فَأَمَّا الانسَـانُ} المراد منه شخصين معين أو الجنس ؟
الجواب : فيه قولان : الأول : أن المراد منه شخصين معين ، فروي عن ابن عباس أنه عتبة بن ربيعة ، وأبو حذيفة بن المغيرة ، وقال الكلبي : هو أبي بن خلف ، وقال مقاتل : نزلت في أمية بن خلف والقول الثاني : أن المراد من كان موصوفاً بهذا الوصف وهو الكافر الجاحد ليوم الجزاء.
السؤال الثاني : كيف سمي بسط الرزق وتقديره ابتلاء ؟
الجواب : لأن كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع ، فالحكمة فيهما واحدة ، ونحوه قوله تعالى : {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } (الأنبياء : 35).
(1/4745)
السؤال الثالث : لما قال : {فَأَكْرَمَه } فقد صحح أنه أكرمه. وأثبت ذلك ثم إنه لما حكى عنه أنه قال : {رَبِّى أَكْرَمَنِ} ذمه عليه فكيف الجمع بينهما ؟
والجواب : لأن كلمة الإنكار هي قوله : {كَلا} فلم لا يجوز أن يقال : إنها مختصة بقوله : {رَبِّى أَهَـانَنِ} سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً ولكن فيه وجوه ثلاثة أحدها : أنه اعتقد حصول الاستحقاق في ذلك الإكرام الثاني : أن نعم الله تعالى كانت حاصلة قبل وجدان المال ، وهي نعمة سلامة البدن والعقل والدين ، فلما لم يعترف بالنعمة إلا عند وجدان المال ، علمنا أنه ليس غرضه من ذلك شكر نعمة الله ، بل التصلف بالدنيا والتكثر بالأموال والأولاد الثالث : أن تصلفه بنعمة الدنيا وإعراضه عن ذكر نعمة الآخرة يدل على كونه منكراً للبعث ، فلا جرم استحق الذم على ما حكى الله تعالى ذلك ، فقال : {وَدَخَلَ جَنَّتَه وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِه أَبَدًا * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً} إلى قوله : {أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} (الكهف : 37 ، 35).
/
جزء : 31 رقم الصفحة : 160
السؤال الرابع لم قال في القسم الأول : {إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ رَبُّه فَأَكْرَمَه } وفي القسم الثاني : {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه } فذكر الأول بالفاء والثاني بالواو ؟
والجواب : لأن رحمة الله سابقة على غضبه وابتلاءه بالنعم سابق على ابتلائه بإنزال الآلام ، فالفاء تدل على كثرة ذلك القسم وقبله الثاني على ما قال : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } (النحل : 18).
السؤال الخامس : لما قال في القسم الأول : {فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ} يجب أن يقول في القسم الثاني : فأهانه فيقول : {رَبِّى أَهَـانَنِ} لكنه لم يقل ذلك والجواب : لأنه في قوله : {أَكْرَمَنِ} صادق وفي قوله : {أَهَـانَنِ} غير صادق فهو ظن قلة الدنيا وتقتيرها إهانة ، وهذا جهل واعتقاد فاسد ، فكيف يحكي الله سبحانه ذلك عنه.
السؤال السادس : ما معنى قوله : فقدر عليه رزقه ؟
الجواب : ضيق عليه بأن جعله على مقدار البلغة ، وقرىء فقدر على التخفيف وبالتشديد أي قتر ، وأكرمن وأهانن بسكون النون في الوقف فيمن ترك الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 160
161
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الشبهة قال : {كَلا} وهو ردع للإنسان عن تلك المقالة ، قال ابن عباس : المعنى لم ابتله بالغنى لكرامته علي ، ولم أبتله بالفقر لهوانه علي ، بل ذلك إما على مذهب أهل السنة ، فمن محض القضاء أو القدر والمشيئة ، والحكم الذي تنزه عن التعليل بالعلل ، وإما على مذهب المعتزلة فبسبب مصالح خفية لا يطلع عليها إلا هو ، فقد يوسع على الكافر لا لكرامته ، ويقتر على المؤمن لا لهوانه ، ثم إنه تعالى لما حكى من أقوالهم تلك الشبهة فكأنه قال : بل لهم فعل هو شر من هذا القول ، وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم ، فقال : {بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو : وما بعده بالياء المنقوطة من تحت ، وذلك أنه لما تقدم ذكر الإنسان ، وكان يراد به الجنس والكثرة ، وهو على لفظة الغيبة حمل يكرمون ويحبون عليه ، ومن قرأ بالتاء فالتقدير قل لهم يا محمد ذلك.
المسألة الثانية : قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف ، فكان يدفعه عن حقه.
/ واعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه أحدها : ترك بره ، وإليه الإشارة بقوله : {الْيَتِيمَ * وَلا تَحَـا ضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} والثاني : دفعه عن حقه الثابت له في الميراث وأكل ماله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا} والثالث : أخذ ماله منه وإليه الإشارة بقوله : {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أي تأخذون أموال اليتامى وتضمونها إلى أموالكم ، أما قوله : {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} قال مقاتل : ولا تطعمون مسكيناً ، والمعنى لا تأمرون بإطعامه كقوله تعالى : {إِنَّه كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة : 34,33) ومن قرأ ولا تحاضون أراد تتحاضون فحذف تاء تتفاعلون ، والمعنى : {كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَـا ضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} بضم التاء من المحاضة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 161
أما قوله : {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قالوا : أصل التراث وراث ، والتاء تبدل من الواو المضمومة نحو تجاه ووجاه من واجهت.
(1/4746)
المسألة الثانية : قال الليث : اللم الجمع الشديد ، ومنه كتيبة ملمومة وحجر ملموم ، والآكل يلم الثريد فيجعله لقماً ثم يأكله ويقال لممت ما على الخوان ألمه أي أكلته أجمع ، فمعنى اللم في اللغة الجمع ، وأما التفسير ففيه وجوه أحدها : قال الواحدي والمفسرون : يقولون في قوله : {أَكْلا لَّمًّا} أي شديداً وهو حل معنى وليس بتفسير ، وتفسيره أن اللم مصدر جعل نعتاً للأكل ، والمراد به الفاعل أي آكلاً لامّاً أي جائعاً كأنهم يستوعبونه بالأكل ، قال الزجاج : كانوا يأكلون أموال اليتامى إسرافاً وبداراً ، فقال الله : {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا} أي تراث اليتامى لماً أي تلمون جميعه ، وقال الحسن : أي يأكلون نصيبهم ونصيب صاحبهم ، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم وثانيها : أن المال الذي يبقى من الميت بعضه حلال ، وبعضه شبهة وبعضه حرام ، فالوارث يلم الكل أي يضم البعض إلى البعض ويأخذ الكل ويأكله وثالثها : قال صاحب "الكشاف" : ويجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال سهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً لماً واسعاً/ جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ، كما يفعله الوراث البطالون.
أما قوله تعالى : {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} فاعلم أن الجم هو الكثرة يقال : جم الشيء يجم جموماً يقال ذلك في المال وغيره فهو شيء جم وجام وقال أبو عمرو جم يجم أي يكثر ، والمعنى : ويحبون المال حباً كثيراً شديداً ، فبين أن حرصهم على الدنيا فقط وأنهم عادلون عن أمر الآخرة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 161
161
/ اعلم أن قوله : {كَلا} ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا وقصر الهمة والجهاد على تحصيلها والاتكال عليها وترك المواساة منها وجمعها من حيث تتهيأ من حل أو حرام ، وتوهم أن لا حساب ولا جزاء. فإن من كان هذا حاله يندم حين لا تنفعه الندامة ويتمنى أن لو كان أفنى عمره في التقرب بالأعمال الصالحة والمواساة من المال إلى الله تعالى ، ثم بين أنه إذا جاء يوم موصوف بصفات ثلاثة فإنه يحصل ذلك التمني وتلك الندامة.
الصفة الأولى : من صفات ذلك اليوم قوله : {إِذَا دُكَّتِ الارْضُ دَكًّا دَكًّا} قال الخليل : الدك كسر الحائط والجبل والدكداك رمل متلبد ، ورجل مدك شديد الوطء على الأرض ، وقال المبرد : الدك حط المرتفع بالبسط واندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره ، وناقة دكاء إذا كانت كذلك ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش ، فمعنى الدك على قول الخليل : كسر كل شيء على وجه الأرض من جبل أو شجر حين زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء ، وعلى قول المبرد : معناه أنها استوت في الانفراش فذهبت دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحرة الملساء ، وهذا معنى قول ابن عباس : تمد الأرض يوم القيامة.
واعلم أن التكرار في قوله : {دَكًّا دَكًّا} معناه دكاً بعد دك كقولك حسبته باباً باباً وعلمته حرفاً حرفاً أي كرر عليها الدك حتى صارت هباءً منثوراً. واعلم أن هذا التدكدك لا بد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة ، فإذا زلزلت الأرض زلزلة بعد زلزلة وحركت تحريكاً بعد تحريك انكسرت الجبال التي عليها وانهدمت التلال وامتلأت الأغوار وصارت ملساء ، وذلك عند انقضاض الدنيا وقد قال تعالى : {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} (النازعات : 7,6) وقال : {وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الحاقة : 14) وقال : {إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} .
الصفة الثانية : من صفات ذلك اليوم قوله : {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} .
جزء : 31 رقم الصفحة : 161
واعلم أنه ثبت بالدليل العقلي أن الحركة على الله تعالى محال ، لأن كل ما كان كذلك كان جسماً والجسم يستحيل أن يكون أزلياً فلا بد فيه من التأويل ، وهو أن هذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، ثم ذلك المضاف ما هو ؟
فيه وجوه أحدها : وجاء أمر ربك بالمحاسبة والمجازاة وثانيها : وجاء قهر ربك كما يقال جاءتنا بنو أمية أي قهرهم وثالثها : وجاء جلائل آيات ربك لأن هذا يكون يوم القيامة ، وفي ذلك اليوم تظهر العظائم وجلائل الآيات ، فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لشأن تلك الآيات ورابعها : وجاء ظهور ربك ، وذلك لأن معرفة الله تصير في ذلك اليوم ضرورية فصار ذلك كظهوره وتجليه للخلق ، فقيل : {وَجَآءَ رَبُّكَ} أي زالت الشبهة وارتفعت / الشكوك خامسها : أن هذا تمثيل لظهور آيات الله وتبيين آثار قهره وسلطانه ، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ، فإنه يظهر بمجرد حضوره من آثار الهيبة والسياسة مالا يظهر بحضور عساكره كلها وسادسها : أن الرب هو المربى ، ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربي للنبي صلى الله عليه وسلّم جاء فكان هو المراد من قوله : {وَجَآءَ رَبُّكَ} .
(1/4747)
أما قوله : {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فالمعنى أنه تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس.
الصفة الثالثة : من صفات ذلك اليوم قوله تعالى : {وَجِا ى ءَ يَوْمَـاـاِذٍ بِجَهَنَّمَ } ونظيره قوله تعالى : {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} (الشعراء : 91) قال جماعة من المفسرين : جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، قال الأصوليون : ومعلوم أنها لا تنفك عن مكانها ، فالمراد {وَبُرِّزَتِ} أي ظهرت حتى رآها الخلق ، وعلم الكافر أن مصيره إليها ، ثم قال : {يَوْمَـاـاِذٍ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ} واعلم أن تقدير الكلام : إذا دكت الأرض ، وحصل كذا وكذا فيومئذ يتذكر الإنسان ، وفي تذكره وجوه الأول : أنه يتذكر ما فرط فيه لأنه حين كان في الدنيا كانت همته تحصيل الدنيا ، ثم إنه في الآخرة يتذكر أن ذلك كان ضلالاً ، وكان الواجب عليه أن تكون همته تحصيل الآخرة الثاني : يتذكر أي يتعظ ، والمعنى أنه ما كان يتعظ في الدنيا فيصير في الآخرة متعظاً فيقول : {فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا} (الأنعام : 27) ، الثالث : يتذكر يتوب وهو مروي عن الحسن ، ثم قال تعالى : {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } {وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} (الدخان : 13) :
جزء : 31 رقم الصفحة : 161
واعلم أن بين قوله : {يَتَذَكَّرُ} وبين قوله : {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } تناقضاً فلا بد من إضمار المضاف والمعنى ومن أين له منفعة الذكرى.
ويتفرع على هذه الآية مسألة أصوليه ، وهي أن قبول التوبة عندنا غير واجب على الله عقلاً ، وقالت المعتزلة : هو واجب. فنقول : الدليل على قولنا أن الآية دلت ههنا على أن الإنسان يعلم في الآخرة أن الذي يعمله في الدنيا لم يكن أصلح له وإن الذي تركه كان أصلح له ، ومهما عرف ذلك لا بد وأن يندم عليه ، وإذا حصل الندم فقد حصلت التوبة ، ثم إنه تعالى نفى كون تلك التوبة نافعة بقوله : {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } فعلمنا أن التوبة لا يجب عقلاً قبولها ، فإن قيل القوم : إنما ندموا على أفعالهم لا لوجه قبحها بل لترتب العقاب عليها ، فلا جرم ما كانت التوبة صحيحة ؟
قلنا : القوم لما علموا أن الندم على القبيح لا بد وأن يكون لوجه قبحه حتى يكون نافعاً وجب أن يكون ندمهم واقعاً على هذا الوجه ، فحينئذ يكونون آتين بالتوبة الصحيحة مع عدم القبول فصح قولنا.
جزء : 31 رقم الصفحة : 161
164
ثم شرح تعالى ما يقوله هذا الإنسان فقال تعالى : {يَقُولُ يَـالَيْتَنِا قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} وفيه مسألتان :
/ المسألة الأولى : للآية تأويلات :
أحدهما : {لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ} في الدنيا التي كانت حياتي فيها منقطعة ، لحياتي هذه التي هي دائمة غير منقطعة ، وإنما قال : {لِحَيَاتِى} ولم يقل : لهذه الحياة على معنى أن الحياة كأنها ليست إلا الحياة في الدار الآخرة ، قال تعالى : {وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ } (العنكبوت : 64) أي لهي الحياة.
وثانيها : أنه تعالى قال في حق الكافر : {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } (إبراهيم : 17) وقال : {فَإِنَّ لَه جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } (طه : 74) وقال : {وَيَتَجَنَّبُهَا الاشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } (الأعلى : 13,11) فهذه الآية دلت على أن أهل النار في الآخرة كأنه لا حياة لهم ، والمعنى فياليتني قدمت عملاً يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء.
وثالثها : أن يكون المعنى : فياليتني قدمت وقت حياتي في الدنيا ، كقولك جئته لعشر ليال خلون من رجب.
المسألة الثانية : استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم وأنهم ما كانوا محجوبين عن الطاعات مجترئين على المعاصي وجوابه : أن فعلهم كان معلقاً بقصدهم ، فقصدهم إن كان معلقاً بقصد آخر لزم التسلسل ، وإن كان معلقاً بقصد الله فقد بطل الاعتزال. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 164
164
وفيه مسألتان :
(1/4748)
المسألة الأولى : قراءة العامة يعذب ويوثق بكسر العين فيهما قال مقاتل معناه : فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق ، والمعنى لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق ، قال أبو عبيدة : هذا التفسير ضعيف لأنه ليس يوم القيامة معذب سوى الله فكيف يقال : لا يعذب أحد في مثل عذابه ، وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه الأول : أن التقدير لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله الكافر يومئذ ، ولا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله الكافر يومئذ ، والمعنى مثل عذابه ووثاقه في الشدة والمبالغة الثاني : أن المعنى لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد ، أي الأمر يومئذ أمره ولا أمر لغيره الثالث : وهو قول أبي علي الفارسي : أن يكون التقدير لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه ، فالضمير في عذابه عائد إلى الإنسان ، وقرأ الكسائي لا يعذب ولا يوثق بفتح العين فيها واختاره أبو عبيدة ، وعن أبي عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره ، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأهما بالفتح والضمير للإنسان الموصوف ، وقيل : هو أبي بن خلف ولهذه القراءة تفسيران أحدهما : لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه ، لتناهيه في كفره وفساده والثاني : / أنه لا يعذب أحد من الناس عذاب الكافر ، كقوله : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (فاطر : 18) قال الواحدي وهذه أولى الأقوال.
المسألة الثانية : العذاب في القراءتين بمعنى التعذيب والوثاق بمعنى الإيثاق ، كالعطاء بمعنى الإعطاء في قوله :
(أكفراً بعد رد الموت عن
وبعد عدائك المائة الرتاعا
جزء : 31 رقم الصفحة : 164
167
اعلم أنه تعالى لما وصف حال من اطمأن إلى الدنيا ، وصف حال من أطمأن إلى معرفته وعبوديته ، فقال : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير هذا الكلام. يقول الله للمؤمن : {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} فإما أن يكلمه إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان ملك ، وقال القفال : هذا وإن كان أمراً في الظاهر لكنه خبر في المعنى ، والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله ، وقال الله لها : {فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى} (الفجر : 30,29) قال : ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم ، كقولهم : إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
المسألة الثانية : الاطمئنان هو الاستقرار والثبات ، وفي كيفية هذا الاستقرار وجوه أحدها : أن تكون متيقنة بالحق ، فلا يخالجها شك ، وهو المراد من قوله : {وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } (البقرة : 260) وثانيها : النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، ويشهد لهذا التفسير قراءة أبي بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ، وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع قوله : {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} (فصلت : 30) وتحصل عند البعث ، وعند دخول الجنة لا محالة وثالثها : وهو تأويل مطابق للحقائق العقلية ، فنقول : القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله ، أما القرآن فقوله : {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد : 28) وأما البرهان فمن وجهين الأول : أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات ، فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكناً لذاته طلب العقل له سبباً آخر ، فلم يقف العقل عنده ، بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه ، حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات. ومنتهى الضرورات ، فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه ، ولم ينتقل عنه إلى غيره ، فإذاً كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده ، وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود ، وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه ، فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود الثاني : أن حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة إلا بامداد الله ، وغير المتناهي لا يصير مجبوراً / بالمتناهي ، فلا بد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له ، حتى يحصل الاستقرار ، فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن ، وليست نفسه نفساً مطمئنة ، أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة ، وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله ، فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله : {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملاً في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
(1/4749)
المسألة الثالثة : اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّا هَا} (الشمس : 7) وقال : {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } (المائدة : 116) وقال : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة : 17) وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء ، فقال : {إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة بِالسُّواءِ} (يوسف : 53) وتارة بكونها لوامة ، فقال : {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة : 2) وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية. واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك : (أنا) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت ، إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين الأول : أن المشار إليه بقولك : (أنا) قد يكون معلوماً حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة ، والمعلوم غير ما هو غير معلوم والثاني : أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك : (أنا) غير متبدل ، فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجوداً قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، والمتبدل غير ما هو غير متبدل ، فإذاً ليست النفس عبارة عن هذه البنية ، وتقول : قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله : (أنا) حال ما أكون غافلاً عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق. والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات ، وقال آخرون : بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية ، فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حياً وإن فارقته صار البدن ميتاً ، وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه ، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقاً.
المسألة الرابعة : من القدماء من زعم أن النفوس أزلية ، واحتجوا بهذه الآية وهي قوله : {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} فإن هذا إنما يقال : لما كان موجوداً قبل هذا البدن.
واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد ؟
وفيه وجهان الأول : أنه إنما يوجد عند الموت ، وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد ، إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها الثاني : أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة ، والمعنى : ارجعي إلى ثواب ربك ، فادخلي في عبادي ، أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه.
/
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
المسألة الخامسة : المجسمة تمسكوا بقوله : {إِلَى رَبِّكِ} وكلمة إلى لانتهاء الغاية وجوابه : إلى حكم ربك ، أو إلى ثواب ربك أو إلى إحسان ربك والجواب : الحقيقي المفرع على القاعدة العقلية التي قررناها ، أن القوة العقلية بسيرها العقلي تترقى من موجود إلى موجود آخر ، ومن سبب إلى سبب حتى تنتهي إلى حضرة واجب الوجود ، فهناك انتهاء الغايات وانقطاع الحركات ، أما قوله تعالى : {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} فالمعنى راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا ، ويدل على صحة هذا التفسير ، ما روى أن رجلاً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلّم هذه الآيات ، فقال أبو بكر : ما أحسن هذا فقال عليه الصلاة والسلام : "أما إن الملك سيقولها لك". ثم قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
167
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، وقيل : في خبيت بن عدي الذي صلبه أهل مكة ، وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو بلدتك ، فحول الله وجهه نحوها ، فلم يستطع أحد أن يحوله ، وأنت قد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية : قوله : {وَادْخُلِى جَنَّتِى} أي انضمي إلى عبادي المقربين ، وهذه حالة شريفة ، وذلك لأن الأرواح الشريفة القدسية تكون كالمرايا المصقولة ، فإذا انضم بعضها إلى البعض حصلت فيما بينها حالة شبيهة بالحالة الحاصلة عند تقابل المرايا المصقولة من انعكاس الأشعة من بعضها على بعض ، فيظهر في كل واحد منها كل ما ظهر في كلها ، وبالجملة فيكون ذلك الانضمام سبباً لتكامل تلك السعادات ، وتعاظم تلك الدرجات الروحانية ، وهذا هو المراد من قوله تعالى : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (الواقعة : 91,90} وذلك هو السعادة الروحانية ، ثم قال : وذلك هو السعادة الروحانية ، ثم قال : {وَادْخُلِى جَنَّتِى} وهذا إشارة إلى السعادة الجسمانية ، ولما كانت الجنة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء ، لا جرم قال : {فَادْخُلِى فِى عِبَادِى} فذكر بفاه التعقيب ، ولما كانت الجنة الجسمانية لا يحصل الفوز بها إلا بعد قيام القيامة الكبرى ، لا جرم قال : {وَادْخُلِى جَنَّتِى} فذكره بالواو لا بالفاء ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
167
(1/4750)
سورة البلد
عشرون آية مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
167
/ أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي مكة ، واعلم أن فضل مكة معروف ، فإن الله تعالى جعلها حرماً آمناً ، فقال في المسجد الذي فيها {وَمَن دَخَلَه كَانَ ءَامِنًا } وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب ، فقال : {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه } (البقرة : 644) وشرف مقام إبراهيم بقوله : {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاه مَ مُصَلًّى } (البقرة : 125) وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (آل عمران : 97) وقال في البيت : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} (البقرة : 125) وقال : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِى شَيْاًا} (الحج : 26) وقال : {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} وحرم فيه الصيد ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الدنيا من تحته ، فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها ، فأما قوله : {وَأَنتَ حِلُّ } فالمراد منه أمور أحدها : وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به ، كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها وثانيها : الحل بمعنى الحلال ، أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات ، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك ، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك ، عن شرحبيل : يحرمون أن يقتلوا بها صيداً أو يعضوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له وثالثها : قال قتادة : {الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلُّ } أي لست بآثم ، وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت ، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له ، وما فتحت على أحد قبله ، فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء ، فقتل عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرم دار أبي سفيان ، ثم / قال : "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل إلا ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلالها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لبيوتنا وقبورنا ، فقال إلا الإذخر".
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
(1/4751)
فإن قيل : هذه السورة مكية ، وقوله : {وَأَنتَ حِلُّ } إخبار عن الحال ، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة ، فكيف الجمع بين الأمرين ؟
قلنا : قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلاً ، كقوله تعالى : {إِنَّكَ مَيِّتٌ} (الزمر : 30) وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهذا من الله أحسن ، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها : {وَأَنتَ حِلُّا بِهَـاذَا الْبَلَدِ} أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيماً منك لهذا البيت ، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله ، وتكذيب الرسل وخامسها : أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد ، ثم قال : {وَأَنتَ حِلُّا بِهَـاذَا الْبَلَدِ} أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة ، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة/ وهذا هو المراد بقوله تعالى : {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ} (الجمعة : 2) وقال : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة : 128) وقوله : {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِه } (يونس : 16) فيكون الغرض شرح منصب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكونه من هذا البلد. أما قوله : {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فاعلم أن هذا معطوف على قوله : {لا أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ} وقوله : {وَأَنتَ حِلُّا بِهَـاذَا الْبَلَدِ} معترض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وللمفسرين فيه وجوه أحدها : الولد آدم وما ولد ذريته ، أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق الله على وجه الأرض ، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه ، وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها ، وقد قال الله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} (الإسراء : 70) فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم ، لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب ، وقيل : هو قسم بآدم والصالحين من أولاده ، بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم. كما قال :
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
{إِنْ هُمْ إِلا كَالانْعَـامِا بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} ، {صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وثانيها : أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى الله عليه وسلّم وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها ، وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب ، وإنما قال : {وَمَا وَلَدَ} ولم يقل ومن ولد ، للفائدة الموجودة في قوله : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران : 36) أي بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن وثالثها : الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم. فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر ، وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحق ، ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب / ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين ، وإنما قلنا : إن هذا القسم واقع بولد إبراهيم المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال : "كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم" وهم المؤمنين ورابعها : روي عن ابن عباس أنه قال : الولد الذي يلد ، وما ولد الذي لا يلد ، فما ههنا يكون للنفي ، وعلى هذا لا بد عن إضمار الموصول أي ووالد ، والذي ما ولد ، وذلك لا يجوز عند البصريين وخامسها : يعني كل والد ومولود ، وهذا مناسب ، لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام.
وأما قوله تعالى : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الكبد وجوه أحدها : قال صاحب "الكشاف" : إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبداً فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده ، وقال آخرون : الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد ، ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد ، والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعاً للكبد ، ثم اشتقت منه الشدة. وفي الثاني جعل اللفظ موضوعاً للشدة والغلظ ، ثم اشتق منه اسم العضو الوجه الثاني : أن الكبد هو الاستواء والاستقامة الوجه الثالث : أن الكبد شدة الخلق والقوة ، إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط ، وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط ، وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط ، وأن يكون المراد كل ذلك.
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
أما الأول : فقوله : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ} أي خلقناه أطواراً كلها شدة ومشقة/ تارة في بطن الأم ، ثم زمان الإرضاع ، ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش ، ثم بعد ذلك الموت.
(1/4752)
وأما الثاني : وهو الكبد في الدين ، فقال الحسن : يكابد الشكر على السراء ، والصبر على الضراء ، ويكابد المحن في أداء العبادات.
وأما الثالث : وهو الآخرة ، فالموت ومساءلة الملك وظلمة القبر ، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار.
وأما الرابع : وهو يكون اللفظ محمولاً على الكل فهو الحق ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة البتة ، بل ذاك يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم ، فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عند ألم الجوع ، وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد ، فليس للإنسان ، إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر ، فهذا معنى قوله : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى كَبَدٍ} ويظهر منه أنه لا بد للإنسان من البعث والقيامة ، لأن الحكيم الذي دبر خلقة الإنسان إن كان مطلوبه منه أن يتألم ، فهذا لا يليق بالرحمة ، وإن كان مطلوبه أن لا يتألم ولا يلتذ ، ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطلوب ، وإن كان مطلوبه أن يلتذ ، فقد بينا أنه ليس في هذه الحياة لذة ، وأنه خلق الإنسان في هذه الدنيا في كبد ومشقة ومحنة ، فإذا لا بد / بعد هذه الدار من دار أخرى ، لتكون تلك الدار دار السعادات واللذات والكرمات.
وأما على الوجه الثاني : وهو أن يفسر الكبد بالاستواء ، فقال ابن عباس : في كبد ، أي قائماً منتصباً ، والحيوانات الأخر تمشي منكسة ، فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة.
وأما على الوجه الثالث : وهو أن يفسر الكبد بشدة الخلقة ، فقد قال الكلبي : نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يكنى أبا الأشد ، وكان يجعل تحت قدميه الأديم العكاظي ، فيجتذبونه من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه ، واعلم أن اللائق بالآية هو الوجه الأول.
المسألة الثانية : حرف في واللام متقاربان ، تقول : إنما أنت للعناء والنصب ، وإنما أنت في العناء والنصب ، وفيه وجه آخر وهو أن قوله : {فِى كَبَدٍ} يدل على أن الكبد قد أحاط به إحاطة الظرف بالمظروف ، وفيه إشارة إلى ما ذكرنا أنه ليس في الدنيا إلا الكد والمحنة.
المسألة الثالثة : منهم من قال : المراد بالإنسان إنسان معين ، وهو الذي وصفناه بالقوة ، والأكثرون على أنه عام يدخل فيه كل أحد وإن كنا لا نمنع من أن يكون ورد عند فعل فعله ذلك الرجل.
جزء : 31 رقم الصفحة : 167
168
اعلم أنا إن فسرنا الكبد بالشدة في القوة ، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد ، وإن فسرنا المحنة والبلاء كان المعنى تسهيل ذلك على القلب ، كأنه يقول : وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة ، أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد ؟
ثم اختلفوا فقال : بعضهم لن يقدر على بعثه ومجازاته فكأنه خطاب مع من أنكر البعث ، وقال آخرون : المراد لن يقدر على تغيير أحواله ظناً منه أنه قوي على الأمور لا يدافع عن مراده ، وقوله : {أَيَحْسَبُ} استفهام على سبيل الإنكار.
جزء : 31 رقم الصفحة : 168
169
قال أبو عبيدة : لبد ، فعل من التلبيد وهو المال الكثير بعضه على بعض ، قال الزجاج : فعل للكثرة يقال رجل حطم إذا كان كثير الحطم ، قال الفراء : واحدته لبدة ولبد جمع وجعله بعضهم واحداً ، ونظيره قسم وحطم وهو في الوجهين جميعاً الكثير ، قال الليث : مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته. وقد ذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله : {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (الجن : 19) والمعنى أن هذا الكافر يقول : أهلكت في عداوة محمد مالاً كثيراً ، والمراد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونه مكارم ، ويدعونه معالي ومفاخر.
جزء : 31 رقم الصفحة : 169
169
فيه وجهان الأول : قال قتادة : أيظن أن الله لم / يره ولم يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه الثاني : قال الكلبي : كان كاذباً لم ينفق شيئاً ، فقال الله تعالى : أيظن أن الله تعالى ما رآى ذلك منه ، فعل أو لم يفعل ، أنفق أو لم ينفق ، بل رآه وعلم منه خلاف ما قال.
جزء : 31 رقم الصفحة : 169
169
(1/4753)
واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله : {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} (البلد : 5) أقام الدلالة على كمال قدرته فقال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَل لَّه عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ} وعجائب هذه الأعضاء مذكورة في كتب التشريح ، قال أهل العربية : النجد الطريق في ارتفاع فكأنه لما وضحت الدلائل جعلت كالطريق المرتفعة العالية بسبب أنها واضحة للعقول كوضوح الطريق العالي للأبصار ، وإلى هذا التأويل ذهب عامة المفسرين في النجدين وهو أنهما سبيلا الخير والشر ، وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال : إنما هما النجدان ، نجد الخير ونجد الشر ، ولا يكون نجد الشر ، أحب إلى أحدكم من نجد الخير" وهذه الآية كالآية في : {هَلْ أَتَى عَلَى الانسَـانِ} إلى قوله : {إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان : 3,1) وقال الحسن : قال : {أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا} فمن الذي يحاسبني عليه ؟
فقيل : الذي قدر على أن يخلق لك هذه الأعضاء قادر على محاسبتك ، وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ، أنهما الثديان ، ومن قال ذلك ذهب إلى أنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه ، والله تعالى هدى الطفل الصغير حتى ارتضعها ، قال القفال : والتأويل هو الأول ، ثم قرر وجه الاستدلال به ، فقال : إن من قدر على أن يخلق من الماء المهين قلباً عقولاً ولساناً قولاً ، فهو على إهلاك ما خلق قادر ، وبما يخفيه المخلوق عالم ، فما العذر في الذهاب عن هذا مع وضوحه وما الحجة في الكفر بالله من تظاهر نعمه ، وما العلة في التعزيز على الله وعلى أنصار دينه بالمال وهو المعطي له ، وهو الممكن من الانتفاع به.
جزء : 31 رقم الصفحة : 169
170
ثم إنه سبحانه وتعالى دل عباده على الوجوه الفاضلة التي تنفق فيها الأموال ، وعرف هذا الكافر أن إنفاقه كان فاسداً وغير مفيد ، فقال تعالى : {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الاقتحام الدخول في الأمر الشديد يقال : قحم يقحم قحوماً ، واقتحم اقتحاماً وتقحم تقحماً إذا ركب القحم ، وهي المهالك والأمور العظام والعقبة طريق في الجبل ، وَعْرٌ ، الجمع العقب والعقاب ، ثم ذكر المفسرون في العقبة ههنا وجهين الأول : أنها في الآخرة وقال عطاء : يريد عقبة جهنم ، وقال الكلبي : هي عقبة بين الجنة والنار ، وقال ابن عمرهي : جبل زلال في جهنم وقال مجاهد والضحاك : هي الصراط يضرب على جهنم ، وهو معنى قول الكلبي : إنها عقبة الجنة / والنار ، قال الواحدي : وهذا تفسير فيه نظر لأن من المعلوم أن (بني) هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات ، ويدل عليه أنه لما قال : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ} (البلد : 12) فسره بفك الرقبة وبالإطعام الوجه الثاني : في تفسير العقبة هو أن ذكر العقبة ههنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والشيطان في أعمال البر ، وهو قول الحسن ومقاتل : قال الحسن عقبة الله شديدة وهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه من شياطين الإنس والجن ، وأقول هذا التفسير هو الحق لأن الإنسان يريد أن يترقى من عالم الحس والخيال إلى يفاع عالم الأنوار الإلهية ولا شك أن بينه وبينها عقبات سامية دونها صواعق حامية ، ومجاوزتها صعبة والترقي إليها شديد.
المسألة الثانية : أن في الآية إشكالاً وهو أنه قلما توجد لا الداخلة على المضي إلا مكررة ، تقول : لا جنبني ولا بعدني قال تعالى : {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى } (القيامة : 31) وفي هذه الآية ما جاء التكرير فما السبب فيه ؟
أجيب عنه من وجوه الأول : قال الزجاج : إنها متكررة في المعنى لأن معنى {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك ، وقوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 17) يدل أيضاً على معنى {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ولا آمن الثاني : قال أبو علي الفارسي : معنى {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} لم يقتحمها ، وإذا كانت لا بمعنى لم كان التكرير غير واجب كما لا يجب التكرير مع لم ، فإن تكررت في موضع نحو {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى } فهو كتكرر ولم : نحو {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا } (الفرقان : 67).
جزء : 31 رقم الصفحة : 170
المسألة الثالثة : قال القفال : قوله : {فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي هلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة ؟
وأما الباقون فإنهم أجروا اللفظ على ظاهره وهو الإخبار بأنه ما اقتحم العقبة. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 170
170
فلا بد من تقدير محذوف ، لأن العقبة لا تكون فك رقبة ، فالمراد وما أدراك ما اقتحام العقبة ، وهذا تعظيم لأمر التزام الدين. ثم قال تعالى :
(1/4754)
جزء : 31 رقم الصفحة : 170
170
والمعنى أن اقتحام العقبة هو الفك أو الإطعام ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الفك فرق يزيل المنع كفك القيد والغل ، وفك الرقبة فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية وإبطال العبودية ، ومنه فك الرهن وهو إزالة غلق الرهن ، وكل شيء أطلقته فقد فككته ، ومنه فك الكتاب ، قال الفراء : في المصادر فكها يفكها فكاكاً بفتح الفاء في المصدر ولا تقل بكسرها ، ويقال : كانت عادة العرب في الأسارى شد رقابهم وأيديهم فجرى ذلك فيهم وإن لم يشدد ، ثم سمي إطلاق الأسير فكاكاً ، قال الأخطل :
أبنى كليب إن عمى اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلال
المسألة الثانية : فك الرقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة قد يكون بأن يعتق الرجل رقبة من الرق ، وقد يكون بأن يعطي / مكاتباً ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه ، روى البراء بن عازب ، قال : "جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال : عتق النسمة وفك الرقبة قال : يا رسول الله أوليسا واحداً ؟
قال : لا ، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة ، أن تعين في ثمنها" وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يتكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى ، ويتخلص بها من النار.
المسألة الثالثة : قرىء : (فك رقبة) أو إطعام ، والتقدير هي فك رقبة أو إطعام وقرىء : (فك رقبة أو أطعم) على الإبدال من اقتحم العقبة ، وقوله : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ} اعتراض ، قال الفراء : وهو أشبه الوجهين بصحيح العربية لقوله : {ثُمَّ كَانَ} (البلد : 16) لأن فك وأطعم فعل ، وقوله : كان فعل ، وينبغي أن يكون الذي يعطف عليه الفعل فعلاً ، أما لو قيل : ثم إن كان كان ذلك مناسباً لقوله : {فَكُّ رَقَبَةٍ} بالرفع لأنه يكون عطفاً للاسم على الاسم.
المسألة الرابعة : عند أبي حنيفة العتق أفضل أنواع الصدقات ، وعند صاحبية الصدقة أفضل ، والآية أدل على قول أبي حنيفة : لتقدم العتق على الصدقة فيها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 170
171
فيه مسائل :
المسألة الأولى : يقال : سغب سغباً إذا جاع فهو ساغب وسغبان ، قال صاحب "الكشاف" : المسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب ، يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب ، وأما أترب فاستغنى ، أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة. قال الواحدي : المتربة مصدر من قولهم ترب يترب ترباً ومتربة مثل مسغبة إذا افتقر حتى لصق بالتراب.
المسألة الثانية : حاصل القول في تفسير : {يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} ما قاله الحسن : وهو نائم يوم محروص فيه على الطعام ، قال أبو علي : ومعناه ما يقول النحويون في قولهم : ليل نائم ونهار صائم أي ذو نوم وصوم.
واعلم أن إخراج المال في وقت القحط والضرورة أثقل على النفس وأوجب للأجر ، وهو كقوله : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } (البقرة : 177) وقال : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينًا} (الإنسان : 8) وقرأ الحسن : (ذا مسغبة) نصبه بإطعام ومعناه أو إطعام في يوم من الأيام ذا مسغبة. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 171
171
قال الزجاج : ذا قرابة تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي ، وزيد / قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر ، قال مقاتل : يعني يتيماً بينه وبينه قرابة ، فقد اجتمع فيه حقان يتم وقرابة ، فاطعامه أفضل ، وقيل : يدخل فيه القرب بالجوار ، كما يدخل فيه القرب بالنسب. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 171
171
أي مسكيناً قد لصق بالتراب من فقره وضره ، فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه ، روى أن ابن عباس مر بمسكين لاصق بالتراب فقال : هذا الذي قال الله تعالى (فيه) : {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} واحتج الشافعي بهذه الآية على أن المسكين قد يكون بحيث يملك شيئاً ، لأنه لو كان لفظ المسكين دليلاً على أنه لا يملك شيئاً ألبتة ، لكان تقييده بقوله : {ذَا مَتْرَبَةٍ} تكريراً وهو غير جائز.
جزء : 31 رقم الصفحة : 171
173
أما قوله تعالى : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } أي كان مقتحم العقبة من الذين آمنوا ، فإنه إن لم يكن منهم لم ينتفع بشيء من هذه الطاعات ، ولا مقتحماً للعقبة فإن قيل : لما كان الإيمان شرطاً للانتفاع بهذه الطاعات وجب كونه مقدماً عليها ، فما السبب في أن الله تعالى أخره عنها بقوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } ؟
والجواب : من وجوه أحدها : أن هذا التراخي في الذكر لا في الوجود ، كقوله :
إن من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
(1/4755)
لم يرد بقوله : ثم ساد أبوه التأخر في الوجود ، وإنما المعنى ، ثم اذكر أنه ساد أبوه. كذلك في الآية وثانيها : أن يكون المراد ، ثم كان في عاقبة أمره من الذين آمنوا وهو أن يموت على الإيمان فإن الموافاة شرط الانتفاع بالطاعات وثالثها : أن من أتى بهذه القرب تقربا إلى الله تعالى قبل إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلّم ثم آمن بعد ذلك بمحمد عليه الصلاة والسلام ، فعند بعضهم أنه يثاب على تلك الطاعات ، قالوا : ويدل عليه ما روي : "أن حكيم بن حزام بعدما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء ؟
فقال عليه السلام : أسلمت على ما قدمت من الخير" ورابعها : أن المراد من قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } تراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العنق والصدقة لأن درجة ثواب الإيمان أعظم بكثير من درجة ثواب سائر الأعمال.
أما قوله تعالى : {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} فالمعنى أنه كان يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو الصبر على المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلي بها المؤمن ثم ضم إليه التواصي بالمرحمة وهو أن يحث بعضهم بعضاً على أن يرحم المظلوم أو الفقير ، أو يرحم المقدم على منكر فيمنعه منه لأن كل ذلك داخل في الرحمة ، وهذا يدل على أنه يجب على المرء أن / يدل غيره على طريق الحق ويمنعه من سلوك طريق الشر والباطل ما أمكنه ، واعلم أن قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} يعني يكون مقتحم العقبة من هذه الزمرة والطائفة ، وهذه الطائفة هم أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم ، فإنهم كانوا مبالغين في الصبر على شدائد الدين والرحمة على الخلق ، وبالجملة فقوله : {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، وقوله : {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين وهو الذي قاله بعض المحققين ، إن الأصل في التوصف أمران : صدق مع الحق ؟
وخلق مع الخلق.
ثم إنه سبحانه لما وصف هؤلاء المؤمنين بين أنهم من هم في القيامة فقال :
جزء : 31 رقم الصفحة : 173
173
وإنما ذكر ذلك لأنه تعالى بين حالهم في سورة الواقعة وأنهم {فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} (الواقعة : 29,28) قال صاحب "الكشاف" : الميمنة والمشأمة ، اليمين والشمال ، أو اليمين والشؤم ، أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليها. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 173
174
فقيل : المراد من يؤتي كتابه بشماله أو وراء ظهره ، وقد تقدم وصف الله لهم بأنهم : {فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} (الواقعة : 42) إلى غير ذلك. ثم قال تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 174
175
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء والزجاج والمبرد : يقال آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته ، فمن قرأ مؤصدة بالهمزة أخذها من آصدت فهمز اسم المفعول ، ويجوز أن يكون من أوصدت ولكنه همز على لغة من يهمز الواو وإذا كان قبلها ضمة نحو مؤسي ، ومن لم يهمز احتمل أيضاً أمرين :
أحدهما : أن يكون من لغة من قال : أوصدت فلم يهمز اسم المفعول كما يقال : من أوعدت موعد.
الآخر : أن يكون من آصد مثل آمن ولكنه خفف كما في تخفيف جؤنة وبؤس جونة وبوس فيقلبها في التخفيف واواً ، قال الفراء : ويقال من هذا الأصيد والوصيد وهو الباب المطبق ، إذا عرفت هذا فنقول : قال مقاتل {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ } يعني أبوابها مطبقة فلا يفتح لهم باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح أبد الآباد ، وقيل : المراد إحاطة النيران بهم ، كقوله : {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } (الكهف : 29).
المسألة الثانية : هي الأبواب ، وقد جرت صفة للنار على تقدير : عليهم نار مؤصدة الأبواب ، فكلما تركت الإضافة عاد التنوين لأنهما يتعاقبان ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 175
175
(1/4756)
سورة الشمس
(خمس عشرة آية مكية
جزء : 31 رقم الصفحة : 175
176
/ قبل الخوض في التفسير لا بد من مسائل :
المسألة الأولى : المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.
واعلم أنه تعالى ينبه عباده دائماً بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمل المكلف فيها ويشكر عليها ، لأن الذي يقسم الله تعالى به يحصل له وقع في القلب ، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى.
المسألة الثانية : قد عرفت أن جماعة من أهل الأصول قالوا : التقدير ورب الشمس ورب سائر ما ذكره إلى تمام القسم ، واحتج قوم على بطلان هذا المذاهب ، فقالوا : إن في جملة هذا القسم قوله : {يَغْشَا هَا * وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَا هَا} (الشمس : 5) وذلك هو الله تعالى فيلزم أن يكون المراد ، ورب السماء وربها وذلك كالمتناقض ، أجاب القاضي عنه بأن قوله : {وَمَا بَنَا هَا} لا يجوز أن يكون المراد منه هو الله تعالى ، لأن ما لا تستعمل في خالق السماء إلا على ضرب من المجاز ، ولأنه لا يجوز منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه ، ولأنه تعالى لا يكاد يذكر مع غيره على هذا الوجه ، فإذاً لا بد من التأويل وهو أن {مَآ} مع ما بعده في حكم المصدر فيكون التقدير : والسماء وبنائها ، اعترض صاحب "الكشاف" عليه فقال : لو كان الأمر على هذا الوجه لزم من عطف قوله : {فَأَلْهَمَهَا} (الشمس : 8) عليه فساد النظم.
المسألة الثالثة : القراء مختلفون في فواصل هذه السورة وما أشبهها نحو : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } ، {وَالضُّحَى * وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى } فقرءوها تارة بالإمالة وتارة بالتفخيم وتارة بعضها بالإمالة وبعضهابالتفخيم ، قال الفراء : بكسر ضحاها ، والآيات التي بعدها وإن كان أصل بعضها الواو نحو : تلاها ، وصحاها ودحاها ، فكذلك أيضاً. فإنه لما بتدئت السورة بحرف الياء أتبعها بما هو من الواو لأن الألف المنقلبة عن الواو قد توافق المنقلبة عن الياء ، ألا ترى أن تلوت وطحوت ونحوهما قد يجوز في أفعالها أن تنقلب إلى الياء نحو : تلى ودحى ، فلما حصلت هذه الموافقة استجازوا إمالته / كما استجازوا إمالة ما كان من الياء ، وأما وجه من ترك الإمالة مطلقاً فهو أن كثيراً من العرب لا يميلون هذه الألفات ولا ينحون فيها نحو الياء ، ويقوى ترك الإمالة للألف أن الواو في موسر منقلبة عن الياء ، والياء في ميقات وميزان منقلبة عن الواو ولم يلزم من ذلك أن يحصل فيه ما يدل على ذلك الانقلاب ، فكذا ههنا ينبغي أن تترك الألف غير ممالة ولا ينحى بها نحو الياء ، وأما إمالة البعض وترك إمال البعض ، كما فعله حمزة فحسن أيضاً ، وذلك لأن الألف إنما تمال نحو الياء لتدل على الياء إذا كان انقلابها عن الياء ولم يكن في تلاها وطحاها ودحاها ألف منقلبة عن الياء إنما هي منقلبة عن الواو بدلالة تلوت ودحوت.
جزء : 31 رقم الصفحة : 176
المسألة الرابعة : أن الله تعالى قد أقسم بسبعة أشياء إلى قوله : {قَدْ أَفْلَحَ} (الشمس : 9) وهو جواب القسم ، قال الزجاج : المعنى لقد أفلح ، لكن اللام حذفت لأن الكلام طال فصار طوله عوضاً منها.
(1/4757)
قوله تعالى : {وَالشَّمْسِ وَضُحَـاـاهَا} ذكر المفسرون في ضحاها ثلاثة أقوال قال مجاهد والكلبي : ضوؤها ، وقال قتادة : هو النهار كله ، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة ، وقال مقاتل : هو حر الشمس ، وتقرير ذلك بحسب اللغة أن نقول : قال الليث : الضحو ارتفاع النهار ، والضحى فويق ذلك ، والضحاء ممدوداً امتد النهار ، وقرب أن ينتصف. وقال أبو الهيثم : الضح نقيض الظل وهو نور الشمس على وجه الأرض وأصله الضحى ، فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء فقلبوها وقال : ضح ، فالضحى هو ضوء الشمس ونورها ثم سمى به الوقت الذي تشرق فيه الشمس على ما في قوله تعالى : {إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا} (النازعات : 46) فمن قال من المفسرين : في ضحاها ضوؤها فهو على الأصل ، وكذا من قال : هو النهار كله ، لأن جميع النهار هو من نور الشمس ، ومن قال : في الضحى إنه حر الشمس فلأن حرها ونورها متلازمان ، فمتى اشتد حرها فقد اشتد ضؤوها وبالعكس ، وهذا أضعف الأقوال ، واعلم أنه تعالى إنما أقسم بالشمس وضحاها لكثرة ما تعلق بها من المصالح ، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل ، فلما ظهر أثر الصبح في المشرق صار ذلك كالصور الذي ينفخ قوة الحياة ، فصارت الأموات أحياء ، ولا تزال تلك الحياة في الازدياد والقوة والتكامل ، ويكون غاية كمالها وقت الضحوة ، فهذه الحالة تشبه أحوال القيامة ، ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها ، وقوله : {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَـاـاهَا} قال الليل : تلا يتلو إذا تبع شيئاً وفي كون القمر تالياً وجوه أحدها : بقاء القمر طالعاً عند غروب الشمس ، وذلك إنما يكون في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس ، فإذا القمر يتبعها في الإضاءة ، وهو قول عطاء عن ابن عباس وثانيها : أن الشمس إذا غربت فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب ، وهو قول قتادة والكلبي وثالثها : قال الفراء : المراد من هذا التلو هو أن القمر يأخذ الضوء من الشمس يقال : فلان يتبع فلاناً في كذا أي يأخذ منه ورابعها : قال الزجاج : تلاها حين استدار وكمل ، فكأنه يتلو الشمس في الضياء والنور يعني إذا كمل ضوؤه فصار كالقائم مقام الشمس في الإنارة ، وذلك في الليالي / البيض وخامسها : أنه يتلوها في كبر الجرم بحسب الحس ، وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته ، ولقد ظهر في علم النجوم أن بينهما من المناسبة ما ليس بين الشمس وبين غيرها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 176
176
معنى التجلية الإظهار ، والكشف والضمير في جلاها إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان أحدهما : وهو قول الزجاج : أنه عائد إلى الشمس وذلك لأن النهار عبارة عن نور الشمس. فكلما كان النهار أجلى ظهوراً كانت الشمس أجلى ظهوراً ، لأن قوة الأثر وكماله تدل على قوة المؤثر ، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها ، كقوله تعالى : {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلا هُوَ } أي لا يخرجها الثاني : وهو قول الجمهور ـ أنه عائد إلى الظلمة ، أو إلى الدنيا ، أو إلى الأرض. وإن لم يجر لها ذكر ، يقولون : أصبحت باردة يريدون الغداة ، وأرسلت يريدون السماء.
جزء : 31 رقم الصفحة : 176
177
يعني يغشى الليل الشمس فيزيل ضوءها ، وهذه الآية تقوي القول الأول في الآية التي قبلها من وجهين الأول : إنه لما جعل الليل يغشى الشمس ويزيل ضوءها حسن أن يقال : النهار يجليها ، على ضد ما ذكر في الليل والثاني : أن الضمير في يغشاها للشمس بلا خلاف ، فكذا في جلاها يجب أن يكون للشمس حتى يكون الضمير في الفواصل من أول السورة إلى ههنا للشمس ، قال القفال : وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا بالشمس في الحقيقة لكن بحسب أوصاف أربعة أولها : الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار. وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار الحيوان واضطراب الناس للمعاش ، ومنها تلو القمر لها وأخذه الضوء عنها ، ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار ، ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل ، ومن تأمل قليلاً في عظمة الشمس ثم شاهد بعين عقله فيها أثر المصنوعية والمخلوقية من المقدار المتناهي ، والتركب من الأجزاء انتقل منه إلى عظمة خالقها ، فسبحانه ما أعظم شأنه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 177
177
فيه سؤالات :
(1/4758)
السؤال الأول : أن الذي ذكره صاحب "الكشاف" من أن {مَآ} ههنا لو كانت مصدرية لكان عطف {فَأَلْهَمَهَا} عليه يوجب فساد النظم حق ، والذي ذكره القاضي من أنه لو كان هذا قسماً بخالق السماء ، لما كان يجوز تأخيره عن ذكر الشمس ، فهو إشكال جيد ، والذي يخطر ببالي في الجواب عنه : أن أعظم المحسوسات هو الشمس ، فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها ، ثم ذكر ذاته المقدسة بعد ذلك ووصفها بصفات ثلاثة وهي تدبيره سبحانه للسماء والأرض وللمركبات ، ونبه على المركبات بذكر أشرفها وهي النفس ، والغرض من هذا الترتيب هو أن يتوافق العقل والحس على عظمة جرم الشمس ثم يحتج العقل الساذج بالشمس ، بل بجميع السماويات والأرضيات والمركبات على إثبات مبدىء لها ، فحينئذ يحظى العقل ههنا بإدراك / جلال الله وعظمته على ما يليق به ، والحس لا ينازعه فيه. فكان ذلك كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية ، وبيداء كبرياء الصمدية ، فسبحان من عظمت حكمته وكملت كلمته.
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} ؟
الجواب : أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها ، أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية ، فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة ، وذلك لأن الشمس والسماء متناهية ، وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين. مع أنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه ، وما هو أصغر منه ، فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين ، لا بد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر ، وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته ، فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته ، فقوله : {وَمَا بَنَـاـاهَا} كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات.
السؤال الثالث : لم قال : {وَمَا بَنَـاـاهَا} ولم يقل : ومن بناها ؟
الجواب : من وجهين الأول : أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء وذلك الشيء العظيم القادر الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها والثاني : أن ما تستعمل في موضع من كقوله : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ} (النساء : 22) والاعتماد على الأول.
جزء : 31 رقم الصفحة : 177
السؤال الرابع : لم ذكر في تعريف ذات الله تعالى هذه الأشياء الثلاثة وهي السماء والأرض والنفس ؟
والجواب : لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد ، والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو قسمان بسيط ومركب ، والبسيط قسمان : العلوية وإليه الإشارة بقوله : {وَالسَّمَآءِ} والسفلية وإليه الإشارة بقوله : {وَالارْضِ} (الشمس : 6) والمركب هو أقسام ، وأشرفها ذوات الأنفس وإليه الإشارة بقوله : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا} (الشمس : 7). أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 177
178
ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : إنما أخر هذا عن قوله : {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا} لقوله : {وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ} (النازعات : 30).
المسألة الثانية : قال الليث : الطحو كالدحوا وهو البسط ، وإبدال الطاء من الدال جائز ، والمعنى وسعها. قال عطاء والكلبي : بسطها على الماء.
جزء : 31 رقم الصفحة : 178
178
أما قوله تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا} إن حملنا النفس على الجسد ، فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح ، وإن حملناها على القوة المدبرة ، فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة / كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة ، على ما يشهد به علم النفس فإن قيل : لم نكرت النفس ؟
قلنا : فيه وجهان أحدهما : أن يريد به نفساً خاصة من بين النفوس ، وهي النفس القدسية النبوية ، وذلك لأن كل كثرة ، فلا بد فيها من واحد يكون هو الرئيس ، فالمركبات جنس تحته أنواع ورئيسها الحيوان ، والحيوان جنس تحته أنواع ورئيسها الإنسان ، والإنسان أنواع وأصناف ورائيسها النبي. والأنبياء كانوا كثيرين ، فلا بد وأن يكون هناك واحد يكون هو الرئيس المطلق ، فقوله : {وَنَفْسٍ} إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة لعالم المركبات رياسة بالذات الثاني : أن يريد كل نفس ، ويكون المراد من التنكير التكثير على الوجه المذكور في قوله : {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} وذلك لأن الحيوان أنواع لا يحصى عددها إلا الله على ما قال بعد ذكر بعض الحيوانات : {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ولكل نوع نفس مخصوصة متميزة عن سائرها بالفضل المقوم لماهيته ، والخواص اللازمة لذلك الفصل ، فمن الذي يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض ، فضلاً عن التوغل في بحار أسرار الله سبحانه. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 178
179
(1/4759)
فالمعنى المحصل فيه وجهان الأول : أن إلهام الفجور والتقوى ، إفهامها وإعقالهما ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما ، وهو كقوله : {وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ} (البلد : 10) وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة ، قالوا : ويدل عليه قوله بعد ذلك : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا} (الشمس : 10,9) وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين والوجه الثاني : أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره ، قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها ، وقال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور ، واختار الزجاج والواحدي ذلك ، قال الواحدي : التعليم والتعريف والتبيين ، غير والإلهام غير ، فإن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً ، وإذا أوقع في قلبه شيئاً فقد ألزمه إياه. وأصل معنى الإلهام من قولهم : لهم الشيء ، والتهمه إذا ابتلعه ، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته ، وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد ، لأنه كالإبلاغ ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد ، وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه ، وفي الكافر فجوره ، وأما التمسك بقوله : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها الله تعالى وأصلحها وطهرها ، والمعنى وفقها للطاعة ، هذا آخر كلام الواحدي وهو تام. وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبراً للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة ، فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره ، بقي شيء / واحد يختلج في القلب أنه هل هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية ، فنبه سبحانه بقوله : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا} على أن ذلك أيضاً منه وبه وبقضائه وقدره ، وحينئذ ثبت أن كل ما سوى الله فهو واقع بقضائه وقدره. وداخل تحت إيجاده وتصرفه. ثم الذي يدل عقلاً على أن المراد من قوله : {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا} هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مراراً أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات ، فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل ، وفيه نفي الصانع ، وإن كان عن فاعل هو العبد لزم التسلسل ، وإن كان عن الله فهو المقصود ، وأيضاً فليجرب العاقل نفسه. فإنه ربما كان الإنسان غافلاً عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة ، ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه ، ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل ، وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله : {فَأَلْهَمَهَا} ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 179
179
أما قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} فاعلم أن التزكية عبارة عن التطهير أو عن الإنماء ، وفي الآية قولان أحدهما : أنه قد أدرك مطلوبه من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية والثاني : قد أفلح من زكاها الله ، وقبل القاضي هذا التأويل ، وقال المراد منه أن الله حكم بتزكيتها وسماها بذلك ، كما يقال في العرف : إن فلاناً يزكي فلاناً ، ثم قال : والأول أقرب ، لأن ذكر النفس قد تقدم ظاهراً ، فرد الضمير عليه أولى من رده على ما هو في حكم المذكور لا أنه مذكور.
واعلم أنا قد دللنا بالبرهان القاطع أن المراد ، بألهمها ما ذكرناه فوجب حمل اللفظ عليه. وأما قوله بأن هذا محمول على الحكم والتسمية فهو ضعيف ، لأن بناء التفعيلات على التكوين ، ثم إن سلمنا ذلك لكن ما حكم الله به يمتنع تغيره ، لأن تغير المحكوم به يستلزم تغير الحكم من الصدق إلى الكذب ، وتغير العلم إلى الجهل وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال. أما قوله ذكر النفس قد تقدم ، قلنا : هذا بالعكس أولى ، فإن أهل اللغة اتفقوا على أن عود الضمير إلى الأقرب أولى من عوده إلى الأبعد ، وقوله : {فَأَلْهَمَهَا} أقرب إلى قوله : {مَآ} منه إلى قوله : {وَنَفْسٍ} فكان الترجيح لما ذكرناه ، ومما يؤكد هذا التأويل ما رواه الواحدي في البسيط عن سعيد بن أبي هلال أنه عليه السلام كان إذا قرأ : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـاـاهَا} وقف وقال : "اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها وأنت مولاها ، وزكها أنت خير من زكاها". أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 179
179
(1/4760)
فقالوا : {دَسَّـاـاهَا} أصله دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء في الشيء ، فأبدلت إحدى السينات ياء ، فأصل دسى دسس ، كما أن أصل تقضى البازي تقضض البازي ، وكما قالوا : الببت والأصل لببت ، وملبي والأصل ملبب ، ثم نقول : أما / المعتزلة فذكروا وجوهاً توافق قولهم : أحدها : أن أهل الصلاح يظهرون أنفسهم ، وأهل الفسق يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية ، كما أن أجواد العرب ينزلون الربا حتى تشتهر أماكنهم ويقصدهم المحتاجون ، ويوقدون النيران بالليل للطارقين. وأما اللئام فإنهم يخفون أماكنهم عن الطالبين وثانيها : {خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا} أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم وثالثها : {مَن دَسَّـاـاهَا} في المعاصي حتى انغمس فيها ورابعها : {مَن دَسَّـاـاهَا} من دس في نفسه الفجور ، وذلك بسبب مواظبته عليها ومجالسته مع أهلها وخامسها : أن من أعرض عن الطاعات واشتغل بالمعاصي صار خاملاً متروكاً منسياً ، فصار كالشيء المدسوس في الاختفاء والخمول. وأما أصحابنا فقالوا : المعنى خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى وأغواها وأفجرها وأبطلها وأهلكها ، هذه ألفاظهم في تفسير {دَسَّـاـاهَا} قال الواحدي رحمه الله : فكأنه سبحانه أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره وخسار من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 179
180
أما قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاـاهَآ} قال الفراء : الطغيان والطغوى مصدران إلا أن الطغوى أشبه برؤوس الآيات فاختير لذلك وهو كالدعوى من الدعاء وفي التفسير وجهان : أحدهما : أنها فعلت التكذيب بطغيانها ، كما تقول : ظلمني بجراءته على الله تعالى ، والمعنى أن طغيانهم حملهم على التكذيب به هذا هو القول المشهور والثاني : أن الطغوى اسم لعذابهم الذي أهلكوا به ، والمعنى كذبت بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به من العذاب ، وهذا لا يبعد لأن معنى الطغيان في اللغة مجاوزة القدر المعتاد فيجوز أن يسمى العذاب الذي جاءهم طغوى لأنه كان صيحة مجاوزة للقدر المعتاد أو يكون التقدير كذبت بما أوعدت به من العذاب ذي الطغوى ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادُا بِالْقَارِعَةِ} (الحاقة : 4) أي بالعذاب الذي حل بها ، ثم قال : {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} (الحاقة : 5) فسمى ما أهلكوا به من العذاب طاغية.
جزء : 31 رقم الصفحة : 180
181
انبعث مطاوع بعث يقال : بعثت فلاناً على الأمر فانبعث له ، والمعنى أنه كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاها وهو عاقر الناقة وفيه قولان : أحدهما : أنه شخص معين واسمه قدار بن سالف ويضرب به المثل يقال : أشأم من قدار ، وهو أشقى الأولين بفتوى رسول الله صلى الله عليه وسلّم والثاني : يجوز أن يكونوا جماعة ، وإنما جاء على لفظ الوحدان لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث تقول : هذان أفضل الناس وهؤلاء أفضلهم ، وهذا يتأكد بقوله : {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} (الشمس : 14) وكان يجوز أن يقال أشقوها كما يقال أفاضلهم. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 181
181
/ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الرسول صالح عليه السلام {نَاقَةَ اللَّهِ} أي أنه أشار إليه لما هموا بعقرها وبلغه ما عزموا عليه ، وقال لهم هي : {نَاقَةَ اللَّهِ} وآيته الدالة على توحيده وعلى نبوتي ، فاحذروا أن تقوموا عليها بسوء ، واحذروا أيضاً أن تمنعوها من سقياها ، وقد بينا في مواضع من هذا الكتاب أنه كان لها شرب يوم ولهم ولمواشيهم شرب يوم ، وكانوا يستضرون بذلك في أمر مواشيهم ، فهموا بعقرها ، وكان صالح عليه السلام يحذرهم حالاً بعد حال من عذاب ينزل بهم إن أقدموا على ذلك ، وكانت هذه الحالة متصورة في نفوسهم ، فاقتصر على أن قال لهم : {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَـاهَا} لأن هذه الإشارة كافية مع الأمور المتقدمة التي ذكرناها.
المسألة الثانية : {نَاقَةَ اللَّهِ} نصب على التحذير ، كقولك الأسد الأسد ، والصبي الصبي بإضمار ذروا عقرها واحذروا سقياها ، فلا تمنعوها عنها ، ولا تستأثروا بها عليها.
جزء : 31 رقم الصفحة : 181
181
ثم بين تعالى أن القوم لم يمتنعوا عن تكذيب صالح ، وعن عقر الناقة بسبب العذاب الذي أنذرهم الله تعالى به وهو المراد بقوله : {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} ثم يجوز أن يكون المباشر للعقر واحداً وهو قدار ، فيضاف الفعل إليه بالمباشرة ، كما قال : {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ويضاف الفعل إلى الجماعة لرضاهم بما فعل ذلك الواحد. قال قتادة : ذكر لنا أنه أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم ، وهو قول أكثر المفسرين. وقال الفراء : قيل إنهما كانا إثنين.
(1/4761)
أما قوله تعالى : {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنابِهِمْ فَسَوَّا هَا} فاعلم أن في الدمدمة وجوهاً أحدها : قال الزجاج : معنى دمدم أطبق عليهم العذاب ، يقال : دمدمت على الشيء إذا أطبقت عليه ، ويقال : ناقة مدمومة ، أي قد ألبسها الشحم ، فإذا كررت الإطباق قلت دمدمت عليه. قال الواحدي : الدم في اللغة اللطخ ، ويقال للشيء السمين : كأنما دم بالشحم دماً ، فجعل الزجاج دمدم من هذا الحرف على التضعيف نحو كبكبوا وبابه ، فعلى هذا معنى دمدم عليهم ، أطبق عليهم العذاب وعمهم كالشيء الذي يلطخ به من جميع الجوانب الوجه الثاني : تقول للشيء : يدفن دمدمت عليه ، أي سويت عليه ، فيجوز أن يكون معنى فدمدم عليهم ، فسوى عليهم الأرض بأن أهلكهم فجعلهم تحت التراب الوجه الثالث : قال ابن الأنباري : دمدم غضب ، والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل ورابعها : دمدم عليهم أرجف الأرض بهم رواه ثعلب عن ابن الأعرابي ، وهو قول الفراء ، أما قوله : {فَسَوَّا هَا} يحتمل وجهين ، وذلك لأنا إن فسرنا الدمدمة بالإطباق والعموم ، كان معنى {فَسَوَّى } / الدمدمة عليهم وعمهم بها ، وذلك أن هلاكهم كان بصيحة جبريل عليه السلام ، وتلك الصيحة أهلكتهم جميعاً ، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم ، وإن فسرناها بالتسوية ، كان المراد فسوى عليهم الأرض.
جزء : 31 رقم الصفحة : 181
182
أما قوله تعالى : {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ففيه وجوه أولها : أنه كناية عن الرب تعالى إذ هو أقرب المذكورات ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : لا يخاف تبعة في العاقبة إذ العقبى والعافية سواء ، كأنه بين أنه تعالى يفعل ذلك بحق. وكل ما فعل ما يكون حكمة وحقاً فإنه لا يخاف عاقبة فعله. وقال بعضهم : ذكر ذلك لا على وجه التحقيق لكن على وجه التحقير لهذا الفعل ، أي هو أهون من أن تخشى فيه عاقبة ، والله تعالى يجل أن يوصف بذلك ، ومنهم من قال : المراد منه التنبيه على أنه بالغ في التعذيب ، فإن كل ملك يخشى عاقبة ، فإنه يتقي بعض الاتقاء ، والله تعالى لما لم يخف شيئاً من العواقب ، لا جرم ما اتقى شيئاً وثانيها : أنه كناية عن صالح الذي هو الرسول أي ولا يخاف صالح عقبى هذا العذاب الذي ينزل بهم وذلك كالوعد لنصرته ودفع المكاره عنه. لو حاول محاول أن يؤذيه لأجل ذلك وثالثها : المراد أن ذلك الأشقى الذي هو أحيمر ثمود. فيما أقدم من عقر الناقة {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} وهذه الآية وإن كانت متأخرة لكنها على هذا التفسير في حكم المتقدم ، كأنه قال : ({وَأَنَّا لا نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الارْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَالِكَا كُنَّا طَرَآا ِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الارْضِ وَلَن نُّعْجِزَه هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ا ءَامَنَّا بِه ا فَمَنا يُؤْمِن بِرَبِّه فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} والله أعلم ، روي أن صالحاً لما وعدهم العذاب بعد ثلاث ، قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلموا فلنقتل صالحاً ، فإن كان صادقاً فأعجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته. فأتوه ليبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجار ، فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح ، فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه لبسوا السلاح وقالوا لهم : والله لا تقتلونه قد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقاً زدتم ربكم عليكم غضباً ، وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون ، فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا وجوههم مصفرة فأيقنوا بالعذاب فطلبوا صالحاً ليقتلوه فهرب صالح والتجأ إلى سيد بعض بطون ثمود وكان مشركاً فغيبه عنهم فلم يقدروا عليه ثم شغلهم عنه ما نزل بهم من العذاب ، فهذا هو قوله : {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 182
182
(1/4762)
سورة الليل
إحدى وعشرون آية مكية
(سورة الليل) قال القفال رحمه الله : نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين ، وفي أمية بن خلف وبخله وكفره بالله ، إلا أنها وإن كانت كذلك لكن معانيها عامة للناس ، ألا ترى أن الله تعالى قال : {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } (الليل : 4) ، وقال : {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى } (الليل : 14) ويروى عن علي عليه السلام أنه قال : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جنازة فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقعدنا حوله فقال : ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار ، فقلنا يا رسول الله أفلا نتكل ؟
فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له" {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى } (الليل : 7,5) فبان بهذا الحديث عموم هذه السورة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 182
185
اعلم أنه تعالى أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه ويسكن الخلق عن الاضطراب ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى ، لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة ، وجاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوام من مكامنها ، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة ، لكن المصلحة كانت في تعاقبهما على ما قال سبحانه : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} (الفرقان : 62) ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (إبراهيم : 33) أما قوله : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } فاعلم أنه تعالى لميذكر مفعول يغشى ، فهو إما الشمس من قوله : {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَا هَا} (الشمس : 4) وإما النهار من قوم : {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } (الرعد : 3) وإما كل شيء يواريه بظلامه من قوله : {إِذَا وَقَبَ} )الفلق : 3) وقوله : {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } أي ظهر بزوال ظلمة الليل ، أو ظهر وانكشف بطلوع الشمس.
جزء : 31 رقم الصفحة : 185
185
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسيره وجوه أحدها : أي والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد ، وقيل : هما آدم وحواء وثانيها : أي وخلقه الذكر والأنثى وثالثها : ما بمعنى من أي ومن خلق الذكر والأنثى ، أي والذي خلق الذكر والأنثى.
/ المسألة الثانية : قرأ النبي صلى الله عليه وسلّم {الذَّكَرَ وَالانثَى } وقرأ ابن مسعود : (والذي خلق الذكر والأنثى) وعن الكسائي : {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى } بالجر ، ووجهه أن يكون معنى : {وَمَا خَلَقَ} أي وما خلقه الله تعالى ، أي مخلوق الله ، ثم يجعل الذكر والأنثى بدلاً منه ، أي ومخلوق الله الذكر والأنثى ، وجاز إضهار اسم الله لأنه معلوم أنه لا خالق إلا هو.
المسألة الثالثة : القسم بالذكر والأنثى يتناول القسم بجميع ذوي الأرواح الذين هم أشرف المخلوقات ، لأن كل حيوان فهو إما ذكر أو أنثى والخنثى فهو في نفسه لا بد وأن يكون إما ذكراً أو أنثى ، بدليل أنه لو حلف بالطلاق ، أنه لم يلق في هذا اليوم لا ذكراً ولا أنثى ، وكان قد لقى خنثى فإنه يخنث في يمينه.
جزء : 31 رقم الصفحة : 185
186
هذا الجواب القسم ، فأقسم تعالى بهذه الأشياء ، أن أعمال عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء وشتى جمع شتيت مثل مرضى ومريض ، وإنما قيل للمختلف : شتى ، لتباعد ما بين بعضه وبعضه ، والشتات هو التباعد والافتراق ، فكأنه قيل : إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض ، لأن بعضه ضلال وبعضه هدى ، وبعضه يوجب الجنان ، وبعضه يوجب النيران ، فشتان ما بينهما ، ويقرب من هذه الآية قوله : {لا يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } (الحشر : 20) وقوله : {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا} (السجدة : 18) وقوله : {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَرَءَيْتَ مَنِ} (الجاثية : 21) وقال : {وَلا الظِّلُّ} (فاطر : 21) قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان.
جزء : 31 رقم الصفحة : 186
186
ثم إنه سبحانه بين معنى اختلاف الأعمال فيما قلناه من العاقبة المحمودة والمذمومة والثواب والعقاب ، فقال : {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنا بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى } .
(1/4763)
وفي قوله أعطى وجهان : أحدهما : أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعله أبو بكر سواء كان ذلك واجباً أو نفلاً ، وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله : {وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ} (الأنفال : 3) فإن المراد منه كل ذلك إنفاقاً في سبيل الله سواء كان واجباً أو نفلاً ، وقد مدح الله قوماً فقال : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان : 8) وقال في آخر هذه السورة : {وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَه يَتَزَكَّى * وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى } (الليل : 20,17) ، وثانيهما : أن قوله : {أَعْطَى } يتناول إعطاء حقوق المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى ، يقال : فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة وقوله : {وَاتَّقَى } فهو إشارة إلى الاحتراز عن كل مالا ينبغي ، وقد ذكرنا أنه هل من شرط كونه متقياً أن يكون محترزاً عن الصغائر أم لا في تفسير قوله تعالى : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) وقوله : {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } فالحسنى فيها وجوه أحدها : أنها قول لا إله إلا الله ، والمعنى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالتوحيد والنبوة حصلت له الحسنى ، وذلك لأنه لا ينفع مع الكفر إعطاء مال ولا اتقاء محارم ، وهو كقوله : {أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} إلى قوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 186
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } (البلد : 17,14) وثانيها : أن الحسنى عبارة عما فرضه الله تعالى من العبادات على الأبدان وفي الأموال كأنه قيل : أعطى في سبيل الله واتقى المحارم وصدق بالشرائع ، فعلم أنه تعالى لم يشرعها إلا لما فيها من وجوه الصلاح والحسن وثالثها : أن الحسنى هو الخلف الذي وعده الله في قوله : {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه } (سبأ : 39) والمعنى : أعطى من ماله في طاعة الله مصدقاً بما وعده الله من الخلف الحسن ، وذلك أنه قال : {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة : 261) فكان الخلف لما كان زائداً صح إطلاق لفظ الحسنى عليه ، وعلى هذا المعنى : {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } أي لم يصدق بالخلف ، فبخل بماله لسوء ظنه بالمعبود ، كما قال بعضهم : منع الموجود ، سوء ظن بالمعبود ، وروي عن أبي الدرداء أنه قال : "ما من يوم غربت فيه الشمس إلا وملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين. اللهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً" ورابعها : أن الحسنى هو الثواب ، وقيل : إنه الجنة ، والمعنى واحد ، قال قتادة : صدق بموعود الله فعمل لذلك الموعود ، قال القفال : وبالجملة أن الحسنى لفظة تسع كل خصلة حسنة ، قال الله تعالى : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } (التوبة : 52) يعني النصر أو الشهادة ، وقال تعالى : {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَه فِيهَا حُسْنًا } (الشورى : 23) فسمى مضاعفة الأجر حسنى ، وقال : {إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى } (فصلت : 50).
وأما قوله : {فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في تفسير هذه اللفظة وجوه أحدها : أنها الجنة وثانيها : أنها الخير وقالوا في العسرى : أنها الشرك وثالثها : المراد منه أن يسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك ، والمراد من العسرى تعسير كل ذلك عليه ورابعها : اليسرى هي العود إلى الطاعة التي أتى بها أولاً ، فكأنه قال فسنيسره لأن يعود إلى الإعطاء في سبيل الله ، وقالوا : في العسرى ضد ذلك أي نيسره لأن يعود إلى البخل والامتناع من أداء الحقوق المالية ، قال القفال : ولكل هذه الوجوه مجاز من اللغة ، وذلك لأن الأعمال بالعواقب ، فكل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة ، فإن ذلك من اليسرى ، وذلك وصف كل الطاعات ، وكل ما أدت عاقبته إلى عسر / وتعب فهو من العسرى ، وذلك وصف كل المعاصي.
جزء : 31 رقم الصفحة : 186
المسألة الثانية : التأنيث في لفظ اليسرى ، ولفظ العسرى فيه وجوه أحدها : أن المراد من اليسرى والعسرى إن كان جماعة الأعمال ، فوجه التأنيث ظاهر ، وإن كان المراد عملاً واحداً رجع التأنيث إلى الخلة أو الفعلة ، وعلى هذا من جعل يسرى هو تيسير العود(ة) إلى ما فعله الإنسان من الطاعة رجع التأنيث إلى العود(ة) ، وكأنه قال : فسنيسره للعود(ة) التي هي كذا وثانيها : أن يكون مرجع التأنيث إلى الطريقة فكأنه قال : للطريقة اليسرى والعسرى وثالثها : أن العبادات أمور شاقة على البدن ، فإذا علم المكلف أنها تفضي إلى الجنة سهلت تلك الأفعال الشاقة عليه ، بسبب توقعه للجنة ، فسمى الله تعالى الجنة يسرى ، ثم علل حصول اليسرى في أداء الطاعات بهذه اليسرى وقوله : {فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى } بالضد من ذلك.
(1/4764)
المسألة الثالثة : في معنى التيسير لليسرى والعسرى وجوه : وذلك لأن من فسر اليسرى بالجنة فسر التيسير لليسرى بإدخال الله تعالى إياهم في الجنة بسهولة وإكرام ، على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} (الرعد : 24,23) وقوله : {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ} (الزمر : 73) وقوله : {سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُم فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد : 24) وأما من فسر اليسرى بأعمال الخير فالتيسير لها هو تسهيلها على من أراد حتى لا يعتريه من التثاقل ما يعتري المرائين والمنافقين من الكسل ، قال الله تعالى : {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَـاشِعِينَ} (البقرة : 45) وقال : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ} (النسار : 142) وقال : {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الارْضِ } (التوبة : 38) فكان التيسير هو التنشيط.
جزء : 31 رقم الصفحة : 186
المسألة الرابعة : استدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في التوفيق والخذلان ، فقالوا : إن قوله تعالى : {فَسَنُيَسِّرُه لِلْيُسْرَى } يدل على أنه تعالى خص المؤمن بهذا التوفيق ، وهو أنه جعل الطاعة بالنسبة إليه أرجح من المعصية ، وقوله : {فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى } يدل على أنه خص الكافر بهذا الخذلان ، وهو أنه جعل المعصية بالنسبة إليه أرجح من الطاعة ، وإذا دلت الآية على حصول الرجحان لزم القوم بالوجوب لأنه لا واسطة بين الفعل والترك ، ومعلوم أن حال الاستواء يمتنع الرجحان ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا امتنع أحد الطرفين وجب حصول الطرف الآخر ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض. أجاب القفال رحمه الله عن وجه التمسك بالآية من وجوه أحدها : أن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور ، قال تعالى : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } (الشورى : 40) وقال : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الإنشقاق : 24) فلما سمى الله فعل الألطاف الداعية إلى الطاعات تيسيراً لليسرى ، سمى ترك هذه الألطاف تيسيراً للعسرى وثانيها : أن يكون ذلك على جهة إضافة الفعل إلى المسبب له دون الفاعل. كما قيل في الأصنام : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } (إبراهيم : 36) وثالثها : أن يكون ذلك على سبيل الحكم به والإخبار عنه والجواب : عن الكل أنه عدول عن الظاهر ، وذلك غير جائز ، لاسيما أنا بينا أن الظاهر من جانبنا متأكد بالدليل العقلي القاطع ، ثم / إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روى عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار ، قلنا : أفلا نتكل ؟
قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له" أجاب القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله ، كما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات : 56) واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جواباً عن سؤالهم ، يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله ، وهذا يدل على قولنا : أن ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير والله أعلم.
المسألة الخامسة : في دخول السين في قوله : {فَسَنُيَسِّرُه } وجوه أحدها : أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين ، كما في قوله : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 21) وثانيها : أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصياً ، والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعاً ، فهذا السبب كان التغيير فيه محالاً وثالثها : أن الثواب لما كان أكثره واقعاً في الآخرة ، وكان ذلك مما لم يأت وقته ، ولا يقف أحد على وقته إلا الله ، لا جرم دخله تراخ ، فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر ، والله أعلم. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 186
187
(1/4765)
فاعلم أن ما هنا يحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى الإنكار ، ويحتمل أن يكون نفياً. وأما {تَرَدَّى } ففيه وجهان الأول : أن يكون ذلك مأخوذاً من قولك : تردى من الجبل : قال الله تعالى : {وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (المائدة : 3) فيكون المعنى : تردى في الحفرة إذا قبر ، أو تردى في قعر جهنم ، وتقدير الآية : إنا إذا يسرناه للعسرى ، وهي النار تردى في جهنم ، فماذا يغني عنه ماله الذي بخل به وتركه لوارثه ، ولم يصحبه منه إلى آخرته ، التي هي موضع فقره وحاجته شيء ، كما قال : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ } (الأنعام : 94) وقال : {وَنَرِثُه مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (مريم : 80) أخبر أن الذي ينتفع الإنسان به هو ما يقدمه الإنسان من أعمال البر وإعطاء الأموال في حقوقها ، دون المال الذي يخلفه على ورثته الثاني : أن تردى تفعل من الردى وهو الهلاك يريد الموت. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 187
188
فاعلم أنه تعالى لما عرفهم أن سعيهم شتى في العواقب وبين ما للمحسن من اليسرى وللمسيء من العسرى ، أخبرهم أنه قد قضى ما عليه من البيان والدلالة والترغيب والترهيب والإرشاد والهداية فقال : {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد وشرح ما يكون المتعبد به مطيعاً مما يكون به عاصياً ، إذ كنا إنما خلقناهم لننفعهم ونرحمهم ونعرضهم للنعيم المقيم ، فقد فعلنا ما كان / فعله واجباً علينا في الحكمة ، والمعتزل احتجوا بهذه الآية على صحة مذهبهم في مسائل إحداها : أنه تعالى أباح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في وسعه وطاقته ، فثبت أنه تعالى لا يكلف بما لا يطاق وثانيها : أن كلمة على للوجوب ، فتدل على أنه قد يجب للعبد على الله شيء وثالثها : أنه لو لم يكن العبد مستقلاً بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة ، وأجوبة أصحابنا عن مثل هذه الوجوه مشهورة ، وذكر الواحدي وجهاً آخر نقله عن الفراء فقال المعنى : إن علينا للهدى والإضلال ، فترك الإضلال كما قال : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (النحل : 81) وهي تقي الحر والبرد ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء ، قال : يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي ، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي فذكر معنى الإضلال ، قالت المعتزلة : هذا التأويل ساقط لقوله تعالى : {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } (النحل : 9) فبين أن قصد السبيل على الله ، وأما جور السبيل فبين أنه ليس على الله ولا منه ، واعلم أن الاستقصاء قد سبق في تلك الآية. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 188
190
ففيه وجهان الأول : أن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا ، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم ، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ولو شئنا لمنعناكم من المعاصي قهراً ، إذ لنا الدنيا والآخرة ولكننا لا نمنعكم من هذا الوجه ، لأن هذا الوجه يخل بالتكليف ، بل نمنعكم بالبيان والتعريف ، والوعد والوعيد الثاني : أن لنا ملك الدارين نعطي ما نشاء من نشاء ، فيطلب سعادة الدارين منا ، والأول أوفق لقول المعتزلة ، والثاني أوفق لقولنا. أما قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 190
190
(1/4766)
تلظى أي تتوقد وتتلهب وتتوهج ، يقال : تلظت النار تلظياً ، ومنه سميت جهنم لظى ، ثم بين أنها لمن هي بقوله : {لا يَصْلَـاـاهَآ إِلا الاشْقَى} قال ابن عباس : نزلت في أمية بن خلف وأمثاله الذين كذبوا محمداً والأنبياء قبله ، وقيل : إن الأشقى بمعنى الشقي كما يقال : لست فيها بأوحد أي بواحد ، فالمعنى لا يدخلها إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله ، وتولى أي أعرض عن طاعة الله. واعلم أن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار ، قال القاضي : ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه أحدها : أنه يقتضي أن لا يدخل النار {لا يَصْلَـاـاهَآ إِلا الاشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى } فوجب في الكافر الذي لم يكذب ولم يتول أن لا يدخل النار وثانيها : أن هذا إغراء بالمعاصي ، لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى : لمن صدق بالله ورسوله ولم / يكذب ولم يتول : أي معصية أقدمت عليها ، فلن تضرك ، وهذا يتجاوز حد الإغراء إلى أن تصير كالإباحة ، وتعالى الله عن ذلك وثالثها : أن قوله تعالى : من بعد {وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى} (الليل : 17) يدل على ترك هذا الظاهر لأنه معلوم من حال الفاسق ، أنه ليس بأتقى ، لأن ذلك مبالغة في التقوى ، ومن يرتكب عظائم الكبائر لا يوصف بأنه أتقى ، فإن كان الأول يدل على أن الفاسق لا يدخل النار ، فهذا الثاني يدل على أن الفاسق لا يجنب النار ، وكل مكلف لا يجنب النار ، فلا بد وأن يكون من أهلها ، ولما ثبت أنه لا بد من التأويل ، فنقول : فيه وجهان الأول : أن يكون المراد بقوله : {نَارًا تَلَظَّى } ناراً مخصوصة من النيران ، لأنها دركات لقوله تعالى : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء : 145) فالآية تدل على أن تلك النار المخصوصة لا يصلاها سوى هذا الأشقى ، ولا تدل على أن الفاسق وغير من هذا صفته من الكفار لا يدخل سائر النيران الثاني : أن المراد بقوله : {نَارًا تَلَظَّى } النيران أجمع ، ويكون المراد بقوله : {لا يَصْلَـاـاهَآ إِلا الاشْقَى} أي هذا الأشقى به أحق ، وثبوت هذه الزيادة في الاستحقاق غير حاصل إلا لهذا الأشقى. واعلم أن وجوه القاضي ضعيفة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 190
أما قوله أولاً : يلزم في غير هذا الكافر أن لا يدخل النار فجوابه : أن كل كافر لا بد وأن يكون مكذباً للنبي في دعواه ، ويكون متولياً عن النظر في دلالة صدق ذلك النبي ، فيصدق عليه أنه أشقى من سائر العصاة ، وأنه {كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وإذا كان كل كافر داخلاً في الآية سقط ما قاله القاضي.
وأما قوله ثانياً : إن هذا إغراء بالمعصية فضعيف أيضاً ، لأنه يكفي في الزجر عن المعصية حصول الذم في العاجل وحصول غضب الله بمعنى أنه لا يكرمه ولا يعظمه ولا يعطيه الثواب ، ولعله يعذبه بطريق آخر ، فلم يدل دليل على انحصار طريق التعذيب في إدخال النار.
وأما قوله ثالثاً : {وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى} فهذا لا يدل على حال غير الأتقى إلا على سبيل المفهوم ، والتمسك بدليل الخطاب وهو ينكر ذلك فكيف تمسك به ؟
والذي يؤكد هذا أن هذا يقتضي فيمن ليس بأتقى دخول النار ، فيلزم في الصبيان والمجانين أن يدخلوا النار وذلك باطل.
وأما قوله رابعاً : المراد منه نار مخصوصة ، وهي النار التي تتلظى فضعيف أيضاً ، لأن قوله : {نَارًا تَلَظَّى } يحتمل أن يكون ذلك صفة لكل النيران ، وأن يكون صفة لنار مخصوصة ، لكنه تعالى وصف كل نار جهنم بهذا الوصف في آية أخرى ، فقال : {كَلا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى } .
وأما قوله : المراد إن هذا الأشقى أحق به فضعيف لأنه ترك للظاهر من غير دليل ، فثبت ضعف الوجوه التي ذكرها القاضي ، فإن قيل : فما الجواب عنه على قولكم ، فإنكم لا تقطعون بعدم وعيد الفساق ؟
الجواب : من وجهين : الأول : ما ذكره الواحدي وهو أن معنى : {لا يَصْلَـاـاهَآ} لا يلزمها في حقيقة اللغة ، يقال : صلى الكافر النار إذا لزمها مقاسياً شدتها وحرها ، وعندنا أن هذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر ، أما الفاسق فإما أن لا يدخلها أو إن دخلها تخلص منها الثاني : أن يخص عموم هذا الظاهر بالآيات الدالة على وعيد الفساق ، والله أعلم. قوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 190
192
معنى سيجنبها أي سيبعدها ويجعل منها على جانب يقال : جنبته الشيء أي بعدته وجنبته عنه ، وفيه مسألتان :
(1/4767)
المسألة الأولى : أجمع المفسرون منا على أن المراد منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه. واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية ، ويقولون : إنها نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى : {وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة : 55) فقوله : {الاتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَه يَتَزَكَّى } إشارة إلى ما في الآية من قوله : {وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت : أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر وتقريرها : أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق ، فإذا كان كذلك ، وجب أن يكون المراد هو أبو بكر ، فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود ، إنما قلنا : إن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَا كُمْ } (الحجرات : 13) والأكرم هو الأفضل ، فدل على أن كل من كان أتقى وجب أن يكون أفضل ، فإن قيل : الآية دلت على أن كل من كان أكرم كان أتقى ، وذلك لا يقتضي أن كل من كان أتقى كان أكرم ، قلنا وصف كون الإنسان أتقى معلوم مشاهد ، ووصف كونه أفضل غير معلوم ولا مشاهد ، والإخبار عن المعلوم بغير المعلوم هو الطريق الحسن ، أما عكسه فغير مفيد ، فتقدير الآية كأنه وقعت الشبهة في أن الأكرم عند الله من هو ؟
فقيل : هو الأتقى ، وإذا كان كذلك كان التقدير أتقاكم أكرمكم عند الله ، فثبت أن الأتقى المذكور ههنا لا بد وأن يكون أفضل الخلق عند الله ، فنقول : لا بد وأن يكون المراد به أبا بكر لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله ، إما أبو بكر أو علي ، ولا يمكن حمل هذه الآية على علي بن أبي طالب ، فتعين حملها على أبي بكر ، وإنما قلنا : إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى : {وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب ، لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ، ويكسوه ، ويربيه ، وكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها ، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه دنيوية ، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين ، إلا أن هذا لا يجزى ، لقوله تعالى :
جزء : 31 رقم الصفحة : 192
{قُلْ مَآ أَسْاَلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ} (الفرقان : 57) والمذكور ههنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى ، فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعلي بن أبي طالب ، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الأمة ، إما أبو بكر أو علي ، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي ، تعين / حملها على أبي بكر رضي الله عنه ، وثبت دلالة الآية أيضاً على أن أبا بكر أفضل الأمة ، وأما الرواية فهي أنه كان بلال (عبداً) لعبد الله بن جدعان ، فسلح على الأصنام فشكا إليه المشركون فعله ، فوهبه لهم ، ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم ، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء وهو يقول : أحد ، أحد ، فمر به رسول الله ، وقال : ينجيك أحد ، أحد. ثم أخبر رسول الله أبا بكر أن بلالاً يعذب في الله : فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب فابتاعه به ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده ، فنزل : {وَمَا لاحَدٍ عِندَه مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } {إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى } (الليل : 20) وقال ابن الزبير وهو على المنبر : كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم ، فقال له أبوه : يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ، فقال : منع ظهري أريد. فنزلت هذه الآية.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" في محل : {يَتَزَكَّى } وجهان : إن جعلت بدلاً من يؤتي فلا محل له ، لأنه داخل في حكم الصلة ، والصلات لا محل لها. وإن جعلته حالاً من الضمير في {يُؤْتِى} فمحله النصب.
جزء : 31 رقم الصفحة : 192
193
فيه مسائل :
المسألة الأولى : {ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ} مستثنى من غير جنسه وهو النعمة أي {وَمَا لاحَدٍ عِندَه } (الليل : 19) نعمة {إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ} كقولك ما في الدار أحداً إلا حماراً ، وذكر الفراء فيه وجهاً آخر وهو أن يضمر الإنفاق على تقدير : ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، كقوله : {وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّه } (البقرة : 272).
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى بين أن هذا : {الاتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَه يَتَزَكَّى } (الليل : 18,17) لا يؤتيه مكافأة على هدية أو نعمة سالفة ، لأن ذلك يجري مجرى أداء الدين ، فلا يكون له دخل في استحقاق مزيد الثواب بل إنما يستحق الثواب إذا فعله ، لأجل أن الله أمره به وحثه عليه.
المسألة الثالثة : المجسمة تمسكوا بلفظة الوجه والملحدة تمسكوا بلفظة {رَبِّهِ الاعْلَى } وإن ذلك يقضي وجود رب آخر ، وقد تقدم الكلام على كل ذلك.
المسألة الرابعة : ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الإمامة ، فقال : الآية الواردة في حق علي عليه السلام : {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (الإنسان : 10,9) والآية الواردة في حق أبي بكر : {إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى } فدلت الآيتان على أن كل واحد منهما إنما فعل ما فعل لوجه الله إلا أن آية علي تدل على أنه فعل ما فعل لوجه الله ، وللخوف من يوم القيامة على ما قال : {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} وأما آية أبي بكر فإنها دلت على أنه فعل ما فعل لمحض وجه الله من غير أن يشوبه طمع فيما يرجع إلى رغبة في ثواب / أو رهبة من عقاب ، فكان مقام أبي بكر أعلى وأجل.
المسألة الخامسة : من الناس من قال : ابتغاء الله بمعنى ابتغاء ذاته وهي محال ، فلا بد وأن يكون المراد ابتغاء ثوابه وكرامته ، ومن الناس من قال : لا حاجة إلى هذا الإضمار ، وحقيقة هذه المسألة راجعة إلى أنه هل يمكن أن يحب العبد ذات الله ، أو المراد من هذه المحبة محبة ثوابه وكرامته ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في تفسير قوله : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه } (البقرة : 165).
جزء : 31 رقم الصفحة : 193
المسألة السادسة : قرأ يحيى بن وثاب : {إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ} بالرفع على لغة من يقول : ما في الدار أحد إلا حماراً وأنشد في اللغتين ، قوله :
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
أما قوله : {وَلَسَوْفَ يَرْضَى } فالمعنى أنه وعد أبا بكر أن يرضيه في الآخرة بثوابه ، وهو كقوله لرسوله صلى الله عليه وسلّم : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } (الضحى : 5) وفيه عندي وجه آخر ، وهو أن المراد أنه ما أنفق إلا لطلب رضوان الله ، ولسوف يرضى الله عنه ، وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه ، وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين على ما قال : {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (الفجر : 28) والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 31 رقم الصفحة : 193
194
(1/4768)
سورة الضحى
إحدى عشرة آية مكية
وأنا على عزم أن أضم إلى تفسير هذه السورة ما فيها من اللطائف التذكارية.
جزء : 31 رقم الصفحة : 194
195
لأهل التفسير في قوله : {وَالضُّحَى } وجهان : أحدهما : أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها وثانيها : الضحى هو النهار كله بدليل أنه جعل في مقابلة الليل كله.
وأما قوله : {وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى } فذكر أهل اللغة في {سَجَى } ثلاثة أوجه متقاربة : سكن وأظلم وغطى أما الأول : فقال أبو عبيد والمبرد والزجاج : سجى أي سكن يقال : ليلة ساجية أي ساكنة الريح ، وعين ساجية أي فائزة الطرف. وسجى البحر إذا سكنت أمواجه ، وقال في الدعاء :
يا مالك البحر إذا البحر سجى
وأما الثاني : وهو تفسير سجى بأظلم. فقال الفراء : سجى أي أظلم وركد في طوله.
وأما الثالث : وهو تفسير سجى بغطى ، فقال الأصمعي وابن الأعرابي سجى الليل تغطيته النهار ، مثل ما يسجى الرجل بالثوب ، واعلم أن أقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الوجوه الثلاثة فقال ابن عباس : غطى الدنيا بالظلمة ، وقال الحسن : ألبس الناس ظلامه ، وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير : إذا أقبل الليل غطى كل شيء ، وقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد : سكن بالناس ولسكونه معنيان أحدهما : سكون الناس فنسب إليه كما يقال ليل نائم ونهار صائم والثاني : هو أن سكونه عبارة عن استقرار ظلامه واستوائه فلا يزداد بعد ذلك ، وههنا سؤالات :
(1/4769)
السؤال الأول : ما الحكمة في أنه تعالى في السورة الماضية قدم ذكر الليل ، وفي هذه السورة أخره ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : أن بالليل والنهار ينتظم مصالح المكلفين ، والليل له فضيلة السبق لقوله : {وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام : 1) وللنهار فضيلة النور ، بل الليل كالدنيا والنهار كالآخرة ، فلما كان لكل واحد فضيلة ليست للآخر ، لا جرم قدم هذا على ذاك تارة وذاك ، على هذا أخرى ، / ونظيره أنه تعالى قدم السجود على الركوع في قوله : {وَاسْجُدِى وَارْكَعِى} (آل عمران : 43) ثم قدم الركوع على السجود في قوله : {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } (الحج : 77) وثانيها : أنه تعالى قدم الليل على النهار في سورة أبي بكر لأن أبا بكر سبقه كفر ، وههنا قدم الضحى لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سبقه ذنب وثالثها : سورة والليل سورة أبي بكر ، وسورة الضحى سورة محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما جعل بينهما واسطة ليعلم أنه لا واسطة بين محمد وأبي بكر ، فإذا ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر ، ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد ، وإن ذكرت والضحى أولاً وهو محمد ، ثم نزلت وجدت بعده ، والليل وهو أبو بكر ، ليعلم أنه لا واسطة بينهما.
جزء : 31 رقم الصفحة : 195
السؤال الثاني : ما الحكمة ههنا في الحلف بالضحى والليل فقط ؟
والجواب : لوجوه أحدها : كأنه تعالى يقول : الزمان ساعة ، فساعة ساعة ليل ، وساعة نهار ، ثم يزداد فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار ، ومرة بالعكس فلا تكون الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى. بل للحكمة ، كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس ، فلا كان الإنزال عن هوى ، ولا كان الحبس عن قلى وثانيها : أن العالم لا يؤثر كلامه حتى يعمل به ، فلما أمر الله تعالى بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، لم يكن بد من أن يعمل به ، فالكفار لما ادعوا أن ربه ودعه وقلاه ، قال : هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه وثانيها : كأنه تعالى يقول : انظروا إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارة يغلب وتارة يغلب فكيف تطمع أن تسلم على الخلق.
السؤال الثالث : لم خص وقت الضحى بالذكر ؟
الجواب : فيه وجوه أحدها : أنه وقت اجتماع الناس وكمال الأنس بعد الاستيحاش في زمان الليل/ فبشروه أن بعد استيحاشك بسبب احتباس الوحي يظهر ضحى نزول الوحي وثانيها : أنها الساعة التي كلم فيها موسى ربه ، وألقى فيها السحرة سجداً ، فاكتسى الزمان صفة الفضيلة لكونه ظرفاً ، فكيف فاعل الطاعة وأفاد أيضاً أن الذي أكرم موسى لا يدع إكرامك ، والذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك.
السؤال الرابع : ما السبب في أنه ذكر الضحى وهو ساعة من النهار ، وذكر الليل بكليته ؟
الجواب : فيه وجوه أحدها : أنه إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن محمداً إذا وزن يوازي جميع الأنبياء والثاني : أن النهار وقت السرور والراحة ، والليل وقت الوحشة والغم فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها ، فإن الضحى ساعة والليل كذا ساعات ، يروى أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يسارة ، ونادت ماذا أمطر ؟
فأجيبت أن امطري الهموم والأحزان مائة سنة ، ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة ، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت : ماذا أمطر ؟
فأجيبت أن أمطري السرور ساعة ، فلهذا السبب ترى الغموم والأحزان دائمة ، والسرور قليلاً / ونادراً وثالثها : أن وقت الضحى وقت حركة الناس وتعارفهم فصارت نظير وقت الحشر ، والليل إذا سكن نظير سكون الناس في ظلمة القبور ، فكلاهما حكمة ونعمة لكن الفضيلة للحياة على الموت ، ولما بعد الموت على ما قبله ، فلهذا السبب قدم ذكر الضحى على ذكر الليل ورابعها : ذكروا الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره.
جزء : 31 رقم الصفحة : 195
السؤال الخامس : هل أحد من المذكرين فسر الضحى بوجه محمد والليل بشعره ؟
والجواب : نعم ولا استبعاد فيه ومنهم من زاد عليه فقال : والضحى ذكور أهل بيته ، والليل إناثهم ، ويحتمل الضحى رسالته والليل زمان احتباس الوحي ، لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمن الاحتباس حصل الاستيحاش ، ويحتمل والضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب : والليل عفوه الذي به يستر جميع الغيوب. ويحتمل أن الضحى إقبال الإسلام بعد أن كل غريباً والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً ، ويحتمل والضحى كمال العقل ، والليل حال الموت ، ويحتمل أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً ، وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً.
جزء : 31 رقم الصفحة : 195
197
فيه مسائل :
(1/4770)
المسألة الأولى : قال أبو عبيدة والمبرد : ودعك من التوديع كما يودع المفارق ، وقرىء بالتخفيف أي ما تركك ، والتوديع مبالغة في الوداع ، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك والقلى البغض. يقال : قلاة يقليه قلى ومقلية إذا أبغضه ، قال الفراء : يريد وما قلاك ، وفي حذف الكاف وجوه أحدها : حذفت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى في ودعك ، ولأن رؤس الآيات بالياء ، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف وثانيها : فائدة الإطلاق أنه ما قلاك ولا (فلا) أحد من أصحابك. ولا أحداً ممن أحبك إلى قيام القيامة ، تقريراً لقوله : "المرء مع من أحب".
المسألة الثانية : قال المفسرون : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلّم. فقال المشركون : قد قلاه الله وودعه ، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية ، وقال السدي : أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة ، فقالت : لعل رنك نسيك أو قلاك ، وقيل : إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، وروي عن الحسن أنه قال : أبطأ على الرسول صلى الله عليه وسلّم الوحي ، فقال لخديجة : "إن ربي ودعني وقلاني ، يشكو إليها ، فقالت : كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك" فنزل : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } وطعن الأصوليون في هذه الرواية ، وقالوا : إنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلّم أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه ، بل يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى ، ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة ، وربما كان الصلاح تأخيره ، وربما كان خلاف ذلك ، فثبت أن هذا / الكلام غير لائق بالرسول عليه الصلاة والسلام ، ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها ، أو ليعرف الناس قدر علمها ، واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي ، فقال ابن جريج : اثنا عشر يوماً ، وقال الكلبي : خمسة عشر يوماً ، وقال ابن عباس : خمسة وعشرون يوماً ، وقال السدي ومقاتل : أربعون يوماً ، واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام ، فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف ، فقال : "سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله" فاحتبس عنه الوحي ، وقال ابن زيد : السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين ، فلما نزل جبريل عليه السلام ، عاتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقال : "أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة" وقال جندب بن سفيان : رمى النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه ، فقال :
جزء : 31 رقم الصفحة : 197
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فأبطأ عنه الوحي ، وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وههنا سؤالان.
السؤال الأول : الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى : {قُلْنَا} أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركاً للأفضل والأولى ، وصاحبه لا يكون ممقوتاً ولا مبغضاً ، وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل : "ما جثتني حتى اشتقت إليك ، فقال جبريل : كنت إليك أشوق ولكني عبداً مأموراً" وتلا : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } (مريم : 64).
السؤال الثاني : كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده : إني لا أبغضك تشريفاً له ؟
الجواب : أن ذلك لا يحسن ابتداء ، لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه ، ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له : إني لا أبغضك ولا أدعك ، وسوف ترى منزلتك عندي.
المسألة الثالثة : هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله ، إذ لو كان من عنده لما امتنع.
جزء : 31 رقم الصفحة : 197
199
واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوهاً أحدها : أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة ، بل أقصى ما في الباب ، أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة ، وذلك أمارة الموت فكأنه يقال : انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت ، لكن الموت خير لك. فإن مالك عند الله في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا وثانيها : لما نزل : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} (الضحى : 3) حصل له بهذا تشريف عظيم ، فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له : {وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى } أي هذا التشريف وإن كان عظيماً إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم وثالثها : ما يخطر / ببالي ، وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز ، ومنصباً إلى منصب ، فيقول : لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصباً وجلالاً ، وههنا سؤالان :
(1/4771)
السؤال الأول : بأي طريق يعرف أن الآخرة كانت له خيراً من الأولى ؟
الجواب : لوجوه أحدها : كأنه تعالى يقول له إنك في الدنيا على خير لأنك تفعل فيها ما تريد ، ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل فيها ما نريد وثانيها : الآخرة خير لك يجتمع عندك أمتك إذ الأمة له كالأولاد قال تعالى : {وَأَزْوَاجُه ا أُمَّهَـاتُهُمْ } (الأحزاب : 6) وهو أب لهم ، وأمته في الجنة فيكون كأن أولاده في الجنة ، ثم سمى الولد قرة أعين ، حيث حكى عنهم : {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّـاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان : 74) وثالثها : الآخرة خير لك لأنك اشتريتها ، أما هذه ليست لك ، فعلى تقدير أن لو كانت الآخرة أقل من الدنيا لكانت الآخرة خيراً لك ، لأن مملوكك خير لك مما لا يكون مملوكاً لك ، فكيف ولا نسبة للآخرة إلى الدنيا في الفضل ورابعها : الآخرة خير لك من الأولى لأن في الدنيا الكفار يطعنون فيك أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم ، وأجعلك شهيداً على الأنبياء ، ثم أجعل ذاتي شهيداً لك كما قال : {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّه } (الفتح : 29,28) وخامسها : أن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة ، ولذات الآخرة كثيرة خالصة دائمة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 199
السؤال الثاني : لم قال : {وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ} ولم يقل خير لكم ؟
الجواب : لأنه كان في جماعته من كانت الآخرة شراً له ، فلو أنه سبحانه عمم لكان كذباً ، ولو خصص المطيعين بالذكر لافتضح المذنبون والمنافقون. ولهذا السبب قال موسى عليه السلام : {كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} (الشعراء : 62) وأما محمد صلى الله عليه وسلّم قالذي كان معه لما كان من أهل السعادة قطعاً ، لا جرم قال : {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (التوبة : 40) إذ لم يكن ثم إلا نبي وصديق ، وروي أن موسى عليه السلام خرج للاستسقاء ، ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة ، فسأل موسى عليه السلام عن السبب الموجب لعدم الإجابة. فقال : لا أجيبكم ما دام معكم ساع بالنميمة ، فسأل موسى من هو ؟
فقال : (إني) أبغضه فكيف أعمل عمله ، فما مضت مدة قليلة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات ، وهذه جنازته في مصلى ، كذا فذهب موسى عليه السلام إلى تلك المصلى ، فإذا فيها سبعون من الجنائز ، فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه. ثم تأمل فإن فيه دقيقة لطيفة ، وهي أنه عليه السلام قال : "لولا شيوخ ركع" وفيه إشارة إلى زيادة فضيلة هذه الأمة ، فإنه تعالى كان يرد الألوف لمذنب واحد ، وههنا يرحم المذنبين لمطيع واحد.
جزء : 31 رقم الصفحة : 199
200
(1/4772)
واعلم اتصاله بما تقدم من وجهين الأول : هو أنه تعالى لما بين أن الآخرة : خير له من الأولى ولكنه لم يبين أن ذلك التفاوت إلى أي حد / يكون. فبين بهذه الآية مقدار ذلك التفاوت ، وهو أنه ينتهي إلى غاية ما يتمناه الرسول ويرتضيه الوجه الثاني : كأنه تعالى لما قال : {وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى } (الضحى : 4) فقيل ولم قلت إن الأمر كذلك ، فقال : لأنه يعطيه كل ما يريده وذلك مما لا تتسع الدنيا له ، فثبت أن الآخرة خير له من الأولى ، واعلم أنه إن حملنا هذا الوعد على الآخرة فقد يمكن حمله على المنافع ، وقد يمكن حمله على التعظيم ، أما المنافع ، فقال ابن عباس : ألف قصر في الجنة من لؤلؤ أبيض ترابه المسك وفيها ما يليق بها ، وأما التعظيم فالمروى عن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس ، أن هذا هو الشفاعة في الأمة ، يروى أنه عليه السلام لما نزلت هذه الآية قال : إذاً لا أرضى وواحد من أمتي في النار ، واعلم أن الحمل على الشفاعة متعين ، ويدل عليه وجوه أحدها : أنه تعالى أمره في الدنيا بالاستغفار فقال : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } (محمد : 19) فأمره بالاستغفار والاستغفار عبارة عن طلب المغفرة ، ومن طلب شيئاً فلا شك أنه لا يريد الرد ولا يرضى به وإنما يرضى بالإجابة ، وإذا ثبت أن الذي يرضاه الرسول صلى الله عليه وسلّم هو الإجابة لا الرد ، ودلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه كل ما يرتضيه. علمنا أن هذه الآية دالة على الشفاعة في حق المذنبين والثاني : وهو أن مقدمة الآية مناسبة لذلك كأنه تعالى يقول لا أودعك ولا أبغضك بل لا أغضب على أحد من أصحابك وأتباعك وأشياعك طلباً لمرضاتك وتطييباً لقلبك ، فهذا التفسير أوفق لمقدمة الآية والثالث : الأحاديث الكثيرة الواردة في الشفاعة دالة على أن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام في العفو عن المذنبين ، وهذه الآية دلت على أنه تعالى يفعل كل ما يرضاه الرسول فتحصل من مجموع الآية والخبر حصول الشفاعة ، وعن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال : رضاء جدي أن لا يدخل النار موحد ، وعن الباقر ، أهل القرآن يقولون : أرجى آية قوله : {قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ا أَنفُسِهِمْ} (الزمر : 53) وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية قوله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } والله إنها الشفاعة ليعطاها في أهل لا إله إلا الله حتى يقول رضيت ، هذا كله إذا حملنا الآية على أحوال الآخرة ، أما لو حملنا هذا الوعد على أحوال الدنيا فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب ، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن ، و(ما) هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة ، وأنهبهم من كنوز الأكاسرة ، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهييب الإسلام وفشو الدعوة ، واعلم أن الأولى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة ، وههنا سؤالات.
جزء : 31 رقم الصفحة : 200
السؤال الأول : لم لم يقل : يعطيكم مع أن هذه السعادات حصلت للمؤمنين أيضاً ؟
الجواب : لوجوه : أحدها : أنه المقصود وهم أتباع وثانيها : أني إذا أكرمت أصحابك فذاك في الحقيقة إكرام لك ، لأني أعلم أنك بلغت في الشفقة عليهم إلى حيث تفرح بإكرامهم فوق / ما تفرح بإكرام نفسك ، ومن ذلك حيث تقول الأنبياء : نفسي نفسي ، أي أبدأ بجزائي وثوابي قبل أمتي ، لأن طاعتي كانت قبل طاعة أمتي ، وأنت تقول : أمتي أمتي ، أي أبدأ بهم ، فإن سروري أن أراهم فائزين بثوابهم وثالثها : أنك عاملتني معاملة حسنة ، فإنهم حين شجوا وجهك ، قلت : "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" وحين شغلوك يوم الخندق عن الصلاة ، قلت : "اللهم املأ بطونهم ناراً" فتحملت الشجة الحاصلة في وجه جسدك ، وما تحملت الشجة الحاصلة في وجه دينك ، فإن وجه الدين هو الصلاة ، فرجحت حقي على حقك ، لا جرم فضلتك ، فقلت من ترك الصلاة سنين ، أو حبس غيره عن الصلاة سنين لا أكفره ، ومن آذى شعرة من شعراتك ، أو جزء من نعلك أكفره.
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله : {وَلَسَوْفَ} ولم لم يقل : وسيعطيك ربك ؟
الجواب : فيه فوائد إحداها : أنه يدل على أنه ما قرب أجله ، بل يعيش بعد ذلك زماناً وثانيها : أن المشركين لما قالوا : ودعه ربه وقلاه فالله تعالى رد عليهم بعين تلك اللفظة ، فقال : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } (الضحى : 3) ثم قال المشركون : سوف يموت محمد ، فرد الله عليهم ذلك بهذه اللفظة فقال : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } .
السؤال الثالث : كيف يقول الله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } ؟
الجواب : هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام جبريل عليه السلام معه ، لأنه كان شديد الاشتياق إليه وإلى كلامه كما ذكرنا ، فأراد الله تعالى أن يكون هو المخاطب له بهذه البشارات.
(1/4773)
السؤال الرابع : ما هذه اللام الداخلة على سوف ؟
الجواب : قال صاحب "الكشاف" : هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك ربك والدليل على ما قلنا أنها إما أن تكون لام القسم ، أو لام الابتداء ، ولام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد ، فبقي أن تكون لام ابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر ، فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر ، وأن يكون أصله : ولأنت سوف يعطيك ، فإن قيل ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير ؟
قلنا معناه : أن العطاء كائن لا محالة ، وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.
جزء : 31 رقم الصفحة : 200
200
فيه مسائل :
المسألة الأولى : أن اتصاله بما تقدم هو أنه تعالى يقول : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} فقال الرسول : بلى يا رب ، فيقول : انظر (أ) كانت طاعاتك في ذلك الوقت أكرم أم الساعة ؟
فلا بد من أن يقال : بل الساعة فيقول الله : حين كنت صبياً ضعيفاً ما تركناك بل ربيناك ورقيناك إلى حيث صرت مشرفاً على / شرفات العرش وقلنا لك : لولاك ما خلقنا الأفلاك ، أتظن أنا بعد هذه الحالة نهجرك ونتركك.
المسألة الثانية : {أَلَمْ يَجِدْكَ} من الوجود الذي بمعنى العلم ، والمنصوبان مفعولا وجد والوجود من الله ، والمعنى ألم يعلمك الله يتيماً فآوى ، وذكروا في تفسير اليتيم أمرين الأول : أن عبد الله بن عبد المطلب فيما ذكره أهل الأخبار توفي وأم رسول الله صلى الله عليه وسلّم حامل به ، ثم ولد رسول الله فكان مع جده عبد المطلب ومع أمه آمنة ، فهلكت أمه آمنة وهو ابن ست سنين فكان مع جده ، ثم هلك جده بعد أمه بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين. وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب كانا من أم واحدة ، فكان أبو طالب هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة ، فقام بنصرته مدة مديدة ، ثم توفي أبو طالب بعد ذلك فلم يظهر على رسول الله يتم البتة فأذكره الله تعالى هذه النعمة ، روى أنه قال أبو طالب يوماً لأخيه العباس : ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه ؟
فقال : بلى فقال : إني ضممته إلي فكيف لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ؛ ولا أأتمن عليه أحداً حتى أني كنت أنومه في فراشي ، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي ، فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني ، وقال : يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي ، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك ، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئاً وكثيراً ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع ، ولقد كنت كثيراً ما أسمع منه كلاماً يعجبني وذلك عند مضي الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمده بعده ، وكان يقول في أول الطعام : بسم الله الأحد. فإذا فرغ من طعامه قال : الحمدلله ، فتعجبت منه ، ثم لم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية ولا وقف مع صبيان يلعبون.
جزء : 31 رقم الصفحة : 200
واعلم أن العجائب المروية في حقه من حديث بحيرى الراهب وغيره مشهورة.
التفسير الثاني لليتيم : أنه من قولهم درة يتيمة ، والمعنى ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك ؟
أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب ، وقرىء فأوى وهو على معنيين : إما من أواه بمعنى آواه ، وإما من أوى له إذا رحمه ، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف يحسن من الجود أن يمن بنعمة ، فيقول : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَـاَاوَى } ؟
والذي يؤكد هذا السؤال أن الله تعالى حكى عن فرعون أنه قال : {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} (الشعراء : 18) في معرض الذم لفرعون ، فما كان مذموماً من فرعون كيف يحسن من الله ؟
الجواب : أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك أن يقوي قلبه ويعده بدوام النعمة ، وبهذا يظهر الفرق بين هذا الامتنان وبين امتنان فرعون ، لأن امتنان فرعون محبط ، لأن الغرض فما بالك لا تخدمني ، وامتنان الله بزيادة نعمه ، كأنه يقول : مالك تقطع عني رجاءك ألست شرعت في تربيتك ، أتظنني تاركاً لما صنعت ، بل لا بد / وأن أتمم عليك وعلى أمتك النعمة ، كما قال : {وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} (البقرة : 150) أما علمت أن الحامل التي تسقط الولد قبل التمام معيبة ترد ، ولو أسقطت أو الرجل أسقط عنها بعلاج تجب الغرة وتستحق الذم ، فكيف يحسن ذلك من الحي القيوم ، فما أعظم الفرق بين مان هو الله ، وبين مان هو فرعون ، ونظيره ما قاله بعضهم : {ثَلَـاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} (الكهف : 22) في تلك الأمة ، وفي أمة محمد : {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة : 7) فشتان بين أمة رابعهم كلبهم ، وبين أمة رابعهم ربهم.
(1/4774)
السؤال الثاني : أنه تعالى منّ عليه بثلاثة أشياء ، ثم أمره بأن يذكر نعمة ربه ، فما وجه المناسبة بين هذه الأشياء ؟
الجواب : وجه المناسبة أن نقول : قضاء الدين واجب ، ثم الدين نوعان مالي وإنعامي والثاني : أقوى وجوباً ، لأن المالي قد يسقط بالإبراء والثاني : يتأكد بالإبراء ، والمالي يقضي مرة فينجو الإنسان منه والثاني : يجب عليك قضاؤه طول عمرك ، ثم إذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم هو مملوك ، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم العظيم ، فكأن العبد يقول : إلهي أخرجتني من العدم إلى الوجود بشراً سوياً ، طاهر الظاهر نجس الباطن ، بشارة منك أن تستر على ذنوبي بستر عفوك ، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر ، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حد لها ولا حصر ؟
فيقول تعالى الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق عبيدي ما فعلته في حقك ، كنت يتيماً فآويتك فافعل في حق الأيتام ذلك ، وكنت ضالاً فهديتك فافعل في حق عبيدي ذلك ، وكنت عائلاً فأغنيتك فافعل في حق عبيدي ذلك ثم إن فعلت كل ذلك فاعلم أنك إنما فعلتها بتوفيقي لك ولطفي وإرشادي ، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم والألطاف.
جزء : 31 رقم الصفحة : 200
201
أما قوله تعالى : {وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى } فاعلم أن بعض الناس ذهب إلى أنه كان كافراً في أول الأمر ، ثم هداه الله وجعله نبياً ، قال الكلبي : {وَوَجَدَكَ ضَآلا} يعني كافراً في قوم ضلال فهداك للتوحيد ، وقال السدي : كان على دين قومه أربعين سنة ، وقال مجاهد : {وَوَجَدَكَ ضَآلا} عن الهدى لدينه واحتجوا على ذلك بآيات أخر منها قوله : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ} (الشورى : 52) وقوله : {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِه لَمِنَ الْغَـافِلِينَ} (يوسف : 3) وقوله : { لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر : 65) فهذا يقتضي صحة ذلك منه ، وإذا دلت هذه الآية على الصحة وجب حمل قوله : {وَوَجَدَكَ ضَآلا} عليه ، وأما الجمهور من العلماء فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما كفر بالله لحظة واحدة ، ثم قالت المعتزلة : هذا غير جائز عقلاً لما فيه من التنفير ، وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلاً لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافراً فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة ، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع وهو قوله تعالى : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } (النجم : 2) ثم ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً كثيرة أحدها : ما روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وشهر بن حوشب : {وَوَجَدَكَ ضَآلا} عن معالم النعمة / وأحكام الشريعة غافلاً عنها فهداك إليها ، وهو المراد من قوله : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ} (الشورى : 52) وقوله : {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِه لَمِنَ الْغَـافِلِينَ} (يوسف : 3) وثانيها : ضل عن مرضعته حليمة حين أرادت أن ترده إلى جده حتى دخلت إلى هبل وشكت ذلك إليه فتساقطت الأصنام ، وسمعت صوتاً يقول : إنما هلاكنا بيد هذا الصبي ، وفيه حكاية طويلة وثالثها : ما روي مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال : "ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي ضائع ، كاد الجوع يقتلني ، فهداني الله" ذكره الضحاك ، وذكر تعلقه بأستار الكعبة ، وقوله :
جزء : 31 رقم الصفحة : 201
يا رب رد ولدي محمدا
اردده ربي واصطنع عندي يداً
(1/4775)
فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة وبين يديه محمد وهو يقول : لا ندري ماذا نرى من ابنك ، فقال عبد المطلب ولم ؟
قال : إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم ، فلما أركبته أمامي قامت الناقة ، كأن الناقة تقول : يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدى وقال ابن عباس : رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه ورابعها : أنه عليه السلام لما خرج مع غلام خديجة ميسرة أخذ كافر بزمام بعيره حتى ضل ، فأنزل الله تعالى جبريل عليه السلام في صورة آدمي ، فهداه إلى القافلة ، وقيل : إن أبا طالب خرج به إلى الشأم فضل عن الطريق فهداه الله تعالى وخامسها : يقال : ضل الماء في اللبل إذا صار مغموراً ، فمعنى الآية كنت مغموراً بين الكفار بمكة فقواك الله تعالى حتى أظهرت دينه وسادسها : العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة ، كأنه تعالى يقول : كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله ومعرفته إلا أنت ، فأنت ، شجرة فريدة في مفازة الجهل فوجدتك ضالاً فهديت بك الخلق ، ونظيره قوله عليه السلام : "الحكمة ضالة المؤمن" وسابعها : ووجدك ضالاً عن معرفة الله تعالى حين كنت طفلاً صبياً ، كما قال : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا} (النحل : 78) فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة/ والمراد من الضال الخالي عن العلم لا الموصوف بالاعتقاد الخطأ وثامنها : كنت ضالاً عن النبوة ما كنت تطمع في ذلك ولا خطر شيء من ذلك في قلبك ، فإن اليهود والنصارى كانوا يزعمون أن النبوة في بني إسرائيل فهديتك إلى النبوة التي ما كنت تطمع فيها ألبتة وتاسعها : أنه قد يخاطب السيد ، ويكون المراد قومه فقوله : {وَوَجَدَكَ ضَآلا} أي وجد قومك ضلالاً ، فهداهم بك وبشرعك وعاشرها : وجدك ضالاًّ عن الضالين منفرداً عنهم مجانباً لدينهم ، فكلما كان بعدك عنهم أشد كان ضلالهم أشد ، فهداك إلى أن اختلطت بهم ودعوتهم إلى الدين المبين الحادي عشر : وجدك ضالاً عن الهجرة ، متحيراً في يد قريش متمنياً فراقهم وكان لا يمكنك الخروج بدون إذنه تعالى ، فلما أذن له ووافقه الصديق عليه وهداه إلى خيمة أم معبد ، وكان ما كان من حديث سراقه ، وظهور القوة في الدين كان ذلك المراد بقوله : {فَهَدَى } ،
جزء : 31 رقم الصفحة : 201
الثاني عشر : ضالاًّ عن القبلة ، فإنه كان يتمنى أن تجعل الكعبة قبلة له / وما كان يعرف أن ذلك هل يحصل له أم لا ، فهداه الله بقوله : {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } (البقرة : 144) فكأنه سمي ذلك التحير بالضلال الثالث عشر : أنه حين ظهرها له جبريل عليه السلام في أول أمره ما كان يعرف أهو جبريل أم لا ، وكان يخافه خوفاً شديداً ، وربما أراد أن يلقي نفسه من الجبل فهداه الله حتى عرف أنه جبريل عليه السلام الرابع عشر : الضلال بمعنى المحبة كما في قوله : {إِنَّكَ لَفِى ضَلَـالِكَ الْقَدِيمِ} (يوسف : 95) أي محبتك ، ومعناه أنك محب فهديتك إلى الشرائع التي بها تتقرب إلى خدمة محبوبك الخامس عشر : ضالاًّ عن أمور الدنيا لا تعرف التجارة ونحوها ، ثم هديتك حتى ربحت تجارتك ، وعظم ربحت حتى رغبت خديجة فيك ، والمعنى أنه ما كان لك وقوف على الدنيا ، وما كنت تعرف سوى الدين ، فهديتك إلى مصالح الدنيا بعد ذلك السادس عشر : {وَوَجَدَكَ ضَآلا} أي ضائعاً في قومك ؛ كانوا يؤذونك ، ولا يرضون بك رعية ، فقوي أمرك وهداك إلى أن صرت آمراً والياً عليهم السابع عشر : كنت ضالاً ما كنت تهتدي على طريق السموات فهديتك إذ عرجت بك إلى السموات ليلة المعراج الثامن عشر : ووجدك ضالاًّ أي ناسياً لقوله تعالى : {أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا} (البقرة : 282) فهديتك أي ذكرتك ، وذلك أنه ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة ، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال : "لا أحصي ثناء عليك" التاسع عشر : أنه وإن كان عارفاً بالله بقلبه إلا أنه كان في الظاهر لا يظهر لهم خلافاً ، فعبر عن ذلك بالضلال العشرون : روى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك ، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته ، فإني قلت ليلة لغلام من قريش ، كان يرعى معي بأعلى مكة ، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة ، فأسمر بها كما يسمر الشبان ، فخرجت أريد ذلك حتى أتيت أول دار من دور مكة ، فسمعت عزفاً بالدفوف والمزامير ، فقالوا فلان ابن فلان يزوج بفلانة ، فجلست أنظر إليهم وضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس ، قال فجئت صاحبي ، فقال ما فعلت ؟
فقلت ما صنعت شيئاً ، ثم أخبرته الخبر ، قال : ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ، فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس ، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله تعالى برسالته".
جزء : 31 رقم الصفحة : 201
205
(1/4776)
أما قوله تعالى : {وَوَجَدَكَ عَآاـاِلا فَأَغْنَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : العائل هو ذو العيلة ، وذكرنا ذلك عند قوله : {أَلا تَعُولُوا } (النساء : 3) ويدل عليه قوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} (التوبة : 28) ثم أطلق العائل على الفقير ، وإن لم يكن له عيال ، وههنا في تفسير العائل قولان :
الأول : وهو المشهور أن المراد هو الفقير ، ويدل عليه ما روى أنه في مصحف عبد الله : / (ووجدك عديماً) وقرىء عيلاً كما قرىء سيحات ، ثم في كيفية الإغناء وجوه الأول : أن الله تعالى أغناه بتربية أبي طالب ، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه (الله) بمال خديجة ، ولما اختل ذلك أغناه (الله) بمال أبي بكر ، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار ، ثم أمره بالجهاد ، وأغناه بالغنائم ، وإن كان إنما حصل بعد نزول هذه السورة ، لكن لما كان ذلك معلوم الوقوع كان كالواقع ، روي أنه عليه السلام : "دخل على خديجة وهو مغموم ، فقالت له مالك ، فقال : الزمان زمان قحط فإن أنا بذلت المال ينفذ مالك فأستحي منك ، وإن لم أبذل أخاف الله ، فدعت قريشاً وفيهم الصديق ، قال الصديق : فأخرجت دنانير وصبتها حتى بلغت مبلغاً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي لكثرة المال ، ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله إن شاء فرقه ، وإن شاء أمسكه" الثاني : أغناه بأصحابه كانوا يعبدون الله سراً حتى قال عمر حين أسلم : أبرز أتعبد اللات جهراً ونعبد الله سراً! فقال عليه السلام : حتى تكثر الأصحاب ، فقال حسبك الله وأنا فقال تعالى : {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال : 64) فأغناه الله بمال أبي بكر ، وبهيبة عمر" الثالث : أغناك بالقناعة فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب ، لا تجد في قلبك سوى ربك ، فربك غني عن الأشياء لا بها ، وأنت بقناعتك استغنيت عن الأشياء ، وإن الغنى الأعلى الغنى عن الشيء لا به ، ومن ذلك أنه عليه السلام خير بين الغنى والفقر ، فاختار الفقر الرابع : كنت عائلاً عن البراهين والحجج ، فأنزل الله عليك القرآن ، وعلمك مالم تكن تعلم فأغناك.
القول الثاني في تفسير العائل : أنت كنت كثير العيال وهم الأمة ، فكفاك. وقيل فأغناهم بك لأنهم فقراء بسبب جهلهم ، وأنت صاحب العلم ، فهداهم على يدك ، وههنا سؤالات.
جزء : 32 رقم الصفحة : 205
السؤال الأول : ما الحكمة في أنه تعالى اختار له اليتم ؟
قلنا فيه وجوه أحدها : أن يعرف قدر اليتامى فيقوم بحقهم وصلاح أمرهم ، ومن ذلك كان يوسف عليه السلام لا يشبع. فقيل له في ذلك : فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع وثانيها : ليكون اليتيم مشاركاً له في الاسم فيكرم لأجل ذلك ، ومن ذلك قال عليه السلام : "إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه ، ووسعوا له في المجلس" وثالثها : أن من كان له أب أو أم كان اعتماده عليهما ، فسلب عنه الولدان حتى لا يعتمد من أول صباه إلى آخر عمره على أحد سوى الله ، فيصير في طفوليته متشبهاً بإبراهيم عليه السلام في قوله : حسبي من سؤالي ، علمه بحالي ، وكجواب مريم : {أَنَّى لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّه } (آل عمران : 37). ورابعها : أن العادة جارية بأن اليتيم لا تخفى عيوبه بل تظهر ، وربما زادوا على الموجود فاختار تعالى له اليتيم ، ليتأمل كل أحد في أحواله ، ثم لا يجدوا عليه عيباً فيتفقون على نزاهته ، فإذا اختاره الله للرسالة لم يجدوا عليه مطعناً وخامسها : جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته من الله ابتداء لأن الذي له أب ، فإن أباه يسعى في تعليمه وتأديبه وسادسها : أن اليتم والفقر نقص في حق / الخلق ، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام/ مع هذين الوصفين أكرم الخلق ، كان ذلك قلباً للعادة ، فكان من جنس المعجزات.
السؤال الثاني : ما الحكمة في أن الله ذكر هذه الأشياء ؟
الجواب : الحكمة أن لا ينسى نفسه فيقع في العجب.
السؤال الثالث : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها ، قلت : اتخذت إبراهيم خليلاً ، وكلمت موسى تكليماً ، وسخرت مع داود الجبال ، وأعطيت سليمان كذا وكذا ، وأعطيت فلاناً كذا وكذا ، فقال : ألم أجدك يتيماً فآويتك ؟
ألم أجدك ضالاًّ فهديتك ؟
ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ؟
قلت : بلى. فقال : ألم أشرح لك صدرك ؟
قلت : بلى ، قال : ألم أرفع لك ذكرك ؟
قلت : بلى قال : ألم أصرف عنك وزرك ؟
قلت : بلى ، ألم أوتك مالم أوت نبياً قبلك وهي خواتيم سورة البقرة ؟
أم أتخذك خليلاً كما اتخذت إبراهيم خليلاً ؟
" فهل يصح هذا الحديث قلنا : طعن القاضي في هذا الخبر فقال : إن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون مثل ذلك إلا عن إذن ، فكيف يصح أن يقع من الرسول مثل هذا السؤال. ويكون منه تعالى ما يجري مجرى المعاتبة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 205
205
(1/4777)
وقرىء فلا تكهر ، أي لا تعبس وجهك إليه ، والمعنى عامله بمثل ما عاملتك به ، ونظيره من وجه : {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (القصص : 77) ومنه قوله عليه السلام : "الله الله فيمن ليس له إلا الله" وروي : أنها نزلت حين صاح النبي صلى الله عليه وسلّم على ولد خديجة ومنه حديث موسى عليه السلام حين : "قال : إلهي بم نلت ما نلت ؟
قال : أتذكر حين هربت منك السخلة ، فلما قدرت عليها قلت : أتعبت نفسك ثم حملتها ، فلهذا السبب جعلتك ولياً على الخلق ، فلما نال موسى عليه السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم ، وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسية في الوجه ، فكيف إذا أذله أو أكل ماله ، عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام : "إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن ، ويقول تعالى : من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده التراب ، من أسكته فله الجنة".
جزء : 32 رقم الصفحة : 205
206
ثم قال تعالى : {وَأَمَّا السَّآا ِلَ فَلا تَنْهَرْ} يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره ، وفي المراد من السائل قولان : أحدهما : وهو اختيار الحسن أن المراد منه من يسأل العلم ونظيره من وجه : {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءَهُ الاعْمَى } (عبس : 1 ، 2) وحينئذ يحصل الترتيب ، لأنه تعالى قال له أولاً : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاَاوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَآا ِلا فَأَغْنَى } (الضحى : 6 ، 8) ثم اعتبر هذا الترتيب ، فأوصاه برعاية حق اليتيم ، ثم برعاية حق من يسأله عن العلم والهداية ، ثم أوصاه بشكر نعم الله عليه / والقول الثاني : أن المراد مطلق السائل ولقد عائب الله رسوله في القرآن في شأن الفقراء في ثلاثة مواضع أحدها : أنه كان جالساً وحوله صناديد قريش ، إذ جاء ابن أم مكتوم الضرير ، فتخطى رقاب الناس حتى جلس بين يديه ، وقال : علمني مما علمك الله ، فشق ذلك عليه فعبس وجهه فنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى } (عبس : 1) ، والثاني : حين قالت له قريش : لو جعلت لنا مجلساً وللفقراء مجلساً آخر فهم أن يفعل ذلك فنزل قوله : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} (الكهف : 28) والثالث : كان جالساً فجاءه عثمان بعذق من ثمر فوضعه بين يديه فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب ، فقال : رحم الله عبداً يرحمنا ، فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك ، وأراد أن يأكله النبي عليه السلام فخرج واشتراه من السائل ، ثم رجع السائل ففعل ذلك ثلاث مرات ، وكان يعطيه النبي عليه السلام إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلّم : أسائل أنت أم بائع ؟
فنزل : {وَأَمَّا السَّآا ِلَ فَلا تَنْهَرْ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 206
208
ثم قوله تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وفيه وجوه أحدها : قال مجاهد : تلك النعمة هي القرآن ، فإن القرآن أعظم ما أنعم الله به على محمد عليه السلام ، والتحديث به أن يقرأه ويقرىء غيره ويبين حقائقه لهم وثانيها : روي أيضاً عن مجاهد : أن تلك النعمة هي النبوة ، أي بلغ ما أنزل إليك من ربك وثالثها : إذا وفقك الله فراعيت حق اليتيم والسائل ، وذلك التوفيق نعمة من الله عليك فحدث بها ليقتدي بك غيرك ، ومنه ما روي عن الحسين بن علي عليه السلام أنه قال : إذا عملت خيراً فحدث إخوانك ليقتدوا بك ، إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء ، وظن أن غيره يقتدي به ، ومن ذلك لما سئل أمير المؤمنين علي عليه السلام عن الصحابة فأثنى عليهم وذكر خصالهم ، فقالوا له : فحدثنا عن نفسك فقال : مهلاً ، فقد نهى الله عن التزكية فقيل له : أليس الله تعالى يقول : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} فقال : فإني أحدث ، كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت ، وبين الجوانح علم جم فاسألوني ، فإن قيل : فما الحكمة في أن أخر الله تعالى حق نفسه عن حق اليتيم والعائل ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : كأنه يقول أنا غني وهما محتاجان وتقديم حق المحتاج أولى وثانيها : أنه وضع في حظهما الفعل ورضي لنفسه بالقول وثالثها : أن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله تعالى ، فجعل خاتمة هذه الطاعات تحدث القلب واللسان بنعم الله تعالى حتى تكون ختم الطاعات على ذكر الله ، واختار قوله : {فَحَدِّثْ} على قوله فخبر ، ليكون ذلك حديثاً عند لا ينساه ، ويعيده مرة بعد أخرى ، والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 208
208
(1/4778)
سورة الشرح
ثمان آيات مكية
يروى عن طاووس وعمر بن عبدالعزيز أنهما كانا يقولان هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} كالعطف على قوله : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} وليس كذلك لأن الأول : كان نزوله حال اغتمام الرسول صلى الله عليه وسلّم من إيذاء الكفار فكانت حال محنة وضيق صدر والثاني : يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب ، فأنى يجتمعان.
جزء : 32 رقم الصفحة : 208
209
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ، فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ، وفي شرح الصدر قولان :
الأول : ما روى أن جبريل عليه السلام أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علماً وإيماناً ووضعه في صدره.
واعلم أن القاضي طعن في هذه الرواية من وجوه : أحدها : أن الرواية أن هذه الواقعة إنما وقعت في حال صغره عليه السلام وذلك من المعجزات ، فلا يجوز أن تتقدم نبوته وثانيها : أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام ، والمعاصي ليست بأجسام فلا يكون للغسل فيها أثر ثالثها : أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً ، بل الله تعالى يخلق فيه العلوم والجواب : عن الأول : أن تقويم المعجز على زمان البعثة جائز عندنا ، وذلك هو المسمى بالإرهاص ، ومثله في حق الرسول عليه السلام كثير.
وأما الثاني والثالث : فلا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول عليه السلام علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي ، ويحجم عن الطاعات ، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لكون صاحبه مواظباً على الطاعات محترزاً عن السيئات ، فكان ذلك كالعلامة للملائكة على كون صاحبه معصوماً ، وأيضاً فلأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
/ والقول الثاني : أن المراد من شرح الصدر ما يرجع إلى المعرفة والطاعة ، ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها : أنه عليه السلام لما بعث إلى الجن والإنس فكان يضيق صدره عن منازعة الجن والإنس والبراءة من كل عابد ومعبود سوى الله ، فآتاه الله من آياته ما اتسع لكل ما حمله وصغره عنده كل شيء احتمله من المشاق ، وذلك بأن أخرج عن قلبه جميع الهموم وما ترك فيه إلا هذا الهم الواحد ، فما كان يخطر بباله هم النفقة والعيال ، ولا يبالي بما يتوجه إليه من إيذائهم ، حتى صاروا في عينه دون الذباب لم يجبن خوفاً من وعيدهم ، ولم يمل إلى مالهم ، وبالجملة فشرح الصدر عبارة عن علمه بحقارة الدنيا وكما الآخرة ، ونظيره قوله : {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَه لِلاسْلَامِا وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا حَرَجًا} وروى أنهم قالوا : يا رسول الله أينشرح الصدر ؟
قال : نعم ، قالوا : وما علامة ذلك ؟
قال : "التجافي عن الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإعداد للموت قبل نزوله" وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والاستعداد للموت وثانيها : أنه انفتح صدره حتى أنه كان يتسع لجميع المهمات لا يقلق ولا يضجر ولا يتغير ، بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف به ، والشرح التوسعة ، ومعناه الإراحة من الهموم ، والعرب تسمى الغم والهم ضيق صدر كقوله : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} وههنا سؤالات :
جزء : 32 رقم الصفحة : 209
الأول : لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب ؟
والجواب : لأن محل الوسوسة هو الصدر على ما قال : {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح ، فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب ، وقال محمد بن علي الترمذي : القلب محل العقل والمعرفة ، وهو الذي يقصده الشيطان ، فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب ، فإذا وجد مسلكاً أغار فيه ونزل جنده فيه ، وبث فيه من الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حيئنذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة ، وإذا طرد العدو في الابتداء منع وحصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية.
السؤال الثاني : لم قال : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ولم يقل ألم نشرح صدرك ؟
والجواب : من وجهين أحدهما : كأنه تعالى يقول لام بلام ، فأنت إنما تفعل جميع الطاعات لأجلي كما قال : {فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواةَ لِذِكْرِى } فأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك وثانيها : أن فيها تنبيهاً على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه السلام ، كأنه تعالى قال : إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي.
(1/4779)
السؤال الثالث : لم قال : {أَلَمْ نَشْرَحْ} ولم يقل ألم أشرح ؟
والجواب : إن حملناه على نون التعظيم ، فالمعنى أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة ، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة لا تصل العقول إلى كنه جلالتها ، وإن حملناه على نون الجميع ، فالمعنى كأنه تعالى يقول : لم أشرحه وحدي بل أعملت فيه ملائكتي ، فكنت ترى الملائكة حواليك وبين يديك حتى يقوي قلبك ، فأديت / الرسالة وأنت قوي القلب ولحقتهم هيبة ، فلم يجيبوا لك جواباً ، فلو كنت ضيق القلب لضحكوا منك ، فسبحان من جعل قوة قلبك جبناً فيهم ، وانشراح صدرك ضيقاً فيهم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 209
209
ثم قال تعالى : {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المبرد : هذا محمول على معنى ألم نشرح لا على لفظه ، لأنك لا تقول ألم وضعنا ولكن معنى ألم نشرح قد شرحنا ، فحمل الثاني على معنى الأول لا على ظاهر اللفظ ، لأنه لو كان معطوفاً على ظاهره لوجب أن يقال : ونضع عنك وزرك.
المسألة الثانية : معنى الوزر ثقل الذنب ، وقد مر تفسيره عند قوله : {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} وهو كقوله تعالى : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .
وأما قوله : {أَنقَضَ ظَهْرَكَ} فقال علماء اللغة : الأصل فيه أن الظهر إذا أثقل الحمل سمع له نقيض أي صوت خفي ، وهو صوت المحامل والرحال والأضلاع ، أو البعير إذا أثقله الحمل فهو مثل لما كان يثقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أوزاره.
المسألة الرابعة : احتج بهذه الآية من أثبت المعصية للأنبياء عليهم السلام والجواب : عنه من وجهين الأول : أن الذين يجوزون الصغائر على الأنبياء عليهم السلام حملوا هذه الآية عليها ، لا يقال : إن قوله : {الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} يدل على كونه عظيماً. فكيف يليق ذلك بالصغائر ، لأنا نقول : إنما وصف ذلك بإنقاض الظهر مع كونها مغفورة لشدة اعتمام النبي صلى الله عليه وسلّم بوقوعه منه وتحسره مع ندمه عليه ، وأما إنما وصفه بذلك لأن تأثيره فيما يزول به من الثواب عظيم ، فيجوز لذلك ما ذكره الله تعالى. هذا تقرير الكلام على قول المعتزلة وفيه إشكال ، وهو أن العفو عن الصغيرة واجب على الله تعالى عند القاضي ، والله تعالى ذكر هذه الآية في معرض الامتنان ، ومن المعلوم أن الامتنان بفعل الواجب غير جائز الوجه الثاني : أن يحمل ذلك على غير الذنب ، وفيه وجوه أحدها : قال قتادة : كانت للنبي صلى الله عليه وسلّم ذنوب سلفت منه في الجاهلية قبل النبوة ، وقد أثقلته فغفرها له وثانيها : أن المراد منه تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها وحفظ موجباتها والمحافظة على حقوقها ، فسهل الله تعالى ذلك عليه ، وحط عنه ثقلها بأن يسرها عليه حتى تيسرت له وثالثها : الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل. وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله ، وقال له :
جزء : 32 رقم الصفحة : 209
(1/4780)
{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . ورابعها : أنها ذنوب أمته صارت كالوزر عليه ، ماذا يصنع في حقهم إلى أن قال : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } فأمنه من العذاب في العاجل ، ووعد له الشفاعة في الآجل وخامسها : معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك ، لو كان ذلك الذنب حاصلاً ، فسمى العصمة وضعاً مجازاً ، فمن ذلك ما روى أنه حضر وليمة / فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع ، فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد وسادسها : الوزر ما أصابه من الهيبة والفزع في أول ملاقاة جبريل عليه السلام ، حين أخذته الرعدة ، وكاد يرمي نفسه من الجبل ، ثم تقوى حتى ألفه وصار بحالة كاد يرمي بنفسه من الجبل لشدة اشتياقه وسابعها : الوزر ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقض ظهره وتأخذه الرعدة ، ثم قواه الله تعالى حتى صار بحيث كانوا يدمون وجهه ، و(هو) يقول : "اللهم اهد قومي" وثامنها : لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة ، فلقد كان فراقهما عليه وزراً عظيماً ، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياة فارتفع له الذكر ، فلذلك قال : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وتاسعها : أن المراد من الوزر والثقل الحيرة التي كانت له قبل البعثة ، وذلك أنه بكمال عقله لما نظر إلى عظيم نعم الله تعالى عليه ، حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة والعقل وأنواع النعم ، ثقل عليه نعم الله وكاد ينقض ظهره من الحياء ، لأنه عليه السلام كانيرى أن نعم الله عليه لا تنقطع ، وما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه ، فلما جاءته النبوة والتكليف وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه ، فحيئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال ، فإن اللئيم لا يستحي من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة ، والإنسان الكريم النفس إذا كثر الإنعام عليه وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة ، فإنه يثقل ذلك عليه جداً ، بحيث يميته الحياة ، فإذا كلفه المنعم بنوع خدمه سهل ذلك عليه وطاب قلبه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 209
210
ثم قال تعالى : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .
واعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة ، وشهرته في الأرض والسموات ، اسمه مكتوب على العرش ، وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد ، وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة ، وانتشار ذكره في الآفاق ، وأنه ختمت به النبوة ، وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل ، وعند الختم وجعل ذكره في القرآن مقروناً بذكره : {وَاللَّهُ وَرَسُولُه ا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه } و{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ويناديه باسم الرسول والنبي ، حين ينادي غيره بالاسم يا موسى يا عيسى ، وأيضاً جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى : {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا} كأنه تعالى يقول : أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك ، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعه سنة فهم يمتثلون في الفريضة أمري ، وفي السنة أمرك وجعلت طاعتك طاعتي وبيعتك بيعتي {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لا تأنف السلاطين من أتباعك ، بل جراءة لأجهل الملوك أن ينصب خليفة من غير قبيلتك ، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك ، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك ، والوعاظ يبلغون وعظك / بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك ، ويسلمون من وراء الباب عليك ، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك ، ويرجون شفاعتك ، فشرفك باق إلى يوم القيامة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 210
210
قال تعالى : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن المشركين كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالفقر ، ويقولون : إن كان غرضك من هذا الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة ، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى سبق إلى وهمه أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيرًا عندهم ، فعدد الله تعالى عليه مننه في هذه السورة ، وقال : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية ، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل عن قلبه ما حصل فيه من التأذي بسبب أنهم عيروه بالفقر ، والدليل عليه دخول الفاء في قوله : {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} كأنه تعالى قال لا يحزنك ما يقول وما أنت فيه من القلة ، فإنه يحصل في الدنيا يسر كامل.
(1/4781)
المسألة الثانية : قال ابن عباس : يقول الله تعالى : خلقت عسراً واحداً بين يسرين ، فلن يغلب عسر يسرين ، وروى مقاتل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : "لن يغلب عسر يسرين" وقرأ هذه الآية ، وفي تقرير هذا المعنى وجهان الأول : قال الفراء والزجاج : العسر مذكور بالألف واللام ، وليس هناك معهود سابق فينصرف إلى الحقيقة ، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئاً واحداً. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير ، فكان أحدهما غير الآخر ، وزيف الجرجاني هذا وقال : إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفاً ، إن مع الفارس سيفاً ، يلزم أن يكون هناك فارس واحد ومعه سيفان ، ومعلوم أن ذلك غير لازم من وضع العربية الوجه الثاني : أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى ، كما كرر قوله : {وَيْلٌ يَوْمَا ِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ويكون الغرض تقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب ، كما يكرر المفرد في قولك : جاءني زيد زيد ، والمراد من اليسرين : يسر الدنيا وهو ما تيسر من استفتاح البلاد ، ويسر الآخرة وهو ثواب الجنة ، لقوله تعالى : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } وهما حسن الظفر وحسن الثواب ، فالمراد من قوله : "لن يغلب عسر يسرين" هذا ، وذلك لأن عمر الدنيا بالنسبة إلى يسر الدنيا ، ويسر الآخرة كالمغمور القليل ، وههنا سؤالان.
جزء : 32 رقم الصفحة : 210
الأول : ما معنى التنكير في اليسر ؟
جوابه : التفخيم ، كأنه قيل : إن مع اليسر يسراً ، إن مع العسر يسراً عظيماً ، وأي يسر.
السؤال الثاني : اليس لا يكون مع العسر ، لأنهما ضدان فلا يجتمعان الجواب : لما / كان وقوع اليسر بعد العسر بزمان قليل ، كان مقطوعاً به فجعل كالمقارن له.
جزء : 32 رقم الصفحة : 210
212
ثم قال تعالى : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} وجه تعلق هذا بما قبله أنه تعالى لما عدد عليه نعمه السالفة ، ووعدهم بالنعم الآتية ، لا جرم بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة ، فقال : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي فاتعب يقال : نصب ينصب ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك ، وقال الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك ، وقال مجاهد : إذا فرغت من أمر دنياك فانصب وصل ، وقال عبد الله : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، وقال الحسن : إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة ، وقال علي بن أبي طلحة : إذا كنت صحيحاً فانصب ، يعني اجعل فراغك نصباً في العبادة يدل عليه ما روى أن شريحاً مر برجلين يتصارعان ، فقال : الفارغ ما أمر بهذا إنما قال الله : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} وبالجملة فالمعنى أن يواصل بين بعض العبادات وبعض ، وأن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها ، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى.
جزء : 32 رقم الصفحة : 212
212
وأما قوله تعالى : {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} ففيه وجهان أحدهما : اجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه وثانيها : ارغب في سائر ما تلتمسه ديناً ودنيا ونصرة على الأعداء إلى ربك ، وقرىء فرغب أي رغب الناس إلى طلب ما عنده ، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 212
213
(1/4782)
سورة التين
وهي ثمان آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 213
213
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَاذَا الْبَلَدِ الامِينِ} .
اعلم أن الإشكال هو أن التين والزيتون ليسا من الأمور الشريفة ، فكيف يليق أن يقسم الله تعالى بهما ؟
فلأجل هذا السؤال حصل فيه قولان :
الأول : أن المراد من التين والزيتون هذان الشيآن المشهوران ، قال ابن عباس : هو تينكم وزيتونكم هذا ، ثم ذكروا من خواص التين والزيتون أشياء.
أما التين فقالوا إنه غذاء وفاكهة ودواء ، أما كونه غذاء فالأطباء زعموا أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يلين الطبع ويخرج الترشح ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال وهو خير الفواكه وأحمدها ، وروى أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم طبق من تين فأكل منه ، ثم قال لأصحابه : "كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس" وعن علي بن موسى الرضا عليهما السلام : التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج ، وأما كونه دواء ، فلأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن.
واعلم أن لها بعدما ذكرنا خواص : أحدها : أن ظاهرها كباطنها ليست كالجوز ظاهره قشر ولا كالتمر باطنه قشر ، بل نقول : إن من الثمار ما يخبث ظاهره ويطيب باطنه ، كالجوز والبطيخ ومنه ما يطيب ظاهره دون باطنه كالتمر والإجاص.
جزء : 32 رقم الصفحة : 213
أما التين فإنه طيب الظاهر والباطن وثانيها : أن الأشجار ثلاثة : شجرة تعد وتخلف وهي شجرة الخلاف ، وثانية تعد وتفي وهي التي تأتي بالنور أولاً بعده بالثمر كالتفاح وغيره ، وشجرة تبذل قبل الوعد ، وهي التين لأنها تخرج الثمرة قبل أن تعد بالورد ، بل لو غيرت العبارة لقلت هي شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى ، بل لك أن تقول : إنها شجرة تخرج الثمرة قبل أن تلبس نفسها بورد أو بورق ، والتفاح والمشمش وغيرهما تبدأ بنفسها ، ثم بغيرها ، أما شجرة التين فإنها تهتم بغيرها / قبل اهتمامها بنفسها ، فسائر الأشجار كأرباب المعاملة في قوله عليه السلام : "ايد بنفسك ثم بمن تعول" وشجرة التين كالمصطفى عليه السلام كان يبدأ بغيره فإن فضل صرفه إلى نفسه ، بل من الذين أنثى الله عليهم في قوله : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى ا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ، وثالثها : أن من خواص هذه الشجرة أن سائر الأشجار إذا اسقطت الثمرة من موضعها لم تعد في تلك السنة ، إلا التين فإنه يعيد البذر وربما سقط ثم يعود مرة أخرى ورابعها : أن التين في النوم رجل خير غني فمن نالها في المنام نال مالاً وسعة ، ومن أكلها رزقه الله أولاداً وخامسها : روى أن آدم عليه السلام لما عصى وفارقته ثيابه تستر بورق التين ، وروى أنه لما نزل وكان متزراً بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين ، فرزقها الله الجمال صورة والملاحة معنى وغير دمها مسكاً ، فلما تفرقت الظباء إلى مساكنها رأى غيرها عليها من الجمال ما أعجبها ، فلما كانت من الغد جاءت الظباء على أثر الأولى إلى آدم فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال دون المسك ، وذلك لأن الأولى جاءت لآدم لا إجل الطمع والطائفة الأخرى جاءت للطمع سراً وإلى آدم ظاهرة ، فلا جرم غير الظاهر دون الباطن ، وأما الزيتون فشجرته هي الشجرة المباركة فاكهة من وجه وإدام من وجه ودواء من وجه ، وهي في أغلب البلاد لا تحتاح إلى تربية الناس ، ثم لا تقتصر منفعتها غذاء بدنك ، بل هي غذاء السراج أيضاً وتولدها في الجبال التي لا توجد فيها شيء من الدهنية البتة/ وقيل : من أخذ ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى ، وقال مريض لابن سيرين : رأيت في المنام كأنه قيل لي : كل اللامين تشف ، فقال : كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية ، ثم قال المفسرون : التي والزيتون اسم لهذين المأكولين وفيهما هذه المنافع الجليلة ، فوجب إجراء اللفظ على الظاهر ، والجزم بأن الله تعالى أقسم بهما لما فيهما هذه المصالح والمنافع.
جزء : 32 رقم الصفحة : 213
القول الثاني : أنه ليس المراد هاتين الثمرتين ، ثم ذكروا وجوهاً أحدها : قال ابن عباس : هما جبلان من الأرض المقدسة ، يقال لهما : بالسريانية طور تيناً ، وطور زيتاً ، لأنهما منبتاً التين والزيتون ، فكأنه تعالى أقسم بمنابت الأنبياء ، فالجبل بالتين لعيسى عليه السلام. والزيتون الشأم مبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل ، والطور مبعث موسى عليه السلام ، والبلد الأمين مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم ، فيكون المراد من القسم في الحقيقة تعظيم الأنبياء وإعلاء درجاتهم وثانيها : أن المراد من التين والزيتون مسجدان ، ثم قال ابن زيد : التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس ، وقال آخرون : التين مسجد أصحاب أهل الكف ، والزيتون مسجد إيليا ، وعن ابن عباس التين مسجد نوح المبني على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، والقائلون بهذا القول إنما ذهبوا إليه لأن القسم بالمسجد أحسن لأنه موضع العبادة والطاعة ، فلما كانت هذه المساجد في هذه المواضع التي يكثر فيها التين والزيتون ، لا جرم اكتفى بذكر التين والزيتون وثالثها : / المراد من التين والزيتون بلدان ، فقال كعب : التين دمشق والزيتون بيت المقدس ، وقال شهر بن حوشب : التين الكوفة ، والزيتون الشام ، وعن الربيع هما جبلان بين همدان وحلوان ، والقائلون بهذا القول ، إنما ذهبوا إليه لأن اليهود والنصارى والمسلمين ومشركي قريش كل واحد منهم يعظم بلدة من هذه البلاد ، فالله تعالى أقسم بهذه البلاد بأسرها ، أو يقال : إن دمشق وبيت المقدس فيهما نعم الدنيا ، والطور ومكة فيهما نعم الدين.
(1/4783)
أما قوله تعالى : {وَطُورِ سِينِينَ} فالمراد من {الطُّورِ} الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه ، واختلفوا في {سِينِينَ} والأولى عند النحويين أن يكون سينين وسينا اسمين للمكان الذي حصل فيه الجبل أو ضيفاً إلى ذلك المكان ، وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عكرمة : {الطُّورِ} الجبل الحسن بلغة الحبشة ، وقال مجاهد : {وَطُورِ سِينِينَ} المبارك ، وقال الكلبي : هو الجبل المشجر ذو الشجر ، وقال مقاتل : كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط قال الواحدي : والأولى أن يكون سينين اسماً للمكان الذي به الجبل ، ثم لذلك سمي سينين أو سيناً لحسنه أو لكونه مباركاً ، ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه.
أما قوله تعالى : {وَهَـاذَا الْبَلَدِ الامِينِ} فالمراد مكة والأمين : الآمن قال صاحب الكشاف : من أمن الرجل أمانة فهو أمين وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ، ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل ، كما وصف بالأمن في قوله : {حَرَمًا ءَامِنًا} يعني ذا أمن ، وذكروا في كونه أميناً وجوهاً أحدها : أن الله تعالى حفظه عن الفيل على ما يأتيك شرحه إن شاء الله تعالى وثانيها : أنها تحفظ لك جميع الأشياء فمباح الدم عند الالتجاء إليها آمن من السباع والصيود تستفيد منها الحفظ عند الالتجاء إليها وثالثها : ما روى أن عمر كان يقبل الحجر ، ويقول : إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقبلك ما قبلتك ، فقال له علي عليه السلام : إما أنه يضر وينفع إن الله تعالى لما أخذ على ذرية آدم الميثاق كتبه في رق أبيض/ وكان لهذا الركن يومئذ لسان وشفتان وعينان ، فقال : افتح فاك فألقمه ذلك الرق وقال : تشهد لمن وافاك بالموافاة إلى يوم القيامة ، فقال عمر : لأبقيت في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
جزء : 32 رقم الصفحة : 213
213
المراد من الإنسان هذه الماهية والتقويم تصبير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التألف والتعديل ، يقال : قومته تقويماً فاستقام وتقوم ، وذكروا في شرح ذلك الحسن وجوهاً أحدها : أنه تعالى خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلا الإنسان فإنه تعالى خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده وقال الأصم : في أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان ، والحاصل أن القول الأول راجع إلى الصورة الظاهرة ، والثاني إلى / السيرة الباطنة ، وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة ، فإنه حكى أن ملك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة ، فقال : إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت كذا ، فأفتى الكل بالحنث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال : لا يحنث ، فقيل له : خالفت شيوخك ، فقال : الفتوى بالعلم ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى فإنه يقوله : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وكان بعض الصالحين يقول : إلهنا أعطيتنا في الأولى أحسن الأشكال ، فأعطنا في الآخرة أحسن الفعال ، وهو العفو عن الذنوب ، والتجاوز عن العيوب.
جزء : 32 رقم الصفحة : 213
215
أما قوله تعالى : {ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ} ففيه وجهان : الأول : قال ابن عباس : يريد أرذل العمر ، وهو مثل قوله : يرد إلى أرذل العمر ، قال ابن قتيبة : السافلون هم الضعفاء والزمني ، ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلاً ، يقال : سفل يسفل فهو سافل وهم سافلون ، كما يقال : علا يعلو فهو عال وهم عالون ، أراد أن الهرم يخرف ويضعف سمعه وبصره وعقله وتقل حيلته ويعجز عن عمل الصالحات ، فيكون أسفل الجميع ، وقال الفراء : ولو كانت أسفل سافل لكان صواباً ، لأن لفظ الإنسان واحد ، وأنت تقول : هذا أفضل قائم ولا تقول : أفضل قائمين ، إلا أنه قيل : سافلين على الجمع لأن الإنسان في معنى جمع فهو كقوله : {وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه ا أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال : {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ} .
والقول الثاني : ما ذكره مجاهد والحسن ثم رددناه إلى النار ، قال علي عليه السلام : وضع أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل سافلين ، وعلى هذا التقدير فالمعنى ثم رددناه إلى أسفل سافلين إلى النار.
جزء : 32 رقم الصفحة : 215
215
أما قوله تعالى : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} فاعلم أن هذا الاستثناء على القول الأول منقطع ، والمعنى ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله أياهم بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة وعلى تخاذل نهوضهم ، وأما على القول الثاني فالاستثناء متصل ظاهر الاتصال.
(1/4784)
أما قوله تعالى : {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ففيه قولان : أحدهما : غير منقوص ولا مقطوع وثانيهما : أجر غير ممنون أي لا يمن به عليهم ، وأعلم أن كل ذلك من صفات الثواب ، لأنه يجب أن يكون غير منقطع وأن لا يكون منعصاً بالمنة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 215
215
ثم قال تعالى : {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} وفيه سؤالان :
/ الأولى : من المخاطب بقوله : {فَمَا يُكَذِّبُكَ} ؟
الجواب فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب للإنسان على طريقة الالتفات ، والمراد من قوله : {فَمَا يُكَذِّبُكَ} أن كل من أخبر عن الواقع بأنه لا يقع فهو كاذب ، والمعنى فما الذي يلجئك إلى هذا الكذب والثاني : وهو اختيار الفراء أنه خطاب مع محمد صلى الله عليه وسلّم ، والمعنى فمن يكذبك يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل بالدين.
السؤال الثاني : ما وجه التعجب ؟
الجواب : أن خلق الإنسان من النطفة وتقويمع بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ، تم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر دليل واضح على قدرة الخالقة على الحشر والنشر ، فمن شاهد هذه الحالة ثم بقي مصراً على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 215
217
ثم قال تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسيره وجهين أحدهما : أن هذا تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان ثم رده إلى أرذل العمر ، يقول الله تعالى : أليس الذي فعل ذلك بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً ، وإذا ثبتت القدرة والحكمة بهذه الدلالة صح القول بإمكان الحشر ووقوعه ، أما الإمكان فبالنظرة إلى القدرة ، وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة ، كما قال تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } . والثاني : أن هذا تنبيه من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأنه يحكم بينه وبين خصومه يوم القيامة بالعدل.
المسألة الثانية : قال القاضي : هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم ، فإنه لو كان الفاعل لأفعال العباد هو الله تعالى لكان كل سفه وكل أمر بسفه وكل ترغيب في سفه فهو من الله تعالى ومن كان كذلك فهو أسفه السفهاء ، كما أنه لا حكمة ولا أمر بالحكمة ولا ترغيب في الحكمة إلا من الله تعالى ، ومن كان كذلك فهو أحكم الحكماء ، ولما ثبت في حقه تعال الأمران لم يكن وصفه بأنه أحكم الحكماء أولى من وصفه بأنه أسفه السفهاء. ولما امتنع هذا الوصف في حقه تعالى علمنا أنه ليس خالقاً لأفعال العباد والجواب : المعارضة بالعلم والداعي ، ثم نقول : السفيه من قامت السفاهة به لا من خلق السفاهة ، كما أن المتحرك والساكن من قامت الحركة والسكون به لا من خلقهما ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 217
219
(1/4785)
سورة العلق
تسع عشرة آية مكية
زعم المفسرون : أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن وقال آخرون : الفاتحة أول ما نزل ثم سورة العلق.
جزء : 32 رقم الصفحة : 219
219
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} اعلم أن في الباء من قوله : {بِاسْمِ رَبِّكَ} قولين : أحدهما : قال أبو عبيدة : الباء زائدة ، والمعنى : اقرأ اسم ربك ، كما قال الأخطل :
هن الحرائر لا ربات أخمرة
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ومعنى اقرأ اسم ربك ، أي أذكر اسمه ، وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها : أنه لو كان معناه اذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول : ما أنا بقارىء ، أي لا أذكر اسم ربي وثانيها : أن هذا الأمر لا يليق بالرسول ، لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله ، فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولاً به أبداً وثالثها : أن فيه تضييع الباء من غير فائدة.
القول الثاني : أن المراد من قوله : {اقْرَأْ} أي اقرأ القرآن ، إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه قال تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَه } وقال : {وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وقوله : {بِاسْمِ رَبِّكَ} يحتمل وجوهاً أحدها : أن يكون محل باسم ربك النصب على الحال فيكون التقدير : اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك أي قل : باسم الله ثم اقرأ ، وفي هذا دلالة على أنه يجب قراءة التسمية في ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به ، وفي هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجباً ولا يبتدىء بها وثانيها : أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعيناً باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا ، نظيره كتبت بالقلم ، وتحقيقه أنه لما قال له : {اقْرَأْ} فقال له : لست بقارىء ، فقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك وثالثها : أن قوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول : بنيت هذه الدار باسم الأمير وصنعت هذا الكتاب باسم الوزير ولأجله ، فإن العبادة / إذا صارت لله تعالى ، فكيف يجترىء الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى ؟
فإن قيل : كيف يستمر هذا التأويل في قولك : قبل الأكل بسم الله ، وكذا قبل كل فعل مباح ؟
قلنا : فيه وجهان أحدهما : أن ذلك إضافة مجازبة كما تضيف مجازية كما تضيف ضيعتك إلى بعض الكبار لتدفع بذلك ظلم الظلمة ، كذا تضيف فعلك إلى الله ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك ، فقد روى أن من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في ذلك الطعام والثاني : أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى على طاعة الله فيصير المباح طاعة فيصح ذلك التأويل فيه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 219
أما قوله : {رَبِّكَ} ففيه سؤالان :
أحدها : وهو أن الرب من صفات الفعل ، والله من أسماء الذات وأسماء الذات أشرف من أسماء الفعل ، ولأنا قد دللنا بالوجوه الكثيرة على أن اسم الله أشرف من اسم الرب ، ثم إنه تعالى قال ههنا : {بِاسْمِ رَبِّكَ} ولم يقل : اقرأ باسم الله كما قال في التسمية المعروفة : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ} وجوابه : أنه أمر بالعبادة ، وبصفات الذات ، وهو لا يستوجب شيئاً ، وإنما يستوجب العبادة بصفات الفعل ، فكان ذلك أبلغ في الحث على الطاعة ، ولأن هذه السورة كانت من أوائل ما نزل على ما كان الرسول عليه السلام قد فزع فاستماله ليزول الفزع ، فقال : هو الذي رباك فكيف يفزعك ؟
فأفاد هذا الحرف معنيين أحدهما : ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل والثاني : أن الشروع ملزم للاتمام ، وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك ، أي حين كنت علقاً لم أدع تربيتك فبعد أن صرت خلقاً نفيساً موحداً عارفاً بي كيف أضيعك.
السؤال الثاني : ما الحكمة في أنه أضاف ذاته إليه/ فقال : {بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟
الجواب : تارة يضيف ذاته إليه بالربوبية كما ههنا ، وتارة يضيفه إلى نفسه بالعبودية ، أسرى بعبده ، نظيره قوله عليه السلام : "علي مني وأنا منه" كأنه تعالى يقول : هو لي وأنا له ، يقرره قوله تعالى : {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } أو نقول : إضافة ذاته إلى عبده أحسن من إضافة العبد إليه ، إذ قد علم في الشاهد أن من له إبنان ينفعه أكبرهما دون الأصغر ، يقول : هو ابني فحسب لما أنه ينال منه المنفعة ، فيقول الرب تعالى : المنفعة تصل مني إليك ، ولم تصل منك إلى خدمة ولا طاعة إلى الآن ، فأقول : أنا لك ولا أقول أنت لي ، ثم إذا أتيت بما طلبته منك من طاعة أو توبة أضفتك إلى نفسي فقلت : أنزل على عبده {قُلْ يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا } .
السؤال الثالث : لم ذكر عقيب قوله : {رَبِّكَ} قوله : {الَّذِى خَلَقَ} ؟
الجواب : كأن العبد يقول : ما الدليل على أنك ربي ؟
فيقول : لأنك كنت بذاتك وصفاتك معدوماً. ثم صرت موجوداً فلا بد لك في ذاتك وصفاتك من خالق ، وهذا الخلق والإيجاد تربية فدل ذلك على أني ربك وأنت مربوبي.
جزء : 32 رقم الصفحة : 219
220
أما قوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ففيه مسائل :
(1/4786)
المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون قوله : {الَّذِى خَلَقَ} لا يقدر له مفعول ، ويكون المعنى أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه والثاني : أن يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي خلق كل شيء ، فيتناول كل مخلوق ، لأنه مطلق ، فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي ، كقولنا : الله أكبر ، أي من كل شيء ، ثم قوله بعد ذلك : {خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ} تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات ، إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض والثالث : أن يكون قوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ} مبهماً ثم فسره بقوله : {خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ} تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى ، قالوا : لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات ، وكل صفة هذا شأنها فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها ، قالوا : وبهذا الطريق عرفنا أن خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع ومما يؤكد ذلك أن فرعون لما طلب حقيقة الإله ، فقال : {وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ} قال موسى : {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآاـاِكُمُ الاوَّلِينَ} والربوبية إشارة إلى الخلالقية التي ذكرها ههنا ، وكل ذلك يدل على قولنا.
المسألة الثالثة : اتفق المتكلمون على أن أول الواجبات معرفة الله تعالى ، أو النظر في معرفة الله أو القصد إلى ذلك النظر على الاختلاف المشهور فيما بينهم ، ثم إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولاً إلى المشركين ، لو قال له : اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له ، لأبوا أن يقبلوا ذلك منه ، لكنه تعالى قدم ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به كما يحكى إن زفر لما بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه ، فلما ذكر أبو حنيفة زيفوه ولم يلتفتوا إليه ، فرجع إلى أبي حنيفة. وأخبره بذلك ، فقال إنك لم تعرف طريق التبليغ ، لكن ارجع إليهم ، واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها ، ثم قل بعد ذلك : ههنا قول آخر ، واذكر قولي وحجتي ، فإذا تمكن ذلك في قلبهم ، فقل : هذا قول أبي حنيفة لأنهم حينئذ يستحيون فلا يردون ، فكذا ههنا أن الحق سبحانه يقول : إن هؤلاء عباد الأوثان ، فلو أثنيت علي وأعرضت عن الأوثان لأبوا ذلك ، لكن اذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره ، ثم قل : ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه ، فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان ، كما قال تعالى : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه } ثم لما صارت الإلهية موقوفة على الخالقية وحصل القطع بأن من لم يخلق لم يكن إلهاً ، فلهذا قال تعالى : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ } ودلت الآية على أن القول بالطبع باطل ، لأن المؤثر فيه إن كان حادثاً افتقر إلى مؤثر آخر ، وإن كان قديماً فإما أن يكون موجباً / أو قادراً ، فإن كان موجباً لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلا أنه مختار وهو عالم لأن التغير حصل على الترتيب الموافق للمصلحة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 220
المسألة الرابعة : إنما قال : {مِنْ عَلَقٍ} على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع ، كقوله : {إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 220
221
أما قوله تعالى : {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : اقرأ أولاً لنفسك ، والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم. أو قرأ في صلاتك ، والثاني خارج صلاتك.
المسألة الثانية : الكرم إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فمن يهب السكين ممن يقتل به نفسه فهو ليس بكريم ، ومن أعطى ثم طلب عوضاً فهو ليس بكريم ، وليس يجب أن يكون العوض عيناً بل المدح والثواب والتلخص عن المذمة كله عوض ، ولهذا قال أصحابنا : إنه تعالى يستحيل أن يفعل فعلاً لغرض لأنه لو فعل فعلاً لغرض لكان حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله ، فحينئذ يستفيد بفعل ذلك الشيء حصول تلك الأولوية ، ولو لم يفعل ذلك الفعل لما كان يحصل له تلك الأولوية ، فيكون ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره وذلك محال ، ثم ذكروا في بيان أكرميته تعالى وجوهاً أحدها : أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية ، لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية ، وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية ، ومنه قول القائل :
متى زدت تقصيراً تزد لي تفضلاً
(1/4787)
كأني بالتقصير أستوجب الفضلا وثانيها : إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعاً إما مدحاً أو ثواباً أو يدفع ضرراً. أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم وثالثها : أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير ورابعها : يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشراً أو حثاً على الإخلاص ، أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع على أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك ، ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحداً فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكيف الشاق ثم لا أنصرك.
المسألة الثالثة : أنه سبحانه وصف نفسه بأنه : {خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ} وثانياً بأنه علقة وهي بالقلم ، ولا مناسبة في الظاهر بين لأمرين ، لكن التحقيق أن أول حوال الإنسان كونه علقة وهي أخس الأشياء وآخر أمره هو صيرورته عالماً بحقائق الأشياء ، وهو أشرف مراتب المخلوقات فكأنه تعالى يقول : انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب فلا بد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة ، ثم فيه تنبيه على أن العلم أشرف الصفات / الإنسانية ، كأنه تعالى يقول : الإيجاد والإحياء والإفدار والرزق كرم وربوبية ، أما الأكرم هو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 221
المسألة الرابعة : قوله : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ} إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة ، وقوله : {الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع ، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية والثاني إلى النبوة ، وقدم الأول على الثاني تنبيهاً على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية.
المسألة الخامسة : في قوله : {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وجهان أحدهما : أن المراد من القلم الكتابة التي تعرف بها الأمور الغائبة ، وجعل القلم كناية عنها والثاني : أن المراد علم الإنسان الكتاب بالقلم وكلا القولين متقارب ، إذ المراد التنبيه على فضيلة الكتابة ، يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام ، فقال : ريح لا يبقى ، قال : فما قيده/ قال : الكتابة ، فالقلم صياد يصيد العلوم يبكي ويضحك ، بركوعه تسجد الأنام ، وبحركته تبقى العلوم على مر الليالي والأيام ، نظيره قول زكريا : {إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا} أخفى وأسمع فكذا القلم لا ينطق ثم يسمع الشرق والفرب ، فسبحانه من قادر بسوادها جعل الدين منوراً ، كما أنه جعلك بالسواد مبصراً ، فالقلم قوام الإنسان والإنسان قوام العين ، ولا تقل القلم نائب اللسان ، فإن القلم ينوب عن اللسان واللسان لا ينوب عن القلم ، التراب طهور ، ولو إلى عشر حجج ، والقلم بدل (عن اللسان) ولو (بعث) إلى المشرق والمغرب.
جزء : 32 رقم الصفحة : 221
221
أما قوله تعالى : {عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فيحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضاً غير ذلك ولم يذكر واو النسق ، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول : أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات ، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحداً ويكون المعنى : علم الإنسان بالقلم مالم يعلمه ، فيكون قوله : {عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} بياناً لقوله : {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 221
222
قال تعالى : {كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى } وفيه مسائل :
(1/4788)
المسألة الأولى : أكثر المفسرين على أن المراد من الإنسان ههنا إنسان واحد وهو أبو جهل ، ثم منهم من قال : نزلت السورة من ههنا إلى آخرها في أبي جهل. وقيل : نزلت من قوله : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا} إلى آخر السورة في أبي جهل. قال ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي فجاء أبو جهل ، فقال : ألم أنهك عن هذا ؟
فزجره النبي صلى الله عليه وسلّم ، فقال / أبو جهل : والله إنك لتعلم أني ىكثر أهل الوادي نادياً ، فأنزل الله تعالى : {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قال ابن عباس : والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله ، فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر ، فهو عند ذلك ازداد طغياناً وتعززاً بماله ورياسته في مكة. ويروى أنه قال : ليس بمكة أكرم مني. ولعله لعنه الله قال ذلك رداً لقوله : {وَرَبُّكَ الاكْرَمُ} ثم القائلون بهذا القول منهم من زعم أنه ليست هذه السورة من أوائل ما نزل. ومنهم من قال : يحتمل أن يكون خمس آيات من أول السورة نزلت أولاً ، ثم نزلت البقية بعد ذلك في شأن أبي جهل ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بضم ذلك إلى أول السورة ، لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر الله تعالى ، ألا ترى أن قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه } آخر ما نزل عند المفسرين م هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل القول الثاني : أن المراد من الإنسان المذكور في هذه الآية جملة الإنسان ، والقول الأول وإن كان أظهر بحسب الروايات ، إلا أن هذا القول أقرب بحسب الظاهر ، لأنه تعالى بين أن الله سبحانه مع أنه خلقه من علقة ، وأنعم عليه بالنعم التي قدمنا ذكرها ، إذ أغناه ، وزاد في النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع هوى النفس ، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة ، ثم إنه تعالى أكد هذا الزجر بقوله : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } أي إلى حيث لا مالك سواه ، فتقع المحاسبة على ما كان منه من العمل والمؤاخذة بحسب ذلك.
المسألة الثانية : قوله : {كَلا} فيه وجوه أحدها : أنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه ، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وثانيها : قال مقاتل : كلا لا يعلم الإنسان إن الله هو الذي خلقه من العلقة وعلمه بعد الجهل ، وذلك لأنه عند صيرورته غنياً يطغى ويتكبر ، ويصير مستغرق القلب في حب الدنيا فلا يتفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها وثالثها : ذكر الجرجاني صاحب النظم أن {كَلا} ههنا بمعنى حقاً لأنه ليس قبله ولا بعده شيء تكون {كَلا} رداً له ، وهذا كما قالوه في : {كَلا وَالْقَمَرِ} فإنهم زعموا أنه بمعنى : أي والقمر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 222
المسألة الثالثة : الطغيان هو التكبر والتمرد ، وتحقيق الكلام في هذه الآية أن الله تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها. أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة ، فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك. فإن قيل : إن فرعون ادعى الربوبية ، فقال الله تعالى في حقه : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى } وههنا ذكر في أبي جهل : {لَيَطْغَى } فأكده بهذه اللام ، فما السبب في هذه الزيادة ؟
قلنا : فيه وجوه أحدها : أنه قال لموسى : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى } وذلك قبل أن يلقاه موسى/ وقبل أن يعرض عليه الأدلة ، وقبل أن يدعي الربوبية. وأما ههنا فإنه تعالى ذكر هذه الآية تسلية لرسوله حين رد عليه أقبح الرد وثانيها : أن فرعون مع كمال سلطته ما كان يزيد كفره على القول ، وما كان ليتعرض لقتل موسى عليها السلام ولا لإيذائه. وأما أبو جهل فهو مع قلة جاهه كان / يقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلّم وإيذاءه وثالثها : أن فرعون أحسن إلى موسى أولاً ، وقال آخراً : {ءَامَنتُ} . وأما أبو جهل فكان يحسد النبي في صباه ، وقال في آخر رمقه : بلغوا عني محمداً أني أموت ولا أحد أبغض إلي منه ورابعها : أنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين ، والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده ، بل يصون عينه باليد ، فلهذا السبب كانت المبالغة ههنا أكثر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 222
223
أما قوله تعالى : {أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الأخفش : لأن رآه فخذف اللام ، كما يقال : أنكم لتطغون أن رأيتم غناكم.
المسألة الثانية : قال الفراء إنما قال : {أَن رَّءَاهُ} ولم يقل : رأى نفسه كما يقال : قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تستدعي اسماً وخبراً نحو الظن والحسبان ، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول : رأيتني وظننتني وحسبتني فقوله : {أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى } من هذا الباب.
(1/4789)
المسألة الثالثة : في قوله : {اسْتَغْنَى } وجهان : أحدهما : استغنى بماله عن ربه ، والمراد من الآية ليس هو الأول ، لأن الإنسان قد ينال الثروة فلا يزيد إلا تواضعاً كسليمان عليه السلام ، فإنه كان يجالس المساكين ويقول : "مسكين جالس مسكيناً" وعبد الرحمن بن عوف ما طغى مع كثرة أمواله ، بل العاقل يعلم أنه عند الغنى يكون أكثر حاجة إلى الله تعالى منه حال فقره ، لأنه في حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه ، وأما حال الغنى فإنه يتمنى سلامة نفسه وماله ومماليكه ، وفي الآية وجه ثالث : وهو أن سين {اسْتَغْنَى } سين الطالب والمعنى أن الإنسان رأى أن نفسه إنما نالت الغنى لأنها طلبته وبذلت الجهد في الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد ، لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه ، وهذا جهل وحمق فكم من باذل وسعه في الحرص والطلب وهو يموت جوعاً ، ثم ترى أكثر الأغنياء في الآخرة يصيرون مدبرين خائفين ، يريهم الله أن ذلك الغنى ما كان بفعلهم وقوتهم.
المسألة الرابعة : أول السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال ، وكفى بذلك مرغباً في الدين والعلم ومنفراً عن الدنيا والمال.
جزء : 32 رقم الصفحة : 223
223
ثم قال تعالى : {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان.
المسألة الثانية : {الرُّجْعَى } المرجع والرجوع وهي بأجمعها مصادر ، يقال : رجع إليه رجوعاً / ومرجعاً ورجعى على وزن فعلى ، وفي معنى الآية وجهان : أحدهما : أنه يرى ثواب طاعته وعقاب تمرده وتكبره وطغيانه ، ونظيره قوله : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَـافِلا} إلى قوله : {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ} وهذه الموعظة لا تؤثر إلا في قلب من له قدم صدق ، أما الجاهل فيغضب ولا يعتقد إلا الفرح العاجل والقول الثاني : أنه تعالى يرده ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت ، كما رده من النقصان إلى الكمال ، حيث نقله من الجمادية إلى الحياة ، ومن الفقر إلى الغنى ، ومن الذل إلى العز ، فما هذا التعزز والقوة.
المسألة الثالثة : روى أن أبا جهل قال للرسول عليه الصلاة والسلام : أتزعم أن من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال مكة ذهباً وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى ، فندع دينناً ونتبع دينك ، فنزل جبريل وقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم مثل ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الدعاء إبقاء عليهم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 223
223
قوله تعالى : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : روى عن أبي جهل لعنه الله أنه قال : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟
قالوا : نعم ، قال : فوالذي يحلف به لئن رأيته لأطأن عنقه ، ثم إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الصلاة فنكص على عقبيه ، فقالوا له : مالك يا أبا الحكم ؟
فقال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً شديداً. وعن الحسن أن أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة.
واعلم أن ظاهر الآية أن المراد في هذه الآية هو الإنسان المتقدم ذكره ، فلذلك قالوا : إنه ورد في أبي جهل ، وذكروا ما كان منه من التوعد لمحمد عليه الصلاة والسلام حين رآه يصلي ، ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل ، ثم يعم في الكل ، لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه.
المسألة الثانية : قوله : {أَرَءَيْتَ} خطاب مع الرسول على سبيل التعجب ، ووجه التعجب فيه أمور أحدها : أنه عليه السلام قال : اللهم أعز الإسلام إما بأبي جعل بن هشام أو بعمر ، فكأنه تعالى قال له : كنت تظن أنه يعز به الإسلام ، أمثله يعز به الإسلام ، وهو : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى } وثانيها : أنه كان يلقب بأبي الحكم ، فكأنه تعالى يقول : كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه ، أيوصف بالحكمة من يمنع عن طاعة الرحمن ويسجد للأوثان وثالثها : أن ذلك الأحمق يأمر وينهى ، ويعتقد أنه يجب على الغير طاعته ، مع أنه ليس بخالق ولا رب ، ثم إنه ينهى عن طاعة الرب والخالق ، ألا يكون هذا غاية الحماقة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 223
(1/4790)
المسألة الثالثة : قال : {يَنْهَى * عَبْدًا} ولم يقل : ينهاك ، وفيه فوائد أحدها : أن التنكير في عبداً يدل على كونه كاملاً في العبودية ، كأنه يقول : إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في / عبوديته يروى : في هذا المعنى أن يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته فقال : أخبرني عن أخلاق رسولكم ، فقال عمر : اطلبه من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالاً دله على فاطمة ثم قاطمة دلته على علي عليه السلام ، فلما سأل علياً عنه قال : صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه ، فقال الرجل : هذا لا يتيسر لي ، فقال علي : عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال : {قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} فكيف أصف أخلاق النبي وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فكأنه تعالى قال : ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق وثانيها : أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى وثالثها : أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة ، روى عن علي عليه السلام أنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد ، فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعل ذلك ، فقيل له : ألا تنهاهم ؟
فقال : أخشى أن أدخل تحت قوله : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى } فلم يصرح بالنهي عن الصلاة ، وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حيث قال له أبو يوسف : أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع : اللهم اغفر لي ؟
قال : يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ورابعها : أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي لا أجد ساجداً غيره ، إن محمد عد واحد ، ولي من الملائكة المقربين مالا يحصيهم إلا أنا وهم دائماً في الصلاة والتسبيح وخامسها : أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول : إنه مع التنكير معرف ، نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر {أَسْرَى بِعَبْدِه } {أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ} {وَأَنَّه لَمَّا قَامَ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 223
226
ثم قال تعالى : {أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله : {أَرَءَيْتَ} خطاب لمن ؟
فيه وجهان الأول : أنه خطاب للنبي عليه السلام ، والدليل عليه أن الأول وهو قوله : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا} للنبي صلى الله عليه وسلّم والثالث وهو قوله : {أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } للنبي عليه الصلاة والسلام فلو جعلنا الوسط لغير النبي لخرج الكلام عن النظم الحسن ، يقول الله تعالى يا محمد : أرأيت إن كان هذا الكافر ، ولم يقل : لو كان إشارة إلى المستقبل كأنه يقول : أرأيت إن صار على الهدى ، واشتغل بأمر نفسه ، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة ، فلو اختار الدين والهدى والأمر بالتقوى ، أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله والنهي عن خدمته وطاعته ، كأنه تعالى يقول : تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية وقنع بالمراتب الدنيئة.
القول الثاني : أنه خطاب للكافر ، لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم ، وكالمولى الذي قام بين يديه عبدان ، وكالحاكم الذي حضر عنده المدعى ، والمدعى عليه فخاطب هذا مرة ، وهذا / مرة. فلما قال للنبي : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى } التفت بعد ذلك إلى الكافر ، فقال : أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى أتنهاه مع ذلك.
المسألة الثانية : ههنا سؤال وهو أن المذكور في أول الآية. هو الصلاة وهو قوله : {أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى } والمذكور ههنا أمران ، وهو قوله : {أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى } في فعل الصلاة ، فلم ضم إليه شيئاً ثانياً ، وهو قوله : {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } ؟
جوابه : من وجوه أحدها : أن الذي شق على أبي جهل من أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام هو هذان الأمران الصلاة والدعاء إلى الله ، فلا جرم ذكرهما ههنا وثانيها : أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يوجد إلا في أحد أمرين ، إما في إصلاح نفسه ، وذلك بفعل الصلاة أو في إصلاح غيره ، وذلك بالأمر بالتقوى وثالثها : أنه عليه السلام كان في صلاته على الهدى وآمراً بالتقوى ، لأن كل من رآه وهو في الصلاة كان يرق قلبه. فيميل إلى الإيمان ، فكان فعل الصلاة دعوة بلسان الفعل ، وهو أقوى من الدعوة بلسان القول.
جزء : 32 رقم الصفحة : 226
228
ثم قال تعالى : {أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وفيه قولان.
(1/4791)
القول الأول : أنه خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك لأن الدلائل التي ذكرها في أول هذه السورة جلية ظاهرة ، وكل أحد يعلم ببديهة عقله ، أن منع العبد من خدمة مولاه فعل باطل وسفه ظاهر ، فإذن كل من كذب بتلك الدلائل وتولى عن خدمة مولاه بل منع غيره عن خدمة مولاه يعلم بعقله السليم أنه على الباطل ، وأنه لا يفعل ذلك إلا عناداً ، فلهذا قال تعالى لرسوله : أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة ، وتولى عن خدمة خالقه ، ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة ويعلمها ، أفلا يزجره ذلك عن هذه الأعمال القبيحة والثاني : أنه خطاب للكافر ، والمعنى إن كان يا كافر محمد كاذباً أو متولياً ، ألا يعلم بأن الله يرى حتى ينتهي بل احتاج إلى نهيك.
جزء : 32 رقم الصفحة : 228
228
أما قوله : {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : المقصود من الآية التهديد بالحشر والنشر ، والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات حكيم لا يهمل ، الم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، فلا بد وأن يوصل جزاء كل أحد إليه بتمامه فيكون هذا تخويفاً شديداً للعصاة ، وترغيباً عظيماً لأهل الطاعة.
المسألة الثانية : هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل فكل من نهى من طاعة الله فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد ، ولا يرد عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة ، لأن المنهى عنه غير الصلاة وهو المعصية ، ولا يرد المولى بمنع عبده عن قيام الليل / وصوم التطوع وزوجته عن الاعتكاف ، لأن ذلك لاستيفاء مصلحته بإذن ربه لا بغضاً لعبادة ربه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 228
231
ثم قال تعالى : {كَلا} وفيه وجوه أحدها : أنه ردع لأبي جهل ومنه له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات وثانيها : كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمداً أو يطأ عنقه ، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره وثالثها : قال مقاتل : كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم.
ثم قال تعالى : {لَـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ} أو عما هو فيه : {لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَـاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {لَنَسْفَعَا } وجوه أحدها : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع القبض على الشيء ، وجذبه بشدة ، وهو كقوله : {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاقْدَامِ} وثانيها : السفع الضرب ، أي لنلطمن وجهه وثالثها : لنسودن وجهه ، قال الخليل : تقول للشيء إذا لفحته النار لفحاً يسيراً يغير لون البشرة قد سفعته النار ، قال : والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها ، قال : والسفعة سواد في الخدين. وبالجملة فتسويد الوجهعلامة الإذلال والإهانة ورابعها : لنسمنه قال ابن عباس في قوله : {سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ} إنه أبو جهل خامسها : لنذلنه.
المسألة الثانية : قرىء لنسفعن بالنون المشددة ، أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة ، كما قال : {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـاـاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَـالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } وقرأ ابن مسعود لأسعفن ، أي يقول الله تعالى يا محمد. أنا الذي أتولى إهانته ، نظيره : {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ} ، {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 231
(1/4792)
المسألة الثالثة : هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا ، وهذا أيضاً على وجوه أحدها : ما روى أن أبا جهل لما قال : إن رأيته يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجداً في آخرها ففعل ، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه ، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعاً ، فقيل له مالك ؟
قال : إن بيني وبينه فخلاً فاغراً فاه لو مشيت إليه لالتقمني ، وقيل : كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد والثاني : أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي ، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر ، روى أنه لما نزلت سورة الرحمن {عَلَّمَ الْقُرْءَانَ} قال عليه السلام : لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش ، فتثاقلوا مخافة أذيتهم ، فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله ، فأجلسه عليه السلام ، ثم قال : من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود ، ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له ، وكان عليه السلام يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر/ جثته ، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة ، فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه ، فانصرف وعيناه تدمع ، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً ، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكاً مستبشراً ، فقال : يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي فقال : ستعلم ، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين ، فأخذ يطالع القتلى. فإذا أبو جهل ، مصروع يخور ، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ، ولعل هذا معنى قوله : {سَنَسِمُه عَلَى الْخُرْطُومِ} ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً ، فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فقال أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي ، فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال : "فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال {ءَامَنتُ} وهو قد زاد عتواً" ثم قال لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع ، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله ، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه : أحدها : أنه كلب والكلب يجر والثاني : لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث : لتحقيق الوعيد المذكور بقوله : {لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ} فتجر تلك الرأس على مقدمها ، ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجبريل بين يديه يضحك ، ويقول : يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن ، فهذا ما روى في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظاً ، الخاطىء معنى قوله : {لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 231
المسألة الرابعة : الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية ، ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية ، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها ، وربما كان يهتم أيضاً بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه.
المسألة الخامسة : أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول : الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولاً خاطئة فعلاً ، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً وكاذباً على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي ، وقيل : كذبه أنه قال : أنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً ، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعال قال الله تعالى : {لا يَأْكُلُه ا إِلا الْخَـاطِـاُونَ} والفرق بين الخاطىء والمخطىء أن الخاطىء معاقب مؤاخذ والمخطىء غير مؤاخذ ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى : {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
المسألة السادسة : {نَاصِيَةٍ} بدل من الناصية ، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة ، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة.
/ المسألة السابعة : قرىء ناصية بالرفع والتقدير هي ناصية ، وناصية بالنصب وكلاهما على الشتم ، واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات ، قال : يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي نادياً ، فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه ، فنزل قوله تعالى : {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وفيه مسائل :
(1/4793)
المسألة الأولى : قد مر تفسير النادي عند قوله : {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } قال أبو عبيدة : ناديه أي أهل مجلسه ، وبالجملة فالمراد من النادي أهل النادي ، ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله ، وسمى نادياً لأن القوم يندون إليه نداً وندوة ، ومنه دار الندوة بمكة ، وكانوا يجتمعون فيها للتشاور ، وقيل : سمي نادياً لأنه مجلس الندى والجود ، ذكر ذلك على سبيل النهكم أي : أجمع أهل الكرم والدفاع في زعمك لينصروك.
المسألة الثانية : قال أبو عبيدة والمبرد : واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إذا دفعته وهو متمرد من إنس أو جن ، ومثله في المعنى والتقدير عفرية يقال : فلان زبنية عفرية ، وقال الأخفش : قال بعضهم واحده الزباني ، وقال آخرون : الزابن ، وقال آخرون : هذا من الجمع الذي لا واحد له من لفظه في لغة الغرب مثل أبابيل وعباديد وبالجملة فالمراد ملائكة العذاب/ ولا شك أنهم مخصوصون بقوة شديدة. وقال مقاتل : هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤسهم في السماء ، وقال قتادة : الزبانية هم الشرط في كلام العرب وهم الملائكة الغلاظ الشداد ، وملائكة النار سموا الزبانية لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهنم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 231
المسألة الثالثة : في الآية قولان : الأول : أي فليفعل ما ذكره من أنه يدعو أنصاره ويستعين بهم في مباطلة محمد ، فإنه لو فعل ذلك فنحن ندعو الزبانية الذين لا طاقة لناديه وقومه بهم ، قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة ، وقيل : هذا إخبار من الله تعالى بأنه يجر في الدنيا كالكلب وقد فعل به ذلك يوم بدر ، وقيل : بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه في الآخرة إلى النار القول الثاني : أن في الآية تقديماً وتأخيراً أي لنسفعاً بالناصية وسندع الزبانية في الآخرة ، فليدع هو ناديه حينئذ فليمنعوه.
المسألة الرابعة : الفاء في قوله : {فَلْيَدْعُ نَادِيَه } تدل على المعجز ، لأن هذا يكون تحريضاً للكافر على دعوة ناديه وقومه ، ومتى فعل الكافر ذلك ترتب عليه دعوة الزبانية ، فلما لم يجترىء الكافر على ذلك دل على ظهور معجزة الرسول صلى الله عليه وسلّم.
المسألة الخامسة : قرىء : على المجهول ، وهذه السير ليست للشك عسى / من الله واجب الوقوع ، وخصوصاً عند بشارة الرسول صلى الله عليه وسلّم بأن ينتقم له من عدوه ، ولعل فائدة السين هو المراد من قوله عليه السلام : "لأنصرنك ولو بعد حين".
جزء : 32 رقم الصفحة : 231
231
ثم قال : {فَاقِرَةٌ * كَلا} وهو ردع لأبي جهل ، وقيل : معناه لن يصل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو ناديه ولئن دعاهم لن ينفعوه ولن ينصروه ، وهو أذل وأحقر من أن يقاومك ، ويحتمل : لن ينال ما يتمنى من طاعتك له حين نهاك عن الصلاة ، وقيل معناه : ألا لا تطعه.
ثم قال : {لا تُطِعْهُ} وهو كقوله : {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} ، {وَاسْجُدْ} وعند أكثر أهل التأويل أراد به صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلاً وإبلاغاً ، وليقل فكرك في هذا العدو فإن الله مقويك وناصرك ، وقال بعضهم : بل المراد الخضوع ، وقال آخرون : بل المراد نفس السجود في الصلاة.
ثم قال : {وَاقْتَرِب } والمراد وابتغ بسجودك قرب المنزلة منربك ، وفي الحديث : "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد" وقال بعضهم المراد : اسجد يا محمد ، واقترب يا أبا جهل منه حتى تبصر ما ينالك من أخذ الزبانية إياك ، فكأنه تعالى أمره بالسجود ليزداد غيظ الكافر ، كقوله : {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } والسبب الموجب لازدياد الغيظ هو أن الكفار كان يمنعه من القيام ، فيكون غيظه وغضبه عند مشاهدة السجود أتم ، ثم قال عند ذلك : {وَاقْتَرِب } منه يا أبا جهل وضع قدمك عليه ، فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه ، وهذا تهكم به واستحقار لشأنه ، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 231
232
(1/4794)
سورة القدر
خمس آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 232
235
{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أجمع المفسرون على أن المراد : إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر ، ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر ، لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها : أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر. شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح ، ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره ، وقوله : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} لم يذكر الموت لشهرته ، فكذا ههنا والثالث : تعظيم الوقت الذي أنزل فيه.
المسألة الثانية : أنه تعالى قال في بعض المواضع : {إِنِّى } كقوله : {إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً } وفي بعض المواضع {إِنَّآ} كقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} ، {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا} ، {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} . وأعلم أن قوله : {إِنَّآ} تارة يراد به التعظيم ، وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع ، ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية ، لأنه لو كان كل واحد منهم قادراً على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم ، وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصاً ، وإن لم يكن كل واحد منهم قادراً على الكمال كان ناقصاً ، فعلمنا أن قوله : {إِنَّآ} محمول على التعظيم لا على الجمع.
المسألة الثالثة : إن قيل : ما معنى إنه أنزل في ليلة القدر ، مع العلم بأنه أنزل نجوماً ؟
قلنا فيه وجوه : أحدهما : قال الشعبي : ابتداء بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان والثاني : قال ابن عباس : أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر ، ثم إلى الأرض نجوماً ، كما قال : {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وقد ذكرنا هذه المسألة في قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} لا يقال : فعلى هذا القول لم لم يقل : أنزلناه إلى السماء ؟
لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض ، لأنا نقول : إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض ، لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه ، وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد / يقال : جاء فلان ، أو يقال الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه ، فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 235
وأبرح ما يكون الشوق يوماً
إذا دنت الديار من الديار وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة ، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة ، كما قال : {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا} فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا والوجه الثالث في الجواب : أن التقدير أنزلنا هذا الذكر : {فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها.
المسألة الرابعة : القدر مصدر قدرت أقدر قدراً ، والمراد به ما يمضيه الله من الأمور ، قال : {إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} والقدر ، والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم ، قال الواحدي : القدر في اللغة بمعنى التقدير ، وهو جعل لشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان ، واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر ، على وجوه أحدهما : أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام ، قال عطاء ، عن ابن عباس : أن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية ، ونظيره قوله تعالى : {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة ، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل ، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ ، وهذا القول اختيار عامة العلماء الثاني : نقل عن الزهري أنه قال : {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان ، أي منزلة وشرف ، ويدل عليه قوله : {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ثم هذا يحتمل وجهين أحدهما : أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف وثانيهما : إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد ، وعن أبي بكر الوراق سميت : {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر ، على لسان ملك ذي قدر ، على أمة لها قدر ، ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب.
والقول الثالث : ليلة القدر ، أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 235
(1/4795)
المسألة الخامسة : أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه أحدها : أنه تعالى أخفاها ، كما أخفى سائر الأشياء ، فإنه أخفى رضاه في الطاعات ، حتى يرغبوا في الكل ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات ، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء ، وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل ، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة ، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف ، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان وثانيها : كأنه تعالى يثول : لو عينت ليلة القدر ، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية ، فربما دعتك الشهوة في / تلك الليلة إلى المعصية ، فوقعت في الذنب ، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك ، فلهذا السبب أخفيتها عليك ، روى أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائماً ، فقال : يا علي نبهه ليتوضأ ، فأيثظه علي ، ثم قال علي : يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات ، فلم لم تنبهه ؟
قال : لأن رده عليك ليس بكفر ، ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى ، فإذا كان هذا رحمة الرسول ، فقس عليه رحمة الرب تعالى ، فكأنه تعالى يقول : إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر ، وإن غصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر ، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب وثالثها : أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها ، فيكتسب ثواب الاجتهاد ورابعها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر ، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان ، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر ، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته ، يقول : كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء. فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة ، فكيف لو جعلتها معلومة له فحينئذ يظهر سر قوله : {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
المسألة السادسة : اختلفوا في أن هذه الليلة هل تستتبع اليوم ؟
قال الشعبي : نعم يومها كليلتها ، ولعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستبع الأيام ، ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين الزمناه بيوميهما قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي اليوم يخلف ليلته وبالضد.
جزء : 32 رقم الصفحة : 235
(1/4796)
المسألة السابعة : هذه الليلة هل هي باقية ؟
قال الخليل : من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول انقطعت وكانت مرة ، والجمهور على أنها باقية ، وعلى هذا هل هي مختصة برمضان أم لا ؟
روى عن ابن مسعود أنه قال : من يقم الحول يصبها ، وفسرها عكرمة بليلة البراءة في قوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } والجمهور على أنها مختصة برمضان واحتجوا عليه بقوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} وقال : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يلزم التناقص/ وعلى هذا القول اختلفوا في تعيينها على ثمانية أقوال ، فقال ابن رزين : ليلة القدر هي الليلة الأولى من رمضان ، وقال الحسن البصري : السابعة عشرة ، وعن أنس مرفوعاً التاسعة عشرة ، وقال محمد بن إسحق : الحادية والعشرون. وعن ابن عباس الثالثة والعشرون ، وقال ابن مسعود : الرابعة والعشرون ، وقال أبو ذر الغفاري : الخامسة والعشرون ، وقال أبي بن كعب وجماعة من الصحابة : السابعة والعشرون ، وقال بعضهم : التاسعة والعشرون. أما الذين قالوا : إنها الليلة الأولى (فقد) قالوا : روى وهب أن صحف إبراهيم أنزلت في الليلة الأولى من رمضان والتوراة ليست ليال مضين من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة سنة ، وأنزل الزبور على داود لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان بعد الزبور بستمائة عام وعشرين عاماً ، وكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلّم في كل ليلة قدر من السنة إلى السنة كان جبريل عليه السلام ينزل به من بيت العزة من السماء / السابعة إلى سماء الدنيا ، فأنزل الله تعالى القرآن في عشرين شهراً في عشرين سنة ، فلما كان هذا الشهر هو الشهر الذي حصلت فيه هذه الخيرات العظيمة ، لا جرم كان في غاية الشرف والقدر والرتبة فكانت الليلة الأولى منه ليلة القدر ، وأما الحسن البصري فإنه قال : هي ليلة سبعة عشر ، لأنها ليلة كانت صبيحتها وقعة بدر ، وأما التاسعة عشرة فقد روى أنس فيها خبراً ، وأما ليلة السابع والعشرين فقد مال الشافعي إليه لحديث الماء والطين ، والذي عليه المعظم أنها ليلة السابع والعشرين ، وذكروا فيه أمارات ضعيفة أحدها : حديث ابن عباس أن السورة ثلاثون كلمة ، وقوله : {هِىَ} هي السابعة والعشرون منها وثانيها : روى أن عمر سأل الصحابة ثم قال لابن عباس : غص يا غواص فقال زيد بن ثابت : أحضرت أولاد المهاجرين وماأحضرت أولادنا. فقال عمر : لعلك تقول : إن هذا غلام ، ولكن عنده ما ليس عندكم. فقال ابن عباس : أحب الأعداد إلى الله تعالى الوتر أحب الوتر إليه السبعة ، فذكر السموات السبع والأرضين السبع والأسبوع ودركات النار وعدد الطواف والأعضاء السبعة ، فدل على أنها السابعة والعشرون وثالثها : نقل أيضاً عن ابن عباس ، أنه قال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 235
{لَيْلَةِ الْقَدْرِ} تسعة أحرف ، وهو مذكور ثلاث مرات فتكون السابعة والعشرين ورابعها : أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام ، فقال : يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر ، قال : إذا كانت تلك الليلة ، فأعلمني فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان. وأما من قال : إنها الليلة الأخيرة قال : لأنها هي الليلة التي تتم فيها طاعات هذا الشهر ، بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد ، ولذلك روى في الحديث ، يعتق في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر ، بل الليلة الأولى كمن ولد له ذكر ، فهي ليلة شكر ، والأخيرة ليلة الفراق ، كمن مات له ولد ، فهي ليلة صبر ، وقد علمت فرق ما بين الصبر والشكر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 235
237
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} يعني ولم تبلغ درايتك غاية فضلهاومنتهى علو قدرها ، ثم إنه تعالى بين فضيلتها من ثلاثة أوجه :
جزء : 32 رقم الصفحة : 237
237
الأول : قوله تعالى : {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وفيه مسائل :
(1/4797)
المسألة الأولى : في تفسير الآية وجوه أحدها : أن العبادة فيها {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ليس فيها هذه الليلة ، لأنه كالمستحيل أن يقال إنها : {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فيها هذه الليلة ، وإنما كان كذلك لما يزيد الله فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير وثانيها : قال مجاهد : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر ، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون من ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر وثالثها : قال مالك بن أنس : أرى / رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أعمار الناس ، فاستقصر أعمار أمته ، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم ، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم ورابعها : روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن ، قال : قلت للحسن بن علي عليه السلام يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، رأى في منامه بني أمية يطؤن منبره واحداً بعد واحد ، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة ، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلى قوله : {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يعني ملك بني أمية قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية ، فإذا هو ألف شهر. طعن القاضي في هذه الوجوه فقال : ما ذكر من {أَلْفِ شَهْرٍ} في أيام بني أمية بعيد ، لأنه تعالى لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة ، وأيام بني أمية كانت مذمومة.
واعلم أن هذا الطعن ضعيف ، وذلك لأن أيام بني أمية كانت أياماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية ، فلا يمتنع أن يقول الله تعالى إني : أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية.
المسألة الثانية : هذه الآية فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم ، أما البشارة فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير ، ولم يبين قدر الخيرية ، وهذا كقوله عليه السلام لمبارزة علي عليه السلام مع عمرو بن عبد ود (العامري) أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة ، فلم يقل مثل عمله بل قال : أفضل كأنه يقول : حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 237
واعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله تعالى نيفاً وثمانين سنة ، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعماراً كثيرة ، ومن أحيا الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ثلاثين قدراً ، يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة ، ويجاء برجل من هذه الأمة ، وقد عبد الله أربعين سنة فيكون ثوابه أكثر ، فيقول الإسرائيلي : أنت العدل ، وأرى ثوابه أكثر ، فيقول : إنهكم كنتم تخافون العقوبة المعجلة فتعبدون ، وأمة محمد كانوا آمنين لقوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } ثم إنهم كانوا يعبدون ، فلهذا السبب كانت عبادتهم أكثر ثواباً ، وأما التهديد فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار ، وأن إحياء مائة ليلة من القدر لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق بتطفيف حبة واحدة ، فلهذا فيه إشارة إلى تعظيم حال الذنب والمعصية.
(1/4798)
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أجرك على قدر نصبك" ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أضق من الطاعة في ليلة واحدة ، فكيف يعقل استواؤهما ؟
والجواب : من وجوه : أحدها : أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه المنضمة إليه/ ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بكذا درجة ، مع أن الصورة قد تنتقض فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة ، وأيضاً / فأنت تقول لمن يرجم : إنه إنما يرجم إنه زان فهو قول حسن ، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز ، ولو قلته للمحصن فهو يوجب الحد ، فقد اختلفت الأحكام في هذه المواضع ، مع أن الصورة واحدة في الكل ، بل لو قلته في حق عائشة كان كفراً ، ولذلك قال : {وَتَحْسَبُونَه هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وذلك لأن هذا طعن في حق عائشة التي كانت رحلة في العلم ، لقوله عليه السلام : "خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء" وطعن في صفوان مع أنه كان رجلاً بدرياً ، وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين ، وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كان كافراً ، بل طعن في النبي الذي كان أشد خلق الله غيره ، بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية ، ثم القائل بقوله : هذا زان ، فقد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال ، فقد ثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها ، فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة والوجه الثاني : في الجواب أن مقصود الحكيم سبحانه أن يجر الخلق إلى الطاعات فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين ، فقال : {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ومرة عشراً ، ومرة سبعمائة ، وتارة بحسب الأزمنة ، وتارة بحسب الأمكنة ، والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا ، فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد ، وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور ، وتارة يفضل الجمعة على سائر الأيام ، وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي ، والمقصود ما ذكرناه الوجه الثاني : من فضائل هذه الليلة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 237
241
قوله تعالى : {تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح ، ونظر البشر على الأشباح ، ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلاً للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك. فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ، وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منياً وعلقة ما قبلوك أيضاً ، بل أظهروا النفرة ، واستقذروا ذلك المني والعلقة ، وغسلوا ثيابهم عنه ، ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال ، ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك ، فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولاً ، فهذا هو المراد من قوله : {تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ} فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن ، وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } .
المسألة الثانية : أن قوله تعالى : {تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ} يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة ، ثم / الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض ، فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم : إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا ، فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السما مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك ، فكيف تسع الجميع سماء واحدة ؟
قلنا : يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد ، كيف والمروي إنهم ينزلون فوجاً فوجاً فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج ، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ : {تَنَزَّلُ} الذي يفيد المرة بعد المرة.
والقول الثاني : وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه ، لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة ، ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين ، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى ، ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض ، ثم اختلف من قال : ينزلون إلى الأرض على وجوه : أحدها : قال بعضهم : ينزلون ليروا عبادة البشر وحدهم واجتهادهم في الطاعة وثانيها : أن الملائكة قالوا : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزول فلا يدل على غاية المحبة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 241
(1/4799)
وأما هذه الآية وهو قوله : {بِإِذْنِ رَبِّهِم} فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولاً فأذنوا ، وذلك يدل على غاية المحبة ، لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا. لكن كانوا ينتظرون الإذن ، فإن قيل قوله : {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ} ينافي قوله : {تَنَزَّلُ الْمَلَـا اـاِكَةُ} قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين وثالثها : أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة : {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم} فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة ، روى عن علي عليه السلام : "أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه" ورابعها : أن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثواباً ، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثواباً ، وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة وخامسها : أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة/ فالله تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى أن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد وسادسها : أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة ، عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة ، فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة ، وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله يعبدون الله ومقام جبريل في وسطها ، ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر ، فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، وجبريل لا يدع أحداً من الناس إلا صافحهم ، وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه ، فإن ذلك من مصافحة جبريل عليه السلام ، من قال فيها ثلاث مرات : لا إله إلا الله غفر له بواحدة ، ونجاه من النار بواحدة ، وأدخله الجنة بواحدة ، وأول من يصعد جبريل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من تلك الليلة ثم يدعو ملكاً ملكاً ، فيصعد الكل ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام ، فيقيم جبريل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ، ولمن صام رمضان احتساباً ، فإذا أمسوا دخلوا سماء الدنيا فيجلسون حلقاً حلقاً فتجمع إليهم ملائكة السماء فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة ، حتى يقولوا : ما فعل فلان وكيف وجدتموه ؟
فيقولون : وجدناه عام أول متعبداً ، وفي هذا العام مبتدعاً ، وفلان كان عام أول مبتدعاً ، وهذا العام متعبداً ، فيكفون عن الدعاء للأول ، ويشتغلون بالدعاء للثاني ، ووجدنا فلاناً تالياً ، وفلاناً راكعاً ، وفلاناً ساجداً ، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا السماء الثانية وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة. فتقول لهم السدرة : يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقاً ، وإني أحب من أحب الله ، فذكر كعب أنهم يعدون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ثم يصل ذلك الخبر إلى الجنة ، فتقول الجنة : اللهم عجلهم إلي ، والملائكة ، وأهل السدرة يقولون : آمين آمين ، إذا عرفت هذا فنقول ، كلما كان الجمع أعظم ، كان نزول الرحمة هناك أكثر ، ولذلك فإن أعظم الجموع في موثق الحج ، لا جرم كان نزول الرحمة هناك أكثر ، فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين ، فلا جرم كان نزل الرحمة أكثر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 241
المسألة الثالثة : ذكروا في الروح أقوالاً أحدها : أنه ملك عظيم ، لو التقم السموات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة وثانيها : طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر ، كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد وثالثها : خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ، ولا من الإنس ، ولعلهم خدم أهل الجنة ورابعها : يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه ، ثم إنه ينزل في مواقفة الملائك ليطلع على أمة محمد وخامسها : أنه القرآن : {وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } وسادسها : الرحمة قرىء : {يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ} بالرفع كأنه تعالى ، يقول : الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسابعها : الروح أشرف الملائكة وثامنها : عن أبي نجيح الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب ، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح ، والأصح أن الروح ههنا جبريل. وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة.
(1/4800)
أما قوله تعالى : {بِإِذْنِ رَبِّهِم} فقد ذكرنا أن هذا يدل على أنهم كانوا مشتاقين إلينا ، فإن / قيل : كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة معاصينا ؟
قلنا : إنهم لا يقفون على تفصيل المعاصي روى أنهم يطالعون اللوح ، فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة ، فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا ترونها ، فحينئذ يقول : سبحان من أظهر الجميل ، وستر على القبيح ، ثم قد ذكرنا فوائد في نزولهم ونذكر الآن فوائد أخرى وحاصلها أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات أحدها : أن الأغنياء يجيئون بالطعام من بيوتهم فيجعلونه ضيافة للفقراء والفقراء يأكلون طعام الأغنياء ويعبدون الله ، وهذا نوع من الطاعة لا يوجد في السموات وثانيها : أنهم يسمعون أنين العصاة وهذا لا يوجد في السموات وثالثها : أنه تعالى قال : "لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين" فقالوا : تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتاً هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا ، وكيف لا يكون أحب وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين ، وأنين العصاة إظهار لغفارية رب الأرض والسموات (وهذه هي المسألة الأولى).
المسألة الثانية : هذه الآية دالة على عصمة الملائكة ونظيرها قوله : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } وقوله : {لا يَسْبِقُونَه بِالْقَوْلِ} وفيها دقيقة وهي أنه تعالى لم يقل : مأذونين بل قال : {بِإِذْنِ رَبِّهِم} وهو إشارة إلى أنهم لا يتصرفون تصرفاً ما إلا بإذنه ، ومن ذلك قول الرجل لامرأته إن خرجت إلا بإذني ، فإنه يعتبر الإذن في كل خرجة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 241
المسألة الثالثة : قوله : {رَبِّهِم} يفيد تعظيماً للملائكة وتحقيراً للعصاة ، كأنه تعالى قال : كانوا لي فكنت لهم ، ونظيره في حقنا : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ} وقال لمحمد عليه السلام : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} ونظيره ما روى أن داود لما مرض مرض الموت قال : إلهي كن لسليمان كما كنت لي ، فنزل الوحي وقال : قل لسليمان فليكن لي كما كنت لي ، وروى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه فقد الضيف أياماً فخرج بالسفرة ليلتمس ضيفاً فإذا بخيمة ، فنادى أتريدون الضيف ؟
فقيل : نعم ، فقال للمضيف : أيوجد عندك إدام لبن أو عسل ؟
فرفع الرجل صخرتين فضرب إحداهما بالأخرى فانشقا فخرج من إحداهما اللبن ومن الأخرى العسل ، فتعجب إبراهيم وقال : إلهي أنا خليلك ولم أجد مثل ذلك الإكرام ، فماله ؟
فنزل الوحي يا خليلي كان لنا فكنا له.
أما قوله تعالى : {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} فمعناه تنزل الملائكة والروح فيها من أجل كل أمر ، والمعنى أن كل واحد منهم إنما نزل لمهم آخر ، ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها : أنهم كانوا في أشغال كثيرة فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود ، وبعضهم بالدعاء ، وكذا القول في التفكر والتعليم ، وإبلاغ الوحي ، وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة أو ليسلموا على المؤمنين وثانيها : وهو قول الأكثرين / من أجل كل أمر قدر في تلك السنة من خير أو شر ، وفيه إشارة إلى أن نزولهم إنما كان عبادة ، فكأنهم قالوا : ما نزلنا إلى الأرض لهوى أنفسنا ، لكن لأجل كل أمر فيه مصلحة المكلفين ، وعم لفظ الأمر ليعم خير الدنيا والآخرة بياناً منه أنهم ينزلون بما هو صلاح المكلف في دينه ودنياه كأن السائل يقول : من أين جئت ؟
فيقول : مالك وهذا الفضول ، ولكن قل : لأي أمر جئت لأنه حظك وثالثها : قرأ بعضهم : {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} أي من أجل كل إنسان ، وروى أنهم لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه ، قيل : أليس أنه قد روى أنه تقسم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان ، والآن تقولون : إن ذلك يكون ليلة القدر ؟
قلنا : عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة ، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها" وقيل : يقدر ليلة البراءة الآجال والأرزاق/ وليلة القدر يقدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة ، وقيل : يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به إعزاز الدين ، وما فيه النفع العظيم للمسلمين ، وأما ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت.
جزء : 32 رقم الصفحة : 241
246
الوجه الثالث : من فضائل هذه الليلة. قوله تعالى : {سَلَـامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وفيه مسائل :
(1/4801)
المسألة الأولى : في قوله سلام وجوه أحدها : أن ليلة القدر ، إلى طلوع الفجر سلام أي تسلم الملائكة على المطيعين ، وذلك لأن الملائكة ينزلون فوجاً فوجاً من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة السلام وثانيها : وصفت الليلة بأنها سلام ، ثم يجب أن لا يستحقر هذا السلام لأن سبعة من الملائكة سلموا على الخليل في قصة العجل الحنيذ ، فازداد فرحع بذلك على فرحع بملك الدنيا ، بل الخليل لما سلم الملائكة عليه صار نار نمروذ عليه {بَرْدًا وَسَلَامًا} أفلا تصير ناره تعالى ببركة تسليم الملائكة علينا برداً وسلاماً لكن ضيافة الخليل لهم كانت عجلاً مشوياً وهم يريدون منا قلباً مشوياً ، بل فيه دقيقة ، وهي إظهار فضل هذه الأمة ، فإن هناك الملائكة ، نزلوا على الخليل ، وههنا نزلوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلّم وثالثها : أنه سلام من الشرور والآفات ، أي سلامة وهذا كما يقال : إنما فلان حج وغزو أي هو أبداً مشغول بهما ، ومثله : "فإنما هي إقبال وإدبار".
وقالوا تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالخيرات والسعادات ولا ينزل فيها من تقدير المضار شيء فما ينزل في هذه الليلة فهو سلام ، أي سلامة ونفع وخير ورابعها : قال أبو مسلم : سلام أي الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق إلى ما شابه ذلك وخامسها : سلام لا يستطيع الشيطان فيها سوءاً وسادسها : أن الوقف عند قوله : {مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ} فيتصل السلام بما قبله ومعناه أن تقدير الخير والبركة والسلامة يدوم إلى طلوع الفجر ، وهذا الوجه ضعيف وسابعها : / أنها من أولها إلى مطلع الفجر سالمة في أن العبادة في كل واحد من أجزائها خير من ألف شهر ليست كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللعبادة النصف وللدعاء السحر بل هي متساوية الأوقات والأجزاء وثامنها : سلام هي ، أي جنة هي لأن من أسماء الجنة دار السلام أي الجنة المصوغة من السلامة.
المسألة الثانية : المطلع الطلوع يقال : طلع الفجر طلوعاً ومطلعاً ، والمعنى أنه يدوم ذلك السلام إلى طلوع الفجر ، ومن قرأ بكسر اللام فهو اسم لوقت الطلوع وكذا مكان الطلوع مطلع قاله الزجاج : أما أبو عبيدة والفراء وغيرهما فإنهم اختاروا فتح اللام لأنه بمعنى المصدر ، وقالوا : الكسر اسم نحو المشرق ولا معنى لاسم موضع الطلوع ههنا بل إن حمل على ما ذكره الزجاج من اسم وقت الطلوع صح ، قال أبو علي : ويمكن حمله على المصدر أيضاً ، لأن من المصادر التي ينبغي أن تكون على المفعل ما قد كسر كقولهم علاء المكبر والمعجز ، قوله : {وَيَسْاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } فكذلك كسر المطلع جاء شاذاً عما عليه بابه. والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 246
248
(1/4802)
سورة البينة
وهي ثمانية آيات مدنية
جزء : 32 رقم الصفحة : 248
249
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} .
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ، ثم إنه رحمه الله تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها وأنا أقول : وجه الإشكال أن تقدير الآية : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} التي هي الرسول ، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه ، فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين ، عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول ، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول ، ثم قال بعد ذلك : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن والجواب : عنه من وجوه أولها : وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف. وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان ، كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل. وهو محمد عليه السلام ، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ، ثم قال : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}
جزء : 32 رقم الصفحة : 249
يعني / أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى ، فلما رزقه الله الغنى ازداد فسقاً فيقول واعظه : لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر ، وما عمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً ، وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد ، وهو أن قوله : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} عن كفرهم : {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} مذكورة حكاية عنهم ، وقوله : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هو إخبار عن الواقع ، والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا وثانيها : أن تقدير الآية ، لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة. وعلى هذا التقدير يزول الإشكال هكذا ذكره القاضي إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وثالثها : أنا لا نحمل قوله : {مُنفَكِّينَ} على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل والمعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة قال ابن عرفة : أي حتى أتتهم ، فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي/ وهو كقوله تعالى : {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي ما تلت ، والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه ، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه ، وقال كل واحد فيه قولاً آخر ردياً ونظيره قوله تعالى : {وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه } والقول المختار في هذه الآية هو الأول ، وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول ، وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك ، بخلاف ما كان قبل ذلك ، والأمر هكذا كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمناً ، ومنهم من صار كافراً ، ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه ، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى ، وفيها وجه خامس : وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته ، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول ، بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان ، ونظيره قوله : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازماً في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن ، فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام : اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته ، وقوله : {مُنفَكِّينَ} مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه ، فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها ، ثم إن بعد المعبث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 249
المسألة الثانية : الكفار كانوا جنسين أحدهما : أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفاراً بإحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم : {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} و: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه } وتحريفهم / كتاب الله ودينه والثاني : المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب ، فذكر الله تعالى الجنسين بقوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل ، وهو قوله : {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} وههنا سؤالان :
السؤال الأول : تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر ، وهذا حق ، وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر ، ومعلوم أن ليس بحق والجواب : من وجوه أحدها : كلمة من ههنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَانِ} وثانيها : أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، بعضهم من أهل الكتاب ، وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة ، وهذا كله شرك ، وقد يقول القائل : جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قوماً بأعيانهم يصفهم بالأمرين. وقال تعالى : {الراَّكِعُونَ السَّاجِدُونَ الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ} وهذا وصف لطائفة واحدة ، وفي القرآن من هذا الباب كثير ، وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى ، يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفاً لموصوف واحد.
(1/4803)
السؤال الثاني : المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب ؟
قلنا : ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام : "سنوليهم سنة أهل الكتاب" وأنكره الآخرون قال : لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب ، وهم اليهود والنصارى ، قال تعالى حكاية عنهم : {أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَـابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} والطائفتان هم اليهود والنصارى.
السؤال الثالث : ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين ؟
حيث قال : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ} ؟
الجواب : أن الواو لا تفيد الترتيب ، ومع هذا ففيه فوائد أحدها : أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر وثانيها : أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم ، فكان إصرارهم على الكفر أقبح وثالثها : أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلاً لكفر غيرهم ، فلهذا قدموا في الذكر ورابعها : أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 249
السؤال الرابع : لم قال من أهل الكتاب ، ولم يقل من اليهود والنصارى ؟
الجواب : لأن قوله : {مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ} يدل على كونهم علماء ، وذلك يقتضي إما مزيد تعظيم ، فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى ، أو لأن كونه عالماً يقتضي مزيد قبح في كفره ، فذكروا بهذا الوصف تنبيهاً على تلك الزيادة من العقاب.
/ المسألة الثانية : هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع أحدها : أنه تعالى فسر قوله : {الَّذِينَ كَفَرُوا } بأهل الكتاب وبالمشركين ، فهذا يقتضي كون الكل واحداً في الكفر ، فمن ذلك قال العلماء : الكفر كله ملة واحدة ، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس والثاني : أن العطف أوجب المغايرة ، فلذلك نقول : الذمي ليس بمشرك ، وقال عليه السلام : "غيرنا كحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك الثالث : نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية.
المسألة الرابعة : قال القفال : الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتح والزوال ، ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته ، ومنه فكاك الرهن وهو زوال الإنغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله : انفك الرهن ، ومنه فكاك الأسير وفكه ، فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به ، كالعظم إذا انفك من مفصله ، والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثاً قوياً لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة ، أما البينة فهي الحجة الظاهرة التي بها يتيمز الحق من الباطل فهي من البيان أو البينونة لأنها تبين الحق من الباطل ، وفي المراد من البينة في هذه الآية أقوال :
الأول : أنها هي الرسول ، ثم ذكروا في أنه لم سمي الرسول بالبينة وجوهاً الأول : أن ذاته كانت بينة على نبوته ، وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجد في تقرير النبوة والرسالة ، ومن كان كذاباً متصنعاً فإنه لا يتأتى منه ذلك الجد المتناهي ، فلم يبق إلا أن يكون صادقاً أو معتوهاً والثاني : معلوم البطلان لأنه كان في غاية كمال العقل ، فلم يبق إلا أنه كان صادقاً الثاني : أن مجموع الأخلاف الحاصلة فيه كان بالغاً إلى حد كمال الإعجاز ، والجاحظ قرر هذا المعنى ، والغزالي رحمه الله نصره في كتاب المنقذ ، فإذاً لهذين الوجهين سمي هو في نفسه بأنه بينة الثالث : أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظهور وكانت أيضاً في غاية الكثرة فلاجتماع هذين الأمرين جعل كأنه عليه السلام في نفسه بينة وحجة ، ولذلك سماه الله تعالى : {وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} . واحتج القائلون بأن المراد من البينة هو الرسول بقوله تعالى بعد هذه الآية : {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ} فهو رفع على البدن من البينة ، وقرأ عبد الله : {رَسُولا} حال من البينة قالوا : والألف واللام في قوله : {الْبَيِّنَةُ} للتعريف أي هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى ، أو يقال : إنها للتفخيم أي هو : {الْبَيِّنَةُ} التي لا مزيد عليها أو البينة كل البينة لأن التعريف قد يكون للتفخيم وكذا التنكير وقد جمعهما الله ههنا في حق الرسول عليه لسلام فبدأ بالتعريف وهو لفظ البينة ثم ثنى بالتنكير فقال : {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ} أي هو رسول ، وأي رسول ، ونظيره ما ذكره الله تعالى في الثناء على نفسه فقال : {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} ثم قال : {فَعَّالٌ} فنكر بعد التعريف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 249
(1/4804)
القول الثاني : أن المراد من {الْبَيِّنَةُ} مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال : المراد من قوله : / {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلوا عليهم صحفاً مطهرة وهو كقوله : {يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَـابًا مِّنَ السَّمَآءِ } وكقوله : {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} .
القول الثالث : وهو قتادة وابن زيد : {الْبَيِّنَةُ} هي القرآن ونظيره قوله : {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى } ثم قوله بعد ذلك : {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ} لا بد فيه من مضاف محذوف والتقدير : وتلك البينة وحي : {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} .
أما قوله تعالى : {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب ، وفي : وجوه : أحدها : {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة } عن الباطل وهي كقوله : {لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِنا بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه } وقوله : {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَة } ، وثانيها : مطهرة عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثني عليه أحسن الثناء وثالثها : أن يقال : مطهرة أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون ، كقوله تعالى : {فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّه ا إِلا الْمُطَهَّرُونَ} .
واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتاً للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله : {كُتُبٌ} فيه قولان : {أَحَدُهُمَآ} المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف والثاني : قال صاحب النظم : الكتب قد يكون بمعنى الحكم : {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ} ومنه حديث العسيف : "لأقضين بينكما بكتاب الله" أي بحكم الله فيحتمل أن يكون المراد من قوله : {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي أحكام قيمة أما القيمة ففيها قولانالأول : قال الزجاج : مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت ، وهو كقولهم : قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام الثاني : أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة ، من قولهم قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه ، ومنه يقال للقائم بأمر القوم القيم ، فإن قيل : كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أمياً ؟
قلنا : إذا تلا مثلاً المسطور في تلك الصحف كان تالياً ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب ، وإن كان لا يكتب ، ولعل هذا كان من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 249
وأما قوله تعالى : {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ففيه مسائل.
المسألة الأولى : في هذه الآية سؤال ، وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة ، أهل الكتاب والمشركين ، وههنا ذكر أهل الكتاب فقط ، فما السبب فيه ؟
وجوابه : من وجوه أحدها : أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل ، بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية وثانيها : أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بسبب أنهم وجدوها في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
/ المسألة الثانية : قال الجبائي : هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا : إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة والجواب : أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم الله بذلك وإرادته له حاصل في الأزل ، أما ظهروه من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة.
المسألة الثالثة : قالوا : هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلمهم لا أنه مقدر عليهم لأنه قال : {إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، ثم قال : {أُمُّ الْكِتَـابِ} أي أن الله وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى الله ، والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم.
المسألة الرابعة : المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلّم أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم ، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل : {إِلا مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} فهي عادة قديمة لهم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 249
253
أما قوله تعالى : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَواةَا وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وفيه مسائل :
(1/4805)
المسألة الأولى : في قوله : {وَمَآ أُمِرُوا } وجهان : أحدهما : أن يكون المراد : {وَمَآ أُمِرُوا } في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي ، فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله : {وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعاً في حقهم فهو مشروع في حقنا وثانيها : أن يكون المراد : وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم إلا بهذه الأشياء ، وهذا أولى ، لثلاثة أوجه : أحدها : أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعاً جديداً وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى وثانيها : وهو أن ذكر محمد عليه السلام قد مر ههنا وهو قوله : {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم وثالثها : أنه تعالى ختم الآية بقوله : {وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية ديناً قيماً فوجب أن يكون شرعاً في حقنا سواء قلنا : بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بياناً لشرع محمد عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل.
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
المسألة الثانية : في قوله : {إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض ، فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلاً لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض ، فلو فعل الله فعلاً لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بالغير وهو محال ، لأن ذلك الغرض إن كان قديماً / لزم من قدمه قدم الفعل ، وإن كان محدثاً افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز ، وإن كان قادراً عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثاً ، فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلا بد فيه من التأويل. ثم قال الفراء : العرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيراً ، من ذلك قوله تعالى : {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وقال في الأمر : {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} وهي في قراءة عبد الله : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} فثبت أن المراد : وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين. والإخلاص عبارة عن النية الخالصة ، والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة ، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوباً ، ثم قالت الشافعية : الوضوء مأمور به في قوله تعالى : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى} ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منوياً ، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منوياً ، وأما المعتزلة فإنهم يوجبون تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض ، لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية : وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا الله ، والإستدلال على هذا القول أيضاً قوي ، لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين في ذلك الشيء ، وهذا أيضاً يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات. فإن قيل : النظر في معرفة الله مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه. لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة ، فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه. قلنا : هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة.
المسألة الثالثة : قوله : {أُمِرُوا } مذكور بلفظ ما لم يسم فاعله وهو : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} قالوا : فيه وجوه أحدها : كأنه تعالى يقول العبادة شاقة ولا أريد مشقتك إرادة أصلية بل إرادتي لعبادتك كإرادة الوالدة لحجامتك ، ولهذا لما آل الأمر إلى الرحمة قال : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } ، {كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ} وذكر في الواقعات إذا أراد الأب من ابنه عملاً يقول له أولاً : ينبغي أن تفعل هذا ولا يأمره صريحاً ، لأنه ربما يرد عليه فتعظم جنايته ، فههنا أيضاً لم يصرح بالأمر لتخف جناية الراد وثانيها : أنا على القول بالحسن والقبح العقليين ، نقول : كأنه تعالى يقول : لست أنا الآمر للعبادة فقط ، بل عقلك أيضاً يأمرك لأن النهاية في التعظيم لمن أوصل إليك (أن) نهاية الإنعام واجبة في العقول.
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
المسألة الرابعة : اللام في قوله : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا : العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة ، أو إلى البعد عن عقاب النار ، بل لأجل أنك عبد وهو رب ، فلو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب البتة ، ثم أمرك بالعبادة. وجبت لمحض العبودية ، وفيها أيضاً إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب ، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب ، والحق واسطة ، ونعم ما قيل : من آثر العرفان للعرفان فقد قال : بالثائي / ومن آثر العرفان لا للعرفان ، بل للمعروف ، فقد خاض لجة الوصول.
(1/4806)
المسألة الخامسة : العبادة هي التذلل ، ومنه طريق معبد ، أي مذلل ، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ ، لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام ، وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسماً لكل طاعة الله ، أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم ، واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحداً في ذاته وصفاته الذاتية ، والقعلية ، فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم ، ثم نقول : لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين أحدهما : غاية التعظيم ، ولذلك قلنا : إن صلاة الصبي ، ليست بعبادة ، لأنه لا يعرف عظمة الله ، فلا يكون فعله في غاية التعظيم والثاني : أن يكون مأموراً به ، ففعل اليهودي ليس بعبادة ، وإن تضمن نهاية التعظيم ، لأنه غير مأمور به ، والنكتة الوعظية فيه ، أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر ، فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم ؟
.
المسألة السادسة : الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصاً لداعية واحدة ، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل ، والنكت والوعظية فيه من وجوه أحدها : كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك ، بل بذلت لك البعض ، فأطلب منك البعض نصفاً من العشرين ، وشاة من الأربعين ، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك ، فلا ترد بطاعتك سواي ، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلاً من أن تستثنيه لغيرك ، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص ، وأما الإلتفات المكروه فذا حظ الشيطان وثانيها : كأنه تعالى قال : يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة ، فإذاً لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد ، ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن ، فكأنه تعالى بفضله قال : الملك لا يخدم الملك لكن (لكي) نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك : {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} فاجعل أنت أيضاً جميع ما تفعله لأجلي : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
واعلم أن قوله : {مُخْلِصِينَ} نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص منابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه ، والواجب لوجوبه ، فيأتي بالفعل لوجهه مخلصاً لربه ، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضاً آخر ، بل قالوا : لا يجعل طلب الجنة مقصوداً ولا النجاة عن النار مطلوباً وإن كان لا بد من ذلك ، وفي التوراة : ما آريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل. وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير ، مثل الواجب من الأضحية شاة ، فإذا ذبحت إثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك ، وإن زدت في الخشوع ، لأن الناس يرونه لم يجز ، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة / أخرى ، فكيف ولو خلطت بها محظوراً مثل أن تتقدم على إمامك ، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص ، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص ، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص ؟
وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله : {مُخْلِصِينَ} قال بعضهم : مقرين له بالعبادة ، وقال آخرون : قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة ، وقال الزجاج : أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره ، ويدل على هذا قوله : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا } .
أما قوله تعالى : {حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَواةَ } ففيه أقوال :
(1/4807)
الأول : قال مجاهد : متبعين دين إبراهيم عليه السلام ، ولذلك قال : {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا التفسير فيه لطيف كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضاً بالكلية ، فلا جرم ذكر قوماً أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم ، وهو إبراهيم ومن معه ، فقال : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَه } فكأنه تعالى قال : إن كنت تقلد أحداً في دينك ، فكن مقلداً إبراهيم ، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران ، ومن ماحين بذله للضيفان ، ومن ولده حين بذله للقربان ، بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه ، ولم ير شخصاً فاستعاده ، فقال : أما بغير أجر فلا ، فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام ، وقال : حق لك حيث سماك خليلاً فخذ مالك ، فإن القائل : كنت أنا ، بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال : أما إليك فلا ، فالحق سبحانه كأنه يقول : إن كنت عابداً فاعبد كعبادته ، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين ، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين ، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم ، فاجتهد في متابعة ولده الصبي ، كيف إنقاد لحكم ربه مع صفره ، فمد عنقه لحكم الرؤبا ، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل ، وهو أم الذبيح ، كيف تجرعت تلك الغصة ، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإراث ، والرقيقة نصف الحرة بدليل إن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل ، ثم أنظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف ، لا يكلمها ولا يعطف عليها ، قالت آلله أمرك بهذا ؟
فأومأ برأسه نعم ، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق.
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
والقول الثاني : المراد من قوله : {حُنَفَآءَ} أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة ، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل ، كقولنا : للأعمى بصير وللمهلكة مفازة ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
والقول الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما حجاجاً ، وذلك لأنه ذكر العباد أولاً ثم قال : {حُنَفَآءَ} وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال الرابع : قال أبو قلابة / الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحداً منهم ، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفاً الخامس : حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين ، قال عليه السلام : "بعثن بالحنيفية السهلة السمحة" السادس : قال قتادة : هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم ، فقوله : {حُنَفَآءَ} إشارة إلى النفي ، ثم أردفه بالإثبات ، وهو قوله : {وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ} السابع : قال أبو مسلم : أصله من الحنف في الرجل ، وهو إدبار إبهامها عن أخوانها حتى يقبل على إبهام الأخرى ، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام الثامن : قال الربيع بن أنيس : الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته ، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً ، وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مراراً كثيرة ، ثم قال : {وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المبرد والزجاج : ذلك دين الملة القيمة ، فالقيمة نعت لموصوف محذوف ، والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة ، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله : {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} وقال الفراء : هذا من إضافة النعت إلى المنعوت ، كقوله : {إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} والهاء للمبالغة كما في قوله : {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
(1/4808)
المسألة الثانية : في هذه الآية لطائف إحداها : أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معاً ، فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول ، وهم اليهود والنصارى والمجوس ، فإنهم ربما اتعبوا أنفسهم في الطاعات ، ولكنهم ما حصلوا الدين الحق ، وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع ، وهم المرجثة الذين قالوا : لا يضر الذنب مع الإيمان ، والله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية ، وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله : {مُخْلِصِينَ} ومن العمل في قوله : {وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَواةَ } ثم قال : وذلك المجموع كله هو {دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي البينة المستقيمة المعتدلة ، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هو المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك ، ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول : القائم بتحصيل مصالحك عاجلاً وآجلاً هو هذا المجموع ، ونظيره قوله تعالى : {دِينًا قِيَمًا} وقوله في القرآن : {قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق ، ويؤيده قوله عليه السلام : "من كان في عمل الله كان الله في عمله" وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : "يا دنيا من خدمك فاستخدميه ، ومن خدمني فاخدميه" ، وثانيها : أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة ، وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح ، لخالقهم فالإحسان من الله لا من الملائكة ، والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من الله ، ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول الله مباهياً بهم : ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا ، بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا / وتصدقوا ، ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان ، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين ؛ أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان ، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين/ فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة ، فلهذا قال : {وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } أفلا يكون هذا الدين قيماً وثالثها : أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز ، والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للذين كالعلم والزكاة كالقدرة ، فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة ورابعها : وهو فائدة الترتيب أن الحكم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء ، وهو القول والاعتقاد فقال : {مُخْلِصِينَ} ثم لما أجابوه زاده ، فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت ، ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال : "لا زكاة في مال يحول عليه الحول" ثم لما ذكر الكل قال : {وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
(1/4809)
المسألة الثالثة : احتج من قال : الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية ، فقال : مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فاداً مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان ، لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة. ثم قال : {وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي وذلك المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا : إن الدين هو ازسلام لقوله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } وإنما قلنا : إن الإسلام هو الإيمان لوجهين الأول : أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولاً عند الله تعالى لقوله تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله ، فهو إذاً عين الإسلام والثاني : قوله تعالى : {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} فاستثناء المسلم من المؤمن ، يدل على أن الإسلام يصدق عليه ، وإذا ثبتت هذه المقدمات ، ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان ، وحينئذ يبطل قول من قال : الإيمان اسم لمجرد المعرفة ، أو المجرد الإقرار أولهما معاً والجواب : لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله : {وَذَالِكَ} إلى الإخلاص فقط ؟
والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى ، وأنتم تحتاجون إلى الإضمار ، فتقولون : المراد وذلك المذكور ، ولا شك أن عدم الإضمار أولى ، سلمنا أن قوله : {وَذَالِكَ} إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم ، فلم قلتم : إن ذلك المجموع هو الدين ، وذلك لأن الدين غير ، والدين القيم ، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه ، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلاً ، وكانت آثاره ونتائجهة معه حاصلة أيضاً ، وهي الصلاة والزكاة ، وإذا لم يوجد هذا المجموع ، لم يكن الدين القيم حاصلاً ، لكن لم قلتم : إن أصل الدين لا يكون حاصلاً والنزاع ما وقع إلا فيه ؟
والله أعلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
253
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآا أَوالَـا اـاِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} .
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولاً في قوله : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ} ثم ذكر ثانياً حال المؤمنين في قوله : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} أعاد في آخر هذه السورة ذكر كلا الفريقين ، فبدأ أيضاً بحال الكفار ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين أحدهما : الخلود في نار جهنم والثاني : أنهم شر الخلق ، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر ؟
الجواب : من وجوه أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يقدم حق الله سبحانه على حق نفسه ، ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال : "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال : "اللهم املأ بطونهم وقبورهم ناراً" فكأنه عليه السلام قال : كانت الضربة ثم على وجه الصورة ، وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة ، ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال : كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضاً أقدم حقك على حق نفسي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر. إذا عرفت ذلك فنقول : أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله بل في الرسول ، وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله ، فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولاً في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب ، ثم ثانياف بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون وثانيها : أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم ، لأن المشركين رأوه صغيراً ونشأ فيهما بينهم ، ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم ، وهذا أمر شاق ، أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد.
السؤال الثاني : لم ذكر : {كَفَرُوا } بلفظ الفعل : {وَالْمُشْرِكِينَ} باسم الفاعل ؟
والجواب : تنبيهاً على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل ، ومقرين بمبعث محمد صلى الله عليه وسلّم ، ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
(1/4810)
السؤال الثالث : أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرون/ القيامة ، أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم ، فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين ، وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب ؟
والجواب : يقال : بئر جهنام إذا كان بعيد القعر ، فكأنه تعالى يقول تكبروا طلباً للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين ، ثم إن الفريقين وإن اشتراكا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب ، واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك ، وهذا القسم الثاني هو أقبح القمسين والإحسان أيضاً على قسمين إحسان إلى من أحسن إليك ، وإحسان إلى من أساء إليك ، وهذا أحسن القسمين ، فكان إحسان الله إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءة/ ومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية ، فبالشتم تعزير وبالقذف حد وبالسرقة قط ، وبالزنا رجم ، وبالقتل قصاص ، بل شتم المماثل يوجب التعزير ، والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل ، فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات ، لا جرم استحقوا أعظم العقوبات ، وهو نار جهنم ، فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه البتة ، ثم كأنه قال قائل : هب أنه ليس هناك رجاء الفرار ، فهل هناك رجاء الإخراج ؟
فقال : لا بل يبقون خالدين فيها ، ثم كأنه قيل : فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم ؟
فقال : لا بل يذمونهم ، ويلعنونهم لأنهم شر البرية.
السؤال الرابع : ما السبب في أنه لم يقل : ههنا خالدين فيها أبداً ، وقال في صفة أهل الثواب : {خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } ؟
والجواب : من وجوه أحدها : التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه وثانيها : أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل ، أما الثواب فأقسامه لا تتداخل وثالثها : روى حكاية عن الله أنه قال : يا داود حببني إلى خلقي ، قال : وكيف أفعل ذلك ؟
قال : اذكر لهم سعة رحمتي ، فكان هذا من هذا الباب.
السؤال الخامس : كيف القراءة في لفظ البرية ؟
الجواب : قرأ نافع البريئة بالهمز ، وقرأ الباقون بغير همز وهو من برأ الله الخلق ، والقياس فيها الهمز إلا أنه ترك همزه ، كالنبي والذرية والخابية ، والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال ، كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيه أجود ، وإن كان الهمز هو الأصل ، لأن ذلك صار كالشيء المرفوض المتروك. وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال : إنه من البرأ الذي هو التراب.
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
السؤال السادس : ما الفائدة في قوله : هم شر البرية ؟
الجواب : أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم ، واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها ، شر من السراق ، لأنهم سرقوا من كتاب الله ، صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وشر من قطاع الطريق ، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق ، وشر من الجهال الأجلاف ، لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح.
واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد.
السؤال السابع : هذه الآية هل هي مجراة على عمومها ؟
الجواب : لا بل هي مخصوصة بصورتين إحداهما : أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد والثانية : قال بعضهم : لا يجوز أن يدخل في الآية من مضي من الكفار ، لأن فرعون كان شراً منهم ، فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر ، لأنهم أفضل الأمم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 253
254
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أولئك هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : الوجه في حسن تقديم الوعيد على الوعد وجوه أحدها : أن الوعيد كالدواء ، والوعد كالغذاء ، ويجب تقديم الدواء حتى إذا صار البدن نقياً انتفع بالغذاء ، فإن البدن غير النقي كلما عذوته زدته شراً ، هكذا قاله بقراط في كتاب الفصول وثانيها : أن الجلد بعد الدبغ يصير صالحاً للمدارس والخف ، أما قبله فلا ، ولذلك فإن الإنسان متى وقع في محنة أو شدة رجع إلى الله ، فإذا نال الدنيا أعرض ، على ما قال : {فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وثالثها : أن فيه بشارة ، كأنه تعالى يقول : لما لم يكن بد من الأمرين ختمت بالوعد الذي هو بشارة مني في أني أختم أمرك بالخير ، ألست كنت نجساً في مكان نجس ، ثم أخرجتك إلى الدنيا طاهراً ، أفلا أخرجك إلى الجنة طاهراً!.
المسألة الثانية : احتج من قال : إن الطاعات ليست داخلة في مسمى الإيمان بأن الأعمال الصالحة معطوفة في هذه الآية على الإيمان ، والمعطوف غير المعطوف عليه.
(1/4811)
المسألة الثالثة : قال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } ولم يقل : إن المؤمنين إشارة إلى أنهم أقاموا سوق الإسلام حال كساده ، وبذلوا الأموال والمهج لأجله ، ولهذا السبب استحقوا الفضيلة العظمى كما قال : {لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ } ولفظة : {ءَامَنُوا } أي فعلوا الإيمان مرة.
واعلم أن الذين يعتبرون الموافاة يحتجون بهذه الآية ، وذلك لأنها تدل على أن من أتى بالإيمان مرة واحدة فله هذا الثواب ، والذي يموت على الكفر لا يكون له هذا الثواب ، فعلمنا أنه ما صدر الإيمان عنه في الحقيقة قبل ذلك.
المسألة الرابعة : قوله : {وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} من مقابلة الجمع بالجمع ، فلا يكلف الواحد بجميع الصالحات ، بل لكل مكلف حظ فحظ الغني الإعطاء ، وحظ الفقير الأخذ.
المسألة الخامسة : احتج بعضهم بهذه الآية في تفضيل البشر على الملك ، قالوا : روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال : "أتعجبون من منزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك ، واقرؤا إن شئتم : أن الذين آمنوا وعملوا / الصالحات أولئك هم خير البرية".
جزء : 32 رقم الصفحة : 254
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لوجوه : أحدها : ما روى عن يزيد النحوي أن البرية بنو آدم من البرا وهو التراب فلا يدخل الملك فيه البتة وثانيها : أن قوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ} غير مختص بالبشر بل يدخل فيه الملك وثالثها : أن الملك خرج عن النص بسائر الدلائل ، قالوا : وذلك لأن الفضيلة إما مكتسبة أو موهوبة ، فإن نظرت إلى الموهوبة فأصلهم من نور وأصلك من حمأ مسنون ، ومسكنهم دار لم يترك فيها أبوك مع الزلة ومسكنكم أرض هي مسكن الشياطين ، وأيضاً فمصالحنا منتظمة بهم ورزقنا في يد البعض وروحنا في يد البعض ، ثم هم العلماء ونحن المتعلمون ، ثم أنظر إلى عظيم همتهم لا يميلون إلى محقرات الذنوب ، ومن ذلك فإن الله تعالى لم يحك عنهم سوى دعوى الإلهية حين قال : {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِه } أي لو أقدموا على ذنب فهمتهم بلغت غاية لا يليق بها إلا دعوى الربوبية ، وأنت أبداً عبد البطن والفرج ، وأما العبادة فهم أكثر عبادة من النبي لأنه تعالى مدح النبي بإحياء ثلثي الليل وقال فيهم : {يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} ومرة : {لا يَسْـاَمُونَ } وتمام القول في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 254
255
قوله تعالى : {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه } .
اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل :
(1/4812)
المسألة الأولى : اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقاً من المحن والآفات ، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكياً لا للفراق ولكن مشتكياً من وحشة الحبس ليرحم ، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم ، ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدوداً في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط ، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم ، ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف ، ثم إن المكلف يصير كالمتحير ، يقول : من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل ، فوجده عالماً لا يشبه العالمين ، وقادراً لا يشبه القادرين ، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة ، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة ، فترك الشكاية وأقبل على الشكر ، ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة ، فجعل قلبه مسكناً لسطان عرفانه ، فكأن الحق قال : عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى / لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد : يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته ، وكذا حب الأب والأم ، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل. أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي ، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول ، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار ، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم ، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح ، فيقول الله : عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة ، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا ، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة ، فلهذا قال : {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الانْهَـارُ} بل كأن الكريم الرحيم يقول : عبدي أعطاني كل ما ملكه ، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي ، وأنا أولى منه بالكرم والجود ، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوباً دائماً مخلداً ، حتى يكون دوامه وخلوده جابراً لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية.
جزء : 32 رقم الصفحة : 255
المسألة الثانية : الجزاء اسم لما يقع به الكفاية ، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء ، فهذا يفيد معنيين أحدهما : أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص والثاني : أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية ، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلاً ، على ما قال : {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} .
المسألة الثانية : قال : {جَزَآؤُهُمْ} فأضاف الجزاء إليهم ، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه } والجواب : أما أهل السنة فإنهم يقولون : إنه لو قال الملك الكريم : من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار ، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي ، فقوله : {جَزَآؤُهُمْ} يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا : في قوله تعالى : {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِه } إن كلمة من لابتداء الغاية/ فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان ، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة. فإن قيل : فإذا كان لا حق لأحد عليه في مذهبكم ، فما السبب في التزام مثل هذا الأنعام ؟
قلنا : أتسأل عن إنعامه الأمسى حال عدمنا ؟
أو عن إنعامه اليومي حال التكليف ؟
أو عن إنعامه في غد القيامة ؟
فإن سألت عن الأمسى فكأنه يقول : أنا منزه عن الإنتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع ، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله ، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه ، كما روى : "الخلق عيال الله" وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع. فالرحمن أولى. وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك.
/ المسألة الرابعة : في قوله : {عِندَ رَبِّهِمْ} لطائف :
أحدها : قال بعض الفقهاء : لو قال : لا شيء لي على فلان ، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة ، ولو قال : لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين ، ولو قال : لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معاً ، إذا عرفت هذا فقوله : {عِندَ رَبِّهِمْ} يفيد أنه وديعة والوديعة عين ، ولو قال : لفلان على فهو إقرار بالدين ، والعين أشرف من الدين فقوله : {عِندَ رَبِّهِمْ} يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد ، فإن قيل : الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون ، قلنا : المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال ، فلا جرم قلنا : الوديعة هناك خير من المضمون.
جزء : 32 رقم الصفحة : 255
(1/4813)
وثانيها : إذا وقعت الفتنة في البلدة ، فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب ، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك ، وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها ، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتاباً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله : {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة.
وثالثها : أنه قال : {عِندَ رَبِّهِمْ} وفيه بشارة عظيمة ، كأنه تعالى يقول : أنا الذي ربيتك أولاً حين كنت معدوماً صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة ، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقاً أعطيتك هذه الأشياء ، وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئاً وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها ، كلا إن هذا مما لا يكون.
المسألة الخامسة : قوله : {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ} فيه قولان :
أحدهما : أنه قابل الجمع بالجمع ، وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، كما لو قال لأمر أتيه أو عبديه : إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما داراً على حدة ، وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين ، وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين ، ودليل القول الأول : {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة ، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روى مرفوعاً ، ويدل عليه قوله تعالى : {وَمُلْكًا كَبِيرًا} ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات ، كما روى عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن ، لأنه قال : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} ثم قال : {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فذكر أربعاً للواحد ، والسبب فيه أنه بكى من خوف الله ، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان إثنان دون الإثنين ، فاستحق جنتين دون الجنتين ، فحصلت له أربع جنات ، لسكبه البكاء من أربعة أجفان ، ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله : {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ} وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله : {ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّه } وفيه إشارة إلى أنه لا بد من / دوام الخوف ، أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال ، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف ، إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 255
المسألة السادسة : قوله : {عَدْنٍ} يفيد الإقامة : {لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} يقال : عدن بالمكان أقام ، وروى أن جنات عدن وسط الجنة ، وقيل : عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة ، قال بعضهم : إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين ، فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال : إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع. مثل حركة الجن ، مع أنها دار إقامة وعدن ، وإما من الجنون فهو أن الجنة ، بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون ، لولا أن الله بفضله يثبته ، وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار ، أو من الجنين ، فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم ، ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} .
المسألة السابعة : قوله : {تَجْرِى} إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد ، ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري ، يزيد نوراً في البصر بل كأنه تعالى قال : طاعتك كانت جارية ما دمت حياً على ما قال : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد ، ثم قال : من تحتها إشارة إلى عدم التنغيص ، وذلك لأن التنغيص في البستان ، أما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم ، وإما بسبب الغرق والكثرة ، فذكر من تحتها ، ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن ، وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر ، واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء ، فلا تسمى الساقية نهراً ، بل العظيم هو الذي يسمى نهراً بدليل قوله : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِه ا وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ} فعطف ذلك على البحر.
المسألة الثامنة : اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولاً والرضا ثانياً ، وروى أنه عليه السلام قال : "إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا الله خير من الجنة.
أما الصفة الأولى : وهي الخلود ، فاعلم أن الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام ، وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل.
جزء : 32 رقم الصفحة : 255
وأما الصفة الثانية : وهي الرضا ، فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح ، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب ، والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح ، فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله ، ثم إنه قدم رضى الله عنهم على قوله : {وَرَضُوا عَنْه } لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث ، والمحدث لا يؤثر في الآزلي.
المسألة التاسعة : إنما قال : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء / لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله ، لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام ، فلو قال : رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل ، أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة ، وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة ، فقوله : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة.
المسألة العاشرة : اختلفوا في قوله : {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} فقال بعضهم : معناه رضي أعمالهم ، وقال بعضهم : المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم ، قال : لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله ، وهذا هو الأقرب ، وأما قوله : {وَرَضُوا عَنْه } فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب.
أما قوله تعالى : {ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} ولعل الخشية أشد من الخوف ، لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقروناً بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال : {هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} والكلام في الخوف والخشية مشهور.
المسألة الثانية : هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلاً على فضل العلم والعلماء ، وذلك لأنه تعالى قال : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه } فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية ، وهذه الآية وهي قوله : {ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّه } تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء.
جزء : 32 رقم الصفحة : 255
المسألة الثالثة : قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمناً بأن يعلم أنه من أهل الجنة ، وجعل هذع الآية دالة عليه. وهذا المذهب غير قوي ، لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة ، وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى ، كما قال عليه الصلاة والسلام : "أعرفكم بالله أخوفكم من الله ، وأنا أخوفكم منه" والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 255
255
(1/4814)
سورة الزلزلة
وهي ثمان آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 255
256
{إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ زِلْزَالَهَا} ههنا مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة وجوهاً أحدها : أنه تعالى لما قال : {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} فكأن المكلف قال : ومتى يكون ذلك يا رب فقال : {إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ زِلْزَالَهَا} فالعالمون كلهم يكونون في الخوف ، وأنت في ذلك الوقت تنال جزاؤك وتكون آمناً فيه ، كما قال : {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَا ِذٍ ءَامِنُونَ} وثانيها : أنه تعالى لما ذكر في السورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في وعيد الكافر ، فقال : أجازيه حين يقول الكافر السابق ذكره : ما للأرض تزلزل ، نظير قوله : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ثم ذكر الطائفتين فقال : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} ثم جمع بينهم في آخر السورة فذكر الذرة من الخير والشر.
المسألة الثانية : في قوله : {إِذَا} بحثان أحدهما : أن لقائل أن يقول : {إِذَا} للوقت فكيف وجه البداية بها في أول السورة ؟
وجوابه : من وجوه الأول : كانوا يسألونه متى الساعة ؟
فقال : {إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ} كأنه تعالى قال : لا سبيل إلى تعيينه بحسب وقته ولكني أعينه بحسب علاماته ، الثاني : أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد فكأنه قيل : متى يكون ذلك ؟
فقال : {إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ} .
البحث الثاني : قالوا كلمة : {ءَانٍ} في المجوز ، {وَإِذَآ} في المقطوع به ، تقول : إن دخلت الدار فأنت طالق لأن الدخول يجوز ، أما إذا أردت التعليق بما يوجد قطعاً لا تقول : إن بل تقول : إذا (نحو إذا) جاء غد فأنت طالق لأنه يوجد لا محالة. هذا هو الأصل ، فإن استمل على خلافه فمجاز ، فلما كان الزلزال مقطوعاً به قال : {إِذَا زُلْزِلَتِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 256
(1/4815)
المسألة الثالثة : قال الفراء : الزلزال بالكسر المصدر والزلزال بالفتح الاسم ، وقد قرىء بهما ، وكذلك الوسواس هم الاسم أي اسم الشيطان الذي يوسوس إليك ، والوسواس بالكسر / المصدر ، والمعنى : حركت حركة شديدة ، كما قال : {إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا} وقال قوم : ليس المراد من زلزلت حركت ، بل المراد : تحركت واضطربت ، والدليل عليه أنه تعالى يخبر عنها في جميع السورة كما يخبر عن المختار القادر ، ولأن هذا أدخل في التهويل كأنه تعالى يقول : إن الجماد ليضطرب لأوائل القيامة ، أما آن لك أن تضطرب وتتيقظ من غفلتك ويقرب منه : {لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه } واعلم أن زل للحركة المعتادة ، وزلزل للحركة الشديدة العظيمة ، لما فيه من معنى التكرير ، وهو كالصرصر في الريح ، ولأجل شدة هذه الحركة وصفها الله تعالى بالعظم فقال : {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} .
المسألة الرابعة : قال مجاهد : المراد من الزلزلة المذكورة في هذه الآية النفخة الأولى كقوله : {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أي تزلزل في النفخة الأولى ، ثم تزلزل ثانياً فتخرج موتاها وهي الأثقال ، وقال آخرون : هذه الزلزلة هي الثانية بدليل أنه تعالى جعل من لوازمها أنها تخرج الأرض أثقالها ، وذلك إنما يكون في الزلزلة الثانية.
المسألة الخامسة : في قوله : {زِلْزَالَهَا} بالإضافة وجوه أحدها : القدر اللائق بها في الحكمة ، كقولك : أكرم التقي إكرامه وأهن الفاسق إهانته ، تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة والثاني : أن يكون المعنى زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه/ والمعنى أنه وجد من الزلزلة كل ما يحتمله المحل والثالث : {زِلْزَالَهَا} الموعود أو المكتوب عليها إذا قدرت تقدير الحي ، تقريره ماروى أنها تزلزل من شدة صوت إسرافيل لما أنها قدرت تقدير الحي.
جزء : 32 رقم الصفحة : 256
256
أما قوله : {وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الأثقال قولان : {أَحَدُهُمَآ} أنه جمع ثقل وهو متاع البيت : {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها ، قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها ، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها ، وقيل : سمي الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم إذا كانوا في بطنها ويثقلون عليها إذا كانوا فوقها ، ثم قال : المراد من هذه الزلزلة ، الزلزلة الأولى يقول : أخرجت الأرض أثقالها ، يعني الكنوز فيمتلىء ظهر الأرض ذهباً ولا أحد يلتفت إليه ، كأن الذهب يصيح ويقول : أما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي أو تكون الفائدة في إخراجها كما قال تعالى : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} ومن قال : المراد من هذه الزلزلة الثانية وهي بعد القيامة. قال : تخرج الأثقال يعني الموتى أحياء كالأم تلده حياً ، وقيل : تلفظه الأسرار ، ولذلك قال : {يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فتشهد لك أو عليك.
/ المسألة الثانية : أنه تعالى قال في صفة الأرض : {أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ كِفَاتًا} ثم صارت بحال ترميك وهو تقرير لقوله : {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} وقوله : {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 256
256
أما قوله تعالى : {وَقَالَ الانسَـانُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : مالها تزلزل هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها ، وذلك إما عند النفخة الأولى حين تلفظ ما فيها من الكنوز والدفائن ، أو عند النفخة الثانية حين تلفظ ما فيها من الأموات.
المسألة الثانية : قيل : هذا قول الكافر وهو كما يقولون : {يَـاوَيْلَنَا مَنا بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } فأما المؤمن فيقول : {هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} وقيل : بل هو عام في حق المؤمن والكافر أي الإنسان الذي هو كنود جزوع ظلوم الذي من شأنه الغفلة والجهالة : يقول : مالها وهو ليس بسؤال بل هو للتعجب ، لما يرى من العجائب التي لم تسمع بها الآذان. ولا تطلق بها لسان ، ولهذا قال : الحسن إنه للكافر والفاجر معاً.
المسألة الثالثة : إنما قال : على غير المواجهة لأنه يعاتب بهذا الكلام نفسه ، كأنه يقول : يا نفس ما للأرض تفعل ذلك يعني يا نفس أنت السبب فيه فإنه لولا معاصيك لما صارت الأرض كذلك فالكفار يقولون : هذا الكلام والمؤمنون يقولون : {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } .
جزء : 32 رقم الصفحة : 256
258
أما قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فاعلم أن ابن مسعود قرأ : {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} وسعيد بن جبير تنبيء ثم فيه سؤالات :
الأول : أين مفعولاً تحدث ؟
الجواب : قد حذف أولهما والثاني أخبارها وأصله تحدث الخلق أخبارها إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً.
(1/4816)
السؤال الثاني : ما معنى تحديث الأرض ؟
قلنا فيه وجوه : أحدها : وهو قول أبي مسلم يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله فكأنها حدثت بذلك ، كقولك الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت وأن الآخرة قد أقبلت والثاني : وهو قول الجمهور : أن الله تعالى يجعل الأرض حيواناً عاقلاً ناطفاً ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصي ، قال عليه السلام : "أن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها" ثم تلا هذه الآية وهذا على مذهبنا غير بعيد لأن البنية عندنا ليست شرطاً لقبول الحياة ، فالأرض مع بقائها على شكلها ويبسها وقشفها يخلق الله فيها الحياة والنطق ، والمقصود كأن الأرض تشكو من العصاة / وتشكر من أطاع الله ، فنقول : إن فلاناً صلى وزكى وصام وحج في ، وإن فلاناً كفر وزنى وسرق وجار ، حتى يود الكافر أن يساق إلى النار ، وكان علي عليه السلام : إذا فرغ بيت المال صلى فيه ركعتين ويقول : لتشهدن أني ملأتك يحق وفرغك بحق والقول الثالث : وهو قول المعتزلة : أن الكلام يجوز خلقه في الجماد ، فلا يبعد أن يخلق الله تعالى في الأرض حال كونها جماداً أصواتاً مقطعة مخصوصة فيكون المتكلم والشاهد على هذا التقدير هو الله تعالى.
السؤال الثالث : إذ ويومئذ ما ناصبهما ؟
الجواب : يومئذ بدل من إذا وناصبهما تحدث.
السؤال الرابع : لفظ التحديث يفيد الاستئناس وهناك لا استئناس فما وجه هذا اللفظ الجواب : أن الأرض كأنها تبث شكواها إلى أولياء الله وملائكته.
جزء : 32 رقم الصفحة : 258
258
أما قوله تعالى : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} ففيه سؤالان :
السؤال الأول : بم تعلقت الباء في قوله : {بِأَنَّ رَبَّكَ} ؟
الجواب : بتحدث ، ومعناه تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها.
السؤال الثاني : لم لم يقل أوحى إليها ؟
الجواب : فيه وجهان الأول : قال أبو عبيدة : {أَوْحَى لَهَا} أي أوحى إليها وأنشد العجاج :
"أوحى لها القرار فاستقرت"
الثاني : لعله إنما قال لها : أي فعلنا ذلك لأجلها حتى تتوسل الأرض بذلك إلى التشفي من العصاة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 258
259
قوله تعالى : {يَوْمَـاـاِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَـالَهُمْ} الصدور ضد الورد فالوارد الجائي والصادر والمنصرف واشتاتاً متفرقين ، فيحتمل أن يردوا الأرض ، ثم يصدرون عنها الأرض إلى عرصة القيامة ، ويحتمل أن يردوا عرصة القيامة للمحاسبة ثم يصدرون عنها إلى موضع الثواب والعقاب ، فإن قوله : {أَشْتَاتًا} أقرب إلى الوجه الأول ولفظة الصدر أقرب إلى الوجه الثاني ، وقوله : {لِّيُرَوْا أَعْمَـالَهُمْ} أقرب إلى الوجه الأول لأن رؤية أعمالهم مكتوبة في الصحائف أقرب إلى الحقيقة من رؤية جزاء الأعمال ، وإن صح أيضاً أن يحمل على رؤية جزاء الأعمال ، وقوله : {أَشْتَاتًا} فيه وجوه أحدها : أن بعضهم يذهب إلى الموقف راكباً مع الثياب الحسنة وبياض الوجه والمنادى ينادي بين يديه : هذا ولي الله ، وآخرون يذهب بهم سود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل والأغلال والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله وثانيها : أشتاتاً أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني وثالثها : أشتاتاً من أقطار الأرض من كل ناحية ، ثم إنه سبحانه ذكر المقصود وقال : {لِّيُرَوْا أَعْمَـالَهُمْ} قال بعضهم : ليروا صحائف أعمالهم ، لأن الكتابة يوضع بين يدي الرجل فيقول : هذا طلاقك وبيعك هل تراه والمرئي وهو الكتاب وقال آخرون : ليروا جزاء أعمالهم ، وهو الجنة أو النار ، وإنما أوقع اسم العمل على الجزاء لأنه الجزاء وفاق ، فكأنه / نفس العمل بل المجاز في ذلك أدخل من الحقيقة ، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم : {لِّيُرَوْا } بالفتح.
جزء : 32 رقم الصفحة : 259
260
ثم قال تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي زنة ذرة قال الكلبي : الذرة أصغر النمل ، وقال ابن عباس : إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً إلا أراه الله تعالى إياه.
المسألة الثانية : في رواية عن عاصم : {يَرَه } برفع الياء وقرأ الباقون : {يَرَه } بفتحها وقرأ بعضهم : {يَرَه } بالجزم.
المسألة الثالثة : في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة ، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر ؟
.
(1/4817)
واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه : أحدها : قال أحمد بن كعب القرظي : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس له فيها شيء ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أنه عليه السلام قال لأبي بكر : "يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة" وثانيها : قال ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً ءلا أراه الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها : أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره ، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية ورابعها : أن تخصص عموم قوله : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } ونقول : المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شراً يره.
جزء : 32 رقم الصفحة : 260
المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم ؟
والجواب : هذا هو الكرم ، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف ، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم ، وإن قل فالكريم لا يضيعه ، وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً ، فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة ، بل اعتبرتها ونظرت فيها ، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركباً به وصلت إلي ، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد ، فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب ، وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ، ومن ذلك ما روى عن كعب : لا تحقروا شيئاً من المعروف ، فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت / المقدس فدخلت الجنة. وعن عائشة : "كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها ، فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها ، فقالت : إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية" ولعلها كان غرضها التعليم ، وإلا فهي كانت في غاية السخاوة. روى : "أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين ، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس ، فلما أمست قالت : يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز ويزت ، فقيل لها : أما أمسكت النار درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه ، فقالت : لو ذكرتيني لفعلت ذلك" وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة/ ويقول ما هذا بشيء ، وإنما نؤجر على ما نعطي وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، ويقول : لا شيء علي من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر ، فنزلت هذه الآي ترغيباً في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر ، وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ، ولهذا قال عليه السلام : "اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 260
260
(1/4818)
سورة العاديات
إحدى عشرة آية مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 260
261
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} .
اعلم أن الضبح أصوات أنفاس الخيل إذا عدت ، وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة ، ولكنه صوت نفس ، ثم اختلفوا في المراد بالعاديات على قولين :
الأول : ما روى عن علي عليه السلام وابن مسعود أنها الإبل ، وهو قول إبراهيم والقرظي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : "بينا أنا جالس في الحجر إذا أتاني رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ، ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليه عليه السلام وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت ، فقال : ادعه لي فلما وقفت على رأسه ، قال : تفتي الناس بما لا علم لك به ، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} الإبل من عرفة إلى مزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منى ، يعني إبل الحاج ، قال ابن عباس : فرجعت عن قولي إلى قول علي عليه السلام" ويتأكد هذا القول بما روى أبي في فضل السورة مرفوعاً : "من قرأها أعطى من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً" وعلى هذا القول : {فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا} أن الحوافر ترمى بالحجر من شدة العدو فتضرب به حجراً آخر فتورى النار أو يكون المعنى الذين يركبون الإبل وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم بالمزدلفة {فَالْمُغِيرَاتِ} الإغارة سرعة السير وهم يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى {فَأَثَرْنَ بِه نَقْعًا} يعني غباراً بالعدو وعن محم د بن كعب النقع ما بين المزدلفة إلى منى {فَوَسَطْنَ بِه جَمْعًا} يعني مزدلفة لأنها تسمى الجمع لاجتماع الحاج بها ، وعلى هذا التقدير ، فوجه القسم به من وجوه أحدها : ما ذكرنا من المنافع الكثيرة فيه في قوله : {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ} وثانيها : كأنه تعريض بالآدمي الكنود فكأنه تعالى يقول : إني سخرت مثل هذا لك وأنت متمرد عن طاعتي وثالثها : الغرض بذكر إبل الحج الترغيب في الحج ، كأنه تعالى يقول : جعلت ذلك الإبل مقسماً به ، فكيف أضيع / عملك وفيه تعريض لمن يرغب الحج ، فإن الكنود هو الكفور ، والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك ، كما في قوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} إلى قوله : {وَمَن كَفَرَ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 261
القول الثاني : قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعطاء وأكثر المحققين : أنه الخيل ، وروى ذلك مرفوعاً. قال الكلبي : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم سرية إلى أناس من كنانة فمكث ما شاء الله أن يمكث لا يأتيه منهم خبر فتخوف عليها. فنزل جبريل عليه السلام بخبر مسيرها ، فإن جعلنا الألف واللام في : {وَالْعَادِيَاتِ} للمعهود السابق كان محل القسم خيل تلك السرية ، وإن جعلناهما للجنس كان ذلك قسماً بكل خيل عدت في سبيل الله.
واعلم أن ألفاظ هذه الآيات تنادي أن المراد هو الخيل ، وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس ، واستعمال هذا اللفظ في الإبل يكون على سبيل الاستعارة ، كما استعير المشافر والحافر للإنسان ، والشفتان للمهر ، والعدول من الحقيقة إلى المجاز بغير ضرورة لا يجوز ، وأيضاً فالقدح يظهر بالحافر مالا يظهر بخف الإبل ، وكذا قوله : {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} لأنه بالخيل أسهل منه بغيره ، وقد روينا أنه ورد في بعض السرايا ، وإذا كان كذلك فالأقرب أن السورة مدنية ، لأن الإذن بالقتال كان بالمدينة ، وهو الذي قاله الكلبي : إذا عرفت ذلك فههنا مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى إنما أقسم بالخيل لأن لها في العدو من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب ، فإنها تصلح للطلب والهرب والكر والفر ، فإذا ظننت أن النفع في الطلب عدوت إلى الخصم لتفوز بالغنيمة/ وإذا ظننت أن المصلحة في الهرب قدرت على أشد العدو ، ولا شك أن السلامة إحدى الغنيمتين ، فأقسم تعالى بفرس الغازي لما فيه من منافع الدنيا والدين ، وفيه تنبيه على أن الإنسان يجب عليه أن يمسكه لا للزينة والتفاخر ، بل لهذه المنفعة ، وقد نبه تعالى على هذا المعنى في قوله : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } فأدخل لام التعليل على الركوب وما أدخله على الزينة وإنما قال : {صُبْحًا} لأنه أمارة يظهر به التعب وأنه يبذل كل الوسع ولا يقف عند التعب ، فكأنه تعالى يقول : إنه مع ضعفه لا يترك طاعتك ، فليكن العبد في طاعة مولاه أيضاً كذلك.
المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب {ضَبْحًا} وجوهاً أحدها : قال الزجاج : والعاديات تضبح ضبحاً وثانيها : أن يكون {وَالْعَادِيَاتِ} في معنى والضابحات ، لأن الضبح يكون مع العدو ، وهو قول الفراء وثالثها : قال البصريون : التقدير : والعاديات ضابحة ، فقوله : {ضَبْحًا} نصب على الحال.
جزء : 32 رقم الصفحة : 261
261
أما قوله تعالى : {فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا} .
(1/4819)
/ فاعلم أن الإيراء إخراج النار ، والقدح الصك تقول : قدح فأورى وقد فأصلد ، ثم في تفسير الآية وجوه أحدها : قال ابن عباس : يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزبد إذا قدح ، وقال مقاتل : يعني الخيل تقدحن بحوافرهن في الحجارة ناراً كنار الحباحب والحباحب اسم رجل كان بخيلاً لا يوقد النار إلا إذا نام الناس ، فإذا انتبه أحد أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد. فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ومن الناس من يقول : إنها نعل الحديد يصك الحجر فتخرج النار ، والأول أبلغ لأن على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد وثالثها : قال قوم : هذه الآيات في الخيل ، ولكن إبراؤها أن تهبج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم ، كما قال تعالى : {كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه } ومنه يقال للحرب إذا التحمت : حمى الوطيس وثالثها : هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم {فَالمُورِيَـاتِ} هم الجماعة من الغزاة ورابعها : إنها هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به وخامسها : هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة ، روى ذلك عن ابن عباس ، ويقال : لأقدحن لك ثم لأورين لك ، أي لأهيجن عليك شراً وحرباً ، وقيل : هو المكر إلا أنه مكر بإيقاد النار ليراهم العدو كثيراً ، ومن عادة العرب عند الغزو إذا قربوا من العدو أن يوقدوا نيراناً كثيرة ، لكي إذا نظر العدو إليهم ظنهم كثيراً وسادسها : قال عكرمة : الموريات قدحاً الأسنة وسابعها : {فَالمُورِيَـاتِ قَدْحًا} أي فالمنجحات أمراً ، يعني الذين وجدوا مقصودهم وفازوا بمطلوبهم من الغزو والحج ، ويقال للمنجح في حاجته : وروى زنده ، ثم يرجع هذا إلى الجماعة المنجحة ، ويجوز أن يرجع إلى الخيل ينجح ركبانها قال جرير :
وجدنا الأزد أكرمهم جوادا
وأوراهم إذا قدحوا زناداً
ويقال : فلان إذا قدح أورى ، وإذا منح أورى ، واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار ، وفي غيره مجاز ، ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل.
جزء : 32 رقم الصفحة : 261
262
أما قوله تعالى : {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح ، وكانوا يغيرون صباحاً لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئاً ، وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة ، أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد. وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل ، قالوا : المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى ، والسنة أن لا تغير حتى تصبح ، ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع ، يقال : أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول : أشرق ثبير كيما نغير. أي نسرع في الإفاضة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 262
263
أما قوله : {فَأَثَرْنَ بِه نَقْعًا} ففيه مسائل :
/ المسألة الأولى : في النقع قولان : أحدهما : أنا هو الغبار وقيل : إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع ، فالغبار يسمى نقعاً لارتفاعه ، وقيل : هو من النقع في الماء ، فكأن صاحب الغبار غاص فيه ، كما يغوص الرجل في الماء والثاني : النقع الصباح من قوله عليه الصلاة والسلام : "مالم يكن نقع ولا لقلقة" أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح ، وارتفعت أصواتهن ، ويقال : ثار الغبار والدخان ، أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه ، وأثرن الغبار أي هيجنه ، والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : به إلى ماذا يعود ؟
فيه وجوه أحدها : وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه ، والموضع الذي تقع فيه الإغارة ، لأن في قوله : {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} دليلاً على أن الإغارة لا بد لها من وضع ، وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وثانيها : إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة ، أي فأثرن في ذلك الوقت نقعاً وثالثها : وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو ، أي فأثرن بالعدو نقعاً ، وقد تقدم ذكر العدو في قوله : {وَالْعَـادِيَـاتِ} .
المسألة الثالثة : فإن قيل : على أي شيء عطف قوله : {فَأَثَرْنَ} قلنا : على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، والتقدير واللائي عدون فأورين ، وأغرن فأثرن.
المسألة الرابعة : قرأ أبو حيوة : {فَأَثَرْنَ} بالتشديد بمعنى فأظهرن به غباراً ، لأن التأثير فيه معنى الإظهار ، أو قلب ثورن إلى وثرن وقلب الواو همزة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 263
263
أما قوله تعالى : {فَوَسَطْنَ بِه جَمْعًا} ففيه مسألتان :
(1/4820)
المسألة الأولى : قال الليث : وسطت النهر والمفازة أسطها وسطاً وسطة ، أي صرت في وسطها ، وكذلك وسطتها وتوسطتها ، ونحو هذا ، قال الفراء : والضمير في قوله : {بِه } إلى ماذا يرجع فيه وجوه أحدها : قال مقاتل : أي بالعدو ، وذلك أن العاديات تدل على العدو ، فجازت الكناية عنه ، وقوله : {جَمْعًا} يعني جمع العدو ، والمعنى صرن بعدوهن وسط جمع العدو ، ومن حمل الآيات على الإبل ، قال : يعني جمع مني وثانيها : أن الضمير عائد إلى النقع أي : بالنقع الجمع وثالثها : المراد أن العاديات وسطن ملبساً بالنقع جمعاً من جموع الأعداء.
المسألة الثانية : قرىء : {نَقْعًا * فَوَسَطْنَ} بالتشديد للتعدية ، والباء مزيدة للتوكيد كقوله : {وَأُتُوا بِه } وهي مبالغة في وسطن ، واعلم أن الناس أكثروا في صفة الفرس ، وهذا القدر الذي ذكره الله أحسن ، وقال عليه الصلاة والسلام : "الخيل معقود بنواصيها الخير" ، وقال أيضاً : "ظهرها حرز / وبطنها كنز" واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به ، ذكر المقسم عليه وهو أمور ثلاثة :
جزء : 32 رقم الصفحة : 263
265
أحدها : قوله : {إِنَّ الانسَـانَ لِرَبِّه لَكَنُودٌ} قال الواحدي : أصل الكنود منع الحق والخير والكنود الذي يمنع ما عليه ، والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئاً ثم للمفسرين عبارات ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة : الكنود هو الكفور قالوا : ومنه سمي الرجل المشهور كندة لأنه كند أباه ففارقه ، وعن الكلبي الكنود بلسان كندة العاصي وبلسان بني مالك البخيل ، وبلسان مضر وربيعة الكفور ، وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن : هو الكفور الذي يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده ، وقال الحسن : اللوام لربه يعد المحن والمصائب ، وينسى النعم والراحات ، وهو كقوله : {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه فَيَقُولُ رَبِّى أَهَـانَنِ} .
واعلم أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفراً أو فسقاً ، وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس ، فلا بد من صرفه إلى كافر معين ، أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقيه من ذلك ، والأول قول الأكثرين قالوا : لأن ابن عباس قال : إنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي ، وأيضاً فقوله : {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ} لا يليق إلا بالكافر ، لأن ذلك كالدلالة على أنه منكر لذلك الأمر.
الثاني : من الأمور التي أقسم الله عليها قوله : {وَإِنَّه عَلَى ذَالِكَ لَشَهِيدٌ} وفيه قولان : أحدهما : أن الإنسان على ذلك أي على كنوده لشهيد يشهد على نفسه بذلك ، أما لأنه أمر ظاهر لا يمكنه أن يجحده ، أو لأنه يشهد على نفسه بذلك في الآخرة ويعترف بذنوبه القول الثاني : المراد وإن الله على ذلك لشهيد قالوا : وهذا أولى لأن للضمير عائد إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا هو لفظ الرب تعالى ويكون ذلك كالوعيد والزجر له عين المعاصي من حيث إنه يحصى عليه أعماله ، وأما الناصرون للقول الأل فقالوا : إن قوله بعد ذلك : {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} الضمير فيه عائد إلى الإنسان ، فيجب أن يكون الضمير في الآية التي قبله عائداً إلى الإنسان ليكون النظم أحسن.
جزء : 32 رقم الصفحة : 265
الأمر الثالث : مما أقسم الله عليه قوله : {وَإِنَّه لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} الخير المال من قوله تعالى : {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وقوله : {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وهذالأن الناس يعدون المال فيما بينهم خيراً كما أنه تعالى سمي ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب سوءاً في قوله : {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ} والشديد البخيل الممسك ، يقال : فلان شديدة ومتشدد ، قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ثم في التفسيري وجوه أحدها : أنه لأجل حب المال لبخيل ممسك وثانيها : أن يكون المراد من الشديدة القرى ، ويكون المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف ، تقول : هو شديد لهذا الأمر وقوي له ، وإذا كان مطيقاً له ضابطاً وثالثها : أراد إنه لحب الخيرات غير هني منبسط ولكنه شديد منقبض ورابعها : قال الفراء : يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال ، ويحب كونه محباً له ، إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني ، كما قال : {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية وخامسها : قال قطرب : أي إنه شديد حب الخير ، كقولك إنه لزيد ضروب أي أنه ضروب زيد.
جزء : 32 رقم الصفحة : 265
265
واعلم أنه تعالى لما عد عليه قبائح أفعاله خوفه ، فقال : {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ} وفيه مسألتان :
(1/4821)
المسألة الأولى : القول في : {بُعْثِرَ} مضى في قوله تعالى : {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} وذكرنا أن معنى : {بُعْثِرَتْ} بعث وأثير وأخرج ، وقرىء بحثر.
المسألة الثانية : لقائل أن يسأل لم قال : {بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ} ولم يقل : بعثر من في القبور ؟
ثم إنه لما قال : ما في القبور ، فلم قال : {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ} ولم يقل : إن ربها بها يومئذ لخبيير ؟
الجواب عن السؤال الأول : هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب ، أو يقال : إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك ، فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء ، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
جزء : 32 رقم الصفحة : 265
266
ثم قال تعالى : {وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} قال أبو عبيدة ، أي ميز ما في الصدور ، وقال الليث : الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه ، والتحصيل تمييز ما يحصل والاسم الحصيلة قال لبيد :
وكل امرىء يوماً سيعلم سعيه
إذا حصلت عند الإله الحصائل
وفي التفسير وجوه أحدها : معنى حصل جمع في الصحف ، أي أظهرت محصلاً مجموعاً وثانيها : أنه لا بد من التمييز بين الواجب ، والمندوب ، والمباح ، والمكروه ، والمحظور ، فإن لكل واحد ومنه قيل للمنخل : المحصل وثالثها : أن كثيراً ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره ، أما في يوم القيامة فإنه تتكشف الأسرار وتبتهك الأستار ، ويظهر ما في البواطن ، كما قال : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآا ِرُ} .
واعلم أن حظ الوعظ منه أن يقال : إنك تستعد فيما لا فائدة لك فيه ، فتبني المقابرة وتشتري / التابوت ، وتفصل الكفن ، وتغزل العجوز الكفن ، فيقال : هذا كله للديدان ، فأين حظ الرحمن بل المرأة إذا كانت حاملاً فإنها تعد للطفل ثياباً ، فإذا قلت لها : لا طفل لك فما هذا الاستعداد ؟
فتقول : أليس يبعثر ما في بطني ؟
فيقول الرب لك : ألا يبعثر ما في بطن الأرض ، فأين الاستعداد ، وقرىء وحصل بالفتح والتخفيف بمعنى ظهر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 266
267
ثم قال : {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَا ِذٍ لَّخَبِيرُ } اعلم أن فيه سؤالات :
الأول : أنه يوهم أن علمه بهم في ذلك اليوم إنما حصل بسبب الخبرة ، وذلك يقتضي سبق الجهل وهو على الله تعالى محال : من وجهين أحدهما : كأنه تعالى يقول : إن من لم يكن عالماً ، فإنه يصير بسبب الاختبار عالماً ، فمن كان لم يزل عالماً أن يكون خبيراً بأحوالك وثانيهما : أن فائدة تخصيص ذلك الوقت في قوله : {فَزَعٍ يَوْمَا ِذٍ} مع كونه عالماً لم يزل أنه وقت الجزاء ، وتقريره لمن الملك كأنه يقول : لا حاكم يروج حكمه ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو ، وكم عالم لا يعرف الجواب وقت الواقعة ثم يتذكره بعد ذلك ، فكأنه تعالى يقول : لست كذلك.
السؤال الثاني : لم خص أعمال القلوب بالذكر في قوله : {وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} وأهمل ذكر أعمال الجوارح ؟
الجواب : لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلب. فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح ، ولذلك إنه تعالى جعلها الأصل في الذم ، فقال : {قَلْبَه ا وَاللَّهُ} والأصل في المدح ، فقال : {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} .
السؤال الثالث : لم قال : {وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} ولم يقل : وحصل ما في القلوب ؟
الجواب : لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله وخدمته ، إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلسها ما يقرب من الصدر ، ولذلك قال : {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} وقال : {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَامِ} فجعل الصدر موضعاً للإسلام.
السؤال الرابع : الضمير في قوله : {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ} عائد إلى الإنسان وهو واحد والجواب : الإنسان في معنى الجمع كقوله تعالى : {إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ} ثم قال : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } ولولا أنه للجمع وإلا لما صح ذلك. واعلم أنه بقي من مباحث هذه الآية مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تعدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات الزمانيات ، لأنه تعالى نص على كونه عالماً بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم فيكون منكره كافراً.
جزء : 32 رقم الصفحة : 267
المسألة الثانية : نقل أن الحجاج سبق على لسانه أن بالنصب ، فأسقط اللام من قوله : {لَّخَبِيرُ } حتى لا يكون الكلام لحناً ، وهذا يذكر في تقرير فصاحته ، فزعم بعض المشايخ أن هذا كفر لأنه قصد لتغيير المنزل. ونقل عن أبي السماءل أنه قرأ على هذا الوجه ، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 267
268
(1/4822)
سورة القارعة
إحدى عشرة آية مكية
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ختم السورة المتقدمة بقوله : {الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَا ِذٍ لَّخَبِيرُ } فكأنه قيل : وما ذلك اليوم ؟
فقيل هي القارعة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 268
268
{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْقَارِعَةُ} اعلم أن فيه مسائل :
المسألة الأولى : القرع الضرب بشدة واعتماد ، ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة ، قال الله تعالى : {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} ومنه قولهم : العبد يقرع بالعصا ، ومنه المقرعة وقوارع القرآن وقرع الباب ، وتقارعوا تضاربوا بالسيوف ، واتفقوا على أن القارعة اسم من أسماء القيامة ، واختلفوا في لمية هذه التسمية على وجوه أحدها : أن سبب ذلك هو الصيحة التي تموت منها الخلائق ، لأن في الصيحة الأولى تذهب العقول ، قال تعالى : {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ} وفي الثانية تموت الخلائق سوى إسرافيل ، ثم يميته الله ثميحييه ، فينفخ الثالثة فيقومون. وروى أن الصور له ثقب على عدد الأموات لكل واحد ثقبة معلومة ، فيحيي الله كل جسد بتلك النفخة الواصلة إليه من تلك الثقبة المعينة ، والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى : {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وثانيها : أن الأجرام العلوية والسفلية يصطكان اصطكاكاً شديداً عند تخريب العالم ، فبسبب تلك القرعة سمي يوم القيامة بالقارعة وثالثها : أن القارعة هي التي تقرع الناس بالأهوال والإفزاع ، وذلك في السموات بالانشقاق والإنفطار ، وفي الشمس والقمر بالتكور ، وفي الكواكب بالانتثار ، وفي الجبال بالدك والنسف ، وفي الأرض بالطي والتبديل ، وهو قول الكلبي ورابعها : أنها تقرع أعداء الله بالعذاب والخزي والنكال ، وهو قول مقاتل ، قال بعض المحققين وهذا أولى من قول الكلبي لقوله تعالى : {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَا ِذٍ ءَامِنُونَ} .
المسألة الثانية : في إعراب قوله : {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} وجوه أحدها : أنه تحذير وقد / جاء التحذير بالرفع والنصب تقول : الأسد الأسد ، فيجوز الرفع والنصب وثانيها : وفيه إضمار أي ستأتيكم القارعة على ما أخبرت عنه في قوله : {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ} وثالثها : رفع بالابتداء وخبره : {مَا الْقَارِعَةُ} وعلى قول قطرب الخبر. {وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْقَارِعَةُ} فإن قيل : إذا أخبرت عن شيء بشيء فلا بد وأن تستفيد منه علماً زائداً ، وقوله : {وَمَآ أَدْرَا كَ} يفيد كونه جاهلاً به فكيف يعقل أن يكون هذا خبراً ؟
قلنا : قد حصل لنا بهذا الخبر علم زائد ، لأنا كنا نظن أنها قارعة كسائر القوارع ، فبهذا التجهيل علمنا أنها قارعة فاقت القوارع في الهول والشدة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 268
المسألة الثالثة : قوله : {وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْقَارِعَةُ} فيه وجوه أحدها : معناه لا علم لك بكنهها ، لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد ولا فهمه ، وكيفما قدرته فهو أعظم من تقديرك كأنه تعالى قال : قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع ، ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار ، ولذلك قال في آخر السورة : {نَارٌ حَامِيَةُ } تنبيهاً على أن نار الدنيا في جنب تلك ليست بحامية ، وصار آخر السورة مطابقاً لأولها من هذا الوجه. فإن قيل : ههنا قال : {وَمَآ أَدْرَا كَ} وقال في آخر السورة : {فَأُمُّه } ولم يقل : وماأدراك ما هاوية فما الفرق ؟
قلنا : الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس ، أما كونها هاوية فليس كذلك ، فظهر الفرق بين الموضعين وثانيها : أن ذلك التفصيل لا سبيل لأحد إلى العلم به إلا بأخبار الله وبيانه ، لأنه بحث عن وقوع الوقعات لا عن وجوب الواجبات ، فلا يكون إلى معرفته دليل إلا بالسمع.
المسألة الرابعة : نظير هذه الآية قوله : {الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْحَآقَّةُ} ثم قال المحققون قوله : {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} أشد من قوله : {الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ} لأن النازل آخراً لا بد وأن يكون أبلغ لأن المقصود منه زيادة التنبيه ، وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى ، وأما بالنظر إلى المعنى ، فالحاقة أشد لكونه راجعاً إلى معنى العدل ، والقارعة أشد لما أنها تهجم على القلوب بالأمر الهائل.
جزء : 32 رقم الصفحة : 268
268
ثم قال تعالى : {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} .
قال صاحب الكشاف : الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة ، أي تقرع يوم يكون الناس كذا.
(1/4823)
واعلم أنه تعالى وصف ذلك اليوم بأمرين الأول : كون الناس فيه : {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} قال الزجاج : الفراش هو الحيوان الذي يتهافت في النار ، وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره ، ثم إنه / تعالى شبه الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث ، وفي آية أخرى بالجراد المنتشر. أما وجه التشبيه بالفراش ، فلأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة ، بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى ، يدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا ، واختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة غير معلومة ، والمبثوث المفرق ، يقال : بثه إذا فرقه. وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة. قال الفراء : كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً ، وبالجملة فالله سبحانه وتعالى شبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر ، وبالفراش المبثوث ، لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش ، ويأكد ما ذكرنا بقوله تعالى : {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} وقوله : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله في قصة يأجوج ومأجوج : {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَا ِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } فإن قيل : الجراد بالنسبة إلى الفراش كبار ، فكيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً ؟
قلنا : شبه الواحد بالصغير والكبير لكن في وصفين. أما التشبيه بالفراش فبذهاب كل واحدة إلى غير جهة الأخرى. وأما بالجراد فبالكثرة والتتابع ، ويحتمل أن يقال : إنها تكون كباراً أولاً كالجراد ، ثم تصير صغاراً كالفراش بسبب احتراقهم بحر الشمس ، وذكروا في التشبيه بالفراش وجوهاً أخرى أحدها : ما روى أنه عليه السلام قال : "الناس عالم ومتعلم ، وسائر الناس همج رعاع" فجعلهم الله في الأخرى كذلك : {جَزَآءً وِفَاقًا} وثانيها : أنه تعالى إنما أدخل حرف التشبيه ، فقال : {كَالْفَرَاشِ} لأنهم يكونون في ذلك اليوم أذل من الفراش ، لأن الفراش لا يعذب ، وهؤلاء يعذبون ، ونظيره : {كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } .
جزء : 32 رقم الصفحة : 268
الصفة الثانية : من صفات ذلك اليوم قوله تعالى : {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} العهن الصوف ذو الألوان ، وقد مر تحقيقه عند قوله : {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} والنفش فك الصوف حتى ينتفش بعضه عن بعض ، وفي قراءة ابن مسعود : كالصوف المنفوش.
واعلم أن الله تعالى أخبر أن الجبال مختلفة الألوان على ما قال : {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُا بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} ثم إنه سبحانه يفرق أجزاءها ويزيل التأليف والتركيب عنها فيصبر ذلك مشابهاً للصوف الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشاً ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : إنما ضم بين حال الناس وبين حال الجبال ، كأنه تعالى نبه على أن تأثير تلك القرعة في الجبال هو أنها صارت كالعهن المنفوش ، فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها فالويل ثم الويل لابن آدم إن لم تتداركه رحمة ربه ، ويحتمل أن يكون المراد أن جبال النار تصير كالعهن المنفوش لشدة حمرتها.
المسألة الثانية : قد وصف الله تعالى تغير الأحوال على الجبال من وجوه أولها : أن تصير قطعاً ، كما قال : {دُكَّتِ الارْضُ دَكًّا} ، وثانيها : أن تصير كثيباً مهيلاً ، كما قال : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } ثم تصير كالعهن المنفوش/ وهي أجزاء كالذر تدخل / من كوة البيت لا تمسها الأيدي ، ثم قال : في الرابع تصير سراباً ، كما قال : {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} .
المسألة الثالثة : لم يقل : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث والجبال كالعهن المنفوش بل قال : {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} لأن التكوير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير.
جزء : 32 رقم الصفحة : 268
268
واعلم أنه تعالى لماوصف يوم القيامة قسم الناس فيه إلى قسمين فقال : {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه } واعلم أن في الموازين قولين : أحدهما : أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله ، وهذا قول الفراء قال : ونظيره يقال : عندي درهم بميزان درهمك ووزن درهمك وداري بميزان دارك ووزن دارك أي بحذائها والثاني : أنه جمع ميزان ، قال ابن عباس : الميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة ، فإذا رجح فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف وزنه فيدخل النار. وقال الحسن : في الميزان له كفتان ولا يوصف ، قال المتكلمون : إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما ، خصوصاً وقد نقضيا ، بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن ، أو يجعل النور علامة الحسنات والظلمة علامة السيئات ، أو تصور صحيفة الحسنات بالصورة الحسنة وصحيفة السيئات بالصورة القبيحة فيظهر بذلك الثقل والخفة ، وتكون الفائدة في ذلك ظهور حال صاحب الحسنات في الجمع العظيم فيزداد سروراً ، وظهور حال صاحب السيئات فيكون ذلك كالفضيحة له عند الخلائق.
جزء : 32 رقم الصفحة : 268
269
أما قوله تعالى : {فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} فالعيشة مصدر بمعنى العيش ، كالخيفة بمعنى الخوف ، وأما الراضية فقال الزجاج : معناه أي عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها وهي كقولهم لابن ، وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر ، ولهذا قال المفسرون : تفسيرها مرضية على معنى يرضاها صاحبها.
جزء : 32 رقم الصفحة : 269
269
ثم قال تعالى : {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه } أي قلت : حسناته فرجحت السيئات على الحسنات قال أبو بكر رضي الله عنه : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً ، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم ، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً ، وقال مقاتل : إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل والباطل خفيف.
/ أما قوله تعالى : {فَأُمُّه هَاوِيَةٌ} ففيه وجوه : أحدها : أن الهاوية من أسماء النار وكأنها النار العميقة يهوى أهل النار فيها مهوى بعيداً ، والمعنى فمأواه النار ، وقيل : للمأوى أم على سبيل التشبيه بالأم التي لا يقع الفزع من الولد إلا إليها وثانيها : فأم رأسه هاوية في النار ذكره الأخفش ، والكلبي ، وقتادة قال : لأنهم يهوون في النار على رؤوسهم وثالثها : أنهم إذا دعوا على الرجل بالهلاك قالوا : هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه حزناً وثكلاً ، فكأنه قيل : {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه } فقد هلك.
جزء : 32 رقم الصفحة : 269
271
ثم قال تعالى : {وَمَآ أَدْرَا كَ} قال صاحب الكشاف : هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله : {مَوَازِينُه * فَأُمُّه هَاوِيَةٌ} في التفسير الثالث : أو ضمير هاوية : والهاء للسكت فإذا وصل جاز حذفها والاختيار الوقف بالهاء لاتباع المصحف والهاء ثابتة فيه ، وذكرنا الكلام في هذه الهاء عند قوله : {مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ } .
جزء : 32 رقم الصفحة : 271
272
ثم قال تعالى : {نَارٌ حَامِيَةُ } والمعنى أن سائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حامية ، وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها ، نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب ، ونسأله التوفيق وحسن المآب : {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِا إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 272
274
(1/4824)
سورة التكاثر
ثمان آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 274
277
{أَلْهَا كُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فيه مسائل :
المسأة الأولى : الإلهاء الصرف إلى اللهو. واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى ، ومعلوم أن الانصراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره ، فلهذا قال أهل اللغة : ألهاني فلان عن كذا أي أنساني وشغلني ، ومنه الحديث : "أن الزبير كان سمع صوت الرعد لهى عن حديثه" أن تركه وأعرض عنه ، وكل شيء تركته فقد لهيت عنه ، والتكاثر التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب يقال : تكاثر القوم تكاثراً إذا تعادلوا مالهم من كثرة المناقب ، وقال أبو مسلم : التكاثر تفاعل عن الكثرة والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة يحتمل أن يكون بين الإثنين فيكون مفاعله ، ويحتمل تكلف الفعل تقول : تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره ، وتقول : تباعدت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه وتقول : تغافلت ، ويحتمل أيضاً الفعل بنفسه كما تقول : تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه ، ولفظ التكاثر في هذه الآية ويحتمل الوجهين الأولين ، فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة لأنه كم من إثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه : {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله ، واعلم أن التفاخر والتكاثر شيء واحد ونظير هذه الآية قوله تعالى : {وَتَفَاخُرُا بَيْنَكُمْ} .
المسألة الثانية : اعلم أن التفاخر إنما يكون بإثبات الإنسان نوعاً من أنواع السعادة لنفسه ، وأجناس السعادة ثلاثة :
فأحدها : في النفس والثانية : في البدن والثالثة : فيما يطيف بالبدن من خارج ، أما التي في النفس فهي العلوم والأخلاق الفاضلة وهما المرادان بقوله حكاية عن إبراهيم : {رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ} وبهما ينال البقاء الأبدي والسعادة السرمدية.
وأما التي في البدن فهي الصحة والجمال وهي المرتبة الثانية ، وأما التي تطيف بالبدن من خارج فقسمان : ة أحدهما : ضروري وهو المال والجاه والآخر غير ضروري وهو الأقرباء والأصدقاء / وهذا الذي عددناه في المرتبة الثالثة إنما يراد كله للبدن بدليل أنه إذا تألم عضو من أعضائه فإنه يجعل المال والجاه فداء له.
(1/4825)
وأما السعادة البدنية فالفضلاء من الناس إنما يريدونها للسعادة النفسانية فإنه ما لم يكن صحيح البدن لم يتفرغ لاكتساب السعادات النفسانية الباقية ، إذا عرفت هذا فنقول : العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم ، فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات ، والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل ، فيكون ذلك ترجيحاً لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب فيها ، وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق ، فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال : {أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ} ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال والجاه والأقرباء والأنصار والجيش ، وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها.
جزء : 32 رقم الصفحة : 277
المسألة الثالثة : قوله : {أَلْهَـاـاكُمُ} يحتمل أن يكون إخباراً عنهم ، ويحتمل أن يكون استفهاماً بمعنى التوبيخ والتقويع أي أألهاكم ، كما قرىء أنذرتهم وأأنذرتهم ، وإذا كنا عظاماً وأئذا كنا عظاماً.
المسألة الرابعة : الآية دلت على أن التكاثر والتفاخر مذموم والعقل دل على إن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم ، ومن ذلك ما روى من تفاخر العباس بأن السقاية بيده ، وتفاخر شيبة بأن المفتاح بيده إلى أن قال علي عليه السلام : وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي فصار الكفر مثلة فأسلمتم فشق ذلك عليهم فنزل قوله تعالى : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ} الآية وذكرنا في تفسير قوله تعالى : {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أنه يجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته ومحاسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به ، فثبت أن مطلق التكاثر ليس بمذموم ، بل التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة ، هو المحمود ، وهو أصل الخيرات ، فالألف واللام في التكاثر ليسا للاستغراق ، بل للمعهود السابق ، وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها ، فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله تعالى وعبوديته ، ولما كان ذلك مقرراً في العقول ومتفقاً عليه في الأديان ، لا جرم حسن إدخال حرف التعريف عليه.
المسألة الخامسة : في تفسير الآية وجوه أحدها : {أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ} بالعدد روى أنها نزلت في بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيهم أكثر فكان بنو عبد مناف أكثر فقال : بنو سهم عدواً مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم ، ففعلوا فزاد بنو سهم ، فنزلت الآية وهذه الرواية مطابقة لظاهر القرآن ، لأن قوله : {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} يدل على أنه أمر مضى. فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم ، ويقول هب أنكم أكثر منهم عدداً فماذا ينفع ، والزيارة إتيان الموضع ، وذلك يكون لأغراض كثيرة ، وأهمها وأولاها بالرعاية ترقيق القلب وإزالة حب الدنيا / فإن مشاهدة القبور تورث ذلك على ما قال عليه السلام : "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة" ثم إنكم زرتم القبور ، بسبب قساوة القلب والاستغراق في حب الدنيا فلما انعكست هذه القضية ، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك في معرض التعجيب.
والقول الثاني : أن المراد هو التكاثر بالمال واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه ، أنه عليه السلام كان يقرأ : {أَلْهَـاـاكُمُ} وقال ابن آدم : يقول مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنبت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، والمراد من قوله : {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي حتى متم وزيارة القبر عبارة عن الموت ، يقال لمن مات : زار قبره وزار رمسه ، قال جرير للأخطل :
جزء : 32 رقم الصفحة : 277
زار القبور أبو مالك
فأصبح ألأم زوارها أي مات فيكون معنى الآية : ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت ، وأنتم على ذلك ، يقال حمله على هذا الوجه مشكل من وجهين الأول : أن الزائر هو الذي يزور ساعة ثم ينصرف ، والميت يبقى في قبره ، فكيف يقال : إنه زار القبر ؟
والثاني : أن قوله : {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} إخبار عن الماضي ، فكيف يحمل على المستقبل ؟
والجواب : عن السؤال الأول أنه قد يمكث الزائر ، لكن لا بد له من الرحيل ، وكذا أهل القبور يرحلون عنها إلى مكان الحساب والجواب : عن السؤال الثاني من وجوه أحدها : يحتمل أن يكون المراد من كان مشرفاً على الموت بسبب الكبر ، ولذلك يقال فيه : إنه على شفير القبر وثانيها : أن الخبر عمن تقدمهم وعظاً لهم ، فهو كالخبر عنهم ، لأنهم كانوا على طريقتهم ، ومنه قوله تعالى : {وَيَقْتُلُونَ} وثالثها : قال أبو مسلم : إن الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار ، وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور.
القول الثالث : {أَلْهَـاـاكُمُ} الحرص على المال وطلب تكثيره حتى منعتم الحقوق المالية إلى حين الموت ، ثم تقول في تلك الحالة : أوصيت لأجل الزكاة بكذا ، ولأجل الحج بكذا.
(1/4826)
القول الرابع : {أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ} فلا تلتفتون إلى الدين ، بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسر البتة إلا إذا زرتم المقابر ، هكذا ينبغي أن تكون حالكم ، وهو أن يكون حظكم من دينكم ذلك القدر القليل من الانكسار/ ونظيره قوله تعالى : {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} أي لا أقنع منكم بهذا القدر القليل من الشكر.
المسألة السادسة : أنه تعالى لم يقل : {أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ} عن كذا وإنما لم يذكره ، لأن المطلق أبلغ في الذم لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب ، فيدخل فيه جميع ما يحتمله الموضع ، أي : ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات والمندوبات في المعرفة والطاعة والتفكر والتدبر ، أو نقول : إن نظرنا إلى ما قبل هذه الآية فالمعنى : ألهاكم التكاثر عن التدبر في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت ، وإن نظرنا إلى الأسفل فالمعنى ألهاكم التكاثر ، فنسيتم القبر حتى زرتموه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 277
277
أما قوله تعالى : {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فهو يتصل بما قبله وبما بعده أما الأول ، فعلى وجه الرد والتكذيب أي ليس الأمر كما يتوهممه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأولاد ، وأما اتصاله بما بعده ، فعلى معنى القسم أي حقاً سوف تعلمون لكن حين يصير الفاسق تائباً ، والكافر مسلماً ، والحريص زاهداً ، ومنه قول الحسن : لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك ، وتحاسب وحدك ، وتقريره : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى } إلى أن قال : {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ} وهذا يمنعك عن التكاثر ، وذكروا في التكوير وجوهاً أحدها : أنه للتأكيد ، وأنه وعيد بعد وعيد كما تقول : للمنصوح أقول لك ، ثم أقول لك لا تفعل وثانيها : أن الأول عند الموت حيث يقال له : لا بشرى والثاني في سؤال القبر : من ربك ؟
والثالث عند النشور حين ينادي المنادي ، فلأن شقى شقاوة لا سعادة بعدها أبداً وحين يقال : {وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ} وثالثها : عن الضحاك سوف تعلمون ، أيها الكفار : {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أيها المؤمنون ، وكان يقرؤها كذلك ، فالأول وعيد والثاني وعد ورابعها : أن كل أحد يعلم قبح الظلم والكذب وحسن العدل والصدق لكن لا يعرف قدر آثارها ونتائجها ، ثم إنه تعالى يقول : سوف تعلم العلم المفضل لكن التفصيل يحتمل الزائد فمهما حصلت زيادة لذة ، ازداد علماً ، وكذا في جانب العقوبة فقسم ذلك على الأحواس ، فعند المعاينة يزداد ، ثم عند البعث ، ثم عند الحساب ، ثم عند دخول الجنة والنار ، فلذلك وقع التكرير وخامسها : أن إحدى الحالتين عذاب القبر والأخرى عذاب القيامة ، كما روى عن ذر أنه قال : كنت أشك في عذاب القبر ، حتى سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : إن هذه الآية تدل على عذاب القبر ، وإنما قال : {ثُمَّ} لأن بين العالمين والحياتين موتاً.
جزء : 32 رقم الصفحة : 277
279
ثم قال تعالى : {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اتفقوا على أن جواب لو محذوف ، وأنه ليس قوله : {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب لو ويدل عليه وجهان أحدهما : أن ما كان جواب لو فنفيه إثبات ، وإثباته نفي ، فلو كان قوله : {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواباً للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية ، وذلك باطل ، فإن هذه الرؤية واقعة قطعاً ، فإن قيل : المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا ، ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا : ترك الظاهر خلاف الأصل والثاني : أن قوله : {ثُمَّ لَتُسْـاَلُنَّ يَوْمَـاـاِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} إخبار عن أمر سيقع قطعاً ، فعطفه على مالا يوجد ولا يقع قبيح في النظم ، واعلم أن ترك الجواب / في مثل هذا المكان أحسن ، يقول الرجل للرجل : لو فعلت هذا أي لكان كذا ، قال الله تعالى : {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ} ولم يجيء له جواب وقال : {وَلَوْ تَرَى ا إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في جواب لو وجوهاً أحدها : قال الأخفش : {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} ما ألهاكم التكاثر وثانيها : قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وثالثها : أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم ، وكأنه قال : {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} لفعلتم مالا يوصف ولا يكتنه ، ولكنكم ضلال وجهلة ، وأما قوله : {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد ، وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفاً بثم تغليظاً للتهديد وزيادة في التهويل.
(1/4827)
المسألة الثانية : أنه تعالى أعاد لفظ كلا وهو للزجر ، وإنما حسنت الإعادة لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر ، كأنه تعالى قال : لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضرراً آخر ، وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم ، وكان الحسن رحمه الله يجعل معنى {كَلا} في هذا الموضع بمعنى حقاً كأنه قيل حقاً : {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 279
المسألة الثالثة : في قوله : {عِلْمَ الْيَقِينِ} وجهان أحدهما : أن معناه علماً يقيناً فأضيف الموصوف إلى الصفة ، كقوله تعالى : {وَلَدَارُ الاخِرَةِ} وكما يقال : مسجد الجامع وعام الأول والثاني : أن اليقين ههنا هو الموت والبعث والقيامة ، وقد سمي الموت يقيناً في قوله : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين ، وزال الشك فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله ، وقد يقول الإنسان : أنا أعلم علم كذا أي أتحققه ، وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب ، لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال : علمت علم كذا.
المسألة الرابعة : العلم من أشد البواعث على العمل ، فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعداً وعظة ، وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة ، كما ذكر أن ذا القرنين لما دخل الظلمات (وجد خرزاً) ، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر ، ثم الأخذون كانوا في الغم أي لما لم يأخذوا أكثر مما أخذوا/ والذين لم يأخذوا كانوا أيضاً في الغم ، فهكذا يكون أحوال أهل القيامة.
المسألة الخامسة : في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر ، وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً ثم الويل له.
المسألة السادسة : في تكرار الرؤية وجوه أحدها : أنه لتأكيد الوعيد أيضاً لعل القوم / كانوا يكرهون سماع الوعيد فكرر لذلك ونون للتأكيد تقتضي كون تلك الرؤية اضطرارية ، يعني لو خليتم ورأيكم ما رأيتموها لكنكم تحملون على رؤيتها شئتم أم أبيتم وثانيها : أن أولهما الرؤية من البعيد : {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} وقوله : {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } والرؤية الثانية إذا صاروا إلى شفير النار وثالثها : أن الرؤية الأولى عند الورود والثانية عند الدخول فيها ، قيل : هذا التفسير ليس بحسن لأنه قال : {ثُمَّ لَتُسْـاَلُنَّ} والسؤال يكون قبل الدخول ورابعها : الرؤية الأولى للوعد والثانية المشاهدة وخامسها : أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة فيكون ذكر الرؤية مرتين عبارة عن تتابع الرؤية واتصالها لأنهم مخلدون في الجحيم فكأنه قيل لهم : على جهة الوعيد ، لئن كنتم اليوم شاكين فيها غير مصدقين بها فسترونها رؤية دائمة متصلة فتزول عنكم الشكوك وهو كقوله : {مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍا فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ} بمعنى لو أعدت النظر فيها ما شئت لم تجد فطوراً ولم يرد مرتين فقط ، فكذا ههنا ، إن قيل : ما فائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين ؟
قلنا : لأنهم في المرة الأولى رأوا لهباً لا غير ، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية ، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى ، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التفريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 279
المسألة السابعة : قراءة العامة لترون بفتح التاء ، وقرىء بضمها من رأيته الشيء ، والمعنى أنهم يحشرون إليها فيرونها ، وهذه القراءة تروي عن ابن عامر والكسائي كأنهما أرادا لترونها فترونها ، ولذلك قرأ الثانية : {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} بالفتح ، وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها رأوها وفي قراءة العامة الثانية تكرير للتأكيد ولسائر الفوائد التي عددناها ، واعلم أن قراءة العامة أولى لوجهين الأول : قال الفراء : قراءة العامة أشبه بكلام العرب لأنه تغليظ ، فلا ينبغي أن الجحيم لفظه الثاني : قال أبو علي المعنى في : {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} لترون عذاب الجحيم ، ألا ترى أن الجحيم يراها المؤمنون أيضاً بدلالة قوله : {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا } وإذا كان كذلك كان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها يدل على هذا قوله : {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} وقوله : {وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} وهذا يدل على أن لترون أرجح من لترون.
جزء : 32 رقم الصفحة : 279
280
(1/4828)
قوله تعالى : {ثُمَّ لَتُسْـاَلُنَّ يَوْمَـاـاِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} فيه قولان :
المسألة الأولى : في أن الذي يسأل عن النعيم من هو ؟
فيه قولان :
أحدهما : وهو الأظهر أنهم الكفار ، قال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ويدل عليه وجهان الأول : ما روى أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية ، قال يا رسول الله : أرأيت / أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب أن تكون من النعيم الذي نسأل عنه ؟
فقال عليه الصلاة والسلام : إنما ذلك للكفار ، ثم قرأ : {وَهَلْ نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ} والثاني : وهو أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه ، وذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى والاشتغال بشكره ، فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سبباً لسعادتهم هو كان من أعظم أسباب الشقاء لهم في الآخرة.
والقول الثاني : أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث ، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له : ألم نصحح لك جسمك ونروك من المار البارد" وقال محمود بن لبيد : لما نزلت هذه السورة قالوا : يا رسول الله عن أبي نعيم : نسأل ؟
إنما هما الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل ؟
قال : "إن ذلك سيكون" وروى عن عمر أنه قال : أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ؟
فقال صلى الله عليه وسلّم : "ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار" وقريب منه : "من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" وروى أن شاباً أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعلمه رسول الله سورة ألهاكم ثم زوجه رسول الله امرأة فلما دخل عليها ورآى الجهاز العظيم والنعيم الكثير خرج وقال : لا أريد ذلك فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عنه فقال : ألست علمتني : {ثُمَّ لَتُسْـاَلُنَّ يَوْمَـاـاِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} وأنا لا أطيق الجواب عن ذلك. وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال : هل علي من النعمة شيء ؟
قال : الظل والنعلان والماء البارد. وأشهر الأخبار في هذا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة إلى المسجد ، فلم يلبث أن جاء أبو بكر فقال : ما أخرجك يا أبا بكر ؟
قال : الجوع ، قال : والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك ، ثم دخل عمر فقال : مثل ذلك ، فقال : قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم ، فدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم الباب وسلم ثلاث مرات فلم يجب أحد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخرجت امرأته تصيح كنا نسمع صوتك لكن أردنا أن تزيد من سلامك فقال لها : خيراً ، ثم قالت : بأبي أنت وأمي إن أبا الهيثم خرج يستعذب لنا الماء ، ثم عمدت إلى صاع من شعير فطحنته وخبزته ورجع أبو الهيثم فذبح عناقاً وأتاهم بالرطب فأكلوا وشربوا فقال عليه الصلاة والسلام : "هذا من النعيم الذي تسألون عنه" وروى أيضاً : "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره وماله وشبابه وعمله" وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلّم : "أن العبد ليسأل يوم القيامة حتى عن كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بأصبعه ، عن لمس ثوب أخيه" واعلم أن الأولى أن يقال : السؤال يعم المؤمن والكافر ، لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع.
جزء : 32 رقم الصفحة : 280
(1/4829)
المسألة الثانية : ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوهاً أحدها : ما روى أنه خمس : شبع / البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق وثانيها : قال ابن مسعود : إنه الأمن والصحة والفراغ وثالثها : قال ابن عباس : إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب ورابعها : قال بعضهم : الانتفاع بإدراك السمع والبصر وخامسها : قال الحسن بن الفضل : تخفيف الشرائع وتيسير القرآن وسادسها : قال ابن عمر : إنه الماء البارد وسابعها : قال الباقر : إنه العافية ، ويروى أيضاً عن جابر الجعفي قال : دخلت على الباقر فقال : ما تقول أرباب التأويل في قوله : {ثُمَّ لَتُسْاَلُنَّ يَوْمَا ِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ؟
فقلت : يقولون الظل والماء البارد فقال : لو أنك أدخلت بيتك أحداً وأقعدته في ظل وأسقيته ماء بارداً أتمن عليه ؟
فقلت : لا ، قال : فالله أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه ، فقلت : ما تأويله ؟
قال : النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنعم الله به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة ، أما سمعت قوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا} الآية القول الثامن : إنما يسألون عن الزائد مما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن. والتاسع : وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أن الألف واللام يفيدان الاستغراق وثانيها : أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى وثالثها : أنه تعالى قال : {يَابَنِى إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا ههنا ورابعها : أن النعيم التام كالشيء الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل ، كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه.
جزء : 32 رقم الصفحة : 280
واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة ، ومنها متصلة ومنفصلة ، ومنها دينية ودنيوية ، وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة ، وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } واستعن في معرفة نعم الله عليك في صحة بدنك بالأطباء ، ثم هم أشد الخلق غفلة ، وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السموات والكواكب بالمنجمين ، وهم أشد الناس جهلاً بالصانع ، وفي معرفة سلطان الله بالملوك ، ثم هم أجهل الخلق ، وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته ، ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود ، ومنه قول ابن السماك للرشيد : أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك ؟
فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين ؛ أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره ، قال تعالى : {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ} أو لأن السورة نزلت في المترفين ، وهم المختصون بالماء البارد والظل ، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لا بد منه (أولاً) ، وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون / مصروفاً إلى طاعة الله لا إلى معصيته ، فيكون السؤال واقعاً عن الكل ، ويؤكده ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به" فكل النعيم من الله تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذا السؤال أين يكون ؟
.
فالقول الأول : أن هذا السؤال إنما يكون في موقف الحساب ، فإن قيل : هذا لا يستقيم ، لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن مشاهدة جهنم بقوله : {ثُمَّ لَتُسْاَلُنَّ} وموقف السؤال متقدم على مشاهدة جهنم ؟
قلنا : المراد من قوله : {ثُمَّ} أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة ، وهو كقوله : {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} إلى قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } .
القول الثاني : أنهم إذا دخلوا النار سئلوا عن النعيم توبيخاً لهم ، كما قال : {كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ} وقال : {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} ولا شك أن مجيء الرسول نعمة من الله ، فقد سئلوا عنه بعد دخولهم النار ، أو يقال : إنهم إذا صاروا في الجحيم وشاهدوها ، يقال لهم : إنما حل بكم هذا العذاب لأنكم في دار الدنيا اشتغلتم بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار ، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة الفائزين بالدرجات ، فيكون ذلك من الملائكة سؤالاً عن نعيمهم في الدنيا ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 280
283
(1/4830)
سورة العصر
ثلاث آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 283
283
{وَالْعَصْرِ} اعلم أنهم ذكروا في تفسير العصر أقوالاً.
الأول : أنه الدهر ، واحتج هذا القائل بوجوه أحدها : ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه أقسم بالدهر ، وكان عليه السلام يقرأ : والعصر ونوائب الدهر إلا أنا نقول : هذا مفسد للصلاة ، فلا نقول : إنه قرأه قرآناً بل تفسيراً ، ولعله تعالى لم يذكر الدهل لعلمه بأن الملحد مولع بذكره وتعظيمه ومن ذلك ذكره في : {هَلْ أَتَى } رداً على فساد قولهم : بالطبع والدهر وثانيها : أن الدهر مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، بل فيه ما هو أعجب من كل عجب ، وهو أن العقل لا يقوى على أن يحكم عليه بالعدم ، فإنه مجزأ مقسم بالسنة ، والشهر ، واليوم ، والساعة ، ومحكوم عليه بالزيادة والنقصان والمطابقة ، وكونه ماضياً ومستقبلاً ، فكيف يكون معدوماً ؟
ولا يمكنه أن يحكم عليه بالوجود لأن الحاضر غير قابل للقسمة والماضي والمستقبل معدومان ، فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود ؟
وثالثها : أن بقية عمر المرء لا قيمة له ، فلو ضيعت ألف سنة ، ثم تبث في اللمحة الأخيرة من العمر بقيت في الجنة أبد الآباد فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة ، فكأن الدهر والزمان من جملة أصول النعم ، فلذلك أقسم به ونبه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها المكلف ، وإليه الإشارة بقوله : {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} ورابعها : وهو أن قوله تعالى في سورة الأنعام : {قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِا قُل لِّلَّه } إشارة إلى المكان والمكانيات ، ثم قال : {وَلَه مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } وهو إشارة إلى الزمان والزمانيات ، وقد بينا هناك أن الزمان أعلم وأشرف من المكان ، فلما كان كذلك كان القسم بالعصر قسماً بأشرف النصفين من ملك الله وملكوته وخامسها : أنهم كانوا يضيفون الخسران إلى نوائت الدهر ، فكأنه تعالى أقسم على أن الدهر والعصر نعمة حاصلة لا عيب فيها ، إنما الخاسر المعيب هو الإنسان وسادسها : أنه تعالى ذكر العصر الذي بمضيه ينتقص عمرك ، فإذا لم يكن في مقابلته / كسب صار ذلك النقصان عن الخسران ، ولذلك قال : {لَفِى خُسْرٍ} ومنه قول القائل :
جزء : 32 رقم الصفحة : 283
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
(1/4831)
وكل يوم مضى نقص من الأجل فكأن المعنى : والعصر العجيب أمره حيث يفرح الإنسان بمضيه لظنه أنه وجد الربح مع أنه هدم لعمره وإنه لفي خسر والقول الثاني : وهو قول أبي مسلم : المراد بالعصر أحد طرفي النهار ، والسبب فيه وجوه أحدها : أنه أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعاً من دلائل القدرة فإن كل بكرة كأنها القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء ويقام الموازين وكل عشية تشبه تخريب الدنيا بالصعق والموت ، وكل واحد من هاتين الحالتين شاهد عدل ثم إذا لم يحكم الحاكم عقيب الشاهدين عد خاسراً فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسر وثانيها : قال الحسن رحمه الله : إنما أقسم بهذا الوقت تنبيهاً على أن الأسواق قد دنا وقت انقطاعها وانتهاء التجارة والكسب فيها ، فإذا لم تكتسب ودخلت الدار وطاف العيال عليك يسألك كل أحد ما هو حقه فحينئذ تخجل فتكون من الخاسرين ، فكذا نقول : والعصر أي عصر الدنيا قد دنت القيامة و(أنت) بعد لم تستعد وتعلم أنك تسأل غداً عن النعيم الذي كنت فيه في دنياك ، وتسأل في معاملتك مع الخلق وكل أحد من المظلومين يدعي ما عليك فءذا أنت خاسر ، ونظيره : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} / وثالثها : أن هذا الوقت معظم ، والدليل عليه قوله عليه السلام : "من حلف بعد العصر كاذباً لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة" فكما أقسم في حق الرابح بالضحى فكذا أقسم في حق الخاسر بالعصر وذلك لأنه أقسم بالضحى في حق الرابح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال وههنا في حق الخاسر توعده أن أمره إلى الإدبار ، ثم كأنه يقول بعض النهار : باق فيحثه على التدارك في البقية بالتوبة ، وعن بعض السلف : تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ويقول : ارحموا من يذوب رأسه ماله ، ارحموا من يذوب رأس ماله فقلت : هذا معنى : {إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 283
القول الثالث : وهو قول مقاتل : أراد صلاة العصر ، وذكروا فيه وجوهاً أحدها : أنه تعالى أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله : {حَـافِظُوا عَلَى} صلاة العصر في مصحف حفصة وقيل في قوله : {تَحْبِسُونَهُمَا مِنا بَعْدِ الصَّلَواةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} إنها صلاة العصر وثانيها : قوله عليه السلام : "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" وثالثها : أن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ورابعها : روى أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول : دلوني على النبي صلى الله عليه وسلّم فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فسألها ماذا حدث ؟
قالت : يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات ، ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة ؟
فقال عليه السلام : أما الزنا فعليك الرجم ، أما قتل الولد فجزاؤه جهنم ، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيراً ، لكن ظننت أنك تركت صلاة /صلاة العصر" ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة وخامسها : أن صلاة العصر بها يحصل ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبة بها يختم الأعمال ، فكما تجب الوصية بالتوبة كذا بصلاة العصر لأن الأمور بخواتيمها ، فأقسم بهذه الصلاة تفخيماً لشأنها ، وزيادة توصية المكلف على أدائها وإشارة منه أنك إن أديتها على وجهها عاد خسرانك ربحاً ، كما قال : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } وسادسها : قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يكلمهم ولا يزكيهم ـ (عد) منهم ـ رجل حلف بعد العصر كاذباً" {وَإِن قِيلَ} صلاة العصر فعلنا ، فكيف يجوز أن يقال : أقسم الله تعالى به ؟
والجواب : أنه ليس قسماً من حيث إنها فعلنا ، بل من حيث إنها أمر شريف تعبدنا الله تعالى بها.
(1/4832)
القول الرابع : أنه قسم بزمان الرسول عليه السلام ، واحتجوا عليه بقوله عليه السلام : "إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجيراً ، فقال : من يعمل من الفجر إلى الظهر بقيراط ، فعملت اليهود ، ثم قال : من يعمل من الظهر إلى العصر بقيراط ، فعملت النصارى ، ثم ثال : من يعمل من العصر إلى المغبر بقراطين ، فعملتم أنتم ، فغضبت اليهود والنصارى ، وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل أجراً! فقال الله : وهل نقصت من أجركم شيئاً ، قالوا : لا ، قال : فهذا فضلى أوتيه من أشاء ، فكنتم أقل عملاً وأكثر أجراً" فهذا الخبر دل على أن العصر هو الزمان المختص به وبأمته ، فلا جرم أقسم الله به ، فقوله : {وَالْعَصْرِ} أي والعصر الذي أنت فيه فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله : {وَأَنتَ حِلُّا بِهَـاذَا الْبَلَدِ} وبعمره في قوله : {لَعَمْرُكَ} فكأنه قال : وعصرك وبلدك وعمرك ، وذلك كله كالظرف له ، فإذا وجب تعظيم حال الظرف فقس حال المظروف ، ثم وجه القسم ، كأنه تعالى يقول : أنت يا محمد حضرتهم ودعوتهم ، وهم أعرضوا عنك وما التفتوا إليك ، فما أعظم خسرانهم وما أجل خذلانهم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 283
284
قوله تعالى : {إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الألف واللام في الإنسان ، يحتمل أن تكون للجنس ، وأن تكون للمعهود السابق ، فلهذا ذكر المفسرون فيه قولين الأول : أن المراد منه الجنس وهو كقولهم : كثر الدرهم في أيدي الناس ، ويدل على هذا القول استثناء الذين آمنوا من الإنسان والقول الثاني : المراد منه شخص معين ، قال ابن عباس : يريد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب. وقال مقاتل : نزلت في أبي لهب ، وفي خبر مرفوع / إنه أبو جهل ، وروى أن هؤلاء كانوا يقولون : إن محمداً لفي خسر ، فأقسم تعالى أن الأمر بالضد مما توهمون.
المسألة الثانية : الخسر الخسران ، كما قيل : الكفر في الكفران ، ومعناه النقصان وذهاب رأس المال ، ثم فيه تفسيران ، وذلك لأنا إذا حملنا الإنسان على الجنس كان معنى الخسر هلاك نفسه وعمره ، إلا المؤمن العامل فإنه ما هلك عمره وماله ، لأنه اكتسب بهما سعادة أبدية ، وإن حملنا لفظ الإنسان على الكافر كان المراد كونه في الضلالة والكفر إلا من آمن من هؤلاء ، فحينئذ يتخلص من ذلك الخسار إلى الربح.
المسألة الثالثة : إنما قال : {لَفِى خُسْرٍ} ولم يقل : لفي الخسر ، لأن التنكير يفيد التهويل تارة والتحقير أخرى ، فإن حملنا على الأول كان المعنى إن الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا لله ، وتقريره أن الذنب يعظم بعظم من في حقه الذنب ، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة ، وكلا الوجهين حاصلان في ذنب العبد في حق ربه ، فلا جرم كان ذلك الذنب في غاية العظم ، وإن حملناه على الثاني كان المعنى أن خسران الإنسان دون خسران الشيطان ، وفيه بشارة أن في خلقي من هو أعصى منك ، والتأويل الصحيح هو الأول.
المسألة الرابعة : لقائل : أن يقول قوله : {لَفِى خُسْرٍ} يفيد التوحيد ، مع أنه في أنواع من الخسر والجواب : أن الخسر الحقيقي هو حرمانه عن خدمة ربه ، وأما البواقي وهو الحرمان عن الجنة ، والوقوع في النار ، فبالنسبة إلى الأول كالعدم ، وهذا كماأن الإنسان في وجوده فوائد ، ثم قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} أي لما كان هذا المقصود أجل المقاصد كان سائر المقاصد بالنسبة إليه كالعدم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 284
واعلم أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر أحدها : قوله : {لَفِى خُسْرٍ} يفيد أنه كالمغمور في الخسران ، وأنه أحاط به من كل جانب وثانيها : كلمة إن ، ، فإنها للتأكيد وثالثها : حرف اللام في لفي خسر ، وههنا احتمالان :
الأول : في قوله تعالى : {لَفِى خُسْرٍ} أي في طريق الخسر ، وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا } لما كانت عاقبته النار.
الاحتمال الثاني : أن الإنسان لا ينفك عن خسر ، لأن الخسر هو تضييع رأس المال ، ورأس ماله هو عمره ، وهو قلما ينفك عن تضييع عمره ، وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان ؛ فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران ، وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضاً حاصل ، لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر ، مع أنه كان متمكناً من أن يعمل فيه عملاً يبقى أثره دائماً ، وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها ، أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك ، لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية ، فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية ، وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر ، فكان تعظيمه / عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل/ وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران ، فثبت أن الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران.
(1/4833)
واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة ، وتقريره أن سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا ، ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية ، والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها ، وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب ، فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها ، فكانوا في الخسران والبوار ، فإن قيل : إنه تعالى قال في سورة التين : {لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان ، وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال ، فكيف وجه الجمع ؟
قلنا : المذكور في سورة التين أحوال البدن ، وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين.
جزء : 32 رقم الصفحة : 284
285
قوله تعالى : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
اعلم أن الإيمان والأعمال الصالحة قد تقدم تفسيرهما مراراً ، ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : احتج من قال : العمل غير داخل في مسمى الإيمان ، بأن الله تعالى عطف عمل الصالحات على الإيمان ، ولو كان عمل الصالحات داخلاً في مسمى الإيمان لكان ذلك تكريراً ولا يمكن أن يقال : هذا التكرير واقع في القرآن ، كقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} وقوله : {وَمَلا ا ِكَتِه وَرُسُلِه وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} لأنا نقول هناك : إنما حسن ، لأن إعادته تدل على كونه أشرف أنواع ذلك الكلي ، وعمل الصالحات ليس أشرف أنواع الأمور المسماة بالإيمان ، فبطل هذا التأويل. قال الحليمي : هذا التكرير واقع لا محالة ، لأن الإيمان وإن لم يشتمل على عمل الصالحات ، لكن قوله : {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يشتمل على الإيمان ، فيكون قوله : مغنياً عن ذكر قوله : {ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } وأيضاً فقوله : {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يشتمل على قوله : {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فوجب أن يكون ذلك تكراراً ، أجاب الأولون وقالوا : إنا لا نمنع ورود التكرير لأجل التأكيد ، لكن الأصل عدمه ، وهذا القدر يكفي في الاستدلال.
المسألة الثانية : احتج القاطعون بوعيد الفساق بهذه الآية ، قالوا : الآية دلت على أن الإنسان في الخسارة مطلقاً ، ثم استثنى : {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} والمعلق على الشرطين مفقود عند فقد أحدهما ، فعلمنا أن من لم يحصل له الإيمان والأعمال الصالحة ، لا بد وأن يكون في الخسار في الدنيا وفي الآخرة ، ولما كان المستجمع لهاتين الخصلتين في غاية القلة ، وكان الخسار / لازماً لمن لم يكن مستجمعاً لهما كان الناجي أقل من الهالك ، ثم لو كان الناجي أكثر كان الخوف عظيماً حتى لا تكون أنت من القليل ، كيف والناجي أقل ؟
أفلا ينبغي أن يكون الخوف أشد.
جزء : 32 رقم الصفحة : 285
المسألة الثالثة : أن هذا الاستثناء فيه أمور ثلاثة أحدها : أنه تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه ، لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه وثانيها : أنه تنبيه على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح ، وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد وثالثها : قالت المعتزلة : تسمية الأعمال بالصالحات تنبيه على أن وجه حسنها ليس هو الأمر على ما يقوله الأشعرية ، لكن الأمر إنما ورد لكونها في أنفسها مشتملة على وجوه الصلاح ، وأجابت الأشعرية بأن الله تعالى وصفها بكونها صالحة ، ولم يبين أنها صالحة بسبب وجوه عائدة إليها أو بسبب الأمر.
المسألة الرابعة : لسائل أن يسأل ، فيقول : إنه في جانب الخسر ذكر الحكم ولم يذكر السبب وفي جانب الربح ذكر السبب ، وهو الإيمان والعمل الصالح ، ولم يذكر الحكم فما الفرق قلنا : إنه لم يذكر سبب الخسر لأن الخسر كما يحصل بالفعل ، وهو الإقدام على المعصية يحصل بالترك ، وهو عدم الإقدام على الطاعة ، أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل ، فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل ، وفيه وجه آخر ، وهو أنه تعالى في جانب الخسر أبهم ولم يفصل ، وفي جانب الربح فصل وبين ، وهذا هو اللائق بالكرم.
أما قوله تعالى : {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
فاعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث إنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضاً سبباً لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين وعلى هذا الوجه قال تعالى : {وَأَبْكَارًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل ، والتواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب ، وفي اجتنابهم ما يحرم إذ الإقدام على المكروه ، والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : هذه الآية فيها وعيد شديد ، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتياً بهذه الأشياء الأربعة ، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور ، منها الدعاء إلى الدين والنصيحة والأمر / بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله ، والثاني الثبات عليه ، والأول الأمر بالمعروف والثاني النهي عن المنكر ، ومنه قوله : {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ} وقال عمر : رحم الله من أهدى إلى عيوبي.
جزء : 32 رقم الصفحة : 285
المسألة الثانية : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمة ، فلذلك قرن به التواصي.
المسألة الثالثة : إنما قال : {وَتَوَاصَوْا } ولم يقل : ويتواصون لئلا يقع أمراً بل الغرض مدحهم بما صدر عنهم في الماضي ، وذلك يفيد رغبتهم في الثبات عليه في المستقبل.
المسألة الرابعة : قرأ أبو عمرو : {بِالصَّبْرِ} بشم الباء شيئاً من الحرف ، لا يشبع قال أبو علي : وهذا مما يجوز في الوقف ، ولا يكون في الوصل إلا على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وهذا لا يكاد يكون في القراءة ، وعلى هذا ما يروى عن سلام بن المنذر أنه قرأ ، والعصر بكسر الصاد ولعله وقف لانقطاع نفس أو لعارض منعه من إدراج القراءة ، وعلى هذا يحمل لا على إجراء الوصل مجرى الوقف ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 285
285
(1/4834)
سورة الهمزة
تسع آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 285
286
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : الويل لفظة الذم والسخط ، وهي كلمة كل مكروب يتولون فيدعو بالويل وأصله وي لفلان ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام ، وروى أنه جبل في جهنم إن قيل : لم قال : ههنا : {وَيْلٌ} وفي موضع آخر : {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} ؟
قلنان : لأن ثمة قالوا : {أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فقال : {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} وههنا نكر لأنه لا يعلم كنهه إلا الله ، وقيل : في ويل إنها كلمة تقبيح ، وويس استصغار وويح ترحم ، فنبه بهذا على قبح هذا الفعل ، واختلفوا في الوعيد الذي في هذه السورة هل يتناول كل من يتمسك بهذه الطريقة في الأفعال الرديئة أو هو مخصوص بأقوام معينين ، أما المحققون فقالوا : إنه عام لكل من يفعل هذا الفعل كائناً من كان وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وقال آخرون : إنه مختص بأناس معينين ، ثم قال عطاى والكلبي : نزلت في الأخنس بن شريق كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلّم من ورائه ويطعن عليه في وجهه ، وقال محمد بن إسحاق : ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف ، قال الفراء : وكون اللفظ عاماً لا ينافي أن يكون المراد منه شخصاً معيناً ، كما أن إنساناً لو قال : لك لا أزورك أبداً فتقول : أنت كل من لم يزرني لا أزوره وأنت إنما تريده بهذه الجملة العامة وهذا هو المسمى في أصول الفقه بتخصيص العام بقرينة العرف.
(1/4835)
المسألة الثانية : الهمز الكسر قال تعالى : {هَمَّازٍ مَّشَّآء } واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم ، قال تعالى : {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة ، وقرىء : {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظاً أحدها : قال ابن عباس : الهمزة المغتاب ، واللمزة العياب وثانيها : قال أبو زيد : الهمزة باليد واللمزة / باللسان وثالثها : قال أبو العالية : الهمزة بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب ورابعها : الهمزة جهراً واللمزة سراً بالحاجب والعين وخامسها : الهمزة واللمزة الذي يلقب الناس بما يكرهون وكان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك ، لكنه لا يليق بمنصب الرياسة إنما ذلك من عادة السقاط ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا. وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبي صلى الله عليه وسلّم فنفاه عن المدينة ولعنه وسادسها : قال الحسن : الهمزة الذي يهمز جليسه يكسر عليه عينه واللمزة الذي يذكر أخاه بالسوء ويعيبه وسابعها : عن أبي الجوزاء قال : قلت لابن عباس : {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} من هؤلاء الذين يذمهم الله بالويل فقال : هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الناعتون للناس بالعيب.
جزء : 32 رقم الصفحة : 286
واعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب ، ثم هذا على قسمين فإنه إما أن يكون بالجد كما يكون عند الحسد والحقد ، وإما أن يكون بالهزل كما يكون عند السخرية والإضحاك ، وكل واحد من القسمين ، إما أن يكون في أمر يتعلق بالدين ، وهو ما يتعلق بالصورة أو المشي ، أو الجلوس وأنواعه كثيرة وهي غير مضبوطة ، ثم إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة قد يكون لحاضر ، وقد يكون لغائب ، وعلى التقديرين فقد يكون باللفظ ، وقد يكون بإشارة الرأس والعين وغيرهما/ وكل ذلك داخل تحت النهي والزجر ، إنما البحث في أن اللفظ بحسب اللغة موضوع لماذا ، فما كان اللفظ موضوعاً له كان منهياً بحسب اللفظ ، ومالم يكن اللفظ موضوعاً له كان داخلاً تحت النهي بحسب القياس الجلي ، ولما كان الرسول أعظم الناس منصباً في الدين كان الطعن فيه عظيماً عند الله ، فلا جرم قال : {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 286
286
ثم قال تعالى : {الَّذِى جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَه } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : {الَّذِى} بدل من كل أو نصب على ذم ، وإنما وصفه الله تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال ، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره.
المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي وابن عامر جمع بالتشديد والباقون بالتخفيف والمعنى في جمع وجمع واحد متقارب ، والفرق أن {جَمَعَ} بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا ، وأنه لم يجمعه في يوم واحد ، ولا في يومين ، ولا في شهر ولا في شهرين ، يقال : فلان يجمع الأموال أي يجمعها من ههنا وههنا ، وأما جمع بالتخفيف ، فلا يفيد ذلك ، وأما قوله : {مَالا} فالتنكير فيه يحتمل وجهين أحدهما : أن يقال : المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير ، فكيف يليق به أن يفتخر بذلك / القليل والثاني : أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات. فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به ؟
أما قوله : {وَعَدَّدَه } ففيه وجوه أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال : أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر وثانيها : عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال : فلان يعدد فضائل فلان ، ولهذا قال السدي : وعدده أي أحصاه يقول : هذا لي وهذا لي يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه وثالثها : عدده أي كثره يقال : في بني فلان عدد أي كثرة ، وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معي العدد ، والقول الثالث إلى معنى العدة ، وقرأ بعضهم وعدده بالتخفيف وفيه وجهان أحدهما : أن يكون المعنى جمع المال وضبط عدده وأحصاه وثانيهما : جمع ماله وعدد قومه الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والرجل متى كان كذلك كان أدخل في التفاخر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 286
286
ثم وصفه تعالى بضرب آخر من الجهل فقال : {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَه ا أَخْلَدَه } .
(1/4836)
واعلم أن أخلده وخلده بمعنى واحد ثم في التفسير وجوه أحدها : يحتمل أن يكون المعنى طول المال أمله ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله ، يحسب أن ماله تركه خالداً في الدنيا لا يموت وإنما قال : {أَخْلَدَه } ولم يقل : يخلده لأن المراد يحسب هذا الإنسان أن المال ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ منه ، ولذلك ذكره على الماضي. قال الحسن : ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت وثانيها : يعمل الأعمال المحكمة كتشييد البنيان بالآجر والجص ، عمل من يظن أنه يبقى حياً أو لأجل أن يذكر بسببه بعد الموت وثالثها : أحب المال حباً شديداً حتى اعتقد أنه : إن انتقص مالي أموت ، فلذلك يحفظه من النقصان ليبثى حياً ، وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل ورابعها : أن هذا تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخر في النعيم المقيم.
أما قوله تعالى : {كَلا } ففيه وجهان أحدهما : أنه ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده بل العلم والصلاح ، ومنه قول علي عليه السلام : مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر ، والقول الثاني معناه حقاً : {لَيُنابَذَنَّ} واللام في : {لَيُنابَذَنَّ} جواب القسم المقدر فدل ذلك على حصول معنى القسم في كلا.
جزء : 32 رقم الصفحة : 286
286
أما قوله تعالى : {كَلا لَيُنابَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْحُطَمَةُ} فإنما ذكره بلفظ النبذ الدال على الإهانة ، لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة ، وقرىء لنبذان أي هو وماله ولينبذن بضم الذال أي هو وأنصاره ، وأما : {الْحُطَمَةِ} فقال المبرد : إنها النار التي تحطم كل من وقع / فيها ورجل حطمة أي شديد الأكل يأتي على زاد القوم ، وأصل الحطم في اللغة الكسر ، ويقال : شر الرعاء الحطمة ، يقال : راع حطمة وحطم بغير هاء كأنه يحطم الماشية أي يكسرها عند سوقها لعنفه ، قال المفسرون : الحطمة اسم من أسماء النار وهي الدركة الثانية من دركات النار ، وقال مقاتل : هي تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : "إن الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه كما توضع الخشبة على الركبة فتكسر ثم يرمى به في النار".
واعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم ههنا وجوه : أحدها : الاتحاد في الصورة كأنه تعالى يقول : إن كنت همزة لمزة فوراءك الحطمة والثاني : أن الهامز بكسر عين ليضع قدره فيلقيه في الحضيض فيقول تعالى : وراءك الحطمة ، وفي الحطم كسر فالحطمة تكسرك وتلقيك في حضيض جهنم لكن الهمزة ليس إلا الكسر بالحاجب ، أما الحطمة فإنها تكسر كسراً لا تبقي ولا تذر الثالث : أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس والحطمة أيضاً اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم ، ويمكن أن يقال : ذكر وصفين الهمز واللمز ، ثم قابلهما باسم واحد وقال : خذ واحداً مني بالإثنين منك فإنه يفي ويكفي ، فكأن السائل يقول : كيف يفي الواحد بالإثنين ؟
فقال : إنما تقول : هذا لأنك لا تعرف هذا الواحد فلذلك قال : {وَمَآ أَدْرَا كَ مَا الْحُطَمَةُ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 286
288
أما قوله تعالى : {نَارُ اللَّهِ} فالإضافة للتفخيم أي هي نار لا كسائر النيران : {الْمُوقَدَةُ} التي لا تخمد أبداً أو : {الْمُوقَدَةُ} بأمره أو بقدرته ومنه قول علي عليه السلام : عجباً ممن يعصى الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته ، وفي الحديث : "أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ، ثم ألف سنة حتى ابيضت ، ثم ألف سنة حتى اسودت فهي الآن سوداء مظلمة".
جزء : 32 رقم الصفحة : 288
288
أما قوله تعالى : {الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْاِدَةِ} . فاعلم أنه يقال : طلع الجبل واطلع عليه إذا علاه ، ثم في تفسير الآية وجهان : الأول : أن النار تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ، ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى مماسه ، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه. ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق إذ لو احترق لمات ، وهذا هو المراد من قوله : {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } ومعنى الاطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد والثاني : أن سبب تخصيص الأفئدة بذلك هو أنها مواطن الكفر والعقائد الخبيثة والنيات الفاسدة ، واعلم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت ، ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى.
جزء : 32 رقم الصفحة : 288
291
أما قوله تعالى : {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} فقال الحسن : {مُّؤْصَدَةٌ} أي مطبقة من أصدت الباب / وأوصدته لغتان ، ولم يقل : مطبقة لأن المؤصدة هي الأبواب المغلقة ، والإطباق لا يفيد معنى الباب.
واعلم أن الآية تفيد المبالغة في العذاب من وجوه أحدها : أن قوله : {لَيُنابَذَنَّ} يقتضي أنه موضع له قعر عميق جداً كالبئر وثانيها : أنه لو شاء يجعل ذلك الموضع بحيث لا يكون له باب لكنه بالباب يذكرهم الخروج ، فيزيد في حسرتهم وثالثها : أنه قال : {عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} ولم يقل : مؤصدة عليهم لأن قوله : {عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} يفيد أن المقصود أولاً كونهم بهذه الحالة ، وقوله مؤصدة عليهم لا يفيد هذا المعنى بالقصد الأول.
جزء : 32 رقم الصفحة : 291
291
أما قوله تعالى : {فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَة } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرىء في عمد بضمتين وعمد بسكون الميم وعمد بفتحتين ، قال الفراء : عمد وعمد وعمد مثل الأديم والإدم والأدم والإهاب والأهب والأهب ، والعقيم والعقم والعقم وقال المبرد وأبو علي : العمد جمع عمود على غير واحد ؛ أما الجمع على واحد فهو العمد مثل زبور وزبر ورسول ورسل.
المسألة الثانية : العمود كل مستطيل من خشب أو حديد ، وهو أصل للبناء ، يقال : عمود البيت للذي يقوم به البيت.
المسألة الثالثة : في تفسير الآية وجهان الأول : أنها عمد أغلقت بها تلك الأبواب كنحو ما تغلق به الدروب ، وفي بمعنى الباء أي أنها عليهم مؤصدة بعمد مدت عليها ، ولم يقل : بعمد لأنها لكثرتها صارت كأن الباب فيها والقول الثاني : أن يكون المعنى : {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} حال كونهم موثقين : {فِى عَمَدٍ} مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص ، اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين.
جزء : 32 رقم الصفحة : 291
292
(1/4837)
سورة الفيل
خمس آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 292
292
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} .
روى أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصخمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلاً فأغضبه ذلك.
وقيل : أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قوياً عظيماً ، وثمانية أخرى ، وقيل : إثنا عشر ، وقيل : ألف ، فلما بلغ قريباً من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبأ جيشه ، وقدم الفيل فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى جهة اليمن أو إلى سائر الجهات هرول ، ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليهم فيها فعظم في عين أبرهة وكان رجلاً جسيماً وسيماً ، وقيل : هذا سيد قريش ، وصاحب عير مكة فلما ذكر حاجته ، قال : سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك فألهاك عنه ذود أخذلك ، فقال أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعك عنه ، ثم رجع وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول :
لا هم إن المرء يمـ
ـنع حله فامنع حلالك وانصر على آل الصليـ
ـب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عدوا محالك إن كنت تاركهم وكعـ
ـبتنا فأمر ما بدالك ويقول :
يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع عنهم حماكا فالتفت وهو يدعو ، فإذا هو بطير من نحو اليمن ، فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا / تهامية ، وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانيء نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفارى ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه فهلكوا في كل طريق ومنهل ، ودوى أبرهة فتساقطت أنامله ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه ، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتاً بين يديه ، وعن عائشة قالت : "رأيت قائد الفيل" وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان ، ثم في الآية سؤالات.
الأول : لم قال : {أَلَمْ تَرَ} مع أن هذه الواقعة وقعت قبل المبعث بزمان طويل ؟
الجواب : المراد من الرؤية العلم والتذكير ، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر فكان العلم الحاصل به ضرورياً مساوياً في القوة والجلاء للرؤية ، ولهذا السبب قال : لغيره على سبيل الذم : {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ} لا يقال : فلم قال : {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأنا نقول : الفرق أن مالا يتصور إدراكه لا يستعل فيه إلا العلم لكونه قادراً ، وأما الذي يتصور إدراكه كفرار الفيل ، فإنه يجوز أن يستعمل فيه الرؤية.
جزء : 32 رقم الصفحة : 292
(1/4838)
السؤال الثاني : لم قال : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} ولم يقل : ألم تر ما فعل ربك ؟
الجواب : لأن الأشياء لها ذوات ، ولها كيفيات باعتبارها يدل على مداومتها وهذه الكيفية هي التي يسميها المتكلمون وجه الدليل ، واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية هذه الكيفيات لا برؤية الذوات ولهذا قال : {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا} ولا شك أن هذه الواقعة كانت دالة على قدرة الصانع وعلمه وحكمته ، وكانت دالة على شرف محمد صلى الله عليه وسلّم ، وذلك لأن مذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيساً لنبوتهم وإرهاصاً لها/ ولذلك قالوا : كانت الغمامة تظله ، وعند المعتزلة ، أن ذلك لا يجوز ، فلا جرم زعموا أنه لا بد وأن يقال : كان في ذلك الزمان نبي (أو خطيب) كخالد بن سنان أو قس بن ساعدة ، ثم قالوا : ولا يجب أن يشتهر وجودهما ، ويبلغ إلى حد التواتر ، لا حتمال أنه كان مبعوثاً إلى جمع قليلين ، فلا جرم لم يشتهر خبره.
واعلم أن قصة الفيل واقعة على الملحدين جداً ، لأنهم ذكروا في الزلازل والرياح والصاعق وسائر الأشياء التي عذب الله تعالى بها الأمم أعذاراً ضعيفة ، أما هذه الواقعة فلا تجرى فيها تلك الأعذار ، لأنها ليس في شيء من الطبائع والحيل أن يقبل طير معها حجارة ، فتقصد قوماً دون قوم فتقتلهم ، ولا يمكن أن يقال : إنه كسائر الأحاديث الضعيفة لأنه لم يكن بين عام الفيل ومبعث الرسول إلا نيف وأربعون سنة ويوم تلا الرسول هذه السورة كان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ، ولو كان النقل ضعيفاً لشافهوه بالتكذيب ، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا سبب للطعن فيه.
/ السؤال الثالث : لم قال : {فَعَلَ} ولم يقل : جعل ولا خلق ولا عمل الجواب : لأن خلق يستعمل لابتداء الفعل ، وجعل للكيفيات قال تعالى : {خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } وعمل بعد الطلب وفعل عام فكان أولى لأنه تعالى خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كانت عليه ، وسألوه أن يحفظ البيت ، ولعله كان فيهم من يستحق الإجابة ، فلو ذكر الألفاظ الثلاثة لطال الكلام فذكر لفظاً يشمل الكل.
السؤال الرابع : لما قال : ربك ، ولم يقل : الرب ؟
الجواب : من وجوه أحدها : كأنه تعالى قال : إنهم لما شاهدوا هذا الانتقام ثم لم يتركوا عبادة الأوثان ، وأنت يا محمد ما شاهدته ثم اعترفت بالشكر والطاعة ، فكأنك أنت الذي رأيت ذلك الانتقام ، فلا جرم تبرأت عنهم واخترتك من الكل ، فأقول : ربك ، أي أنا لك ولست لهم بل عليهم وثانيها : كأنه تعالى قال : إنما فعلت بأصحاب الفيل ذلك تعظيماً لك وتشريفاً لمقدمك ، فأنا كنت مربياً لك قبل قومك ، فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك ، ففيه بشارة له عليه السلام بأنه سيظفر.
جزء : 32 رقم الصفحة : 292
السؤال الخامس : قوله : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} مذكور في معرض التعجب وهذه الأشياء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى ليست عجيبة ، فما السبب لهذا التعجب ؟
الجواب : من وجوه أحدها : أن الكعبة تبع لمحمد صلى الله عليه وسلّم ، وذلك لأن العلم يؤدي بدون المسجد أما لا مسجد بدون العالم فالعالم هو الدر والمسجد هو الصدف ، ثم الرسول الذي هو الدر همزه الوليد ولمزه حتى ضاق قلبه ، فكأنه تعالى يقول : إن الملك العظيم لما طعن في المسجد هزمته وأفنيته ، فمن طعن فيك وأنت المقصود من الكل ألا أفنيه وأعدمه إن هذا لعجيب وثانيها : أن الكعبة قبلة صلاتك وقلبك قبلة معرفتك ، ثم أنا حفظت قبلة عملك عن الأعداء ، أفلا تسعى في حفظ قبلة دينك عن الآثام والمعاصي.
السؤال السادس : لم قال : {بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ} ولم يقل : أرباب الفيل أو ملاك الفيل ؟
الجواب : لأن الصاحب يكون من الجنس ، فقوله : {بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ} يدل على أن أولئك الأقوام كانوا من جنس الفيل في البهيمية وعدم الفهم والعقل ، بل فيه دقيقة ، وهي : أنه إذا حصلت المصاحبة بين شخصين ، فيقال : للأدون إنه صاحب الأعلى ، ولا يقال : للأعلى إنه صاحب الأدون ، ولذلك يقال : لمن صحب الرسول عليه السلام : إنهم الصحابة ، فقوله : {بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ} يدل على أن أولئك الأقوام كانوا أقل حال وأدون منزلة من الفيل ، وهو المراد من قوله تعالى : {بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ومما يؤكد ذلك أنهم كلما وجهوا الفيل إلى جهة الكعبة كان يتحول عنه ويفر عنه ، كأنه كان يقول : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عزمي حميد فلا أتركه وهم ما كانوا يتركون تلك العزيمة الردية فدل ذلك على أن الفيل كان أحسن حالاً منهم.
(1/4839)
/ السؤال السابع : أليس أن كفار قريش كانوا ملأوا الكعبة من الأوثان من قديم الدهر ، ولا شك أن ذلك كان أقبح من تخريب جدران الكعبة ، فلم سلط الله العذاب على من قصد التخريب ، ولم يسلط العذاب على من ملأها من الأوثان ؟
والجواب : لأن وضع الأوثان فيها تعد على حق الله تعالى ، وتخريبها تعد على حق الخلق ، ونظيره قاطع الطريق ، والباغي والقاتل يقتلون مع أنهم مسلمون ، ولا يقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة ، وإن كانوا كفار ، لأنه لا يتعدى ضررهم إلى الخلق.
السؤال الثامن : كيف القول في إعراب هذه الآية ؟
الجواب : قال الزجاج : كيف في موضع نصب بفعل لا بقوله : {أَلَمْ تَرَ} لأن كيف من حروف الاستفهام.
جزء : 32 رقم الصفحة : 292
294
واعلم أنه تعالى ذكر ما فعل بهم. فقال : {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية ، إن قيل : فلم سماه كيداً وأمره كان ظاهراً ، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت ؟
قلنا : نعم ، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر ، لأنه كان يضمر الحسد للعرب ، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة منهم ومن بلدهم إلى نفسه وإلى بلدته.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة : إضافة الكيد إليهم دليل على أنه تعالى لا يرضى بالقبيح ، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته ، كقوله : {يَأْذَنَ لِى } والجواب : أنه ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، فلم لا يكفي في حسن هذه الإضافة وقوعه مطابقاً لإرادتهم واختيارهم ؟
.
المسألة الثالثة : {فِى تَضْلِيلٍ} أي في تضييع وإبطال يقال : ضلل كيده إذا جعله ضالاً ضائعاً ونظيره قوله تعالى : {وَمَا دُعَآءُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ} وقيل لامرىء القيس : الملك الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه. بمعنى أنهم كادوا البيت أولاً ببناء القليس وأرادوا أن يفتتحوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه ، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ، ثم كادوه ثانياً بإرادة هدمه فضلل بإرسال الطير عليهم ، ومعنى حرف الظرف كما يقال : سعى فلان في ضلال ، أي سعيهم كان قد ظهر لكل عاقل أنه كان ضلال وخطأ.
جزء : 32 رقم الصفحة : 294
294
ثم قال تعالى : {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} وفيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال : {طَيْرًا} على التنكير ؟
والجواب : إما للتحقير فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر ، أو للتفخيم كأنه يقول : طيراً وأي طير ترمى بحجارة صغيرة فلا تخطىء المقتل.
/ السؤال الثاني : ما الأبابيل الجواب : أما أهل اللغة قال أبو عبيدة : أبابيل جماعة في تفرقة ، يقال : جاءت الخيل أبابيل أبابيل من ههنا وههنا ، وهل لهذه اللفظة واحد أم لا ؟
فيه قولان : الأول : وهو قول الأخفش والفراء : أنه لا واحد لها وهو مثل الشماطيط والعباديد ، لا وحد لها والثاني : أنه له واحد ، ثم على هذا القول ذكروا ثلاثة أوجه أحدها : زعم أبو جعفر الرؤاسي وكان ثقة مأموناً أنه سمع واحدها إبالة ، وفي أمثالهم : ضغث على إبالة ، وهي الحزمة الكبيرة سميت الجماعة من الطير في نظامها بالإبالة وثانيها : قال الكسائي : كنت أسمع النحويين يقولون : إبول وأبابيل كعجول وعجاجيل وثالثها : قال الفراء : ولو قال قائل : واحد الأبابيل إيبالة كان صواباً كما قال : دينار ودنانير.
السؤال الثالث : ما صفة تلك الطير ؟
الجواب : روى ابن سيرين عن ابن عباس قال : كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الفيل وأكل كأكف الكلاب ، وروى عطاء عنه قال : طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً ، ولعل السبب أنها أرسلت إلى قوم كان في صورتهم سواد اللون وفي سرهم سواد الكفر والمعصية ، وعن سعيد بن جبير أنها بيض صغار ولعل السبب أن ظلمة الكفر انهزمت بها ، والبياض ضد السواد ، وقيل : كانت خضراً ولها رءوس مثل رءوس السباع ، وأقول : إنها لما كانت أفواجاً ، فلعل كل فوج منها كان على شكل آخر فكل أحد وصف ما رأى ، وقيل : كانت بلقاء كالخطاطيف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 294
294
ثم قال تعالى : {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو حيوة : يرميهم أي الله أو الطير لأنه اسم جمع مذكر ، وإنما يؤنث على المعنى.
المسألة الثانية : ذكروا في كيفية الرمي وجوهاً أحدها : قال مقاتل : كان كل طائر يحمل ثلاثة أحجار ، واحد في منقاره واثنان في رجليه يقتل كل واحد رجلاً ، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ما وقع منها حجر على موضع إلا خرج من الجانب الآخر ، وإن وقع على رأسه خرج من دبره وثانيها : روى عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما أرسل الله الحجارة على أصحاب الفيل لم يقع حجر على أحد منهم إلا نفط جلده وثار به الجدري ، وهو قول سعيد بن جبير ، وكانت تلك الأحجار أصغرها مثل العدسة ، وأكبرها مثل الحمصة.
(1/4840)
واعلم أن من الناس من أنكر ذلك ، وقال : لو جوزناأن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله ، لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خالياً عن الثقل وأن يكون في ومن التينة ، وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات ، فإنه متى / جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ولا نراها ، وأن يحصل الإدراك في عين الضرير حتى يكون هو بالمشرق ويرى بقعة في الأندلس ، وكل ذلك محال. واعلم أن ذلك جائز على مذهبنا إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع.
المسألة الثالثة : ذكروا في السجيل وجوهاً أحدها : أن السجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن سجيناً علم لديوان أعمالهم ، كأنه قيل : بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون ، واشتقاقه من الإسجال ، وهو الإرسال ، ومنه السجل الدلو المملوء ماء ، وإنما سمي ذلك الكتاب بهذا الاسم لأنه كتب فيه العذاب ، والعذاب موصوف بالإرسال لقوله تعالى : {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} وقوله : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} فقوله : {مِّن سِجِّيلٍ} أي مما كتبه الله في ذلك الكتاب وثانيها : قال ابن عباس : سجيل معناه سنك وكل ، يعني بعضه حجر وبعضه طين وثالثها : قال أبو عبيدة : السجيل الشديد ورابعها : السجيل اسم لسماء الدنيا وخامسها : السجيل حجارة من جهنم ، فإن سجيل اسم من أسماء جهنم فأبدلت النون باللام.
جزء : 32 رقم الصفحة : 294
298
أما قوله تعالى : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير العصف وجوهاً ذكرناها في قوله : {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} وذكروا ههنا وجوهاً : أحدها : أنه ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد وتعصفه الرياح فتأكله المواشي وثانيها : قال أبو مسلم : العصف التبن لقوله : {ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} لأنه تعصف به الريح عند الذر فتفرقه عن الحب ، وهو إذا كان مأكولاً فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه وثالثها : قال الفراء : هو أطراف الزرع قبل أن يدرك السنبل ورابعها : هو الحب الذي أكل لبه وبقي قشره.
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير المأكول وجوهاً أحدها : أنه الذي أكل ، وعلى هذا الوجه ففيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون المعنى كزرع وتبن قد أكلته الدواب ، ثم ألقته روثاً ، ثم يجف وتتفرق أجزاؤه ، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث ، إلا أن العبارة عنه جاءت على ما عليه آداب القرآن ، كقوله : {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } وهو قول مقاتل ، وقتادة وعطاء عن ابن عباس.
والاحتمال الثاني : على هذا الوجه أن يكون التشبيه واقعاً بورق الزرع إذا وقع فيه الأكال ، وهو أن يأكله الدود الوجه الثاني : في تفسير قوله : {مَّأْكُول } هو أنه جعلهم كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه ، وعلى هذا التقدير يكون المعنى : كعصف مأكول الحب كما يقال : فلان حسن أي حسن الوجه ، فأجرى مأكول على العصف من أجل أنه أكل حبه لأن هذا المعنى معلوم وهذا / قول الحسن الوجه الثالث : في التفسير أن يكون معنى : {مَّأْكُول } أنه مما يؤكل ، يعني تأكله الدواب يقال : لكل شيء يصلح للأكل هو مأكول والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب وهو قول عكرمة والضحاك.
المسألة الثالثة : قال بعضهم : إن الحجاج خرب الكعبة ، ولم يحدث شيء من ذلك ، فدل على أن قصة الفيل ما كانت على هذا الوجه وإن كانت هكذا إلا أن السبب لتلك الواقعة أمر آخر سوى تعظيم الكعبة والجواب : أنا بينا أن ذلك وقع إرهاصاً لأمر محمد صلى الله عليه وسلّم ، والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه ، أما بعد قدومه وتأكد نبوته بالدلائل القاطعة فلا حاجة إلى شيء من ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 298
298
(1/4841)
سورة قريش
وهي أربع آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 298
301
{لايلَافِ قُرَيْشٍ * إِالَافِهِمْ} اعلم أن ههنا مسائل :
المسألة الأولى : اللام في قوله : {لايلَافِ} تحتمل وجوهاً ثلاثة ، فإنها إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها أو بالآية التي بعدها ، أولاً تكون متعلقة لا بما قبلها ، ولا بما بعدها أما الوجه الأول : وهو أن تكون متعلقة بما قبلها ، ففيه احتمالات :
الأول : وهو قول الزجاج وأبي عبيدة أن التقدير : {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول } لإلف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش ، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف ، فإن قيل : هذا ضعيف لأنهم إنما جعلوا : {كَعَصْفٍ مَّأْكُول } لكفرهم ولم يجعلوا كذلك لتأليف قريش ، قلنا هذا السؤال ضعيف لوجوه أحدها : أنا لا نسلم أن الله تعالى إنما فعل بهم ذلك لكفرهم ، فإن الجزاء على الكفر مؤخر للقيامة ، قال تعالى : {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسا بِمَا كَسَبَتْ } وقال : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} ولأنه تعالى لو فعل بهم ذلك لكفرهم ، لكان قد فعل ذلك بجميع الكفار ، بل إنما فعل ذلك بهم : {لايلَافِ قُرَيْشٍ} ولتعظيم منصبهم وإظهار قدرهم وثانيها : هب أن زجرهم عن الكفر مقصود لكن لا ينافي كون شيء آخر مقصود حتى يكون الحكم واقعاً بمجموع الأمرين معاً وثالثها : هب أنهم أهلكوا لكفرهم فقط ، إلا أن ذلك الإهلاك لما أدى إلى إيلاف قريش ، جاز أن يقال : أهلكوا لإيلاف قريش ، كقوله تعالى : {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } وهم لم يلتقطوه لذلك ، لكن لما آل الأمر إليه حسن أن يمهد عليه الالتقاط.
الاحتمال الثاني : أن يكون التقدير : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} كأنه تعالى قال : كل ما فعلنا بهم فقد فعلناه ، لإيلاف قريش ، فإنه تعالى جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، حتى صاروا كعصف مأكول ، فكل ذلك إنما كان لأجل إيلاف قريش.
/ الاحتمال الثالث : أن تكون اللام في قوله : {لايلَافِ} بمعنى إلى كأنه قال : فعلنا كل ما فعلنا في السورة المتقدمة إلى نعمة أخرى عليهم وهي إيلافهم : {رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ} تقول : نعمة الله نعمة ونعمة لنعمة سواء في المعنى ، هذا قول الفراء : فهذه احتمالات ثلاثة توجهت على تقدير تعليق اللام بالسورة التي قبل هذه ، وبقي من مباحث هذا القول أمران :
جزء : 32 رقم الصفحة : 301
الأول : أن للناس في تعليق هذه اللام بالسورة المتقدمة قولين : أحدهما : أن جعلوا السورتين سورة واحدة واحتجوا عليه بوجوه : أحدها : أن السورتين لا بد وأن تكون كل واحدة منهما مستقلة بنفسها ، ومطلع هذه السورة لما كان متعلقاً بالسورة المتقدمة وجب أن لا تكون سورة مستقلة وثانيها : أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة وثالثها : ما روى أن عمر قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين ، وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش معاً ، من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم : القول الثاني : وهو المشهور المستفيض أن هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل ، وأما تعلق أول هذه السورة بما قبلها فليس بحجة على ما قالوه ، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضاً ويبين بعضها معنى بعض ، ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة ، ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه من يقول به ، وقوله : {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} متعلق بما قبله من ذكر القرآن ، وأما قوله : إن أبياً لم يفصل بينهما فهو معارض بإطباق الكل على الفصل بينهما ، وأما قراءة عمر فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين.
(1/4842)
البحث الثاني : فيما يتعلق بهذا القول بيان : أنه لم صار ما فعله الله بأصحاب الفيل سبباً لإيلاف قريش ؟
فنقول : لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع على ما قال تعالى : {بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} إلى قوله : {فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} فكان أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحتلين ، ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وهم إنما كانوا يربحون في أسفارهم ، ولأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة ، ويقولون : هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله ، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة ، لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا في التعظيم والاحترام ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفسهم وأموالهم ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحرهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب ، وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم فازدادت تلك المنافع والمتاجر ، فلهذا قال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ} {لايلَـافِ قُرَيْشٍ * إِالَـافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ} . والوجه الثاني : فيما يدل على صحة هذا القول أن قوله تعالى في آخر هذه السورة : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِى } إشارة إلى أول سورة الفيل ، كأنه قال : فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي قصده أصحاب الفيل ، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلافكم ونفعكم لأن الأمر بالعبادة إنما يحسن مرتباً على إيصال المنفعة ، فهذا يدل على تعلق أول هذه السورة بالسورة المتقدمة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 301
القول الثاني : وهو أن اللام في : {لايلَـافِ} متعلقة بقوله : {فَلْيَعْبُدُوا } وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير : فليعبدوا رب هذا البيت ، لإيلاف قريش. أي ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها ، فإن قيل : فلم دخلت الفاء في قوله : {فَلْيَعْبُدُوا } ؟
قلنا : لما في الكلام من معنى الشرط ، وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى ، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبده لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة.
القول الثالث : أن تكون هذه اللام غير متعلقة ، لا بما قبلها ولا بما بعدها ، قال الزجاج : قال قوم : هذه اللام لام التعجب ، كأن المعنى : اعجبوا لإيلاف قريش ، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غياً وجهلاً وانغماساً في عبادة الأوثان ، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم ، وينظم أسباب معايشهم ، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه ، ونظيره في اللغة قولك لزيد وما صنعنا به. ولزيد وكرامتنا إياه. وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء.
المسألة الثانية : ذكروا في الإيلاف ثلاثة أوجه أحدها : أن الإيلاف هو الإلف قال علماء اللغة : ألفت الشيء وألفته إلفاً وإلافاً وإيلافاً بمعنى واحد ، أي لزمته فيكون المعنى لإلف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا ، وقرأ أبو جعفر : لإلف قريش. وقرأ الآخرون لإلاف قريش ، وقرأ عكرمة ليلاف قريش وثانيها : أن يكون هذا من قولك : لزمت موضع كذا وألزمنيه الله ، كذا تقول : ألفت كذا ، وألفنيه الله ويكون المعنى إثبات الألفة بالتدبير الذي فيه لطف ألف بنفسه إلفاً وآلفه غيره إيلافاً ، والمعنى أن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله وهو كقوله : {وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } وقال : {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانًا} وقد تكون المسرة سبباً للمؤانسة والاتفاق ، كما وقعت عند انهزام أصحاب الفيل لقريش ، فيكون المصدر ههنا مضافاً إلى المفعول/ ويكون المعنى لأجل أن يجعل الله قريشاً ملازمين لرحلتيهم وثالثها : أن يكون الإيلاف هو التهيئة والتجهيز وهو قول الفراء وابن الأعرابي : فيكون المصدر على هذا القول مضافاً إلى الفاعل ، والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا ، وقرأ أبو جعفر ليلاف بغير همز فحذف همزة الإفعال حذفاً كلياً وهو كمذهبه في يستهزءون وقد مر تقريره.
جزء : 32 رقم الصفحة : 301
(1/4843)
المسألة الثالثة : التكرير في قوله : {لايلَـافِ قُرَيْشٍ * إِالَـافِهِمْ} هو أنه أطلق الإيلاف أولاً ثم جعل المقيد بدلاً لذلك المطلق تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم المنة فيه ، والأقرب أن يكون قوله : {لايلَـافِ قُرَيْشٍ} عاماً بجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم ، فيدخل فيه مقامهم / وسيرهم وجميع أحوالهم ، ثم خص إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم كما في قوله : {وَجِبْرِيلُ} وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة ، تقول العرب : ألفت كذا أي لزمته ، والإلزام ضربان إلزام بالتكليف والأمر ، وإلزام بالمودة والمؤانسة فإنه ءذا أحب المرء شيئاً لزمه ، ومنه : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } كما أن الإلجاء ضربان أحدهما : لدفع الضرر كالهرب من السبع والثاني : لطلب النفع العظيم ، كمن يجد مالاً عظيماً ولا مانع من أخذه لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً فإنه يكون كالملجأ إلى الأخذ ، وكذا الدواعي التي تكون دون الالجاء ، مرة تكون لدفع الضرر وأخرى لجلب النفع ، وهو المراد في قوله : {إِالَـافِهِمْ} .
المسألة الرابعة : اتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة ، قال عليه الصلاة والسلام : "إنا بني النضر بن كنانة لأنفقوا أمناً ولا ننتفي من أبينا" وذكروا في سبب هذه التسمية وجوهاً أحدها : أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ، ولا تنطلق إلا بالنار وعن معاوية أنه سأل ابن عباس : بم سميت قريش ؟
قال : بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، تعلو ولا تعلى ، وأنشد :
وقريش هي التي تكسن البحـ
ـر بها سميت قريش قريشاً والتصغير للتعظيم ، ومعلوم أن قريشاً موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة ، فإن الأئمة من قريش وثانيها : أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد وثالثها : قال الليث : كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً ، فسموا قريشاً لأن التقرش هو التجمع ، يقال : تقرش القوم إذا اجتمعوا ، ولذلك سمي قصي مجمعاً ، قال الشاعر :
أبو كم قصي كان يدعى مجمعاً
به جمع الله القبائل من فهر ورابعها : أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج ، فسموا بذلك قريشاً ، لأن القرش التفتيش قال ابن حرة :
أيها الشامت المقرش عنا
عند عمرو وهل لذاك بقاء
جزء : 32 رقم الصفحة : 301
301
قوله تعالى : {رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الليث : الرحلة اسم الارتحال من القول للمسير ، وفي المراد من هذه الرحلة قولان : الأول : وهو المشهور ، قال المفسرون : كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ وبالصيف إلى الشأم ، وذكر عطاء عن ابن عباس أن السبب في ذلك هو أن قريشاً إذا أصاب واحداً منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خباء حتى يموتوا ، / إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف ، وكان سيد قومه ، وكان له ابن يقال له : أسد ، وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياماً ، ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيباً في قريش ، فقال : إنكم أجدبتم جدباً تقلون فيه وتذلون ، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع قالوا : نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات ، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، فجاء الإسلام وهم على ذلك ، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش ، قال الشاعر فيهم :
الخالطين فقيرهم بغنيهم
حتى يكون فقيرهم كالكافي واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا ، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضاً لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله : {وَقَطَّعْنَـاهُمْ فِي الارْضِ أُمَمًا } واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى ، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة ، ومنه قوله تعالى : {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة القول الثاني : أن المراد ، رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفاً وموسم منافع مكة يكون بهما ، ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.
المسألة الثانية : نصب الرحل بلإيلافهم مفعولاً به ، وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس كقوله : كلوا في بعض بطنكم ، وقيل : معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف ، وقرىء رحلة بضم الراء وهي الجهة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 301
302
(1/4844)
قوله تعالى : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ} اعلم أن الإنعام على قسمين أحدهما : دفع الضرر والثاني : جلب النفع والأول أهم وأقدم ، ولذلك قالوا : دفع الضرر عن النفس واجب أما جلب النفع (فإنه) غير واجب ، فلهذا السبب بين تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ونعمة جلب النفع في هذه السورة ، ولما تقرر أن الإنعام لا بد وأن يقابل بالشكر والعبودية ، لا جرم أتبع ذكر النعمة بطلب العبودية فقال : {فَلْيَعْبُدُوا } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : ذكرنا أن العبادة هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون. ثم قال بعضهم : أراد فليوحدوا رب هذا البيت لأنه هو الذي حفظ البيت دون الأوثان ، ولأن التوحيد مفتاح العبادات ، ومنهم من قال : المراد العبادات المتعلقة بأعمال الجوارح / ثم ذكر كل قسم من أقسام العبادات ، والأولى حمله على الكل لأن اللفظ متناول للكل إلا ما أخرجه الدليل ، وفي الآية وجه آخر ، وهو أن يكون معنى فليعبدوا أي فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ، ولعل تخصيص لفظ الرب تقرير لما قالوه لأبرهة : إن للبيت رباً سيحفظه ، ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه ، كأنه يقول : لما عولتم في الحفظ علي فاصرفوا العبادة والخدمة إلي.
المسألة الثانية : الإشارة إلى البيت في هذا النظم تفيد التعظيم فإنه سبحانه تارة أضاف العبد إلى نفسه فيقول : يا عبادي وتارة يضيف نفسه إلى العبد فيقول : وإلهكم كذا في البيت (تارة) يضيف نفسه إلى البيت وهو قوله : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ} وتارة يضيف البيت إلى نفسه فيقول : {طَهِّرَا بَيْتِىَ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 302
303
ثم قال تعالى : {الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} وفي هذه الإطعام وجوه أحدها : أنه تعالى لما آمنهم بالحرم حتى لا يتعرض لهم في رحلتيهم كان ذلك سبب إطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع ثانيها : قال مقاتل : شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق ، فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا الطعام في السفن إلى مكة فحملوه ، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل والخمر ، ويشترون طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين وتتابع ذلك ، فكفاهم الله مؤونة الرحلتين ثالثها : قال الكلبي : هذه الآية معناها أنهم لما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلّم دعا عليهم ، فقال : "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا : يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخصبت البلاد وأخصب أهل مكة بعد القحط ، فذاك قوله : {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} ثم في الآية سؤالات :
السؤال الأول : العبادة إنما وجبت لأنه تعالى أعطى أصول النعم ، والإطعام ليس من أصول النعم ، فلما علل وجوب العبادة بالإطعام ؟
والجواب : من وجوه أحدها : أنه تعالى لما ذكر إنعامه عليهم بحبس الفيل وإرسال الطير وإهلاك الحبشة ، وبين أنه تعالى فعل ذلك لإيلافهم ، ثم أمرهم بالعبادة ، فكان السائل يقول : لكن نحن محتاجون إلى كسب الطعام والذب عن النفس ، فلو اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي أيطعمنا ، فقال : الذي أطعمهم من جوع ، قبل أن يعبدوه ، ألا يطعمهم إذا عبدوه وثانيها : أنه تعالى بعد أن أعطى العبد أصول النعم أساء العبد إليه ، ثم إنه يطعمهم مع ذلك ، فكأنه تعالى يقول : إذا لم تستح من أصول النعم ألا تستحي من إحساني إليك بعد إساءتك وثالثها : إنما ذكر الإنعام ، لأن البهيمة تطيع من يعلفها ، فكأنه تعالى يقول : لست دون البهيمة.
السؤال الثاني : أليس أنه جعل الدنيا ملكاً لنا بقوله : {خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا} / فكيف تحسن المنة علينا بأن أعطانا ملكنا ؟
الجواب : أنظر في الأشياء التي لا بد منها قبل الأكل حتى يتم الطعام ويتهيأ ، وفي الأشياء التي لا بد منها بعد الأكل حتى يتم الانتفاع بالطعام المأكول ، فإنك تعلم أنه لا بد من الأفلاك والكواكب ، ولا بد من العناصر الأربعة حتى يتم ذلك الطعام ، ولا بد من جملة الأعضاء على اختلاف أشكالها وصورها حتى يتم الانتفاع بالطعام ، وحينئذ تعلم أن الإطعام يناسب الأمر بالطاعة والعبادة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 303
السؤال الثالث : المنة بالإطعام لا تليق بمن له شيء من الكرم ، فكيف بأكرم الأكرمين ؟
الجواب : ليس الغرض منه المنة ، بل الإرشاد إلى الأصلح ، لأنه ليس المقصود من الأكل تقوية الشهوة المانعة عن الطاعة ، بل تقوية البنية على أداء الطاعات ، فكأن المقصود من الأمر بالعبادة ذلك.
(1/4845)
السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله : {مِن جُوعٍ} ؟
الجواب : فيه فوائد أحدها : التنبيه على أن أمر الجوع شديد ، ومنه قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنا بَعْدِ مَا قَنَطُوا } وقوله صلى الله عليه وسلّم : "من أصبح آمناً في سربه" الحديث وثانيها : تذكيرهم الحالة الأولى الرديئة المؤلمة وهي الجوع حتى يعرفوا قدر النعمة الحاضرة وثالثها : التنبيه على أن خير الطعام ما سد الجوعة ، لأنه لم يقل : وأشبعهم لأن الطعام يزيل الجوع ، أما الإشباع فإنه يورث البطنة.
أما قوله تعالى : {الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن} ففي تفسيره وجوه أحدها : أنهم كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد ، ولا يغير عليهم أحد لا في سفرهم/ ولا في حضرهم وكان غيرهم لا يأمنون من الغارة في السفر والحضر ، وهذا معنى قوله : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا} ثانيها : أنه آمنهم من زحمة أصحاب الفيل وثالثها : قال الضحاك والربيع : وآمنهم من خوف الجزام ، فلا يصيبهم ببلدتهم الجذام ورابعها : آمنهم من خوف أن تكون الخلافة في غيرهم وخامسها : آمنهم بالإسلام ، فقد كانوا في الكفر يتفكرون ، فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء ، إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به وسادسها : أطعمهم من جوع الجهل بطعام الوحي ، وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى ، كأنه تعالى يقول : يا أهل مكة كنتم قبل مبعث محمد تسمون جهال العرب وأجلافهم ، ومن كان ينازعكم كانوا يسمون أهل الكتاب ، ثم أنزلت الوحي على نبيكم ، وعلمتكم الكتاب والحكمة حتى صرتم الآن تسمون / أهل العلم والقرآن ، وأولئك يسمون جهال اليهود والنصارى ، ثم إطعام الطعام الذي يكون غذاء الجسد يوجب الشكر ، فإطعام الذي هو غذاء الروح ، ألا يكون موجباً للشكر وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : لم لم يقل : عن جوع وعن خوف ؟
قلنا : لأن معنى عن أنه جعل الجوع بعيداً عنهم ، وهذا يقتضي أن يكون ذلك التبعيد مسبوقاً بمقاشاة الجوع زماناً ، ثم يصرفه عنه ، ومن لا تقتضي ذلك ، بل معناه أنهم عندما يجوعون يطعمون ، وحين ما يخافون يؤمنون.
جزء : 32 رقم الصفحة : 303
السؤال الثاني : لم قال : من جوع ، من خوف على سبيل التنكير ؟
الجواب : المراد من التنكير التعظيم. أما الجوع فلما روينا : أنه أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة. وأما الخوف ، فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل ، ويحتمل أن يكون المراد من التنكير التحقير ، يكون المعنى أنه تعالى لما لم يجوز لغاية كرمه إبقاءهم في ذلك الجوع القليل والخوف القليل ، فكيف يجوز في كرمه لو عبدوه أن يهمل أمرهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنه : {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} دون جوع : {الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن} دون خوف ، ليكون الجوع الثاني ، والخوف الثاني مذكراً ما كانوا فيه أولاً من أنواع الجوع والخوف ، حتى يكونوا شاكرين من وجه ، وصابرين من وجه آخر ، فيستحقوا ثواب الخصلتين.
السؤال الثالث : أنه تعالى إنما أطعمهم وآمنهم إجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أما في الإطعام فهو قوله : {وَارْزُقْ أَهْلَه } وأما الأمان فهو قوله : {اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا} وإذا كان كذلك كان ذلك منة على إبراهيم عليه السلام ، فكيف جعله منة على أولئك الحاضرين ؟
والجواب : أن الله تعالى لما قال : {إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } قال إبراهيم : {وَمِن ذُرِّيَّتِى } فقال الله تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فنادى إبراهيم بهذا الأدب ، فحين قال : {رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ} قيده بقوله : {مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ} فقال الله : لا حاجة إلى هذا التقيد ، بل ومن كفر فأمتعه قليلاً ، فكأنه تعالى قال : أما نعمة الأمان فهي دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقياً ، وأما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح ، وإن كان كذلك كان إطعام الكافر من الجوع ، وأمانه من الخوف إنعاماً من الله ابتداء عليه لا بدعوة إبراهيم ، فزال السؤال. والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 303
304
(1/4846)
سورة الماعون
سبع آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 304
305
{أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ بعضهم أريت بحذف الهمزة ، قال الزجاج : وهذا ليس بالاختيار ، لأن الهمزة إنما طرحت من المستقبل نحو يرى وأرى وترى ، فأما رأيت فليس يصح عن العرب فيها ريت ، ولكن حرف الاستفهام لما كان في أول الكلام سهل إلغاء الهمزة ، ونظيره :
صاح هل ريت أو سمعت براع
رد في الضرع ما قرى في العلاب
وقرأ ابن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب كقوله : {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ} .
المسألة الثانية : قوله : {أَرَءَيْتَ} معناه هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو ، فإن لم تعرفه : {فَذَالِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ} .
واعلم أن هذا اللفظ وإن كان في صورة الاستفهام ، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب كقولك : أرأيت فلاناً ماذا ارتكب ولماذا عرض نفسه ؟
ثم قيل : إنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم ، وقيل : بل خطاب لكل عاقل أي أرأيت يا عاقل هذا الذي يكذب بالدين بعد ظهور دلائله ووضوح تبيانه أيفعل ذلك لا لغرض ، فكيف يليق بالعاقل جر العقوبة الأبدية إلى نفسه من غير غرض أو لأجل الدنيا ، فكيف يليق بالعاقل أن يبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني.
المسألة الثالثة : في الآية قولان : أحدهما : أنها مختصة بشخص معين ، وعلى هذا القول ذكروا أشخاصاً ، فقال ابن جريج : نزلت في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع ، فأتاه يتيم فسأله لحماً فقرعه بعصاه ، وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة ، والإتيان بالأفعال القبيحة ، وقال السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل ، وروى أنه كان وصياً ليتيم ، فجاءه وهو عريان يسأله شيئاً من مال نفسه ، فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي ، فقال له أكابر قريش : قل لمحمد يشفع لك ، وكان / غرضهم الاستهزاء ولم يعرف اليتيم ذلك ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم والتمس منه ذلك ، وهو عليه الصلاة والسلام ما كان يرد محتاجاً فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيرة قريش ، فقالوا : صبوت ، فقال : لا والله ما صبوت ، لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها في ، وروى عن ابن عباس أنها نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة والقول الثاني : أنه عام لكل من كان مكذباً بيوم الدين ، وذلك لأن إقدام الإنسان على الطاعات وإحجامه عن المحظورات إنما يكون للرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب ، فإذا كان منكراً للقيامة لم يترك شيئاً من المشتهيات واللذات ، فثبت أن إنكار القيامة كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي.
جزء : 32 رقم الصفحة : 305
المسألة الرابعة : في تفسير الدين وجوه أحدها : أن يكون المراد من يكذب بنفس الدين والإسلام إما لأنه كان منكراً للصانع ، أو لأنه كان منكراً للنبوة ، أو لأنه كان منكراً للمعاد أو لشيء من الشرائع ، فإن قيل : كيف يمكن حمله على هذا الوجه ، ولا بد وأن يكون لكل أحد دين والجواب : من وجوه أحدها : أن الدين المطلق في اصطلاح أهل الإسلام ، والقرآن هو الإسلام قال : الله تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَامُ } أما سائر المذاهب فلا تسمى ديناً إلا بضرب من التقييد كدين النصارى واليهود وثانيها : أن يقال : هذه المقالات الباطلة ليست بدين ، لأن الدين هو الخضوع لله وهذه المذاهب إنما هي خضوع للشهوة أو للشبهة وثالثها : وهو قوله أكثر المفسرين. أن المراد أرأيت الذي يكذب بالحساب والجزاء/ قالوا : وحمله على هذا الوجه أولى لأن من ينكر الإسلام قد يأتي بالأفعال الحميدة ويحترز عن مقابحها إذا كان مقراً بالقيامة والبعث ، أما المقدم على كل قبيح من غير مبالاة فليس هو إلا المنكر للبعث والقيامة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 305
307
ثم قال تعالى : {فَذَالِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
واعلم أنه تعالى ذكر في تعريف من يكذب الدين وصفين أحدهما : من باب الأفعال وهو قوله : {فَذَالِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ} والثاني : من باب التروك وهو قوله : {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} والفاء في قوله فذلك للسببية أي لما كان كافراً مكذباً كان كفره سبباً لدع اليتيم ، وإنما اقتصر عليهما على معنى أن الصادر عمن يكذب بالدين ليس إلا ذلك ، لأنا نعلم أن المكذب بالدين لا يقتصر على هذين بل على سبيل التمثيل ، كأنه تعالى ذكر في كل واحد من القسمين مثالاً واحداً تنبيهاً بذكره على سائر القبائح ، أو لأجل أن هاتين الخصلتين ، كماأنهما قبيحان منكران بحسب الشرع فهما أيضاً مستنكران بحسب المروءة والإنسانية ، أما قوله : {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} فالمعنى أنه يدفعه بعنف وجفوة كقوله : {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} وحاصل الأمر في دع اليتيم أمور أحدها : دفعه / عن حقه وماله بالظلم والثاني : ترك المواساة معه ، وإن لم تكن المواساة واجبة. وقد يذم المرء بترك النوافل لاسيما إذا أسند إلى النفاق وعدم الدين والثالث : يزجره ويضربه ويستخف به ، وقرىء يدع أي يتركه ، ولا يدعوه بدعوة ، أي يدعوا جميع الأجانب ويترك اليتيم مع أنه عليه الصلاة والسلام قال : "ما من مائدة أعظم من مائدة عليها يتيم" وقرىء يدعو اليتيم أي يدعوه رياء ثم لا يطعمه وإنما يدعوه استخداماً أو قهراً أو استطالة.
(1/4847)
واعلم أن في قوله : {يَدُعُّ} بالتشديد فائدة ، وهي أن يدع بالتشديد معناه أنه يعتاد ذلك فلا يتناول الوعيد من وجد منه ذلك وندم عليه ، ومثله قوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـا اـاِرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } سمى ذنب المؤمن لمماً لأنه كالطيف والخيال يطرأ ولا يبقى ، لأن المئمن كما يفرغ من الذنب يندم ، إنما المكذب هو الذي يصر على الذنب.
أما قوله : {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ففيه وجهان أحدهما : أنه لا يحض نفسه على طعام المسكين وإضافة الطعام إلى المسكين تدل على أن ذلك الطعام حق المسكين ، فكأنه منه المسكين مما هو حقه ، وذلك يدل على نهاية بخله وقساوة قلبه وخساسة طبعه والثاني : لا يحض غيره على إطعام ذلك المسكين بسبب أنه لا يتقد في ذلك الفعل ثواباً ، والحاصل أنه تعالى جعل علم التكذيب بالقيامة الإقدام على إيذاء الضعيف ومنع المعروف ، يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لما صدر عنه ذلك ، فموضع الذنب هو التكذيب بالقيامة ، وههنا سؤالان :
جزء : 32 رقم الصفحة : 307
السؤال الأول : أليس قد لا يحض المرء في كثير من الأحوال ولا يكون آثماً ؟
الجواب : لأنه غيره ينوب منابه أو لأنه لا يقبل قوله أو لمفسدة أخرى يتوقعها ، أما ههنا فذكر أنه لا يفعل ذلك (إلا) لما أنه مكذب بالدين.
السؤال الثاني : لم لم يقل : ولا يطعم المسكين ؟
والجواب : إذا منع اليتيم حقه فكيف يطعم المسكين من مال نفسه ، بل هو بخيل من مال غيره ، وهذا هو النهاية في الخسة ، فلأن يكون بخيلاً بمال نفسه أولى ، وضده في مدح المؤمنين : {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 307
307
ثم قال تعالى : {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها : أنه لا يفعل إيذاء اليتيم والمنع من الإطعام دليلاً على النفاق فالصلاة لا مع الخضوع والخضوع أولى أن تدل على النفاق ، لأن الإيذاء والمنع من النفع معاملة مع المخلوق ، أما الصلاة فإنها خدمة للخالق ، وثانيها : كأنه لما ذكر إيذاء اليتيم وتركه للحض كأن سائلاً قال : أليس إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ؟
فقال له : الصلاة كيف تنهاه عن هذا الفعل المنكر وهي مصنوعة من عين الرياء / والسهو وثالثها : كأنه يقول : إقدامه على إيذاء اليتيم وتركه للحض ، تقصير فيما يرجع إلى الشفقة على خلق الله ، وسهوه في الصلاة تقصير فيما يرجع إلى التعظيم لأمر الله ، فلما وقع التقصير في الأمرين فقد كملت شقاوته ، فلهذا قال : {فَوَيْلٌ} واعلم أن هذا اللفظ إنما يستعمل عند الجريمة الشديدة كقوله : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} ويروى أن كل أحد ينوح في النار بحسب جريمته ، فقائل يقول : ويلي من حب الشرف ، وآخر يقول : ويلي من الحمية الجاهلية ، وآخر يقول : ويلي من صلاتي ، فلهذا يستحب عند سماع مثل الآية ، أن يقول : المرء ويلي إن لم يغفر لي.
جزء : 32 رقم الصفحة : 307
(1/4848)
المسألة الثانية : الآية دالة على حصول التهديد العظيم بفعل ثلاثة أمور أحدها : السهو عن الصلاة وثانيها : فعل المراءاة وثالثها : منع الماعون ، وكل ذلك من باب الذنوب ، ولا يصير المرء به منافقاً فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على فاعل هذه الأفعال ؟
ولأجل هذا الإشكال ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها : أن قوله : {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} أي فويل للمصلين من المنافقين الذين يأتون بهذه الأفعال ، وعلى هذا التقدير تدل الآية على أن الكافر له مزبد عقوبة بسبب إقدامه على محظورات الشرع وتركه لواجبات الشرع ، وهو يدل على صحة قول الشافعي : إن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع ، وهذا الجواب هو العتمد وثانيها : ما رواه عطاء عن ابن عباس أنه لو قال الله : في صلاتهم ساهون ، لكان هذا الوعيد في المؤمنين لكنه قال : {عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} والساهي عن الصلاة هو الذي لا يتذكرها ويكون فارغاً عنها ، وهذا القول ضعيف لأن السهو عن الصلاة لا يجوز أن يكون مفسراً بترك الصلاة ، لأنه تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله : {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} وأيضاً فالسهو عن الصلاة بمعنى الترك لا يكون نفاقاً ولا كفراً فيعود الإشكال ، ويمكن أن يجاب عن الاعتراض الأول بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مضلين نظراً ءلى الصورة وبأنهم نسوا الصلاة بالكلية نظراً إلى المعنى كما قال : {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآءُونَ} ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة هو أن يبقى ناسياً لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة ، أما المسلم الذي يعتقد فيها فائدة عينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة ، بل قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهياً في بعض أجزاء الصلاة ، فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر وثالثها : أن يكون معنى : {سَاهُونَ} أي لا يتعهدون أوقات صلواتهم ولا شرائطها/ ومعناه أنه لا يبالي سواء صلى أو لم يصل ، وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل.
المسألة الثالثة : اختلفوا في سهو الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاته ، فقال كثير من العلماء : إنه عليه الصلاة والسلام ما سها ، لكن الله تعالى أذن له في ذلك الفعل حتى يفعل ما يفعله / الساهي فيصير ذلك بياناً لذلك الشرع بالفعل والبيان بالفعل أقوى ، ثم بتقدير وقوع السهو منه فالسهو على أقسام أحدها : سهو الرسول والصحابة وذلك منجبر تارة بسجود السهو وتارة بالسنن والنوافل والثاني : ما يكون في الصلاة من الغفلة وعدم استحضار المعارف والنيات والثالث : الترك لا إلى قضاء والإخراج عن الوقت ، ومن ذلك صلاة المنافق وهي شر من ترك الصلاة لأنه يستهزىء بالدين بتلك الصلاة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 307
317
أما قوله تعالى : {الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ} فاعلم أن الفرق بين المنافق والمرائي ؛ أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر ، والمرائي المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين ، أو تقول : المنافق لا يصلي سراً والمرائي تكون صلاته عند الناس أحسن.
اعلم أنه يجب إظهار الفرائض من الصلاة والزكاة لأنها شعائر الإسلام وتاركها مستحق للعن فيجب نفي التهمة بالإظهار. إنما الإخفاء في النوافل إلا إذا أظهر النوافل ليقتدي به ، وعن بعضهم أنه رأى في المسجد رجلاً يسجد للشكر وأطالها ، فقال : ما أحسن هذا لو كان في بيتك لكن مع هذا قالوا : لا يترك النوافل حياء ولا يأتى بها رياء ، وقلما يتيسر اجتناب الرياء ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : "الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود" فإن قيل : ما معنى المراءاة ؟
قلنا هي مفاعلة من الإرادة لأن المرائي يرى الناس عمله ، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به.
واعلم أن قوله : {عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} يفيد أمرين : إخراجها عن الوقت ، وكون الإنسان غافلاً فيها ، قوله : {الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ} يفيد المراءاة ، فظهر أن الصلاة يجب أن تكون خالية عن هذه الأحوال الثلاثة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 317
320
(1/4849)
ثم لما شرح أمر الصلاة أعقبه بذكر الصلاة فقال : {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وفيه أقوال : الأول : وهو قول أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الحنفية وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك : هو الزكاة ، وفي حديث أبي : "من قرأ سورة {أَرَءَيْتَ} غفر الله له إن كان للزكاة مؤدياً" وذلك يوهم أن {الْمَاعُونَ} هو الزكاة ، ولأن الله تعالى ذكره عقيب الصلاة ، فالظاهر أن يكون ذلك هو الزكاة والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين ، أن {الْمَاعُونَ} اسم لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني ، ينسب مانعه إلى سوء الخلق ولؤم الطبيعة كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الملح والماء والنار. فإنه روى : "ثلاثة لا يحل منعها ، الماء والنار والملح" ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك ، أو يضع متاعه عندك يوماً أو نصف يوم ، وأصحاب هذا القول قالوا : الماعون فاعول من المعن. وهو الشيء / القليل ومنه ماله سعته ولا معنة أي كثير و(لا) قليل ، وسميت الزكاة ماعوناً ، لأنه يؤخذ من المال ربع العشر ، فهو قليل من كثير ، ويسمى ما يستعار في العرف كالفأس والشفرة ماعوناً ، وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة ، فإن البخل بها يكون في نهاية الدناءة والركاكة ، والمنافقون كانوا كذلك ، لقوله تعالى : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وقال : {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} قال العلماء : ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران ، فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على الواجب والقول الثالث : قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون هو الماء وأنشدني فيه :
يمج بعيره الماعون مجاً
ولعله خصه بذلك لأن أعز مفقود وأرخص موجود ، وأول شيء يسأله أهل النار الماء ، كما قال : {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ} وأول لذة يجدها أهل الجنة هو الماء ، كما قال : {وَسَقَا هُمْ رَبُّهُمْ} القول الرابع : {الْمَاعُونَ} حسن الانقياد ، يقال : رض بعيرك حتى يعطيك الماعون ، أي حتى يعطيك الطاعة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 320
واعلم أن الأولى أن يحمل على كل طاعة يخف فعلها لأنه أكثر فائدة ، ثم قال المحققون في الملاءمة : بين قوله : {يُرَآءُونَ} وبين قوله : {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} كأنه تعالى يقول الصلاة لي والماعون للخلق ، فما يجب جعله لي يعرضونه على الخلق وما هو حق الخلق يسترونه عنهم فكأنه لا يعامل الخلق والرب إلا على العكس {وَإِذَا قِيلَ} لم لم يذكر الله اسم الكافر بعينه ؟
فإن قلت للستر عليه ، قلت لم لم يستر على آدم بل قال : {وَعَصَى ا ءَادَمُ رَبَّه } ؟
والجواب : أنه تعالى ذكر زلة آدم لكن بعد موته مقروناً بالتوبة ليكون لطفاً لأولاده ، أنه أخرج من الجنة بسبب الصغيرة فكيف يطمعون في الدخول مع الكبيرة ، وأيضاً فإن وصف تلك الزلة رفعة له فإنه رجل لم يصدر عنه إلا تلك الزلة الواحدة ثم تاب عنها مثل هذه التوبة.
ولنختم تفسير هذه السورة بالدعاء : إلهنا ، هذه السورة في ذكر المنافقين والسورة التي بعدها في صفة محمد صلى الله عليه وسلّم فنحن وإن لم نصل في الطاعة إلى محمد عليه الصلاة والسلام وإلى أصحابه ، لم نصل في الأفعال القبيحة إلى هؤلاء المنافقين ، فاعف عنا بفضلك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 320
323
(1/4850)
سورة الكوثر
ثلاث آيات مكية
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
323
{إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} .
اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف : أحداها : أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة ، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المنافق بأمور أربعة : أولها : البخل وهو المراد من قوله : {يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} الثاني : ترك الصلاة وهو المراد من قوله : {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} والثالث : المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله : {الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ} والرابع : المنع من الزكاة وهو المراد من قوله : {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة ، فذكر في مقابلة البخل قوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي إنا أعطيناك الكثير ، فأعط أنت الكثير ولا تبخل ، وذكر في مقابلة : {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قوله : {فَصَلِّ} أي دم على الصلاة ، وذكر في مقابلة : {الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ} قوله : {لِرَبِّكَ} أي ائت بالصلاة لرضا ربك ، لا لمراءاة الناس ، وذكر في مقابلة : {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قوله : {وَانْحَرْ} وأراد به التصدق بلحم الأضاحي ، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة ، ثم ختم السورة بقوله : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، وفي الآخرة الثواب الجزيل.
والوجه الثاني : في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات : أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وثانيها : أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها : أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة ، فقوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إشارة إلى المقام الأول / وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف. أمابالكم فلأنها أكثر مقدمات ، وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالاً من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح ، وأما قوله : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} فهو إشارة إلى المرتبة الثانية ، وقوله : {وَانْحَرْ} إشارة إلى المرتبة الثالثة ، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح ، ثم قال : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة ، أنها دائرة فانية ، وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك ، وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية. ولنشرع الآن في التفسير قوله تعالى : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} اعلم أن فيه فوائد :
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
الفائدة الأولى : أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور ، وكالأصل لما بعدها من السور. أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور ، فلأن الله تعالى جعل سورة : {وَالضُّحَى } في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله ، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها : قوم : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } ، وثانيها : قوله : {وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى } وثالثها : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله : {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاَاوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَآا ِلا فَأَغْنَى } .
ثم ذكر في سورة : {أَلَمْ نَشْرَحْ} أنه شرفه بثلاثة أشياء أولها : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وثانيها : {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} ، وثالثها : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .
ثم إنه تعالى شرفه في سورة : بثلاثة أنواع من التشريف أولها : أنه أقسم ببلده وهو قوله : {سِينِينَ * وَهَاذَا الْبَلَدِ الامِينِ} ، وثانيها : أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } ، وثالثها : وصولهم إلى الثواب وهو قوله : {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
ثم شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع من التشريفات أولها : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اقرأ القرآن على الحق مستعيناً باسم ربك وثانيها : أنه قهر خصمه بقوله : {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ، وثالثها : أنه خصه بالقربة التامة وهو : {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } .
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة أولها : كونها : {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، وثانيها : نزول : {الْمَلَا ا ِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} وثالثها : كونها : {سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
(1/4851)
وشرفه في سورة : {لَمْ يَكُنِ} بأن شرف أمته بثلاثة تشريفات أولها : أنهم : {خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} وثانيها : {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتُ} ، وثالثها : رضا الله عنهم.
وشرفه في سورة إذا زلزلت بثلاث تشريفات : أولها : قوله : {يَوْمَـاـاِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} وذلك يقتضي أن الأرض تشهد يوم القيامة لأمته بالطاعة والعبودية والثاني : قوله : {يَوْمَـاـاِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَـالَهُمْ} وذلك يدل على أنه تعرض عليهم طاعاتهم فيحصل لهم الفرح والسرور ، وثالثها : قوله : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه } ومعرفة الله لا شك أنها أعظم من كل عظيم فلا بد وأن يصلوا إلى ثوابها ثم شرفه في سورة العاديات بأن أقسم بخيل الغزاة من أمته فوصف / تلك الخيل بصفات ثلاث : {وَالْعَـادِيَـاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَـاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} .
ثم شرف أمته في سورة القارعة بأمور ثلاثة أولها : فمن ثقلت موازينه وثانيها : أنهم في عيشة راضية وثالثها : أنهم يرون أعداءهم في نار حامية.
في شرفه في سورة الهاكم بأن بين أن المعرضين عن دينه وشرعه يصيرون معذبين من ثلاثة أوجه أولها : أنهم يرون الجحيم وثانيها : أنهم يرونها عين اليقين وثالثها : أنهم يسألون عن النعيم.
ثم شرف أمته في سورة والعصر بأمور ثلاثة أولها : الإيمان : {إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا } ، وثانيها : وعملوا الصالحات وثالثها : إرشاد الخلق إلى الأعمال الصالحة ، وهو التواصي بالحق ، والتواصي بالصبر.
ثم شرفه في سورة الهمزة بأن ذكر أن من همز ولمز ، فله ثلاثة أنواع من العذاب أولها : أنه لا ينتفع بدنياه البتة ، وهو قوله : {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَه ا أَخْلَدَه * كَلا } وثانيها : أنه ينبذ في الحطمة ، وثالثها : أنه يغلق عليه تلك الأبواب حتى لا يبقى له رجاء في الخروج ، وهو قوله : {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} .
ثم شرف في سورة الفيل بأن رد كيد أعدائه في نحرهم من ثلاثة أوجه أولها : جعل كيدهم في تضليل وثانيها : أرسل عليهم طير أبابيل وثالثها : جعلهم كعصف مأكول.
ثم شرفه في سورة قريش بأنه راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه أولها : جعلهم مؤتلفين متوافقين لإيلاف قريش وثانيها : أطعمهم من جوع وثالثها : أنه آمنهم من خوف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
وشرفه في سورة الماعون ، بأن وصف المكذبين بدينه بثلاثة أنواع من الصفات المذمومة أولها : الدناءة واللؤم ، وهو قوله : {يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وثانيها : ترك تعظيم الخالق ، وهو قوله : {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ} وثالثها : ترك انتفاع الخلق ، وهو قوله : {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .
ثم إنه سبحانه وتعالى لما شرفه في هذه السور من هذه الوجوه العظيمة ، قال بعدها : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} أي إنا أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة المذكورة في السورة المتقدمة التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها ، فاشتغل أنت بعبادة هذا الرب ، وبإرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم ، أما عبادة الرب فإما بالنفس ، وهو قوله : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وإما بالمال ، وهو قوله : {وَانْحَرْ} وأما إرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم في دينهم ودنياهم ، فهو قوله : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فثبت أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور ، وأما أنها كالأصل لما بعدها ، فهو أنه تعالى يأمره بعد هذه السورة بأن يكفر جميع أهل الدنيا بقوله : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ومعلوم أن عسف الناس على مذاهبهم وأديانهم أشد من عسفهم على أرواحهم وأموالهم ، وذلك أنهم يبذلون أموالهم وأرواحهم في نصرة أديانهم ، فلا جرم كان الطعن في مذاهب الناس يثير من العداوة والغضب مالا يثير سائر المطاعن ، فلما أمره بأن يكفر جميع أهل الدنيا ، ويبطل أديانهم لزم أن يصير جميع أهل الدنيا في غاية العداوة له ، وذلك مما يحترف عنه كل أحد من الخلق فلا يكاد يقدم عليه ، وانظر إلى موسى عليه السلام كيف / كان يخاف من فرعون وعسكره. وأما ههنا فإن محمداً عليه السلام لما كان مبعوثاً إلى جميع أهل الدنيا ، كان كل واحد من الخلق ، كفرعون بالنسبة إليه ، فدبر تعالى في إزالة هذا الخوف الشديد تدبيراً لطيفاً ، وهو أنه قدم على تلك السورة ، هذه السورة فإن قوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} يزيل عنه ذلك الخوف من وجوه أحدها : أن قوله :
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
(1/4852)
{إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} أي الخير الكثير في الدنيا والدين ، فيكون ذلك وعداً من الله إياه بالنصرة والحفظ ، وهو كقوله : {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه ا وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } } وقوله : وقوله : {إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} ومن كان الله تعالى ضامناً لحفظه ، فإنه لا يخشى أحداً وثانيها : أنه تعالى لما قال : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة ، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة ، والخلف في كلام الله تعالى محال ، فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات ، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه ، ولا يقهرونه ، ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة وثالثها : أنه عليه السلام لما كفروا وزيف أديانهم ودعاهم إلى الإيمان اجتمعوا عنده ، وقالوا : إن كنت تفعل هذا طلباً للمال فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس ، وإن كان مطلوبك الزوجة نزوجك أكرم نسائنا ، وإن كان مطلوبك الرياسة فنحن نجعلك رئيساً على أنفسنا ، فقال الله تعالى : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} أي لما أعطاك خالق السموات والأرض خيرات الدنيا والآخرة ، فلا تغتر لما لهم ومراعاتهم ورابعها : أن قوله تعالى : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة ، فهذا يقوم مقام قوله : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى/ بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس ، فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس ، فقدم هذه السورة على سورة : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} حتى يمكنه الاشتغال بذلك التكليف الشاق والإقدام على تكفير جميع العالم ، وإظهار البراءة عن معبودهم فلما امتثلت أمري ، فانظر كيف أنجزت لك الوعد ، وأعطيتك كثرة الأتباع والأشياع ، إن أهل الدنيا يدخلون في دين الله أفواجاً ، ثم إنه لما تم أمر الدعوة وإظهار الشريعة ، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن ، وذلك لأن الطالب إما أن يكون طلبه مقصوراً على الدنيا ، أو يكون طالباً للآخرة ، أما طالب الدنيا فليس له إلا الخسار والذل والهوان ، ثم يكون مصيره إلى النار ، وهو المراد من سورة تبت ، وأما طالب الآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات ، وقد ثبت في العلوم العقلية أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين : منهم من عرف الصانع ، ثم توسل بمعرفتع إلى معرفة مخلوقاته ، وهذا هو الطريق الأشرف الأعلى ، ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور.
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
ثم إنه سبحانه ختم كتابه الكريم بتلك الطريق التي هي أشرف الطريقين ، فبدأ بذكر صفات / الله وشرح جلاله ، وهو سورة : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في سورة : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية ، وعند ذلك ختم الكتاب ، وهذه الجملة إنما يتضح تفصيلها عند تفسير هذه السورة على التفصيل ، فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة المودعة في كتابه الكريم.
الفائدة الثانية : في قوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} هي أن كلمة : {إِنَّآ} تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم.
أما الأول : فقد دل على أن الإله واحد ، فلا يمكن حمله على الجمع ، إلا إذا أريد أن هذه العطية مما سعى في تحصيلها الملائكة وجبريل وميكائيل والأنبياء المتقدمون ، حين سأل إبراهيم إرسالك ، فقال : {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} وقال موسى : رب اجعلني من أمة أحمد. وهو المراد من قوله : {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ} وبشر بك المسيح في قوله : {وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه ا أَحْمَدُ } .
وأما الثاني : وهو أن يكون ذلك محمولاً على التعظيم ، ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السموات والأرض والموهوب منه ، هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ} والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر ، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة ، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب ، فيالها من نعمة ما أعظمها ، وما أجلها ، وياله من تشريف ما أعلاه.
(1/4853)
الفائدة الثالثة : أن الهدية وإن كانتقليلة لكنها بسبب كونها واصلة من المهدي العظيم تصير عظيمة ، ولذلك فإن الملك العظيم إذا رمى تفاحة لبعض عبيده على سبيل الإكرام يعد ذلك إكراماً عظيماً ، لا لأن لذة الهدية في نفسها ، بل لأن صدورها من المهدي العظيم يوجب كونها عظيمة ، فههنا الكوثر وإن كان في نفسه في غاية الكثرة ، لكنه بسبب صدوره من ملك الخلائق يزداد عظمة وكمالاً.
الفائدة الرابعة : أنه لما قال : {أَعْطَيْنَـاكَ} قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها ، وذلك لأن من مذهب أبي حنيفة أنه يجوز للأجنبي أن يسترجع موهوبه ، فإن أخذ عوضاً وإن قل لم يجز له ذلك الرجوع ، لأن من وهب شيئاً يساوي ألف دينار إنساناً ، ثم طلب منه مشطاً يساوي فلساً فأعطاه ، سقط حق الرجوع فههنا لما قال : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} طلب منه الصلاة والنحر وفائدته إسقاط حق الرجوع.
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
الفائدة الخامسة : أنه بنى الفعل على المبتدأ ، وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنك لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصبر مشتاقاً إلى معرفة أنه بماذا يخبر عنه ، فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه ، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفى الشبهة / ومن ههنا تعرف الفخامة في قوله : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ} فإنه أكثر فخامة مما لو قال : فإن الأبصار لا تعمى ، ومما يحقق قولنا قول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له : أنا أعطيك ، أنا أكفيك ، أنا أقوم بأمرك. وذلك إذا كان الموعود به أمراً عظيماً.فلما تقع المسامحة به فعظمه يورث الشك في الوفاء به ، فإذا أسند إلى المتكفل العظيم ، فحينئذ يزول ذلك الشك ، وهذه الآية من هذا الباب لأن الكوثر شيء عظيم ، قلما تقع المسامحة به. فلما قدم المبتدأ ، وهو قوله : {إِنَّآ} صار ذلك الإسناد مزيلاً لذلك الشك ودافعاً لتلك الشبهة.
الفائدة السادسة : أنه تعالى صدر الجملة بحرف التأكيد الجاري محرى القسم ، وكلام الصادق مصون عن الخلف ، فكيف إذا بالغ في التأكيد.
الفائدة السابعة : قال : {أَعْطَيْنَـاكَ} ولم يقل : سنعطيك لأن قوله : {أَعْطَيْنَـاكَ} يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلاً في الماضي ، وهذا فيه أنواع من الفوائد إحداها : أن من كان في الزمان الماضي أبداً عزيزاً مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك ، ولهذا قال عليه السلام : "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين" وثانيها : أنها إشارة إلى أن حكم الله بالإسعاد والإشفاء والإغناء والإفقار ، ليس أمراً يحدث الآن ، بل كان حاصلاً في الأزل وثالثها : كأنه يقول : إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية ورابعها : كأنه تعالى يقول : نحن ما اخترناك وما فضلناك ، لأجل طاعتك ، وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة ، بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب ، وهو إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام : "قبل من قبل لا لعلة ، ورد من رد لا لعلة".
الفائدة الثامنة : قال : {أَعْطَيْنَـاكَ} ولم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع ، لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف ، فلما قال : {أَعْطَيْنَـاكَ} علم أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلاً بل هي محض الاختيار والمشيئة ، كما قال : {اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } .
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
الفائدة التاسعة : قال أولاً : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ} ثم قال ثانياً : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وهذا يدل على أن إعطاؤه للتوفيق والإرشاد سابق على طاعاتنا ، وكيف لا يكون كذلك وإعطاؤه إيانا صفته وطاعتنا له صفتنا ، وصفة الخلق لا تكون مؤثرة في صفة الخالق إنما المؤثر هو صفة الخالق في صفة الخلق ، ولهذا نقل عن الواسطي أنه قال : لا أعبد رباً يرضيه طاعتي ويسخطه معصيتي. ومعناه أن رضاه وسخطه قديمان وطاعتي ومعصيتي محدثتان والمحدث لا أثر له في قديم ، بل رضاه عن العبد هو الذي حمله على طاعته فيما لا يزال ، وكذا القول في السخط والمعصية.
(1/4854)
الفائدة العاشرة : قال : {أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} ولم يقل : آتيناك الكوثر ، والسبب فيه أمران / الأول : أن الإيتاء يحتمل أن يكون واجباً وأن يكون تفضلاً ، وأما الإعطاء فإنه بالتفضل أشبه فقوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} يعني هذه الخيرات الكثيرة وهي الإسلام والقرآن والنبوة والذكر الجميل في الدنيا والآخرة ، محض التفضل منا إليك وليس منه شيء على سبيل الاستحقاق والوجوب/ وفيه بشارة من وجهين أحدهما : أن الكريم إذا شرع في التربية على سبيل التفضل ، فالظاهر أنه لا يبطلها ، بل كان كل يوم يزيد فيها الثاني : أن ما يكون سبب الاستحقاق ، فإنه يتقدر بقدر الاستحقاق ، وفعل العبد متناه ، فيكون الاستحقاق الحاصل بسببه متناهياً ، أما التفضل فإنه نتيجة كرم الله غير متناه ، فيكون تفضله أيضاً غير متناه ، فلما دل قوله : {أَعْطَيْنَـاكَ} على أنه تفضل لا استحقاق أشعر ذلك بالدوام والتزايد أبداً. فإن قيل : أليس قال : {سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ} ؟
قلنا : الجواب من وجهين الأول : أن الإعطاء يوجب التمليك ، والملك سبب الاختصاص ، والدليل عليه أنه لما قال سليمان : {وَهَبْ لِى مُلْكًا} فقال : {هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} ولهذا السبب من حمل الكوثر على الحوض قال : الأمة تكون أضيافاً له ، أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك ، فلهذا قال في القرآن : {ءَاتَيْنَـاكَ} فإنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئاً منه الثاني : أن الشركة في القرآن شركة في العلوم ولا عيب فيها ، أما الشركة في النهر ، فهي شركة في الأعيان وهي عيب الوجه الثاني : في بيان أن الإعطاء أليق بهذا المقام من الإيتاء ، هو أن الإعطاء يستعمل في القليل والكثير ، قال الله تعالى :
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
{وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى } أما الإيتا ، فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُادَ مِنَّا فَضْلا } والأتي السيل المنصب ، إذا ثبت هذا فقوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} يفيد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلّم من وجوه أحدها : يعني هذا الحوض كالشيء القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة ، فهو يتضمن البشارة بأشياء هي أعظم من هذا المذكور وثانيها : أن الكوثر إشارة إلى الماء ، كأنه تعالى يقول : الماء في الدنيا دون الطعام ، فإذا كان نعيم الماء كوثراً ، فكيف سائر النعيم وثالثها : أن نعيم الماء إعطاء ونعيم الجنة إيتاء ورابعها : كأنه تعالى يقول : هذا الذي أعطيتك ، وإن كان كوثراً لكنه في حقك إعطاء لا إيتاء لأنه دون حقك ، وفي العادة أن المهدي إذا كان عظيماً فالهدية وإن كانت عظيمة ، إلا أنه يقال : إنها حقيرة أي هي حقيرة بالنسبة إلى عظمة المهدي له فكذا ههنا وخامسها : أن نقول : إنما قال فيما أعطاه من الكوثر أعطيناك لأنه دنيا ، والقرآن إيتاء لأنه دين وسادسها : كأنه يقول : جميع ما نلت مني عطية وإن كانت كوثراً إلا أن الأعظم من ذلك الكوثر أن تبقى مظفراً وخصمك أبتر ، فإنا أعطيناك بالتقدمة هذا الكوثر ، أما الذكر الباقي والظفر على العدو فلا يحسن إعطاؤه إلا بعد التقدمة بطاعة تحصل منك : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي فاعبد لي وسل الظفر بعد العبادة فإني أوجبت على كرمي أن بعد كل فريضة دعوة مستجابة ، كذا روى في الحديث المسند ، فحينئذ أستجيب فيصير / خصمك أبتر وهو الإيتاء ، فهذا ما يخطر بالبال في تفسير قوله تعالى : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ} أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة ، قيل : لأعرابية رجع ابنها من السفر ، بم آب ابنك ؟
قالت : آب بكوثر ، أي بالعدد الكثير ، ويقال للرجل الكثير العطاء : كوثر ، قال الكميت :
وأنت كثير يا ابن مروان طيب
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
(1/4855)
وكان أبوك ابن الفضائل كوثراً ويقال للغبار إذا سطع وكثر كوثر هذا معنى الكوثر في اللغة ، واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول : وهو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة ، روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : "رأيت نهراً في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر/ فقلت : ما هذا ؟
قيل : الكوثر الذي أعطاك الله" وفي رواية أنس : "أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان" ولعله إنما سمي ذلك النهر كوثراً إما إنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيراً أو لأنه انفجر منه أنهار الجنة ، كما روى أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار ، أو لكثر الذين يشربون منها ، أو لكثرة ما فيها من المنافع على ما قال عليه السلام : "إنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير" القول الثاني : أنه حوض والأخبار فيه مشهورة ووجه التوفيق بين هذا القول ، والقول الأول أن يقال : لعل النهر ينصب في الحوض أو لعل الأنهار إنما تسيل من ذلك الحوض فيكون ذلك الحوض كالمنبع والقول الثالث : الكوثر أولاده قالوا : لأن هذه السورة إنما نزلت رداً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ، ثم العالم ممتلىء منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم القول الرابع : الكوثر علماء أمته وهو لعمري الخير الكثير لأنهم كأنبياء بني إسرائيل ، وهم يحبون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وينشرون آثار دينه وأعلام شرعه ، ووجه التشبيه أن الأنبياء كانوا متفقين على أصول معرفة الله مختلفين في الشريعة رحمة على الخلق ليصل كل أحد إلى ما هو صلاحه ، كذا علماء أمته متفقون بأسرهم على أصول شرعه ، لكنهم مختلفون في فروع الشريعة رحمة على الخلق ، ثم الفضيلة من وجهين أحدهما : أنه يروى أنه يجاء يوم القيامة بكل نبي ويتبعه أمته فربما يجيء الرسول ومعه الرجل والرجلان ، ويجاء بكل عالم من علماء أمته ومعه الأولف الكثيرة فيجتمعون عند الرسول فربما يزيد عدد متبعي بعض العلماي على عدد متبعيألف من الأنبياء الوجه الثاني : أنهم كانوا مصيبين لأتباعهم النصوص المأخوذة من الوحي ، وعلماء هذه الأمة يكونون مصيبين مع كد الاستنباط والاجتهاد ، أو على قول البعض : إن كان بعضهم مخطئاً لكن المخطىء يكون أيضاً مأجوراً القول الخامس : الكوثر هو النبوة ، ولا شك أنها الخير الكثير لأنها المنزلة التي هي ثانية الربوبية / ولهذا قال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
(1/4856)
{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وهو شطر الإيمان بل هي كالغصن في معرفة الله تعالى ، لأن معرفة النبوة لا بد وأن يتقدمها معرفة ذات الله وعلمه وقدرته وحكمته ، ثم إذا حصلت معرفة النبوة فحينئذ يستفاد منها معرفة بقية السفات كالسمع والبصر والصفات الخيرية والوجدانية على قول بعضهم ، تم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه المنقبة ، لأنه الذكور قبل سائر الأنبياء والمبعوث بعدهم ، ثم هو مبعوث إلى الثقلين ، وهو الذي يحشر قبل كل الأنبياء ، ولا يجوز ورود الشرع على نسخه وفضائله أكثر من أن تعد وتحصى. ولنذكر ههنا قليلاً منها ، فنقول : إن كتاب آدم عليه السلام كان كلمات على ما قال تعالى : {فَتَلَقَّى ا ءَادَمُ مِن رَّبِّه كَلِمَـاتٍ} وكتاب إبراهيم أيضاً كان كلمات على ما قال : {وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ} وكتاب موسى كان صحفاً ، كما قال : {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } أما كتاب محمد عليه السلام ، فإنه هو الكتاب المهيمن على الكل ، قال : {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه } وأيضاً فإن آدم عليه السلام إنما تحدى بالأسماء المنثورة فقال : {أَنابِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـا ؤُلاءِ} ومحمد عليه الصلاة والسلام إنما تحدى بالمنظوم : {قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ} وأما نوح عليه السلام ، فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء/ وفعل في محمد صلى الله عليه وسلّم ما هو أعظم منه. روى أن النبي عليه الصلاة والسلام : "كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فقال : لئن كنت صادقاً فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق ، فأشار الرسول إليه ، فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه ، وسبح حتى صار بين يدي الرسول عليه السلام وسلم عليه ، وشهد له بالرسالة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم يكفيك هذا ؟
قال : حتى يرجع إلى مكانه ، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام ، فرجع إلى مكانه ، وأكرم إبراهيم فجعل النار عليه برداً وسلاماً ، وفعل في حق محمد أعظم من ذلك. عن محمد بن حاطب قال : "كنت طفلاً فانصب القدر علي من النار ، فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم وقالت : هذا ابن حاطب احترق كما ترى فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه ، وقال : أذهب البأس ، رب الناس ، فصرت صحيحاً لا بأس بي" وأكرم موسى ففلق له البحر في الأرض ، وكرم محمداً ففلق له القمر في السماء ، ثم أنظر إلى فرق ما بين السماء والأرض ، وفجر له الماء من الحجر ، وفجر لمحمد أصابعه عيوناً ، وأكرم موسى بأن ظلل عليه الغمام ، وكذا أكرم محمداً بذلك فكان الغمام يظلله ، وأكرم موسى باليد البيضاء ، وأكرم محمداً بإعظم من ذلك وهو القرآن العظيم ، الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب ، وقلب الله عصا موسى ثعباناً ، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين ، فانصرف مرعوباً ، وسبحت الجبال مع داود وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه ، وكان داود إذا مسك الحديد لان ، وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت ، وأكرم داود بالطير المحشورة ومحمداً بالبراق ، وأكرم عيسى عليه السلام بإحياء الموتى ، وأكرمه بجنس ذلك حين أضافه اليهود بالشاة المسمومة ، فلما وضع اللقمة في فمه أخبرته ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، روى / أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء ، وشكت ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم فمسح عليها رسول الله بغصن فأذهب الله البرص ، وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فردها إلى مكانها ، وكان عيسى يعرف ما يخفيه الناس في بيوتهم ، والرسول عرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل ، فأخبره فأسلم العباس لذلك ، وأما سليمان فإن الله تعالى رد له الشمس مرة ، وفعل ذلك أيضاً للرسول حين نام ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس ، فردها حتى صلى ، وردها مرة أخرى لعلي فصلى العصر في وقته ، وعلم سليمان منطق الطير ، وفعل ذلك في حق محمد ، روى أن طيراً فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال : أيكم فجع هذه بولدها ؟
فقال رجل : أنا ، فقال : أردد إليها ولدها وكلام الذئب معه مشهور ، وأكرم سليمان بمسيرة غدوة شهراً وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة ، وكان حماره يعفور يرسله إلى من يريد فيجيء به ، وقد شكوا إليه من ناقة أنها أغيلت ، وأنهم لا يقدرون عليها فذهب إليها ، فلما رأته خضعت له ، وأرسل معاذاً إلى بعض النواحي ، فلما وصل إلى المفازة ، فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجر(ىء) أن يرجع ، فتقدم وقال : إني رسول رسول الله فتبصبص ، وكما انقاد الجن لسليمان ، فكذلك انقادوا لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وحين جاء الأعرابي بالضب ، وقال لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب ، فتكلم الضب معترفاً برسالته ، وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة وحنت الحنانة لفراقه ، وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار ، قالت : كنت مشتاقة إليه منذ كذا سنين فلم حجبتني عنه وأطعم
(1/4857)
الخلق الكثير ، من الطعام القليل ومعجزاته أكثر من أن تحصى وتعد ، فلهذا قدمه الله على الذين اصطفاهم/ فقال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} فلما كانت رسالته كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثراً ، فقال : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} القول السادس : الكوثر هو القرآن ، وفضائله لا تحصى ، {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ} {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى} القول السابع : الكوثر الإسلام ، وهو لعمري الخير الكثير ، فإن به يحصل خير الدنيا والآخرة. وبفواته يفوت خير الدنيا وخير الآخرة ، وكيف لا والإسلام عبارة عن المعرفة ، أو مالا بد فيه من المعرفة ، قال : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } وإذا كان الإسلام خيراً كثيراً فهو الكوثر ، فإن قيل : لم خصه بالإسلام ، مع أن نعمه عمت الكل ؟
قلنا : لأن الإسلام وصل منه إلى غيره ، فكان عليه السلام كالأصل فيه القول الثامن : الكوثر كثرة الأتباع والأشياع ، ولا شك أن له من الأتباع مالا يحصيهم إلا الله ، وروى أنه عليه الصلاة والسلام ، قال : "أنا دعوة خليل الله إبراهيم ، وأنا بشرى عيسى ، وأنا مقبول الشفاعة يوم القيامة ، فبيناً أكون مع الأنبياء ، إذ تظهر لنا أمة من الناس فنبتدرهم بأبصارنا ما منا من نبي إلا وهو يرجو أن تكون أمته ، فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء ، فأقول : أمتي ورب الكعبة فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يظهر لنا مثلاً ما ظهر أولاً / فنبتدرهم بأبصارنا ما من نبي إلا ويرجو أن تكون أمته فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء فأقول : أمتي ورب الكعبة ، فيدخلون الجنة بغير حساب ، ثم يرفع لنا ثلاثة أمثال ما قد رفع فنبتدرهم ، وذكر كما ذكر في المرة الأولى والثانية ، ثم قال : ثلاث فرق من أمتي الجنة قبل أن يدخلها أحد من الناس" ولقد قال عليه الصلاة والسلام : "تناكحوا تناسلوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ، ولو بالسقط" فإذا كان يباهي بمن لم يبلغ حد التكليف ، فكيف بمثل هذا الجم الغفير ، فلا جرم حسن منه تعالى أن يذكره هذه النعمة الجسيمة فقال : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} القول التاسع : {الْكَوْثَرَ} الفضائل الكثيرة التي فيه ، فإنه باتفاق اومة أفضل من جميع الأنبياء ، قال المفضل بن سلمة : يقال رجل كوثر إذا كان سخياً كثير الخير ، وفي صحاح اللغة :
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
(1/4858)
{الْكَوْثَرَ} السيد الكثير الخير ، فلما رزق الله تعالى أن يذكره تلك النعمة الجسيمة فيقول : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} القول العاشر : الكوثر رفعة الذكر ، وقد مر تفسيره في قوله : {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} القول الحادي عشر : أنه العلم قالوا : وحمل الكوثر على هذا أولى لوجوه أحدها : أن العلم هو الخير الكثير قال : {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُا وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} وأمره بطلب العلم ، فقال : {وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} وسمي الحكمة خيراً كثيراً ، فقال : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } وثانيها : أنا إما أن نحمل الكوثر على نعم الآخرة ، أو على نعم الدنيا ، والأول غير جائز لأنه قال : أعطينا ، ونعم الجنة سيعطيها لا أنه أعطاها ، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا ، وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة داخلة في العلم ، فوجب حمل اللفظ على العلم وثالثها : أنه لما قال : {أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} قال عقيبه : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} والشيء الذي يكون متقدماً على العبادة هو المعرفة ، ولذلك قال في سورة النحل : {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ} وقال في طه : {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى} فقدم في السورتين المعرفة على العبادة/ ولأن فاء الموجب للعبادة ليس إلا العلم ، القول الثاني عشر : أن الكوثر هو الخلق الحسن ، قالوا : الانتفاع بالخلق الحسن عام ينتفع به العالم والجاهل والبهيمة والعاقل ، فأما الانتفاع بالعلم ، فهو مختص بالعقلاء ، فكان نفع الخلق الحسن أعم ، فوجب حمل الكوثر عليه ، ولقد كان عليه السلام كذلك كان للأجانب كالوالد يحل عقدهم ويكفي مهمهم ، وبلغ حسن خلقه إلى أنهم لما كسروا سنه ، قال : "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" القول الثالث عشر : الكوثر هو المقام المحمود الذي هو الشفاعة ، فقال في الدنيا : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } وقال في الآخرة : "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وعن أبي هريرة قال عليه السلام : "إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" القول الرابع عشر : أن المراد من الكوثر هو هذه السورة ، قال : وذلك لأنها مع / قصرها وافية بجميع منافع الدنيا والآخرة ، وذلك لأنها مشتملة على المعجز من وجوه أولها : أنا إذا حملنا الكوثر على كثرة الأتباع ، أو على كثرة الأولاد ، وعدم انقطاع النسل كان هذا إخباراً عن الغيب ، وقد وقع مطابقاً له ، فكان معجزاً وثانيها : أنه قال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
(1/4859)
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدر على النحر ، وقد وقع فيكون هذا أيضاً إخباراً عن الغيب وثالثها : قوله : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} وكان الأمر على ما أخبر فكان معجزاً ورابعها : أنهم عجزوا عن معارضتها مع صغرها ، فثبت أن وجه الإعجاز في كمال القرآن ، إنما تقرر بها لأنهم لما عجزوا عن معارضتها مع صغرها فبأن يعجزوا عن معارضة كل القرآن أولى ، ولما ظهر وجه الإعجاز فيها من هذه الوجوه فقد تقررت النبوة وإذا تقررت النبوة فقد تقرر التوحيد ومعرفة الصانع ، وتقرر الدين والإسلام ، وتقرر أن القرآن كلام الله وإذا تقررت هذه الأشياء تقرر جميع خيرات الدنيا والآخرة فهذه السورة جارية مجرى النكتة المختصرة القوية الوافية بإثبات جميع المقاصد فكانت صغيرة في الصورة كبيرة في المعنى ، ثم لها خاصية ليست لغيرها وهي أنها ثلاث آيات ، وقد بينا أن كل واحدة منها معجز فهي بكل واحدة من آياتها معجز وبمجموعها معجز وهذه الخاصية لا توجد في سائر السور فيحتمل أن يكون المراد من الكوثر هو هذه السورة القول الخامس عشر : أن المراد من الكوثر جميع نعم الله على محمد عليه السلام ، وهو المنقول عن ابن عباس لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة ، فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي فوجب حملها على الكل ، وروى أن سعيد بن جبير ، لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم : إنا ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه ، وقال بعض العلماء ظاهر قوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى من النبوة والقرآن والذكر الحكيم والنصرة على الأعداء ، وأما الحوض وسائر ما أعد له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال : إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع إلا أن الحقيقة ما قدمناه لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال : على الحقيقة إنه أعطاه في حال نزول هذه السورة بمكة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بضيعة له يصح أن يقال : إنه أعطاه تلك الضيعة مع أن الصبي في تلك الحال لا يكون أهلاً للتصرف والله أعلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 323
330
قوله تعالى : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله : {فَصَلِّ} وجوه الأول : أن المراد هو الأمر بالصلاة ، فإن قيل : اللائق عند النعمة الشكر ، فلم قال : فصل ولم يقل : فاشكر ؟
الجواب : من وجوه الأول : / أن الشكر عبارة عن التعظيم وله ثلاثة أركان أحدها : يتعلق بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره والثاني : باللسان وهو أن يمدحه والثالث : بالعمل وهو أن يخدمه ويتواضع له ، والصلاة مشتملة على هذه المعاني ، وعلى ما هو أزيد منها فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة فكان الأمر بالصلاة أحسن وثانيها أنه لو قال فاشكر لكان ذلك يوهم أنه ما كان شاكراً لكنه كان من أول أمره عارفاً بربه مطيعاً له شاكراً لنعمه ، أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي ، قال : {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلا الايمَـانُ} الثالث : أنه في أول ما أمره بالصلاة. قال محمد عليه الصلاة والسلام : كيف أصلي ولست على الوضوء ، فقال الله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} ثم ضرب جبريل بجناحه على الأرض فنبع ماء الكوثر فتوضأ فقيل له عند ذلك : فصل ، فأما إذا حملنا الكوثر على الرسالة ، فكأنه قال : أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات وأشرفها الصلاة فصل لربك القول الثاني : فصل لربك أي فاشكر لربك ، وهو قول مجاهد وعكرمة ، وعلى هذا القول ذكروا في فائدة الفاء في قوله فصل وجوهاً أحدها : التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي وثانيها : أن المراد من فاء التعقيب ههنا الإشارة ، إلى ما قرره بقوله : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ثم إنه خص محمداً صلى الله عليه وسلّم في هذا الباب بمزيد مبالغة ، وهو قوله : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ولأنه قال له : {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي فعليك بأخرى عقيب الأولى فكيف بعد وصول نعمتي إليك ، ألا يجب عليك أن تشرع في الشكر عقيب ذلك القول الثالث : فصل أي فادع الله لأن الصلاة هي الدعاء ، وفائدة الفاء على هذا التقدير كأنه تعالى يقول : قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك : فكيف بعد سؤالك لكن : "سل تعطه واشفع تشفع" وذلك لأنه كان أبداً في هم أمته ، واعلم أن القول الأول أولى لأنه أقرب إلى عرف الشرع.
جزء : 32 رقم الصفحة : 330
المسألة الثانية : في قوله : {لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قولان :
(1/4860)
الأول : وهو قول عامة المفسرين : أن المراد هو نحر البدن والقول الثاني : أن المراد بقوله : {وَانْحَرْ} فعل يتعلق بالصلاة ، إما قبلها أو فيها أو بعدها ، ثم ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : قال الفراء : معناها استقبل القبلة وثانيها : روى الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال : لما نزلت هذه السورة قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل : "ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟
قال ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنه صلاتنا ، وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة" وثالثها : روى عن علي بن أبي طالب أنه فسر هذا النحر بوضع اليدين على النحر في الصلاة ، وقال : رفع اليدين قبل الصلاة عادة المستجير العائذ ، ووضعها على النحر عادة الخاضع الخاشع ورابعها : قال عطاء : معناه اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك وخامسها : روى عن الضحاك ، وسليمان التيمي أنهما قالا : / معناه ارفع يديك عقيب الدعاء إلى نحرك ، قال الواحدي : وأصل هذه الأقوال كلها من النحر الذي هو الصدر يقال لمذبح البعير النحر لأن منحره في صدره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر فمعنى النحر في هذا الموضع هو إصابة النحر كما يقال : رأسه وبطنه إذا أصاب ذلك منه. وأما قول الفراء إنه عبارة عن استقبال القبلة فقال ابن الأعرابي : النحر انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب وهو أن ينصب نحره بإزاء القبلة ، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً ، وقال الفراء : منازلهم تتناحر أن تتقابل وأنشد :
أبا حكم هل أنت عم مجالد
وسيد أهل الأبطح المتناحر والنكتة المعنوية فيه كأنه تعالى يقول الكعبة بيتي وهي قبلة صلاتك وقلبك وقبلة رحمتء ونظر عنايتي فلتكن القبلتان متناحرتين قال : الأكثرون حمله على نحر البدن أولى لوجوه أحدها : هو أن الله تعالى كلما ذكر الصلاة في كتابه ذكر الزكاة بعدها وثانيها : أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فقيل له : فصل وانحر لربك وثالثها : أن هذه الأشياء آداب الصلاة وأبعاضها فكانت داخلة تحت قوله : {الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ} فوجب أن يكون المراد من النحر غيرها لأنه يبعد أن يعطف بعض الشيء على جميعه ورابعها : أن قوله : {فَصَلِّ} إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، وقوله : {وَانْحَرْ} إشارة إلى الشفقة على خلق الله وجملة العبودية لا تخرج عن هذين الأصلين وخامسها : أن استعمال لفظة النحر على نحر البدن أشهر من استعماله في سائر الوجوه المذكورة ، فيجب حمل كلام الله عليه ، وإذا ثبت هذا فنقول استدلت الحنفية على وجوب الأضحية بأن الله تعالى أمره بالنحر ، ولا بد وأن يكون قد فعله ، لأن ترك الواجب عليه غير جائر ، وإذا فعله النبي عليه الصلاة والسلام وجب علينا مثله لقوله : {وَاتَّبِعُوهُ} ولقوله : {فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وأصحابنا قالوا : الأمر بالمتابعة مخصوص بقوله : "ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الضحى والأضحى والوتر".
جزء : 32 رقم الصفحة : 330
المسألة الثالثة : اختلف من فسر قوله : {فَصَلِّ} بالصلاة على وجوه الأول : أنه أراد بالصلاة جنس الصلاة لأنهم كانوا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله فأمره أن لا يصلي ولا ينحر إلا لله تعالى ، واحتج من جوز تأخير بيان المجمل بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى أمر بالصلاة مع أنه ما بين كيفية هذه الصلاة أجاب أبو مسلم ، وقال : أراد به الصلاة المفروضة أعني الخمس وإنما لم يذكر الكيفية ، لأن الكيفية كانت معلومة من قبل القول الثاني : أراد صلاة العيد والأضحية لأنهم كانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فنزلت هذه الآية ، قال المحققون : هذا قول ضعيفلأن عطف الشيء على غيره بالواو لا يوجب الترتيب القول الثالث : عن سعيد بن جبير صل الفجر بالمزدلفة وانحر بمنى ، والأقرب القول الأول لأنه لا يجب إذا قرن ذكر النحر بالصلاة أن تحمل الصلاة على ما بقع يوم النحر.
/ المسألة الرابعة : اللام في قوله : {لِرَبِّكَ} فيها فوائد الفائدة الأولى : هذه اللام للصلاة كالروح للبدن ، فكما أن البدن من الفرق إلى القدم ، إنما يكون حسناً ممدوحاً إذا كان فيه روح أما إذا كان ميتاً فيكون مرمياً ، كذا الصلاة والركوع والسجود ، وإن حسنت في الصورة وطالت ، لو لم يكن فيها لام لربك كانت ميتة مرمية ، والمراد من قوله تعالى لموسى : {اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ} وقيل : إنه كانت صلاتهم ونحرهم للصنم فقيل له : لتكن صلاتك ونحرك لله.
الفائدة الثانية : كأنه تعالى يقول : ذكر في السورة المتقدمة أنهم كانوا يصلون للمراءآة فصل أنت لا للرياء لكن على سبيل الإخلاص.
(1/4861)
المسألة الخامسة : الفاء في قوله : {فَصَلِّ} تفيد سببية أمرين أحدهما : سببية العبادة كأنه قيل : تكثير الإنعام عليك يوجب عليك الاشتغال بالعبودية والثاني : سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له : إنك أبتر فقيل له : كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة ، فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم.
واعلم أنه لما كانت النعم الكثيرة محبوبة ولازم المحبوب محبوب/ والفاء في قوله : {فَصَلِّ} اقتضت كون الصلاة من لوازم تلك النعم ، لا جرم صارت الصلاة أحب الأشياء للنبي عليه الصلاة والسلام فقال : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" ولقد صلى حتى تورمت قدماه ، فقيل له : أوليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟
فقال : "أفلا أكون عبداً شكوراً" فقوله : "أفلا أكون عبداً شكوراً" إشارة إلى أنه يجب على الاشتغال بالطاعة بمقتضى الفاء في قوله : {فَصَلِّ} .
جزء : 32 رقم الصفحة : 330
المسألة السادسة : كان الأليق في الظاهر أن يقول : إن أعطيناك الكوثر ، فصل لنا وانحر. لكنه ترك ذلك إلى قوله : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} لفوائد إحداها : أن وروده على طريق الالتفات من أمهات أبواب الفصاحة وثانيها : أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة ، ومنه قول الخلفاء لمن يخاطبونهم : يأمرك أمير المؤمنين ، وينهاك أمير المؤمنين وثالثها : أن قوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ} ليس في صريح لفظه أن هذا القائل هو الله أو غيره ، وأيضاً كلمة إنا تحتمل الجمع كما تحتمل الواحد المعظم نفسه ، فلو قال : صل لنا ، لنفي ذلك الاحتمال وهو أنه ما كان يعرف أن هذه الصلاة لله وحده أم له ولغيره على سبيل التشريك ، فلهذا ترك اللفظ ، وقال : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ليكون ذلك إزالة لذلك الاحتمال وتصريحاً بالتوحيد في الطاعة والعمل لله تعالى.
المسألة السابعة : قوله : {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} أبلغ من قوله : فصل لله لأن لفظ الرب يفيد التربية المتقدمة المشار إليها بقوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} ويفيد الوعد الجميل في المستقبل أنه يربيه ولا يتركه.
المسألة الثامنة : في الآية سؤالان : أحدهما : أن المذكور عقب الصلاة هو الزكاة ، فلم كان المذكور ههنا هو النحر ؟
والثاني : لما لم يقل : ضحي حتى يشمل جميع أنواع / الضحايا ؟
والجواب : عن الأول ، أما على قول من قال : المراد من الصلاة صلاة العيد ، فالأمر ظاهر فيه ، وأما على قول من حمله على مطلق الصلاة ، فلوجوه أحدها : أن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان ، فقيل له : اجعلهما لله وثانيها : أن من الناس من قال : إنه عليه السلام ما كان يدخل في ملكه شيء من الدنيا ، بل كان يملك بقدر الحاجة ، فلا جرم لم تجب الزكاة عليه ، أما النحر فقد كان واجباً عليه لقوله : "ثلاث كتبت علي ولم تكتب على أمتي ؛ الضحى والأضحى والوتر" وثالثها : أن أعز الأموال عند العرب ، هو الإبل فأمره بنحرها وصرفها إلى طاعة الله تعالى تنبيهاً على قطع العلائق النفسانية عن لذات الدنيا وطيباتها ، روى أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب فنحر هو عليه السلام حتى أعيا ، ثم أمر علياً عليه السلام بذلك ، وكانت النوق يزدحمن على رسول الله ، فلما أخذ على السكين تباعدت منه والجواب عن الثاني : أن الصلاة أعظم العبادات البدنية فقرن بها أعظم أنواع الضحايا ، وأيضاً فيه إشارة إلى أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الإبل.
جزء : 32 رقم الصفحة : 330
المسألة التاسعة : دلت الآية على وجوب تقديم الصلاة على النحر ، لا لأن الواو توجب الترتيب ، بل لقوله عليه السلام : "ابدؤا بمابدأ الله به".
المسألة العاشرة : السورة مكية في أصح الأقوال ، وكان الأمر بالنحر جارياً مجرى البشارة بحصول الدولة ، وزوال الفقر والخوف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 330
332
قوله تعالى : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} وفي الآية مسائل :
(1/4862)
المسألة الأولى : ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها : أنه عليه السلام كان يخرج من المسجد ، والعاص بن وائل السهمي يدخل فالتقيا فتحدثا ، وصناديد قريش في المسجد ، فلما دخل قالوا من الذي كنت تتحدث معه ؟
فقال : ذلك الأبتر ، وأقول : إن ذلك من إسرار بعضهم مع بعض ، مع أن الله تعالى أظهره ، فحينئذ يكون ذلك معجزاً ، وروى أيضاً أن العاص بن واثل كان يقول : إن محمداً أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده ، فإذا مات انقطع ذكره واسترحم منه ، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة ، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير القول الثاني : روى ن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشراف مكة أتاه جمامة قريش فقالوا : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة ، فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ؟
فقال : بل أنتم خير منه فنزل : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} ونزل أيضاً : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّـاغُوتِ} ، والقول الثالث : قال عكرمة وشهر بن حوشب : لما أوحى الله إلى رسوله ودعا قريشاً إلى الإسلام ، قالوا : بتر محمد أي خالفنا وانقطع / عنا ، فأخبر تعالى أنهم هم المبتورون القول الرابع : نزلت في أبي جهل فإنه لما مات ابن رسول الله قال أبو جهل : إن أبغضه لأنه أبتر ، وهذا منه حماقة حيث أبغضه بأمر لم يكن باختياره فإن موت الابن لم يكن مراده القول الخامس : نزلت في عمه أبي لهب فإنه لما شافهه بقوله : تباً لك كان يقول في غيبته : إنه أبتر والقول السادس : أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط ، وإنه هو الذي كان يقول ذلك ، واعلمأنه لا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك ، ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه.
المسألة الثانية : الشنآن هو البغض. والشانىء هو المبغض ، وأما البتر فهو في اللغة استئصال القطع يقال : بترته أبتره بتراً وبتر أي صار أبتر وهو مقطع الذنب ، ويقال : الذي لا عقب له أبتر ، ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له ، وكذلك لمن انقطع عنه الخير.
جزء : 32 رقم الصفحة : 332
ثم إن الكفار لما وصفوه بذلك بين تعالى أن الموصوف بهذه الصفة هو ذلك البمغض على سبيل الحضر فيه ، فإنك إذا قلت : زيدهو العالم يفيد أنه لا عالم غيره ، إذا عرفت هذا فقول الكفار فيه عليه الصلاة والسلام : إنه أبتر لا شك أنهم لعنهم الله أرادوا به أنه انقطع الخير عنه.
ثم ذلك إما أن يحمل على خير معين ، أو على جميع الخيرات أما الأول : فيحتمل وجوهاً أحدها : قال السدي : كانت قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده بتر ، فلما مات ابنه القاسم وعبد الله بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا : بتر فليس له من يقوم مقامه ، ثم إنه تعالى بين أن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة ، فإنا نرى أن نسل أولئك الكفرة قد انقطع ، ونسله عليه الصلاة والسلام كل يوم يزداد وينمو وهكذا يكون إلى قيام القيامة وثانيها : قال الحسن : عنوا بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه ، والله تعالى بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك ، فإنهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين ، وصارت رايات الإسلام عالية ، وأهل الشرق والغرب لعا متواضعة وثالثها : زعموا أنه أبتر لأنه ليس له ناصر ومعين ، وقد كذبوا لأن الله تعالى هو مولاه ، وجبريل وصالح المؤمنين ، وأما الكفرة فلم يبق لهم ناصر ولا حبيب ورابعها : الأبتر هو الحقير الذليل/ روى أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ، ثم إنه وصف رسول الله بهذا الوصف ، ثم قال : قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلاً حقيراً ، فلما وصلوا إلى دار خديجة وتوافقوا على ذلك أخرجت خديجة بساطاً ، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه ، وبقي النبي عليه الصلاة والسلام واقفاً كالجبل ، ثم بعد ذلك رماه النبي صلى الله عليه وسلّم على أقبح وجه ، فلما رجع أخذه باليد اليسرى ، لأن اليسرى للاستنجاء ، فكان نجساً فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره ، فذكر بعض القصاص أن المراد من قوله : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} هذه الواقعة وخامسها : أن الكفرة لما وصفوه بهذا الوصف ، قيل : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} أي الذي قالوه فيك كلام فاسد يضمحل ويفنى ، وأما المدح الذي ذكرناه فيك ، فإنه باق على وجه الدهر وسادسها : أن رجلاً قام إلى الحسن بن علي عليهما السلام ، وقال : سودت وجوه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية ، فقال : لا تؤذيني يرحمك الله ، فإن رسول الله رأى بني أمية في المنام يصعدون منبره رجلاً فرجلاً فساءه ذلك ، فأنزل الله تعالى : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} {إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فكان ملك بني أمية كذلك ، ثم انقطعوا وصاروا مبتورين.
جزء : 32 رقم الصفحة : 332
(1/4863)
المسألة الثالثة : الكفار لما شتموه ، فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة ، فقال : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} وهكذا سنة الأحباب ، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه ، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم ، وذكر مثل ذلك في مواضع حين قالوا : {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِه جِنَّة } فقال سبحانه : {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} وحين قالوا : هو مجنون أقسم ثلاثاً ، ثم قال : {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ولما قالوا : {لَسْتَ مُرْسَلا } أجاب فقال : {يس * وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وحين قالوا : {لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون } رد عليهم وقال : {بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} فصدقه ، ثم ذكر وعيد خصمائه ، وقال : {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ} وحين قال حاكياً : {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} قال : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ولما حكى عنهم قوله : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَه } سماهم كاذبين بقوله : {فَقَدْ جَآءُو ظُلْمًا وَزُورًا} ولما قالوا : {مَالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِ } أجابهم فقال : {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاسْوَاقِ } فما أجل هذه الكرامة.
المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى لما بشره بالنعم العظيمة ، وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهوراً ، لا جرم وعده بقهر العدو ، فقال : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} وفيه لطائف إحداها : كأنه تعالى يقول : لا أفعله لكي يرى بعض أسباب دولتك ، وبعض أسباب محنة نفسه فيقتله الغيظ وثانيها : وصفه بكونه شانئاً ، كأنه تعالى يقول : هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك ، والمبغض إذا عجز عن الإيذاء ، فحينئذ يحترق قلبه غيظاً وحسداً ، فتصير تلك العداوة من أعظم أسباب حصول المحنة لذلك العدو وثالثها : أن هذا الترتيب يدل على أنه إنما صار أبتر/ لأنه كان شانئاً له ومبغضاً ، والأمر بالحقيقة كذلك ، فإن من عادى محسوداً فقد عادى الله تعالى ، لاسيما من تكفل بإعلان شأنه وتعظيم مرتبته ورابعها : أن العدو وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بالقلة والذلة ، ونفسه بالكثرة والدولة ، فقلب الله الأمر عليه ، وقال العزيز من أعزه الله ، والذليل من أذله الله ، فالكثرة والكوثر لمحمد عليه السلام ، والأبترية والدناءة والذلة للعدو ، فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 332
المسألة الخامسة : اعلم أن من تأمل في مطالع هذه السورة ومقاطعها عرف أن الفوائد التي / ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر. روى عن مسيلمة أنه عارضها فقال : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر ، إن مبغضك رجل كافر ، ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب لوجوه أحدها : أن الألفاظ والترتيب مأخوذان من هذه السورة ، وهذا لا يكون معارضة وثانيها : أنا ذكرنا أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها ، وكالأصل لما بعدها ، فذكر هذه الكلمات وحدها يكون إهمالاً لأكثر لطائف هذه السورة وثالثها : التفاوت العظيم الذي يقر به من له ذوق سليم بين قوله : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} وبين قوله : إن مبغضك رجل كافر ، ومن لطائف هذه السورة أن كل أحد من الكفار وصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم بوصف آخر ، فوصفه بأنه لا ولد له ، وآخر بأنه لا معين له ولا ناصر له ، وآخر بأنه لا يبقى منه ذكر ، فالله سبحانه مدحه مدحاً أدخل فيه كل الفضائل ، وهو قوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ} لأنه لما لم يقيد ذلك الكوثر بشيء دون شيء ، لا جرم تناول جميع خيرات الدنيا والآخرة ، ثم أمره حال حياته بمجموع الطاعات ، لأن الطاعات إما أن تكون طاعة البدن أو طاعة القلب ، أما طاعة البدن فأفضله شيئان ، لأن طاعة البدن هي الصلاة ، وطاعة المال هي الزكاة ، وأما طاعة القلب فهو أن لا يأتي بشيء إلا لأجل الله ، واللام في قوله : {اقْنُتِى لِرَبِّكِ} يدل على هذه الحالة ، ثم كأنه نبه على أن طاعة القلب لا تحصل إلا بعد حصول طاعة البدن ، فقدم طاعة البدن في الذكر ، وهو قوله : {فَصَلِّ} وأخر اللام الدالة على طاعة القلب تنبيهاً على فساد مذهب أهل الإباحة في أن العبد قد يستغني بطاعة قلبه عن طاعة جوارحه ، فهذه اللام تدل على بطلان مذهب الإباحة ، وعلى أنه لا بد من الإخلاص ، ثم نبه بلفظ الرب على علو حاله في المعاد ، كأنه يقول : كنت ربيتك قبل وجودك ، أفأترك تربيتك بعد مواظبتك على هذه الطاعات ، ثم كما تكفل أولاً بإفاضة النعم عليه تكفل في آخر السورة بالذب عنه وإبطال قول أعدائه ، وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول بإفاضة النعم ، والآخر بتكميل النعم في الدنيا والآخرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 332
334
(1/4864)
سورة الكافرون
ست آيات مكية
اعلم أن هذه السورة تسمى سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة ، وروى أن من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن ، والوجه فيه أن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات ، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب فتكون ربعاً للقرآن والله أعلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
334
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
اعلم أن قوله تعالى : {السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِا كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُه ا وَعْدًا عَلَيْنَآا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنا بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ثم كان مأموراً بأن يدعو إلى الله بالوجه الأحسن : {الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} ولما كان الأمر كذلك ، ثم إنه خاطبهم بيا أيها الكافرون فكانوا يقولون : كيف يليق هذا التعليظ بذلك الرفق فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي فكان المراد من قوله : قل تقرير هذا المعنى وثانيها : أنه لما قيل له : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ} وهو كان يحب أقرباءه لقوله : {قُل لا أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } فكانت القرابة ووحدة النسب كالمانع من إظهار الخشونة فأمر بالتصريح بتلك الخشونة والتغليظ فقيل له : {قُلْ} ، وثالثها : أنه لما قيل له : {يَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَا وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه } فأمر بتبليغ كل من أنزل عليه فلما قال الله تعالى له : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} نقل هو عليه السلام هذا الكلام بجملته كأنه قال : إنه تعالى أمرني بتبليغ كل ما أنزل علي والذي أنزل علي هو مجموع قوله : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فأنا أيضاً أبلغه إلى الخلق هكذا ورابعها : أن الكفار كانوا مقرين بوجود الصانع ، وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم ، على ما قال تعالى : {وَلَا ِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } والعبد يتحمل من مولاه مالا يتحمله من غيره ، فلو أنه عليه السلام قال ابتداء : {فَ أولئك هُمُ الْكَافِرُونَ}
(1/4865)
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
لجوزوا أن يكون هذا كلام محمد ، فلعلهم ما كانوا يتحملونه منه وكانوا يؤذونه. أما لما سمعوا قوله : {قُلْ} علموا أنه ينقل هذا التغليظ عن خالق السموات والأرض ، فكانوا يتحملونه ولا يعظم تأذيهم به وخامسها : أن قوله : {قُلْ} يوجب كونه رسولاً من عند الله ، فكلما قيل له : {قُلْ} كان ذلك كالمنشور الجديد في ثبوت رسالته ، وذلك يقتضي المبالغة في تعظيم الرسول ، فإن الملك إذا فوض مملكته إلى بعض عبيده ، فإذا كان يكتب له كل شهر وسنة منشوراً جديداً دل ذلك على غاية اعتنائه بشأنه ، وأنه على عزم أن يزيده كل يوم تعظيماً وتشريفاً وسادسها : أن الكفار لما قالوا : نعبد إلهك سنة ، وتبعد آلتنا سنة ، فكأنه عليه السلام قال : استأمرت إليه فبه. فقال : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وسابعها : الكفار قالوا فيه : السوء ، فهو تعالى زجرهم عن ذلك ، وأجابهم وقال : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} وكأنه تعالى قال : حين ذكروك بسوء ، فأنا كنت المجيب بنفسي ، فحين ذكروني بالسوء وأثبتوا لي الشركاء ، فكن أنت المجيب : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا} وثامنها : أنهم سموك أبتر ، فإن شئت أن تستوفي منهم القصاص ، فاذكرهم بوصف ذم بحيث تكون صادقاً فيه : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} لكن الفرق أنهم عابوك بما ليس من فعلك وأنت تعيبهم بما هو فعلهم وتاسعها : أن بتقدير أن تقول : يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونه ، والكفار يقولون : هذا كلام ربك أم كلامك ، فإن كان كلام ربك فربك يقول : أنا لا أعبد هذه الأصنام ، ونحن لا نطلب هذه العبادة من ربك إنما نطلبها منك ، وإن كان هذا كلامك فأنت قلت من عند نفسك إني لا أعبد هذه الأصنام ، فلم قلت : إن ربك هو الذي أمرك بذلك ، أما لما قال : قل ، سقط هذا الاعتراض لأن قوله : {قُلْ} يدل على أنه مأمور من عند الله تعالى بأن لا يعبدها ويتبرأ منها وعاشرها : أنه لو أنزل قوله : {فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} لكان يقرؤها عليهم لا محالة ، لأنه لا يجوز أن يخون في الوحي إلا أنه لما قال : {قُلْ} كان ذلك كالتأكيد في إيجاب تبليغ هذا الوحي إليهم ، والتأكيد يدل على أن ذلك الأمر أمر عظيم. فبهذا الطريق تدل هذه الكلمة على أن الذي قالوه وطلبوه من الرسول أمر منكر في غاية القبح ونهاية الفحش الحادي عشر : كأنه تعالى يقول كانت التقية جائزة عند الخوف ، أما الآن لما قوينا قلبك بقولنا :
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
{إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} وبقولنا : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الثاني عشر : أن خطاب الله تعالى مع العبد من غير واسطة يوجب التعظيم ألا ترى أنه تعالى ذكر من أقسام إهانة الكفار ، إنه تعالى لا يكلمهم ، فلو قال : {فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} لكان ذلك من حيث أنه خطاب مشافهة يوجب التعظيم ، ومن حيث أنه وصف لهم بالكفر يوجب الإيذاء فينجبر الإيذاء بالإكرام ، أما لما قال : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} فحينئذ يرجع تشريف / المخاطبة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، وترجع الإهانة الحاصلة لهم بسبب وصفهم بالكفر إلى الكفار ، فيحصل فيه تعظيم الأولياء ، وإهانة الأعداء ، وذلك هو النهاية في الحسن الثالث عشر : أن محمداً عليه السلام كان منهم ، وكان في غاية الشفقة عليهم والرأفة بهم ، وكانوا يعلمون منه أنه شديد الاحتراز عن الكذب ، والأب الذي يكون في غاية الشفقة بولده ، ويكون في نهاية الصدق والبعد عن الكذب ثم إنه يصف ولده بعيب عظيم فالولد إن كان عاقلاً يعلم أنه ما وصفه بذلك مع غاية شفقته عليه إلا لصدقه في ذلك ولأنه بلغ مبلغاً لا يقدر على إخفائه ، فقال تعالى : {قُلْ} يا محمد لهم : { يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} ليعلموا أنك لما وصفتهم بذلك مع غاية شفقتك عليهم وغاية احترازك عن الكذب فهو موصوفون بهذه الصفة القبيحة ، فربما يصير ذلك داعياً لهم إلى البراءة من هذه الصفة والاحتراز عنها الرابع عشر : أن الإيذاء والايحاش من ذوي القربى أشد وأصعب من الغير فأنت من قبيلتهم ، ونشأت فيما بين أظهرهم فقل لهم : {فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} فلعله يصعب ذلك الكلام عليهم ، فيصير ذلك داعياً لهم إلى البحث والنظر والبراءة عن الكفر الخامس عشر : كأنه تعالى يقول : ألسنا بينا في سورة : {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وفي سورة الكوثر : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} وأتيت بالإيمان والأعمال الصالحات ، بمقتضى قولنا :
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
(1/4866)
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} بقي عليك التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وذلك هو أن تمنعهم بلسانك وبرهانك عن عبادة غير الله ، فقل : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السادس عشر : كأنه تعالى يقول : يا محمد أنسيت أنني لما أخرت الوحي عليك مدة قليلة ، قال الكافرون : إنه ودعه ربه وقلاه ، فشق عليك ذلك غاية المشقة/ حتى أنزلت عليك السورة ، وأقسمت بالضحى : {وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى } أنه : {وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } فلما لم تستجز أن أتركك شهراً ولم يطب قلبك حتى ناديت في العالم بأنه : {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } أفتستجيز أن تتركني شهراً وتشتغل بعبادة آلهتهم فلما ناديت بنفي تلك التهمة ، فناد أنت أيضاً في العالم بنفي هذه التهمة و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا} ، السابع عشر : لما سألوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة ، فهو عليه السلام سكت ولم يقل شيئاً ، لا لأنه جوز في قلبه أن يكون الذي قالوه حقاً ، فإنه كان قاطعاً بفساد ما قالوه لكنه عليه السلام ، توقف في أنه بماذا يجيبهم ؟
أبأن يقيم الدلائل العقلية على امتناع ذلك أو بأن يزجرهم بالسيف أو بأن ينزل الله عليهم عذاباً ، فاغتنم الكفار ذلك السكوت وقالوا : إن محمداً مال إلى ديننا ، فكأنه تعالى قال : يا محمد إن توقفك عن الجواب في نفس الأمر حق ولكنه أوهم باطلاً ، فتدارك إزالة ذلك الباطل ، وصرح بما هو الحق و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الثامن عشر : أنه عليه السلام لما قال له ربه ليلة المعراج : أثن علي استولى عليه هيبة الحضرة الإلهية فقال : لا أحصي ثناء عليك ، فوقع ذلك السكوت منه في غاية الحسن فكأنه / قيل له : إن سكت عن الثناء رعاية لهيبة الحضرة فأطلق لسانك في مذمة الأعداء و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} حتى يكون سكوتك الله وكلامك الله ، وفيه تقرير آخر وهو أن هيبة الحضرة سلبت عنك قدرة القول فقل : ههنا حتى إن هيبة قولك تسلب قدرة القول عن هؤلاء الكفار التاسع عشر : لو قال له : لا تعبد ما يعبدون لم يلزم منه أن يقول بلسانه : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أما لما أمره بأن يقول بلسانه :
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يلزمه أن لا يعبد ما يعبدون إذ لو فعل ذلك لصار كلامه كذباً ، فثبت أنه لما قال له قل : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فلزمه أن يكون منكراً لذلك بقلبه ولسانه وجوارحه. ولو قال له : لا تعبد ما يعبدون لزمه تركه ، أما لا يلزمه إظهار إنكاره باللسان ، ومن المعلوم أن غاية الإنكار إنما تحصل إذا تركه في نفسه وأنكره بلسانه فقوله له : {قُلْ} يقتضي المبالغة في الأنكار ، فلهذا قال : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، العشرون : ذكر التوحيد ونفي الأنداد جنة للعارفين ونار للمشركين فاجعل لفظك جنة للموحدين وناراً للمشركين و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الحادي والعشرون : أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة ، وتعبد آلهتنا سنة سكت محمد فقال : إن شافهتهم بالرد تأذوا ، وحصلت النفرة عن الإسلام في قلوبهم ، فكأنه تعالى قال له : يا محمد لم سكت عن الرد ، أما الطمع فيما يعدونك من قبول دينك ، فلا حاجة بك في هذا المعنى إليهم : {إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} وأما الخوف منهم فقد أزلنا عنك ، الخوف بقولنا : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ} فلا تلتفت إليهم ، ولا تبال بكلامهم ، {} الثاني والعشرون : أنسيت يا محمد أني قدمت حقك على حق نفسي ، فقلت : {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ} فقدمت أهل الكتاب في الكفر على المشركين لأن طعن المشركين في ، فقدمت حقك على حق نفسي وقدمت أهل الكتاب في الذم على المشركين ، وأنت أيضاً هكذا كنت تفعل فإنهم لما كسروا سنك قلت : "اللهم أهد قومي" ولما شغلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت : "اللهم املأ بطونهم ناراً" فههنا أيضاً قدم حقي على حق نفسك وسواء كنت خائفاً منهم ، أو لست خائفاً منهم فأظهر إنكار قولهم : {} الثالث والعشرون : كأنه تعالى يقول : قصة امرأة زيد واقعة حقيرة بالنسبة إلى هذه الواقعة ، ثم إنني هناك ما رضيت منك أن تضمر في قلبك شيئاً ولا تظهره بلسانك ، بل قلت لك على سبيل العتاب : {وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه }
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
(1/4867)
فإذا كنت لم أرض منك في تلك الواقعة الحقيرة إلا بالإظهار ، وترك المبالاة بأقوال الناس فكيف أرضى منك في هذه المسألة ، وهي أعظم المسائل خطراً بالسكوت ، قل بصريح لسانك : {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} الرابع والعشرون : يا محمد ألست قلت لك : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} ثم إني مع هذه القدرة راعيت جانبك وطيبت قلبك وناديت في العالمين بأني لا أجعل الرسالة مشتركة بينه وبين غيره ، بل الرسالة له لا لغيره حيث قلت : {وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ } / فأنت مع علمك بأنه يستحيل عقلاً أن يشاركني غيري في المعبودية أولى أن تنادي في العالمين بنفي هذه الشركة. فقل : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الخامس والعشرون : كأنه تعالى يقول : القوم جاؤك وأطمعوك في متابعتهم لك ومتابعتك لدينهم فسكت عن الأنكار والرد ، ألست أنا جعلت البيعة معك بيعة معي حيث قلت : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وجعلت متابعتك متابعة لي حيث قلت : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ثم إني ناديت في العالمين وقلت : {أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَا وَرَسُولُه } فصرح أنت أيضاً بذلك ، و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، السادس والعشرون : كأنه تعالى يقول : ألست أرأف بك من الولد بولده ، ثم العرى والجوع مع الوالد أحسن من الشبع مع الأجانب ، كيف والجوع لهم لأن أصنامهم جائعة عن الحياة عارية عن الصفات وهم جائعون عن العلم عارون عن التقوى ، فقد جربتني ، ألم أجدك يتيماً وضالاً وعائلاً ، ألم نشرح لك صدرك ، ألم أعطك بالصديق خزينة وبالفاروق هيبة وبعثمان معونة ، وبعلي علماً ، ألم أكف أصحاب الفيل حين حاولوا تخريب بلدتك ، ألم أكف أسلافك رحلة الشتاء والصيف ، ألم أعطك الكوقر ، ألم أضمن أن خصمك أبتر ، ألم يقل جدك في هذه الأصنام بعد تخريبها : {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} فصرح بالبراءة عنها و:
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
{قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السابع والعشرون : كأنه تعالى يقول : يا محمد ألست قد أنزلت عليك : {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } ثم إن واحداً لو نسبك إلى والدين لغضبت ولأظهرت الإنكار ولبالغت فيه ، حتى قلن : "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" فإذا لم تسكت عند التشريك في الولادة ، فكيف سكت عند التشريك في العبادة بل أظهر الإنكار ، وبالغ في التصريح به ، و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، الثامن والعشرون : كأنه تعالى يقول يا محمد ألست قد أنزلت عليك : {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فحكمت بأن من سوى بين الإله الخالق وبين الوثن الجماد في المعبودية لا يكون عاقلاً بل يكون مجنوناً/ ثم إني أقسمت وقلت : {ا وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} والكفار يقولون : إنك مجنون ، فصرح برد مقالتهم فإنها تفيد براءتي عن عيب الشرك ، وبراءتك عن عيب الجنون و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، التاسع والعشرون : أن هؤلاء الكفار سموا الأوثان آلهة ، والمشاركة في الاسم لا توجب المشاركة في المعنى ، ألا ترى أن الرجل والمرأة يشتركان في الإنسانية حقيقة ، ثم القيمية كلها حظ الزوج لأنه أعلم وأقدر ، ثم من كان أعلم وأقدر كان له كل الحق في القيمية ، فمن لا قدرة له ولا علم البتة كيف يكون له حق في القيومية ، بل ههنا شيء آخر : وهو أن امرأة لو ادعاها رجلان فاصطلحا عليها لا يجوز ، ولو أقام كل واحد منها بينة على أنها زوجته لم يقض لواحد منهما ، والجارية بين إثنين لا تحل لواحد منهما ، فإذا لم يحز حصول زوجة لزوجين ، ولا أمة بين موليين في حل الوطء / فكيف يعقل عابد واحد بين معبودين بل من جوز أن يصطلح الزوجان على أن تحل الزوجة لأحدهما شهراً ، ثم الثاني شهراً آخر كان كافراً ، فمن جوز الصلح بين الإله والصنم ألا يكون كافراً فكأنه تعالى يقول لرسوله : إن هذه المقالة في غاية القبح فصرح بالإنكار وقل : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الثلاثون : كأنه تعالى يقول أنسيت أني لما خيرت نساءك حين أنزلت عليك :
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
(1/4868)
{قُل لازْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى قوله : {أَجْرًا عَظِيمًا} ثم خشيت من عائشة أن تختار الدنيا ، فقلت لها : لا تقولي شيئاً حتى تستأمري أبويك ، فقالت : أفي هذا استأمر أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة فناقصة العقل ما توقفت فيما يخالف رضاي أتتوقف فيما يخالف رضاي وأمري مع أني جبار السموات والأرض : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الحادي والثلاثون : كأنه تعالى يقول : يا محمد ألست أنت الذي قلت : من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم ، وحتى أن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه : لا تخاف السلطان قال : ولم ؟
قال : لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين ، وإما أن يعتقدوا أن السلطان متدين ، لأنه يخالطه العالم الزاهد ، أو يعتقدوا أنك فاسق مثله ، وكلاهما خطأ ، فإذا ثبت أنه يجب البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك ، لاسيما وقد سبق أن الشيطان ألقى فيما بين قراءتك : تلك الغرانيق العلي منها الشفاعة ترتجي ، فأزل عن نفسك هذه التهمة و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الثاني والثلاثون : الحقوق في الشاهد نوعان حق من أنت تحت يده ، وهو مولاك ، وحق من هو تحت يدك وهو الولد ، ثم أجمعنا على أن خدمة المولى مقدمة على تربية الولد ، فإذا كان حق المولى المجازي مقدماً ، فبأن يكون حق المولى الحقيقي مقدماً كان أولى ، ثم روى أن علياً عليه السلام إستأذن الرسول صلى الله عليه وسلّم في التزوج بابنة أبي جهل فضجر وقال : لا آذن لا آذن لا آذن أن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويسرني ما يسرها والله لا يجمع بين بنت عدو الله ، وبنت حبيب الله ، فكأنه تعالى يقول : صرحت هناك بالرد وكررته على سبيل المبالغة رعاية لحق الولد ، فههنا أولى أن تصرح بالرد ، وتكرره رعاية لحق المولى فقل : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ولا أجمع في القلب بين طاعة الحبيب وطاعة العدو الثالث والثلاثون : يا محمد ألست قلت لعمر : رأيت قصراً في الجنة ، فقلت : لمن ؟
فقيل : لفتى من قريش ، فقلت : من هو ، فقالوا : عمر فخشيت غيرتك فلم أدخلها حتى قال عمر : أو أغار عليك يا رسول الله ، فكأنه تعالى قال : خشيت غيرة عمر فما دخلت قصره أفما تخشى غيرتي في أن تدخل قلبك طاعة غيري ، ثم هناك أظهرت الامتناع فههنا أيضاً أظهر الامتناع و:
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
{قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، الرابع والثلاثون : أترى أن نعمتي عليك دون نعمة الوالدة ، ألم أربك ؟
ألم أخلقك ؟
ألم أرزقك ؟
ألم أعطك الحياة والقدرة والعقل والهداية والتوفيق ؟
ثم حين كنت طفلاً عديم العقل وعرفت تربية الأم فلو أخذتك امرأة أجمل وأحسن وأكرم من أمك لأظهرت النفرة ولبكيت / ولو أعطتك الثدي لسددت فمك تقول لا أريد غير الأم لأنها أول المنعم علي ، فههنا أولى أن تظهر النفرة فنقول : لا أعبد سوى ربي لأنه أول منعم علي فقل : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الخامس والثلاثون : نعمة الإطعام دون نعمة العقل والنبوة ، ثم قد عرفت أن الشاة والكلب لا ينسيان نعمة الإطعام ولا يميلان إلى غير من أطعهما فكيف يليق بالعاقل أن ينسى نعمة الإيجاد والإحسان فكيف في حق أفضل الخلق : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السادس والثلاثون : مذهب الشافعي أنه يثبت حق الفرقة بواسطة الإعسار بالنفقة فإذا لم تجد من الأنصار تربية حصلت لك حق الفرقة لو كنت متصلاً بها ، {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِى عَنكَ شَيْـاًا} فبتقدير أن كنت متصلاً بها ، كان يجب أن تنفصل عنها وتتركها ، فكيف وما كنت متصلاً بها أيليق بك أن تقرب الاتصال بها {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السابع والثلاثون : هؤلاء الكفار لفرط حماقتهم ظنوا أن الكثرة في الإلهية كالكثرة في المال يزيد به الغني وليس الأمر كذلك بل هو كالكثرة في العيال تزيد به الحاجة فقل : يا محمد لي إله واحد أقوم له في الليل وأصوم له في النهار ، ثم بعد لم أتفرغ من قضاء حق ذرة من ذرات نعمه ، فكيف ألتزم عبادة آلهة كثيرة : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الثامن والثلاثون : أن مريم عليها السلام لما تمثل لها جبريل عليه السلام : {قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَـنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} فاستعاذت أن تميل إلى جبريل دون الله أفتستجيز مع كمال رجوليتك أن تميل إلى الأصنام : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
(1/4869)
التاسع والثلاثون : مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت حق الفرقة بالعجز عن النفقة ولا بالعنة الطارئة يقول : لأنه كان قيماً فلا يحسن الإعراض عنه مع أنه تعيب فالحق سبحانه يقول : كنت قيماً ولم أتعيب ، فكيف يجوز الإعراض عني : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الأربعون : هؤلاء الكفار كانوا معترفين بأن الله خالقهم : {وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه } وقال في موضع آخر : {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ} فكأنه تعالى يقول : هذه الشركة إما أن تكون مزارعة وذلك باطل ، لأن البذر مني والتربية والسقي مني ، والحفظ مني ، فأي شيء للصنم ، أو شركة الوجوه وذلك أيضاً باطل أترى أن الصنم أكثر شهرة وظهوراً مني ، أو شركة الأبدان وذلك أيضاً باطل ، ون ذلك يستدعي الجنسية ، أو شركة العنان ، وذلك أيضاً باطل ، لأنه لا بد فيه من نصاب فما نصاب الأصنام ، أو يقول ليس هذه من باب الشركة لكن الصنم يأخذ بالتغلب نصيباً من الملك/ فكأن الرب يقول : ما أشد جهلكم إن هذا الصنم أكثر عجزاً من الذبابة : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا} فأنا أخلق البذر ثم ألقيه في الأرض ، فالتربية والسقي والحفظ مني. ثم إن من هو أعجز من الذبابة يأخذ بالقهر والتغلب نصيباً مني ، ما هذا بقول يليق بالعقلاء : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الحادي والأربعون : أنه لا ذرة في عالم المحدثات إلا وهي تدعو العقول إلى معرفة الذات والصفات / وأما الدعاة إلى معرفة أحكام الله فهم الأنبياء عليهم السلام ، ولما كان كل بق وبعوضة داعياً إلى معرفة الذاتي والصفات قال : {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِا أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ، ذلك لأن هذه البعوضة بحسب حدوث ذاتها وصفاتها تدعو إلى قدرة الله بحسب تركيبها العجيب تدعوا إلى علم الله وبحسب تخصيص ذاتها وصفاتها بقدر معين تدعو إلى إرادة الله ، فكأنه تعالى يقول : مثل هذا الشيء كيف يتسحيا منه ، روى أن عمر رضي الله عنه كان في أيام خلافته دخل السوق فاشترى كرشاً وحمله بنفسه فرآه على من بعيد فتنكب على عن الطريق فاستقبله عمر وقال له : لم تنكبت عن الطريق ؟
فقال علي : حتى لا تستحي ، فقال : وكيف أستحي من حمل ما هو غذائي فكأنه تعالى يقول : إذا كان عمر لا يستحي من الكرش الذي هو غذاؤه في الدنيا فكيف أستحي عن ذكر البعوض الذي يعطيك غذاء دينك ، ثم كأنه تعالى يقول : يا محمد إن نمروذ لما ادعى الربوبية صاح عليه البعوض بالإنكار ، فهؤلاء الكفار لما دعوك إلى الشرك أفلا تصيح عليهم أفلا تصرح بالرد عليهم :
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
{قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وإن فرعون لما ادعى الإلهية فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفاً فلست أضعف من بعوضة نمروذ ، وإن كنت قوياً فلست أقوى من جبريل ، فأظهر الإنكار عليهم و: {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الثاني والأربعون : كأنه تعالى يقول يا محمد : {قُلْ} بلسانك : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} واتركه قرضاً علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه ، ألا ترى أن النصراني إذا قال : أشهد أن محمداً رسول الله فأقول أنا لا أكتفي بهذا مالم تصرح بالبراءة عن النصرانية ، فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضاً أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الثالث والأربعون : أن موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له : {فَقُولا لَه قَوْلا لَّيِّنًا} وأما محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيهاً على أنه في غاية الرحمة ، فقيل له : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} .
أما قوله تعالى : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} ففيه مسائل :
(1/4870)
المسألة الأولى : {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ} ، قد تقدم القول فيها في مواضع ، والذي نزيده ههنا ، أنهروى عن علي عليه السلام أنه قال : يا نداء النفس وأي نداي القلب ، وها نداء الروح ، وقيل : يا نداء الغائب وأي للحاضر ، وها للتنبيه ، كأنه يقول : أدعوك ثلاثاً ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك الخفي ، ومنهم من قال : أنه تعالى جمع بين يا الذي هو للبعيد ، وأي الذي هو للقريب ، كأنه تعالى يقول : معاملتك معي وفرارك عني يوجب البعد البعيد ، لكن إحساني إليك ، ووصول نعمتي إليك توجب القرب القريب : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وإنما قدم يا الذي يوجب البعد على أي الذي يوجب القرب/ كأنه يقول : التقصير منك والتوفيق مني ، ثم ذكرها بعد ذلك لأن / ما يوجب البعد الذي هو كالموت وأي يوجب القرب الذي هو كالحياة ، فلما حصلا حصلت حالة متوسطة بين الحياة والموت ، وتلك الحالة هي النوم ، والنائم لا بد وأن ينبه وها كلمة تنبيه ، فلهذا السبب ختمت حروف النداء بهذا الحرف.
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
المسألة الثانية : روى في سبب نزول هذه السورة أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، قالوا لرسول الله تعالى : حتى نعبد إلهك مدة ، وتعبد آلهتنا مدة ، فيحصل مصلح بيننا وبينك ، وتزول العداوة من بيننا ، فإن كان أمرك رشيداً أخذنا منه حظاً ، وإن كان أمرنا رشيداً أخذت منه حظاً ، فنزلت هذه السورة ونزل أيضاً قوله تعالى : {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ} فتارة وصفهم بالجهل وتارة بالكفر ، واعلم أن الجهل كالشجرة ، والكفر كالثمرة ، فلما نزلت السورة وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه ، وههناسؤالات :
السؤال الأول : لم ذكرهم في هذه السورة بالكافرين ، وفي الأخرى بالجاهلين ؟
الجواب : لأن هذه السورة بتمامها نازلة فيهم ، فلا بد وأن تكون المبالغة ههنا أشد ، وليس في لدنيا لفظ أشنع ولا أبشع من لفظ الكافر ، وذلك لأنه صفة ذم عند جميع الخلق سواء كان مطلقاً أو مقيداً ، أما لفظ الجهل فإنه عند التقييد قد لا يذم ، كقوله عليه السلام في علم الأنساب : "علم لا ينفع وجهل لا يضر".
السؤال الثاني : لما قال تعالى في سورة : {لِمَ تُحَرِّمُ} يا أيها الذين كفروا ، ولم يذكر قل ، وههنا ذكر قل ، وذكره باسم الفاعل والجواب : الآية المذكورة في سورة لم تحزم : إنما تقال لهم يوم القيامة وثمة لا يكون الرسول رسولاً إليهم فأزال الواسطة وفي ذلك الوقت يكونون مطيعين لا كافرين. فلذلك ذكره بلفظ الماضي ، وأما ههنا فهم كانوا موصوفين بالكفر ، وكان الرسول رسولاً إليهم ، فلا جرم قال : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} .
السؤال الثالث : قوله ههنا : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ} خطاب مع الكل أو مع البعض ؟
الجواب : لا يجوز أن يكون قوله : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} خطاباً مع الكل ، لأن في الكفار من يعبد الله كاليهود والنصارى فلا يجوز أن يقول لهم : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ولا يجوز أيضاً أن يكون قوله : {وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} خطاباً مع الكل ، لأن في الكفار من آمن وصار بحيث يعبد اللهد فإذن وجب أن يقال : إن قوله : {فَ أولئك هُمُ الْكَـافِرُونَ} خطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين وهم الذين قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ، والحاصل أنا لو حملنا الخطاب على العموم دخل التخصيص ، ولو حملنا على أنه خطاب مشافهة لم يلزمنا ذلك ، فكان حمل الآية على هذا المحمل أولى.
جزء : 32 رقم الصفحة : 334
339
أما قوله تعالى : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ففيه مسائل :
(1/4871)
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان : أحدهما : أنه لا تكرار فيها والثاني : أن فيها تكراراً أما الأول : فتقريره عن وجوه أحدها : أن الأول للمستقبل ، والثاني للحال والدليل على أن الأول للمستقبل أن لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، أن ترى أن لن تأكيد فيما ينفيه لا ، وقال الخليل : في أن أصله لا أن ، إذا ثبت هذا فقوله : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ، ثم قال : {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي ولست في الحال بعابد معبودكم ولا أنتم في الحال بعابدين لمعبودي الوجه الثاني : أن تقلب الأمر فتجعل الأول للحال والثاني للاستقبال والدليل على أن قول : {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} للاستقبال أنه رفع لمفهوم قولنا : أنا عابد ما عبدتم ولا شك أن هذا للاستقبال بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيداً فهم منه الاستقبال الوجه الثالث : قال بعضهم : كل واحد منهما يصلح للحال وللاستقبال ، ولكنا نخص أحداها بالحال ، والثاني بالاستقبال دفعاً للتكرار ، فإن قلنا : إنه أخبر عن الحال ، ثم عن الاستقبال ، فهو الترتيب ، وإن قلنا : أخبر أولاً عن الاستقبال ، فلأنه هو الذي دعوه إليه ، فهو الأهم فبدأ به ، فإن قيل : ما فائدة الإخبار عن الحال وكان معلوماً أنه ما كان يعبد الصنم ، وأما الكفار فكانوا يعبدون الله في بعض الأحوال ؟
قلنا : أما الحكاية عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه يعبدها سراً خوفاً منها أو طمعاً إليها وأما نفيه عبادتهم. فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلاً : وهو اختيار أبي مسلم أن المقصود من الأولين المعبود وما بمعنى الذي ، فكأنه قالا : لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله ، وأما في الأخيرين فما مع الفعل في تأويل المصدر أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين ، فإن زعمتم أنكم تعبدون إلهي ، كان ذلك باطلاً لأن العبادة فعل مأمور به وما تفعلونه أنتم ، فهو منهي عنه ، وغير مأمور به الوجه الخامس : أن تحمل الأولى على نفي الاعبتار الذي ذكروه ، والثانية على النفي العام المتناول لجميع الجهات فكأنه أولاً قال :
جزء : 32 رقم الصفحة : 339
{ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} رجاء أن تعبدوا الله ، ولا أنتم تعبدون الله رجاء أن أعبد أصنامكم ، ثم قال : ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض ، ومقصود من المقاصد البتة بوجه من الوجوه : {وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} بوجه من الوجوه ، واعتبار من الاعتبارات ، ومثاله من يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعيم ، فيقول : لا أظلم لغرض بل لا أظلم أصلا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض القول الثاني : وهو أن نسلم حصول التكرار ، وعلى هذا القول العذر عنه من ثلاثة أوجه الأول : أن التكرير يفيد التوكيد وكلما كانت الحاجة إلى التأكيد أشد كان التكرير / أحسن ، ولا موضع أحوج إلى التأكيد من هذا الموضع ، لأن أولئك الكفار رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذا المعنى مراراً ، وسكت رسول الله عن الجواب ، فوقع في قلوبهم أنه عليه السلام قد مال إلى دينهم بعض الميل/ فلا جرم دعت الحاجة إلى التأكيد والتكرير في هذا النفي والإبطال الوجه الثاني : أنه كان القرآن ينزل شيئاً بعد شيء ، وآية بعد آية جواباً عما يسألون فالمشركون قالوا : استلم بعد آلهتنا حتى نؤمن بإلهك فأنزل الله : {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ثم قالوا بعد مدة تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً فانزل الله : {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ولما كان هذا الذي ذكرناه محتملاً لم يكن التكرار على هذا الوجه مضراً البتة الوجه الثالث : أن الكفار ذكروا تلك الكلمة مرتين تعبد آلهتنا شهراً ونعبد إلهك شهراً وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فأتى الجواب على التكرير على وفق قولهم وهو ضرب من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد يجازي بدفع تلك الكلمة على سبيل التكرار استخفافاً به واستحقاراً لقوله.
(1/4872)
المسألة الثانية : في الآية سؤال وهو أن كلمة : {مَآ} لا تتناول من يعلم فهب أن معبودهم كان كذلك فصح التعبير عنه بلفظ ما لكن معبود محمد عليه الصلاة والسلام هو أعلم العالمين فكيف قال : {وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أجابوا عنه من وجوه أحدها : أن المراد منه الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل وأنتم لا تعبدون الحق وثانيها : أن مصدرية في الجملتين كأنه قال : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في المسقبل ، ثم قال : ثانياً لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في الحال وثالثها : أن يكون ما بمعنى الذي وحينئذ يصح الكلام ورابعها : أنه لما قال أولاً : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} حمل الثاني عليه ليتسق الكلام كقوله : {وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } .
جزء : 32 رقم الصفحة : 339
المسألة الثالثة : احتج أهل الجبر بأنه تعالى أخبر عنهم مرتين بقوله : {وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} والخبر الصدق عن عدم الشيء يضاد وجود ذلك الشي فالتكليف بتحصيل العبادة مع وجود الخبر الصدق بعدم العبادة تكليف بالجمع بين الضدين ، واعلم أنه بقي في الآية سؤالات :
السؤال الأول : أليس أن ذكر الوجه الذي لأجله تقبح عبادة غير الله كان أولى من هذا التكرير ؟
الجواب بل قد يكون التأكيد والتكرير أولى من ذكر الحجة ، إما لأن المخاطب بليد ينتفع بالمبالغة والتكرير ولا ينتفع بذكر الحجة أو لأجل أن محل النزاع يكون في غاية الظهور فالمناظرة في مسألة الجبر والقدر حسنة ، أما القائل : بالصنم فهو إما مجنون يجب شده أو عاقل معاند فيجب قتله ، وإن لم يقدر على قتله فيجب شتمه ، والمبالغة في الأنكار عليه كما في هذه الآية.
السؤال الثاني : أن أول السورة اشتمل على التشديد ، وهو النداء بالكفر والتكرير وآخرها على اللطف والتساهل ، وهو قوله : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} فكيف وجه الجمع بين الأمرين ؟
/ الجواب : كأنه يقول : إني قد بالغت في تحذيركم على هذا الأمر القبيح ، وما قصرت فيه ، فإن لم تقبلوا قولي ، فاتركوني سواء بسواء.
السؤال الثالث : لما كان التكرار لأجل التأكيد والمبالغة فكان ينبغي أن يقول : لن أعبد ما تعبدون ، لأن هذا أبلغ ، ألا ترى أن أصحاب الكهف لما بالغوا قالوا : {لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِه إِلَاهًا } والجواب : المبالغة إنما يحتاج إليها في موضع التهمة ، وقد علم كل أحد من محمد عليه السلام أنه ما كان يعبد الصنم قبل الشرع ، فكيف يعبده بعد ظهور الشرع ، بخلاف أصحاب الكهف فإنه وجد منهم ذلك فيما قبل.
جزء : 32 رقم الصفحة : 339
341
أما قوله تعالى : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص له ، فإن قيل : فهل يقال : إنه أذن لهم في الكفر قلنا : كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه ، ولكن المقصود منه أحد أمور أحدها : أن المقصود منه التهديد ، كقوله اعملوا ما شئتم وثانيها : كأنه يقول : إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة ، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك وثالثها : {لَكُمْ دِينُكُمْ} فكونوا عليه إن كان الهلاك خيراً لكم {وَلِىَ دِينِ} لأني لا أرفضه القول الثاني : في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي ، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر البتة القول الثالث : أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالاً وعقاباً كما حسبك جزاء دينك تعظيماً وثواباً القول الرابع : الدين العقوبة : {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِا وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآا ِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} القول الخامس : الدين الدعاء ، فادعو الله مخلصين له الدين ، أي لكم دعاؤكم {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِى ضَلَالٍ} {إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } ثم ليتها تبقى على هذه الحالة فلا يضرونكم ، بل يوم القيامة يجدون لساناً فيكفرون بشرككم ، وأما ربي فيقول : {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } القول السادس : الدين العادة ، قال الشاعر :
يقول لها وقد دارت وضيني
أهذا دينها أبدأ وديني معناه لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشياطين ، ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي ، ثم يبقى كل واحد منا على عادته ، حتى تلقوا الشياطين والنار ، وألقى الملائكة والجنة.
/
جزء : 32 رقم الصفحة : 341
المسألة الثانية : قوله : {لَكُمْ دِينُكُمْ} يفيد الحصر ، ومعناه لكم دينكم لا لغيركم ، ولي ديني لا لغيري ، وهو إشارة إلى قوله : {وَأَن لَّيْسَ لِلانسَانِ إِلا مَا سَعَى } أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ ، وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول ، فأنا لمافعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف ، وأماإصراركم على كفركم ، فذلك ممالا يرجع إلي منه ضرر البتة.
المسألة الثانية : جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة ، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه ، ثم يعمل بموجبه ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، وصلى الله على سيدنا ، وعلى آله وصحبه وسلم.
جزء : 32 رقم الصفحة : 341
348
(1/4873)
سورة النصر
وهي ثلاث آيات مدنية
جزء : 32 رقم الصفحة : 348
349
{إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} في الآية لطائف :
إحداها : أنه تعالى لما وعد محمداً بالتربية العظيمة بقوله : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } وقوله : {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لا جرم كان يزداد كل يوم أمره ، كأنه تعالى قال : يا محمد لم يضيق قلبك ، ألست حين لم تكن مبعوثاً لم أضيعك بل نصرتك بالطير الأبابيل ، وفي أول الرسالة زدت فجعلت الطير ملائكة ألن يكفيكم : {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ ءَالَافٍ} ثم الآن أزيد فأقول إني أكون ناصراً لك بذاتي : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} فقال : إلهي إنما تتم النعمة إذا فتحت لي دار مولدي ومسكني فقال : {وَالْفَتْحُ} فقال : إلهي لكن القوم إذا خرجوا ، فأي لذة في ذلك فقال : {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} ثم كأنه قال : هل تعلم يا محمد بأي سبب وجدت هذه التشريفات الثلاثة إنما وجدتها لأنك قلت في السورة المتقدمة : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وهذا يشتمل على أمور ثلاثة أولها : نصرتني بلسانك فكان جزاؤه : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} وثانيها : فتحت مكة قلبك بعسكر التوحيد فأعطيناك فتح مكة وهو المراد من قوله ، والفتح والثالث : أدخلت رعية جوارحك وأعضائك في طاعتي وعبوديتي فأنا أيضاً أدخلت عبادي في طاعتك ، وهو المراد من قوله : {يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} ثم إنك بعد أن وجدت هذه الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أنواع من العبودية تهادوا تحابوا ، إن نصرتك فسبح ، وإن فتحت مكة فاحمد وإن أسلموا ، فاستغفر ، وإنما وضع في مقابلة : {نَصْرُ اللَّهِ} تسبيحه ، لأن التسبيح هو تنزيع الله عن مشابهة المحدثات ، يعني تشاهد أنه نصرك ، فإياك أن تظن أنه إنما نصرك لأنك تستحق منه ذلك النحر ، بل اعتقد كونه منزهاً عن أن يستحق عليه أحد من الخلق شيئاً ، ثم جعل في مقابل فتح مكة الحمد لأن النعمة لا يمكن أن تقابل إلا بالحمد ، ثم جعل في مقابلة دخول الناس في الدين الاستغفار وهو المراد من قوله :
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي كثرة الأتباع مما يشغل / القلب بلذة الجاه والقبول ، فاستغفر لهذا القدر من ذنبك ، واستغفر لذنبهم فإنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر فكان احتياجهم إلى استغفارك أكثر الوجه الثاني : أنه عليه السلام لما تبرأ عن الكفر وواجههم بالسوء في قوله : {فَ أولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} كأنه خاف بعض القوم فقلل من تلك الخشونة فقال : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} فقيل : يا محمد لا تخف فإني لا أذهب بك إلى النصر بل أجيء بالنصر إليك : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} نظيره : "زويت الأرض" يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك ، فإن سئمت المقام وأردت الرحلة ، فمثلك لا يرتحل إلا إلى قاب قوسين : {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه } بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا فإذا بقي الفقير من غير مطية أسوق الجنة إليه : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} الوجه الثالث : كأنه سبحانه قال : يا محمد إن الدنيا لا يصفو كدرها ولا تدوم محنها ولا نعيمها فرحت بالكوثر فتحمل مشقة سفاهة السفهاء حيث قالوا : اعبد آلهتنا حتى نعبد إلهك فلما تبرأ عنهم وضاق قلبه من جهتهم قال : أبشر فقد جاء نصر الله فلما استبشر قال : الرحيل الرحيل أما علمت أنه لا بد بعد الكمال من الزوال ، فاستغفره أيها الإنسان لا تحزن من جوع الربيع فعقيبه غنى الخريف ولا تفرح بغنى الخريف فعقيبه وحشة الشتاء/ فكذا من تم إقباله لا يبقى له إلا الغير ومنه إذا تم أمر دنا نقصه
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
(1/4874)
توقع زوالا إذا قيل تم إلهي لم فعلت كذلك قال : حتى لا نضع قلبك على الدنيا بل تكون أبداً على جناح الارتحال والسفر الوجه الرابع : لما قال في آخر السورة المتقدمة : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} فكأنه قال : إلهي وما جزائي فقال : نصر الله فيقول : وما جزاء عمي حين دعاني إلى عبادة الأصنام فقال : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} فإن قيل : فلم بدأ بالوعد قبل الوعيد ، قلنا : لوجوه أحدها : لأن رحمته سبقت غضبه والثاني : ليكن الجنس متصلاً بالجنس فإنه قال : {وَلِىَ دِينِ} وهو النصر كقوله : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌا فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} ، وثالثها : الوفاء بالوعد أهم في الكرم من الوفاء بالانتقام ، فتأمل في هذه المجانسات الحاصلة بين هذه السور مع أن هذه السور مع أن هذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة وتلك السورة منأوائل ما نزل بمكة ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله وبأمره الوجه الخامس : أن في السورة المتقدمة لم يذكر شيئاً من أسماء الله ، بل قال : ما أعبد بلفظ ما ، كأنه قال : لا أذكر اسم الله حتى لا يستخفوا فتزداد عقوبتهم ، وفي هذه السورةذكر أعظم أساميه لأنها منزلة على الأحباب ليكون ثوابهم بقراءته أعظم فكأنه سبحانه قال لا تذكر اسمي مع الكافرين حتى لا يهينوه واذكره مع الأولياء حتى يكرموه الوجه السادس : قال النحويون : إذاً منصوب بسبح ، والتقدير فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله ، كأنه سبحان يقول : جعلت الوقت ظرفاً لما تريده وهو النصر والفتح والظفر. وملأت ذلك الظرف من هذه / الأشياء ، وبعثته إليك فلا ترده علي فارغاً ، بل املأه من العبودية ليتحقق معنى : "تهادوا تحابوا" فكأن محمداً عليه السلام قال : بأي شيء أملأ ظرف هديتك وأنا فقير ، فيقول الله في المعنى : إن لم تجد شيئاً آخر فلا أقل من تحريك اللسان بالتسبيح والحمد والاستغفار ، فلمافعل محمد عليه الصلاة والسلام ذلك حصل معنى تهادوا ، لا جرم حصلت المحبة ، فلهذا كان محمد حبيب الله الوجه السابع : كأنه تعالى يقول : إذا جاءك النصر والفتح ودخول الناس في دينك ، فاشتغل أنت أيضاً بالتسبيح والحمد والاستغفار ، فإني قلت : "لئن شكرتم لأزدينكم" فيصير اشتغالك بهذه الطاعات سبباً لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة ، ولا تزال تكون في الترقي حتى يصير الوعد بقولي : {أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ} الوجه الثامن : أن الإيمان إنما يتم بأمرين : بالنفي والإثبات وبالبراءة والولاية ، فالنفي والبراءة قوله : {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} والإثبات والولاية قوله : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} فهذه هي الوجوه الكلية المتعلقة بهذه السورة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
واعلم أن في الآية أسراراً ، وإنما يمكن بيانها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول : ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف الفتح على النصر ؟
الجواب : من وجوه أحدها : النصر هو الإعانة على تحصيل المطلوب ، والفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً ، وظاهر أن النصر كالسبب الفتح ، فلهذا بدأ يذكر النصر وعطف الفتح عليها وثانيها : يحتمل أن يقال : النصر كمال الدين ، والفتح الإقبال الدنيوي الذي هو تمام النعمة ، ونظير هذه الآية قوله : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} وثالثها : النصر هو الظفر في الدنيا على المنى ، والفتح بالجنة ، كماقال : {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وأظهر الأقوال في النصر أنه الغلبة على قريش أو على جميع العرب.
السؤال الثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أبداً منصوراً بالدلائل والمعجزات ، فما المعنى من تخصيص لفظ النصر بفتح مكة ؟
والجواب : من وجهين أحدهما : المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع ، إنما جعل فظ النصر المطلق دالاً على هذا النصر المخصوص ، لأن هذا النصر لعظم موقعه من قلوب أهل الدنيا جعل ما قبله كالمعدوم ، كماأن المثاب عند دخول الجنة يتصور كأنه لم يذق نعمة قط ، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى : {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه مَتَى نَصْرُ اللَّه } ، وثانيهما : لعل المراد نصر الله في أمور الدنيا الذي حكم به لأنبيائه كقوله : {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لا يُؤَخَّرُ } .
السؤال الثالث : النصر لا يكون إلا من الله ، قال تعالى : {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ} فما الفائدة في هذا التقييد وهو قوله : {نَصْرُ اللَّهِ} ؟
والجواب معناه نصر لا يليق إلا بالله ولا يليق أن يفعله إلا الله أو لا يليق إلا بحكمته ويقال : هذا صنعة زيد إذا كان زيد مشهوراً بإحكام الصنعة ، والمراد منه تعظيم حال تلك الصنعة ، فكذا ههنا ، أو نصر الله لأنه إجابة لدعائهم : {مَتَى نَصْرُ اللَّه } فيقول هذا الذي سألتموه.
/
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
(1/4875)
السؤال الرابع : وصف النصر بالمجيء مجاز وحقيقته إذا وقع نصر الله فما الفائدة في ترك الحقيقة وذكر المجاز ؟
الجواب فيه إشارات : إحداها : أن الأمور مربوطة بأوقاتها وأنه سبحانه قدر لحدوث كل حادث أسباباً معينة وأوقاتاً مقدرة يستحيل فيها التقدم والتأخر والتغير والتبدل فإذا حضر ذلك الوقت وجاء ذلك الزمان حضر معه ذلك الأثر وإليه الإشارة بقوله : {وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآاـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُه ا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} ، وثانيها : أن اللفظ دل على أن النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلّم ، وذلك لأن ذلك النصر كان مستحقاً له بحكم الوعد فالمقتضى كان موجوداً إلا أن تخلف الأثر كان لفقدان الشرط فكان كالثقيل المعلق فإن ثقله يوجب الهوى إلا أن العلاقة مانعة فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى ، فكذا ههنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلّم وثالثها : أن عالم العدم عالم لا نهاية له وهو عالم الظلمات إلا أن في قعرها ينبوع الجود والرحمة وهو ينبوع جود الله وإيجاده ، ثم انشعبت بحار الجود والأنوار وأخذت في السيلان ، وسيلانها يقتضي في كل حين وصولها إلى موضع ومكان معين فبحار رحمة الله ونصرته كانت آخذة في السيلان من الأزل فكأنه قيل : يا محمد قرب وصولها إليك ومجيئها إليك فإذا جاءتك أمواج هذا البحر فاشتغل بالتسبيح والتحميد والاستغفار فهذه الثلاثة هي السفينة التي لا يمكن الخلاص من بحار الربوبية إلا بها ، ولهذا السبب لما ركب أبوك نوح بحر القهر والكبرياء استعان بقوله : {بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } .
السؤال الخامس : لا شك أن الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على فتح مكة هم الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ثم إنه سمي نصرتهم لرسول الله : {نَصْرُ اللَّهِ} فما السبب في أن صار الفعل الصادر عنهم مضافاً إلى الله ؟
الجواب : هذا بحر يتفجر منه بحر سر القضاء والقدر ، وذلك لأن فعلهم فعل الله ، وتقريره أن أفعالهم مسندة إلى ما في قلوبهم من الدواعي والصوارف ، وتلك الدواعي والصوارف أمور حادثة فلا بد لها من محدث وليس هو العبد ، وإلا لزم التسلسل ، فلا بد وأن يكون الله تعالى ، فيكون المبدأ الأول والمؤثر الأبعد هو الله تعالى ، ويكون المبدأ الأقرب هو العبد. فمن هذا الاعتبار صارت النصرة المضافة إلى الصحابة بعينها مضافة إلى الله تعالى ، فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد مفرعاً على فعل الله تعالى ، وهذا يخالف النصر ، لأنه قال : {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} فجعل نصرنا له مقدماً على نصره لنا والجواب : أنه لا امتناع في أن يصدر عن الحق فعل ، فيصير ذلك سبباً لصدور فعل عنا ، ثم الفعل عنا ينساق إلى فعل آخر يصدر عن الرب ، فإن أسباب الحوادث ومسبباتها متسلسلة على ترتيب عجيب يعجز عنإدراك كيفيته أكثر العقول البشرية.
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
السؤال السادس : كلمة : {إِذَا} للمستقبل ، فههنا لما ذكر وعداً مستقبلاً بالنصر ، قال : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} فذكر ذاته باسم الله ، ولما ذكر النصر الماضي حين قال : {وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ} فذكره بلفظ الرب ، فما السبب في ذلك ؟
الجواب : لأنه تعالى بعد وجود الفعل صار رباً ، وقبله ما كان رباً لكن كان إلهاً.
السؤال السابع : أنه تعالى قال : {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} وإن محمداً عليه السلام نصر الله حين قال : {قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فكان واجباً بحكم هذا الوعد أن ينصره الله ، فلا جرم قال : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} فهل تقول بأن هذا النصر كان واجباً عليه ؟
الجواب : أن ما ليس بواجب قد يصير واجباً بالوعد ، ولهذا قيل : وعد الكريم ألزم من دين الغريم ، كيف ويجب على الوالد نصرة ولده ، وعلى المولى نصرة عبده ، بل يجب النصر على الأجنبي إذا تعين بأن كان واحداً اتفاقاً ، وإن كان مشغولاً بصلاة نفسه ، ثم اجتمعت هذه الأسباب في حقه تعالى فوعده مع الكرم وهو أرأف بعبده من الوالد بولده والمولى بعبده وهو ولي بحسب الملك ومولى بحسب السلطنة ، وقيوم للتدبير وواحد فرد لا ثاني له فوجب عليه وجوب الكرم نصرة عبده ، فلهذا قال : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} .
أما قوله تعالى : {وَالْفَتْحُ} ففيه مسائل :
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
(1/4876)
المسألة الأولى : نقل عن ابن عباس أن الفتح هو فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له : فتح الفتوح روى أنه لما كان صلح الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أغار بعض من كان في عهد قريش على خزاعة وكانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاء سفير ذلك القوم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعظم ذلك عليه ، ثم قال : أما إن هذا العارض ليخبرني أن الظفر يجيء من الله ، ثم قال لأصحابه : أنظروا فإن أبا سفيان يجيء ويلتمس أن يجدد العهد فلم تمض ساعة أن جاء الرجل ملتمساً لذلك فلم يجبه الرسول ولا أكابر الصحابة فالتجأ إلى فاطمة فلم ينفعه ذلك ورجع إلى مكة آيساً وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المسير لمكة ، ثم يروى أن سارة مولاة بعض بني هاشم أتت المدينة فقال عليه السلام لها : جئت مسلمة ؟
قالت : لا لكن كنتم الموالي وبي حاجة ، فحث عليها رسول الله بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بعشرة دنانير واستحملها كتاباً إلى مكة نسخته : اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم علياً عليه السلام وعماراً في جماعة وأمرهم أن يأخذوا الكتاب وإلا فاضربوا عنقها ، فلما أدركوها جحدت وحلفت فسل علي عليه السلام سيفه ، وقال الله : ما كذبنا فأخرجته من عقيصة شعرها ، واستحضر النبي حاطباً وقال : ما حملك عليه ؟
فقال : والله ما كفرت منذ أسلمت ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، لكن كنت غريباً في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم فخشيبت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق / فقال : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر ، ثم خرج رسول الله إلى أن نزل بمر الظهران ، وقدم العباس وأبو سفيان إليه فاستأذنا فأذن لعمه خاصة فقال أبو سفيان : إما أن تأذن لي وإلا أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعاً وعطشاً فرق قلبه ، فأذن له وقال له : ألم يأن أن تسلم وتوحد ؟
فقال : أظن أنه واحد ، ولو كان ههنا غير الله لنصرنا ، فقال : ألم يأن أن تعرف أني رسوله ؟
فقال : إن لي شكاً في ذلك ، فقال العباس : أسلم قبل أن يقتلك عمر ، فقال : وماذا أصنع بالعزى ، فقال عمر : لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك ، فقال : يا محمد أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش وتصالح قومك وعشيرتك ، فسكان مكة عشيرتك وأقارب ، و(لا) تعرضهم للشن والغارة ، فقال عليه السلام : هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي ، وأهل مكة أخرجوني وظلموني ، فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم ، وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر ، فكانتالكتيبة تمر عليه ، فيقول من هذا ؟
فيقول العباس هو فلان من أمراء الجند إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلا الحدق ، فسأل عنهم ، فقال العباس : هذا رسول الله ، فقال : لقد أوتي ابن أخيك ملكاً عظيماً ، فقال العباس : هو النبوة ، فقال هيهات النبوة ، ثم تقدم ودخل مكة ، وقال : إن محمداً جاء بعسكر لا يطيقه أحد ، فصاحت هند وقالت : اقتلوا هذا المبشر ، وأخذت بلحيته فصاح الرجل ودفعها عن نفسه ، ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر ، وكانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعاً شديداً وسأل العباس ، فأخبره بأمر الصلاة ، ودخل رسول الله مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعاً وشكراً ، ثم التمس أبو سفيان الأمان ، فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقال : ومن تسع داري ، فقال : ومن دخل المسجد فهو آمن فقال : ومن يسع المسجد ، فقال : من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على باب المسجد ، وقال : لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم قال : يا أهل مكة ما ترون إني فاعل بكم ، فقالوا : خير أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء فاعتقهم ، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ومن ذلك كان علي عليه السلام يقول لمعاوية : أنى يستوي المولى والمعتق يعني اعتقناكم حين مكننا الله من رقابكم ولم يقل : اذهبوا فأنتم معتقون ، بل قال : الطلقاء ، لأن المعتق يجوز أن يرد إلى الرق ، والمطلقة يجوز تعاد إلى رق النكاح وكانوا بعد على الكفر ، فكان يجوز أن يخونوا فيستباح رقهم مرة أخرى ولأن الطلاق يخص النسوان ، وقد ألقوا السلاح وأخذوا المساكن كالنسوان ، ولأن المعتق يخلى سبيله يذهب حيث شاء ، والمطلقة تجلس في البيت للعدة ، وهم أمروا بالجلوس بمكة كالنسوان ، ثم إن القوم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام ، فصاروا يدخلون في دين الله أفواجاً ، روى أنه عليه السلام صلى ثمان ركعات : أربعة صلاة الضحى ، وأربعة أخرى شكراً لله نافلة ، فهذه هي / قصة فتح مكة ، والمشهور عند المفسرين أن المراد من الفتح في هذه السورة هو فتح مكة ، ومما يدل على أن المراد بالفتح فتح مكة أنه تعالى ذكره مقروناً بالنصر. وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر ،
(1/4877)
والفتح دون النصر كأجلاء بني النضير ، فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم ، أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح ، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم القول الثاني : أن المراد فتح خيبر ، وكان ذلك على يد علي عليه السلام ، والقصة مشهورة ، روى أن أستصحب خالد بن الوليد ، وكان يساميه في الشجاعة ، فلما نصب السلم قال لخالد : أتتقدم ؟
قال : لا ، فلما تقدم علي عليه السلام سأله كم صعدت ؟
فقال : لا أدري لشدة الخوف ، وروى أنه قال : لعلي عليه السلام ألا تصارعني ، فقال : ألست صرعتك ؟
فقال : نعم لكن ذاك قبل إسلامي ، ولعل علياً عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه علي/ أو كان علي يقول صرعتك حين كنت كافراً ، أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك القول الثالث : أنه فتح الطائف وقصته طويلة والقول الرابع : المراد النصر على الكفار ، وفتح بلاد الشرك على الإطلاق ، وهو قول أبي مسلم والقول الخامس : أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم ، ومنه قوله :
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
{وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} لكن حصول العلم لا بد وأن يكون مسبوقاً بانشراح الصدر وصفاء القلب ، وذلك هو المراد من قوله : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ} ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات ، والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات.
المسألة الثانية : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان : أحدهما : أن فتح مكة كان سنة ثمان ، ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروى أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً ، ولذلك سميت سورة التوديع والقول الثاني : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } وقوله : {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يقتضي الاستقبال ، إذ لا يقال فيما وقع : إذا جاء وإذا وقع ، وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له ، والإخبار عن الغيب معجز فإن قيل : لم ذكر النصر مضافاً إلى الله تعالى ، وذكر الفتح بالألف واللام ؟
الجواب : الأولف واللام للمعهود السابق ، فينصرف إلى فتح مكة.
جزء : 32 رقم الصفحة : 349
351
قوله تعالى : {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} فيه مسائل :
المسألة الأولى : رأيت يحتمل أن يكون معناه أبصرت ، وأن يكون معناه علمت ، فإن كان معناه أبصرت كان يدخلون في محل النصب على الحال ، والتقدير : ورأيت الناس حال دخولهم / في دين الله أفواجاً ، وإن كان معناه علمت كان يدخلون في دين الله مفعولاً ثانياً لعلمت ، والتقدير : علمت الناس داخلين في دين الله.
المسألة الثانية : ظاهر لفظ الناس للعموم ، فيقتضي أن يكون كل الناس كانوا قد دخلوا في الوجود مع أن الأمر ما كان كذلك الجواب : من وجهين الأول : أن المقصود من الإنسانية والعقل ، إنما هو الدين والطاعة ، على ما قال : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فمن أعرض عن الدين الحق وبقي على الكفر ، فكأنه ليس بإنسان ، وهذا المعنى هو المراد من قوله : { أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } وقال : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا } وسئل الحسن بن علي عليه السلام . من الناس ؟
فقال : نحن الناس ، وأشياعنا أشباه الناس ، وأعداؤنا النسناس ، فقبله علي عليه السلام بين عينيه ، وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ، فإن قيل : إنهم إنما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير ، فكيف استحقوا هذا المدح العظيم ؟
قلنا : هذا فيه إشارة إلى سعة رحمة الله ، فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية طول عمره ، فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره يقبل إيمانه ، ويمدحه هذا المدح العظيم ، ويروي أن الملائكة يقولون لمثل هذا الإنسان : أتيت وإن كنت قد أتيت. ويروى أنه عليه السلام قال : "لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد ، والظمآن الوارد" والمعنى كان الرب تعالى يقول : ربيته سبعين سنة ، فإن مات على كفره فلا بد وأن أبعثه إلى النار ، فحينئذ يضيع إحساني إليه في سبعين سنة ، فكلما كانت مدة الكفر والعصيان أكثر كانت التوبة عنها أشد قبولاً الوجه الثاني : في الجواب ، روى أن المراد بالناس أهل اليمن ، قال أبو هريرة : لما نزلت هذه السورة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية ، وقال : أجد نفس ربكم من قبل اليمن".
جزء : 32 رقم الصفحة : 351
(1/4878)